مات بالبلد، أو مات بعد أن غاب عن البلد.
فإن كان مات وهو بالبلد فالمعروف من المذهب أن الحمالة ساقطة، بخلاف لو
تغيب عن البلد، أو تغيب في البلد فإن الغرامة لازمة. وذلك لأنه مع
التغبيب يمكن احضاره، والتغيب مما يكتسب ويكتسب التحفظ منه، فإنما أخذ
الحميل بالوجه ليتحفّظ بمن تحفل بوجهه حتى لا يغيب، فإذا غاب توجهت
الغرامة، لأنا إنما أجزنا الحمالة لما تؤدي إليه من الغرامة، وأن القصد
بها تحصين ما في الذمة من الدين.
والموت لا يمكن اكتسابه ولا التحفظ منه.
فلهذا لم يضمن الحميل لموت المتحمَّل بوجهه لعدم القدرة البشرية على
دفع الموت (1) من فرغ عمره.
ولو وقع الموت بعد أن تغيب المتحمل بوجهه فإن المذهب على قولين:
أحدهما: هذه الحمالة سقطت بالموت، كما تسقط بالموت لو كان المتحمل به
في البلد. وإليه ذهب أشهب.
والقول الثاني: إن هذا الموت بغير البلد لا يُسقط هذه الكفالة. وإليه
ذهب ابن القاسم.
فكأن من أسقط الحمالة بالموت في الغيبة رأى أن الموت لما وقع قبل
مطالبته الحميل (2) تحمل به، صار ذلك كموت المتحمل به بالبلد، لكون
الكفيل مغلوبا في الحالين على إحضار من تكفل بوجهه سواء مات بالبلد أو
غائبًا عنه.
ومن ذهب إلى المطالبة بهذه الحمالة رأى أن مجرد الغيبة أوجبت غرامة
الكفيل، بحصول التعدي بها، لكون الغيبة توجب الغرامة في المشهور عندنا.
فموت الشخص بعد وجوب سبب يوجب الغرامة وهو الغيبة، لا يرفع عنه الحكم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عمّن
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [ما] تحمل به
(3/ 2/163)
هذا إذا كان قد غاب المتحمل بوجهه وقد حلّ
أجل الدين.
فأمّا إن كان لم يحلّ، فعلى أصل أشهب الذي ذكرناه، تسقط الكفالة.
وأما ابن القاسم فإنه اعتبر موت المتحمل بوجهه: هل وقع في زمن يتّسع أن
يمضي الكفيل ليأتي به، فتسقط الكفالة حينئذ، لكون هذا الغائب مات قبل
أن تتوجه عليه مطالبة بالدين، وكون الكفيل لم يفرّط ولا تعدى في أمره.
وإن بقي من أجَل الدين مالًا يُحصّل أن يذهب الكفيل إليه، فيأتي به،
لزمت الكفيلَ الغرامةُ.
قال ابن القاسم وإن قلت لكم غير هذا فاطرحوه.
وروي عنه أنه قال: إنما تعتبر في هذا مسافة قدوم الغريم بنفسه، من غير
أن يضاف إلى هذا مسافة للخروج ليؤتَى به.
وكأنه قرر في اعتباره مسافةَ السير والرجوعَ كون الغريم قاصدًا المنع
من الحق حتى يُنفَذَ إليه فيؤتى به لأخذ الحق منه.
واعتبر في القول الآخر أنه يُحمَل على الوفاء، و (1) التنصل من الحق،
فأتى بنفسه من غير أن يُستدعَى خَوْفًا ميت إثمه بالمطل.
وإذا تقدم حكم الموت والغيبة، وأن على الكفيل المطالبة لإحضاره: فهل
يتُلَوَّم له ليحضره أم لا؟ وقد غاب المتحمل بوجهه.
أما ابن وهب فإنه ذكر أنه يطالب بالغرامة ورأه أن ذلك جارٍ مجرى
الحمالة بالمال، فإن الحميل ليس من حقه أن يؤخّر ليحضر الغريم فكذلك
الحمالة بالوجه.
وبعض أشياخي يحمل قول ابن وهب، هذا، على أنه خلاف المشهور من المذهب في
تمكين الحميل من طلب الغريم الذي تحمل بوجهه والتزم له في ذلك.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و [عدم] التنصل
(3/ 2/164)
وبعضهم يحمله على أن مراده أنه لا يمكن من
التلوّم الذي يضرّ. ورأى أن كلامه محتمل لهذا المعنى. ويشير إلى ارتفاع
الخلاف في التلوم.
وإذا قلنا بالتلوم، وهو المشهور من المذهب، وقد غاب غيبة قريبة، ومقدار
التلوم قيل فيه: اليومُ، ونحوه وقيل: يومان، وقيل: ثلاثة أيام.
واختار بعض الأشياخ: يوم واحد، لأنه مقدار ما يتلوم في الحضور، وذلك
ثلاثة أيام لكون الحميل يسافر فيأتي بالغريم مسافة يوم ويتأخر في طلبه
يوم، ويأتي به في اليوم الثالث.
وإذا قيل: التلوم يومان اقتضى ذلك تأخيره خمسة أيام. يومان في السفر
إليه ومثلها في القدوم به ويوم في طلبه.
والقول بثلاثة أيام أبعد، لأن ذلك يقتضي سبعة أيام.
والأصح عندي في هذا مراعاة الضرر، فيُنْفَى، عمن له الحقُّ، ضررُ
التأخير الذي يضر به، وينفى عن الحميل ضرر الاستعجال الذي يضر به.
فإذا تقرر هذا وأن الحميل بالوجه يبرأ باحضار من تحمل بوجهه، معسرًا
أحضره أو موسرًا، في المشهور من المذهب، وإن كان قد روى ابن الجهم عن
مالك أنه لا يبرأ إلا باحضاره موسرًا، لأنه إذا أحضره معسرًا لم ينتفع
من له الدين بإحضاره، فصار حضوره كتغيبه، فإنه لو غاب وتوجهت الغرامة
بغيبته، فأراد الكفيل بوجهه أن يثبت فقره لتسقط الكفالة عنه، لكونه إذا
ثبت فقره انكشف من ذلك أن غيبته لم تضر بمن له الدين، لأنه لو احضره ما
أفاد حضوره. فإن هذا: مقتضى المذهب سقوط الكفالة بإثبات فقر المتحمل
بوجهه إذا غاب. لكن إنما يتوجه الحكم بالتقرير مع اليمين بعد إقامة
البينة لأنهم (1) لا يعلمون له مالًا. فإذا كان حاضرا وأثبت فقره وحلف
سقطت الكفالة لاستيفاء شرائط الحكم بالفقر. وإذا أثبت الكفيل فقر
الغريم وهو غائب بقي من تمام
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأنهم
(3/ 2/165)
الحكم بالفقر يمينُه. واستحلافه مع غيبته
يتعذر. فهذا قد يجري على قولين عندنا، لكون هذا اليمين يمينَ استظهار،
لأجل التهمة بأنه أخفى مالًا، ويمين الاستظهار والتهم ليس من القوة ما
للأيمان الواجبة عن الدعاوي المحققة.
واختار بعض أشياخي في هذا الاكتفاءَ بثبوت فقر الغريم في غيبته، وعدمُ
استحلافه لا يثبت غرامة على الكفيل لأجل عدم اليمين، لما ذكرناه من
كونها يمين استظهار. وهذا على المشهور. وأما على رواية ابن الجهم عن
مالك: فلا شك في أن هذا الذي ثبّته الكفيل لا يسقط عنده (1) الكفالة،
لأن ما رواه ابن الجهم أثبت فيه غرامة الكفيل بالوجه، ولو حضر الغريم
وأثبت فقره وحلف على صحة فقره، فكيف بهذا الذي لم يحضر ولم يحلف.
واعلم أن الحمالة بالوجه تقتضي عندنا الزام الكفيل إحضار الغريم الذي
تحمل بوجهه لوجاء بنفسه إلى من له الدين فقال له: ها أنا جئتك ومكنتك
من نفسي وطلبي فأسقط الكفالة بوجهي عن الذي تكفل ذلك به. فإن ذلك لا
يسقط الكفالة.
هكذا ذكر في المدونة وغيرها. لكن ابن المواز قال: إلا أن يكون الكفيل
بالوجه قال للغريم: اذهب فسلم نفسك إلى من له الدين عليك. ففعل الغريم،
فإن ذلك يسقط الكفالة إذا ثبت ذلك، ويكون حينئذ الغريم كوكيل للكفيل
على تسليبم الغريم لمن له الدين. ونحن لا نشترط أن يُحضر الكفيل
الغريمَ بنفسه، بل يجزيه أن يوكل من يحضره لربّ الدين.
ومذهب الشافعية سقوط الكفالة بتمكين الغريم من نفسه صاحبَ الدين لأن
القصد بكفالة الوجه: لا يتغيب الغريم عن من له الدين إذا طلبه به. وهو
ها هنا لم يتغيب، وحصل المقصود من الكفالة، فلا يلتفت إذا حضر المقصود،
إلى من حصل ذلك به: هل بالكفيل أو بالغريم؟ وإلى هذا ذهب محمَّد بن عبد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنه
(3/ 2/166)
الحكم من أصحابنا، واختاره بعض أشياخي وزاد
عن هذا أن يمكّن (1) من له الدين من طلب الغريم لكونه حاضرًا بين يديه
وهو غير ممتنع عليه، يسقط الكفالة إذا ترك طلبه اختيارًا منه، وجرى ذلك
مجرى تمكين الغريم من نفسه أو إتيان الكفيل به.
وهذا الذي قاله مما ينظر فيه، لإمكان أن يكون من له الدين إنما أعرض عن
طلبه، ولم يجحف به، ثقة بأن الكفيل بوجهه يصونه عن التعب متى أراد
طلبه، أو يمتنع الغريم من التغيب مراعاة لمن تكفل به، لئلا يسأله في
الكفالة به فيفعل ذلك محسنا إليه فيسيء هو ويغيب حتى يغرم الكفيل. لكن
لو انضم إلى ذلك قرائن أحوال تَعلم منها ان الطالب أسقط الكفالة عن
الكفيل لأجل تمكّنه من الغريم لحسن هذا الذي ذهب إليه.
وإذا تقرر أن تمكّن من له الدين من الغريم لا يسقط الكفالة، فإن الكفيل
لو أتى بالغريم الذي تكفل بوجهه، وسلمه إلى من له الدين بموضع لا تأخذه
الأحكام فيه، فإن هذا التسليم لا يسقط الكفالة إذا كان الغريم قادرًا
على الامتناع ممن له الدين بسلطان أو فتنة أو كونه في مفازة لا يجد من
يحكم له عليه، وهذا لأن المقصود من الكفالة بالوجه تحصيل الغريم حتى
يؤذن (2) ما في ذمته.
فإذا كان تحصيله في حال يمتنع به من أراد (3) الحق، فالمقصود بالكفالة
غير حاصل، فلم تقصد (4) مع عدم المقصود بها. فلو سلمه بموضع يتمكّن من
الطلب ولكن لا تحضر بينة، فإن ابن المواز رأى أن الكفالة تسقط، وإنما
يمتنع سقوطها إذا وقع تسليم الغرماء في حال يمتنع الغريم بنفسه من أداء
الحق ويمكنه ذلك. وأما عدم البينة فإنه ليس ذلك منه ولا من سببه، فلهذا
لم يتعين وجود البينة مع كون فقدها يمنع من التمكن من الغريم. وقال
محمَّد بن عبد الحكم:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَمَكُّن
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يؤدّي
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أداء
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تحصل
(3/ 2/167)
إنما تسقط الكفالة إذا سلمه تسليمًا لا
يمكن الامتناع منه كما لا يمكنه الامتناع وقت الحمالة.
وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا كالاختلاف (1) لما قاله ابيت المواز،
وعلى هذا لو سلم الكفيل الغريم وهو محبوس في حبس القاضي، فإن هذا
التسليم يسقط الكفالة، لكون المتكفَّل به يتمكن من طلبه وهو في الحبس،
ويحاكمه عند القاضي الذي حبسه حتى يمكنه من حقّه، ويقضي بذلك على
المحبوس. وإن وجب حبسه زاد في مقدار أمد الحبس لأجراء هذا الطلب الثاني
بحسب ما يقتضيه الاجتهاد. لكن لو كان الحبس بغير حق ولا سبب فيه
للغريم، بل حبسه سلطان تعدّيا عليه، ومُنع منه. فإن هذا يجري مجرى
موته، وموته مسقط للكفالة، فكذلك إذا كان هذا الامتناع ليس من الغريم
ولا سبب له فيه.
وقد ينظر إلى هذه الطريقة التي اختارها بعض الأشياخ ما قاله ابن المواز
من التسليم بموضع لا بينة فيه على الغريم، فتسقط الكفالة لكون عدم
التمكن من أخذ الحق لا سبب فيه للغريم، وإنما يبقى النظر في إشارة
محمَّد بن عبد الحكم في الكلام الذي ذكرناه عنه: إنما تسقط الكفالة
بتسليم لا يمكنه الامتناع إلا كما يمكنه وقت الحمالة. فهذا مما ينظر
فيه. وقد يفارق الموت حبسَه تعديا؛ لأن الموت غادٍ ورائح ولا يُرجَى
صاحب التمكن من الطلب في المستقبل، ولا هو المقصود بكفالة الوجه،
والمحبوس ظلما يمكن تتاول الحق منه والإعذار إليه فيه، والمقصود بحمالة
الوجه أن يكون سببا إلى تحصيل ما في الذمة، فهذا مما ينظر فيه.
ولو كانت الكفالة مؤجلة فأتى الكفيل بالغريم قبل الأجل لم تسقط الكفالة
عنه، لكون من له الدين لم يستحق الطلب فلا يفيده احضار الغريم، وهو لا
يستحق طلبه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الأولى: كالخلاف.
(3/ 2/168)
ولو اشترط المتحمل له على حميل الوجه أن
يحضر له غريمه يبلد سمّاه فأحضره بغيرها من البلاد مما تأخذ فيه
الأحكام لا مضرة تلحق المتحمل له في أخذه هناك، فإن محمَّد بن عبد
الحكم ذكر في كتاب. الكفالة من كتابه أن في المسألة قولين. وهذا عندي
قد يلاحظ مسألة الشروط التي لا تفيد. وكذلك ذكر محمَّد بن عبد الحكم لو
اشترط على الحميل إحضار الغريم ببلد تأخذه فيه الأحكام فخرب ذلك البلد،
وصار مما لا تجري فيه الأحكام، فإن إحضار الغريم فيه قولان أيضًا:
أحدهما أن (الغريم (1) لا يبرأ) لأنه وفّى بما اشترطه له عليه.
والثاني أنه لا يبرأ، لأن المقصود حين الاشتراط التمكن من أخذ الحق من
الغريم. وإذا صار البلد المشترط لا تجري فيه الأحكام بطل المقصود
بالحمالة فلم تسقط.
ولو اشترط الكفيل في الكفالة بالوجه: أنك إن لقيت غريمك سقطت الكفالة
عني. فإن هذا الشرط يعتبر. فإذا لقيه سقطت الكفالة. لكن إذا كانت
اللقيا بموضع يتمكن منه ومن طلبه. فأمّا إذا كان بموضع لا يتمكن من
طلبه فهذه اللقيا لا تفيد، فأشبه ذلك إحضار الكفيل في موضع لا تأخذه
فيه الأحكام كما تقدم بيانه، إذا أطلق الحمالة ولم يقيدها بموضع يحضو
فيه الغريم، لكنه يتمكن فيه من الطلب فإنه تسقط الكفالة كما بيناه، ولو
عدم البينة فيه كما حكيناه عن ابن المواز وعند أصحاب الشافعي إن
الكفالة لا تسقط مع الإطلاق لذكرها (2) إلا بأن يسلمها بالبلد الذي
وقعت الحمالة فيه، قياسًا على السلم المطلقال في لا يقيد فيه القبض
ببلد، فإن القبض يكون بالبلد الذي وقع فيه العقد.
وهذا القياس لا نسلمه لأن السلع تختلف لاختلاف البلاد في أسعارها
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الكفيل يبرأ
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بذكرها
(3/ 2/169)
وفيها اغراض للناس، ألا ترى أنه لو باع
سلعة بدنانير إلى أجل فحلّ الأجل، والمتعاقدان في بلد آخر، فإنه يقضى
بالدنانير لعدم اختلاف الاغراض فيها باختلاف البلاد، بخلاف غيرها (1)
فيه اغراض باختلاف البلاد، وتسليم الكفيل بالوجه المكفول بوجهه يحصل
الغرض فيه للمكفول له في سائر البلاد، ولا يبقى على "هذا إلاما قاله
ابن المواز من سقوط الكفالة بموضع يسلم فيه الكفيل الغريم ولا بينه
للطالب. وقد ذكرنا ما فيه.
ولو اشترط الكفيل ألاّ مطالبة عليه بالمال، وإنما عليه طلب الغريم
والبحث عنهُ، فإن له شرطه، ولا يغرم مالا إن غاب الغريم، ويؤمر بطلبه،
وإن لم يفعل واتهم فيه حتى يفعل. وإن طلب فلم يجد فلا غرامة عليه. ولو
كان الغريم قد غاب إلى بلد قريب لكلف الكفيل طلبه فيه حتى يحضره وقد
قيل: القريب ما كان على مسافة اليوم واليومين. وقد قيل: يعتبر في هذا
ما يقوى الكفيل عليه فيكلَّفه، وما يضعف عنه من السفر فلا يكلفه. وقيل:
لا (2) يكلف السفرَ، وإن كان أيامًا، إلاَّ ما كان بعداً متفاحشًا
خارجا عن أسفار الناس المعتادة. ولو كان الكفيك يطلب عيب (3) الغريم
ولقيه فتركه حتى عاد (4) ففرّط فيه، فإنه يغرم المال، وكأنه المقاصد
بذلك إتلاف مال غيره بعد أن التزم صيانة (5).
ولو زعم الكفيل لما أمر بالخروج في طلب الغريم إنه فعل لصدق في ذلك،
إذا كان ذلك بعد مدة يمكن أن يخرج ويرجع. وبعض أشياخي كان يخرّج هذا
على مسألة المدونة في الأجير المستأجَر على تبليغ كتاب إلى بلد آخر،
فقال: بلّغت: هل يصدق في ذلك أم لا؟. في المدونة قولان. فكذلك تصديق
الكفيل ها هنا في قوله: خرجت وعدت، يجري على القولين
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بخلاف غيرها [مِمّا] فيه
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إسقِاط لا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عَيْنَ
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غاب ....
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صيَانَتَه
(3/ 2/170)
وهذا فيه نظر لكونه ها هنا يحاول بمجرد
دعواه إثبات دين في ذمة أخرى، والديون لا تثبت في الذمم إلا ببينة،
وهاهنا لا تثبت بدعواه دينا على آخر، وإنما يبرىء نفسه مما التزم من
الطلب وهو مما لا يمكن فيه إقامة اليينة، فكأن الكفيل والمكفول له دخلا
فيه على تصديق الكفيل. فهذا مما ينظر فيه.
وقد تكلمنا على موت المكفول بوجهه، وبيّنّا أن موته يسقط الكفالة. فلو
كان الموت إنما حدث بكفيل الوجه، فإن المشهور من المذهب أن الحمالة لا
تسقط عن حميل الوجه بموته، وكأنه إنما التزم حقا في ذمته، فلا يسقط
بالموت. ورأى عبد الملك بن الماجشون أن موت الكفيل بالوجه يسقط الكفالة
عنه، ولا يطالب بها ورثته بعده. وكأن ما التزم من الكفالة معلق بعينه
كما علقت بعين المكفول به.
وإذا قلنا بأن الكفالة لا تسقط طُلِب ورثة الغريم، فإن لم يفعلوا تعلقت
الغرامة بتركة الكفيل بالوجه، على حسب ما نبينه فيما بعد إن شاء الله
تعالى في موت الكفيل بالمال.
وإذا تقرر أن موت الغريم يسقط مطالبة من تكفل بوجهه، لكونه مغلوبا على
(1) احضاره بأمر لا قدرة له على دفعه عنه، وهو الموت، بخلاف التغيّب
الذي يمكنه أن يتحفظ به حتى لا يغيب، فإن موت الكفيل بالوجه فيه قولان:
هل تسقط الكفالة بموته فيطالب احضارَ الغريم و (2) ورثتُه، ويؤخذ الدين
من تركته، وهو المشهور؟ أو تسقط الكفالة كما حكيناه عن عبد الملك ابن
الماجشون.
وأما موت الكفيل بالمال فإن الكفالة لا تسقط عنه بموته من غير خلاف،
إذا كانت في أصل العقود. ولو كانت بعد العقد، فهل تبطل بالموت أو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على [عدم] إحضاره
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف واو العطف.
(3/ 2/171)
تجري مجرى الهبات؟ فيه قولان. وقد تقدم ذكر
ذلك.
ولو كان الدين مؤجلًا فمات الحميل بالوجه، وقلنا بالمشهور إن موته لا
يسقط الكفالة، فإن ورثته مطالبون بإحضار الغريم، فإن أحضروه سقطت
الكفالة، كما لو أحضره الميت الذي تكفل به فمات، ورثوه.
لكن قال ابن المواز: إذا أحضره أحدُ الورثة برئت التركة من المطالبة،
ولو كان الدين مؤجلًا.
وعارض هذا بعض الأشياخ المتأخرون، وقالوا: لا يحسن أن تسقط الكفالة
المتوجهة في تركة الكفيل بالوجه إذا مات، بإحضار ورثة (1) الغريمَ قيل
الأجل، لأن ذلك إحضار لا يفيد من له الدين، إذ لا يقدر على مطالبة
الغريم الذي أتي به إليه قبل أن يحل الأجل.
ولعل ابن المواز رأى أن حكم هذه الحمالة المؤجلة حقت بموت الحميل كما
يحلّ على الحميل المال الديُن المؤجلُ إذا مات الحميل به، وما ذلك إلا
لما يلحق ورثته من الضرر في منعهم قسمة التركة.
وقد يتعلق بهذا حق المتحمّل له لإمكان أن يحل الأجل ويتغيب الغريم،
فتتوجه الغرامة على الكفيل بوجهه وقد مات، فيكون الحكم أن يؤخذ من
تركته ما ترك عليه من دين استحقه المتحمل له. ولا تصح قسمة ميراث ميّت
قبل أن تقضى ديونه. وأما الديون المؤجلة فإنها تحل بموت الغريم من غير
خلاف.
وهل تحل على الحميل بالمال بموته أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: اختار ابن
القاسم أنها تحل كما تحل على الغريم بنفسه إذا مات.
ومذهب عبد الملك أنها توقف حتى يحل الأجل، فإن لم يوجد للغريم مال أخذ
ما وُقف من تركة الحميل فدفع لمن له الدين.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ورثتِهِ
(3/ 2/172)
ومذهب ابن نافع أن تركة الحميل إذا كانت
مأمونة واسعة، فإنها لا يؤخذ الدين منها معجلا ولا موقوفًا حتى يحل
الأجل. وإن كانت غير مأمونة عجل الدين. فكأن القولَ بني على أحد قولي
مالك في أن من له الدين غير إذا حل دينه، بين أن يطلب به الغريم أو
الذي تحمل ما عليه. فيصير على هذا على هذا القول الحميلُ بالمال
كالغريم نفسِه، فإذا اتفق على أن الغريم نفسَه إذا مات حل الدين المؤجل
الذي عليه فكذلك الحميل، لأنه كغريم آخر. وعلى القول الثاني لمالك أنه
لا يمكن من أخذ الدين من الحميل إلا إذا تعذر أخذه من الغريم (لأجل
الدين) (1). ولكن يبقى النظر في وقفه إلى أجل، ومنع الورثة من التصرف
في مقداره من التركة لحق من له الدين، إذ إبقاؤه مضرة على الورثة، وعلى
من له الدين، لإمكان أن يضيع فيضير (2) ضياعه الورثة ويضر من له الدين.
والجواب عن السؤال التاسع أن يقال:
أمّا تكثير الحملاء بالوجه أو بالمال فذلك جائز، لأن الغرض بالحمالة
التوثق فأشبهت الرهبان، والبرهان يجوز أخذها وإن كثرت أنواعها. ولا فرق
في هذا بين الحمالة بالمال أو الحمالة بالوجه.
ولو تكفل ثلاثة رجال بوجه رجل لصح ذلك وبرىء من الحمالة من أحضره منهم
وحده، ولا يبرأ الحميلان الآخران حتى يحضره كل واحد منهما.
ولو انضاف إلى هذا أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة حميل بصاحبه لسقطت
الكفالة عنهم أجمعين بإحضار واحد منهم الغريم، لأن كل واحد منهم لما
تحمل بصاحبه صار كالوكيل له على احضار الغريم. وقد قررنا أن موت الغريم
لا يسقط الحمالة بالمال ويسقط الحمالة لالوجه، وموت الحميل بالمال لا
يسقط
__________
(1) ما بين القوسين، هكذا في النسختين
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَضر
(3/ 2/173)
الحمالة، وموت الحميل بالوجه فيه قولان كما
قدمنا.
ولو تحمل زيد لعمرو وتحمل يزيد و (1) بكر، وحمالة كل واحد منهما بالمال
فإن موت عمرو لا تسقط الحمالة عن زيدل ولا عن بكر لما أصلنا. ولو تحملا
بالوجه جميعًا فإن موت عمرو يُسقط الحمالة عن زيد، وإذا أُسقطت عن زيد
سقطت عن بكر لأنه كالفرع عنه، وإذا سقط الأصل يسقط الفرع. ولو مات زيد
لسقطت الحمالة عن تركته على مذهب عبد الملك ولم تسقط على المذهب الآخر،
وإذا سقطت عن زيد بموته سقطت عن بكر لأن بكرًا حميل بوجه زيد، وموت
المتحمَّل بوجهه يسقط. لكن لومات بكر لجرى سقوط الكفالة عنه وعن تركته
على القولين المتقدمين في سقوط الكفالة عين الحميل بالوجه إذا مات.
ولو غاب عمرو لأُخذ زيد بالدين، ولو غاب زيد لأخذ بكر بما توجه على زيد
من الغرامة.
ولو اختلفت طرق الحمالة من هذين الرجلين: فتحمل زيد بالوجه، وتحمل بكر
عن زيد بالمال، فإن موت عمرو يسقط الحمالة عن زيد؛ لأنه حميل بالوجه
وقد مات من تحمل بوجهه. وإذا سقطت عن زيد سقطت عن بكر لأنه كالفرع عن
زيد.
ولو غاب عمرو لتوجهت الغرامة على زيد، فإن لم يوجد له شيء غرم عنه بكر
الذي تحمل عنه بالمال. (ولو كان يمكن هذا) (2) زيد تحمل بالمال وبكر
تحمل بوجه زيد، فإن بكرا إذا أحضر زيدًا سقطت عنه الحمالة. ولو مات زيد
لسقطت عنه الحمالة أيضًا. ولو مات بكر فإن الحمالة ثابتة بعد موته.
وأشار بعض الأشياخ إلى أنه لما قال: هي ثابتة، ولم يقل تؤخذ من تركته
بيمين لأنه لم تتوجه على من تحمل بوجهه غرامة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف واو العطف
(2) هكذا في النسختين
(3/ 2/174)
وأشار غيره من الأشياخ إلى أن ذلك جار على
الخلاف في موت الحميل بالمال إذا كان الدين مؤجلًا هل. يحل بموته أم لا
وإن كان لم يتوجه غرامة على من تحمل عنه بالمال؟
وكذلك يكون حكم بكر ها هنا يجري على القولين: هل يؤخذ من تركته، إذا
مات، الدين، و. إن كان الدين لم يتوجه على زيد الذي تحمل بوجهه وهو
حميل بالمال مطالب.
والجواب عن السؤال العاشر أن يقال:
قد قدمنا أن الحمالة بالمال لا تبرىء ذمة المتحمَّل عنه، بل يصير الدين
متوجها في ذمتين: في ذمة الغريم وذمة الحميل. وذكرنا فيما سلف أن من
الناس من ذهب إلى أن الحمالة بالمال تبرىء ذمة المتحمّل عنه وذلك
كالحوالة: فإن حقيقة الحوالة أن يكون الدين في ذمة واحدة ثم ينتقل إلى
ذمة المحال عليه وتبرأ الذمة الأولى وهي ذمة الغريم الذي عليه الدين.
وذكرنا سبب الخلاف في هذه المسألة وأن جمهور العلماء على أن الحمالة لا
تبرىء ذمة المتحمَّل عنه. ولكن اختلف هؤلاء في تمكين من له الدين من
طلب الحميل بما تحمل به من (1) تمكنه من أخذ دينه من ذمة غريمه الذي
عامله بأصل الدين، في الأكثر على أن من له الدين مخيّر بين أن يطالب
بدينه الغريم أو الحميل، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وبه قال مالك في أحد قوليه. وله قول آخر أنه لا يمكن من له الدين من
طلب الحميل مع إمكان أخذ دينه من غريمه.
والروايتان عنه مشهورتان في المدونة وغيرها.
واتفق الجميع على أن من له الدين إذا حيل بينه وبين أخذ حقه من الغريم
لفقر حدث بالغريم، أو تغيّب، أو لَدَدٍ، أو امتناع لا يقدر معه على
الانتصاف
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مع.
(3/ 2/175)
منه، فإن له أخذ الدين من الحميل.
وسبب الخلاف في تمكين من له الدين بطلب الحميل مع تمكنه من أخذه من
الغريم قوله عليه السلام "والزعيم غارم" (1) يعم سائر الأحوال: حالة
كون الغريم حاضرًا موسرًا يتُمكن طلبُه بالدين، وبين كونه ممتنعا من
أدائه. وهذا كالعموم في المعنى، وفيه اختلاف بين الأصوليين. فاقتضى هذا
العموم تمكين من له الدين من طلب الحميل على أيّ حال كان الغريم. وكأن
من ذهب إلى رفع التخيير بين طلب الحميل والغريم إذا أمكن أخذ الدين من
كل واحد منهما رأى أن قوله في هذا الحديث "والزعيم غارم" فيه إشارة إلى
أنه إنما يغرم ما قد صار في حيز التلف لكون الغريم فقيرًا أو ممتنعا
فيصير الحميل غارمًا لما هو في حكم التالف. وكأن هؤلاء رأوا أن لفظة
الغرامة تشعر يكون ما يؤدى عوضا عن ما هو في حكم الفائت التالف، وإنما
يقال غرم زيد قيمة ثوب استهلكه، ولا يقال إذا اشتراه وأدى ثمنه غرم زيد
ثمنه هذا المألوف في الاستعمال.
وهذا يقتضي ألا يتوجه على الحميل. مطالبة إلا عند فوت أخذ الحق من
الغريم. ويرجح أصحاب هذه الطريقة مذهبهم بأن القصد بأخذ الحميل، التوثق
في الدين، وكون الطالب للحميل إذا اشترطه في أصك المعاملة فإنما يفعل
ذلك توثقا من مشتري سلعته، حذَرًا أن يفتقر أو يتغيب، فصارت الحمالة في
معنى الرهبان، بل (2) القصد من الرهبان التوثق من الغريم مخافة أن
يفتقر أو يتغيب فيكون الرهن يقضى منه الدين. وقد اتفق على أنه لا يمكن
الطالب من أخذ حقه من الرهن إلا عند تعذر استيفاء الدين من الراهن،
فكذلك لا يمكن من له الدين من طلب الحميل إلا بعد تعذر استيفاء الدين
من الغريم.
ومقتضى التحقيق عندي في هذا أن الحمالة التزام لم يلزم في أصل الشرع
فلا يتجاوز فيه حدّ ما التزمه الملتزم وتطوع به. فلو صرح حين الالتزام
بأن قال:
__________
(1) تقدم تخريجه
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذْ
(3/ 2/176)
إنما أتحمل عن فلان بما عليه من دين بشرط
أن يطرأ عليه فقر، أو يحدث منه تغيب فإنه لا يختلف في أن من له الدين
لا يمكن من طلب الحميل إلا عند حصول الشرط الذي علق الالتزام به. فإن
اتفق هذا أوجب أن ينظر إلى قوله: أنا حميل عن زيد بما عليه من الدين:
هل هو نص في الالتزام على أي حال كان الغريم فيقضى بمقتضى لفظه ويمكن
المتحمل له من مطالبته مع إمكان أخذ دينه من غريمه أو يكون هذا اللفظ
محتملا لكونه إنما أراد الالتزام بشرط أن يتعذر القضاء من الغريم حتى
تكون الحمالة كالرهان فيقبل قوله إن ذلك مراده، وقصارى ما فيه أن يحلف
على أن ذلك مراده، ولا تعمر ذمته بالشك والاحتمال.
ولو جرت عادة قوم في الحمالة أنها إنما تتوجه عند تعذر أخذ الحق من
الغريم حتى صارت العادة كالقرينة الدالة على مراد المتكلم، لكان ذلك
كما لو قيّد الحمالة نطقا بشرط فقر الغريم أو تغيبه. هذا حكم الكفالة
المطلقة المقيدة بشرط تعذر الاستيفاء من الغريم.
وأما المقيدة بالتمكن من طلب الحميل مع إمكان استيفاء الحق عن الغريم،
مثل أن يشترط من له الدين أن يبدّأ به بالطلب، وإن كان غويمه حاضرًا
يمكن الاستيفاء منه، فإنه اختلف قول مالك رضي الله عنه في هذا الشرط
والتقييد: هل يؤثر ويقضَي به أو يكون مصرَّحًا لا تأثير له؟ فرآه مرة
مؤثرًا يوجب القضاء به، ويمكّن من له الدين من طلب الحميل، وإن أمكن
أخذ الحق من الغريم. ورآه مرة غير مؤثر، وقال: لا يمكّن من ذلك، واعتل
لهذا القول بأن قال: أيُتبع ربع الحميل وعقاره والغريم حاضر موسر وهذا
من الاضرار؟! وإنما يتصور الخلاف في هذا الشرط على القول بأن من له
الدين لا يمكّن من طلب الحميل مع حضور الغريم وإمكان أخذ الحق منه،
وأما إذا قلنا: إن الحمالة المطلقة يتوجه معها طلب الحميل، وإن كان
الغريم يمكن الاستيفاء منه، فأحرى أن يقال بهذا مع التصريح في أصل
الحمالة بأن من له الدين أن يبدأ
(3/ 2/177)
بطلب الحميل. ومقتضى الفقه في هذه المسألة
ردها إلى أحكام الشروط، وهي منوّعة أنواعها كثيرة، ذكرناها في كتاب
البيوع، وذكرنا أن من اشترط شرطا مباحا ولكنه لا منفعة له فيه ولا غرض
يعتمده العقلاء فإن المذهب على قولين: هل يقضى له بشرطه لأن عليه وقعت
المعاملة، أوْ لا يقضى له به لكونه كاللّغْو من الكلام المطَّرح؟ وقد
قال في المدونة فيمن أكرى داره على أنه لا يسكنها المكتري إلا بعدد
معلوم فأراد المكتري الزيادة في العدد فإنه يمكّن من ذلك إذا لم يلحق
صاحبَ الدار منه ضرر وهذا من النوع الذي نحن فيه. وإن شرط مالًا يفيد
لم يقض به في هذه المسألة التي ذكرناها في الأكرية. ولو كان في شرط
التبدئة بالحميل منفعة لمشترطه لكونه يتعب في اقتضاء الغريم لوجب
الوفاء بشرطه.
وإنما يحسن الخلاف إذا شرط التبدئة بالحميل، وكان تناول الحق من الغريم
ومن الحميل على حد سواء في ارتفاع المشقة وسهولة الطلب.
ولو كان اشتراط التبدئة بالحميل إنما وقع ذلك من الغريم بأن يقول مشتري
السلعة لبائعها: أعطيك فلانا حميلا بالثمن على أن تعبدًا بطلبه. وكان
المشتري (1) في هذا الاشتراط غرض، مثل أن يعلم أن الحميل إذا وزن (2)
عنه الثمن آخره عليه، ولم يقبضه فما وزن (2) عنه إلا بعد حين، لكان ذلك
أيضًا شرطا مفيدا يقضى به.
وأما لو كان دفع الحميل الثمن رجع به في الحال على المشتري، وكان دفع
الثمن للبائع والحميل على حد سواء لا منفعة فيه لجرى ذلك أيضًا على
القولين في شرط مالًا يفيد.
ومما ينخرط في هذا المسلك ما قدمناه في الحمالة، فإن محمدًا بن عبد
الحكم ذكر في كتابه في الحميل بالوجه إذا اشترط عليه المتحمّل له بوجه
غريمه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمشتري
(2) هكذا في النسختين
(3/ 2/178)
أن يحضره له في بلد سماه، فأحضره له في بلد
آخر يمكنه فيه الطلب كما يمكنه في البلد المشترط إحضار الغريم فيه،
فذكر في المسألة قولين. وهذا أيضًا من شرط مالًا يفيد هل يوفى به أم
لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة وما يلحق بها في أحكام الحمالة بالوجه.
وأصحاب الشافعي ذكروا هذه المسألة أيضًا وأشارو إلى أنه إذا أحضره ببلد
آخر غير البلد المشترط، ولا مضرة على المتحمل في ذلك فإن الشرط ساقط،
وذكروا قولين. و (1) لو اشترط حضوره في البلد الذي سماه بمكان فأحضره
بموضع آخر منه. وهذا كله يؤكد ما حكيناه من الاختلاف في اشتراط مالًا
يفيد: هل يقضى به أم لا؟ ومما يلحق: بالمسألة التي نحن فيها اختلاف
الحميل ومن له الدينَ في كون الغريم فقيرًا حتى يتوجه الطلب على الحميل
من غير خلاف، أو كونه مليئا حتى يجري وجه الطلب عليه على اختلاف قول
مالك الذي ذكرناه في صدر هذه المسألة فيه قولان:
أحدهما: حمله على الغنى حتى ينكشف من حاله ما يدل على فقره، فيرتفع
الخلاف في توجه الطلب على الحميل.
والقول الآخر: حمله على الفقر حتى يظهر ما يدل على ملائه.
وقد قدمنا في كتاب التفليس سبب هذا الاختلاف وأشرنا إلى أنا إن قلنا:
إن الغالب في الناس الغنى، والفقر نادر، صار من ادعى الفقر ادعى خلاف
الغالب فلا يقبل ذلك منه. وإنا إن قلنا: إن من اشترى سلعة ثم ادعى
الفقر والعجز عن ثمنها لا يصدق. وعلة كونه لا يصدق أنه أخذ عوضا عما
يُطلب به من الثمن، فيستصحب وجود ذلك في يديه حتى يظهر ما يدل على تلفه
من يده، والحميل لم يأخذ عوضا فصدق في دعوى الفقر، كما ذكرناه هناك في
تصديق الإنسان في أنه فقير "إذا طلب بالإنفاق على أبويه لما كانت هذه
المطالبة لم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و [كذا] لو ...
(3/ 2/179)
يؤخذ عنها عوض. على أن الحمالة تشعر
باعتراف الحميل بأنه قادر على قضاء ما تحمل به فيطالب بموجب اعترافه.
وهذا بسطناه في كتاب التفليس.
والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال:
إذا تكفل رجل عن رجل بما وجب عليه من دين أو بما يوجَب في المستقبل،
صحّتْ الكفالة، وإن لم يعلم الكفيل بمقدار ما تكفل به، كما قدمنا أن
هذا مذهبنا فيه، وأن الشافعي لم يجز الكفالة بالمجهول.
لكن لا يخلو الوجوب من أن يثبت ببينة أو بإقرار المتكفّل عنه، إذا قال
رجل: لي عند زيد مائة دينار، أو لي عليه دين. فقال عمرو: أنا كفيل
بذلك. فإن ذلك يجب عليه على الجملة إن ثبت الدين. ولا يخلو ثبوته إما
أن يكون ببينة تشهد به، أو بإقرار المدعَى عليه. فإذا جاء زيد فأنكر أن
يكون عليه دين ولم تشهد عليه بينة به وحلف على بطلان دعوى المدعي لم
يلزم الكفيل مطالبة، لأنه إنما ذكر أنه كفيل، والكفالة تسمية لمن ضمن
دينا يؤديه ثم يرجع به على من أداه عنه بخلاف الحميل الذي مقتضاه أن
يؤدي رجل عن رجل في دينًا على ألَّا يرجع به عليه.
فإذا كانت الحمالة (1) مقتضاها رجوع الحميل (1) بما أدى بخلاف الحميل،
وأتى زيد فجحد أن يكون عليه هذا الدين، وحلف على ذلك، فقد برىء من
المطالبة بإجماع، وإذا برىء منها لم يصح أن يرجع عليه الكفيل بما تحمل
به. والحمالة تسمية لما لَه به مرجع كما قررنا. ولا يكون قول هذا: أنا
حميل. تصديقا للمدعي فيما ادعاه، لما ذكرناه من كون الحمالة تسمية لما
له به مرجع.
ولو نكل عن اليمين وردها على المدعي حلف المدعي وثبت الدين، ولزم
الكفيلَ القيامُ به إذا كان المدعى عليه معسرًا، ثم يرجع به على المدعى
عليه لأن
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: الكفالة رجوع الكفيل
(3/ 2/180)
ثبوت هذا الدين بنكول المدعى عليه ويمين
المدعي كثبوته بالبينة.
وذكر في كتاب الشفعة من المدونة أن زيدا إذا أتى فجحد الدين، وحلف
عليه، أن للمدعي تحليفَ الكفيل بأنه لا يعلم ثبوت هذا الدين. فإن نكل
الكفيل عن هذه اليمين غرم. وهذا لأن الكفيل إذا أقر بثبوت الدين وأن
المدعي يستحقه فكأنه يعلم أن المدعي إذا استحق هذا الدين استحق على
الحميل به أن يقوم له به. ولا يضر ها هنا كون الحميل لا مرجع له لأنا
إنما ذكرنا هذا التعليل فيما لم يعلم الحميل بثبوته من الدين فيحمل لفظ
الحمالة على أنه قصد أن يتحمل بما يجب الطلب به، فإذا لبم يعلم وجوب
الطنب به فلا مطالبة عليه، وها هنا هو عالم بثبوت الدين وإن المتحمل له
يستحقه على المدعي عليه، فصار جحود المدعى عليه كجائحة طرأت على الحميل
منعته أن يرجع بما يجب له الرجوع وأما كون الكفيل ها هنا إذا نكل عن
اليمين أنه لا يعلم صحة هذا الدين فإنه يغرم من غير أن يُرجع اليمين
على من يطالبه بالغرامة، فإن هذا هو الأصل في أيْمان التهم أن النكول
عنها يوجب الغرامة، إذ المتَهِم لغيره لا حقيقة عنه (1) بباطن الأمر،
والإنسان ممنوع أن يحلف على ما لا يعلم صدقه في يمينه.
وفي الموازية، في المريض إذا قال عند احتضاره: لي على فلان مائة دينار،
ثم مات، إن المدعَى عليه يحلف، ولم يراع في يمينه الخلطة لكون المريض
يعتقد أنه منتقل إلى الآخرة، فتبعد التهمة في أن يدعي محالًا، فتسقط
مراعاة الخلطة ولا يكون انتفاء هذه التهمة (2) اليمين يوجب قبول دعواه،
كما قلنا في القسامة صيانة للدماء واحتياطا لها لكونها لا يتمكن احضار
البينة فيها ويتمكن ذلك في المعاملات بالمال.
ولو أتى زيد فأقر بصحة الدعوى عليه: فهل تلزم الكفيل الغرامة أم لا؟
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنده
(2) هكذا في النسختين، بمقدار كلمه
(3/ 2/181)
صرّح ابن المواز بأن ذلك لا يلزم بمجرد
الإقرار دون أن تقوم بينة على ذلك.
وظاهر المدونة إلزام الكفيل الغرامة بمجرد إقرار زيد المدعَى عليه لأنه
قال في المدونة إذا أتى زيد فجحد: إن الكفيل لا تلزمه غرامة لأن زيدًا
قد جحد فقال: نفي الغرامة بجحود زيد يدلس ذلك أنه لو أقر للزم الكفيل
الغرامة.
فمضى الأشياخ على أن المذهب على قولين في إيجاب الغرامة بمجرد الإقرار.
وكذلك لو كانت الحمالة بما يستحب (1) من دين كقول رجل لآخر: عامل فلانا
وبايعه، وأنا كفيل لما تبايعه به، فإن هذه الكفالة لازمة عندنا كما
قدمناه.
ولو أنكر المتحمَّل به أن يكون عامل هذا لكان القول قوله، وتسقط
الحمالة عن الحميل، على حسب ما فصلنا القول فيه. ولو ثبتت عليه
المعاملة ببينة لأخذ الحميل بذلك. ولكن قال غير ابن القاسم في المدونة:
إذا عامله بما يشبه. وأطلق ابن القاسم الجواب. وحمله بعض الأشياخ أن
مراده بالإطلاق ما قيد به الغير من مراعاة الشبه وأن ذلك مما يمكن أن
يكون أراده ابن القاسم وهو الأظهر.
وإن لم يجحد المتحمل به المعاملة ولكنه أقرّ بها فإن ذلك يجري مجرى
القولين اللذين قدمناهما. ففي المدونة أن الكفيل تلزمه الكفالة إذا
ثبتت المعاملة. وفي الزمياطة (2): أن الكفيل تلزمه الكفالة بإقرار
المتحمل عليه بالمعاملة، وإن لم تعاين البينة المعاملة، ما لم يكن
الإقرار بعد أن نهاه الكفيل عن المعاملة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستحق
(2) هكذا في النسختين، والصواب: الدمياطية
(3/ 2/182)
وظاهر ما قال أنه إذا كان الإقرار
بالمعاملة بعد أن قال الكفيل: لا تعامله، أن الإقرار لا يعتدّ به.
وبالجملة فإن التحقيق في هذا اعتبار مقتضى اللفظ الواقع من الحميل.
فإن صرح: بأني لا أتحمل إلا بما يثبت بالبينة، فإنه لا يختلف في أنه لا
يطلب بمجرد إقرار المدعي عليه. وإن صرح بالتزام الحمالة إذا ثبت الدين
ببينة أو بإقرار المدعى عليه فلا يحسن الخلاف في هذا.
وإنما وقع الإشكال إذا أطلق: أنا حميل بما وجب لك على فلان، أو بما
سيجب. فإن الوجوب هو الثبوت قال تعالى: {فَإِذا وَجَتَ جُنُوبُهَا} (1)
يعني: سقطت عن جنوبها، وما ثبت ببينة فقد استقر. وما يعتبر فيه ما يقول
المدعى عليه من جحود أو إقرار، فكأنه غير ثابت، فلا يحمل إطلاق هذا
اللفظ على أن الحميل أراد أنه يتحمل بما يجب بالبينة أو بالإقرار.
أو يقال: فإن من أقر بحق عليه لآخر قضي عليه بما أقر به باتفاق. هنا
يقضى عليه لو شهدت البينة به. فإذا كان الإقرار يوجب الغرامة كما توجبه
(2) البينة، وجب أن يتوجه الطلب على الحميل بمجرد الإقرار. هذا التحقيق
فيه.
وإذا احتمل اللفظ وأدى الاجتهاد إلى الاستظهار باليمين على الحميل أنه
ما أراد بالحمالة إلا أن يكون حميلا بما يثبت بالبينة دون الإقرار،
فيستحلف على ذلك، ويبرأ من الغرامة بمجرد الإقرار، أو تكون قرينة حال
أو عادة تدل على القصد بهذا اللفظ فيرجع إليها.
هذا مقتضى النظر عندي في هذه المسألة.
وإذا حملنا إطلاق القول: عاملْ فلاناً وأنا حميل لك بما تعامله به، على
أن المراد بالعاملة بما يشبه أن يتبايع به الرجلان في مقتضى العادة كما
قال غير
__________
(1) الحج: 36
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: توجبها
(3/ 2/183)
ابن القاسم في المدونة: إذا عامله شيئًا
فشيئا حتى إذا انتهى إلى ما يشبه سقط ما زاد عليه من معاملة تستأنف.
وأما لو عامله دفعة واحدة بمال كثير لا يشبه أن يكون الحميل تحمل به،
فإن بعض أشياخي رأى أن الغرامة ساقطة عن الحميل، لكونها معاملة واحدة
وقعت على خلاف ما اشترطه الحميل فلم يلزمه منها شيء.
وعندي أن هذا قد تتخرج فيه طريقة أخرى، وهي أن يلزم الحميلَ من هذه
المعاملة مقدارُ ما يشبه أن يعامل به، وتسقط عن الحميل المطالبة بما
زاد على ذلك.
وقد أشرنا في كتاب الوكالة إلى هذا الأصل في مسألة إذا وكله على أن
يبيع له ثوبه باثنى عشر، فباعه بعشرة، فإن. الآمر لا يلزمه أن يبيعه
بعشرة. فلو قال المشتري للآمر: أنا أتحمل لك بدرهمين بحال ما أمرت به.
فهل يسقط مقال الآمر أم لا؟ في ذلك قولان. وكأن سبب الخلاف أن من تعدى
من جنس
إلى جنس اتضح كونه متعديا، وأن ما عقده على الموكل لا يلزم، وأن من عقد
على الجنس المأمور به وعلى العدد اتضح لزوم ذلك للآمر، ومن عقد على
الجنس وقصّر في العدد أو زاد: فهل يكون ذلك بهذه الزيادة في الجنس أو
النقصان كالمتعدي إلى جنس آخر فلا يلزم ذلك، أو لا يكون ذلك كالتعدي
إلى جنس آخر، فإذا أكمل عدد الجنس صار العقد الواقع من الوكيل هو العقد
الذي أذن فيه رب السلعة. فكذلك مسألتنا إذا أمره أن يعامله بما يشبه،
وكان الذي يشبه مائة دينار، فعامله صفقة واحدة بمائتي دينار، فهل تكون
المائة الزائدة أخرجت المائة المأذون فيها عن جنسها، فصار ذلك كله غير
مأذون فيه، أو لم تخرجها عن جنسها، فإذا سقطت المائة الزائدة على ما
يشبه بقيت المائة الأخرى هي نفس المائة المأذون فيها.
وقد ذكر محمَّد بن عبد الحكم فيمن قال لرجل: بيع من فلان دارك بألف
درهم، وأنا ضامن لك الثمن فباع منه الدار بألف وخمس مائة درهم فذكر أن
في
(3/ 2/184)
المسألة قولان (1):
أحدهما: أن الحميل لا تتوجه عليه غرامة، لأن زيادة الخمسمائة على الألف
المأذون فيها تصيّر الألف كأنها جنس آخر غير ما تحمل به، فأشبه من قال:
بيع دارك بألف وأنا ضامن لك بالثمن، فباع منه بستانه، فإن ذلك لا يلزم.
وقيل: يلزمه إذا باع منه داره بألف وخمس مائة الألف التي تحمل بها
الحميل، وتسقط عن الحميل الخمسمائة الزائدة، ولا تكون هذه الزيادة
مخرجة الألف عن كونها مأذونا فيها.
وهذا الذي ذكرناه عن محمَّد بن عبد الحكم أنه ذكر فيه قولين في كتابه
فيمن قال: بع منه دارك بألف وأنا كفيل لك، فباعها بألف وخمسمائة أن في
ثبوت الألف على الكفيل قولين بما نبهناك عليه، يؤكد عندك أن هذا الأصل
مختلف فيه، وأن الذي قاله بعض أشياخي إحدى الطريقتين (على أن قد يبدوا
عوض) (2) في مسألة ابن عبد الحكم بأن يقول الحميل: إنما التزمت الحمالة
لغرض لي في ذلك، وهو أن تبيعها منه بدون القيمة، فإذا بعتها منه بأكثر
لم تلزمني الحمالهّ، لبطلان الغرض الذي تحملت لأجله. فيكون هذا القول
على هذا التعليل خارجًا إلى أصل آخر، وبه علل هذا القول.
والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال:
أمّا ما استقر وجوبه سابقا للحمالة فإن من تحمل به لا يمكّن من الرجوع
عن الحمالة، كما: قال: لي عند فلان مائة دينار، فقال له آخر: أنا كفيل
لك بها. فإذا ثبتت على زيد بالبينة وجب على الكميل الغرامة، ولا يمكّن
من الرجوع عن هذه الحمالة.
ولو كان إنما تكفل بما سيجب، مثل أن يقول: عامْل فلاناً وأنا كفيل لك
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: قولين
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/185)
بما تعامله به، فإنه يمكّن من الرجوع عن
ذلك لكون هذا لم يلتزم ما قد وجب وإنما التزم ما سيجب، والرجوع عن
الشيء قبل وجوبه بخلاف (1) الرجوع عنه بعد وجوبه.
وقد اختلف المذهب فيمن وعد رجلا أن يعطيه مائة دينار في المستقبل ثم
امتنع من أن يعطيه، فقيل: يقضى عليه بها، وقيل: لا يقضى عليه بها،
وقيل: إذا كان الوعد له سبب قضي به، وإذا كان لا سبب له لم يقض به.
وهذا إذا رجع الكفيل قبل المعاملة. وأما إن رجع بعد وقوع المعاملة فلا
ينفعه ذلك، ولا تسقط عنه الغرامة، لأن من أدخل رجلا في إتلاف مال لزمه
ما أدخله فيه.
وقد أشار بعض أشياخي إلى أن التمكن من الرجوع قبل المعاملة إنما يُمكّن
منه إذا أطلق القول بالحمالة فقال: عاملْه وأنا كفيل لك بما تعامله به.
وأما إن قيّد فقال: عامله بمائة دينار وأنا كفيل لك بها، فإنه لا يمكن
من الرجوع عن ذلك وإن لم تقع المعاملة، لكون المسِمّي مائةَ دينار
حَدَّ غايةً معلومة ينتهي إليها. ومن أطلق ولم يحدّ فليس هناك غاية
تطلب، فلا يمنع من الرجوع فيها. ألا ترى أن من أكرى داره سنة لزم هذا
العقد بالقول لهما جميعًا.
ولو أكراها كل شهر بدينار لكان لكل واحد منهما الرجوع فيما يستقبل من
السكنى لما لم تكن غاية يُنتهَى إليها. واعتمد أيضاً على ما وقع في
المدونة فيمن أعار أرضه رجلًا يغرس فيها ويبني وحدَّ أجلًا معلوما،
فليس له الرجوع، وإن لم يحدّ أجلا فله الرجوع على ما ذكره في المدونة،
واشترط فيه، ولا فرق إلا ثبوت العارية وتحديدها وانتفاؤها (2).
وقد كان بعض الأشياخ يجري هذه المسألة على اختلاف القول في الهبة:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خلاف
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وانتفاؤه.
(3/ 2/186)
هل تلزم بالقول أو لا تلزم؟ والحمالة
كالهبة لمنافع، لأن الحميل يدفع عن الغريم مالًا هو كالسلف له ليأخذه
منه بعد حين، فكأنه وهبه منافع مال. وهذا يبسط في كتاب الهبات إن شاء
الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال:
قد قدمنا أن الشافعي منع في أحد قوليه الحمالة بوجه الغريم، وما ذاك
إلا لكونه عينا لا يدخل تحت القدرة بقاؤها وتحصيلها والتمكن منها عند
الأجل المضروب للضمان.
ومما يلحق بهذا المعنى ضمان الدرك في المبيعات: فضمان درك الأثمان عند
إلاستحقاق جائز لأنه مقدور على ردّه، إن كان عينا، أو قيمته إن كان
عرضا قد فات. وقد كنا ذكرنا خلاف بعض أصحاب الشافعي فيه.
وأمّا ضمان درك المبيع المتعلق بعينه على أنه إن وقع استحقاق لزم
البائع تحصيلها وأعطى كفيلا ضامنا لتحصيلها فلا يصح، لعدم القدرة عليه.
وإن المستحق لعين السلعة لا يملك الحميل أن يأخذها منه بغير اختياره،
إلا أن يغصبه فيها، والغصب لا يحلّ، ولو حلّ. فقد لا يمْكِن، فهي أعلى
رتبة من ضمان وجد (1) الغريم، لأن مال (2) ضمان وجد (1) الغريم غرامة
الدين الذي عليه إن تغيّب، وضمان الدّيون يصح، وضمان تخليص عين السلعة
من مستحقها لا يصح. لكن (3) وقع ذلك على غير قصد إليه بل تأكيد درك
الثمن فإنه لا يفسد البيع ولا يؤخذ الضامن بغرامة، إذا كان ذلك تلفيفا
من الموثقين لم يقع العقد عليه، ولهذا قال في المدونة: إن ذلك تلفيف من
الموثقين إذا قالوا: وضمن فلان درَكَ هذه السلعة. ولو أريد به عينها لم
يجز. ولهذا أجري الرسم منا ومن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب. وجه
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مآل
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكن [إن] وقع
(3/ 2/187)
أشياخنا: الفتوى بترك الاعتداد بما يقوله
الموثقون في وثائقهم: شهد على فلان وفلان بما نسب إليهما في هذا الكتاب
طوعا في صحة عقولهما وجواز أمورهما. وأن ذلك لا يكون ترشيدا لمن وصف
بِإنه جائز الأمر لكونه لم يقصد الشهود إلى الشهادة ولو قصدوا إلى
الشهادة بذلك لم يحل لهم أن يشهدوا حتى يكونوا اختبروا من وصف بذلك
وعلموا رشده. ولهذا يقول الموثقون إذا أرادوا ذلك: وعلى علم بكون فلان
وفلان رشيدين لا يولىَّ عليهما. على حسب ما اعتادوه من العبارة في هذا
المعنى.
لكن بعض الاشياخ إنما يرى هذا تلفيفا من الموثقين إذا أدرجوه في آخر
الوثائق، جريا على ما اعتادوه.
وأما إذا وقع في أحكام القضاة فوصفوا رجلا بأنه جائز الأمر، فإنه لم
تجرِ عادة بأنهم يصفونه بذلك تلففا، بل قصدًا إلى ثبوت ذلك الوصف
عندهم.
فإذا عقد ضمان الدرك لتخليص عين السلعة عند إلاستحقاق قصدا إليه، وقد
قلنا: إن ذلك لا يجوز، فلو وقع الاستحقاق فهل تلزم الكفيل مطالبة أم
لا؟ فيه قولان:
أسقط مالك رضي الله عنه في المدونة عن الكفيل غرامة شيء لأجل هذا
الضمان، ورآه لا يُثبت عليه غرامة.
وحكى في المدونة عن غير ابن القاسم أن الكفيل تلزمه غرامة الأقلّ من
الثمن الذي دفعه المشتري للبائع، أو قيمة السلعة التي أخذت من يديه
بالاستحقاق، وضمن له هذا الكفيل تخليصها من مستحقها. وتكون القيمة يوم
الاستحقاق. يريد يوم تنزع السلعة من يد مشتريها بحكم الاستحقاق.
فمالك رضي الله عنه نظر إلى هذا الضمان من مقتضى لفظه، فأسقط حكمه،
واللفظ إنما هو صريح في ضمان تخليص عين السلعة، وذلك لا يقدر عليه، كما
بيّناه، وما لا يقدر عليه لا يُلزَمه الإنسان، والثمن لم يذكر في هذا
(3/ 2/188)
الضمان فيطالب به الكفيل، ولا يطالب أحد
بغرامة ما لم يلتزم غرامة (1) فلهذا لم يوجب على هذا الكفيل غرامة.
وأما قول الغير في المدونة: إن الكفيل تجب عليه غرامة الأقل من الثمن
الذي دفعه المشتري، ثقة بضمان هذا الضامن لتخليص السلعة، أو قيمتها يوم
الاستحقاق إن كانت قيمتها حينئذ أقل من الثمن الذي دفعه المشتري
للبائع، فإنما ذلك منه اطّراح بحكم (2) اللفظ والتفات إلى المعنى.
ومعلوم أن المعنى والقصد بأخذ الحميل التوثق فيما يدفعه الإنسان ويضمن
له دركه، فلولا ثقة مشتري هذه السلعة بقول هذا الكفيل: أنا ضامن
تخليصها، لم يدفع إلى البائع من الثمن الذي دفع إليه فيها، فكأنه أتلفه
الكفيل عليه بسبب هذا الضمان، فتلزمه غرامته. إلا أن تكون قيمة السلعة
حين انتزاعها من يد مشتريها أقل من الثمن الذي دفع فيها فلا يلزم
الكفيل إلا غرامة هذه القيمة ويرجع المشتري بتمام ماوزن من الثمن على
البائع الذي قبضه منه، لأن الكفيل يقول للمشتري - أرأيت لو لم تُستحق
هذه السلعة من يديك: هل يلحقك ضرر لأجل ضماني أم لا؟ فلم يجد المشتري
مدفعا لقوله، لأنه إن غبن في الثمن فالغبن لم يكن من جهة هذا الكفيل،
وإنما كان من جهة جهل المشتري بالقيم، فدرك جهله عليه، فإنما أضر ضمانه
المشتري أخذ السلعة من يديه فلا يكون عليه أيضا أكثر مما خرج من يديه
من الثمن. فهذا وجه قول الغير.
فإذا غرم الكفيل القيمة، وهي أقل من الثمن، فإن حق المشتري من إكمال ما
دفع من الثمن لا يسقط عمّن قبضه منه، وهو البائع، وإنما يسقط عن الكفيل
لأجل ما ذكرناه من كونه لم يضمنه.
وبعض أشياخي يشير إلى أن هذا الخلاف إنما يتصور إذا كان الكفيل ومشتري
السلعة جاهلين بحكم هذا الضمان، فيكون جهل المشتري المضمون له الدرك قد
أعان على تلف مال المشتري من جهة التغرير به غلطا منه. وأما إذا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غرامته
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لحكم
(3/ 2/189)
علم المشتري يكون هذا الضمان ساقط (1) وجهل
ذلك الضمان (2)، فيبعد الخلاف في هذا، لأن المشتري وثق بما يعلم أنه
غير لازم ولا موثوق به ولا قصد الكفيل إلى التغرير به فيطالب بغرامة.
وكذلك لو كانا عالمين جميعا: الكفيل والمشتري، بكون هذا الضمان ساقط
(1).
وإذا كان المشتري معتقدا كون هذا الضمان لازما، والكفيل يعلم أنه غير
لازم، فلا يحسن الخلاف، لكون الكفيل ها هنا انفرد بالتغرير بالمشتري
فضمن له ما يعلم أنه ساقط، والمضمون له يظن أنه ثابت.
وهذا الذي أشار إليه في هذا القسم فيه إشكال لكون الكفيل إذا انفرد
بالعلم، وكان المشتري جاهلا، إنما وقع منهما التغرير بالقول، وإتلاف
المال بالتغرير بالفعل يوجب الضمان باتفاق، كمن أخذ من إنسان زيتا
فأفرغه بيده في زير يعلم أنه مكسور لا يثبت فيه الزيت وصاحب الزيت جاهل
بذلك، ولو سأله صاحب الزيت عن زيد هل هو صحيح فنَصبُّ فيه الزيت؟ فقال
المسؤول: هو صحيح، فصُبَّ فيه زيتكَ. وهو يعلم أنه مسكور، وصاحب الزيت
يجهل ذلك، فإن في غرامة هذا الغارّ بالقول قولان (3) في المذهب.
فهذا إن أخذت هذه فصورت المسألة من هذه الطريقة لم يبعد تصور الخلاف في
غرامة الكفيل. لكن قد يقال: هذا كالغرر بالفعل، لأنه زاد هاهنا على
التغرير بالقول التزامَ تخليص مالٍ من ذمته، ودفعِ عوضه، (فكأنه ارتفع
بذلك عن رتبة التغرير بالقول التزام تخليص مال من ذمته ودفع عوضه،
فكأنه ارتفع بذلك عن رتبة التغرير بالقول مجردا من التزام الدرك. فهذا
ينظر فيه إذا
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: ساقطًا
(2) هكذا في النسختين، والصواب: الضامن
(3) هكذا في النسختين، والصواب: قولين.
(3/ 2/190)
شاء الله تعالى.) (1) فإذا صح القول في حكم
هذه الكفالة بتخليص هذه السلعة عند إلاستحقاق، فإن البيع يفتقر إلى
النطق في صحة أو فساد، وفساده متعلق باشتراط المشتري على البائع حين
العقد بتخليصها، فإن هذا الشرط فاسد كما بيّنّا، والعقد في المبيع إذا
قارنه شرط لا يجوز، قد أوعبنا الكلام عليه في كتاب البيوع الفاسدة،
وذكرنا هناك ما يؤثر في صحة البيع ويوجب فسخه على كل حال، وما يجب فسخه
إن لم يُسقط المشترط من المتبايعين هذا الشرط الذي اشترطه، وإمضاء
البيع إذا أسقط شرطَه، أو يسقط الشرط على كل حال ويمضي البيع.
وبعض أشياخي يرى أن هذه الثلاث طرق تجري في هذه المسألة، وتختلف فيها
على هذه الثلاثة مذاهب.
هذا الحكم في كفالة من تكفل بتخليص السلعة.
وأما الكفالة بثمنها عند إلاستحقاق أو عند ردها بعيب، فقد تقدم الكلام
عليه، وذكرنا أن العلماء بأسرهم على جواز ذلك. وأما (2) أبا العباس بن
شريح ذكر فيه اختلافًا عن الشافعي، وأنكره عليه حذاق أصحابه.
لكن إذا تكفل كفيل بضمان الدرك في الثمن فوجد البيع فاسدًا يجب فسخُه
وإبطالُ الثمن عن المشتري فهل يبطل ذلك عن الكفيل أم لا؟ ذلك جار على
القولين المتقدمين في الكفالة بتخليص السلعة هل تسقط الكفالة لأنه
كالمتكفل بما هو في حكم المستحيل طبعًا، فكذلك الكفيل هاهنا تكفل بثمن
كالمستحيل ثبوته شرعًا فيجب سقوطه. وعلى القول الآخر يكون كفيلًا
لِأقلَّ من الثمن أو القيمة، لكون الكفالة هي السبب في إخراج المتكفَّل
له ما كان في ملكه إلى المتكفَّل عنه. فإن كان الثمن أقلّ من القيمة
فلم يتكفل يأكثر منه فيغرمه، فتجب على الغريم هذه القيمة التي هي بدل
العين، وتصير القيمة كأنها ثمن
__________
(1) ما بين القوسين هكذا في النسختين
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وأَنَّ.
(3/ 2/191)
السلعة، والكفيل إنما تكفل بالثمن، ومع
الفَوْت قيمتها ثمنها.
وفي الموازية لابن القاسم: إن الكفيل لا تلزمه غرامة. وهذا على أحد
القولين في المدونة في ضمان تخليص السلعة، لأن الثمن قد سقط عن
المشتري، وما سقط عنه سقط عن الحميل. وعين السلعة لم يتحمل بها ولا
ببدلها، الذي هو قيمتها، فلم يجب عليه شيء.
وهكذا لو كان المبيع مكيلاً أو موزونًا، غيرَ الدنانير والدراهم، فتكفل
كفيل بثمنه فوجد البيع فاسداً، أو قد فات المبيع، فوجب على المشتري ردّ
مثله، فإن الكفيل لا غرامة عليه لأنه لم يتحمل بهذا المثل، والثمر الذي
(1) به سقط. وعلى القول الآخر عليه غرامة الأقل من الثمن أو مثل
المبيع، لما قدمناه من التعليل.
ولو كانت الكفالة بالثمن، وهو مؤجل، ووجد البيع فاسدًا، فإن الكفيل لا
يطالب بغرامة حالَّة لأنه إنما تكفل بثمن مؤجل، فلا يلزم أكثر منه.
فإذا حل الأجل: فهل عليه غرامة أم لا؟ ذلك على القولين المذكورين فمن
أعطى اللفظ حقه لم يُلزِمه شيئًا، لأنه إنما تكفل بالثمن، والثمن قد
سقط بالشرع، وغير ذلك لم يتكفل به فلا يطالب بما لم يتكفل به، ومَن
راعى القصدَ فإن الكفالة توثّقٌ للمتكفَّل له والقصد بها ذلك، ولا يخرج
ملك الإنسان من يده إلا أن يكون الثمن أو قيمة المبيع في ذمة يثق بها
لزمه الأقل كما قلناه.
وفي المبسوط لعبد الملك بن الماجشون فيمن باع زيتًا بمائة دينار إلى
أجل، فوجد البيع فاسدًا، فلا يغرم الحميل حتى يحل أجل الثمن، فإذا حل
غرم الثمن، واشترى به زيتًا، وهو الذي وجب على المشتري، وأمّا الثمن
فقد سقط. ويشتري الذي غرمه الكفيل بمكيلة الزيت التي وجبت على المشتري،
ولم يُطلب الكفيل بما بقي من الزيت، وإنما يبقى في ذمة المشتري الذي
أتلفه.
__________
(1) هكذا في النسحختين، ولعل الصواب: الذي [تحمَّل] به.
(3/ 2/192)
وهذا هو أحد القولين في إلزام الكفيل الأقل
من الثمن أو مثل المبيع إذا فات.
وفي الموازية لأشهب فيمن باع دينارًا بدراهم إلى أجل: أن الكفيل لا
مطالبة عليه. وهذا لما قلناه من كون الدراهم التي تحمّل بها أسقطها
الشرع وأبطلها. والدينار لم يتحمل به فلا يطالب بما لم يتحمل.
وعلى القول الآخر وما ذكرناه عن عبد الملك يكون عليه الأقل من الدراهم
التي تحمل بها والدينار الذي وجب رده.
والجواب عن السؤال الرابع عشر أن يقال:
الحمالة قد تمنع من أوجه، منها:
أن تقع الحمالة بعوض يأخذه الحميل، فإن ذلك لا يجوز. ويسلك في تعليل
المنع مسلكان أحدهما: أن ذلك من بياعات الغرر. وبيع الغرر ممنوع منه،
وذلك أن من اشترى سلعة وقال لرجل: تحمّل عنّي ثمنَها، وهو مائة دينار
وعلى أن أعطيك من حمالتك عشرة دنانير. أو قال البائع السلعة: تحمل عنّي
بالدرك في ثمنها إن وقع استحقاق، وأنا أعطيك عشرة دنانير. فإن ذلك
معاوضة وقعت على جهة الغرر إذ لا يدري الحميل: هل يفلس عن (1) من تحمل
عنه أو يغيب فيخسر مائة دينار، ولم يأخذ إلا عشرة دنانير، أو يسلم من
الغرامة فيرجع (2) العشرة دنانير من غير خسارة. وهذا نفس الغرر
والمخاطرة، فلهذا منع.
والمسلك الثاني: أن المنع يردّد هذه المعاوضة بين أصلين ممنوعين لا
تنفك عنهما. إما أن يكون الحميل لا يطالب بغرامة ليسار من تحمل عنه،
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب حذف (عن) ..
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصوإب: فيأخذ.
(3/ 2/193)
فيكون قد أخذ العشرة دنانير باطلًا، وأكل
المال بالباطل نهى الشرع عنه .. أو يكون يغرم ما تحمل به، ولكنه يرجع
به على من تحمل عنه متى أيسر، فيكون ذلك سلفًا جر منفعة لأنه يسلف من
تحمل عنه هذه المائة دينار، ويرجع بها عليه متى أيسر، وقد حصل معه
زيادة على ما [سلف] وهي العشرة دنانير التي قبضها ثمنها (1) للحمالة
فيكون ذلك سلفآ بزيادة، وذلك ممنوع. فإذا وقر ذلك فسخ، ورد. الحميل ما
أخذه. ويبقى النظر في إلزامه الحمالة مع رد العوض الذي أخذ عنها، فإن
كان العوض بذله من له الحق فلا مطالبة على الحميل، لأنه قد ردّ على ما
تحمل عنه ما أعطاه عوض الحمالة. فإذا بطل العوض بطل المعوض عنه، وصاحب
الحق هو الذي جنى على نفسه البيعَ بغير حمالة إن كان لما أعطى من تحمل
له العشرة دنانير وهو يعلم أن ذلك لا يجوز.
وأمّا إن كان دافع العشرة دنانير من عليه الحق، ومن له الحق غير عالم
بذلك، فإن الحمالة لازمة لأن المشتري الذي عليه الثمن لم يبع منه
البائع السلعة إلا لثقته بالحميل، فإذا عامل المشتري الحامل معاملة
فاسدة ولم يعلم بها البائع، فلا يسقط حق البائع في الحمالة، لكون
الحميك غرّه بحمالته حتى أخذ سلعته من يده، فمن حقه أن يطالبه بثمن
سلعته التي تلفها (2) عليه بحمالته.
هذا إذا انفرد بعلم ذلك الباذلُ لعوض الحمالة.
فأما إن علمًا جميعًا: مَنْ له الحق ومن عليه الحق، بأن الحمالة وقعت
بجُعْل، فكان لمن له الحق المتحمَّل به مشاركة وسبب في تحمل الحميل،
فإن الحمالة ساقطة، لكون من له الحق علم أن الشرع يسقطها ويمنع منها،
وله سبب في ذلك وسعي فيه. وأما إن لم يكن إلا مجرد علمه، دون أن يكون
له سبب في ذلك، ففيه قولان: أحدهما: سقوط الحمالة، والمنع من مطالبة
الحميل بما تحمل به، وهو مذهب ابن القاسم. والثاني: إن ذلك لا يُسقط عن
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: ثمنًا.
(2) هكدا في النسختين، ولعل الصواب: أتلفها.
(3/ 2/194)
الحميل المطالبة بما تحمل به وهو مذهب ابن
المواز.
وسبب هذا الخلاف ما قد يعرض من إشكال في هذا السؤال، وذلك أن من له
الحق إذا كان عالمًا بأن الحميل لم يتحمل إلا بعوض أخذه، ويعلم أن ذلك
لا يجوز في الشرع، فكأنه باع بغير حمالة، لا (1) مطالبة له على الحميل.
أو يقال: فإن الحميل قد علم أن العوض الذي تحمك من أجله، يؤخذ من يديه،
ومع هذا التزم الحمالة بالثمن، فكأنه تحمل بغير عوض أخذه، والحمالة
بغير عوض تلزم، فَمَن التفت إلى أن من (2) علم من له الحق بفساد
الحمالة إسقاط لحقه في القيام به أسقط المطالبة عن الحميل. ومن التفت
إلى أن (3) علم بأن العوض الذي أخذه يؤخذ منه ومع هذا التزم الحمالة
بالثمن، أثبت عليه المطالبة بالثمن.
وأما إن جهلًا جميعًا الحكم، فقد قال أصبغ: إن الحمالة ساقطة. وعلى
مقتضى ما حكيناه عن ابن المواز: إن الحمالة ثابتة.
وسبب الخلاف في هذا أيضًا يلاحظ ما عللنا به إذا علمًا جميعًا. وذلك أن
من له الحق إذا تيع بهذه الحمالة وهي لا تجوز، جهلًا منه بأنها لا
تجوز، فكانه الجاني على نفسه إتلاف ماله، فلا. مطالبة له به على
الحميل. والحميل أيضًا لما التزم الحمالة بعوض، وذلك لا يجوز، فكأنه
بجهله أتلف مال من تحمل له غلطًا منه عليه، والخطأ والعمد في أموال
الناس سواء. فهذا الحكم في هذه المسألة إذا علمًا جميعًا، أو علم
أحدهما وخفي عن الآخر ما صنع باذل المجهل (4).
وإذا تقرر أن الحمالة بعوض يأخذه الحميل ممنوعة، لأجل ما ذكرناه،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَلاَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (من).
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن [مَن] علم.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجعل.
(3/ 2/195)
وأن العوض مردود، ومطالبة الحميل وسقوطها
فيه التفصيل الذي ذكرنا، فيبقى النظر في صحة البيع وفساده. وقد كنا
قدمنا أن بعض الأشياخ أجرى حكم صحة البيع وفساده على بياعات الشروط
فيمن تكفل بخلاص السلعة. ولكن ذلك أمر يعود إلى نفس المبيع ويتعلق
بالمتعاقدين بكونهما دخلا جميعًا عليه، والحمالة يجعل ها هنا كأنه أمر
خارج عن الثمن والمثمون وعن ما يشرك المتعاقدين جميعًا فيه، لا سيما
إذا كان أحدهما غير عالم بما صنع الآخر من بذل العوض في الحمالة، فهذا
مما ينظر فيه. ولو تحمل الحميل بعوض شرْطَ أن يأخذه غيره،
ولا يأخذه هو، لكان ذلك أيضًا ممنوعًا، لما ذكرناه من التعليل. لكن لو
كان الغير الذي شرط ذلك له هو من تحمل عنه، لكان في ذلك قولان، مثل أن
يحل دين على رجل فيقول له من له الدين: أنا أضع عنك -عددًا سماه-
وتعطيني به حميلًا إلى أجل آخر، فإن هذا فيه ثلاثة أقوال: الجواز،
والكراهة، والتحريم.
ففي الموازية عن مالك وابن القاسم جواز ذلك. وذكر عن أشهب أنه روى عن
مالك الجواز، وروى عنه الكراهة. وفي العتبية لمالك أن ذلك لا يصلح،
وشبّهه بحميل آخر (1) عوضًا عما تحمل به، فقال: لا يصلح ذلك، وهو كما
لو قال له: اعطني عشرة دنانير من دينك وأنا أعطيك حميلًا. وهذا التشبيه
يشير إلى التحريم.
وفي العتبية عن ابن القاسم: لو قال له: اعط غريمك عشرة دنانير، وأنا
أتحمل لك بما عليه: إن ذلك جائز وعلى القول الآخر يحرم ذلك.
وكأنه في هذا القول قذر أن الحميل تحمل بعوض أخذه لنفسه ثم وهبه
الغريمَ. وفي القول الآخر: أَن منفعة ذلك للغريم لا يتصور فيه ما
صورناه في الحميل إذا أخذ عوضًا لنفسه، فيكون ذلك سلفًا بزيادة أو أكل
المال بالباطل.
ولو كان الدين مؤجلًا ولم يحل أجله، فقال من له الدين للغريم: أعطني
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أخذ.
(3/ 2/196)
به حميلًا إلى الأجل نفسه، أو اعطني رهنًا،
وأنا أحط منه، عددًا سماه، فإن
في ذلك قولين:
ذهب أشهب إلى الجواز. وذهب ابن القاسم إلى المنع.
وكأنه قدر أن الحميل إنما يؤخذ ها هنا خوفَ التفليس عند الأجل فتجب
النظرة اليسيرة فإذا شرط استعجال ذلك ميب الحميل قضاءً عن الغريم، صار
كأن الغريم عجّل دينًا قبل أجله، على أن وضع عنه من له الدين بعض دينه،
وضعْ وتعجلْ لا يجوز، كما بيناه في كتاب البيوع.
ومما ينخرط في هذا المسلك الذي نحن فيه من أنواع الحمالة الفاسدة أن من
سأل غريمه أن يعطيه حميلًا بما لَه عليه من دين فإن ذلك لا يخلو من
ثلاثة أقسام:
إما أن يسأله أن يعطيه حميلًا بالدين إلى أجله الذي دخلا عليه، أو
يعجله له قبل أجله، أو يؤخره عنه إلى أبعد من أجله.
فإن أخذ منه حميلًا قبل الأجل على أن يقضي الدين عند أجله الذي أجلاه،
فإن ذلك جائز على الإطلاق، وهو إحسان من الغريم إلى من له الدين.
والقصد بهذا التوثق من الدين، ورفع ما يَخشى من له الدين من فلس الغريم
أو غيبته، والحمالة من مصالح العقود في البساعات، ولهذا أجيزت.
فإن أعطاه حميلًا على أن يعجل الدهين قبل أجله، والدين من قرض عين أو
عرض أو ثمن بيع، فإن ذلك جائز لأنه تضاعف إحسان الغريم إليه بأن وثقه
من الدين وزاده مع ذلك إحسانًا بتعجيله إليه قبل أجله.
وأما إن كان الدين عوضًا من بيع فإن هذا لا يجوز لأن الغريم ليس له
تعجيل ما عليه من حق العروض المؤجلة إذا كانت من بيع، لأن لمن له الدين
عوضًا (1) في بقائها في الذمة لتضمن له إلى الأجل، فلم يقبل التعجيل من
له
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرَضًا.
(3/ 2/197)
الدين إلا بسبب الحميل الذي أعطاه،
والمعاوضة على خط (1) الضمان لا تجوز، حسب تقدم في كتاب البيوع.
وأما إن أعطاه حميلًا بالدين يؤخره إلى أبعد من أجله، فإن ذلك لا يجوز،
لكون التأخير عن الأجل المشترط كابتداء سلف، لأن من له الدين يستحق
قبضه إذا حل أجله، فالتأخير إلى أجك ثان تطوعَّ به، كأنه قبض دينه ثم
رده على من أعطاه له سلفًا منه بشرط حميل يوثق به قبل انقضاء الأجل
الأول، فصار ذلك كسلف، وهو التأخير، جرّ منفعة وهو توثق الغريم بالدين
قبلَ أن يحل أجله، مخافة أن يفلس الغريم قبل الأجل أو يتغيب. ولكن إذا
وقع سقطت الحمالة، ولم يؤخذ الحميل بغرامة قبل انقضاء الأجل ولو فلس
الغريم، لأن من له الدين أعطى ماله بغير حميل، فلم يغرّه الحميل في
الأجل الأول ولا تلف (2) عليه شيئًا، فلهذا سقطت الحمالة.
وأما إذا وقع الفلس في الأجل الثاني الذي اشترطاه عوض الحمالة، فإن ذلك
مختلف فيه على قولين: هل تسقط الحمالة عن الحميل في الأجل الثاني، لكون
أصلها فاسدًا حرامًا، والحميك لا يطالب في معاملة فاسدة، أو تلزمه
الغرامة لأن رب المال إنما يسمح ببقاء ماله في الأجل الثاني ثقة بحمالة
الحميل، فكأنه أخرج من يده ما لا ثقة بحمالته، ولولا ذلك ما خرج من يده
ومن عن (3) غيره حتى أتلف عليه مالًا لزمته غرامته؟ وفي الموازية سقوط
الحمالة. واحد قولي ابن القاسم إثبات الغرامة عن الحميل.
وهذا يلتفت فيه إلى ما قدمناه قبل هذا من تعليل إثبات الغرامة أو نفيها
عن الحميل إذا تحمل بجعل أخذه، وقوإنفرد بالعلم بالتحريم أو انفرد به
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعاِ الصواب: حَطّ.
(2) ححكذا في النسختين، ولعاِ الصواب: أَتْلف.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرّ.
(3/ 2/198)
المتحمل له أو علماه جميعًا على ما بسطنا
القول فيه فيما تقدم.
ولو كان بذل الحميل في هذه المسألة رهنًا أخذه لكان ذلك أيضًا ممنوعًا،
لأنه سلف جر منفعة، والسلف هو التأخير إلى الأجل الثاني، والمنفعة
إعطاء الرهن في الأجل الأول، وقد كان ذلك غير لازم لمن عليه الدين،
ولولا هذه المنفعة ما تطوع من له الدين بالتأخير. وإن وقع هذا ففي
الموازية أن قابض الرهن يكون أحق به من الغرماء. بخلاف الحمالة فإنها
ساقطة.
وأراه إنما فرق بينهما لكون حق المرتهن به تعلق بعين، وقد قبضها
وحازها، فصار ذلك الفوت في المعاملة الفاسدة، (والحميل لم يجزه المتحمل
له، ولا حقه فيه) (1) متعلق بعين استحقها عليه. وقد وقع في الموازية
قولًا مطلقًا: إن الرهن والحميل جميعًا ساقطان، ولا يكون من بيده الرهن
أحق به وقد قبضه. وهذا يبسط فيه القول في كتاب الرهون إن شاء الله
تعالى في أحكام الرهان الفاسدة.
ولو كان الدين قد حك فأعطاه حميلًا على أن آخره به، فلا يخلو من عليه
الدين أن يكون موسرًا به، ولو طلبه من له الدين لحكم له بجميعه، فإن
ذلك الآمر كذلك جائز إعطاء الحميل والرهن بشرط التأخير إلى أجل آخر،
ويقدر في هذا أنه لما ملك قبض جميعه صار كأنه قبضه ثم استأنف سلفًا إلى
أجل بحميل أو رهن، فإن ذلك لا يتصور فيه وجه يوجب المنع. وهذا مذهب
مالك وابن أبي سلمة وغيرهما.
وأما لو كان الغريم عليه ديون، أو تحاصّ من له الدين الذي سئل في
التأخير بحميل لو (2) يستوف إلا بعض دينه فأخره بشرط حميل، فإن هذا لا
يجوز، لما ذكرناه من كون التأخير كابتداء سلف، واختصاص هذا الغريم دون
الغرماء برهن يستوفي منه جميع دينه، أو بحميل، وقد كان لا يتمكن إلا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم يحزه ... ولا حق له فيه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم.
(3/ 2/199)
من استيفاء بعضه، سلفًا جرّ منفعة وهي
استيفاء جميع الدين من الرهن أو من الحميل.
وأمّا إن كان معسرًا ليس عنده شيء، وعليه دين لهذا الرجل الذي أشرنا
إليه (بما له في التأخير) (1) ويعطيه حميلًا إن آخره أجلا الغائب (2)
فيه أنه يجد ما يقضي منه الدين، ويكون موسرًا به كأصحاب الثمار والغلات
المنتظرة، فإن ذلك جائز إذا كان أجل التأخير كأجل ما يتوقع من سير (3)
هذا الرجل. وكذلك لو كان التأخير يقصر زمنه عن الزمن الذي يسر (4) إليه
(هذا، فإن) (5) أيضًا جائز لكونه في هذين الوجهين التأخير واجب علمه
شاء أو لم يشأ. وأما إن كان الزمن الذي يتوقع فيه يسره متقدمًا على
الأجل الذي آخره إليه، فإن ذلك ممنوع عند ابن القاسم لما يتصور فيه من
سلف جرّ. منفعة، وتعود المسألة إلى المسألة المتقدمة، وهو إذا أعطاه
حميلًا قبل الأجل أن يؤخره إلى أجل آخر أبعد من الذي دخلا عليه، لأن ما
قابل زمن يسْره كالأجل المشترط، وما بعد زمن يسْرِه أجل غير مشترط تطوع
فيه من له الدين بسبب ما أخذ من التوثق بالدين قبل أجل اليسر. وأجاز
هذا أشهب. وأَرَاهُ لأجل أن اليسر مما لا يقع (6) بوجوده عند الأجل
المتوقعة (7) فيه فالتهم فيه تضعف.
ولو حل الأجل ووجب الطلب فقال من عليه الدين لمن له الدين: أسلفني مائة
أخرى غير المائة التي حلّ أجلها وأعطيك رهنًا أو حميلًا بالمائتين
جميعًا، القديمة والحديثة، لمنع هذا؛ لأنه سلف جرّ منفعة، وذلك أن
المائة الثانية إنما
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغالب.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُسر.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَيْسَرُ.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن هذا.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقطع.
(7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المتوقع.
(3/ 2/200)
أسلفه إياها لأجل ما أعطاه من التوثق
بالمائة الأولى بالرهن أو الحميل. فكذلك لو قال له قبل أجل المائة
الأولى: أسلفني مائة دينار على أن أعطيك حميلًا أو رهنًا بالمائتين
جميعًا إلى أجل المائة الأولى أو إلى أبعد مدني ذلك الأجل، فإن جميع
ذلك يمنع لما صورنا فيه من سلف جر منفعة. ولكن إن وقع ذلك ففي الموازية
أن الحمالة ساقطة في المائتين جميعًا، المتقدمة والمتأخرة. وأمّا الرهن
فذكر أن بعض أصحابنا قال: يكون مفضوضًا، نصفه للمائة الأولى يكون بها
رهنًا، ونصف المائة (1) الثانية، فيسقط كونه رهنًا لسقوط السلف والقضاء
برده إلى صاحبه معجلًا، لأن السلف الذي يجرّ نفعًا يفسخ إذا وقع.
فاختار ابن المواز أن جميع الرهن يكون بالمائة الأولى، وهو أيضًا
المذكور في المدونة.
وهذا يبسط من كتاب الرهن إن شاء الله تعالى، وقد نبهنا ها هنا أن الرهن
آكد من الحمالة في تعلق الحق بالحميل أو الرهن الفاسد لأجل ما قدمناه
من التعليل. فذكر في الموازية ثبوت الرهن، والاختلاف في صفة ثبوته
وإسقاط الحمالة، قال: لأن كل حمالة وقعت في معاملةٍ حرام، فإن الحمالة
تبطل، وقد قدمنا نحن فيما سلف في إلزام الحميل المتحمل بالثمن في بيع
فاسد هل تسقط عنه الحمالة أو يجب عليه الأقل من الثمن أو القيمة،
وبَيّنّا وجه ذلك.
فإذا تحقق وجه الحمالة في هذه المسائل فلو حلّ الأجل ودفع الحميل رهنًا
لمِؤخر بالدين إلى أجل آخر، فإن الرهن إن كان ملكًا للغريم، وهو قادر
على أن يستبد بثمنه، فيأخذ منه جميع ذلك، كان ذلك جائزًا. ولو كان
الرهن ملكًا لغيره استعاره من رجل ليرهنه من له الدين، جرى ذلك على حكم
الحمالة، صحيحِها وفاسدِها، ويصير مالك الرهن كأنه حميل بالدين.
ولو كان الراهن اكترى ليرهن، لم يصح كراؤه، بخلاف أن يكتري ليلبس،
أجلًا معلومًا، إن كان ثوبًا، لأجل أن هذا المكتري ليرهن إذا أجل
الكراء أجلًا لم يصح الرهن، لأن الأجل. قد ينقضي قبل وصول الدين إلى
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمائة
(3/ 2/201)
مستحقه فيبطل بانقضاء الأجل كونه رهنًا،
وإذا بطل كونه رهنًا عند انقضاء الأجل بطل كونه رهنًا من أصله. وإن
كان. لم يضرب لذلك أجل فالكراء من غير أجك محدود غير لازم، فيصير ما
يؤديه من الكراء كل يوم كزيادة أخذها عوض التأخير بالطلب، مع كونه غير
منعقد، وإذن لم ينعقد كونه رهنًا.
ولو كان له عليه عشرة دنانير من ثمن مبيع، فأسلفه عشرة أخرى، على أن
أعطاه حميلًا بالعشرين، لكان ذلك ممنوعًا لما يتصور فيه من سلف جر
منفعة، وهو أن الحميل بالعشرة الأولى إنما تطوع به من هي عليه لأجل ما
أسلفه مستحقها من العشرة الأخرى.
ولو كانت عشرة السلف هي المتقدمة فباع منه سلعة بعشرة أخرى، على أن
يعطيه حميلًا بالعشرة الأولى التي هي السلف، وبالعشرة الثانية التي هي
ثمن المبيع، فإن ابن القاسم يمنع ذلك لكونه كرهن بجعل وهو يمنع من
الرهن من (1) الجعل. ويتضح تصور ذلك بأن تكون قيمة السلعة المبيعة
عشرة، وإنما أسقط بائعها الدينار العاشر وباعها منه بتسعة على أن جعل
الدينار الذي أسقطه من قيمتها عوضًا عقا أعطاه من الرهن، فصار رهنًا
بجعكء وأشهب يجيز ذلك لأنه لا يمنع رهنًا بجعل.
ولو كانت الحمالة معلقة بجهالة، مثل أن يقول الحميل: أتحمل لك بدينك ما
دام الغريم حيًا، أو ما دمت أنا حيًا، لم يحرم ذلك إذا كان في أصل سلف
أو بعد (2) عقد بيع. وأما إن كان في أصل بيع فإن ذلك يراه ابن القاسم
غرِ جائز وتسقط الحمالة لكونها حرامًا.
وقال أصبغ: أجاب على غير تأمّل، بل ذلك جائز، والحمالة لازمة، لكون هذا
الاشتراط بين الحميل والمتحمل عنه، وبائع السلعة خارج عن هذه المعاملة،
فلم يَعُدْ ذلك بفساد البيع، ولا فساد الشرط. وهذا إذا كان البيع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالجعل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو بعد عقد.
(3/ 2/202)
بحميلٍ أقلَّ ثمنًا منه إذا بيع بغير حميل
صارت الحمالة لها حصة من الثمن، فإذا كانت فيها غرر صار العقد في بعض
الثمن، ففسد البيع لكون الغرر قد عاد إلى نفس الثمن. وهذا وجه ما قال
ابن القاسم. وقد تقدم الكلام على هذا المعنى، وسيرد أيضًا في كتاب
الرهن ما يتضح بة بعض ما ذكرناه من أحكام الرهبان الفاسدة.
والجواب عن السؤال الخامس عشر أن يقال:
إذا دفع أحد الحملاء لصاحبه المتحقَل له سقط حق المتحمل له، وبقي النظر
في رجوعهم بعضهم على بعض. وهذا إذا ثبت وصول الحق إلى صاحبه بشاهدين أو
باعترافه. فأمّا إن لم يثبت ذلك إلا بشاهد واحد فإن الدافع للحق يحلف
مع شهادته، ويسقط المتحمل له (1)، ويرجع الدافبم على أصحابه بما أدى
عنهم. لكن لو لم يقم ذلك الشاهد إلا بعد موت الدافع فإن ورثته يحلون
محله ويحلفون مع شهادته، ويسقط حق من له الحق، ويرجعون على شركاء أبيهم
في الحمالة بما أدى أبوهم عنهم، فإن نكل الورثة (2) اليمين فقد ذكر في
المدونة: يحلفون مع الشاهد إذا مات أبوهم الذي ب فرع، فإن نكلوا حلف
بائع السلعة أنه لم يقبض شيئًا، وطلب من شاء منهم بمالَه من (3) له
الحق. قال: ولا يحلف الشريكان، ويغرمان ما عليهما من ثلثي ثمن السلعة،
إلا أن يقول: نحن أمرناه بالدفع، من مالنا دفع. فإنهم يحلفون ويبرأون.
وقد تأول الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد (4) بعض ما وقع في هذا الجواب من
إطلاق، وقيد مطلقه. ونحن نورده في أثناء كلامنا على هذه المسألة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: به.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: عن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف له.
(4) بداية نقص في نسخة (مد).
(3/ 2/203)
فاعلم أن الشريكين (لا يخلوان من) (1) أن
يزعما أن شريكهما الذي دفع وشهد له الشاهدين (2) بذلك أنهما لم يدفعا
إليه شيئًا وإنما دفع ذلك من مال نفسه. أو يزعمان أن المال الذي دُفع
هما دفعا ذلك ببينة. فإن ذكر (3) أنهما لم يدفعا إليه شيئًا، وإنما دفع
ذلك من ماله فلا مدخل لهما في اليمين مع الشاهد، لأنهما مقران أن ثلثي
الثمن باق في ذمتهما. فإذا كانا يغرمانه على كل حال ولا فرق بين أن
يغرِما ذلك الورثة (4) أو يغرماه إلى البائع. وإنما يحلف القائم
بالشاهد فيما يجتلب بيمينه مع الشاهد له منفعة. أو يدفع مضرة. وثلثا
الثمن ها هنا لا بد لهما من غرامته، فلا يجتلبان باليمين مع الشاهد
بسقوط شيء من هذه الغرامة. ولهذا علل في المدونة قال: لا يحلفان لأنهما
يغرمان.
لكن إن كان الشريك الدافع الذي مات معسرًا فإنهما يلحقهما مضرة إن لم
يحلفا مع الشاهد، لكون البائع له أن يغرمهما ثلث الثمن الذي على الميت،
فيمكنان ها هنا من اليمين مع الشاهد لينفيا عن أنفسهما غرامة هذا
الثلث. وهكذا تأول الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد على المدونة، وحمل مطلق
قوله: إن الشريكين لا يحلفان مع الشاهد لأنهما يغرمان: أَنَّ المراد
غرامة هذا الثلث الذي على الميت، وقد مات معسرًا. وأما لو مات موسرًا
فلا كبير فائدة لهما في اليمين مع الشاهد، لأن للبائع أن يأخذ ذلك من
تركة الميت، ولو أخذه منهما رجعا به في ذمة التركة.
وهذا تأويل صحيح، وما قيد به من إطلاق المدونة ظاهرٌ وجهه. لكن ذكر
الشيخ أبو محمَّد أنهما لا يُغرمان الورثة شيئًا، وإن كان قد قال: إن
الميت في فرع ذلك من مال نفسه. وذلك إقرار منهما بأن الميت استحق
طلبهما بما دفع
__________
(1) هكذا في نسخة (و)، والأوْلى: إمّا أن يزعما.
(2) هكذا في نسخة (و)، والصواب: الشاهدان.
(3) هكذا في (و)، والصواب: ذكرًا.
(4) هكذا في (و)، والصواب: للورثة.
(3/ 2/204)
عنهما. فحجة الشريكين بأنه لما دفع ذلك
بغير إشهاد يستقل به القضاء صار دفعَ دفعًا لا يبرىء بشريكه (1). وبذا
دفع من ماله قضاء عن شريكه (1) ما لا يَبْريان به فلا مطالبة له
عليهما، ولا لورثته، لأنه كمن لا يدفع عنهما شيئًا. وهذا على أصل ابن
القاسم يتضح، ولو كان قد دفع عنهما بأمرهما، لكون ابن. القاسم يرى أن
الوكيل على دفع مال لغير من وكله يضمنه إذا دفعه بغير إشهاد، والذي
وكله غير حاضر لدفعه حتى يكون راضيًا بترك الاشهاد.
وإذا وجب على الشريكين غرامة الثلثين، وقد حلفا مع الشاهد لتسقط
الحمالة بالثلث عنهما، فلمن يدفعان هذين الثلثين؟
قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: يدفعان (2) ذلك للورثة، ويكون للبائع
أن يطلب الورثة بثلث الثمن الذي على أبيهما، فيغرم الورثة ثلثي الثمن
الذي أخذوه من الشريكين، لأنه كمال طرأ لأبيهم وعليه دين فلا يرثوه حتى
يقضى منه الدين وأنكر الشيخ أبو إسحاق هذه الوجوه، ورأى أن الأصل غرامة
هذين الثلثين لبائع السلعة، لأن يمينهما إنما كان لإسقاط غرامة الثلث
عنهما الذي كان على الميت وتحمل به. وأمّا الثلثان فلا يصح أن يحلفا
عليهما ليكونا ملكًا للورثة بيمينهم، لأن الورثة حرروا (3) أن يحلفوا
مع شاهدهم فأبوا ونكلوا، ونكولهم يقتضي رجوع هذه اليمين على البائع،
فيحلف ويستحق هذين الثلثين على الشريكين. فلا يمكن، مع كون هذا هو
الأصلَ، أن يكون يمين الشريكين إنما أفادهما تمليك الورثة لهذين
الثلثين، إذ لا يحلف أحد ليستحق غيره بيمينه مالًا من غير أن يحلف (4)
الحالف بيمينه لنفسه مالًا ويدفع عنه مغرمًا.
__________
(1) هكذا في (و)، ولعل الصواب: شريكيْه.
(2) نهاية النقص من نسخة (مد).
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: طولبوا.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يجلب.
(3/ 2/205)
وأكد الشيخ أبو إسحاق هذا التعقب الذي
تعقبه عن الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد بأن أشار إلى أن للبائع أن يطلب
الورثة بالثلث الذي على أبيهم متى طرأ له مال كما لو حلفوا بأنفسهم مع
الشاهد، فإن البائع يسقط طلبه عنهم. فكأنه رأى أن الشيخ أبا محمَّد أحل
يمين الشريكين محل يمين الورثة في ملكهم لهذين الثلثين، ولم يحل يمين
الشريكين محل يمين الورثة في إسقاط الطلب عنهم بهذا الثلث.
واعلم أن الذي قاله الشيخ أبو إسحاق من أن الأصل ألاّ يحلف أحد ليستحق
آخر مالًا صحيح مسلم. ولكن إذا لم يكن للحالف فائدة في يمينه سوى أن
يملّك رجك بيمينه رجلًا آخر مالًا، وهاهنا يمين الشريكين إذا مات
الثالث عديمًا أفادَتْهم سقوط غرامة نصيبه بما حلفا: أللهما (1)
يستفيدان بما نفي غرامة محنهما (وهي الغرامة عنهما) (2) ويمينهما على
الشاهد صدق يتضمن تصديقه في كون الورثة يستحقون هذا الثلث، وإن حلفا
على ما يفيدهما، وتضمن ذلك ما يفيد غيرهما ضاعَت ها هنا اليمين، وانسحب
يمينهما على ما يفيدهما، لأنهما أمران متلازمان، فإثبات أحدهما يقتضي
ثبوت ما يلزم عنه. وقد وقع لهذا نظير تكلمنا عليه في كتاب البيوع في
يمين أحد المتبايعين على ما القول قوله فيه، ويضيف إلى ذلك ما القول
فيه قول خصمه.
لكن يفتقر في هذا الاعتذار عن الشيخ أبي محمَّد إلى اعتذار آخر عمّا
نقضه به الشيخ أبو إسحاق وهو قوله: هلا أفادت يمينهما أيضًا إسقاط
الطلب بالثلث عن الورثة كما أفادت تمليك الورثة الثلثين. والعذر أيضًا
عن هذا بأن الورثة قدّروا أنفسهم أن يحلفوا مع الشاهد ويسقطوا الغرامة
عن أنفسهم، فلما نكلوا صاروا ممكّنين للبائع من يمينه على ما نكلوا
عنه، فإذا مكنوه من ذلك وحلف استحق طلبهم بالثلث بخلاف الثلثين، فإن
إقرار الشريكين بأن الشريك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّهما.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/206)
الثالث دفع ذلك عنهما من ماله، وسقوط حق
البائع بينهما يقتضي أن يؤخذا بمضمون ما حلفا عليه وهو كون هذين
الثلثين صارا ملكًا للميت.
هذا حكم قبل (1) الشريكين: إنا لم ندفع لشريكنا مالًا. وأما لو قالا:
دفعنا إليه المال ليدفعه عنه و (2) عنه،؛ فإن الشريكين ذكر في المدونة
أنهما يحلفان مع الشاهد، ويبريان مما عليهما من ثلثي الثمن، ويبقى طلب
البائع على الورثة لأجل نكولهم عن يمين قدَروا على أن يبرئوا أنفسهم
بها. ولكن من حق الشريكين أن يحلّفا الورثة أنهما لا يعلمان أنهما دفعا
لأبيهما هذا الثلث الذي دفعاه إليه من مالهما ليدفعه عن نفسه إذا كان
الورثة ممن يظن بهم علم ذلك، كمدع يدين على ميت طلب يمين ورثته على
أنهم لا يعلمون ذلك.
وتعقب الشيخ أبو إسحاق أيضًا هذا الوجه، وأشار إلى أن اليد دليل الملك،
وما دفعه الشريك الثالث الذي مات من يده هو ملك له. ولا يقبل قول
الشريكين إن ذلك ملكًا لهما، كما لو كان حيًا. وأما ها هنا فالورثة
الذين محل (3) الميت الذي ورثوه فقد قدروا على أن يحلفوا ويكون ذلك
ملكًا لمن ورثوه، فتكلموا (4) عن ذلك، فصاروا بنكولهم كسقصي (5) حقهم
فيه، وإذا سقط حقهم فيه صاروا كحائز أقر بأن ما في يديه لا حق له فيه،
أو كمالٍ ليس في يد حائز يدعيه.
ولكن مقتضى هذا التعليل أن يرجعوا إذا حلفوا على الورثة بالثلث الذي
على أبيهم متى طرأ لهم مال, لأنهم حلفوا على تصديق الشاهد، والشاهد شهد
بأنه دفع جميع الثمن، وثلثُ هذا الثمن إذا حكم يأنه من ماله كان
للشريكين أن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: قول.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنّا.
(3) أي: [حلوا] محلَّ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فنكلوا.
(5) هكذا في النسختين، والصواب: كمسقطي.
(3/ 2/207)
يرجعا به على ما يطرأ للميت من مال. وهكذا
قال ابن أبي زمنين أنهبم إذا ادّعَوْا أنهم إنما دفعوا الثلثين خاصة
بقي طلب البائع على الشريك الذي مات. وإن قالوا: دفعنا الجميع، وحلفوا
على ذلك فقد أثبتوا يمينهم (1) على الميت استحقاقهم على الميت ثلث
الثمن الذي عليه، فكان لهم مطالبته به.
والجواب عن السؤال السادس عشر أن يقال:
هذه المسألة مشتهرة بالست حملاء، ذكرها في المدونة، وذكر بعض تفصيل
حساب التراجع بينهم، وأُفردت بتَواليف من جماعة من الأشياخ.
ونحن تقدم قبل الخوض فيها القول الضابط لما يوجب رجوع من دفع المال على
من لم يدفعه منهم ومنعه من ذلك آخرًا. فالذي ينجر إليه الأمر في هذا
اعتبار حكم اللفظ الواقع من الحملاء هل هو نصر صريح في كون بعضهم حملاء
عن بعض أو في كون بعضهم ليس بحميل عن بعض، أو يقع اللفظ مشكلًا
محتملاَّ؟ فإذا قال الحملاء، وهم جماعة،: نحن نتحمل بهذا الدين، وبعضنا
حميل عن بعض فلا خفاء ها هنا بأنه إذا غرم جملة المال أحدهم كان له أن
يرجع على أحدهم إذا لقيه بنصف المال حتى يساويه، لكون هذا الحق تعلق
بذمة أحدهم على حسب ما تعلق بذمة الآخر، فكأن من أدى جميع الحق أداه عن
نفسه وعن الرجل الآخر، إذا لقيه، من الحملاء.
ولو كان اللفظ وقع بأن قال: أيكم شئت أخذت بالدين الذي لي على فلان.
ولم يزد على هذا اللفظ، لم يقتض هذا اللفظ كون الواحد منهم إذا غرم
يرجع على صاحبه حتى يساويه.
ولو قال: كل واحد منكم حميل بجميع المال، لاقتضى هذا حمالة بعضهم عن
بعض على ظاهر ما قيل في ذلك. وكأنه لما أتى بلفظة "كل" وهي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بيمينهم.
(3/ 2/208)
من ألفاظ العموم، صار كل واحد منهم حميلًا
بجميع المال، وكأنه تحمل بذلك عن صاحبه الذي شاركه في الحمالة.
ولو قال: أنتم حملاء بهذا المال، ومن شئت أخذت بحقي، لم تؤثر هذه
الزيادة، ولم تغير الحكم الذي قلناه في التراجع. لكن يأخذ من شاء منهم
بالحق، وإن كانت بقية أصحابه أملياء حضورًا. فإن لم يقل ذلك جرى على
الخلاف في أخذ الحميل مع إمكان الأخذ من الغريم.
وقد ذكر هذه المسألة في المدونة في الست حملاء وساوى بين أن يقول:
على أن بعضهم حميل عن بعض، أو على أن كل واحد حميل بجميع المال عن واحد
أو اثنين أو ثلاثة.
وفي كتاب ابن المواز: إذا كانوا أربعة فقال لهم: أنتم حملاء بالمال.
فلقي صاحب الحق أحدهم فأغرمه جميع المال، فإنه يرجع على من لقيه من
الثلاثة الحملاء بربع الحق. والمشهور خلاف هذا، وأنه لا يرجع الغارم
بما غرم على أحد من أصحابه الحملاء. وهكذا في الموازية في موضع آخر
منها،
وكذلك في المدونة؛ لأن الشرط إنما كان ممن له الحق أن يغرم من شاء
منهم، فإذا استغرم أحدهم جميع الحق فإنما ذلك غرامة عمّن تحمل عنه بأصل
الدين، وليس غرامتَه عمّن تحمل معه حتى يغئر هذا اللفظ كقوله: بعضهم
حميل عن بعض، لوجب أن يرجع على من لقيه بنصف الحق الذي أداه. والذي في
الموازية أنه يرجع بربع الحق، وهذا لا يظهر له وجه، إلا أن يكونوا
مشترين للسلعة، فعلى كل واحد منهم ربع ثمنها، فالغارم لجميع الحق يرجع
بهذا الربع على مشتري ربعها فيكون لهذا وجه، أو يكون المراد أن كل واحد
تحمل بربع الحق، ومع هذا فله أن يُلزم جميعَ الحق من شاء منهم. فإذا
استغرم الحق أحدَهم رجع هذا بالربع على من كان تحمل به. فهذا الذي يظهر
في تأويل هذا المذهب. وقد ذكر في المدونة في حمالة بعضهم عن بعض في
مسألة الست حملاء. وفي الموازية ذكر مسألة الأربعة حملاء، وقال في
تفصيل حساب
(3/ 2/209)
تراجعهم الذي تركوه فيما بعد: سواء كان هذا
الحق على الأربعة دينًا عليهم، أو حمالة تحملوا بها عن غيرهم.
وهذا للإطلاق (1) المساواة بين الوجهين لا يصح، لأنها إذا كانت دينًا
عليهم فلقي صاحب الحق أحدهم، فأخذه بجميع الحق، فأمّا ما ينوبه من هذا
الدين إنما غرمه عن نفسه، ولا يرجع به على أحد، وإنما يكون التراجع بحق
الحمالة فيما زاد على ما ينوبه عن نفسه. فإذا كانت حمالة عن غيرهم (2)
فليس على أحد الحملاء منهما في نفسه نصيب فيختص به ولا يرجع به على
أحد.
فإذا لقي من له الحق أحَدَ الحملاء الذين تحملوا عن غيرهم، والدّين ست
مائة، فلم يجد عنده إلا مائة، فأخذها منه، فإنه إذا لقي حميلًا آخر
طلبه بالمشاركة في هذه المائة لكونهما تساويا في الحمالة بها عن غيرهم.
وإذا كانا مشتريين في سلعة فلقي من له الحق أحدهم أخذ منه هذه المائة
لا يرجع بها على أحد هن الحملاء لكونه من نفسه أدّاها.
وظاهر قول ابن المواز يقتضي أنها إذا كانت حمالةً عن غيرهم فغرمها
أحدهم فإنه إذا لقي حميلًا آخر فمن تحمل معه لا يرجع عليه بشيء من هذه
المائة.
وهذا لا وجه له إلا أن يكون المفهوم من هذا اللفظ عندهم أن تحمل بعضهم
عن بعض إنما يكون بما زاد على نصيب كل واحد منهم إذا قسم الدين عَليهم
فيكون لهذا وجه، ولكنه بعيد ميت مقتضى اللفظ الضابط لما يوجب التراجع
أَوْ لاَ يوجبه.
وأمّا تفصيل حساب التراجع، فالقول فيه على الجملة إنهم إذا تحمل بعضهم
عن بعض فإن الفكر إنما يتعب في هذا حتى تحصل المساواة بين من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الإطلاق.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غيره.
(3/ 2/210)
غرم من الحملاء وبين من لم يغرم منهم، ومن
لقي منهم من غرم من لم يغرم طلبه بالمساواة حتى يعتدلا في الغرامة،
وإذا لقي آخر طلبه بالمساواة حتى يعتدل معه، ويكون كل واحد منهم إنما
يغرم مثل ما أغرم من لقيه.
ولو غرم أحدهم لرجل وساواه، ثم لقيه آخر فمن غرم فإن حقيقة المساواة أن
يقول له: غرمت لصاحبك قبل أن تلقاني كذا وكذا، فأسقطها مما غرمت
بالحمالة، ونساويك فيما فضل عن ذلك مما غرمته بالحمالة.
هذا القول الجملي في هذه المسألة. ولكن جرى رسم الأشياخ المؤلفين بسط
حسابها في كتبهم، واجتهد بعضهم في ذلك، وبالغ حتى أفردها بالتأليف،
ونحن نذكر مسألة المدونة وبسط حسابه في التراجع حتى ينتهي ذلك إلى
اعتدال جميعهم.
قال: إذا كان لرجل منه (1) مائة درهم على ستة رجال على أن بعضهم حميل
ببعضٍ بجميع المال، فإذا لقي أحدهم فليأخذه بست مائة درهم: مائة عن
نفسه وخمس مائة بالحمالة، ثم إن لقي الغارم الست مائة أحدَ أصحابه أخذه
بمائة أداها عنه، وبنصف الأربع مائة عن الباقين لأنه حميل معه بهم
بجميع ما يأخذه منه، ثلاث مائة، وبقي له مما غرم ثلاث مائة. ثم إن لقي
ثانيًا قال له: غرمت ثلاث مائة عن نفسي، ومائتان (2) بالحمالة عن
أربعة، أنت أحدهم، تلزمك، في خاصتك، خمسون، وتبقى مائة وخمسون، أنت معي
بها حميل، عليك نصفها خمسة وسبعون. فجميع ما يأخذه منه مائة وخمسة
وعشرون، فصار جميع ما يأخذ من صاحبيه أربع مائة وخمسة وعشرون (3)، وبقي
له مما أدى بالحمالة خمسة وسبعون. ثم إن لقي ثالثًا قال له: أديت
بالحمالة خمسة وسبعين عن ثلاثة، أنت أحدهم، فادفع لي ثلثها: خمسة
وعشرين، ونصفَ ما
__________
(1) هكذا في (و) وفي (مد): منهبم، ولعل الصواب: ستّ.
(2) هكذا في النسختين، والصواب: مائتين.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: عشرين.
(3/ 2/211)
يبقى مما أديته بالحمالة، لأنك معي به
حميل، فجميع ما يأخذ منه خمسون، وتبقى له خمسة وعشرين (1). ثم إن لقي
رابعًا قال له: بقي ما أديت بالحمالة خمسة وعشرين، هي عليك، وعلى صاحبك
السدس، فأعطني نصفها: اثني عشر (2) ونصف ما بقي وذلك ستة وربعٌ، فجميع
ما يأخذه منه ثمانية عشر وثلاثةُ أرباع، وبقي له مما غرم ستةٌ وربعٌ.
ثم إن لقي السادس فيأخذ منه ستة وربع (3) وهو باقي مما وذى بالحمالة.
(هذا الملحق وعليه أسقطه من كتابه وأمر بطرحه.
قال: هكذا) (4) قال اللخمي: إن غرامة هذه الستة وربع من أصل الدين.
وخالفه في ذلك ابن يونس وقال: إنما يغرم من الحمالة. وهو الأرجح عندي
على ما أصلوه في هذه المسألة فالسادس إنما يغرم هذه الستة وربع (5) ميت
أصل الدين عليه لا بالحمالة؛ لأنه لم يبق يعده حميل أدى الأولُ عنه.
هذا بيان أول الحملاء الذي عدم (6) جميع الحق في أول مرة.
ونعود بعده إلى الذي يليه وهو الثاني الذي لقيه ثلاث مائة فإنه إذا لقى
الثالث الذي كان غرم للأول أيضًا مائة وخمسة وعشرون (7) فيقول له: إني
قد أديت بالحمالة من هذه الثلاث مائة التي غرمت مائتين عن أربعة، نصيبك
خمسون، فيأخذها منه، وتبقى مائة وخمسون أنت معي بها حميل. فيقول هذا
الثلاث (8) قد أديت أيضًا أنا بالحمالة للأول خمسة وسبعين، نساويك في
مثلها،
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: عشرون.
(2) هكذا في النسختين، والصواب إضافة (نصف) فيصير الكلام: اثني عشر
[ونصفًا] ونصف ما بقي ....
(3) هكذا في النسختين، والصواب: ربعًا.
(4) هكذا في النسختين.
(5) هكذا في النسختين، والصواب: ربعًا.
(6) هكذا في النسختين، والصواب: غرم.
(7) هكذا في النسختين، والصواب: عشرين.
(8) هكذا في النسختين، والصواب: الثالث.
(3/ 2/212)
وتبقى لك خمسة وسبعين (1) فخذ نصفها: سبعة
وثلاثين ونصفًا. فجميع ما يأخذه منه سبعة وثمانون ونصف. فجميع ما
وَدَّى هذا الثالث للأول والثاني مائتان وأثنا عشر ونصف وبقي الثاني
يطالب بمائة واثني عشر ونصف وهو ما أدى بالحمالة، لأنه ودّى ثلاث مائة،
منها عن نفسه مائة، ومائتان بالحمالة، رجع إليه ما ودّى بالحمالة سبعة
وثمانون ونصف، ومائتين (2). فالباقي له مما أداه بالحمالة، وهو مائة
واثنا عشر ونصف. ثم إن لقي أيضًا الرابع الذي كان غرم للأول خمسون (3)،
فيقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف على ثلاثة،
أنت أحدهم، يلزمك ثلثها في خاصتك، وهي سبعة وثلاثون ونصف، فيأخذها منه،
ويقول له بقيت لي خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، اعطني نصفها، فيقول
هذا الرابع: قد وديت أنا بالحمالة الأولَ خمسةً وعشرين، ساويتكَ في
مثلها، وبقيت لك خمسة (4)، فخذ نصفها فجميع ما يأخذ منه: اثنان وستون
ونصفٌ. فجميع ما ودى الرابع للأول والثاني مائة واثنا عشر ونصف، وبقي
هذا الثاني يطلب ما أداه بالجمالة وهو خمسون.
ثم إن لقي الخامس، فيقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة، أيها الخامس،
عنك وعن السادس، خمسون عليك نصفها خمسة وعشرون، فيأخذها منه، ويقول له:
بقيت لي خمسة وعشرون أنت معي حميل بها، فيقول له الخامس: قد وديت أنا
أيضًا بالحمالة للأول ستة وربعًا، ساويتك في مثلها، وبقيت لك ثمانية
عشر وثلاثة أرباع، عليَّ نصفها وذلك سبعة وثلاثة أثمان.
فجميع ما ودى له الخامس أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان، وجملة ما ودّى هذا
الخامس ثمانية عشر وثلاثة أرباع، وللثاني أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان
فجميع ذلك ثلاثة وخمسون وثمن، وبقي هذا الثاني يطلب الخمسة عشر وخمسة
أثمان.
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: سبعون.
(2) هكذا في النسختين، والصواب حذفها.
(3) هكذا في النسختين، والصواب: خمسين.
(4) مكذا في النسختين، والصواب: خمسون.
(3/ 2/213)
ثم إن لقي السادس يأخذها منه.
ثم إن لقي الثالث الذي غرم للأول والثاني مائتين واثني عشر ونصفًا لقي
الراببم فقال: بقي لي مما وديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصفًا عن
ثلاثة، أنت أحدهبم، فأعطني ثلثها وهو سبعة وثلاثون ونصف، فيأخذها منه،
ويقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون، أنت معي بها حميل،
فيقول له هذا الرابع: قد وديت أنا أيضًا بالحمالة للأول خمسة وعشرين،
وللثاني خمسة وعشرين، فذلك خمسون ساويتك بمثلها، وبقيت لك خمسة وعشرون
فخذ نصفها اثني عشر ونصفًا فيصير جميع ما يأخذه منه خمسين، وجميع ما
ودى هذا الرابع للأول وللثاني وللثالث مائة واثنان وستون نصف.
ثم إن لقي الخاص فيقول له: بقيت لي مما وديت يالحمالة اثنان وستون
ونصف، عنك وعن السادس، عليك منها نصفها: أحد وثلاثون وربع، فيأخذها
منه، ثم يقول له: بقي لي أحد وثلاثون وربع، أنت معي بها حميل، فيقول له
عذا الخامس: قد وديت أيضًا للأول ستة وربعًا، وللثاني تسعة وربعًا
وثمنًا،
وذلك خمسة عشر ونصف وثمن ساويتك فيها. وبقيت لك خمسة عشر ونصف وثمن
أيضأ عليّ نصفها سبعة وثلاثة أرباع ونصف ثمن، فيدفعها إليه فيصير جميع
ما أخذ منه سبعة وثلاتون ونصف ثمن، ويصير جميع ما ودّى هذا الخامس
للأول وللثاني اثنين وتسعين وثمنًا ونصف ثمن.
ثم إن الثالث إن لقي السادس فيقول له: بقي لي مما وديت عنك بالحمالة
ثلاثة وعشرون وربع ونصف ثمن، فيأخذها منه، فيذهب وقد غرم مائة.
ثم إن الرابع الذي غرم للأول وللثاني وللثالث مائة واثنين وستين
ونصفاَّ لَقي الخامس فيقول له: بقيت مما وديت بالحمالة اثنان وستون
ونصف عنك وعن السادس عليك نصفها: أحد وثلاثون وربع، فيأخذها منه ثم
يقول له: بقيت لي أحد وثلاثون وربع، وأنت معي بها حميل. فيقول له
الخامس: فقد وديت أنا أيضًا بالحمالة للأول والثاني والثالث ثلاثة
وعشرين وثلاثة أثمان
(3/ 2/214)
ونصفَ ثمن، ساويتك فيها، وبقيت لك سبعة
وستة أثمان ونصف ثمر، علي نصفها: ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن، فيأخذها
منه، فيصير جميع ما يأخذه الرابع من الخامس خمسة وثلاثون وثمن وربع
ثمن، وجميع ما ودى الخامس للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة
وعشرون وثلاثة أرباع ثمن. وبقي الرابع يطلب سبعة وعشرين وربعًا وثلاثة
أرباع ثمن.
ثم إن لقي السادس فيأخذها منه، فيذهب وقد أخذ مائة.
ثم إن الخامس لقي السادس وقد كان ودى للأول والثاني والثالث والرابع
مائة وسبعة وعشرين وربعًا وثلاثة أرباع ثمن، عليه منها مائة، بقي يطلب
سبعة وعشرين وربعًا وثلاثة أرباع ثمن، فيأخذها من السادس، فيذهب وقد
غرم مائة.
فيذهب السادس وقد غرم مائة: للأوّل ستة وربع، وللثاني خمسة عشر وخمسة
أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة
وعشرون وربع وثلاثة أرباع ثمن، وللخامس مثلها، جميعُ ذلك مائة.
فقد خلص من ذلك أن كل واحد منهم إنما غرم مائة وكمل حسابها. وقد ذكرنا
عن المدونة أن قوله: كل اثنين حميلان بجميع المال عن أصحابهما، أو عن
اثنين، أو عن واحد، أو على أن كلّ واحد حميل بنصف جميع المال، فذلك كله
سواء. فإن لقي رب المال اثنين منهم أخذ كل واحد منثهم بثلاثمائة، وإن
لم يلق إلا واحدًا أخذه بثلاثمائة وخمسة (1): مائة منها عليه من أصل
الدين، ومائتان وخمسون بالحمالة, لأنه بنصف ما بقي كفيل.
ولو قال: على أن كل ثلاثة حميل بجميع المال، فإن لقي واحدًا أخذه بمائة
عن نفسه وبثلث ما بقي.
ولو لقي ثلاثة وأخذ منهم جميع المال، فلقي أحدهم واحدًا من الذين لم
يغرموا فإنه يقول له: أديتُ بالحمالة مائة عن ثلاثة، أنت أحدهم، فأعطني
ثلثها
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خمسين.
(3/ 2/215)
عن نفسك، ونصفَ باقيها بالحمالة عن
الباقين. ثم إن لقي الآخرَ لذلك أخذ الثلاثة الغارمين معه رجل عليه
بنصف ما فضله حتى يكونا في الغرم سواء. فإن اقتسما ذلك ثم لقيا الثاني
الذي غرم معهما. أوّلًا دخل معهما فيما في أيديهما من قِبَل الثالث
المرجوع عليه حتى يصير ما أخذ الثالث بينهم أثلاثًا.
وهذا يوضح لك ما تقدم أن محصول الأمر متى لقي إنسان منهم إنسانًا آخر
أن يساويه فيما أدّى وفيما أخذ من غيره من جملة الحملاء.
والجواب عن السؤال السابع عشر (1) أن يقال:
ذكر في المدونة في رجل له على رجل ألف درهم من قرض وألف دينار من
حمالة، فدفع له ألفًا ثم اختلفا بعد دفعها، فقال القابض: هي الكفالة،
وقال الدافع: إنها من القرض. يذكر عن مالك أنها تقسم بين الحقين نصفين.
وذكر عن غيره أن القول قول المقتضي مع يمينه؛ لأنه هو ثمن (2) مدعى
عليه.
فاعلم أن هذه المسألة أو ما يُيدَأ فيها بذكر فائدة اختلافهما في ذلك.
وهذا تظهر فائدته إذا كان الغريم المتحمَّل عنه، والحميل الذي تحمل به
موسرين؛ لأنه يقول القابض: إنها إنما أخذتها من الكفالة كرامة منه في
مطالبته المكفول به، وخفة طلب الكفيل بما عليه من قرض. وقد صرح ابن
المواز باسم الغير الذاهب إلى أن القول قول القابض، فقال: هو مذهب عبد
الملك، واحتج بأنه مؤتمن. وذكر عن أشهب أنه ذهب إلى ذلك أيضًا، وقال:
القول قول المقتضي، لكنه خالف عبد الملك في الحجة، واعتلّ بأن الدافع
(3) قضاء ما ذكر أنه قضاه من الحقين، والقابض منكر لأخذ هذا الحق، فصار
القول قول المنكر
__________
(1) هذا الجواب لا ينطبق على نص السؤال السابع عشر المذكور في تعداد
الأسئلة أوّلَ كتاب الحمالة، ويمكن صياغته: ما الحكم إذا كان على رجل
قرض وحمالة ودفع ما يفي بأحدهما ثم اختلفا في تعيينه؟
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأنه مؤتمن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قد دفع.
(3/ 2/216)
المدعى عليه. واختار ابن المواز تعليل ابن
الماجشون. وهذا يُلتَفت فيه إلى ما قدمناه مرارًا في كتاب البيوع وفي
غيرها من أصل ابن القاسم، وأصل أشهب في تبعيض حكم الإقرار، كالقائلَ:
لك عندي فائة دينار وديعة، وقد ضاعت، فهي منك. ويقول الآخرة بل سلفًا
أخذتَها مني فضياعها منك. فإن ابن القاسم يبعض حكم الإقرار، ويراه
مقرًّا لإنسانٍ يقال، وخصص إقراره بأحد الأحوال التي يؤخذ عليها المال،
فقال: أخذت منك مائة دينار وديعة، والوديعة وصف من أوصاف هذه المائة،
فاقتضاؤها على هذا الوصف دعوى منه. وأصل أشهب أنه لا يؤخذ بأكثر مما
أقرّ به على الصفة التي أقر بها، والتقييد الذي قيد قوله به، فكذلك ها
هنا القابض يقول أخذها من الكفالة أو من القرض، فصار تقييده لا يؤخذ
فيه بأكثر مما أقرّ به.
وأمّا مالك رضي الله عنه وابن القاسم فذهبا في هذه المسألة إلى أن كل
واحد منهما يحلف، فإذا حلفا قسم المقبوض بين الكفالة والقرض، ورأيا أن
ليس أحدهما أحرى بالتصديق من الآخر لأن الدافع كان المال في يديه، ولا
يخرج من يده إلا على الصفة التي يقول: إني أخرجت هذا المال عليها, ولا
يؤخذ بغير ما أقرّ به. وكذلك القابض يقول: أخذته على صفة كذا فلا يؤخذ
أيضًا بأكثر مما أقر به. فإذا تساويا في ابدعوى على هذا الأصل، ولم
يمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب قسم هذا المال بينهما كما (1) ليس في
يد أحد، ادعاه رجلان فإنه يقسم بينهما. وهذا إذا ادعى كل واحد منهما
(2) قد بيّن حين الدفع الوجه الذي دفع عليه من قضاء دين أو قضاء ما وجب
بالحمالة. فأما إن اتفقا على أن كان الدفع منهما (3) ولم يقع بيان
لارتفع الخلاف الذي قدمناه بين مالك وبين عبد الملك وأشهب على ما ذكره
ابن المواز، وذلك لما أشرنا إليه من كون ما ادعاه أحدهما وحلف عليه ليس
بأرجح مما ادعاه الآخر وحلف
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كمالِ.
(2) هكذا في النسختين، والمعنى: [أنه] قد بيّن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بينهما.
(3/ 2/217)
عليه فإذا تحالفا لما زعم كل واحد منهما أن
البيان قد وقع حين الدفع وجبت التهسمة، فكذلك أيضًا إذا اتفقا على
الإبهام المانع من اليمين وجبت أيضًا القسمة.
وكأن أشهب وعبد الملك رأيا أنه إذا زعم كل واحد منهما أنه قد بين حين
الدفع تصور في المسألة مدع ومدعى عليه، والمدعى عليه هو القباض، فقيل
(1) قوله مع يمينه. وإذا اتفقا على الإبهام خين الدفع واستحال في
المسألة مدع ومدعًى عليه، والدفع محتمل فوجب القسمة بين محتملين.
وتعليل عبد الملك بأن القول قول القابض لأنه مؤتمن، فلاحظ أحد أقوال
مالك رضي الله عنه في اختلاف المتبايعين في الثمن: إن القول قول
المشتري إذا قبض السلعة وبان بها, لأنه رآه كالمؤتمن على ما يدفع من
الثمن، وكأن البائع لما دفع السلعة للمشتري من غير إشهاد، وهو يجوّز
مخالفته في مقدار الثمن، صار ذلك كالتصديق له فيما يدعيه من الثمن.
وإن كان هذا التعليل عندي في هذه المسألة ضعيفًا, لأنه يقتضي أنهما لو
اختلافا في جنس الثمن لكان المشتري أيضًا مصدَّقًا فيه لأنه كالمؤتمن،
وهذا لم يقله مالك رضي الله عنه.
هذا الحكم إذا اتفقا على البيان حين الدفع واختلفا في صفته، واتفقا (2)
على الإبهام وعدم البيان.
فأمّا لو اختلفا في ذلك فقال: أحدهما: لم يقع بيان حين الدفع، وقال
الآخر: بلِ وقع البيان. فإن ابن المواز حكى عن أصبغ أن القول قول من
ادعى البيان. قال ابن المواز وهذا خلاف لابن القاسم وهو مذهب أشهب وعبد
الملك. فأشار بعض الأشياخ إلى معنى المخالف (3) من أصبغ لابن القاسم أن
مقتضى أصل ابن القاسم أن تجري المسألة على حكم التداعي فيما يحوزه
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: قُبِل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المخالفة.
(3/ 2/218)
رجلان، كثوب حائز به، قال أحدهما هو لي
كله، وقال الآخر: بل نصفه. فإن مذهب ابن القاسم أن المدعي في النصف قد
سلم النصف الآخر لمدعي الكل، وبقي النصف، فمدعي الكل يدعي جميعه، ومدعي
النصف يدعيه ولا يدعي أكثر منه، فوجب أن يقسم بينهما جميعًا، فيكون
ثلاثة أرباع الثوب لمدعي الكل، وربعه لمدعي النصف. فكذلك من يزعم ها
هنا أن الدفع وقع مبهمًا، فإنه يسلّم أن الحكم يقتضي كون المال يقسم
نصفين بين الحقين، فقد سلم أحدَ النصفين لمدعي البيان، والنصفُ الآخر
يشتركان في الدعوى فيه، فمدعي البيان يدعيه ويقول: شرطت حين الدفع أنه
أحد الحقين وسميتُه، والذي زعم أنه وقع مئهمًا إنما استحقه بمقتضى حكم
الإبهام، فيقسم بينهما نصفين.
وهذا التخريج مما يتأمل, لأن (يدعي الكل ومدعي النصف تصريح) (1) كل
واحد منهما قد صرح بدعواه، وهاهنا مدعي الإبهام لم يصرح بأنه لا يستحق
إلا النصف، وأن الاسم (2) الآخر مسلم لمدعي البيان، وإنما الأحكام على
قوله أوجبت قسمة المقبوض نصفين، فهو غير مسلم إلى مدعي البيان أنه
يستحق النصف قطعًا بل الأمر عنده محتمل، ولأجل احتماله أوجبت الأحكام
القسمة فلا يكون مصرحًا بتسليم النصف لمدعي البيان فهذا مِمّا ينبغي أن
يتأمل.
وأما قول ابن المواز إنه مذهب أشهب وعبد الملك فهذا أشد إشكالًا مَن
الأول، فإن كان مدعي الإبهام هو القابض فمقتضى ما حكيناه عنهما أن
القول قول القابض فيصح ما قال ابن المواز, لأن أشهب وعبد الملك يزعمان
أن القول قول القابض. وأما إن كان مدعي الإبهام هو الدافع ومدعي البيان
هو القابض فمقتضى ما حكيناه عنهما أن القول قول القابض، ولا يتصور ها
هنا، على أصلهما، قسمة المال، كما أشار إليه أصبغ. وقد ذكرنا في صدر
هذه المسألة فائدة اختلافهما في هذا، وهو اختلاف الأغراض في طلب الدين
الذي هو قرض
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأن مدعي الكل ومدعي النصف مصرح.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/219)
أو الحق الذي هو بالحمالة. وكذلك أيضًا
إنما يفيد تصور القسمة واختلافهما إذا كان الغريم المتحمل بالدين الذي
عليه موسرًا الآن، ومعسرًا حين الدفع، على القول بأن من له الحق لا
يمكّن من طلب الحميل إلا عند تعذر استيفاء الحق من الغريم. فإن، ها
هنا، يقول الدافع: إنما دفعتها مما وجب لك عليّ.
وأما إذا كان الغريم الذي تحملت بما عليه موسرًا يوم دفعى إليك، فلم
تجب لك عليّ حينئذٍ المطالبة بالحمالة، وكذلك هو موسر الآن، فلا تجب
عليّ أيضًا المطالبة بالحمالة الآن. فإنه ها هنا لا يقسم المال، ويكون
القول قول الدافع.
وأمّا على القول بأن الحميل يُطلب مع إمكان أخذ الحق من المتحمَّل عنه،
فإن القسمة (1) ها هنا تصح لكون الحقين جميعًا قد وجب أداؤهما ..
وأما لو كان الغريم المتحمَّل عنه موسرًا حين الدفع عنه، ومعسرًا الآن،
فلا فائدة في القسمة ها هنا, لأنه يجب عنه الآن الأداء لعسره، فلا
فائدة للدافع في كون ما دفع مقسومًا لوجوب قضاء الحقين عليه.
وإن كان الغريم موسرًا يوم (2) الدفع ومعسرًا الآن، لم تفد القسمة
لوجوب الحقين جميعًا على الرجل الذي عليه القرض، وعليه: أي ما تحمل به
لكون من تحمل به معسرًا.
ولو كان (يعكس بذلك يكون) (3) الغريم معسرًا يوم الدفع وموسرًا الآن،
وقلنا: إن المتحمل (4) له مطالبة الحميل.
وإن كان الغريم موسرًا فإنه أيضًا لا فائدة في القسمة لأن القابض يقول
للحميل: لي طلبك بالحمالة، وإن كان من تحملت عنه حاضرًا موسرًا.
وما ذكرناه من القسمة أيضًا إنما يصح إذا كان القرض والحمالة قد حلاّ
__________
(1) في (و): القيمة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: معسرًا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعكس ذلك: بكوْن.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المتحمل [له] له.
(3/ 2/220)
جميعًا ولم (1) يحلا، وأصلنا لو حل أحدهما
دون الآخر فإنه لم يختلف أيضًا وأن القول قول من زعم أن المقبوض مِمّا
حل لا مما لا يحل, لأن ما حل قد وجب فيصرف القضاء إليه، وما لم يحل لم
يجب، فلا يصرف الدفع إليه.
فتلخص من هذا أن مَن له الحق إذا استحق طلب كل واحد من المدينين لم يجر
اختلافهما في النوع الذي قصد في القضاء، ومتى لم يستحق الطلب بأحد
النوعين حمل ما دُفع على ما استحق أخذه لأنه يدعي عليه أنه يتطوع بما
لم يلزم، فيكون القول قولَه في أنه لم يتطوع.
وعلى هذا أيضًا يجري ما قلناه: إن الحقين إذا حلاّ فقد وجبا جميعًا،
وإذا لم يحلا فقد تساويا أيضًا في نفي الوجوب، وإن حل أحدهما، فالذي حل
قد وجب والذي لم يحل لم يجب، فلا يحمل بما دفع على التطوع وقضاء ما لم
يجب.
هذا هو المنصوص في الموازية، كما قدمناه، وقد سلمه بعض أشياخي.
ولكنه قدح في كون الحقين لم يحلا، ورأى صرف القضاء إلى القرض، لكون
الحمالة لم تجب، فيقول الدافع: تطوعت بقضاء ما عليّ دون ما ليس على.
وهذا الذي قاله لا يتضح, لأنه متطوع بالتعجيل في الحقين جميعًا.
ومما يلحق بهذا الذي نحن فيه (أن رجلًا لو) (2) كان له ذكر حق على
رجلين وقد شرط: أيهما شاء أخذه بحقه. فقال: لم يبق لي عليهما حق، فإن
وصل هذا الكلام بأن قال: لأن فلانًا منهما أخذته بجميع الحق، وهو دفع
جميعه إليّ. واتفق الغريمان على أنهما لم يقبض منهما سوى مائة دينار
واحدة، وهي جميع الحق لأن الدفع كان بمحضرهما جميعًا، فقد أسقطا عنه
المطالبة، والادعاء عليه، وصارت الدعوى مترددة بينهما. فإن كان واحد
منهما يقول
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أوْ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب تقديم لوْ.
(3/ 2/221)
لصاحبه: أما (1) كنت الدافع إليه. فيقبل
إقراره أن فلانًا منهما هو الدافع إليّ، وإن لم يكن عدلًا, لأنه لو
أنكر الدفع أصلًا لكان القول قوله. فإذا أقر به لأحدهما فقد سقط حقه
عنهما وسقط حقهما عنه في أن لا يطالباه في إقرارهما في أنه ما أخذ أكثر
مِمّا وجب له، فتبقى الدعوى مترددة بين الغريمين، فيحلف المقر له بأنه
هو الدافع لصاحبه، وأن صاحبه لم يدفع من الحق، فيستحق بيمينه الرجوع
بنصف ما دفع على صاحبه, لأن الدفع ثبت له بإقرار المقر له وصار صاحبه
مدعيًا عليه أنه قد سقط عنه ما قضى عنه، فلا تقبل دعواه إذا حلف المقَر
له. فإن نكل المقَر له، وحلف الآخر، كان هو المستحق الرجوع بنصف الحق
على المقَر له, لأنه يقول: أنت تعلم أني أنا الدافع، والمقِر لك أقر
بباطل، فإذا لم تحلف على دعواي، فقد رددت اليمين عليِّ فيحلف (ويستحق
ما تقتضيه دعواي عليك) (2). وكذلك لو كان المقر نسقًا (3) قولَه: فأبقى
(4) لكما عليَّ شيء، بقوله: وفلان منكما هو الدافع إلى فلان، فإن القول
قوله في أن الآخر لم يدفر إليه شيئًا. ولكن إذا لم يحضرا جميعًا الدفع
ولا عِلْم عند أحدهما ببطلان ما ادعاه صاحبه، فإنه لا يصح أن يكون ها
هنا شاهدًا لمن أقر له, لأن الآخر مدعًى عليه بأنه دفع إليه فأنكره،
فلا يكون إنكاره شهادة على من ادعى عليه، ولكن يحلف له على أنك لم تدفع
إلى شيئًا. فإذا حلف له سقطت دعواه، ووجب أن يرجع المقَر له بنصف ما
دفع على صاحبه هذا الذي ادعى الدفع وحلف له جاز ادعى ذلك عليه.
ولو نكل المقرُّ صاحبُ الحق عن اليمين لهذا الذي ادعى عليه أنه دفع
إليه لأخذ منه المائة دينار التي ادعى عليه، ودفر منها خمسين إلى صاحبه
الذي أقر له صاحب الحق بأنه هو الذي دفع جميع الحق إليه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نسَق.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَا بَقِي.
(3/ 2/222)
وأمّا لو قال: ما بقي لي عليهما شيء، ثم
قال، بعد ذلك، لما سئل: فلان منهما هو الذي دفع ذلك إليّ، فإن ابن
القاسم أطلق الجواب فقال: صاحب الحق شاهد، فإذا كان عدلًا حلف معه من
أقرَّ له، واستحق الرجوع على صاحبه. ولم يقتد قولَه هذا يكون المقِر
عيَّن مَن دفع إليه متصلًا بقوله الأول أو منفصلًا. فكأنه أشار بهذا
إلى أن قوله ما بقي لي عليهما شيء. ظاهر هذا القول يقتضي أنهما جميعًا
دفعا إليه, لأن أصل الدين عليهما جميعًا وإنما شرط الطالب لهما أن يطلب
من شاء منهما فكأنه إذا أخذ منه الجميعَ فقد أخذ نصف ذلك عن الدين الذي
على الدافع إليه والنصف الآخر بالحمالة عن صاحبه، والأصل أن الإنسان
إنما يُطلب بما عليه في نفسه. وقوله بعد الانفصال من قوله الأول:
فُلانٌ منهما هو الدافع، فكأنه كالرجوع عن مقتضى قوله الأول، وقد اقتضى
قوله الأول كونَ الدفع منهما جميعًا، فيكون على مقتضى هذا التعليل
بريان جميعًا من طلبه إذا لم يكن يعينه لأحدهما نسقًا بقوله الأول.
فإذا لم يحضر كل واحد منهما دفع صاحبه وحلف لمن أنكر أن يكون هو
الدافعَ إليه، وحلف أيضًا هذا الذي أنكرهُ أن يكون دفع إليه على أنه
دفع إليه ما ينوبه بحسب ما اقتضاه كلامه الأول. (ويرى ولا رجوع لأحد
الغريمين على صاحبه إذا وقعت الأيْمان بينهما) (1) وإذا كان الكلام
والتعيين متصلًا بقوله الأول، ولم يكن عدلًا، حلف كل واحد من الغريمين
لصاحبه. وإن كان عدلًا قُبلت شهادته في التعيين لارتفاع التهمة عنه في
شهادته إذا اتفقا على أنه لم يقبض سوى مائة واحدة. فصار محصول قوله أنه
شهد يكون أحدهما استحق أن يرجع على صاحبه بنصف الذي قضاه عنه. وإذا لم
يتفقا على ذلك صار كل واحد منهما مدعًى عليه فلا تقبل شهادته عليه.
وإذا لم يكن الكلام منسوقًا أعطى الجملة الأولى وهي قوله: ما بقي لي
عليكما شيء أظهر محتمليها عنده وهو كون الدفع منهما جميعًا.
__________
(1) ما بين القوسين هكذا في النسختين.
(3/ 2/223)
وإذا عين بعد ذلك من دفع إليه، ولم يتفقا
على إبرائه، طلباه بمقتضى قوله الأول، وكان الحكم ما ذكرناه.
ويتخرج على أصل المذهب قول آخر أنه يقبل قوله في التعيين كان ذلك منه
متأصلًا (1) بكلامه الأول، أو منفصلًا عنه, لأن اللفظ المحتمل يُقبل
تفسير قائله له، فسره متصلًا أو منفصلًا.
وهذا هو التحقيق على مقتضى الأصول، إلا أن يكون أحد محتمَليْ الكلام
أظهر من الآخر فينظر في قبوله (2) تفسيره إذا لم يكن متصلًا.
ومما يلحق بهذا اختلاف من له الحق مع الحميل في الجنس الذي تحمل به،
مثل أن يقول الحميل: تحملت لك بألف درهم، ويقول المتحمَّل له: بل تحملت
لي بخمس مائة دينار. ويكون الفتحمل عنه صدّق مَن له الحق، فإنه ها هنا
يكلف الحميل إخراج الألف درهم من ذمته التي أقر بها للطالب، ويشتري بها
ما يدعيه الطالب. فإن وفت بخمس مائة دينار سقط حق الطالب، وبرِىء
الحميل، وتبقى المطالبة بين الحميل وبين من تحمل عنه. فإذا غَرِم
المتحمل عنه ما أقرّ به من الخمس مائة دينار، التي ادعاها الطالب عليه،
بيعت أيضًا واشتري بها الألف درهم التي غرمها الحميل عنه. فإن وفّتْ
برىء كل واحد من طالب ومطلوب وحميل، وإن زادت لم يستحق الحميل هذه
الزيادة لأنها أكثر مما أداه عن المتحمل عنه، وترجع للغريم. وإن انقضت
(3) عن الألف درهم التي أداها الحميل حلف المتحمل عنه أنك لم تتحمل عني
بالألف درهم التي أديت عني، بل بما أقررتُ به وبرىء من النقص. وإن نكل
حلف الحميل واستحق وطالب بهذا النقص من أداه عنه.
ولو اختلف الثلاثة فقال الحميل: تحملت بألف درهم، وقال الطالب: بل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متّصلًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبول.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نقصت.
(3/ 2/224)
بخمسمين دينارًا، وقال الغريم المتحمَّل
(عنه ابنا علي) (1) مائة إردب قمح، فإن القول قول الغريم، فيما يقر به
فيؤخذ منه القمح، ويباع، فإن وفّى الخمسين دينارًا التي ادعاها الطالب،
وإذا سقط حقه برىء الحميل لسقوط حق الطالب لهما، وسقطت الأيْمُنُ عن
جميعهم. وإن كان القمح إذا بيع لم يبلغ ثمنه الخمسين دينارًا التي
ادعاها الطالب، ولكنه بلغ الألف التي أقر بها الحميل، أُخّرت يمين
الحميل رجاء أن ينكل الغريم عن اليمين فيغرم للطالب ما ادعاه إن كان
موسرًا. وإذا حصل الطالب على من (2) ادعاه سقطت اليمين عن الحميل.
فإن لم يحلف ونكل عن اليمين، أو كان معسرأوحلف، فهاهنا ينتقل الحكم في
النظر فيما بين الطالب وبين الحميل، فيكون القول قول الحميل فيما تحمل
به، فمن حق الطالب أن يحلفه عن بقية ما قصرت عنه الألف درهم إذا أشترى
بها دنانير فلم تبلغ الخمسين دينارًا التي أدعاها الطالب، ومن حق
الحميل أن يحفف الغريم أيضًا إذا قصر (عن ما أخرجه عن ما أداه الطالب)
(3). والغرض من هذا أنه متى قدر على رقع الأيمان وتقليلها برىء من ذلك
متى قدر عليه، كما تقدم في كتاب الدعاوي والأيمان.
ومما يلحق باختلاف الحميل والمتحمَّل له: رجل تحمل لرجل بدنانير له على
رجلين، فأتاه بأحد الدينين ليقضيه عن أحد الغريمين، فقال المتحمل له:
لا أقبضه إلا على الغريم الآخر، فقال في الموازية: القول قول المتحمل
له، إلا أن يكون المطلوب مخوفًا (4) فيكون الذي أتى به الحميل مقسومًا.
ولم يبيّنْ عن ما مراده بقوله: المطلوب، هل أراد به الحميل أو أراد به
أحد الغريمين؟ ولا
بيّن أيضًا هل الحميل موسرٌ بالدينين جميعًا، أو ليس هو موسرًا إلا
بأحد الدينين الذي للمتحمّل له. قد حمل بعض الأشياخ على ابن المواز
مراده بالمطلوب أحد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (عنه: إنما على ....)
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما أخرجه عما أدّاه للطالب.
(4) هكذا في النسختين.
(3/ 2/225)
الغريمين، وأن مراده أيضًا كون الحميل غير
موسر إلا بأحد الدينين: فأما تأويله أن المراد أنه غير موسرٍ إلا بأحد
الدينين فإن الحميل إذا كان موسرًا بالدينين جميعًا، والغريمان معسران،
لم يكن لاختلافهما عمّن يكون القضاء فائدة, لأنه إذا قبضه (1) المتحمل
له عن الغريم الذي قال: لا أقبض منك إلا عنه، طلبه بالقضاء عن الآخر.
وإن كان الغريمان موسرين، فكذلك أيضًا، إذا قلنا بأحد قولي مالك أن له
طلب الحميل مع يسر الغريم. فيصح ها هنا أيضًا أن القول قول من له
الدين: إني لا أطلبك إلا عمّن شئتُ أنا دون من شئتَ أنت.
وكذلك إذا كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا وقلنا: له مطالبة الحميل
بالقضاء عن الموسر، صار في حقه كأنهما معسران. وإن قلنا: ليس له
مطالبته فمن دعا منهما إلى كون القضاء عن المعسر، قبل ذلك منه.
وبالجملة فإن الذي له الدين يجب أن يكون هو المبدَّأ في قبول القول
لأنه حق له يطلبه ممن شاء.
لكن إن ظهر غرض وفائدة في اختلافهما فيمن يقضى عنه من الغريمين فكأن
لمن له الدين فائدة فيمن اقترح أن يكون القضاء عنه، وللحميل فائدة فيمن
اقترح أن يكون القضاء عنه، كان العدل بينهما قسمةَ المال بين الغريمين
كما يقسم الم الذي التفليس بين الغرماء.
وإذا اشترى الغريمان في الزمن الذي ينتظر يسيرهما إليه لم تظهر فائدة
أيضًا للحميل فيما دعي (2) إليه. لكن إذا ادعى (3) إلى كون القضاء عن
أقربهما يُسْرأ، فقد يكون له في ذلك غرض أن يصرف له الآن مما في يديه
مقدار ما يترك للمفلس من الإنفاق على استبعاد هذا الغرض.
ومما يلحق بهذا أيضًا: إذا غاب الغريم فقضى الحميل عنه الدين بعد حلول
أجله، ثم قدم الغريم فأثبت ببينة أنه كان قضاه أيضًا قبل سفره فإن رجوع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبض.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعا.
(3/ 2/226)
الحميل ها هنا بما قضاه إنما يجب له على من
قضاه له، وهو المتحمل له، لا على من فضاه عنه, لأن دفع الحميل يعد قضاء
الغريم خطأ منه على نفسه، وأداء ما لا يلزمه أداؤه، ولا تكون له مطالبة
على الغريم لأنه أدى عنه ما لا يلزمه، وقد سقط بأداء الغريم له. وإن
ثبّت الحميل دفع (1) بعد حلول الأجل، قبل أن يدفع الغريم كان له الرجوع
بما دفع على الغريم، لكونه دفع عنه مالًا يلزمه، والغريم هو الذي غلط
على نفسه فدفع ما لا يلزمه.
وأما إن عُلم بالدفع منهما وجُهلت التواريخ لم يجب للحميل رجوع على
الغريم مع الشك في كونه يستحق الرجوع عليه أو لا يستحق، إلا أن يكون
دفعه بقضية من سلطان فيرجع على الغريم.
وهذا الذي ذكره في الرواية من كونه يرجع على الغريم مع الشك إذا كان
الدفع بقضية من السلطان لا يتضح وجهه إلا أن يكون قدّر أن السلطان، لما
قضى عليه بالدفع لمن له الدين، تضمنت قضيته هذه أنه قضى له بالرجوع عن
الغريم، فلا تنتقض قضية السلطان بالشك، بخلاف إذا لم تكن هناك قضية
وإنما تطوع الغريم بالدفع.
والجواب عن السؤال الثامن عشر (2) أن يقال:
إذا حل الدين فأخّر من له الدين غريمه الذي عليه الدين، فلا يخلو أن
يكون الغريم عند التأخر (3) معسرًا أو موسرًا.
فإن كان الغريم معسرًا لم يكنَ ذلك إسقاطًا لحمالة الحميل الذي تحمل
بالدين, لأنه أخّر به من لم يجب له عليه بعسره وهو الغريم، وقد وجب له
أخذ الدين من الحميل فلا يكون عدوله عن طلب ما لا يفيده طلبه وهو
الحميل
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دفعًا.
(2) هذا جواب عن السؤال السابع عثر المذكور أولَ كتاب الحمالة.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التأخير.
(3/ 2/227)
الموسر. وأمّا إن كان الغريم حين التأخير
موسرًا، فهل يكون تأخيره إسقاطًا لحمالة الحميل أم لا؟ في هذا قولان:
فذهب اين القاسم في المدونة أن ذلك لا يكون إسقاطًا لحمالة الحميل.
وقال غيره: بل هو إسقاط لحمالة الحميل ..
واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو راجع إلى اختلاف في شهادة العوائد وما
تقتضيه. فلو نص من له الدين حين تأخير الغريم على أنه أسقط الحمالة عن
الحميل لم يكن له رجوع عن ذلك.
ولو نصر على أنه بتأخير الغريم غيرُ مسقط لحمالة الحميل لم تسقط
الحمالة مع اشتراطه ما اشترط.
فإذا لم ينص عن هذا ولا عن هذا، وإنما أخر الغريم تأخيرًا مجردًا، فذلك
عند ابن القاسم أمر محتمل للقسمين جميعًا، فلا يسقط حقه في الحمالة مع
الشك. ورأى الغير أن ذلك في العادة إنما يكون مع إسقاط الحمالة لكونه
قَدَر على أخذ دينه من الغريم فأخذه (1)، وقد علم أن ذلك مما يضر
بالحميل، لجواز أن يُفلَّس الغريم قبل حلول الأجل الثاني فيطلب الحميل
بالغرامة، وقد كانت ساقطة عنه على أحد القولين، أَوْلَه بها مرجع فدل
ذلك على أنه قصد بتأخير الغريم رفع هذا الغرر عن الغريم.
ومن أشياخي مَن تأول هذا الخلاف على أن الغريم لم تتغير حالته، بلَ كان
موسرًا يوم تأخيره، وموسرًا عند الأجل الثاني عند استحقاق الطلب.
وأما لو كان موسرًا عند التأخير ثم أفلس، فإنه يبعد الخلاف في ذلك،
لأنه كمُتلفٍ مالَه بنفسه فلا مطالبة له عن الحميل.
وعلى الطريقة الأولى التي عللت بها وهي طريقة بعض أشياخي أيضًا لا
يفتقر إلى هذا التأويل الذي ذكرته عن بعضهم. وَهذا إذا لم يعلم الحميل
بالتأجيل فرضيه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فأخّره.
(3/ 2/228)
وأمّا لو علم به فأنكره لكان من حقه ذلك
ويقال للمتحمَّل له: إما أن تُسقط الحمالة فيصح لك التأخير. وإمّا أن
تتمسك بها فلا يُمكن من التأخير لحق الحميل ونفي الضرر عنه بالتأخير
ولو لم يعلم الحميل بالتأخير حتى حل الأجل الثاني لم تسقط الحمالة عنه،
ولكنه يحلف عند ابن القاسم: أنه ما كان ذلك منه رضي بإسقاط الحمالة،
إذا أنكر ذلك الحميل بعذر التأخير. وأوجب اليمين عليه أشهب: أنه لم
يقصد بتأخير الغريم إسقاط الحمالة. وهذه يمين تهمة فإذا قويت التهمة
قوي الاستحلاف، وإذا ضعفت ضعف الاستحلاف. وأمّا إن أخر الحميلَ فليس
ذلك بتأخير للغريم, لأنه لو أسقط عنه الحمالة بالكلية لبم يسقط الدين
على الغريم.
فكذلك إذا أخر عن الكفيل الطلب لم يكن ذلك تأخيرًا للغريم لأنه يتصور
ها هنا إلى الرفق بالحميل والإحسان إليه بالتأخير لما أحسن هو بتحمل ما
لا يلزمه، لكنه يحلف أيضًا: لم يرد بتأخير الكفيل تأخير الغريم. فإن
نكل عن هذه اليمين لزمه تأخير الغريم أيضًا، بناء على الأصل في أيمان
التهم: أن النكول عنها يوجب غرامة ما نكل عنه. وقد وقع لمالك ما يشبه
ما نحن فيه: في رجل عليه دينان لرجل، أحد الدينين بحميل والآخر بغير
حميل، فمات الذي عليه الدين، وترك مَا لاَ يفي بالدينين، فإن الذي ترك
يقسم بين الدينين، ويُطلب الحميل بما بقي عليه من الدين الذي تحمل به
بعد ما أُخِذ من التركة ما أسقط عنه بعضَ ما تحمل به. فسأل بعضُ الورثة
من له الدين أن (يحال إلى) (1) الميت مما بقي عليه من الدين، ففعل، فإن
ذلك ليس بإسقاط عن الحميل ما بقي من الحمالة، بعد أن يحلف أنه لم يرد
بما فعل إسقاط الحمالة. وهكذا حكى ابن المواز أيضًا عن أشهب عن مالك في
ورثة سألوا من له الدين أن يحالل الممت بما عليه، أن ذلك لا يكون
إسقاطًا للحمالة عن الحميل بهذا الدين، إذا حلف من له الدين أنه لم يرد
إسقاط الحمالة، قال ابن المواز في هذا. وفي موضع آخر قال: في هذا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُحالِلَ
(3/ 2/229)
شيء. فأشار إلى قدح في هذا الجواب.
وصرح بعض المتأخرين بما أشار إليه ابن المواز فقال: تسقط الحمالة عن
هذا الحميل إذا حالل من له الدين الميتَ, لأن معنى التحليل ها هنا
إسقاط الدين على كل، سقطت (1) الحمالة بما سقط, لأنها فرع عن ثبوت
الدين في الذمة، فإذا بطل الأصل بطل الفرع.
وهذا الذي أشار إليه ابن المواز من القدح، وصرح به بعض المتأخرين، يسبق
إلى النفس صحته، وأنه لا وجه لما وقع في الرواية. لكن عندي المخرج من
هذا أن الناس يعتقدون أن من له الدين يطالب به من له عليه في الآخرة،
ويؤكد اعتقادَهم هذا قوله عليه السلام: "نفس المؤمن مرتهَنة بديْنه حتى
يُقضى عنه" (2) فأشار إلى أحكام الآخرة، وأن مَن مات وعليه دين كان
الأمر فيه هكذا، وامتنع من الصلاة عليه حتى يقضَى دينه، كما تقدم ذكر
هذا الحديث وما يتعلق به من مسائل الخلاف مبسوطًا.
فإذا تقرر هذا وأمكن أن يريد من له الدين لما سئل في أن يحلل الميت
الذي عليه الدين أن يؤيد بتحليله أن لا مطالبة عليه في الآخرة، وأسقط
إثم المطل عنه إن كان مَطَله. وهذا مما يختص بالغريم الذي قد صار إلى
الآخرة دون الحميل الذي هو حي، ويقضى عليه في الدنيا بأحكام المعاملة،
حلف من له الدين أنه لم يرد إلا أحد الوجهين وهو التباعة في الآخرة دون
الدنيا، وبقي الحميل مطلوبًا بما تحمل به، فلا يسقط عنه بالشك
والاحتمالِ أمرٌ قد كان وجب عليه بيقين.
والجواب عن السؤال التاسع عشر (3) أن يقال:
__________
(1) هكذا في النسختين، والأوْضح: [فـ]ـسقطت.
(2) تحفة الأشراف: حد: 14981. ج 10/ 360.
(3) هذا من الأسئلة الساقطة في أول كتاب الحمالة، ويمكن صياغته من
الجواب: وما الحكم إذا تحمل بدينين لرجلين؟.
(3/ 2/230)
إذا تحمل رجل لرجلين بدينين لا شركة بينهما
فيه، فقضى أحدَهما، فلا مدخل للغريم الآخر معه، إذا كان الغريم مليئًا
بجميع الدينين (1).
وإن قضى أحد الغرماء وقد أحاط الدين نجماله، فقد قدمنا اختلاف قول
مالك.
وتأول بعض الأشياخ أن هذا الاختلاف إذا قضى جزءًا من ماله، ويبقى (2)
في يده جزء، بخلاف أن يقضي جميع ما في يديه لغريم، ويبقى فقيرًا.
وأما إن كان الدين مشتركًا بين رجلين فاقتضى أحدهما دون الآخر، فهل
لصاحبه أن يشاركه فيما اقتضى؟ تقدم بيان ذلك مبسوطًا في كتاب البيوع،
وأن المشهور من المذهب مشاركة من لم يقبض لمن اقتضى، على تفصيلَ في صفة
المشاركة، تقدم أيضًا بيانه، وأن هذا إذا كان اقتضى أحد الشريكين دون
استئذان صاحبه وإعلامه. وأما إذا رفع أمره إلى السلطان فأمَرَ شريكه
بالاقتضاء معه،
فلم يفعل، فإنه لا يشاركه، ويصير ذلك كحكم القاضي بينهما بالقسمة لهذا
الدين، وتمييز أحدهما من الآخر.
وذكر في المدونة أن الإشهاد على شريكه بأنه امتنع من الاقتضاء معه ينوب
مناب الرفع إلى القاضي. وتعقبه بعض الأشياخ وأشار إلى أنه يمكن أن يكون
المراد: الرفع إلى القاضي يتعذر، فقام الإشهاد مقامه للضرورة إلى ذلك.
وهذا كله قد مضى مبسوطًا. لكن ذكر في المدونة في هذا الكتاب أن الحميل
إذا تحمل بدينٍ مشترك بين رجلين، فأتى أحدهما فدفع إليه الحميل ما
ينوبه من الدين، والحميل موسر، في يديه ما يقضي منه الشريك الآخر الذي
لم يقبض لغيبته، فإن القضاء صحيح جائز. وإنما يبقى النظر في مشاركة
الغائب إذا قدم من اقتضاء (3) وهذا الخلاف الذي أشار إليه إذا لم يرفع
المقتضي أمره إلى القاضي، فإن رفع الأمر إليه، والحميل موسر بجميع دين
الشريكين، فإن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدين.
(2) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: وبقي.
(3) هكذا، وفي مد: اقتضاه.
(3/ 2/231)
القاضي يقضي لهذا الدافع إليه بجميع حقه،
ولا يتعرض لحق الغائب بل يبقيه في الذمة على حسب ما كان.
وأمّا إذا لم يكن في يد الحميل إلا نصف الدين الذي عليه فإن القاضي إذا
قضى لهذا الحاضر بحقه عليه كان قضاؤه باطلًا، والدفع إلى أحد الغريمين
فاسد. فلم يختلف المذهب ها هنا بأن الشريك القديم يشارك الشريك الحاضر
فيما اقتضى. فإذا كان جميع الدين مائة دينار، وهي بين الحاضر المقتضي
والغائب نصفان، فرفع الأمر إلى القاضي، فلم يجد في يد الغريم سوى خمسين
دينارًا، فقضى بجميعها للشريك الحاضر لأنها منتهى جميع دينه، فإن
الشريك الغائب إذًا قدم يقاسم المقتضي للخمسين , التي أخذ، نصفين، لكون
قضية القاضي له بجميع الخمسين خطأً وغلطًا يجب أن يُنقض الحكم فيه. ولو
وقع الغلط في مقدار ما ينوب في المحاصة، مثل أن يكون الدين مائهّ (1)
دينار، وهي بين الشريكين نصفين، ولم يوجد في يد الحميل سوى خمسين
دينارًا، فقضى له القاضي بجميعها، فإن الغلط ها هنا إنما وقع في أن
زاده عشرة دنانير على ما ينويه في المحاصة، فإن من الأشياخ من ذهب إلى
أنه يمضي له القاضي بأربعين دينارًا، وهي التي تنوبه في المحاصة ولم
يقع فيها غلط في الحكم فلا مشاركة فيها وإنما الغلط في زيادة عشرة
دنانير وهي التي ترد إلى الشريك الغائب.
ومنهم من ذهب إلى أن المشاركة تقع في جميع الخمسين دينارًا وكأن الغلط
لما وقع في (2) سرى ذلك إلى كلها لأنها قضية واحدة , فإذا ظهر الغلط
فيها وجب نقض الحكم غير ملتفَتٍ فيه إلى ما كان منه صوابًا, لأن الصواب
لم يقصد إليه، فكأنه لم يقع الحكم به.
واحتج هؤلاء بما قيل في القاسم إذا غلط أن حكمة ينقض.
وتأول الآخرون هذه الرواية على أن المراد غلطُه فيما تختلف فيه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثمانين دينارًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقع في [بعضها] سَرَى ...
(3/ 2/232)
الأغراض كالرباع وغيرها، وتختلف أجناسه،
وأما الدنانير فجنس واحد فغلطه في بعضها لا يسري إلى ما أصاب فيه منها,
لكونها لا تختلف فيها الأغراض، ولا يمكن ذلك في الرباع التي تختلف فيها
الأغراض, لأن الغلط (1) بعضها يصيّر ما بقي مغلوطًا فيه لاختلاف
الأغراض فيه.
وأما لو قضى القاضي لهذا الحاضر الدافع إليه بمقدار نصيبه في المحاصة،
ووقف نصيبَ الغائب، فإن هذه القضية ماضية، ولا مشاركة للغائب، إذا قدم،
فيها (2) قبفحه الحاضر من الحميل، لكون ما وقفه القاضي كأنه قبضه،
ومصيبته منه.
وأما إن لم يوقف القاضي نصيب الغائب، ولا بقاءه (3) في ذمة الحميل،
وليس عند الحميل سواه، فإن ظاهر كلام ابن القاسم أن ما أخذه الحاضر
بحكم هذه القسمة يمضي له ولا يشاركه فيه. وعلى هذا تأول يحيى قول ابن
القاسم في المدونة: إن القاضي فعل ذلك ولم ينتزع من يد الحميل نصيب
الغائب. وقال غير ابن القاسم في المدونة: بل هذه القضية خطأ تُنقض كما
لو قضى للحاضر بحقه كله. واعتذر الشيخ أبو محمَّد (4) بن القاسم بأن
القاضي لم يقصد سوى التمسمة بين الشريكين فمضى للحاضر ما قسم له، لكون
ذلك هو المقصود بالقضاء، ولم يردّ ذلك لأجل غلطه على الغائب. واعترض
هذا بأنه يجري مجرى التفليس للغريم، فيجب ألاّ يبقى في يديه من غاب،
فلو لم يكن ذلك كالتفليس على هذا التعليل لاقتضاء هذا أنه لو قبض
الحاصر نصيبه كله لمضى ذلك كله له، لكون من أحاط الدين بماله له أن
يقضي غريمًا دون غريم.
وبالجملة فإن في كلام ابن القاسم احتمالًا، وإنما يلتفت في هذا إلى كون
هذا كالتفليس فتجري فيه أحكام التفليس، أَوْ لاَ يكون كالتفليس فتجري
فيه أحكام
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [في] بعضها ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما،
(3) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: أبقاه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبو محمَّد [عن] ابن القاسم.
(3/ 2/233)
المديان لقوم من الغرماء دون قوم.
والجواب عن السؤال العشرون (1) أن يقال (2):
قد تقرر أن من له دين على غريم وأخذ به حميلًا فإن دينه متردد بين
ذمتين، فإذا دفع الغريم أو الحميل فلا خفاء في جواز ذلك. وأن غير ما
عليه تغييرًا في الصفة أو تغييرًا في النوع (3) في الجنس فإن ذلك إذا
كان من (4) عليه الدين فقد مضى ذلك في كتاب البيوع، بتنا فيها ما تجوز
المعاوضة به وما لا
تجوز، دينًا كان أو غيره.
وإن كان ذلك من الحميل فشرى لنفسه ليملك بما دفع من الدين الذي على
الغريم، وتبرأ ذمة نفسه منه، فإن ذلك أيضًا أصوله مفردة في كتاب
البيوع، فيلتفت في ذلك إلى كون ما يفعله الغريم من تغيير الصفة والجنس
في قضاء الدين قد عري من الوجوه الممنوعة، المذكورة فيما تقدم في شراء
الديون والسلم فيها.
وإن كان يقضي ذلك عن الغريم لا ليملك ما عليه، فهاهنا أيضًا تفاصيل
جملتها ترجع إلى ما قدمناه من الممنوعات في المعاوضات من غرر أو وقوع
في وعلى هذه الأصول يعرض صلح الكفيل لمن له الدين عن نفسه أو عن
الغريم، وبيان هذا، على التفاصيل في صلح الكفيل، أنه لو تكفل بمائة
دينار عن رجل مؤجلة عليه، فأراد، قبل الأجل، الكفيلُ أن يصالح من له
الدين
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: العشرين.
(2) هذا من الأسئلة الساقطة، في أوّل كتاب الحمالة، ويمكن صياغته من
الجواب: ما الحكم في صلح الكفيل عن الدين؟
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أو.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّن.
(3/ 2/234)
بخمسين دينارًا، فإن ذلك لا يجوز على
الإطلاق، كان الدين سلعة أو قرضًا، لأنه يقع في "ضع وتعجل" إن صالح عن
الغريم. وإن صالح عن نفسه وقع في سلف بزيادة، أسلف من له الدينَ خمسين
ليأخذ من الغريم إذا حل الأجل مائة.
وإن كان الأجل قد حصل (1)، فصالح عن دنانير طيّبة بدنانير أَدْنَى
منها، فإن ذلك جائز إن كان صالح عن الغريم، وذلك للعلم بأنّ العادة جرت
بأن الغريم متى قدر أن يدفع أقلّ مما عليه فلا يدفع أكثر منه، فيصير
الكفيل إذا صالح عن دنانير طيبة يدنانير ونهى (2) يعلم من مقتضى العادة
أن الغريم لا يدفع إليه إلَّا دنانير دنية مثل ما دفع هو لمن له الدين.
ولأن دفع الحميل دنانير طيبة عن دنانير دنيئة في ذمة الغريم فذلك منه
مكارمة لمن له الدين وهو يعلم أن الغريم لا يلزمه أن يتطوع بأجود مما
عليه، فإنما يدفع إليه الدنانير التي عليه فلا يكون في هذا وقوع في ربا
ولا في غرر، فلهذا جاز ذلك. لكنه لم يطرد الأصل في المدونة في هذا الذي
قلناه في الكفيل بطعام جيّد حلّ أجله، وهو من سلم، فإنه منع الكفيلَ أن
يصالح من له الدين إذا حلّ الأجل بطعام أجود مما تحمل به، أو طعام أدنى
منه، وإن فعل ذلك قضى (3) عن الغريم لا يشتريه لنفسه. وعلل ذلك بأن ذلك
بيع للطعام قبل قبضه، لأجل ما يكون لمن عليه الدين من الخيار في أن
يدفع مثل ما دفعه الكفيل لمن له الدين، أو يدفع خلاف ذلك، وهو الدين
الذي عليه، فيصير من له الدين كبائع الطعام قبل قبضه.
ولو كان تغيير هذه الصفة في الطعام المسلم فيه مِمّن عليه الدين، لجاز
ذلك, لأنه مبادلة طعام جيد بدنيء أو دنيء بجيد، بخلاف الكفيل.
وهذا التعليل يقدح في الأصل الذي قلناه, لأنه يجري في دفع الحميل عن
سكة طيبة سكةً دنيئة وعن سكة دنيئة سكةً طيبة، فيكون ذلك أيضًا بيعَ
ذهب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَدْنَى.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قضاءً.
(3/ 2/235)
بأدْنى منه أو أجود منه، ليس يدًا بيد،
فيجب أن يمنع.
وأمّا ما أشار إليه من التفرقة بين الطعام والدنانير، من كون ذلك في
الطعام بيعًا له (1) قبضه فإنه لا يتضح هذا الفرق, لأن بيع الطعام قبل
قبضه إنما يكون إذا باعه بغير جنسه من عوض (2) أو طعام، وأما بيعه
بجنسه فإنه لا يكون بيعًا قبل قبضه، بدليل أنه أجاز ذلك فيمن عليه هذا
الطعام، وهذا الذي أسلم فيه ورآه مبادلة، لا بيع الطعام قبل قبضه. لكن
قد يفرق بين من عليه السلم إذا قضى أجود أو أدنى برىء هو وبرىء الحميل،
ولم يكن فيما دفع خيار لأحد، والكفيل إذا دفع ذلك على غير الصفة التي
تحمّل بها ثبت التخيير لمن عليه الدين، هل يقضي للحميل مثل ما قضى عنه
أَوْ لاَ يقضيه إلا ما كان عليه؟ لكن هذه التفرقة وإن صحت من هذه الجهة
فإن مقتضاها منع الصلح بسكة طيبة عن دنيئة أو دنيئة عن طيبة، لأجل ما
يدخل في ذلك من التخيير للغريم، فيصير ذلك كالمبايعة ذهب بذهب أدنى منه
أو أعلى، ليس يدًا بيد.
ولو اتفق أن يكون صلح الكفيل في الطعام بما يخالف صفته ما تختلف
الأغراض فيه، كمن صالح عن محمولة بمحمولة أدنى منها، والدنانير لا
يتصور اختلاف الأغراض فيها على حال، لأمكن أن يكون هذا فرقًا بين صلح
الكفيل عن طعام بأجود منه أو أدنى، أو عن دنانير ودراهم بأجود منها أو
أدنى.
ولو كان الصلح عن دنانير مؤجلة بدراهم معجلة لمنع ذلك من الغريم
والحميل, لأنه صرف مستأخر، عخل دراهم عن دنانير إنما تستحق إلى أجل،
سوأء كان ذلك الصلح من الغريم أو من الحميل. ولكن قد قيل، في قول شاذّ
عندنا: إن لمن عليه دنانيرُ مؤجلةٌ أن يدفع عنها دراهبم معجلة، إذا رضي
بذلك من له الدين. وبعدما (3) تأجل ها هنا كالخالّ، فيجوز ذلك، على هذا
القول،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [قبْل] قبضه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عرض.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُعَدُّ.
(3/ 2/236)
من الغريم، أو من الحميل إذا صالح بذلك عن
إذن الغريم ورضاه، فيصير
كالوكيل على هذه المصارفة.
وأمّا إذا حلّ فأراد الكفيل أن يصالح من له الدين عن الدنانير تكفل (1)
بدراهم لدفعها إليه، فإن فعل ذلك صلحًا عَمن له الدين فقد اختلف قول
مالك في جواز ذلك، فقال مرة بالمنع من ذلك لما يتصور فيه من وجهين
محرمين، وهو أنه دفع دراهم يكون الغريم عليه فيها بالخيار، إن شاء دفع
له مثل ما دفع ويكون كأنه أسلفه دراهم أبرأ بها ذمة نفسه وذمة الغريم،
(فلا يتصور ها هنا الوقوع) (2)، أو يدفع إليه الدنانير التي عليه ولا
يجيز ما عقد إليه (3) من مصارفة، فيكون الحميل قد دفع دراهم معجلة لمن
له الدين ويأخذ عوضها دنانير ممن عليه الدين ليست يدًا بيد، وذلك
ممنوع، وتجويز الوقوع كتحقق الوقوع فيه، كما بيناه في كتاب الصرف،
ويتصور فيه أيضًا معاوضة فيها غرر, لأنه دفع دراهم لا يدري هل يرجع
إليه مثلها فيكون ذلك سلفًا أو ترجع إليه الدنانير التي هي على الغريم
فيكون ذلك بيعًا، وذلك غرر، ودفع ما يكون تارة بيعًا وتارة سلفًا.
وأجاز ذلك مرة أخرى، كما قدمناه في كتاب البيوع من أن المقصود متحيل
(4) أحكام العقود، (والقصد ها هنا من الحميل بما دفع عنه التخفيف عنه
من الطلب، ومكارمة أن يجيز فعله فيكون سلفًا، أو يجيز فعله فيكون أخذ
منه عما دفعه لمن له الدين لم يقصد به المبالغة وإنما قصد به التخفيف
عنه فجاز ذلك) (5).
واعلم أن نكتة هذا الخلاف أن الحميل إذا دفع دراهم لمن له الدين عن
دنانير، فإنه قد أبرأ نفسه بما دفع مما (6) عليه من المتحمَّل
بالدنانير، وأبرأ بهذا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [التي] تكفل [بها].
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عليه ..
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحيل.
(5) ما بين القوسيْن هكذا في النسختين.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما.
(3/ 2/237)
الدفع الغريم أيضًا، وقد حصلت المناجزة
بينه وبين من له الدين فلا يتصور في ذلك صرف مستأخر، بل صرف منه ما في
الذمة بدراهم دفعها إليه في الحال، وذلك غيرِ ممنوع. لكن مقتضى هذه
المصارفة إثبات خيار لمن عليه الدين فيما يدفع للحميل عن هذه المصارفة.
وقد صورنا في هذا التخيير الوقوع في الصرف المستأخر، فهو صرف ناجز فيه
أوَّلًا، وتضمنت هذه المناجزة تأخيرًا من جهة أخرى، فهل يقضى في هذا
الحكم المناجزة (1)، وهو السابق لثبوت التخيير، أو يلتفت في هذا إلى ما
تصور بعدها مما يوقع في تأخير المصارفة وكأن ما يلزم عن الأول يقدّر في
الأول ويتصور فيه. بالتحميل (2) تصور فيها بين الحميل ومن له الدين ,
والتحريم يتصور فيها بين الحميل والغريم كما بينا.
وقد قال ابن المواز في حميل جُبِر على قضاء الدين لعُدْم الغريم، فدفع
عن دنانير دراهم، فإن ذلك جائز، ولكن تؤخذ الدنانير من الغريم فتصرف
بدراهم، وتدفع الدراهم إلى الحميل قضاءً عما دفع الحميل وأسلف. فإن
تقايلا بذلك (3). وإن قصرت الدراهم التي صرفت عما دفع الحميل لم يطلب
من عليه الدين بنقصها، وكان مُصيبة ذلك من الحميل الذي دفع خلاف ما
تحمل به. وإن كان فيه فضل رُدَّ إلى الغريم، لكون ذلك فضل بعد أن قضى
الحميل جميع ما دفع.
قال ابن المواز: وقد رجع ابن القاسم عن هذا، وقال: هذا حرام بين الغريم
والحميل.
فأنت ترى كيف أشار إلى ما قلناه من أن التحريم إنما ينشأ في المسألة
فيما بين الغريم والحميل.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالمناجزة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فالتحليل.
(3) هكذا, ولعل الصواب: فذاك.
(3/ 2/238)
واعلم أن هذا الذي قال ابن المواز لا ينبغي
أن يختلف في جوازه, لأنه لا يتصور فيه وجه من التحريم، لكون من عليه
الدين لم يُلزَم بأكثر من دفْع ما عليه، والحميل أخرج دراهم سلفًا،
وعاد إليه مثل سلفه. فما صورناه من وقوع في الربا، أو غرر في المعاوضة،
يرتفع في هذه المسألة. وإنما يتصور فيها الخلاف إذا لم يُجْبَر على
القضاء، وأثبتنا التخيير للغريم، وأن يدفع ما عليه، أو يدفع إلى الحميل
ما دفعه عنه.
فإذا تقرر حكم صلح الكفيل عن دنانير تحمل بها بدراهم يدفعها لمن له
الدين، فلو كان هذا الصلح عن هذه الدنانير بمكيل أو موزون مما يقضى
بمثله، وصالح بذلك بشَرْيٍ منه للدين الذي تحمل به، فإن هذا يعتبر فيه
ما يعتبر في شراء الديون التي في الذمم، من النظر فيما يشترى به الدين،
هل يجوز أن يكون ثمنًا للدين أم لا, وهذا يعرف حكمه مما قدمناه في كتاب
البيوع وبيناه، مما يجوز أن يكون رأس م الذي السلم، وعوضًا عما أسلم
فيه، من اعتبار اختلاف الأغراض إلى غير ذلك مما بيناه. ومن شرطه أيضًا
أن يكون الغريم الذي بيع الدين عليه حاضرًا مقرًّا بالدين الذي عليه،
لئلا يقع الغرر والتخاطر في العقد بالجهل بما يجري على الغريم في ذمته،
وجواز جحوده لما عليه ..
لكن وإن كان شرط في المدونة مثل ذلك في شراء الحميل الدين الذي تحمل
به، فإن الرواية في المدونة اختلفت في إثبات كونه مقرًّا، ففي بعضها
إسقاط اشتراط كونه مقرًا، وفي بعضها إثبات ذلك، كالأجنبي إذا اشترى
دينًا لم يتحمل به. ووجه إسقاطها أن الحميل مطلوب بغرامة الدين الذي
اشتراه، فكأنه اشترى الدين الذي عليه واشترى ما لا يخشى سقوطه بخلاف
الأجنبي الذي اشترى دينًا لم يتحمل به، وقد أنزل الحميل منزلة الغريم
حتى كأنه هو. وبهذا منعوا أن يشتري الحميل الدين المسلم فيه بدنانير هي
أكثر من رأس مال
المسلم، كما يمنع من ذلك الغريم الذي عليه السلم, لأن الغريم إذا أسلم
إليه مائة دينار، وأقاله من له السَّلَم على مائة دينار وخمسين، فإن
ذلك لا يجوز،
(3/ 2/239)
لأنهما يتهمان على أن المائة الأُولى أخذها
سلفًا، وأظهرا أن يزيدا أكثر من السلف، وذلك حرام إذا كان بشرط، وقد
حصل أمرهما في هذه الإقالة على أن المسلِم أخرج مائة دينار فرجع إليه
أكثر منها، فيتهمان أن يكونا جعلا تسمية ما وقع السلمُ فيه زورأ
ومحلِّلًا لسلف جرّ منفعة. وهذه العلة مفقودة في الحميل إذا اشترى
المسلم فيه بأكثر من رأس المال, لأنه لم يقبض شيئًا فرد أكثر منه فهو
في هذا كالأجنبى تولى سلمًا في عروض بأكثر من رأس مالها, لكنهم منعوا
ذلك في الحميل، وإن فقدت فيه هذه العلة، لكونه أحل نفسه محلّ الغريم،
فكما منع ذلك في الغريم منع فيمن حل محله وهو الحميل، لا سيما إذا قلنا
بإحدى الطريقتين: إن حماية الذرائع قد يتصور أن يكون للحماية حماية.
هذا إذا اشترى الحميل هذه الدنانير يمكيل أو موزون لنفسه. وأمّا إن
اشتراها للغريم حتى يكون الغريم بالخيار إن شاء أمضى على نفسه ما فعله
الحميل من المعاوضة على الدنانير التي عليه بمكيل أو موزون، فيَغرم
للحميل مثل ما دفع عنه، وإن شاء لم يُجِز فعلَه، ولم يغرم سوى الدنانير
التي عليه، فإن هذا اختلف فيه القول في المدونة: ففي كتاب الحمالة جواز
ذلك، وفي كتاب السلم منعه.
وسبب الخلاف فيه ما تقدمت الإشارة إليه من كون هذه معاوضة فيها غرر،
لأجل أن الحميل أخرج مكيلة من الطعام، ولا يدري هل يرجع إليه مثلها،
فيكون ذلك سلفًا أسلفه الغريم، والسلف جائز، و (1) يكون ذلك بيعًا، باع
طعامًا بالدين الذي على الغريم، وما يكون تارة بيعًا وتارة سلفًا يمنع
منه، ولكن المعاملة بين الحميل ومن له الدين لا غرر فيها, لأن من له
الدين أبرأ ذمة الغريم وذمة الحميل بهذا الطعام الذي وصل إليه، لكن ذلك
يتضمن تخيير الغريم، وتغييره (2) يصور فيه الغرر الذي قلناه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تخييره ..
(3/ 2/240)
والعقد إذا تضمن شيئًا ولزم عنه، فهل يكون
ذلك كالمعقود عليه المقصود بالعقد أم لا؟ هذا سبب الإشكال الذي اقتضى
الاختلاف.
وأما لو كان الصلح عن الغريم بعوض (1) إنما يلزم الغريم، إذا أمضى هذا
الصلح عنه، قيمةُ العوض (1) الذي دفعه الحميل وهي دنانير من جنس ما
عليه.
فإذا كانت قيمته مائة دينار مثل المائة التي عليه، يمكن في هذا غرر,
لأنه إنما يغرم مائة دينار سواء أجاز الصلح ورده (2). وإن كانت قيمة
العرض أكثر من المائة دينار أو أقل منه، فمعلوم من جهة العادة أنه لا
يختار أن يدفع إلا الأقل من الأمرين: إما المائة دينار أو قيمة العرض.
وهذا يرتفع معه ما صورناه من الغرر.
وعندي أن هذا الذي أطلقه أهل المذهب من الجواز للصلح على الدنانير التي
على الغريم بعوض (2) إن كان ذلك يقوم بالدنانير. وأما إن قوِّم
بالدراهم ودفع الحميل العرض على أنه لا يدري ما. يرجع إليه، إما دنانير
وهي التي على الغريم، وإما دراهم، فإن المسألة قد ترجع إلى المسألة
الأولى في دفع دراهم عن دنانير.
وقد حاول الشيخ أبو إسحاق تخريج خلاف في هذا فقال: قد منع في الموازية،
في هبة الثواب، أن يخرج رجل عن الموهوب له عرضًا، يكافىء به عن الهبة
قضاء عن الموهوب له، مع كونه إنما يقضي له بقيمة أقلِّ العرضين: إما
العرض الذي هو هبة، وإما العرض الذي دفعه أيضًا عن الموهوب له، وهو
يعلم أيضًا أن الموهوب له لا يختار إلا الأقلّ من القيمتين.
فكان الواجب له، على مقتضى التعليل الذي ذكرناه في صلح الكفيل، أن يجوز
هذا أيضًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العَرْض.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.
(3/ 2/241)
وهذا الذي قاله من التخريج فيه نظر، وذلك
أن الهبة للثواب، الأصل منعها, لأنها معاوضة فيها غرر، إذ لا يدري
الواهب ما يعوض عنها. لكن إنما جازت قياسًا على نكاح التفويض كما نصّ
عليه أئمة المذهب فصارت كالرخصة، والرخصة فيها اختلاف: هل يقاس عليها
أم لا؟ فلا يقاس هذا الرجل الثاني، المتبرع بالمكافأة عن غيره،
بالموهوب له السابق، مع كون الغرر في هذا أوضح, لأن الموهوب له الغالبُ
أنه لا يكافىء بأقل من قيمة الهبة، بل الغالب أن يكافىء بأكثر منها بما
لا يدرى حقيقة مبلغه. فكأن العلة ها هنا بالعكس من علة الحميل، مع كون
هذا الثاني إنما هو كمشترٍ حقًا على غيره لا يعرف مبلغه ولا جنسه، فهو
بخلاف الموهوب له الذي يقبل الهبة على أمر يضمر أنه به يكافىء.
وإذا أخذ الكفيل من الغريم سلعة على أن يؤدي عنه ما تحمل به عنه من
دنانير أو دراهم فأتى من له الدين فألزم الغريم أن يعطيه دينه، فأعطاه
دينه، (في أن) (1) البيع في هذه السلعة لا ينفسخ, لأن من اشترى سلعة
بدنانير أو دراهم فاستُحقت الدنانير أو الدراهم من يد البائغ، فإنه
يرجع بمثلها على المشتري، ولا ينفسخ البيع. فكذلك ها هنا يرجع الغريم
على الحميل بالدنانير التي قضاها عنه. وإذا صالح من له الدين الكفيل
على الخمسين دينارًا، وقد تحمل له بمائة، وقد حل الأجل، جاز ذلك وسقطت
المطالبة عن الحميل بالخمسين دينارًا، وبقيت المطالبة بها على الغريم.
وإذا تحمل رجلان لرجل بألف درهم فأخذ أحدهما من صاحبه مائة درهم، على
أن يؤدي عنه ما توجه عليه بالحمالة، فإن ذلك لا يجوز إذا كان ذلك قبل
حلول الأجل، أو كان ذلك بعد حلوله، والذي له الدين غائب, لأن قابض
المائة استعجلها قبل حلول أجلها، أو بعد حلوله، والذي يستحق قبضها منه
غائب، فتبقى في يديه ينتفع بها، حتى إذا حل الأجل وقدم الغائب، قام له
__________
(1) هذا ساقط من (مد)، ولعل الصواب: فإنّ.
(3/ 2/242)
بدينه ما يختص بحمالة صاحبه الدافع إليه
المائة درهم، فصار دافع المائة إليه كالمسلف لها، قد ينتفع مدة ثم يؤدي
عنه ما وجب عليه بالحمالة، ويرجع هو به على الغريم، وذلك سلف جر منفعة،
فيحرم.
فإن كان الأجل قد حل ومستحق قبض الدين حاضر، ولم يقصد قابضُ المائة
منفعةَ نفسه، بل التخفيف عن صاحبه أو مكارمة من له الدين لم يحرم ذلك
لأنه لا يتصور فيه سلف جر منفعة.
ولو أن من له الدين صالح عن الألف (1) درهم بخمسين درهمًا، فإن دافع
المائة درهم يرجع على صاحبه الذي قبضها منه بخمسة وسبعين درهمًا, لأن
هذه الخمسين كأنها هي أصل الدين، لا يستحق من له الدين أكثر منها، وبها
وقعت الحمالة، فعلى كل واحد من الخمسين منها خمسة وعشرون درهماً، فيبقى
في يد قابض المائة درهم خمسة وعشرون يؤديها عن صاحبه ويدفع هو عن نفسه
خمسة وعشرين فالفاضل من المائة لدافعها خمسة وسبعون لمّا ظهر أنه لا
يستحق عليه إلا الحمالة بخمسة وعشرين.
ولو كان الصلح عن هذه الألف بمائة وخمسين درهمًا لرجع دافع المائة على
قابضها بخمسة وعشرين درهمًا, لأن الصلح لما وقع بمائة وخمسين درهمًا
ظهر أن الحمالة إنما توجهت بمائة وخمسين درهمًا بين الحميلين نصفين،
فعلى دافع المائة خمسة وسبعون درهمًا فيعسها (2) قابض المائة منه ويفضل
له من المائة خمسة وعشرون يزيدها قابض المائة إلى دافع المائة.
ولو كان الصلح بمائتين لم يسترجع دافع المائة من قابضها شيئًا، لكونها
مقدار ما يظهر أنه توجه عليه بالحمالة.
فلو كان الصلح بخمسمائة لم يسترد أيضًا دافع المائة شيئًا، يؤدي قابض
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المائة.
(2) هكذا في النسختين.
(3/ 2/243)
المائة جميع الخمسمائة التي وقع الصلح
عليها، مائة منها هي التي دفع إليه صاحيه وأربعمائة منها عن نفسه،
وثلاث مائة عما التزم اداؤه عن صاحبه الذي تحمك معه، ويرجج الحميلان كل
واحد بما أدى لمن له الدين،
وإذا كانت الحمالة بثمن طعام فلما حلّ أجل الثمن طُلب الحميل به،
فأداه، ثم أراد أن يأخذ من الغريم الذي أداه عنه طعامًا من صنف المبيع،
أو من غير صنفه، أقلَّ من كيله أو أكثر، فذلك جائز، ولا يحل الكفيل ها
هنا محل من تكفل عنه بثمن الطعام المبيع, لأن مشتري قمحٍ بمائة دينار
إلى أجل، إذا حل فأراد أن يمّضى عن المائة دينار فولًا أو طعامًا غيره،
لم يجز ذلك، على ما قدمناه في كتاب البيوع, لأنهما لتهمان على أن أظهرا
بيع قمح بدنانير، وأبْطنا بجع قمح بفول إلى أجل وبحع الطعام يالطعام
إلى أجل لا يجوز.
ولا يتصور هذا في الحميل بدنانير إذا أراد أن يأخذ من الغريم، عنها
طعامًا, لأنه لم يخرج من يده إلا دنانير وهي التي أداها بالحمالة، ورجج
إلى يده عوضًا عنها طعامٌ، وبيع دنانير (وطعام) (1) بطعام إلى أجل
جائز.
وإذا كان بائع القمح هو الذي أخذ عن ثمنه فولًا، خرج من يده قمحٌ ورجع
إليه بعد مدة فولًا، وذلك لا يجوز. وكأن ظاهر هذه العلة تقتضي أن بائع
القمح لو كان قد تسلف دنانير مثل ثمن القمح من رجل، وأحال بها على
الرجل الذي باع منه القمح ألاَّ يمنع هذا المحال، أن يأخذ طعامًا ممن
أحيل, لأنه لم يخرج من يده طعام ثم رجج إليه طعام عوضه، لكن يمنع من
ذلك ها هنا لأن هذا المحالَ يَدُه كيد المحيل له، وكأنه عنه يقبض، ألا
ترى أن المحيل لو غرّه بفلَس المحال عليه لكان له الرجوع على من أحاله،
فلما كانت يد المحال كيد المحيل له، وهو بائع القمح، وبائع القمح لا
يجوز له أن يأخذ من ثمن طعامه طعامًا، فكذلك من حل محله، وكانت يده
كيده.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف (وطعام).
(3/ 2/244)
وإذا تحمل من طعام من سَلَم فدفع إلى
الحميل الذي تحمل عنه بالطعام دنانير لشتري بها طعامًا، ويقضيه عنه،
فدفع الحميل ذلك الطعام من عند نفسه، فاتصل ذلك بالذي عليه السلَم
فأجاز فعله، لم يمنع من ذلك.
ولو كان أعطاه الدنانير ليدفع عنه بها طعامًا من عند نفسه لم يجز ذلك
إلا أن يكون قبضه منه أو وكّل من يقبض ذلك منه، ثم يقضيه عنه لمن له
السلم.
ولو وكل الحميلَ بدفع ذلك عنه، فإنه تردد القول فيه عندنا: فقيل: يجوز.
أو لا يجوز (وها الآن بما) (1) وأشاروا إلى ضعف الجواز وارتفاع المنع.
وإذا تكفل الكفيل بطعام في الذمة، فتطوع لمن تحمل له بأن يعجله قبل
الأجل على صفهّ ما هو عليه، لم يمنع من ذلك، كما قدمناه.
ولو أن أجنبيًا لم يتحمل، تطوع بدفع هذا الطعام إلى من استحقه على أن
يحيله على غريمه يقضيه منه عند أجله، لم يجز ذلك, لأن الحوالة كالبيع،
فيصير ها هنا من له الطعام كبائع له قبل قبضه من الذي أخذ منه الطعام
وأحاله به على غريمه.
وقد تعقب بعض الأشياخ هذا، وأشار إلى أن الحميل قبل الأجل لم تتوجه
عليه مطالبة، فإذا دفع قبل أن يتوجه عليه، صار كالأجنبي التي (2) لم
تتحمل. لكنهم لما رأوا أن الحميل تتوجه عليه المطالبة إذا حل الأجل،
كما تتوجه على الغريم المتحمل عنه إذا حل الأجل، فارق ذلك حكم الأجنبي
الذي لم يتحمل ولم تجب عليه مطالبة لا في الحال ولا في المآل ..
وإذا تقرر حكم الحميل وأداء الدين الذي تحمل به، فلا يخلو: إما أن
يؤديه من عند نفسه من شيء ملكه قبل المطالبة بالحمالة، أو يشتريه بثمن
ثم لا يخلو ذلك أيضًا، في الوجهين جميعًا، من أن يكون ما أدّى مكيلًا
أو موزونًا
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذي.
(3/ 2/245)
أو عرْضًا مما يقضى فيه، في الاستهلاك،
بالقيمة.
فأمّا إذا أدى من شيء قد تقرر مِلكه عليه، وكان مما يكال أو يوزن رجع
بمثله على من أداه عنه، من غير خلاف, لأنه كالمسلف لمن أداه عنه، ومن
أمملف مكيلًا أو موزونًا فإنما يرجع بمثله.
وإن كان الذي أداه من ملك نفسه حيوانًا أو عروضًا فمذهب أشهب وغيره من
أصحاب مالك أنه يرجع أيضًا بمثله كما يرجع أيضًا بذلك في سلف العروض.
واختلف قول ابن القاسم فيه: ففي الموازية عنه: أنه يرجع بمثله كما قالت
الجماعة. وفي الواضحة أنه يرجع بقيمته كما يرجع بالقيمة في العروض في
البياعات الفاسدة والاستحقاقات والاستهلاكات.
وأمّا إن كان كُلِّف القضاءَ فاشترى ما يقضيه بثمن، فإنه يرجع بمثل
الثمن الذي اشترى به، سواء كان ما اشتراه وقضاه مكيلًا أو موزونًا أو
عروضًا، ولا يعتبر في ذلك قيمة العروض لأنه لما كلف شراءه، صار ذلك
كأنه وقع بإذن الغريم الذي تحمل عنه، فكأنه أسلفه الثمن فلا يرجع عليه
إلا به.
ولهذا التعليل اختار بعض المتأخرين التفرقة بين أن يكون تحملا عنه
بإذنه أو بغير إذنه: فإن تحمل عنه بإذنه صار كالإذن له في السلف. وإن
تحمل عنه بغير إذنه لم يكن له رجوع إلا بالأقلّ مما اشترى، أو قيمة ما
أدى عنه لأن
الغريم يقول: من حقي إذا كنت معسرًا التأخيرُ، فأنت أضررت بي في تعجيل
ما يجب تأخيره، فإذا كانت القيمة الآن الأقل فلا أعطيه أكثر منها.
تم كتاب الحمالة والحمد لله.
(3/ 2/246)