شرح التلقين

كتاب الاستحقاق

(3/ 2/247)


{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وصلِّ الله على سيدنا محمَّد وسلم
كتاب الاستحقاق

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب، رحمه الله تعالى ورضي عنه، في
فصل تضمن أحكام الاستح قال:
ومن بني أرضا أو غرسها، ثم جاء مستحقها، فلا يخلو الباني أو الغارس
أن يكون غاصبا، أو مبتاعا - من غاصب، أو محيا مواتا.
فأما الغاصب فللمالك أخذه (بقلع أو بغرس) (1) أو دفع قيمته (2) إليه
مقلوعا بعد حط أجرة القلع.
وأما المبتاع من غاصب فلا يخلو أن يكون عالمًا بأن البائع غاصب أو غير
عالم:
فإن كان عالمًا فحكمه حكم الغاصب. وإن كان غير عالم فالملك لمالكه، ويدفع إلى الباني أو (3) الغارس قيمة العمارة قائمة. فإن أبي دفع الآخر إليه قحمة أرضه براحًا. فإن أبى كانا شريكين بقدر قيمة اليراح براحًا وقيمة العمارة قائمة.
__________
(1) هكذا في النسختين. وفي المغربية: يقلع بنائه وغرسه. وفي الغاني: بُنيانه.
(2) في الغاني: قيمة
(3) في المغربية: والغارس.

(3/ 2/249)


وحكم المحيي مثل ذلك.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة عشر سؤالا، منها أن يقال:
1) ما الدليل على أن مستحق الأرض يستردها ممن هي في يديه؟
2) وما الحكم فيه إذا استردها؟ هل تسترد بثمن أم لا؟
3) لو وَجد من هي في يديه قد أحدث فيها حدثا، هل يمنعه ذلك من أخذ المستَحَق أم لا؟
4) وهل إذا مُكِّن من أخذها يعطي البانيَ والغارسَ قيمة ما بني وغرس، قائما أو منقوضا؟
5) وما الحكم في مشتري منافع الأرض دون رقبتها إذا بني أو غرس؟
6) وما الحكم في زارع الأرض بوجه شبهة أو تعّديا منه؟
7) وما الحكم فيمن بني بناء يُحزم (1) في أرض لا تحزم (1)؟ أو بني ما لا حرمة له في ارض محترمة؟
8) وما الحكم فيمن كانت في يده رِباع بوجه شبهة فأكراها، وحابط (2) في كرائها؟
11) (3) وما الحكم في المستحِق إذا أجاز الكراء، هل للمكتري في ذلك مقال؟
12) وما الحكم في دعوى المشتري ضياع ما استُحِق من يديه؟
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يحترَم.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حَابَى.
(3) سقط السؤال العاشر من تعداد الأسئلة.

(3/ 2/250)


12) وما الحكم في استحقاق المعاوضة عن الدعاوي؟
13) وما الحكم في الاستحقاق إذا وقعت المعاوضة؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
ما (1) الدليل على تمكين المستحق للشيء إذا لم يكن أزال ملكه عنه، بأنه يعلم ذلك من قواعد الشرع ضرورةً، كما يعلم تحريم الزنى ضرورة، من غير حاجة إلى إسناد ذلك إلى حديث يُروى.
ثم لو سلكنا إثبات هذا بالاحاديث لكانت كثيرة، كقوله عليه السلام في خطبة الوداع، "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم" هذا الحديث المشهور، وقد أضيف ذلك إلى النبي عيه السلام، وذكر أنه قاله في مجمع عظيم، وهي الحَجة التي (2) عَقِبها وحج المسلمون فيها، فلو كان الراوي لهذا كاذبا لكذّبه كلّ من حضر.
وكقوله "على اليد أن ترد ما أخذت حتى تؤديه" (3) وكقوله "كل ذي مال أحق بماله" (4) وقوله "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (5) وكقوله عليه السلام "من أحْيي أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" (6).
وخرج أبو داود عن عروة: "أن رجلين اختصما إلى النبي عليه السلام: غرس أحدهما نخلا في أرض آخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (ما).
(2) هكذا في النسختين، ولعل هنادَ سقطاهو: تُوُفى.
(3) فتح الباري: 4: 322، 323 كتاب بالحج: باب الخطبة أيام مني [هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهي الحجة التي مات عقيبها].
(4) تقدم تخريجه
(5) فيض القدير: 5: 20 جد. 6305 ..
(6) سبق تخريجه.

(3/ 2/251)


صاحب النخل أن يخرج نخله" (1)

فاقتضى مجموع هذه الأحاديث تمكينَ الإنسان من ماله الذي أُخذ منه بغير حق مع قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2).

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلفت الأحاديث في مستحق ماله الذي لم يسقط ملكه عنه وهو في يد مشتريه هل يأخذه بثمن أو بغير ثمن؟ فخرج النسائي وأبو داود عن سَمُرة بن جُندُب قال عليه السلام "من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق ويتبع البائع من باعه " (3). وخرج الترمذي إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قضى أنه إذا وجدها في يد رجل
غيرِ متَّهمٍ، فإن شاء أخذها بما اشتراها، وإن شاء اتبع سارقه"، قال الترمذي: وقضى بذلك أبو بكر وعمر (4) وخرج النسائي أيضًا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متَّهم يخيّر سيدُها: فإن شاء أخذ الذي سرُق منه بثمنه وإن شاء أَتبع سارقه" قال: وقضى بذلك أبو بكر وعمر (5).
فأنت ترى اختلاف ظواهر هذه الأحاديث. ففي كتاب أبي داود ما ظاهره أن المستحق يأخذها بخير ثمن، وإنما يطلب مشتريَها بثمن الذي دفعه لمن باع منه البائع الذي قبض الثمن منه. في كتاب الترمذي أن المستحق لا يأخذها إلا بعد أن يدفع الثمن إلى مشتريها، وأَضاف هذا المذهب إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وأما النسائي فروى الحديثين أحدهما مثل ما رواه أبو داود. والثاني مثل ما رواه الترمذي وكأن ما رواه الترمذي وأضافه إلى أبي بكر وعمر رضي الله
__________
(1) المندري: مختصر أبي داود: 266. حد: 2950.
(2) البقرة: 188.
(3) النسائي شرح السيوطي: 7: 314. أبو داود: البيوع: حد. 3531.
(4) أخرجه النسائي بهذا اللقظ. 7: 313.
(5) أخرجه النسائي بهذا اللفظ: 7: 313.

(3/ 2/252)


عنهما وجْهُه توخّي العدل بين الرجلين, فقد قال عليه السلام: "كل ذي مال أحق بماله" (1). وهذا يقتضي كون المستحق لا يمنع من أخذ عين ماله، والمشتري له حق أيضًا في الثمن الذي دفع، ولولا دفعه ما صارت السلعة إليه من يد السارق الذي باعها منه، فكأن مستحقها لم يمكْن أخذهُ إلا بعد ما (2) دفعه مشتريها فصار ذلك كمن فَدَى من يد اللصوص شيئًا بمال دفعه إليهم، فإن في أحد القولين، أن صاحبه لا يمكّن من أخذه من يد فَادِيه إلا بوَزْن ما دفع فاديه فيه. ولم يُذكر هذا تخريجا للخلاف عندنا في هذه المسألة من الخلاف المذكور عندنا فمن (3) فدى من يد اللصوص شيئًا هل يمنع مالكه من أخذه إلا بعد أن يدفع الفداء, لأن الفادىِ من أيدي اللصوص (يدُل فيه مال يدُلّ) (4) لمنفعة غيره على أنه يتملكه، فكأنه جرى مجرى من وإن على المسلم ماله لئلا يتلف عليه، والمشتري من السارقال في يظنه هو المالك (5) ولى يقصد بما دفع من الثمن صيانةً على ربه, لأنه لم يعلم به، وإنما قصد بذلك تملك السلعة التي باعها منه، فصار كمن غلط على مال نفسه، فدفعه لغير مستحقه. والفادي لم يأخذ مال نفسه، غلطا منه، لتحصيل منفعه نفسه.
وإنما ذكرنا هذا لما بين المسألتين من الملاحظة على الجملة، ألا ترى أن القاضي إذا شهد عنده عدلان بأن رجلًا مات، فباع تركته، ثم أتى حيّا أنه لا يمكن من أخذ السلع، التي اشترى مشتريها، إلا بعد أن يدفع ثمنها لمن بيعت منه, لأن المشترى لهذه السلع إنما يذل فيها الثمن لمنفعه نفسه، وليملكها على التأبيد، لكن ها هنا أيضًا يحكم القاضي بصحة تمليك المشتري لها عوضا مما دفع من الثمن، وهو حكم صحيح في الظاهر، وإن كان باطلا في الباطن.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِمَا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيِ مَنْ.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بذل فمِه ما بذل.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (و).

(3/ 2/253)


(والاحكام تؤخذ على الملك عنه إلى المشتري) (1) بخلاف من اشترى من السارق طوعا منه، (وقد يتعامى عن كون. ما بيع منه مستوفى) (2) ويترك البحث عنه فصار كمشارك للسارق في سرقته. ألا ترى فيَ الحديث الذي ذكرناه قال: "فوجدها في يد رجل غير متهم" وهذا كالإشارة على ما قلناه. على أنّا سنتكلم بعد هذا على تفرقته في المدونة بين كون الشهود تعمدوا شهادة الزور بموت هذا الرجلِ، أو شُبِّه عليهم. وفي كلامنا على ذلك ما يوضح ما ذكرناه ها هنا على الجملة، ان شاء الله تعالى. وهو الذي ذكرناه دليلًا على صحة ما ذهبنا إليه نحن وغيْرنا من كون المستحق يأخذ سلعته من يد مشتريها بغير ثمن يغرمه له، لقوله عليه السلام "كل ذي مال أحق بعين ماله" ولم يذكر وجوب غرامة عليه، بعمومه (3) يقتضي أنه أحق بعين ماله على كل حال، مع كون غلط المشتري لا يؤاخذ به المالك المستحق, لأن غلطه جناية عن نفسه بأن دفع الثمن لغير مستحقه، فلا يُسقط ذلك حق من استحق العين التي لم تخرج عن ملكه. وقد ذكرنا ما ذكره أبو داود في (الرجلين اللذين اختصما في نخل غرسها أحدهما في أرض الآخر فأمر عليه السلام بقلع النخل ورد الأرض على صاحبها) (4) ولم يذكر أنه غرسها غصبًا أو بوجه شبهة وشراء.

والجواب عن السؤال الثالث ان يقال:
إذا تقرر أن من استحق أرضًا من يد مشتريها من غاصبها وهم (5) لم يعلم بالغصب، أنها ترد على مالكها ولو غرسها من هي في يديه، أو بني فيها وهو
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعله مسروقًا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَعُمومُه.
(4) سبق تخريجة
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهو.

(3/ 2/254)


غاصب أو مشتريًا (1).
خلافا لأبي حنيفة لأنه ذهب إلى أن من غصب أرضًا فبنى فيها أو غرس أن صاحب الأرض (2) لم يمكن منها بل الحبهم عنده أن يعطيه الغاصب الذي بني أو غرس، قيمة أرضه.
إذ قيل ذلك في الغاصب فأحرى أن يقوله فيمن اشترى أرضا فبنى فيها بوجه شبهة، وكأنه قدر الأرض في حكم ما تلف عينه وانعدمت، فعلى متلفها غرامة قيمتها.
ورأى مالك وأصحابه عكس ما رآه أبو حنيفة، وأن صاحب الأرض أوْلى بها، وأن حكم الغرس والبناء في التَّبَع لها، وورآها أبو حنيفة في حكم التبع للغرس والبناء، فلهذا أخرج ملكَه عن صاحبها، وأعطاه قيمتها.
ولنا عليه ما ذكرناه من كتاب أبي داود من كون النبي عليه السلام أمر مَن غرس في أرض غيره بأن يقلع غرسَه، كالنص في الرد عليه. والحكم تغليب حكم الأرض علق (3) حكم البناء فيها والغرس.
وكان شيخي أبو محمَّد عبد الحميد، رحمه الله، يبني هذه المسألة على اعتبار تغليب أحد الضررين، ويرى أن مالكا، رضي الله عنه، إنما ذهب إلى تغليب حكم الأرض لكونها أكثر ثمنا مما بُني فيها أو غرس. وما عظم كان أكثر حرمة مما قلّ ثمنه. ويشير إلى أن الأمر لو كان بالعكس وكان البناء عظيما، والأرض محتقَرة، لكان البناء هو المغَلَّبَ، ويكون للباني أو الغارس أن يعطي صاحب الأرض قيمتها.
هذا على طرد هذا التعِلل، ولكنه كان يقول: ربما كانت العلة عند مالك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُشتَرٍ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على.

(3/ 2/255)


في تغليب حكم الأرض كون مِلكِها سبق ملكَ ما أُحْدِثَ فيها من البناء والغرس، والسبق له تأثير في الترجيح، لا سيما أنه مِلْك صحيح في الظاهر، خلاف ما أُحدث من البناء والغرس، وطرد هذا التعليل يقتضي ألا يفترق الحكم في كون الأرض قليلة الثمن أو كثيرة الثمن.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
إذا غلبنا حكم صاحب الأرض، وأسقطنا حكم الباني والغارس، وأزلنا ملكه عن ذلك، فإنه:
إن كان غاصبا فله نقض م ابن ي أو غرس ممن له منفعة إذا أخذه وأزاله، ولكن لصاحب الأرض المغصوبة أن يعطيه قممة بنائه وغرسه منقوضا بعد أن تُحَطَّ أجرة النقض والقلع، على ما بيناه في كتاب الغصب.
وأما إن كان مشتريا, ولم يعلم بأن من باع منه غاصب، فإن رب الأرض من حقه أن يزيل مِلْك الباني والغارس عن بنائه وغرسه بالقيمة. وهل يكون التقويم لذلك على أنه منقوض، كما قلناه في الغاصب، أو على أنه قائم؟ المعروف من المذهب: يقوَّم على أنه قائم .. وذكر شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد أنه قيل، فيمن بني بوجه شبهة، أنبما يُعطَى قممة بنائه منقوضا. وأظنه إنما حكى ذلك عن شيخه أبي القاسم السيوري أنه نقله. فإن صحّ هذا، فإنه أجراه صاحب هذا المذهب مجرى الغاصب لكون غلطه على أرض غيره لا يوجب بقاء بنائها. والمعروف من المذهب خلافُ ذلك. فكأنه لما كان له شبهة فيما أحدث لم يجر مجرى الغاصب، وقد قال عليه السلام "من أحي أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" (1) دليل هذا الخطاب أنه إذا لم يكن ظالما فلبنائه حرمة، وحرمته أن يكون قائما. وهذا يقتضي ما ذهب إليه الجمهور من كونه يُعطَى قيمةَ بنائه قائما. وقد روي عن مالك أيضًا: يُعطَى ما أنفق. وهذا ربما
__________
(1) سبق تخريجه.

(3/ 2/256)


رجع إلى القول بأنه يعطَى قيمة بنائه قائما, لأن التقويم يكون بمقدار النفقة إن لم يعئن المُنفَق. وذهب ابن سلمة إلى أنه إنما يُعطَى قيمة ما زادت قيمة بنائه وغرسه في قيمة الأرض براحا. وكأن من ذهب إلى هذا رأى ان صاحب الأرض إذا غُلِّب حكمه فمقتضى هذا لا لعطَى صاحب الأرض إلا مقدارَ ما انتفع به من فعل الباني والغارس.
وأما إذا أعطاه قيمة بنائه، وإن لم يزد البناء في قيمة ارضه فكأنه لم يغلب حكمه على صاحب النساء إذا حكم عليه بخسارة مالًا ينتفع به.
وبعض أشياخي يرى أن الأوْلى القضاء بأقلّ المذهبين، فإن كانت الزيادة في القيمة هي الأقل لم يكلَّف صاحب الأرض خسارةَّ، لما غلبناه من تغليب حكمه. وإن كان قيمة البناء أقلّ وقد رفع الضرر عن الباني إذا أعْطِيَ قيمة ما بني.
وإذا قلنا: يعطَى قيمةَ ما بني، فهل تُعتبر قيمته يوم بناه، أو يوم المحاكمة؟ في ذلك قولان، وهما مبنيان على ما كررناه مرارًا في كتاب البيوع وغيرها: أن كل أمر مترقب حدوثه ووقوعه، وهو مسند إلى سبب تقدّم إيقاعَ الحكم به، فهل يقدَّر، إذا وقع الحكم به، كأنه لم يَزَل الحكم ثابتا فيه، فيعطَى، على هذا قيمةَ بنائه يومَ بناه، أو يقدر أنه إنما تحّمل الحكم يومَ وقوعه، ولم يُلتفت إلى تقدم السبب الذي أسند الحكم إليه، فيعطَي قيمته بنائه الآن. وقد مثلنا الفروع التي تجري على هذا الأصل بما يُصحِّحُ ما قلناه.
وإذا تقرر تغليب حكم صاحب الأرض في أن له التملك بأرضه، وطرد الغارس والباني عن غرسه وينائه، لكن يعو أن يعطيه عوضا، على الخلاف في تقدير العوض، كما قدمناه، فإنه إن امتنع من ذلك، فعن مالك روايتان: أحدهما، وهي المشهورة عندنا، أن لصاحب الغرس والبناء أن يطرد المستحق أيضًا عن أرضه، كما يرى المستحقُّ في أن طرد الباني والغارس عن بنائه وغرسه، ولكن يعد أن يعطيه قيمة أرضه، فإن امتنع من ذلك الباني والغارس

(3/ 2/257)


أيضًا كانا شريكين: مستحقَّ الأرض يكون له منها ومن غرسها وينائها بمقدار قيمة أرضه بَراحًا، ويكون للباني والغارس من الأرض والبناء والغرس قيمته غرسه أيضًا ما بني أو غرس قائمًا على الخلاف الذي قدمناه. وروي عن مالك أيضًا نفي الشركة وأنه إذا امتنع مستحق الأرض من دفع قيمة البناء أجبرَ الباني أو الغارس على دفع قيمة الأرض. وكأن الذاهب إلى هذا رأى أن البناء والغرس فوت في حق الباني والغارس، إذا امتنع مستحق الأرض من أن يعطيه قيمة البناء والغرس، فجَبر الغارسَ والبانيَ على دفعْ قيمة ما أفاته باليناء والغرس. وكأنه في القول المشهور رأى أن ليس أحدهما أولى بأن يُقدَّر البناء فوتًا في حقه من الآخر. فإذا لم يترجح أحدهما عن الآخر كانا شريكين، فلا يجبر صاحب الأرض على دفع قيمة الأرض.
ولو كان من اشترى أرضًا فبناها وغرسها، ثم أتى مستحق فلم يستحق جملتها وإنما استحق نصفها، فإن النصف المستحَق يجري فيه وفي حكم بنائه وغرسه ما قدمناه في مستحق جميع الأرض، لا فرق بينهما في هذه الأحكام كلها. لكن إنما تختص هذه المسألة بالنظر في الشفعة، فإنه إذا استحَق نصف الأرض كانت له الشفعة في النصف الباقي على ملك المشتري، إلا أن يكون المستحِق لا يتمسك بنصف الأرض الذي استحق، ولكن أغرم الباني أو الغارس قيمة ما بني وغرس في النصف الذي استحقه، فإنه لا شفعة له، على أحد القولين فيمن كان له نصيب في دار لأجله وجبت الشفعة فيما بيع منها، فباع النصيب الذي به يستشفع قبل أن يأخذ الشفعة. ولو أنه أعطى الباني أو الغارس قيمة بنائه وغرسه في جميع الأرض لمالك (1) جميعها النصف بالاستحقاق والنصف بالشفعة.
وإذا لم يعط قيمة البناء، ولا اعطى الباني أو الغارس قيمة الأرض، وكانا شريكين، فالمذهب على قولين في كونه يستحق جميع النصف الذي اشتراه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمَلَكَ.

(3/ 2/258)


المشتري، أو يسقط من الشفعة بمقدار ما سقط من ملكه في النصف في المستحَقال في به وجب له الشفعة لأجل الشركة فيه. وهذا يبسط في كتاب الشفعة إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إذا اكترى رجل دارًا أو أرضا مدة معلومة من مشتري الأرض والدار، فأتى مستحق فاستحق الأرض أو الدار بعد أن مضى بعضُ مدة الكراء، فإن ما مضى من المدة لا سبيل إلى رده وارتجاعه، وكذلك لا سبيل للمستحق في أخذ كرائه, لأن ذلك يقضى به المشتري (1)، لآن الاستحقاق من يد المشتري بوجه شبهة لا توجب عليه رد الغلة إلى المستحق، كما سنبينه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
وأمّا ما بقي من المدة فإن للمستِحق أن يجيز عقد مكتريها، وهو مشتري الأرض بالمسقى الذي وقع به العقد، ويصير كمن بيعت سلعة (2) بغير إذنه، فإن له أن يجيز بيعها، ويأخذ الثمن، ولكن بعد أن يعلم مقدار ما ينوب باقي المدة من الإجارة التي عقد بها البيع، لئلا يكون كمبتدى عقد كراء مدةً بثمن مجهول لا يعلم مقداره. وهذا على أحد القولين في جمع السلعتين، وفيمن اشترى عشرة ثياب فاستُحِق منها ثمانية فأراد أن يتمسك المشتري بالاثنين الباقيين منهما، فإنه يمنع من ذلك في المدونة، وأجيز في كتاب ابن حبيب.
وهذا الخلاف انبنى على من ملك أن يملك هل يعد مالكًا (أو أن يقدر كالمالك) (3) (إلا اختار أحد الوجهين اللذين خير بينهما) (4).
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: للمشتري.
(2) هكذا في النسختين. ولعك الصواب: سلعتة.
(3) هكذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين.

(3/ 2/259)


وقد تقدم بسط هذا الاختلاف في كتاب البيوع، وذكر سبب الاختلاف ولو كان هذا المكتري للأرض عشر سنين, مثلًا، يبني ويغرس، ثم أتى مستحِق فاستحق الأرض، فإن ما نص (1) من مدة الكراء مقدارُ كرائه لمكري الأرض الذي اشتراها، وما يُستقَبل من الزمان إلى انقضاء العشر سنين الحكمُ للمستِحق، فَيُخَيَّرُ بين إجازة العقد، وردّه، ويبقى الشجر والبناء بقيمة العشر سنين، فإذا انقضت أُمر الغارس أو الباني بقلع بنائه وغرسه، أو يعطيه قيمتَه منقوضا بعد أن يحطّ من ذلك أجرة النقض.
وهذا لما بيناه في كتاب الغصب.
وأما إذا لم يجز الكراء، واختار فسخ ما بقي من مدة الكراء، فإنه لا يلزمه أن يُبقي الغرس والبناء يقية مدة الكراء لأنه كمن استحق سلعة بيعت بغير إذنه فله فسخ العقد فيها وردها إلى يديه. ولكن في مقابلة هذا كون المكتري الذي غرس وبنى بوجه شبهة يلحقه الضرر في إفساد ملكه، وإبطال الانتفاع به بقية المدة التي اكتراهًا، كما يلحق الياني في أرض اشرّاها الضرر في قلع بنائه وغرسه، فلهذا أعطيناه قيمة البناء والغرس قائمًا. وهكذا قال في المدونة في المكتري إذا فسخ المستِحقُّ للأرض بقية مدة الكراء، فإن يُعِطي المكتري الذي بني أو غرس قيمة بنائه أو غرسه قائمًا، ويرجع المكتري الذي بني وغرس على ما (2) أكرى منه بما ينوب المدة التي فسخ كراءها مستِحق الأرض، كما يرجع من اشترى سلعة فاستِحقتْ من يديه (قيمتها عن) (3) من باعها منه.
وقد أكثر المتأخرون من الاشياخ القدح في هنا الجواب بأن قالوا: أما قوله: إن المكتري إذا فُسِخت عليه بقية كراء المدة، وأعطِي قيمةَ بنائه وغرسه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَضَى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقيمتها على.

(3/ 2/260)


قائمًا، فكيف يصح رجوعه عن المكري منه بجميع ما قابل من الكراء بقيةَ هذه المدة، وهو قد أخذ بقية قيمة المدة من مستحق الأرض لمّا اعطاه قيمة بنائه وغرسه قائمًا، ومعنى كونه قائمًا أي باقيا في الأرض، فلا يصح أن يرجع بالثمن الذي أعطاه المكري، وبقيمته ذلك على مستحق الأرض، فيكون قد أخذ ثمن ما اكتراه مرتين، وهذا لا يصح.
وكذلك أيضًا عارضوا قوله في المدونة: إن المستِحق يعطي للباني أو الغارس قيمة بنائه قائمًا، فيصير قد قوّم له مالًا يملكه، وهو جزء من الأرض التي بطل عقْد كرائه فيها.
وقد كنا نحن قدمنا ذكر الخلاف في مستحق الأرض من يد مشتريها، وقد بني فيها أو غرس، هل يجب على المستِحق أن يعطي الباني قيمة ما زاد بناؤه وغرسه في الأرض أو لا يعتبر ما زاد، ولعطيه قيمة بنائه وغرسه قائمًا؟
فإن قلنا: إنه إنما يعطى ما زادت قيمة البناء والغرس في قيمة الأرض برأحا، فإنه يقال ها هنا: ما حكم قيمة الأرض براحا؟ فيقال: مائة دينار، ثم يمّال: كم قيمتها بهذا البناء والغرس؟ فيقال: مائة وخمسون دينارا. فنعلم أن مستحق الأرض إنما انتفع من قِبَلِ الباني أو الغارس بخمسين دينارًا، فيقضى له
بها.
وأما إذا قلنا: مستِحق الأرض يعطي البانَي أو الغارس، وقد اشترى الأرض وغرسها وبنى فيها، قيمة بنائه وغرسه قائما، فإن مَحْمَل قوله في المدونة، في مكترٍ غرس الأرض التي اكتراها وبنى فيها: إنه يقضَى له بقيمة بنائه وغرسه قائمًا. المراد بهذا الإطلاق: قائما في الأرض إلى انقضاء العشر سنين التي عقد الكراء عليها. ولم يرِد قائما قياما مؤبّدا, لأن المكتريَ لم يملِك التأبيد في إبقاء الغرس أو البناء على التأبيد، فكيف يقوّم له ما لم يعاوِض عنه ولا إستحقه ولا دخل في ملكه؟
وبعض المتأخرين يشير إلى إبقاء هذا اللفظ الذي في المدونة على

(3/ 2/261)


إطلاقه، ولكن بعد إن يصوّر التقويم على صفه (يخلى فيها) (1) من اعترض ما وقع في المدونة بما ذكرناه، فيقول: إنما يصح إطلاق هذا اللفظ على أن تكون صفة التقويم ان يقال: بكم يبقى هذا البناء؟ وما قيمته مبنيا؟ غيرَ ملتفتٍ في ذلك إلى هدمه بعد مدة معلومة، أو إبقائه على التأبيد, لأن من استأجر بناء يبقى له في أرضه، فإنه إنما يقع بينه وبينه المكايسة فيما يأخذ في اليناء خاصة، ولا يلتفت المكري والصانع إلى كون ما يبنى يهدم بعد سنة أو بعد عشر سنين. فإذا لم تختلف الإجارة في أمد هدمه، لم يحصل في ذلك ما اعترض به من كون الباني قد قوّم له جزء من الأرض لا يملكه.
وعبر بعضهم أيضًا عن هذا المعنى، محاولًا دفع ما ذكرناه من الاعتراض يكون الباني قد قوم له جزء من الأرض، فإن صفة التقويم أن يقال: بكم يُشترى هذا البناء على أن يضعه مشتريه في البقعة التي بني فيها، إذا كان مالكَها وهي براح؟ فإذا فُعِل هذا سقط الاعتراض. أو يكون الباني أو الغارس قد قِوّم لهما جزء من الأرض. ولو امتنع المستحق من قيمة البناء والباني امتنع أيضًا من دفع قيمة الأرض كانا شريكين بقيمة البناء قائمأوقيمة الأرض براحا، لضعف الاعتراض لكون الباني والغارس قد قِوّم لهما جزء من الأرض، وهما لا يملكانه, لأنا إذا أدخلنا في التقويم للأرض براحا مغارسَ الشجر وأساسَ البناء، فلم يُظلَم صاحب الأرض. وكذلك أيضًا إذا قومنا للباني والغارس بناءه قائمًا، فيتساوى، هو ورب الأرض، في تقويم هذا الذي هو مغارس البناء, لأنّا لم نسقط حق صاحب الأرض في تقويمه إذا أراد الشركة بقيمة الأرض.
وقد يقال، عندي، في دفع هذا الاعتراض الذي ذكرناه: إن مستحق الأرض لما كان قادرًا على أن يُلزم البانَي، والغارسَ قيمة الأرض براحا، فعدَل عن ذلك إلى أن يغرم الباني (2) والغارس قيمة بنائه وغرسه الذي فعله بوجه شبهة، وباعتقادٍ انه يملك ذلك على التأبيد، في حق المشتري إذا كان هو
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للباني.

(3/ 2/262)


الغارسَ أو في حق المكتري، أي الأجل، صار عدول رب الأرض عن تقويم الغارس والباني قيمة الأرض براحا، كالرضى بإمضاء ما فعل، وتصويب ما اعتقد من أنه يفعل ذلك على جهة الملك المؤبد. وإذا قررنا الأمر كذلك سقط الاعتراض الذي ذكرناه.
وإذا اكترى الأرض ليزرعها، وقد اكتراها من مشتريها، فأتى من استحقها قبل أن يحرثها مكتريها فواضح حكم ذلك: أن له فسخ العقد، ومنع المتكري منها. فإن أتى المستحق وقد حرثها المكتري، ولكنه لم يزرعها، فيه قولان:
هل يغرم المستحق قيمة الحرث أو يأخذ الأرض ولا غرامة عليه لذلك؟ وهذا مبني على الاختلاف فيما فعله الغاصب في دار غصبها مما ليس بعين قائمة ولا يتميز كالتزويق، فإن فيه اختلافا، فإذا تسلم الدارَ صاحبُها فقيل: يتسلمها ولا غرامة عليه، وكأنه الأَشهَر في أصل المذهب.
وأما المشتري إذا فعل مثل ذلك، فقيه أيضًا اختلاف، وكأنّ الأشهر في أصل المذهب أنه يلزم المستحق قيمةُ ما عمل.
وقد اشتهر فيمن اشترى قمحا فطحنه، فأتى رجل فاستحق القمح، فوجده مطحونًا، هل يأخذه ولا غرامة عليه في الطحن، أو يغرم قيمة الطحن؟
وإذا قلنا: إنه إذا استحق الأرض فإنه يغرم أجرة الحرث، فإن امتنع غرم له المكتري كراء السنة التي اكتراها أو حرثها زرعا، فإن امتنع المكتري أيضًا من ذلك فقيل: تسلم الأرض. وعلى الطريقة الأخرى يكون هو ورب الأرض شريكين في حرث هذا العام.
وهذا كالاختلاف في قطع الثوب الذي دفعه القصار إليه غلطا منه عليه، فيقطعه (1) قابضه وخاطه، فإنه اخُتلف فيه إذا امتنع مستحقه من أجرة الخياطة، وامتنع الذي خاطه من دفع قيمة الثوب، هل يسِلّمُ الثوبَ مخيطًا، أو يسلمه ويكون شريكًا بمقدار الخياطة؟
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فقطعه.

(3/ 2/263)


ولو اتى المستحق وقد زرع المكتري الأرض، فإنه ليس له قلع زرعه, لكونه وضعه يوجه شبهة، وليس له أن يتلف مال غيره إذا لم يكن تعدى من استحق الأرض من يديه في الزراعة، ولكن يأخذ المستحق كراء الأرض إن كان استحقها في الإبان, لأن زراعتها قد منع ربها من الانتفاع بها، وكان الأصل أن لمستحقها قلع الزرع، ولكن صيانة الأموال عن التلف اقتضت منعه من ذلك.
ولكن أيضًا لا يلزمه أن يصون مال غيره بإتلاف مال نفسه، فلهذا كان له كراء هذا العام.
ولو أتى بعد انقضاء الإبان (لم يكن للكراء) (1)، وكان كراع هذا العام لمشتري الأرض الذي أكراها, لأن الزارع لم يمنعه من الانتفاع بها، إذ لا قدرة لمستحقها عن الانتفاع بها إذا (2) ذهبت أيام الزراعة. وقد قال ابن الماجستون:
لو استحقها المستحق، وقد مضى بعض أيام الابان، ففضْل ما بين الكراء في أول الإبَّان ويومَ جاء المستحق، يكون لمكري الأرض قدرُ ما مضى من الإبان كفوت جميعه.
ولو خوصِم المستحق في استحقاقه فلم ينقض الخصامُ حتى مضى الإبان، ففيه قولان: هل يكون الكراء للمستحق، أو يكون الكراء لمكري الأرض, وهذا على الخلاف في المُتَرَقّبَات إذا ودعت مسنَدة لأسباب متقدمة، هل يقدر كأن الحكم وقع في تاريخ السبب الذي يستند إليه الحكم، أو أنه وقع يوم الحكم؟
وقد عهلم الخلاف في المدونة فيمن اعتق عبده في سفر، ثم قدم، فأنكر العتق، وقدم من يشهد عليه بعد إنكاره، فحكم بالشهادة، هل يقدّر كان الحكم يوم أعتق في سفره أو الآن وقع؟
وقد يقال ها هنا: إن مدافعة المستحق إن كانت بتأويل ووجهِ شبهة، فإنه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم يكن له الكراء.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ.

(3/ 2/264)


يحسن القضاء بإسقاط حقه في الكراء، وإن كانت المخاصمة له بباطل واضح، فإن الكراء يكون له،
وقد حضرتُ مجلس الشيخ أبي الحسن اللخمي وقد استفتاه القاضي في امرأة دعت زوجها للدخول فأنكر النكاح، فأثبتته عليه، فأفتاه بأنه تعتبر مدافعته لها في النكاح هل كان من الزوج بتأويل وشبهة فلا يطالب بالنفقة أيام الخصام، أو دافعها بباطل واضح فيكون كالغاصب لها حقَّها في النفقة فيقضى لها بذلك؟ وهذا نحو ما أشرنا إليه نحن في هذه المسألة.
ولو كانت الأرض تزرع بطونا لكانت كالسكنى، فما مضى من البطون لمكري الأرض، وما بعد ذلك من يوم الاستحقاق (1) ويكون للمستحق، لكون الأرض التي تزرع بطونا يمكن مستحقَّها أو (2) يزرعها يوم استحقها، فأشبهت السكنى.
وقد كان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يشير إلى التردد في السكنى، لأجل أنه إذا أكرى المشتري الدار وانتقد الكراءَ، وهي مأمونة، صارت بقيةُ السنة كالمقبوض، كما قالوا في أرض النيل إذا رويت: إن المنافع كالمقبوضة.
وإن كانت بقية الستة في الدار المأمونة كالمقبوض منافعها، صار ذلك كما لو أتى المستحق وقد انتقضت (3) جميع السنة.
وهذا الذي تردد فيه بعيدٌ عما يقتضيه جميع روايات المذهب في أحكام الاستحقاق, لأن ذلك إنما يحصور فيه قبض ما لم يوجد في أحكام أُخَر، مثل: لو أكرى داره خمس سنين بخمسين دينارًا فهل يزكي الخمسين كلَّها إذا مَضى حول واحد, لأن بقية الخمس سنين كالمقبوض، ولا خلاف أن السنين كلها لو
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَنْ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: انقضَتْ.

(3/ 2/265)


انقضت لو جبت زكاة الخمسين دينارًا .. أو يقال: لم تلزمه زكاة الخمسين دينارًا لجواز ان تتهدم الدار فيجب رد بعض ما انتقد من الكراء.
ففي مثل هذا يحسن الخلاف فيما بين المكتري والمكري. وأما المستحق فلم يختلف فيه أنه من يوم الاستحقاق ملَك المنافعَ التي توجَب فيما بعد، وإذا لم يختلف في ملكه لها لم يُختلف في استحقاقه لما قابلها من الكراء.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
من زرع ارضا في يديه فلا يخلو من قسمين: أَحدهما ان يكون يعتقد ان زرعها له مباح. أو يعتقد أنه حرام عليه.
فإن اعتقد أن زرعها مباح له، فلا يخلو من قسمين:
أحدهما أن يكون اعتقد الإباحة لكونه بذل فيها عوضا لمن باعها منه، وهو يظن أنه مالكها، أو اعتقد الإباحة، وبم يبذل فيها عوضا, لأنه أحياها وهي أرض ميتة، أو ورثها.
فأما من بذر فيها، وهو يعتقد الإباحة، وقد بذل عوضا أو لم يبذل عوضا، فإنه لا يخلو الذي أتى فاستحقها من أن يكون صادفه ولم يصنع فيها سوى الحرث خاصة، أو صنع فيها الحرث والبذل (1) وقد انقضى الإبان قبل ان يأتي، أو لم ينقض. فإن لم يفعل فيها مشتريها بعوض، أو محييها، سوى الحرث، فإن مطالبته لمستحقها بقيمة الحرث يجري على القولين فيمن اشترى قمحا فطحنه فحكم لمستحقه بأخذه، فهل يغرم قيمة الطحن؟ فيه قولان. وقد تقدم ذكر ذلك والإشارة إلى علّته.
وإن كان المستحق لم يأت، وقد انقضى إبان الحرث، فلم يختلف المذهب في أنه ليس له قطع ما زرعه الزارع في هذه الأرض بوجه شبهة، وذلك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: البذر.

(3/ 2/266)


لأجل أن الزارع قد خسر مالًا في الحرث والبذر معتقدًا أنه مما يباح له ملكه، فلو مكنا المستحق من قلعه ظلمنا الزارع، وهو لم يقصد الظلم ولا اعتقده، ولو منعنا المستحقَّ أيضًا من أن يقلع هذا الززع، ومنعناه أيضًا من أن يأخذ كراءه لظلمناه وحرمناه الانتفاع بماله، وهو يمكنه إذا قلع زرع الزارع أن يزرع في الأرض لنفسه، فيكون قد أبطلنا ملكه ومنعناه من الانتفاع به، لأجل المخافة أن يتلف مثل ذلك على الزارع، وهو غير مالك، وهذا ظلم للمستحق، فإذا منعناه من قلع الزرع صيانة بمال (1) الزارع، وأعطيناه العوض صيانة لماله أن يحرم منفعته ويمنع من زراعته كُنّا قد عَدَلْنا بينهما.
أما إذا أتى المستحق بعد ذهاب الإبان، فذلك أحرى ألاّ يمكَّن من قلع زرع الزارع، ولكن لا يعطيه عوضا, لأنّا لو قلعنا الزرع لم يُفِدْ ذلك المستحقَّ شيئًا، بل تبقى الأرض عارية من الزراعة لا منفعة له بها، فلا يجب أن يعطيه قيمة منفعة ولم يتمكن من الانتفاع، ولا تُتصور له منفعة.
وإذا حكمنا للمستحق بكراء الأرض إذا أتى إبان الزراعة، فإن له الأكثرَ من المسمَّى إذا كان مشتري الأرض قد أكراها. أو قيمة كرائها لأنه لا يلزمه أن يُبقيَ الزرع على عوض دون القيمة، والمغبون في القيمة، أو الواهب لبعضها، غيرُ مالكها، فلا يلزم مالكَها ما وهبه من لا يملكها.
وأما إذا كان زارعا متعديا غاصبا للأرض، فإنه إذا أتى مستحقها, ولم يحدث غاصبها حرثا، فواضح تمكين مستحقها منه. وإن كان غاصب الأرض لم يحدث فيها سوى حرثها، فهل يطلُبُ المستحق لها، إذا أخذها، بقيمة الحرث أم لا؟ على القولين المذكورين في كتاب الغصب فيما أحدثه الحادث من حوادث ليست بعين قائمة ولا تتميز كتزويق الحيطان في الديار.
وأما إن أتى المستحق، وقد حرثها الغاصب، وبذر فيها، فإنه إن كان لو قلع لا منفعة للغاصب فيه، ولا له قيمة من المستحق من أخذ الأرض ما فيها،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمالِ.

(3/ 2/267)


إذا لا فائدة للغاصب فيما نقله (1) منها، وابقاؤه في الأرض لمالك الأرض فيه فائدة. فقدم حقه على حق الزارع. ولكن مع هذا لَوُ أَشَارَ ربّ الأرض ألاّ يقبل هذه القائدة، ويقول للغاصب. اقلع هذا الزرع, لأن ملككَ خبيث، حتى أرزع أنا مكانه من مالي. لكان من حقه. فلو أراد مستحق الأرض ألاّ يأمره بالقلع ولا يقبل هذا الزرع ليملكه بتفسه، ولكن رضي بأن يبقى الزرع بكراء يأخذه من الغاصب بذلك، فإن في الموازية: المنع من تراضيهما بذلك, لأنه لما قدَر صاحب الأرض أن يبقي الزرع لنفسه بغير عوض ييذله فيه، صار للغاصب على معنى كراء يأخذه منه، فإن ذلك، وإن سمي كراءً، فإنه شراء من الغاصب لهذا الزرع الذي ملكه مستحق الزرع ليبْقيه لنفسمعتى يحصده بغير عوض يبذله له.
وهذا الذي قاله ابن المواز إنما يتضح عندي على إحدى الطريقتين المشهورتين في المذهب: مَن ملك ان يملك هل يعد كالمالك أم لا؟ في ذلك قولان. وهذا لما خُيِّر بين أن يأمر الغاصب بقلع هذا الزرع ليتمكن من زراعة أرضه بمال نفسه، وبين أن يصرف الغاصب عنه ويبقيه لنفسه باطلا، صار كأنه اختار إبقاءه لنفسه، ثم بعد اختياره لذلك باعه من الغاصب الزارع على التبقية أن يحصده الغاصب، ويأخذه، وبيع الزرع قبل بدوّ صلاحه على التيقية لا يُختلف في منعه.
وأما إذا قلنا بأنه لبم يختر ملك هذا الزرع، وإنما اختار قلعه، فصار الغاصب كأنه قلعه، ثم استأنف عقد كراء في زراعة هذه الأرض، فإن ذلك لا يتصور فيه كون الكراء ها هنا كالشراء للزرع.
وأما إن أتى مستحق الأرض وقد صار الزرع إذا قلع انتُفع به، وصار له ثمنٌ ولكن الإبّان لم ينقضِ، فإن له أن يأمر الغاصبَ بقلع الزرع ليزرع الأرض وإن أراد ألاّ يأمر الغاصب بالقلع، ويهعطيه قيمته مقلوعا، ويبقيه لنفسه، ففيه قولان، هل يجوز ذلك، لكون الحكمِ قلعَ الزرع إذا شاء المستحق، فكأنه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قَلعَه.

(3/ 2/268)


اشتراه بعد قلعهِ ببيْعته واعاده إلى أرضه، أو يقال: لما كان من حق الغاصب أن يأخذه ليبيعه، أو لترعاه دوابه، صار ما أخذه فيه من المستحق ليبقى في الأرض كابتداء بيع زرع مَلَكَ أخْذَه قبل أن يبدو صلاحه، وعقد فيه بيعا على أنه يبقى لمشتريه، وهو المستحق إلى أن يبدو صلاحه.
وقد تقدم ما يعرف منه سبب هذا الخلاف لما ذكرنا في الموازية من تصور كون الكراء كالشراء في المسألة التي فرغنا منها الآن.
وأما إن أتى مستحق الأرض بعد ذهاب إبان الزراعة، ففيه روايتان: المشهور منهما أنْ ليس له أن يأمر الغاصب بقلع زرعه لأن في ذلك إبطالا لمال الغاصب، واتلافَه عليه من غير منفعة لمتلفه. وهو المستحق، إذ لا يمكنه ان يزرع هذه الأرض بعد مضي الإبان، والرواية الأخرى إن لمستحق الأرض أن يأمر الغاصب بقلع هذا الزرع، وإن كان بعد ذهاب الإبان، لقوله عليه السلام "ليس لعرق ظالم حق" (1) وهذا الغاصب ظالم، فلا يجب أن يكون لعرقه حق، والتبقية حق، وقد نفى عليه السلام أن يكون له حق.
وأما إن أتى هذا المستحق وقد حصد الغاصب الزرع وجمعه، فالمعروف من المذهب عند مالك وأصحابه أن الزرع للغاصب، وعليه كراء الأرض، وهو عوض المنافع التي قد أفاتها الغاصب، وصارت معدومة، ومن غصب شيئًا فأتلف عينه فإنما عليه قيمته. وروى الداودي في كتاب الأموال عن مالك رواية شاذة: إن الزرع لصاحب الأرض، وعليه للغاصب ما أنفق في ذلك. ومال إلى هذا المذهب، واحتج فمِه بحديث مروي، والحديث الذي احتج به خرّجه الترمذي فقال الترمذي في كتابه: قال النبي عليه السلام "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فالزرع لرب الأرض وعليه ما أنفقه" (2) واححج الداودي لصحة هذه الرواية الشاذة عن مالك بأن من غصب أمة فولدت، فإن ولدها يكون لصاحب
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) الترمذي: السنن: 3/ 41. حد. 1366.

(3/ 2/269)


الأم، وقدّر أن النطفة كالبذر، والنماء في بطن الجارية كالنماء في بطن الأرض.
وقد ورد هذا السؤال إلى المهدية، وشيوخ الفتوى فيها متوافرون، فأفتى السُّلَمي، وهو اشهرهم وأفقههم مُنْذُ نحو ستين عاما، بأن الزرع لرب الأرض.
واحتج بما احتج به الداودي، وسطره في جوابه معتمدا عليه، وكأنه نسب هذه الحجة إليه، ووافقتُه أنا في الفتوى حينئذ باختيار هذا القول، وكان معنى الجواب الذي كتب في ذلك: أن الزرع إنما حدث من مجموع أمرين لو انفرد احدهما لم يكن هذا النماء: أحدهما الأرض، فإنها لا تُنبت من غير بذر، والآخرُ البذر، فإنه لا ينبُت في غير أرض، فكان مقتضى هذا الاشتراك أن يكون النماء الحادث مقسوما بينهما, ولكن لا يقفُ على حِدّ ما يكون عن كل واحد منهما من التنمية سوى الله سبحانه الذي خلقهما، وخلق ما يكون عنهما. فلما لم يعلم ذلك وجب إلحاق النماء بأرجحهما، فالأرض ها هنا مرجحة على البذر، لكونها مما لا يُزال بها ولا يُنتقل، والقمح المبذور في الأرض مما يُزال به ويُنتقل.
وقد منع أبو حنيفة تصور الغصب في العقار لهذه الغلة. فكان إلحاق النماء بالأرض أولى، مع كون تنميتها للنبت ليس بظلم ولا حرام، وتنمية البذر ظلم وحرام، والحلال أرجح من الحرام. وقد قيل: إن الأرض قابضة لما فيها، وصاحب البذر لما أودعه الأرضَ زَالَ قبضه عنه، وبقيت الأرض هي القابضة، وقبضها قبض لصاحبها، فكان إضافة هذه التنمية إليها أولى، مع أن سبحانه نبه على علة شرع القصاص مِمّن قتل آخذه (1) ظلما فقال تعالى {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (2) والمراد به ما كانت الجاهلية تعبر عنه بعبارة ظهر فَصَاحةُ القرآن فيها وعلوُّها عنها، وكانت تقول "القتل أنس للقتل" ويعني بذلك أن القاتل إذا لم يُقتل بمن قتله استبيحت الدماء، وتفانى الناس بالقتل, لأن كل من علم أنه لا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أخاه.
(2) البقرة: 179.

(3/ 2/270)


يُقتل إذا قتل تكرر منه القتل، وإذا علم أنه يُقتل كفّ عن القتل، فأنزل الله هذا المعنى بلفظ بليغ لا يُلْحَق فقال: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) يريد أن القاتل إذا اقتص منه حفظت حياة بني آدم، فكأن القصاص صار لهم حياةً. ثم فيها تنمية (2) على العدل، وهو قوله "القصاص" والقصاص إشارة إلى العدل، فورد هذا المعنى في القرآن بلفظين وهما القصاص حياة، من غير تكرير، واوردته العرب بثلاثة ألفاظ، وفيها التكرير، وليس فيها إشارة للعدل، وإذا نبه صاحب الشرع على أن القصاص إنما شرعه لصيانة الدماء، فكذلك يجب أن يكون الزرع لصاحب الأرض المغصوبة، صيانة للأموال والأرَضين عن أن تغصب. وحرمة المال يجب ان تصان كحرمة الدم.
وتعقبت استدلال الداودي بقياس الزرع على حمل الأَمَة, لأنه قد اتفق المذهب على أن من اشترى أرضًا فَزَرَعَهَا، فإن الزرع له. ولو اشترى أمة فاستولدها، فإن الولد لمستحقها, ولكن لا يسترقّه لحُرمة الحرية فيه، بل يأخذ قيمتَه. فإذا افترق الحكمان في الأمة والزرع، فيما كان بوجه شبهة، فكذلك يفترقاد فيما كان على وجه الغصب, لأن الولد من جنس أمّه، فهو كعضو منها يردّ معها، وإن كان استولدها بوجه شبهة، بخلاف الزرع الذي هو ليس بجنس الأرض المغصوبة.
هذا معنى الجواب الذي كان فرط منّى حين افتيت به قديما. فإذا وضع حكم الزراعة مع اعتقاد الإباحة، وثبوت الشبهة، وحكم الزراعة مع اعتقاد التحريم وارتفاع الشبهة، فإنه قد يعرض بين هذين ما يشكل هل هو من هذا الطرف أو من هذا الطرف مثلما في المستخرجة لابن القاسم في ارض ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعيها لنفسه، فيأخذ أحدهما فيزرع فيها فُولًا، ثم بعد حين أتى خصمه فزرع فيها قمحا، فأبطل بذلك ما زرعه الأول من القول، فحكم فيها بعد ذلك
__________
(1) البقرة: 179
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تنبيه.

(3/ 2/271)


للأوّل الذي زرعها فولا، فقال اين القاسم: يبقى القمح المبذور لزراعه، ويؤدي الكراء إذا كان الإبّان لم يذهب، ويغرم لصاحب القول ما اتلفه عليه وأبطله من القول، قيمتَه على الرَّجاء والخوف أن لا يسلم. ولو توجّه الحكم بهذه الأرض للآخر النبي زرعها قمحا كان عليه قيمة القول على الرَّجاء والخوف ويخفف عنه في التقويم. ويشير بالتخفيف في التقويم إلى أن صاحب القول (1) ولو مُكِّن من إيقافه (2) فسلم، لوجب عليه الكراء لمن حكم له بها وقد زرع فيها قمحا.
وكان بعض أشياخي رأى أن هذا الذي قاله إنما بناه على أحد القولين في أن الاختلاف ما بين الخصمين بشبهة (3)، واحد الخصمين إذا زرع مع اعتقاده أنه ادعى باطلا، وحُكم له بغير حق، فإن هذه شبهة تُلحقه بحكم من اشترى ارضا فزرعها.
وأما على القولين (4) بأن الاختلاف ليس يشيهة، وأنه يجري مجرى الغصب حكمُ من زرع منهما، وقد توجه الحكم لخصمه حكم الغاصب إذا زرع، وقد بينّا حكم الغاصب إذا زرع فأتى مستحقُّ فاستحق الأرض.
وعندي أن هذا الذي وقع لابن القاسم يجري على أمر مختلَف فيه، هو أولى مما قاله شيخنا. وهو أن المذهب على قولين في المترّقبات وإذا وقعت، هل تعدّ كأنها إنما حصلت (5) اليومَ وقوعها، أو تقدّر أنها لم تزل حاصلةً. وقد تكرر هذا وبيّناه في كتاب البيوع. ولو لم يكن منه إلا ما في كتاب العتق من المدونة فيمن اعتق عبده بحضرة شهود، وجحد العتقَ، ثم استعمله. ذلك تقدم بيانه.
ومما يلحق بهذا ما ذكره عبد الملك بن الماجشون في ثمانية أبي زيد في
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف الوإو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبقائه.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الباء.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القول.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَصل.

(3/ 2/272)


شريكين، في أرض، وهي مما ينقسم، فبنى فيها بناء، فقال ابن القاسم فإن وقع النصف الذي وقع بالقسمة للباني [بغير البناء] (1) وإن وقع في نصيب شريكه كان له أخذه بالقيمة، على ما تقدم في المشتبري إذ ابن ي أو غرس فاستُحِق ما في يده. وقد بيّناه.
ولو كانت الأرض مما لا ينقسم ويجب بيعها جملةً، لكان الثمن إذا بيعت به ينظر فيه: ما زاد البناء على قيمته براحا، فيكون الباني كما قيل في مركب بين شريكين أصلحه أحدهما فإنه إذا بيع كان لمن أصلحه ما زاد في ثمن الإصلاح.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
كان الترتيب عندنا يقتضي أن نؤخر الكلام على هذه المسألة إلى كلامنا على من اشترى أمة فاستولدها فصار لها بالالستيلاد حرمة، ولكن قدمنا الكلام على هذه المسألة ها هنا باتصالها بأحكام الأبنية.
واعلم أن من بني داره مسجدًا فأتى من استحق الدار فإنه باستحقاقها لما صار مستحقا لإزالة ما بني فيها، أو يتملكّه إن كان مما يُتملكّ، على ما تقدم تفصيل القول فيه. فقال ابن القاسم في المدونة، فيمن بني داره مسجدًا، فأتى من استحق الدار: إن المسجد يهدم. وأطلق القول في ذلك، ولم يفرق فيه بين كون الباني للمسجد بناه وهو غاصب للأرض، أو مشتر لها.
وتأول هذا الإطلاق سحنون على أن محمله على كون الباني غاصبا للأرض. وأما لو كان بوجه شبهة كالمشتري للأرض بني فيها مسجدًا، فإن الحكم عند سحنون أن يعطي مستحقُّ الأرض بَانِيَ المسجد قيمَة بنائه قائمًا. فإن أبى أعطاه الباني قيمة الأرض. فإن أبى كانا شريكين، على حسب ما تقدم بيانه
في حكم من بني بوجه شبهة.
__________
(1) هكذا في النسختين، والمعنى أن القسمة إذا أن إلى أن الباقي وقع في نصيبه البناء فإنه يأخده بدون مقابل.

(3/ 2/273)


وعارضه ابن عبدوس في هذا الجواب لكونه يقتضي إبطال التحبيس.
فانفصل له عن ذلك بأنه إذا أخذ قيمه البناء صرفه في حبس مثله.
ومذهب بعض أشياخي أن المذهب على قولين في كون البناء للمسجد وقع بوجه شبهة: فسحنون يجري حكم مالًا حرمة له من الأبنية، ويمكنّ (1) المستحق من أن يعطي قيمة البناء قائما.
وظاهر إطلاق قول ابن القاسم أنه يهدم، ولو كان البناء بوجه شبهة، لأنه (2) يفصل في جوابه.
وأيضًا فإن سحنون وافقه على أن الباني لو كان غاصبا للأرض لهُدِم المسجد عليه، والحكم في الغاصب، إذ ابن ي مالًا حرمة له، تمكينُه من تكليف الغاصب قلع بنائه، وإعطائه قيمة النقض بعد أن يحط أجر القلع، كما قدمناه في البناء الذي لا حرمة له. فإذا وافق سحنون ابنَ القاسم في افتراق الحكم في بناء الغاصب مالًا حرمة له، وماله حرمة فلم يفكهت المستحق من إعطاء قيمة النقض للغاصب، ومكنه من ذلك إذا كان البناء لا حرمة له، فكذلك ينبغي أن يفرِّق الحكم فيمن بني بوجه شبهة بين أن يبني مالًا حرمة له أو يبني ماله حرمة.
واعلم أن مثار الخلاف في هذه المسألة تزاحُمُ حقيْن فيها: أحدهما حق الله سبحانه، وهو المنع من إبطال الاحباس وتملِكُّها، والثاني حق المخلوق، وهو الباني، في أن لا يُبِطل عليه ملكَه، ويُفسِد بناءَه، فتذهب نفقته باطلا، فأي الحقين يقدم؟
قدّم ابن القاسم حق الله سبحانه في أن لا تُغيَّر الاحباس ولا تُتَملك، فأمر بهدْمها, ولم يلتفت إلى ابطال حق الباني في البناء.
وغلب سحنون حق الباني، فلم يتلفْ عليه ما انفق، وجعل له أخْذَ قيمة
__________
(1) أي: يُلزِم.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: لَمْ.

(3/ 2/274)


بنائه قائمًا. ولكن هذه العلة قد تُنقَض عليه بموافقة ابن القاسم إذا كان غاصبا للأرض، بأن بناءهَ يُهدم ويُعطى نقضَه يبني به مسجدًا آخرَ. وفي ذلك أيضًا إبطالٌ لحق المستِحق للأرض, لأنه إذا مُكِّن من اعطائه قيمة النقض، بقي النقض مبنيا له.
(لكن هذا الحق الذي صورناه له ليس له فيه إيطال ما أنفقه، وإنما فيه حِرْمانه أخذَ بنائه، وتلفيق فعله غيره، وشتان بين اتلاف ملك محقق وبين منع إنسان من أن يأخذ ملكا من يد غيره لم يسبق له فيه ملك.
فهذا العذر عنه عندي في تفرقته بين كون البناء الذي يحترم بناؤه بَناهُ غاصب، ولو بناه من له شبهة في البناء.
(وبعض أشياخي يشير إلى هذا الخلاف في بناء يصح الانتفاع به ويبعد وهو على صورته، وأمّا مالًا يحل الانتفاع به وهو على الشكل الذي هو عليه (1)).
وإذا قلنا: يهدم هذا المسجد، فإن انقاضه تنقض (2) فيبنى بها مسجد يقرب من المسجد المهدوم. وإن تعذر بناء المسجد بذلك البلد، فقال بعض الأشياخ ينُقل إلى مكان أخر وتؤدَّى أجْرة نقله منه، ويبنَي هناك بالانقاض مسجدًا.
وهذا مما ينظر فيه لأن المحبِّس قد يكون له عوض (3) في بناء المسجد في بلده، فإذا نُقِل خولف غرضه فيه، فينظر هل تُرَمّ به مساجد في البلد بعينه أم لا فيكون ذلك أقرب إلى قصد المحبس.
وسنتكلم على هذا الأصل في كتاب الحبس، إن شاء الله تعالى، فإن فيه اضطرابا في المذهب. هذا حكم البناء المحترم في أرض غير محترمة.
وأما حكم البناء الغير المحترم في أرض محترمة، فإن سحنونًا قال، فيمن
__________
(1) ما بين القوسين هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تنقل.
(3) مكذا في النسختين، ولعل الصواب: غرَض.

(3/ 2/275)


بني في أرض ثبت بعد ذلك أنها حبس: إن بناءه يهدم. قال ابن عبدوس: قلت: كيف يهدم عليه بناؤه، وقد بناه بوجه شبهة؟ قال: من يعطيه قيمته؟. قال: فقلت له: يكونان شريكين في الأرض والبناء. فأنكر ذلك. فقال من حضر: يكون ذلك بيعًا للحبس. وسحنون يسمع فلم ينكر ذلك. فقال: فقلت له: يعطَى المحبِّس قيمة البناء. فلم ير ذلك.
فاعلم أن الأصل الذي نبهنا عليه في تزاحم الحقوق يجري ها هنا، أما الشركة أو إعطاء الباني قيمةَ الأرض المحبسة، فإن ذلك إبطال للحبس، وبيع له، نهى الله سبحانه ألاّ (1) تباع الأحباس. وأما هدم البناء، ففيه إفساد المال على الباني، وله حق في ألاّ يَفْسُد ماله، كما قدمناه، فيمن بني داره مسجدًا.
لكن هناك مالك الأرض يصحّ أن يمكن من دفع قيمة البناء، وها هنا ليس يوجد مالك الأرض المحبسة فيؤمر بإعطاء قيمة البناء، (فالثمن من اعطاه قيمة البناء وتعذر ذلك) (2)، فافترق الجواب في السؤالين عند سحنون. وأما منع سحنون في هذه المسألة من تمكين المحبِّس من اعطاء قيمة البناء، فإنْ كان مراده أنه يعطي ذلك ليتملك ويبقيه في الأرض المحبسة، فإن ذلك تغير (3) للحبس، وقد يكون الحبس وقع لغرض منفعة يُبطلها البناء في الحبمس، مع كونه إذا أبقاه على ملكه تملَّك بعض أجزاء أرض الحبس، وإن أزاد أن يُلحقه بالحبس اعتبر فيه ما ذكرناه من تغيير المقصود بالحبس والمنفعةِ التي حُبِّس عليها.

والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
امّا من اغتلّ، وهو مشتر قد دفع ثمنا فيما اشترى، فقد تقدم أن الغلآتِ له إلى يوم الاستحقاق، على ما فصلناه هناك. وأما من بيده الربّاع، ولكن لم يؤدِّ عنها عوضًا، كوارث ورث أرضًا عن أخيه، فأكراها، فأتى ولد الميت فاستحق
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنْ.
(2) ما بين القوسين هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغْيِير.

(3/ 2/276)


جميعها، (1) وأتى أخ فاستحق مشاركة هذا الأخ في ميراثهما فإن الغلّة تؤخذ جميعُها من يد مكتريها إن أتى مَن يحجُبُه عن الميراث، أو يؤخذ نصيب القادم إليه من الميراث، وهذا إذا أكرى بالقيمة.
وأمّا إن حابي في الكراء فهو واهبٌ لمَا حطَّ من قيمة الكراء، فلا تلزم هذه الهبة القادمَ الذي إستحق جميع هذه الأرض، أو استحق بعضَها، إذ ليس للإنسان ان يَهَب مال غيره، ولكن ينظر فيمن يُرجَع عليه بهذه الهبة، الثي هي المحاباة، هل الوارث الواهب (1) والمكتري المنتفع بالأرض والدار؟
وأما الرجوع على المكتري إذا كان الوارث الذي اكترى منه وحاباه معسرا فلم يختلف القول عندنا أنه يرجع عليه بهذه المحاباة, لأنه قد أنتفع بمال الوارث القادم بغير عوض بَذَلَهُ في مقدار ما حاباه الوارث الذي أكرى منه، ومن انتفع بمال غيره بذِر عوض من غير أن يأْذَن له المالك في الانتفاع به، فإنه يغرم للمالك قيمته ما انتفع به.
وأما إن كان الوارث الذي أكرى هذه الأرض موسرًا ففيه قولان: أحدهما انه يرجِع الوارث القادم على أخيه الذي أكرى نصيبه يغير إذنه.
وإلى هذا ذهب ابن القاسم في المدونة وقال غيره: لا يرجع الوارث القادم على الوارث الذي أكرى وإن كان موسرا.
واعلم أن من أتلف مال غيره تعديا وظلمًا، فإنه يطالب به بغير خلاف.
وإن أتلفه خطأ وبوجه شبهة، وهو مأذون له في التصرف إذنا خاصا، فإن فيه قولين: هل يضمنه أم لا؟
إذا كان لم ينتفع بإتلافه فإنه يرجع عليه بعوض ما أتلف.
وتفصيل ذلك أن الغاصب إذا وهب لرجل ما غصبه، والموهوب له غير عالم بالغصب، فانتفع به الموهوب له معتقدًا انه لاعوض عليه فيه، فأتى من
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْ.

(3/ 2/277)


استحق، فإن فيه ثلاثة أقوال:
احدها أن المستحق يبدأ في الغرامة بالموهوب له المنتفعِ بهذا المال، وإن لم يوجد عنده مال رجع على الواهب (1) والقول الثالث ان المستحق بالخيار بين أن يبدأ بغرامة الواهب أو بغرامة المنتفع الموهوب له.
وسبب الاختلاف أن ها هنا إتلافين:
أحدهما: بالتسليط والتمكين في مال الغير، وهكذا فَعَل الغاصب فيما غصبه ثم وهب, لأنه سلّط الموهوبَ له على إتلاف هذا المال ودَفَعه إليه ليُتلفه.
والثاني: أن الموهوب له باشر الإتلاف والمباشرة للاتلاف هي الأصل في غرامة الاعواض
وأما الأسباب المؤدية إلى الإتلاف من غير أن تكون مباشرة للإتلاف، ها هنا يَضطرب العلماء، وينظر المحققون فيما صار كإتلاف من الأسباب فيُلحقونه بحكم الإتلاف، وما بَعُد من ذلك حتى كأنه لم يكن سببًا في الإتلاف لم يُجروا عليه حكم مباشرة الإتلاف.
وهاهنا إتلافان: أحدهما من الغاصب بالتسليط والتمكين، والتسليط سبب يزاحم الإتلافَ مباشرةً. وإتلاف الموهوب له، وإن كان مباشرة، فإنه مخطى في الإتلاف معتقدًا أنه أتلف مالًا عِوَضَ يلزمهْ فيه، والغاصب سبب الإتلاف، وهو وإن لم يكن باشَرَهُ فإنه يعلم أنه متعدٍّ في ذلك، فاعلٌ مالاَ يحلّ له، وإن لم يكن مباشرًا على مباشرة إتلاف يحلّ، والحرامُ يرجَّح على الحل الذي وجوب الغرامة. أو ترجح المباشرة للإتلاف، وإن كانت حلالًا في الظاهر، على سبب الإتلاف. وإن كان حرامًا. ها هنا وقع الاختلاف في أي الأمرين أرجح؟ فمن حكم ببداية غرامة الغاصب الواهبِ رتجح جانبَه في الغرامة بكونه فَعَل مالًا يحل
__________
(1) القول الثاني ساقط في النسختين، ولعله: والثاني: أنه يبدأ بالواهب.

(3/ 2/278)


له. ومن رجّح في الغرامة جانب الموهوب له رجحها بالمباشرة، فلهذا حكم ببدايته في الغرامة. ومَن ساوى بين الترجيحين خيّر صاحبَ المال فيمن يبدأ بغرامته، هل الواهب الغاصب أو الموهوب له؟ هذ حكم هبة الغاصب. وأما هبة من وهب بوجه شبهة، فالأشهر من المذهب أنه لا غرامة عليه. وذهب ابن القاسم إلى الحكم بغرامته، كما حكيناه عنه ها هنا في الوارث إذا أكرى محابيا في الكراء. وهذا أصل مقرّر في المذهب أن. متلِف الشيء إذا انتفع به غرم عوضَه وإن كان بوجه شبهة في يديه. وإن لم ينتفع بإتلافه، وقد أتلفه خطأ، ففيه قولان، ألا ترى ان من اشترى طعامًا فأتلفه، ثم أتى مستحقه، فإن مشتريه الذي أكله يغرمه له. ولو اشترى عبدا فقتله عمدًا، ثم أتى مستحقه، فإنه يغرمه له أيضًا لأن تعمُّدَ القتل لا يحِل، فضمِن وإن لم ينتفعْ، لأجل تعديه وظلمه، فإنْ قتلَه خطأً ففيه قولان: تضمينه، وإن لم ينتفع بذلك، لكون الخطأ والعمد في اموال الناس سواء، أوْ لاَ يضمنه لإذْن الشرع في التصرف له خاصّا.
وهذا التأصيل الذي أصلناه يجب أن يستوي حكم المشتري إذا وهب ما اشتراه فأتلفه الموهوب له، وحكم الوارث إذا وهب ما ورثه, لأن الأصل الذي رددنا هذا الفرع إليه يستوي فيه (من وهب في يديه بوجه شبهة كان الذي في يديه كالمشتري، أو بغير عوض) (1). على أن بعض المتأخرين حاول الفرق بين هبة من كان في يديه الشيء الموهوب بعوض أو بغير عوض، فقال: أما إذا كان في يديه بعوض فيحسن ألا يغرم ما وُهب، وإن كان في يديه بغير عوض فإنه يحْسن أن يغرم, لأن الوارث الذي في يديه المال بغير عوض إذا وهبه لغيره اتُّهِم في أن يكون عَلِم أن يكون شاركَه وارثٌ آخُر، فكتم ذلك وأخفاه، وعقد هذا على الموهوب له بمال غيره، والمشتري يبعد هذه التهمة فيه لأنه أدى ثمن ما وهب، فلا يتهم في أن يتلف مال نفسه بالهبة.
__________
(1) ما بين القوسين هكذا في النسختين. ولعل معناه: من كان شيء في يديه بوجه شبهة كالمشتري بعوض أو الموهوب بغير عوض.

(3/ 2/279)


ومن سلك هذه الطريقة تأوّل ما وقع لابن القاسم في المدونة في الوارث إذا أكرى وحابى فقَدِم أخوه، فإنه إنما قال ابن القاسم: يرجع على أخيه بالمحاباة, لأنه لم يُرد فيما وهب عوضا، فتصورت منه، بما ذكرناه، التهمة.
فعلى هذه الطريقة ترتفع في هبة المشتري, ويكون الحكم فيها ألاّ يغرِم المشتري ما وهب.
ومن الأشياخ من حاول أن يرفع الخلاف في المشتري من طريقة اخرى، فيحْمل قوله في المدوتة: إن الأخ القادم يرجع على أخيه بالمحاباة، على أن الأخ الذي اكترى علم أن للميت أخا آخر، وهو إذا كان عالماً صار غاصبا، والغاصب يغرم، وإنما اختلف في البداية (1) أو بالموهوب له، كما قدمناه، ويرى أن قوله في المدونة: يرجع على أخيه بالكراء، علم أو لم يعلم، ثم قال: فإن حايى في الكراء رجع على أخيه. فإنما هذا الكلام مستأنف معناه إذا كان الأخ عالماً.
وكان شيخي أبو محمَّد عبد الحميد، رحمه الله يرى أن في هذا الكلام احتمالا، كما أشار إليه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، ولكن الظاهر عند شيخنا أن هذا الكلام، وهو قوله "وإن حابى" معطوف على ما تقدم. وقد تقدم قوله:
سواء علم الأخ أو لم يعلم.
ويعتضد من تأول عن ابن القاسم أن مراده بإطلاق القول في الرجوع على أخيه إذا حابى كونُ الأخ عالماً، فإنه قال في المدونة: إذا اشترى دارا فأكراها فهدمها المكتري فترك (2) له مشتريها الذي أكراها قيمة الهدم، فإن مستحقها إذا قدم لا يرجع على الواهب، ويرجع على المكتري بما وهبه من قيمة الهدم.
فأسقط هاهنا الرجوع بالهبة لما كان الواهب وهب بوجه شبهة.
وهذا الاستدلال ممن استدل به غير صحيح, لأن المشتري لم يسلّط
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضاقة: بِهِ.
(2) في (مد): ردّ.

(3/ 2/280)


المكتري على هدم الدار، ولا أمره بذلك، ولا أمكنه منه، وإنما وجبت على المكتري الهادم قيمة الهدم في ذمته، فاعتقد المكتري أنه يستحق ذلك في ذمة الهادم بوجه ما يعتمد أنه يملكة، فإذا كشف الغيب أن غيره هو مالكه لم تلزمه غراهة ما وهب، ولا يلزمه طلبه. بخلاف الأخ إذا أكرى فحابى فإنه سلط المكتري الساكن على إتلاف المنافع، ومكنه منها بغير عوض، فصار كالمسِلّط على الإتلاف، وقد قدمنا أن المسِلّط على الإتلاف كالمباشر له.
واعلم أن المتأخرين كثر اضطرابهم في ضيط المذهب في هذا فمنهم من يرى أن الخلاف إنما يتصور في هية الغاصب لرجل قَبِل الهبة، ولم يعلم أن واهبها غاصب. فقيل بغراهة الموهوب له الذي انتفع بالهبة، وقيل: بل المستحق السلعة المغصوبة فيمن (1) يبدَّأ بغرامته.
وإن استغرم الموهوب له المنتفع، ففيه اختلاف أيضًا: هل يرجع بما كرم على الواهب بأنه غرّه أم لا؟ وهذا تقدم مبسوطًا.
وأما الواهب إذا وهب ما يعتقد أنه له، فإنه لا يطلب بغرامة، موسرا كان أو معسرا.
وهؤلاء الاشياخ يشيرون إلى ارتفاع الاختلاف في هذا ولا يفرقون بين الواهب مشتريا أو وارثا. ومنهم من يرى أن المذهب على قولين في الرجوع على الواهب إذا وهب ما يعتقد أنه ملكه، ولا يفرقون بين كون الواهب مشتريا أو وارثا. وهذه طريقة الحذاق من الأشياخ بناء منهم على ما عُرف من أصول
المذهب أن المنتفع بوجه شبهة يغرم. وإذا لم ينتفع وإنما سلط غيره على الانتفاع، أو أخطأ فأتلف ما في يديه بغير انتفاع منه، فإن المذهب على قولين، فيمن اشترى عبدا فقتله عمدًا، فإنه يضمنه, لكونه فعل مالًا يحلّ له، وإن قتله
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل العواب حذف: فيمن.

(3/ 2/281)


خطأ ففي تضمينه قولان لأنه أتلف على وجهٍ لا منفعة له فيه، وسواء كان المتلِف مشتريا أو وارثا.
ومنهم من يشير إلى طريقة ثالثة، ويرى أن الواهب إذا كان مشتريا فوهب، فإنه لا يضمن، وإن كان وارثا فإنه يضمن. ويعتلّ هؤلاء بأن الواهب إذا وهب ما ورثه فإنه يُتَّهم أن يكون علم من شاركه في الميراث، فكتم ذلك، وأظهر أنه أتلف ما وهب غلطا منه، والمشتري يَبْعُد تصور هذه التهمة فيه، لكونه بذل ثمنا فيما وهبه، فلا تتطرق إليه هذه التهمة.
وهذه الطريقة بعيدة عن ظاهر الروايات، ألا ترى أن ابن القاسم قال، فيمن اشترى ثوبا فوهبه لمن لبسه حتى أبلاه: إن الواهب لا يضمن. وقال في المدونة، في كتاب كراء الدور والأرضين, في الوكيلَ إذا وُكِّل على كراء دار فحابى: إنه يضمن.
وهذا مما غرّ أصحابَ هذه الطريقة، ورأوا أن الفرق بين المسألتين كون المجموعة (1) وقعت في مشترٍ بذل عوضا فوهب، ومسألة كراء الدور والأرضين وقعت في وكيل لم يبذل عوضا. وقد نص ابن القاسم في المدونة، في كتاب القسم، على فساد هذه الطريقة، فقال، فيمن وُصِّيَ له بثلث دار، فأتى فوجدها قد فاتت في يد الورثة بهدم: إنه لا يضمن الورثة قيمة الهدم، قال: ألا ترى أن مالكا قال، فيمن اشترى دارا فهدمها، ثم أتى مستحقها: أنه ليس له تضمين المشتري قيمة الهدم. فاستشهد بنص مالك في المشتري على من ملك الشيء بغير عوض. ولو كانا يفترقان عنده، كما أشار إليه بعض الأشياخ، لم يكن لاستدلاله وجه، ولم يساو بين مسألتين مفترقتين، على رأى هؤلاء المتأخرين الذين أشاروا إلى ما ذكرنا.
وإنما التحقيق ما قدمنا مرارًا من أن الخطأ والعمد في إتلاف أموال الناس سواء، إلا أن يكون المتِلف له إذن خاص فيُخْتلفَ فيه. وقد ذكرنا مثل هذا في مسائل.
__________
(1) هكذا في النسختين.

(3/ 2/282)


ومما يلحق بهذا حكم اغتلال الوارث لما ورثه، فإنه متى طرأ عليه وارث يستحق جميع ما في يديه، ويحجبه عن الميراث، كولد طرأ على الأخ، أو طرأ عليه وارث فشاركه فيما ورث، كأخ طرأ على أخ، فإنه يطلب القادمُ من قَبضَ الميراثَ واغتله بما اغتل، بخلاف المشتري إذا اغتلّ فإنه لا يردّ الغلة لكونه بذل عوضا فيما اغتله، فلا يجتمع عليه حِرمانُ انتفاعه بالعوض الذي بذل، وحرمانُ الاغتلال، وأيضًا فإنه لو هلك ما اشتراه في يديه لم يرجع بالثمن، وكان ضمان الثمن منه. وقد قال عليه السلام: "الخراج بالضمان" (1) والوارث لم يبذل شيئًا، فيكون ضمانه منه، ولا حَرَمَ التَّجْرَ بثمن يحَسُن أن يرجع بالغلة. وكذلك الحكم في هذا الوارث لو لم يغتل، ولكنه لو سكن أو زرع، فإن للوارث القادم أن يرجع عليه بقيمة ما انتفع به.
هذا هو الأصل في المذهب، وهو الذي قاله ابن كنانة. لكن ابن القاسم فرّق بين انتفاعه بنفسه، واغتلاله، فقال: يردّ الغلة، ولا يؤدي كراء ما سكن، إذ قد يكون في نصيبه ما يكفي، عن سكنى نصيب أخيه. فكأنه لم ينتفع بمال أحد ولا هو غاصب له، فإنه لا يغرم عن منافعه عوضا. وهذا يقتضي انه لو طرأ وارث حجبه حتى لا يرث شيئًا، فإن للوارث القادم أن يطلبه بقيمة ما انتفع به، لارتفاع العِلَّة التي ذكر ابن القاسم من كون (2) إذا شاركه في الميراث فإنه يمكن أن يكتفي بمقدار نصيبه الذي ورث.

والجواب عن السؤال التاسع (3) أن يقال:
إذا اشترى دارا فأكراها فأتى مستحق فاستحقها فله فسخ العقد فيما لم يَفتْ من المدة، وكراؤه لمن اشترى الدار فأكراها، كما تقدبم بيانه، (4) لو كان
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: كَوْنِه.
(3) هذا جواب عن السؤال العاشر في تعداد الأسئلة.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: و. فيصر الكلام: ولو.

(3/ 2/283)


الذي اكراها شرط نقد جميع الكراء حين العقد، فلما جاز (1) المستحق ما فعله المكتري من عقد الكراء بالنقد قال المكتري: إنى أتخوف ميت المستحق، أن يَبطُل الكراء بما يطرأ على الدار، ولا نجده (2) عند المستحق مالًا أرجع فيه، فلا أقبل منه إجازته الكراء، فإن في المدونة: لا مقال له إذا كان المستحق مأمونا ولادين عليه، وإن لم يكتب مأمونا أو عليه دين كان من حىّ المكتري أن يسترد النقد، ويقال للمستحق: تجيز العقد على أنَك (3) تنتقد ما انتقده المكري وإنما تأْخُذُ بحساب ما سكن المكتري أوْ تفسخ الكراءَ. وقد تعقب الأشياخ ها هنا كون المستحق عليه دين, لأنه لو فُلّس، وأحاطت الديون بما في يديه، كان الساكن أحقّ بسكنى الدار من سائر غرماء المستحق فلا يلحق الساكنَ ضرر لكون المستحق مديانا. وأما التعليل يكون الدار مخوفة فإنه لا يجوز اشتراط النقد في الدار التي يُخاف سقوطها، وبطلان عقد الكراء فيها، كما لا يجوز كراء أرض غير مأمونة ويشتوط النقد فيها، على ما سيرد بيانه في كتاب الدور والأرضين، إن شاء الله. لكن لو كان النقد تطوَّعا من المكتري، وأراد بهذا التطوع مكارمة الذي أكرى الدار منه، لم يلزمه أن ينقد هذا الكراء للمستِحقّ إذا كان المستحق غيرَ مأمون على صفة ما ذكرنا، كمن وهب هبة أراد بها عين الموهوب له، فلم يقبضها حتى مات، فإنها لا تورث عنه. ولو أراد هذا المكتري بتطوعه بالنقد، بعد صحة العقد، ابراءَ ذمته من الكراء، (أو لم يؤدّ عين) (4) الذي أكرى له الدار لكان من حق المستحق أخذُ الكراء, لأنه تبرأ ذمته أيضًا بقيض المستحق (5) والكراء، فلم يبطل عليه غرض يكون له سببه (6) مقال.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَجاز.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نجدِ.
(3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: لا تنتقد.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلمْ يؤَدِّ لِعَيْن ...
(5) هكذا فيّ النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.
(6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِسَببِه.

(3/ 2/284)


ولو كانت الدار إذا انهدمت بقي من نقْضها ما يَوفّي بالنقد الذي يأخذه المستحق لارتفعت علّة التخوّف منه، وكان من حقه أن يأخذ النقد.
وإذا تقرر أنه بالخيار بين أن يجيز العقد أو يفسخه، فإنه بأن (1) لا يُمضي العقدَ إلا بعد علمه بمقدار ما ينوب ما مضى من شهور السنهّ التي لا حق له في غلتها وما ينوب المشهور التي تبقى من السنة التي يستحق هو غلّتها, لأنه إذا أجاز ذلك صار (2) ملك الفسخ فاستأنف الإجارة بثمن مجهول. وهذا الأصل مختلف فيه: يمنعه ابن القاسم، ويجيزه غيره.
وكذلك الخلاف في جمع رجلين سلعتيهما في عقد واحد من غير معرفة كل واحد منهما ما ينوبه من الثمن. وعلى هذا خرج الاشياخ الاختلاف في هذه المسألة من إلاختلاف في جمع السلعتين.
وكان بعض أشياخي يرى أن هذه المسألة ليست كمسألة جمع السلعتين، لأن هذا إذا أجاز عقدَ المُكري، فكأنه صار وكيلا له، والوكيل له أن يبيع بثمن لا يعرف حدَّه الموكِّل، لا سيما علي القول بأن المترقَّبات إذا وقعت فإنه يُقَدَّرُ وقوعها يوم الأسباب التي انقضت أحكامها، وإن تأخرت الأحكام عنها، وقد قدمنا هذا مرارا.
ومما ينخرط في هذا السلك مكتري دار فاستُحقت منها بيت، أو استُحق منها جزء معلوم، كنصفها أو ثلثها مما يلحق المتكرىَ ضررُ باستحقاقه ومشاركته في السكنى، فإن المكرّي إذا كان له الردّ فلا تنبغيّ له الإجازة إلا بعد أن يَعلم مقدار ما يلزمه فيما يستحقُّ، على أحد القولين اللذين ذكرناهما الآن.
وقد وقع في المدونة في هذا السؤال، لغير ابن القاسم أنه لو استُحق نصف الدار أو ثلثها لم يكن للساكن أن يتمسّك بما بقي لأنه يكون تمسَّكَ بمجهول.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف بأن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: (قدْ).

(3/ 2/285)


وتأول سحنون أن مراد غير ابن القاسم بما قاله كونُ المشهور تختِلف قيمتُها، فلا يتصوّر ما اعتلّ به الغير، إلا أن تكون المشهور تختلف قيمتها. وأما إذا تساوت قيمتها فلا شك أن ما استحق معلوم، وما بقي من السَّنَة معلوم, لأن من اكترى دارا بعشرة دنانير فاستحق نصفها فإنه معلوم أن ما سكن، وهو نصف السنة، تنوبُه خمسة دنانير، وكذلك تنوب الخمسةُ الباقية، فما اعتل به غيرُ ابن القاسم من الجهالة لا يتصور ها هنا.
وهذا الاستدراك الذي استدركه سحنون على ما قاله غير ابن القاسم تدارك (1) أيضا الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد على تأويل سحنون على أنه سكن بعض السنة، والشهور تختلف، بهذين (2) الشرطين تتصور الجهالة التي أشار إليها غير ابن القاسم.
وأما إذا لم يسكن، والشهور مختلفة، فإنّ اختلافها لا تتصور معه الجهالة, لأنه يبدأ بالنصف، الذي لم يُستحق من أوَّل السنة، فيسكنه إلى آخرها، فلا تصور ها هنا جهالة.
وممّا يلحق بما نحن فيه أن المستحق إذا أجاز العقد، فهل يحلّ محلّ المكتري (3) الذي تولّى العقد أم لا؟ مثالهُ أن يُكري رجل أرضا بِعبدٍ أخذه من المكتري، فأتى مستحق استحق العبد وأخذه من يد مكْري الأرض، فإن الكراء ينفسخ من مكري الأرض ومكتريها, لكون صاحب الأرض إنما رضي بكرائها بعبد بعينه لغرض له فيه، فإذا استِحُق العبد رجع فيما أعطاه عوضا عن العبد، وهي منافع الأرض التي أكراها. وهذا إذا لم يكن المكتري أفات الأرض بأن زرعها ولا بأَنْ حرثها، فإنه إن كان المكتري زرعها أو حرثها، فإن ذلك فْوت فيما بين المكري والمكتري. وإنما لمكتري الأرض أن يرجع بقيمة كراء السَّنَة
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَدَارَكَهُ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والأوْلى: فبِهَذَيْن
(3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: المكري.

(3/ 2/286)


التي وقع العقد عليها. وأما إن أتى من استحق العبدَ فلم يأخذْه، وقال: أنا أجيز العقد، وآخذ عوض العبد، وهي منافع العبد، وأحُلّ في ذلك محك مكتريها إذا ارتجعها. فأما إن وجد المكتري قد زرعها، فذلك فوت، وليس له ارتجاع الأرض، لما يتضمن ارتجاعها من إفساد زراعة المكترى وأما إن وجدها لم يزرعها المكترى، ولكنه قبلها (1) فإن فيه قولين:
أحدهما: إن ذلك فوت أيضًا في حق المستحق، كما كان فوتا فيما بين المكري والمكتريء والقول الثاني: إن ذلك ليس بفوت، وللمستحق أن يعطي الحارثَ قيمةَ حرثه، ويأخذ الأرض. فإن أبى أعطاه الحارثُ قيمة كراء السنة.
وهذا لأن المستحق لعين الشيء لم يأذن لمن هو في يديه أن يتصرف فيه، ولا سلّطه، على حرثه والتصرف فيه، ولا أذن له في ذلك، فكان من حقه أن لا يُفيت الأرض بحرث لم يَأْذن فيه، ولم يسلط المكتري عليه، بخلاف الحكم بين المكري والمكتري فإن المكريَ قد سلط المكتري على حراثة الأرض والتصرف فيها، فليس له أن يبطل حكم تصّرفٍ أَذِنَ فيه وسلط المتصرف عليه.
وهكذا لو اشترى رجل عبدا فأعتقه، ثم أتى مستحق عيْن العبد، فإن له أن يبطل عتق المشتري لكونه لم يسلط المشتري على التصرف، فكان له ردّ العتق.
ولو أنه أجاز بيع العبد، وأراد أن يأخذ عوضه، وكان عوضه جاريةً أعتقَها من هي في يديه، فهل له أن يرّد عتقها ام لا؟ هذا على القولين المتقدمين: ففي الموازية: يحل محل من استخق عين الجارية، فيرد عتقها. ولو استولدها من هي من يديه لأخذَها وقيمةَ ولدها.
وخالفه سحنون ورأى أن من أجاز بيع ما استحقه، واراد أن يأخذ عوضه، فوجده في يد مشتريه قد حال سوقُه، فإنه يُمنَع من أخذه. كما يكون الحكم بين
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: قَلَبَها.

(3/ 2/287)


البائع والمشتري إذا استُحِق ما في يد أحدهما، وأراد أن يرجع فيما دفع، فوجده قد حال سوقه، فإنه يُمنَع من أخذه بعينه، وإنما له أخذ قيمته.
وهذا عندي يجري على الأصل الذي ذكرناه مرارا، وهو المترقبات إذا حصلت هل يعد حصولها يوم وجودها، وكأنها فيما قبْلُ كالعدم، أو يقدّر أنها لَم تزَل من حين حصلت أسبابها التي أثمرت أحكامها وأُسنِد الحكم إليها، فإن قلنا: إنها إنما يقدر حصولها يوم المحاكمة، وفيما قبل ذلك هي كالمعدومة، فإنه تقوى ها هنا طريقة ابن المواز. وإن قلنا: إنه أجاز العقد فكأنه لم يَزَلْ ماضيا، فكأنه كالإذْن في التصرف، فتقوى طريقة سحنون وبالله التوفيق.
ومما يلحق بهذا الاسلوب ما ذكره في المدونة فيمن أوصى بوصايا فأنفذها الوَصي، ثم أتى من أثيت أن الميت الذي وَصَّى مملوك له، وحُكم له بذلك، فإنه إن كان الميت مشهورا بالحرية فلا تباعة على الوصي، ولا تلزمه غرامة ما أنفذه من وصاياه. ولو باع في وصاياه سلع الميت لكان لمن استحق رقبة الميت أن ينقض البياعات إذا لم تتغير السلع في يد من اشتراها, ولكن بعد أن يدفع أثمانها لِمنَ اشتراها من الوصي. وكذلك قال فيمن شهد شهود بموته على مشاهدة شخصٍ ميتا، كقتيل قتل في معترك، فإن الشهود الذينْ حكم القاضي بشهادتهم إن كان تعمدوا شهادة الزور (ترد فيما باع من تركته، و) (1) كانت باقية في أيدي مشتريها لم تتغير، أو كانت فاتت أو تغيرت. وأما إن اشتبه عليهم بأن رأوا شخصا؟ ميتا فاعتقدوا أنه فلان الذي شهدوا بموته أو تقلوا ذلك عن شهود أشهدوهم على شهادتهم، فإن البياعات ماضية إذا تغيرت في يد مشريها، وإن لم تتغير فللقادم الذي شُهِد بموته أن يأخذها من يد مشتريها بعد أن يدفع إليه الثمن.
وأما زوجته فترد إليه في القسمين جميعًا، تعمدوا الزور في شهادتهم أو كانوا شبّه علمهم، فأمضى العتق في المدونة إذا كان الشهود شبه عليهم، ولم
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يرد ما بيع من تركته كانت ...

(3/ 2/288)


يمضه إذا كان تعمدوا الزور. وفرق بين حكم الزوجة وحكم البياعات، ولم يفرق يينهما إسماعيل القاضى في الميسوط، ووأى أن الحكم يزول (1) عصمة الزوجة نافذ إذا زوجها (2) آخّر، فأمضى الحكم وإن كان غلطا في الباطن في الزوجة والمال, وإن اختلقت الحرمة فيهما.
وكذلك قيل أيضا: إن العتق يردّ، ولو كان الشهود شُبه عليهم. فصار في امضاء العتق قولان، وفي امضاء الحكم. بزوال العصمة عن الزوجة قولان: فالتفرقهّ بين الزوجة والبياعات عند من ذهب إلى هذه الحِرمة (3) الفروج والاطلاع على العورات وانتشار الحرمة والمصاهرات، والتسوية بين العصمة وبياعات السلع لم. لأجل نفوذ الأحكام بما هو صواب في الظاهر.
واعلم أن هذه قاعدة التفرقة بين كوفي الشهود شهدوا وقد تعمّدوا الزور، أو شهدوا غلطا منهم، قد اتفق المحققون أنه لا يتصور فيها فرق واضح بين حالتي الشهود حتى (إذا مد اليح) (4) الشيخ ابا القاسم السيوري إلى أن قال في هذا وفي غيره من أمثاله الذي لا يتصور قيها فرق: إنهما قولان جمعا في التأليف، وكأن السامع سمع تخصيص السائل لمالك بأن الشهود تعمدوا الزور، فقال: تنقض الأحكام المبنية على شهادتهم. ولو سئل حينئذ سؤالا مطلقا غير مقيد بتعمد الزور لأجاب بنقض الأحكام. وسئل مرة أخرى، وقد قُيِد له السؤال بشهادة شهود شبِّهَ عليهم؟ فقال: تمضي الأحكام. وقد (5) أطلق السّؤال حينئذ لقال أيضًا تمضي الأحكام. وهذا هروب من الاعتراف بأنه لا يتضح له فرق إلى ما يوقع الرواة في جهالة أو تكذيب.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِزَوال.
(2) هكذا في النسختين، ولعيالصواب , تزوّجَهَا.
(3) هكذا في النسختين، ولعا الصواب: لِحِرمة.
(4) هكذا في النسختين.
(5) هكذا في النسختين, ولعل الصواب: وَلَوْ.

(3/ 2/289)


وكذلك اعتذر القاضي إسماعيل عن هذه التفرقة بأن قال: إنما فرق مالك بين كون الشهود تعمدوا الزور، أو شبه عليهم، إذا كان الورثة هم الذين تلوا (1) بيع مال الميت. واما لو حكم بذلك الحاكم لم يفترق الحكم بين كونهم شهدوا بالزور أو شُبّه عليهم.
وهذا الذي تأولوه نص على خلافه في المدونة, لأنه ذكر في تمثيل كون الشهود شبه عليهم، قال: أو شهدوا عند القاضي على شهادة قوم أشهدوهم.
بنص (2) على التفرقة وإن كان ذلك بحكم. وغير الشيخ أبي القاسم السيوري من الأشياخ الحذاق يرى ما رأى من الفرق لا يتصور، فاقتصر على اعترافه بذلك، ولم يتكلف فرقا ولا تأويلا، لكن قصارى ما يمكن عنده أن يقال في هذا: إن الشهود إذا تعمدوا الزور صاروا بشهادتهم كمن غصب مال هذا الذي قَدِم حيًّا فباعه، فإن لمستحقه أن ينقض البيع، وينقض العتق أيضًا، بخلاف كون الشهود شبّه عليهم, لأنهم إن شبه عليهم لم يحلوا محل الغصّاب لهذا المال، فلم يُرَدَّ اذن تغير.
وهذا أيضًا لا يتضح, لأن التعويل، إن كان على حكم القاضي، فالقاضي لم يخرج في حكمه، ولا تعمد باطلا، بل ماجوز (3) في حكمه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك من كون الشهود تعمدوا الكذب أو لم يتعمدوه. وإن كان الحكم لا تأثير له فكذلك أيضًا يجب للمستحق أخذ ماله وإن تغير, لأنه لم يأذن في التصرف فيه، وقد بيع ملكه عليه بغير إذن منه غلطا من بائعه، فإنه لا ينبغي (4) ملكه لهذا البائع.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَوَلَّوْا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَنَصّ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَأجْورٌ.
(4) هكذا في النسختين.

(3/ 2/290)


والنكتة التي يجب أن ينظر فيها في. هذه المسألة أنَ الحاكم (1) ها هنا بما ظاهره الصواب والحق وباطنه خطأ وباطل، فهل يغقب حكم الظاهر على حكم الباطن فتنفذ الأحكام، أو يغلب حكم الباطن على حكم الظاهر فتردّ الأحكام؟
هذا هو وجه التحقيق عندي في المسألة.
وهذه النكتة يجري عليها فروع كثيرة قد اختلف بعضها أهل المذهب، وقد عُرف أن المشهور من المذهب في امرأة المفقدد إذا حكم بِتمْوِيتِه ثم قدم حيًّا، وقد تزوجت رجلًا بني بها، أنها لا تُردّ إلى الأَوّل. واختلف قوله إذا جاء المفقود حيّا، وقد عُقِد نكاحها ولم يدخل الزوج الثاني بها، هل يفسخ النكاح أم لا؟ وقال في المنعى (2) لها زوجها انها ترد إليه إذا قدم حيّا، وإن دخل بها الزوج الثاني, لأن هذه لم يجتهد في أمرها، فيقول على حكمه في الظاهر بالصواب وإن كان خطأ في الباطن.
وكذلك إذا حكم الحاكم بطلاق امرأة على زوجها لأجل عدم الإنفاق، فأتى الزوج فوجدها قد تزوجت، فأثبت أنه قد ترك لها الإنفاق.
وكذلك إذا شُهِد عليه بأنه قال: زوجتي عائشة طالقٌ. فادّعى أن له (3) بلد آخر بعيد زوجة أخرى تسمى عائشة، وهي التي قصد طلاقها، فلم يقبل دعواه، فتزوجت عائشة المحكوم بطلاقها ثم أثبت ببيّنة أن له ما ادعاه من زوجة تسمى عائشة.
وكذلك إذا باع القاضي سلع رجل غائب في دين قضاه لمن أثبت الدين على الغائب، ثم أتى الغائب فأثبت أنه قد قضى الدين. فقد قيل: إن هذا الغائب يمكّن من أخذ سِلَعِه المبيعة إذا دفع للمشتري ويرجع مشتريها على من دفع إليه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّ الحاكم [حَكمَ] ها هنا ..
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَنْعِيّ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِبَلدَ ..

(3/ 2/291)


الثمن. وكان بعض أشياخي يرى أن مقتضى قول مالك أن يكون للغائب إذا ثبت أنه قد قضى الدين، وأرتجع ما بيع (1) انه طلب باطلا فأشبه شهود الزور، وفي هذا الذي قال نظر؟ وكان أيصَا يرى أن ما ذكره في المدونة أن الموصى إفا انكشف أنه مملوك يعد نفوذ وصاياه لا يحسن الخلاف فيه، ويمكن من رد الوصايا لأن الحكم لم يقع عليه، وإنما وقع على غيره، بخلاف من حكم موته فجاء حيّا.
وفي المجموعة في من جعل أكثر زوجته بيدها إن غاب عتها مدة معلومة، "فاختارت الفراق لأجل غيبته، وحكم لها الحاكم بذلك, فأثبت أنه لم يغب: أنها ترد إلى عصمته، ولو دخل بها الثاني. وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد يرى ان هذه المسائل يعتذر (2) فرق واضح بين بعضها عن بعض، والخلاف يحسن أن يجري في جميعها من بعضها في بعض. على أنه قد قيل في امرأة المفقدد: إن القاضي لما حكم على زوجها المفقود، بالفراق، وكان متعرّضا في حكمه إلى جواز الخطأ عليه، وأنه قد لكون حيّا, فتجويره لهذا صار كالحكم بإمضاء الخطأ الذي ينكشف في ثاني حال وقوعه منه.
وعندنا روايتان في القاضي إذا حكم بشهادة من اعتقده أنه عدل، ثم بعد الحكم ثبت إنه كان مستَجْرَحَا هل له نقض حكمه أم لا؟ وقيل في هذا: إنما يحسن الخلاف فيه لأن تعديل الشهود كان عنده بالظن أن الشهود المعِدَّلين صدقوا، فالتجريح بعد ذلك مبني أيضًا على إن الشحهود المجرِّحين صدقوا، ولا يرد ظن يظن، وقد أتفق على أن القاضي إذا حكم بحكم أخطأ فيه النصَّ الجليَّ أن حكمه يردّ لأجل القطع على خطئه.
وإذا قدم المفقود حيّا، أو المشهود بموته قدم أيضًا حيّا، فإن الخطأ في
__________
(1) بياض في النسختين بمقدار كلمتين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصوإب: يَتَعَذَّرُ.

(3/ 2/292)


الحكم مقطوع به أيضًا. ولعلّنا أن نتكلم على هذه المسائل كل مسألة في الكتاب الذي وضعت فيه في المدونه، ومما يلحق بهذا ما ذكره في المدونة في رجل بني لرجل يناء، فأتى رجل فأثْبت أن الباني مملوك له، فقال: يرجع المستحق بقيمهَ إلبناء على من له البناء، وصار العبد كغاصب وهب ما في لديه عن (1) ملك غيره لرجل فانتفع به الموهوب له وأفاته، فإنه قد قدمنا الاختلاف فيمن يبْدأُ المستحِق بالرجوع عليه، هل الواهب أو الموهوب، أو يخير بينهما؟
وهذا الخلاف في الرجوع على الغاصب والبداية ترتفع (2) ها هنا, لأن العبد الواهب لمنافعه إذا أتبعه سيده يقيمتها، وما في لديه من قيمتها مال لسيده، فكأنه لم يأخذ غرامة. عن أحد، بخلاف الغاصب إذا وهب فإن المستحِق إذا بدأ به أخذ مال غيره.
وهذا واضح، ولكن حمل ابن المواز المسألة على أن السيد إذا وجد البناء قائما. ولو وجده مهدوما لم يرجع على صاحب البناء بشيء، وقدّر أن العوض عن البناء إنما يستحقه السيد إذا كان البناء موجودا فسلمه لمن بُني له، فإذا كان معدوما فإئه لم يسلّم للباني ما يطالبه بعوضه. وكأنه رأى أن التعليق (3) إذا ذهب فكأن الذي بني له لمن (4) يتسلم ما يكون عوضا للمنافع.
وقد قيل في الصاتع إذا فرغ من الصنعة فضاع الثوب المصنوع عنده ببينة، إنه لا أجر له، وإن كانت حركاته قد فاتت وكأنه أودعها في الثوب. وسنبسط الكلام على هذه المسألهّ في كتاب تضمين الصناع.
ومما يلحق بهذا ما يحدثه المشتري يوجه شبهة: من اششرى دارا فهدمها
__________
(1) هكذا في النسخين، ولعل الصواب: مِن.
(2) هكذا في النسختين، ولحل الصواب: يَرتفع.
(3) هكذا في النسختين.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمْ.

(3/ 2/293)


فإن المستحِق إذا أتى لا يطالبه بقيمة الهدم, لأنه غير متعدّ في الهدم، وإنما هدم ما ظنّه ملك نفسه لمصلحة، فلم يضمنه.
وكذلك الخلخال لو كسره لم يضمن كسره. وأما لو كان ثوبا فقطعه فإن ابن المواز رأى انه يضمن قيمته القطع. وكذلك لو كانت فضة فكسرها فإنه يضمن قيمة ما أفسده. والفرق يينهما بأن الدار إذا هدمت يمكن أن يعاد البناء لهيئته، والثوب إذا قطع لا يمكن أن يعاد لهيئته.
وهذا الفرق لا يتضح، ولا مناسبة بينه وبين الأصل الذي يتفرع منه هذا وغيره. وظاهر المدونة أنه لا يضمن الثوب أيضًا إذا قطعه. والأصل الذي يناسب هذا الفرع وأمئاله أنا قدمنا مرارا أن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء، ما لم يقارن الخطأَ اذنٌ خاصّ، فإنه اختلف فيه على قولين: هل يلزم به الضمانُ أم لا, وهذا الأصل يُجري لك الخلافَ في الدار إذا هدمت، والثوب إذا قطع.
ومما يلحق بهذا لو اشترى أمة بكرا فافتضها، ثم أتى من استحقها، فإنه لا يخرم ما نقصها الافتضاض عند مالك وابن القاسم، ويضمنه عند سحنون.
وهذا أيضًا يجري على هذا الأصل الذي ذكرناه ها هنا ولكن بع وإسناده إلى أصل آخر، وهو أنه قد تقرر (1) المشتري إذا انتفع. بما اشتراه، مثل ان يكون ثوبا لبسه حتى أبلاه، ثم أتى مستحقه، فإنه يغرمه قيمته، لكون أنه انتفع بمال غيره، وصان بذلك مال نفسه. وإذا. لم ينتفع به وأتلفه غلطا ففيه القولان المذكوران، فينظر في الوطء هل هو يجري مجرى اللباس للثياب، والطعام في الفوت، فيكون المشتري ضامنًا للافتضاض، أو يلحق بما لا منفعة فيه فيجري على الأصل الثاني (2) إتلاف المال خطأ بإذن.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تقرّر [أَنَّ] ...
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الثاني [في] ...

(3/ 2/294)


والجواب عن السؤال العاشر (1) أن يقال:
أما من اغتلّ ما في يديه ثم استُحِق عليه، فلا يخلو من أن يكون اغتل بوجه شبهة، معتقدًا لإباحة اغتلاله، أو لإباحة انتفاعه بنفسه فيما في يديه، أو معتقدًا تحريم ذلك عليه.
فأما المغتل معتقدًا للإباحة بوجه شبهة فإنه إذا أتى (2) ما في يديه لم يغرّمه الغلة، وكانت الغلات له لأجل ضمانه. وهم خمسة أنواع من جهة الأحكام، فتنزع ما في يد المغتل باختياره، أو باختياز المغتل، كمن اشترى عبدًا فاغتلّه ثم اطّلَع على عيب فاختار المشترى ردَّه على بائعة فإنه لا يردّ الغلات إذا رد العبدَ أو غيره مما اغتله ثم رده بالعيب. أو مشتر اشترى عبدا فاغتله ثم أفلس، فلبائع العبد أن يسترد العبد إن شاء، وإذا استرده لم يطالب مشتريَه بغلته. فهذا الرد باختيار البائع أو باختيار المبتاع، أو يكون الرد باختيار ثالث غير البائع والمشتري، وهو الشفيع، إذا استحق شِقْصًا بالشفعة واختار أخذه من يد مشتريه بالثمن الذي وَزَن فيه، فإنه لا يستحق أن يأخذ الغلة.
وكذلك من اشترى من غاصب لا يعلم أنه غاصب، ثم أتى سيد العبد المغصوب فاختار أخذ عبده، ونقض بسعه، فإنه لا مطالبة له، على المشتري، بغلة.
والقسم الخامس ما نقض فيه البيع من غير اختيار المتبايعين، ولا باختيار رجل ثالث غيرهما، كمن اشترى عبدًا شراء فاسدًا، فاغتله، ولم يحلْ وهو في يديه، ولا تغيرّ العبد في نفسه، فإن القاضي إذا نقض هذا البيع لم يأمر المشتريَ بردّ الغلة. هذا حكم بوجه شبهة.
وأما من اغتل متعديا، فقد تقدم القول فيه كتاب الغصب، وذكرنا
__________
(1) هذا السؤال ساقط من تعداد الاسئلة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أتى [المستحِقّ لما] ...

(3/ 2/295)


أنه يرد الغلات، في إحدى الروايات، قولًا مطلقًا، ولا يردها في الآخر قولًا مطلقا.
واختلف إذا لم ينتفع الغاصب بما غصب، مثل أن يكون غصب دارًا فأغلقها، فإن في تضمينه كراءها قولين ذُكِرا في كتاب الغصب.
وكذلك إن لم يكن انتفع بها ولكنه سلط غيرَه على الانتفاع، كغاصب لعبد باعه ممن لم يعلم أنه غصب، فإن مشتريَه لا يردّ الغلة كما تقدم.
وأما تغريم الغاصب لما اغتله المشتري، ففيه قولان أيضًا، وهما مبنيان على ماذكرناه الآن من تضمينه ما مَتع انتفاعَ مالكه به وإن لم ينتفع هو بنفسه.
وأما الوارث, فإنه يحل محل ورثتة (1)، فإن ورث ولد أبا، وأخذ من تركته عبدا غصبه, أو دارا اغتصبها، فاغتلها وهو لا يعلم ان أيا غصبهما، فإنه تؤخذ منه المغلات كما كانت تؤخذ من أبيه لما حل محلّه فيما ترك فملَكة بغير عوض حل محله فيما اغتل أيضًا مما ورث، فكما كان أبوه يردّ الغلات فكذلك يردها هو.
وأما وارث المشتري، فإنه يحل محل أبيه أبيه أيضًا: كونه لا يردّ الغلة كما لا يردها أبوه.
وأما الموهوب له لدار المغصوبة، أو العبد المغصوب وهو لا يعلم بكونهما مغصوبين، فإنه إن كان الواهب له مشتريا فإنه لا يرد الغلة أيضًا، ويحلّ في ذلك محل وارث المشتري.
وأما لو كاد الغاصب هو الواهب، والموهوب له لا يعلم بكونه غاصبا، فإن في تغريم الغاصب ما اغتلّه الموهوب له قولين: نفى عنه اشهب الغرامة فيما اغتله الموهوب له, وأثبتها عليه ابن القاسم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُوَرِّثِه.

(3/ 2/296)


وهذا الخلاف أيضًا مبني على تضمين الغاصب ما حَرمَ صاحبَه من الانتفاع ومنعه منه. وأما الموهوب له له فهل يغرم الغلة ام لا؟ أما إن كان الغاصب الواهب موسرًا، فإن الموهوب له لا يغرم الغلة. وأما إذا كان معسرًا فإن ابن القاسم أثبت عيه الغرامهّ، ونقاها اشهب.
فأين القاسم رأى أن الموهوب له هاهنا، كالوارث للغاصب، وقد قدمنا إن وارثَ الغاصبِ يرد الغلة لما اغتلِّ (1) ما لم يدفع فيه عوضا ولا دفعه ابوه الذي ورثه عنه، فكذلك الذي وهبه الغاصب فإفه اغتل ما لم يدفع فيه عوضا, ولا دفعه فيه من وهبه.
والأصل في جميع هذه المسائل قوله عليه السلام "الخراج بالضمان (2) " وكأن هذا الباب باب التسبب، فنيه على أن الخراج سبب ملكه الضمان، وهذا العموم ذُكر أنه خرج على سبب، وهو أن رجلين تخاصما عند النبيّ عليه السلام في خراج عبد رُدَّ يعيب فقال عليه السلام: "الخراج بالضمان" (2) مشيرا بذلك إلى أن المشتريَ لما كان ضامنا لما كان في لديه لو هلك، ولا يرجع بالثمن، قكذلك يجب أن تكون له المنفعة يالغلة، قإن التَّوى ضدّ النماء، فإذا كان النقصر والتلف على من في يديه العيد المردود بعيب، فكذلك يجب إليه أيضًا.
وقد اختلف الأصوليون في العموم إذا خرج على سبب هل يقضى على سببه، وتكون الألف والسلام. للعهد، والمراد يها السبب التىِ أجيب عنه باللفظ العام، أو يكون اللفظ متعديا شاملًا للسبب وغيره, فإن قلنا: إنه مقصور على السبب لم يتعلق به في (3) المشتري إذا اغتل، فأتى من أستحق ما في يديه، ولا في
__________
(11 هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمّا.
(2) سيق تخريجه.
(3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف في.

(3/ 2/297)


الأربع مسائل التي ذكرناها. وإن قلنا: إنه يجب حمله على العموم الذي اقتضاه الخطاب في اللغة حسُن التعلق به في جميع المسائل التي ذكرناها.
لكن يبقى ها هنا نظر آخر، وهو تحقيق الضمان الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بأن الغاصب يضمن عين ما اغتلّ إذا هلك، ويرد قيمته إن كان عبدًا أو دارًا.
وإن كان هلاكه بغير سبب منه يحسن التعلق فيه بقوله "الخراج بالضمان" والمشترىِ إذا هلك ما في يديه من غير سببه لم يضمنه للمستحِق، ولا يغرم له قيمته، وإنما يُتصور فيه الضمان من جهة أنه إذا هلك ما في يديه لم يرجع بالثمن على الغاصب الذي باعه منه، فصار الضمان يُتصور في الغاصب في الأعيان، ويتصور في المشتري من الأثمان، وقد ذكرنا أن الحديث خرج على سبب، وهو التحاكم في غلة ما رُدَّ بعيب، فقال عليه السلام: "الخراج بالضمان". والمشتري إذا هلك ما في يديه قبل أن يطلع على العيب لم يرجع بالثمن على البائع، ولم يضمن غير ما في يديه. فصار الضمان ها هنا كالمشار به إلى ما تُضمن عينه أو يضمن ثمنه.
وكان الشيخ أبو القاسم السيوري أفتى بأن الغلة يردها المشتري من الغاصب وإن لم يكن علم أنه غاصب، ويقول: قد اغتل المشتري مال غيره من غير إذن مالكه في التصرف فيه، ولا تسليطٍ للمشتري في ذلك، فيجب أن يردّ غلّة ما اشتراه، كما وجب باتفاق ان يردّ عين ما اشتراه. وقد بيّنا على مأخذ الخلاف في هذا، ومنشأ النظر فيه.
وإذا وضح حكم اغتلال الغاصب وما فيه من الاختلاف في حكم اغتلال المشترى، فالذي يغتَلّ، هو وارث أو موهوب له، لا يردّ الغلة إذا لم يتحقق كون من ورثه غاصبا. وهو محمول على انه اغتل بوجه شبهة لا على جهة التعدي. ولو اغتل وهو غير متيقنٍ الإباحة. ولا متيقن التعدي، وإنما هو على الظن، مثل أن يشتري دارًا من رجل زعم انها لرجل غائب وكّله على بيعها، فإن

(3/ 2/298)


سحنونا عوّل في ذلك على ما تدل عليه قرائن الأحوال أو تقييده (1) من الظنون بصدْق الوكيل، فقال: إن كان هذا الوكيل ينظر في الدار، ويقوم بأمر الغائب، فأتى الغائب فأنكر الوكالة فإن المشتري لا يردّ الغلة. وإن كان لا سبب بينه وبين الغائب يدل المشتريَ على أنه صدق في الوكالة، فإنه يردّ الغلة. ولو كان هذا الاغتلال لمن اشترى حرًّا يظنه عبدا فتبين أنه حر، فإن المذهب على قولين، في رد مشتريه ما اغتل منه، فالمشهور والمعروف من المذهب أنه لا يرد الغلة، وذهب المغيرة إلى أنه يرد الغلة. وهو اختيار شيوخنا الحذاق، لأجل أن الأصل في ردّ المغتل الغلة أو بقائها في يديه قوله عليه السلام "الخراج بالضمان" والحرّ لا تُضمن عينه إذا بيع على أنه مملوك، ولا يضمن ثمنه لأنه لو مات في يد مشتريه لرجع بالثمن على من باعه منه لكونه اشترى مالًا يصح تملكه في الشريعة، ولا عقد البيع عليه، ولا يضمنه بائعه بقيمته أو بالثمن الذي أخذ فيه، فوجب رد الغلة لعدم تصور الضمان في عين هذا الحرّ في ثمنه. ولو اشتراه وله مال لكان المال تبعًا للحرّ.
ولو جُرِح هذا الحر فأخذ منه أَرْشا، لكان هذا الأرش لهذا الحر.
وكذلك لو وُهب له مال فإنه إذا حكم بحريته بقي المال له.
ولو كانت جاريةً فوطئها وهي بكر أو ثيب، لم يكن عليه في الوطء، غرامة عند مالك وابن القاسم. وذهب المغيرة القائل برد الغلة إلى انه يرد عوض الوطء كما يرد الغلة، وعوض الوطء عنده ها هنا صداق المثل.
واعلم انّا قدمنا في كتاب الغصب اختلاف فقهاء الأمصار فيمن وطئ حرّة غير ممكِّنة له من نفسها، بل أكرهها على وطئها، هل يلزمه لها صداق المثل أم لا يلزمه لها غرامة، بل يقتصر فيه على الحد المشروع في الزنا؟ وأشرنا إلى سبب الخلاف في هذا، وهوا لنظر في كون منافع الفرج هل هو من الحقوق المالية التي يلزم في استهلاكها الأعواض، أو ليس هو من الحقوق المالية بدليل
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: تفيده.

(3/ 2/299)


أن منا تزوّج امرأة، وبذلك لها صداقًا فإنه لا يحلّ له أن يُكري فرجَها من غيره. وورد يشعر بأن منافع الفرج ليست بمال يقوَّم، أو يقال بأن الشرع لما منع استباحته إلا بمال، وما سواه مما هو بمال أياح تملكه يغير مال. وهذا يشعر بأنه من الحقوق المالية، أو يقال جوابا عن هذا: إن التعبد يمنع من استباحة الفروج إلا بعوض، من يأب العبادات المشروعه لا من باب المعاوضات والمعاملات وقد تقدم بيان هذا في كتاب الغصب.
فإذا تقرر هذا أو قلنا: إنه ليس من الحقوق المالية ولكنه مما ينتفع به، ويصان به المال، جرى على القولين فيمن أخطأ على مال الغير هل يغرمه لصاحبه أم لا إذًا قارن هذا الخطأ إذن، كمن اشترى عبدا فقتله خطأ، فإن في إلزامه غرمه قيمته قولين، تقدم ذكرهما مرارا، هذا وجه التحقيق في منشأ الخلاف في إلزام واطىء الحرة على أنها أمة، وقد اشتراها، بصداق مثلها.

والجواب عن السؤال الحادى عشر أن يقال:
قد قررنا في كتاب الرهن النكته التي يعلم منها ما يضمن ومالا يضمن, ومنشأ الخلاف في فروع هذا الباب، وهو من قبض الشيء لمنفعة نفسه لا لمنفعة دافعه إليه فإنه يضمنه، ومن قبضه لمنفعة دافعه ولا منفعة لقابضه فيه فإنه لا يضمنه.
ومن اشترى عبدا من سوق المسلمين فإنه معلوم إنما قبضه لمنفعة نفسه فيجب عليه ضمانه، على مقتضى ما أصلناه، فإن أقياستحق استحقه، وطلب أخذ عينه، فدافعه مشتريه عن ذلك، فإن قال له: ضاع لي, فإن المعروف من المذهب أن هذا يجري مجرى الرهبان والعواري، فيصدَّق المشتري ها هنا في دعواه ضياع مالًا يغاب عليه، كالعبد والدابه، (أو مرتهنا) (1) ما لم يتبين كذيه بأن يدعىِ الموت بمكان به جماعة لا يخفي عنهم موته، (ويصير كأنه لا يغاب عليه، دلالة على صدق المشتري في دعواه التلف والموت، كما لو أقام البينة
__________
(1) هكذا في النسختين.

(3/ 2/300)


على ضياعه، على حسب ما بسطنا القول فيه، وفي قيام البينة في كتاب الرهن) (1).
ولو كان ادعى الضياع فيما يغاب عليه, كالثوب والطعام، فإن المشهور من المذهب أنه لا يصدَّق، كما لا يصدق في الضياع إذا ادعى ذلك في الرهن والعواري.
وذهب أصبغ إلى أنه يصدق المشتري في الضياع فيما يغاب عليه مع يمينه.
وإذا قلنا: إنه لا يصدق، فهل يستحلف على الضياع، وإن كان لا يد من غرامته القيمة, أم لا؟ المعروف من المذهب أنه يستحلف على ذلك. ويتخرج على قول آخر أنه لا يحلف على ذلك. قال مالك في مثل هذا: لو أحلفته على الضياع ما ضمَّنتُه وكأن هذا القول المخرج وجهُه أن اليمين مقتضاها في الشريعة تصديق الحالف. وإذا حلف المشتري ها هنا على الضياع وجب تصديقه، وهو إذا صدِّق لم يضمنْ، كما إذا صدقته البينة في دعواه الضياع، فإنه لا يضمن.
وإذا كان أمران متلازمان فإثبات أحدهما إثبات للآخر، واليمين يقتضي التصديق، والتصديق يقتضي ففي الضمان. فهذا وجه القول المخرج.
وأما وجه القول المشهور فإن ها هنا حقّين: طلب المستحق للعين وطلبه بقيمتها إن تلفت. قإن حلف على الضياع لم تتضمن يممِنه إلا المقصود بها، وهو أنه ما أخفى العين. وأما الغرامة والتضمين فإنه ليمس المقصودَ باليمين، فيبقى على أصله. وبالجملة فإن هذا ينبني على الخلاف في أيمان التّهم، تتعلق وتثبت ثبوتا مطلقا، على حسب ما قدمناه عن بعض الأشياخ في إطلاق هذا إطلاقًا عامًا (2) ولمسائل هذا النوع ومخالفة غيره له في هذا.
وإذا صدقنا المشتري في الضياع، فإنه لا يرجع بالثمن على البائع منه، لأن الضياع ها هنا كالهلاك، وقد قدمنا أن العبد إذا مات في يديه لا يضمنه, وإن ثبت استحقاقه لمدعيه, وإنما يأخذه مدّعيه بعوضه على البائع، فيغرِّمه الثمن أو القيمة.
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

(3/ 2/301)


ولو باعه المشتري لكان للمستحق إجازة بيعه، وأخذ الثمن، ويصدق المشتري في مبلغ الثمن إن ادعى ما يشبه. وإن ادعى مالًا يشبه من جهة الأسعار لم يصدق، وإن ادعاه من جهة عيب حدث عنده يالمبيع فإنه: إن كان المبيع حيوانا صدِّق في ذهاب جزء منه، كما يصدق في ذهاب جملته، ومن صدّق في ذهاب الكل صدق في ذهاب الجزء. وإن كان عرضا جرى الخلاف في تصديقه على القولين المتقدمين: فالمشهور أنه لا يصدق في الجزء كما لم يصدق في الكل، وعلى مذهب أصبغ يصدق في ذهاب الجزء كما صدق في ذهاب الكل.
وكذلك يجري الخلاف في تصديقه في التاريخ الذي وقع فيه البيع، إذا اختلفت الأسعار باختلاف التواريخ، فإن بهان سعره يوم يضمنه وهو يوم القيام عليه بالاستحقاق أرفعَ من سعره في التاريخ الذي زَعَم أنه ضاع فيه فإنه لا يصدق فيما يزعمه من نقص القيمة الواجبة عليه، على القول المشهور، ويصدق على مذهب أصبغ.

والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال:
إذا كان بيد رجل دار، فأتى رجل فادعى انها له، فلا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يصدِّقه في دعواه مَن الدار في يديه.
والثاني: (1) ينكر ذلك عليه.
فأما إن صدقه في دعواه فالحكم تسليمها للمدعي. فإن تراضيا بأن يدفع من في يديه الدار بالعبد (2) ويسلم الدارَ مدعيها إِلىَ من هي بيده، فأصل المذهب ومقتضاه أن هذا يجري مجرى البياعات. في حكم الاستحقاقات، فيرجع كل واحد منهما، إذا استحق ما في يديه، في العِوَض الذي عاوض به، فإن استُحِق
__________
(1) هكذا في النسختين، والاوْلى إعادة: أَنْ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الباء.

(3/ 2/302)


العبد رجع المستحَقُّ من يده العبدُ في عين الدار من غير خلاف، كما لو باع عبدا بدار، فاستِحق العبدُ، فإنه يرجع في عين الدار. وأما إن استحقت الدار فالمعروف من المذهب أن من أُخِذت الدار من يديه أنه يرجع فيأخُذُ العبدَ الذي دفعه عوضا عنها. وقيل: لا يرجع في العبد، ولا مقال له في هذا الاستحقاق، لأنه لما صدَّق المدعيَ وأقرَّ بأن الدار ملكٌ له تضمّن اقرارُه هذا تكذيبَ بينة المستحق للدار الطاري عليها، وإذا كُذبت بينةُ المستحِقِ فقد صار معترفا بأن الدار أُخِذت من يده بغير حق بل بحكم الغصب، ومن اشترى دارًا فَغصبت منه بعد أن قبضها، فإنه لا مرجع له على بائعها بإجماع، فكذلك هذا.
من هذا الأسلوب في هذا المعنى الاختلاف المشهور فيمن أودع وديعة عند رجل، فأتى رجل ممن (1) عنده الوديعة فقال: فلان أرسلني إليك لنقبض منك الوديعة التي أوْدعك فدفعها إليه، فأتى المودِع فكذَّب الرسول، وقال: لم أبعثه إليك، واستغرمَ الوديعةَ دافعَها في تعدّيه في الدفع لما أودعه، فأراد المودَع لمَّا أُغرِم الوديعةَ ليرجع بها على قايضها، فقيل: يمكّن من ذلك، وكأن من ذهب إلى هذا رأى أن مجرد الدفع لا يقتضي تصديق الرسول تصديقا مطلقا، وإنما صدّقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة فيصدّق الرسولَ، فإذا كذّب الرسولَ فإنه له أن يرجع على الرسول بِفِقْدَ انِ الشرطِ الذي دفع الوديعة عليه. وقيل: لا مرجع له على الرسول, لأنه كالمصدق له في الظاهر والباطن، ومعتقدا أن صاحب الوديعة ظلمه في غرامتها، فلا يظلم هو غيره.
واعلم أنه لو وقع للتصريح (2) حين الدّفع بأحد هذين الوجهين، إما كون دافع الوديعة يقول: أدفعها إليك بشرط أن يأتي صاحبها فيصدقك، فإن أتى فكذبك أعدتَها إليّ، فهذا لا يُختلف أن الدافع إذا غرمها رجع بها على الرسول.
أو يقول: أصدقك في الظاهر والباطن، فإبئ أتى صاحبُها فغرمنيها فإنه ظلمني وظلمك، فلا رجوع لي عليك. فهذان الوجهان لا يحسن الخلاف فيهما. وإنما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمَن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التصريح.

(3/ 2/303)


يحسن الخلاف في الدفج مطلقا، هل يُحمل على هذا الوجه أو على الوجه الآخر؟ وقد قال الطحاوي: مذهب أهل المدينة وابن أبي ليلي أن الصلح على الإقرار لا يرجع المقِرّ مدعَّى عليه بما دُفِع إليه إذا وقع الاستحقاق فيما أقرّ به المدعَى عليه، هذا حكم الاستحقاق (الاعواض في الدعاوي) (1) إذا وقع الإقرار بصحتها.
وأما إذا وقع الاستحقاق، والمدعى عليه متماد على الإنكار، وعاوض عن المدّعَى فيه، وهو منكر للدعوى مكذب لها، فإنه إذًا استُحِق ما في يد المدَعى عليه، هل ترجع فيما دفع أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال، مثاله أن يدعي رجل دارا في يد رجل، فينكَر المدَعى عليه ما أدعاه المدِعي، ثم يتراضيان على أن يدفع إليه عبْ"، ويتركَ خِصَامه في الدار، فيستحق الدار فإن ابن القاسم ذُكِر عنه أنه يرجع في العبد الذي دفع إن كان قائما، أو قيمته إن فات. ومذهب سحنون أنه لا يرجع في العبد قائما أو كان فائتا. والقول الثالث ذكره في المجموعة، وفصل فيه القول بين كون الاستحقاق وقع بقربٍ من هذه المعاوضة ودفْعِ العبدِ، ويين أن يقع الاستحقاق إذا طال الزمان، فرأى أنه يرجع في القْرب، كما حكيناه عن ابن القاسم، وبعد طول الزمان لا يرجج، كما حكيناه عن سحنون. واعتل الذاهب إلى هذا بما يقع بالمدعي من الضرر الذي بسبب من استحقت الدار من يده، بأن يقال: كنتُ أتمادى على خصامك بأخذ الدار من يديك ببّينة تشهد لي بما يوجب ذلك، فلما دفعتَ إلىّ العبد أهملتُ السعيَ في بينتي وتحصيل شهادتهم، وسبب ذلك دفعُكَ العبدّ إليّ، فليس لك مرجع عليَّ مع كونك سببا في تعطيل شهادة بينتي.
واعلم أن منشأ الخلاف في هذا، أن من الأقوال ما تكون له نتائج وتلزم عنه لوازم لا ينفك منها. فمن نظر في هذا وجد المدعَى عليه يقول المدَّعي: مالك في الدار شيء، ولكن أَدْفعُ إليكَ هذا العبد تنزُّها منّي عن الخصام. ولا يصح أن يتصور هذا مقتضى قوله: مالَك في الدار شيء، أن يكون العبد
__________
(1) هكذا في (و). وفي (مد): في الاَعْواض للدّعاوي.

(3/ 2/304)


معاوضة عن الدار, لأن قوله: مالك فيها شيء، يلزم عليه ويتضمَّن إستحالةَ المعاوضة عنها، فيتضح على هذا البناء ما قاله سحنون إذًا صرف المعاوضة إلى إسقاط الخصام إلى معاوضة ملكٍ يُمْلَكُ وإذا كان ومعاوضة عن الخصام فقد أسقطه المدعي، وهو متماد على إسقاطه، فصحت المعاوضة، فلا تنتقض بعد هذا. وإن التُفِت في هذا إلى قول المدعي: إن الدار ملكي، فاللازم على هذا القول ومتضمَّنُه أن المعاوضة بالعبد وقعت عن نفس الدار، وهي نقلُ ملكٍ عوضا عن ملكٍ، وإذا كان ذلك كذلك وَضُح ها هنا ما قاله ابن القاسم من رجوع من أُخِذت الدار من يديه في للعبد الذي دفع، وصار ها هنا حُكْمان يتدافعان على محلّ واحد فأيهما يثبت وينفى (1) الآخر.
هذا سبب هذا الخلاف.
وأما الذي في المجموعة فالتفت فيه إلى علة أخرى وهي ما ذكرناه عنه، وهي تعطيل بيّتة المدعي، ويكاد للحق هذا البناء ما علم في المذهب في رجل قال لآخر: لك عليّ دين، فقال المقر (2): ليس لي علمك دين. فإذا نظرت إلى مقتضى كل واحد منهما وجدَته كهذه المسألة التي ذكرناها.
وقال أبو بكر ابن اللباد وأبو سعيد ابن أخي هشام: المعروف من مذهب أصحابنا أن الدار إذا استحقت رجع دافع العبد في عبده، وأما إن وقع الاستحقاق (3) ففيه قولان:
ذهب ابن القاسم أنه يعود إلى الخصام في الدار، كما ثبتت الدار للمدعي فباعها بعبد فاستحِق العبد، فإنه يرجع في عين الدار إذا كانت ثبتت له قبل الصّلح.
وذهب سحنون إلى أنه لا يرجع في محين الدار، ولا إلى الخصام فيها, ولكن يرجع بقيمة العبد، لكون رجوعه في محين الدار غيرَ ممكن, لأنه لم تثبت له،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: له.
(3) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: إضافة: فيه.

(3/ 2/305)


ورجوعه إلى الخصام إيقاع له في الغرر، والغرر مما يجتنب في الشرع، فلم يبق إلاّ رجوعه بقيمة العبد، كمن صالح عن دم عمدٍ أَوْ خلعٍ، وما في معنى ذلك. وأيضًا فإن الغالب في الصلح على الإنكار أن المدعي لا يأخذ قيمة ما ادعى فيه، وإنما يؤاخِذ (1) في ون ذلك اغتناما منه لئلا تصح له الدعوى فيقتصر على قيمة ما أَخَذ.
ولو ادعى في شقصِ من دار فصالح المدعي عن دعواه بنصيب من دار، فهل يقضَى في هذه المعاوضة بالشفّعة أم لا؟ عند ابن القاسم أنه يقضى فيها بالشفعة، بناء على ما قدمناه بأن المعاوضة، وإن كانت وقعت في إنكار الدعوى، فإنها تجري مجرى البياعات. وقال أصبغ لا شفعة في هذا، وكأنه رأى أنها دفع للخصام، والخصام ليس بمال، وما ليس بمال لا يقوّم، والشفعة إنما تكون في الحقوق المالية، لا سيما إذا قلنا: إن الهبة لشقص بغير عوض لا شفعة فيه، على أحد القولين، فكذلك فذا يكون أخذ الشقص الذي وقع به الصلح كالهبة. وعلى قول سحنون تكون الشفعة بقيمة الشقص المأخوذ لا يقيمة الشقص المدعى فيه، وكأنّ الشقص المصالح به لما أُخِذ بالشفعة صار كاستحقاق، واستحقاق العبد وقع عن مدافعة من خصام في مال فأجرِي حكمه في الشفعة مجرى المال. ولو وقع الاستحقاق في نصف هذا العبد لكان قابض العبد بالخيار بين أن يرضى بعيب الشركة في العبد، ويمضي الصلحَ في نصف الدار، ويخاصم في النصف الآخر، أو يقبل نصف العبد عوضا عن دعواه في جميع الدار. فإن قبل نصف العبد عوضا عن جميع الدار فلا مقال لمن في يده الدار، وإن لم يقبل ذلك إلاّ عوضا عن نصف الدار، وطلب الخصامَ في النصف الآخر، فإنه ينقلب الخيار إلى من في يديه الدارّ, لأنه يقول: دفعتُ العبد على ان لا تخاصمَني، فإذا خاصمتني في نصف الدار، وخصامك في نصف الدار كخصامك في جميعها، فلا امكّنُك من ذلك. هذا البخاري على طريقة ابن القاسم.
وأما على طريقة سحنون الذي يوجب الرجوع بجميع قيمة العبد إذا وقع
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يأخذ ..

(3/ 2/306)


الاستحقاق في جميعه، فإنه له ردَّ جميع العبد وأُخِذ بقيمة جميعه لعيب الشركه فيه.

والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال:
قد علم أن الغالب في المعاوضات كون الاثمان أحدَ النقدين، إما دنانير أو دراهم. وواضح أن من اشترى عبدًا بدنانير فاستُحق المثمونُ، وهو العبدُ، أن البيع ينفسخ، ويرجع مشتري العبد بالدنانير أو بالدراهم التي دفعها ثمنا عن العبد. وإن استحقت الأثمان، وهي الدنانير أو الدراهم، ينفسخ البيع، ووجب على المشتري غرم الثمن ثانيا, لأنه إنما وقع (1) على البيعِ على أن الثمن في ذمة المشتري، فإذا عيّنه بالدفع وأُخذ كان على المشتري خَلفُه. ولكن إذا لم يدفع المشتري الثمن حتى رضي، هو والبائع، بأن يأخذ عن الثمن، الذي هو الدنانير أو الدراهم، عوضا، مثل أن يبيع عبدا بمائة دينار فيتراضيان على أن يأخذ عنها ألفَ دِرهم، فإن الاستحقاق ها هنا في الطرف الأول والآخر، ولا يتصور في الواسطة, لأن العبد المبيع يمكن أن يأتي فن يستحقه فيأخذه، فيبطل البعير فيه، ويمكن أيضًا أن يأتي من يأخذ الدراهم التي أخِذت صرفا عن المائة دينار ويستحقها بعينها، وأما الدنانير التي في الذمة ولم تخرج من الذمة فلا يمكن أن يقع فيها استحقاق. فإن وقع الاستحقاق في العبد المبيع بمائة دينار ثم أَخَذَ عن المائة دينار ألف درهم، فإن البيع في العبد انفسخ بالاستحقاق، (ولو كان ثمن العبد مائة دينار) (2). فإذا بطل المثمون، وهو العبد، بطل الثمن الذي هو المائة دينار، فلو كان المشتري دفعها لرجع بها ولكنه لما لم يكن دفعها كان الأصل ان يرجع بها على البائع وتبقى الدراهم للبائع. لكن نقلنا (3) عن هذا الأصل للاحتياط للربا لأن البيع في العبد كان بمائة دينار ثم دفع عن المائة دينار ألف درهم، فلو أوجبنا رجوع مشتري العبد بمائة دينار يوم الاستحقاق، وقد كان
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (على).
(2) هكذا في النسختين، والأوْلى حذف ما بين القوسين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: انْتَقَلْنَا.

(3/ 2/307)


تقدم عقد الصرف ودفع الدراهم منذُ أيام، لحصل من أمرهما أنه دفع بالأمس دراهم وأخذ اليوم عنها ذهبًا، وهذه صورة الصرف المستأخَر، فوجب أن ينتقل عن الأصل، ويرجع مشتري العبد بما نَقده.
ولو وقع البيع للعبد بمائة دينار، فتراضيا على أنا أَخَذ بدلا عن المائة دينار جاريةً، فاْستُحِق العبدُ، فباستحقاقه انفسخ البيع فيه، (1) بطل الثمن وهو المائة دينار، وبطلان الثمن كاستحقاقه، وهو ثمن الجارية، وقد قررنا أن استحقاق المثمون لا يُبطلِ العقدَ، بل يجب خَلَفُه، فعلى آخذ الجارية عوضا عن المائة دينار أن يخرم ثمنها لمّا وقع الاستحقاق، والبطلان في ثمنها بإبطال المثمون، إلاَّ أن يُعلم أن بائع العبد، الذي أخذ الجارية، أخذها بثمن بخْسٍ طلبًا للتخلُّص ممن اشترى منه العبد، وترفّها عن اقتضائه، ومخافة عن مخاصمة غرمائه، فيكون الحكم ها هنا، إذا تيين ذلك، وإنه هو العقد، أنا يرجع بائع الجارية فيها بعينها، أو بقيمتها إن فاتت لأنه إنما اخذها بثمن بخس، على أن وهَبَ بعض الدنانير التي له على بائعها. فإذا بطلت الهبة لكون الثمن بطل باستحقاق العبد بطل العقد في الجارية لبطلان بعض الثمن الموهوب، وهو معيّن لا يلزم خلَفه كما يلتزم (2) خلف الأثمان إذا استحقت. هذا حكم الاستحقاق في الطرف الأوّل وهو العبد.
وأما الاستحقاق في الطرف الآخر، وهو دراهم أخِذت عن دنانير، أو جارية أخذت عن دنانير، فإن الدراهم إذا استُحِقت بطل الصرف فيها، وإذا بطل الصرف فيها بقيت الدنانير في ذمة مشتري العبد، فعليه أن يغرمها لبائع العبد منه.
وأما إن كان الطرف الآخر جارية فاستُحِقت، فإن البيع يبطل فيها، ويرجع مشتريها، وهو بائع العبد، بمائة دينار التىِ عقَد بها بيع عبده. ولا يبالي ها هنا يكون الجارية أُخذت بثمن بخس, أو بقيمتها لأن البائغ اشتراها من المشتري
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة (وَ).
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَلْزَم.

(3/ 2/308)


لعبده بالمائة دينار، التي لك (1) على مشتري عبده، ومن اشترى جارية بمائة دينار، وهي تساوي خمسين دينارا, فاستُحِقت من يده، فإنه يرجع بجميع ثمنها، وهي المائة دينا، ويبطل مالحقه من الغبْن فيها, لأنه غُبِنّ لأجل ما اشتراه، فإذا بطل ما اشتراه بطل عنه ما غُبِن فيه.
هذا ييان القول في هذا، واختصار العبارة عنه أن يقال: إذا وقع البيع بأحد النقدين، وأخِذ عنه النقد الآخر من النقد، واستحق العوض المبيع، فإن الرجوع بما نقد، وإن أُخِذ عنه خوض فالرجوع بما عقد، والغبْن عن العيْن بما نقَد، والغرض (2) عن العين بما عَقَد.
ولو أراد المستحق للعقد أن يجيز البيع فيه على أن يكون له الثمن الذي وقع به العقد، وهو الدنانير، لكان من حقه ذلك.
ولو أراد أن يجيز على أن يكون له العَرْض الذي أخذ عوضا عن الدنانير، التي هي ثمن العبد، لم يمكْن له ذلك لأنه إذا أراد أن يأخذ الدّنانير مُكِّن من ذلك لأنها عينُ ثمن عبده (الذي نقدا عليه) (3) في بيعه, وإذا أراد أن يأخذ الجارية المدفوعة عن الثمن لم يُمكَّن من ذلك, لأن من تعدّى على دنانير لرجل، فاشترى بها سلعة، فإنما على المتعدي الدنانيرُ التي اشترى بها, وليس عليه دفع ما اشتراه بها, لما قدمنا من أن الاثمان في الاستحقاق يجب خَلَفها، والمثمونات في الاستحقاق لا يجب خلافها.
وله إذا أجاز البيع أن يأخذ الدنانير من المشتري, لأنه لم يدفعها إلى من باع منه، وإنما دفع إليه عوضها، فهي باقية في ذمته، فللمستحق أخذها. وإن كان قد دفعها فإنه يطِالب بالثمن قابضَه الذي تعدّى على العبد فباعه. وأما المشتري فلا مطالبة له عليه, لأنه دفع الثمن إلى من يعتقد أنه يستحقه، وفي
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العِوَض.
(3) هكذا في النسختين.

(3/ 2/309)


كتاب ابن سحنون أن له مطالبة المشتري بالثمن وإن كان قد دفعه.
واراد بعض الاشياخ الحذاق أن يجري هذا على الخلاف في أصل اشتهر الخلاف فيه، وهو متلف مال غيره بوجه شبهة لا إذن له في التصرف فيه، كمشتري عبد قتله خطأً، وهذا البناء الذي بناه صحيح إذا قلنا: إن صاحب العبد إذا أجاز البيع فكأنّ البيعَ لم يزَلْ جائزا، أو العقدةُ ماضيةُ، ويصير يائع العبد كالوكيل لمالكه على البيع، ومنُ وكِّل على البيع فله قبض الثمن. وأما إذا قلنا: إنه إذا جاز البيع إنما ينعقد اليوم لا فيما قبلُ، والمشتري قد دفعه فيما قبلُ فهذا ينظر فيه. هذا حكم بيع العرْض بالأثمان التي هي النقود.
وأما بيع عَرْض بعرض، ودفع عنه أحد النقدين، مثل أن يشتري عبدا بجارية، ثم يدفع عن الجارية مائة دينار، فاستُحق العبدُ، فإن استحقاقه يُبطل البيعَ في الجارية، ويوجب ردّ الجارية على بائعها، وبائعها هي باقية في يديه لأنه باعها أوَّلًا، ثم لم يدفعها حتى اشتراها بالدنانير التي دفَع، فبقيت في يديه، وإذا بقيت في يديه ردّ الدنانير قابضُها. واما لو استُحِقت الجارية لرجع في عبده، إن كان قائما، أو قيمته إن فاتت (1)، ويرد الدنانير التي قبض. والدنانير تردّ في الوجهين جميعًا، ويبطل العقد الأول والثاني. ولكن إذا بطل العقد الأول، باستحقاق العبد، وجب رد الجارية، فإنها في يد من يجب عليه رد العبد، والعبد ليس في يد بائعه، فوجَب رجوعه في عينه أو قيمته إن فات.
ومما يلحق بهذا لو اشترى عبدا بمائة دينار فاطلع على عيب، فأراد ردّه على بائعه، فصالحه بائعه على أن يترك خصامَه فيه، ويعطيه عبدا آخر، فإن مذهب ابن القاسم في هذا أن العبدين، الأولَ والثاني، يقدر كأنهما اشتُريا في صفقة واحدة وكأن العقد في العبد الأوّل إنما وقع الآن حين أضيف إليه العبد الذي أخذه المشتري صلحا، فينظر في استحقاق أحد العبدين، الأول والثاني.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فاتَ.

(3/ 2/310)


فإن كان المستحَقُّ (وجد الصفقة) (1) رد الباقي في يديه، وإن كان المستحَق منها هو أقلَّ الصفقة لزم الباقي بحصته من المائة دينار التي هي ثمن العبد الأول،
وصارت في الآخر ثمنا للعبدين جميعًا. وقرر ابن القاسم ها هنا أنه لما ملك ردّ العيْن بالعيب فكأنه ردّه ثم اشتراه، هو والعبد الآخر، بالمائة دينار التي وجب على بائع العبد الأول أن يردها إليه.
ومذهب أشهب أن العبد الثاني إنما أخذ عوضا عن ترك المخاصمة والمحاكمة في العيب، فإن وجَد فيه عيبا ردّه، وبقي على حقه في الخصام في العبد الأول، وإن وجد عيبا في العبد الأوّل غير الذي صالح عليه كان له ردّه بالعيب الذي اطّلع عليه بعد الصلح. وقد مرّ أشهبُ على أصله في كون الصلح عن هذا ثمنا لرفع الخصام، فإن جاز أن يصالح عن العبد بدراهم، وإن كان ثمنه دنانير، ولم يلتفت إلى وقوعها في الربا لما قدّر أن هذا اشترى لرفع الخصام، ورفع الخصام ليس بمال ولا مما يتقوم، وكان طَرْد هذا يوجب جواز الصلح عن هذا بعبد أو بثمرة لم يبدُ صلاحها ولكن الشيخ أبا القاسم السيوري منع من هذا. وما أراه منع من هذا إلا أن الخصام مما فيه خطر وغرر، وإذا أخذ عوضا عنه العبد الآبق فهو عاوض عن غرر بغرر، فاشتد حكم الغرر لأنه طارئ في الطرفين جميعًا بخلاف إذا تُصوّر التحريم والمنع من جهة واحدة.
ولأجل هذا التعليل خرجنا فيه خرج أهل المذهب المشهور عنهم في أحكام الاستحقاق إلى أن الاستحقاق إذا وقع كان الرجوع في عين العوض عن الشيء المستحق، (وإن فات وجب الرجوع في عينه إذا كان لم يفت رجع في قيمته) (2). فقالوا، فيمن صالح عن دم عمد بعبد فاستُحق العبد: إن الرجوع لا يكون في الدم فيستباح، ولا في الدية، وإنما يكون في قيمة العبْدِ إذا استحق
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وجه الصفقة.
(2) هكذا في النسختين:

(3/ 2/311)


وكان الأصل في هذا أن يرجع إلى إراقة الدم لأنها عوض العبد المستحق ولكم لحرمة الدماء وجب ألا تراق بعبد (1) العفو عنها ويرجع في الاستحقاق إلى قيمة العوض. وكذلك قالوا، في الخلع بعبد بذلت المرأة لزوجها على أن فارقها، فاستحق العبد، فإنها لا ترجع إلى العصمة. وكان مقتضى الأصل الذي ذكرناه أن ترجع إلى العصمة، ولكن إذا حرّمت الفروج فلا يصح بعد التحريم استباحتها إلا بعقد.
وكذلك لو تزوج رجل امرأة بعبد، فاستحق بكونه مغصوبا، أو بإثبات كونه حرّا، فإن المرأة ترجع بقيمة العبد الذي أستحق من يدها، وكان مقتضى الأصل أيضًا أن ترجع في منافع فرجها أو تمنع الزوج منها, لكن الصداق يجب بالوطأة الأولى، فكان ما بعدها من الوطء ليس بعوض عن الصداق فترجع فيه،
وأيضًا فإن حل العصمة لا يكون إلا بطلاق، والزوج ها هنا لم يطلق: لكن المعْيرة رأى أن إستحقاق العبد، الذي هو الصداق، يوجب رجوع المرأة على الزوج بصداق المثل، وهو عوض ما دقعت من منافع بُضعهلا، لما لم يكن الرجوع في نفس ما دفعت وهو منافع البضع, لما قلناه.
وكذلك المكاتَب إذا قاطع سيده على عبد معين، أو سلعة معينة، وأعتق المكاتب لأجل ما أدأه من عوض الكتابة، كما يكون حرًا إذا أدّى سائر نجومها بعينها، فإن استحق العبد الذي جُعِل عوضا عن الكتابة، فإنه إن علم أنّه متعد فيه، لكونه لا يملكه، فإن العبد يعود إلى كتابته، وكأنه أراد استعجال العتق قبل وقته، فعوقب بحرمانه، ولأجل كونه عن (2) سيده الذي باع كتابته منه بعبد له فيه غرض، فإذا أخذ العبد وبطل غرض سيده الذي أخذه، رجج فيما كان العبد عوضا عنه وهو الكتابة. وأما إن كان دفع إليه عبدا يعتقد أنه ملكه، واستُحِق، والعبد لم يعلم حين دفعه لسيده أن العبد الذي دفعه عوضا عن كتابته مستحَقٌ،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَعْدَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرَّ.

(3/ 2/312)


فإنه يرجع السيد عليه بقيمة العبد المستحَق حق يديه، ويتبعه بهذه القيمة إن كان فقيرا, ولم يمكن من الرجوع أي ابقائه عن (1) الكتابة لأن الكتابة غرر لا يدري السيد ما يحصل قيها وهل يعجز العبد المكاتب عن أدائها فيرق، أوْ لا يعجز فيعتق، والوجوع إلى الغرر ممنوع، كما قدمناه في الصلحع عن دار ادعاها مدع، ومن هي في يديه ينكر.
وهذه المسائل الخمس يخرجوا (2) بها عن الأصل المشهور لأجل ما عللناه، وهي الصلح عن دم العمد، وأخذ عوض عن الخلع، وعن النكاح، أو عن دعوى ينكرها المدعَى عليه، أو عن كتابة المكاتب. ولا يظن أن المغيرة رجع إلى الأصل المشهور فيمن تزوجت بعبد فثبت أنه حر, لأنه قد قال كما قالته الجماعة في القول المشهور: تزوجت بعيد فاستحِق بكونه مغصوبا، لرجعت بقيمة العبد لأجل أنه مما يصح تملّكه، ولو أجاز سيده المستحِق له فعلَ غاصبه، ونكاحَه به، لمضى ذلك. بخلاف الحر الذي يستحيل أن يُتملكَّ شرعًا، فصار ذلك في الحر كمن تزوجت على ألاَّ صداق لّها، واشتراط عدم الصداق يوجب صداق المثل، فلم يخرج عن المذهب المشهور إلا في هذه المسألة لكونها يتصور فيها معنى آخرُ يوجب للزوجة الرجوع بقيمة ما دفعتْ، وهو صداق المثل.
ولأجل هذا التعليل فرق سحنون بين فساد النكاح وصحته فيمن تزوجتْ بعبد فاستحِق بحرية، أو برق، فقال: إن استحِق بحريهّ فُسخ النكاح قبل الدخول، وان استحق برق لم يفسخ النكاح، ورجعت الزوجة بقيمة العبد.
وهذمه التفرقة لأجل ما ذكرناه من كون العقد على الحر يستحيل في الشرع, فصار الفرج مبذولا بغيو عوَض, بخلاف أن يستحق العبد برق، فإنه وقع العقد بما يصح تملكّه. وإن كان ابن القاسم ساوى, ها هنا، بين استحقاق
__________
(1) هكذا في النسختين, ولعل الصواب: على.
(2) هكذا في النسحتين، ولعل الصواب: خرجوا.

(3/ 2/313)


هذا العبد الذي جُعِل صداقا، بين كونه يستحق بحرية أو برق، فقال: يفسخ النكاح قبل الدخول. وقال ابن كنانة وابن الماجشون: لا يفسخ في الوجهين جمعيا ويقضى فيه بقيمة العبد المستحَق يحرية أو برق.
وهذا الذي ذكرناه من الاختلاف في فساد هذا النكاح مبني على علم أحد المتبايعين بالفساد هل يفسخ العقد أم لا؟ فعلم الزوج يكون العبد الذي جعله صداقا لا يحل العقدُ به يغلّب عليه بالفساد على جهل المرأة بذلك فيفسخ النكاح، ولو علمت المرأة بهذا وجهل الزوج لكان ما ذكرناه من الخلاف باقيا على حاله، ولو جهلاه جميعًا لصحّ النكاح.
وقد يلحق هذا مع جهليهما جميعًا بمسألة من تزوج بقلال خل، فإذا بها خمر، وجهل ذلك الزوج والزوجة، وظناه خلاّ. وهذا مبسوط في كتاب النكاح.
وإذا أردت خروج هذه المسائل عن الأصل المشهور لأجل ما اعتذرنا به عن أهل المذهب، ولكونها ليست من الحقوق المحقق كونها مالًا، كبيع عبد بجارية ولا من الحقوق التي لا عوض لها كهبة عبد يستحق من الموهوب له، فإنه لا رجوع لما كان في يديه العبد فأخذه منه على من وهبه إياه، وإذا وقعت المعاوضة بالحقوق المالية المحْضة وجب الرجوع عند الاستحقاق، كمن اشترى عبدا بجارية، ولكن المعروف من المذهب ما قدمناه ميت أن الرجوع في الاستحقاق بما دفعه من استُحِق الشيء من يديه لا بقيمة ما أخِذ من يديه، فإن كان مادفعه قائما أخذه بعينه، وإن فات وهو مكيل أو موزون أخذ مثله. هذا إذا فات بالتلف والهلاك.
وأما بحوالة الأسواق فإنه لا يفوت بها ويرجع من استُحِق الشيء من يديه في عين ما دفع ولو كان الذي دفع عرْضا لفات بحوالة الأسواق ورجع في قيمته. وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب البيوع الفاسدة، وأشرنا إلى التفرقة بين حوالة السوق في العروض في المكيل والموزون. وقد كان شيخنا أبو محمَّد

(3/ 2/314)


عيد الحميد، رحمه الله، يشير إلى أن المذهب على قولين في هذا، هل يجب الرجوع بقيمة ما دفع أو بقيمة ما قبض واستحق من يديه؟ ويرى أن الخلاف في هذا مبني على معرفة المقصود، هل القصد في بيع عرض في عرض القِيمَ والأثمان أو الأعيان؟ فإن كان القصد الأثمان كان الأوْلى الرجوعَ بقيمة ما قُبض واستحِق من يديه، وإن كان المقصود الأعيانَ كان الأوْلى أن يرجع بقيمة ما دفع. وقد وقع في المدونة مسألتان ظاهرهما يقتضي أنهما مبنيتان على القول الشاذ: أن الرجوع يكون مما (1) قبض لا بما دفع. إحداهما: ما ذكره فيمن أسلم ثوبين في فرس يقبضه إلى أجل معلوم، فأتى من استحَق أحد الثوبين، فقال: إن كان الثوب المستحَق هو الأدْنى رجع بقيمته. فأطلق القولَ ها هنا بأن الرجوع في الاستحقاق بقيمة ما قبض، وهو الثوب الأدنى، لا بقيمة ما دفع. وهذا هو المذهب الذي ذكرناه. وعند ابن المواز انه يرجع بقيمة الثوب الأدنى فيما يقابله من الفرس، فإن كان الثوب الأدْنى هو الرُبُعَ من الثوبين جميعًا سقط العقد في ربع القوس، ويرجع من استحِق الثوب الأدْنى من يده في ربع الفرس، ويأخذ فرسا كاملا. هذا على مذهب ابن القاسم الذي يراعي ضرر الشركة، وينقل من استحق الرجوع بجزء مما دفع إلى أخذ قيمة ذلك الجزء، لأجل ما طرأ على من أخذ الكل استحقاقُ جزء من الكلّ الذي أخذ. وإن أشهب "يخالفه في هذا، ويرى أنه يرجع في عين الجزء الذي دفع، ومراعاة حقه في العين هي التي تقوّم، على ما يبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد وقع اضطراب في الزمن الذي يعتبر فيه قيمة هذا الجزء الذي بطل في الفرس، إذا حل أجل السّلَم، هل يعطي مَن عليه الفرس قيمة رُبُعِه، الذي ذكرنا أنه عَدَل ابن القاسم إليه، لأجل ضرر الشركة يوم دفع الفرس، لأجل أنه حينئذ وجبت الشركة، ورفْع ضررها لأخذ (2) القيمة. وهذا اختيار بعض الأشياخ، ثم
__________
(1) هكلذ! في النسختين، ولعل الصواب: بما
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأخْذ.

(3/ 2/315)


أو تراعى قيمته إلى الأجل (1) الذي وقع إليه السلم، كما يجب أن تراعى قيمة الثوب المستحق الذيهو الأدْنى من قيمهّ الثوب الأرْفع يوم وقع العقد، وإن تأخر الاستحقاق عن زمن العقد، وقد تردد بعض الاشياخ الحذاق في هذا لأَجْل أن الشركة إنما. وجبت يوم دفع الفرس وجُعلَت القيمة يدلا من العين نسبة (2) الثوب الأذنى من الثوب الأعْلى، فإنهاْ تراعى يوم وقَع العقد السلم لأن ذلك التقويم، ليس ببدل عن أصل، بخلاف التقويم لربع الفرس فإنه بدل عن العين.

وأما المسألة الثانية، التي وقعت في المدونة فإنها مذكورة في كتاب الشفعة، في رواية الدبّاغ، فيمن باع شقْصًا بطعام، فأخنه الشفيع بمثل ذلك الطعام، ثم استحِق من يد بائع الشقص، فإنه يرجع بمثل الطعام. وهذا رجوع بما قبض لا بما دفع، وإدط كان ابن المواز: هذا غلط (3)، وإنهما يرجع بقيمة الشقص. وقد ذكرنا أن الحكم عند أبن القاسم *الرجوع في قيمة الجزء المدفوع لأجل ضرر الشركة. وقال فيمن اشترى جارية بعبّد فاستِحق نصفُ أحد العوضين، فإنه بالخيار بين أن يرد نصفه من يده, لأجل ضرر الشركة، ويأخذ قيمة العوض، الآخر، أو يتمسك بالنصف الذي بقي في يديه، ويرجع بنصف قيمة العبد, وهي مجهولة، ومن أصلًا مقتضى مذهبه أنه إذا استحِق بعض ما في يديه، وتمكن من رد ما بقي في يديه، أنه ليس له أن يتمسك بقيمة ما بقي في يديه، بنسية ما يقال ذلك من الثمن، مع كون الثمن معلوما، فكذلك ينبغي ألا يمكَّن هذا من التمسك بالنصف الذي بقي في يديه مع كون ما يرجع به من القيمة مجهولا لا يستند إلى معلوم.

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعانى ورضي عنه:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الأجل
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بنسبةِ،
(3) هكذا في النسختين, ولعل الصواب: إضافة [قال]: هذا.

(3/ 2/316)


ومن ابتاع أمة فأولدها ثم استحقت فولدُها حرٌّ. وفي أخذها روايتان:
إحداهما (1): إن له أن يأخذ قيمتها, وتكون أم ولد للواطيء وفي أخذ قيمة الولد خلاف.
وإن غَرَّتْ بأنها حرة فللسيد أخذها وأخذ قيمة الولد إن كان ممن لا يعْتق عليه.
وأما (2) الغاصب إذا وطئ الأمة المغصوبة فإن السيد يأخذها، وولدها ملك (3) له ولا يلحق النسب بالغاصب.

قال الفقية إلامام رحمه أدنّه تعالى ورضى عنه، يتعلق بهذا الفصل أربعة اسئلة. منها إن يقال:
1 - ما الحكم في استحقاق الأمهّ وقد ولدت ممن هي في يدية بوجه شبههّ نكاح أو ملك يمين؟
2 - وكيف يُقوَّم ولد المستحَقة؟
3 - وهل يقوّم بماله أو بغير ماله؟
4 - وما الحكم فيه إذا قتل؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال.
أما الأمة إذا ولدت من رجل وطئها بوجه شبههّ، فلا يخلو أن يكون وطأ بنكاح أو بملك يمين.
فإن كان وطأ بنكاح صحيح قلا خلاف أن ولده منها تبَع, لأنه يسترقّه
__________
(1) في الغاني والمغربية: أحداهما: أن للمالك أن يأخذها. وفي الأخرى ...
(2) في الفاني والمغربية: فأما،
(3) في الغاني والمغربية: مِلْكًا.

(3/ 2/317)


مستحق أمّه كما يسترق أمّه، كالاختلاف (1) أيضًا أن نسبه لاحق بأبيه وإن كان الولد مملوكًا لغيره، وهو سيد أمه. وهذا إذا كان الناكح لها عالمًا برقها. وأما إن جهل رقّها فقيل له: إنما حرة، فاستولدها على أنها حرة، فإن المعروف من مذهب مالك وأصحابه أنه إذا أتى سيدها فاستحقها، وهو لم يأذن في نكاحها ولا غَرَّ الزوج بذكر أنها حرة، فإن سيدها يأخذها بعينها. لكن ذكر ابن الجلاب في تفريعه رواية شاذة وهي القضاء على الزوج بقيمتها، كأحد الأقوال (2) كالواطىء أمة بملك اليمين فأتى سيدها فاستحقها وقد ولدت من مشتريها.
وأما استيلادها بملك اليمين فأتى من استحقها فإن مالكًا رضي الله عنه اضطرب قوله في ذلك فقال مرة: يأخذها سيدها وقيمةَ ولدها. وهو اختيار ابن القاسم، وعليه كثير من العلماء، ويحكى ذلك عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم رجع عن هذا المذهب فقال: يأخذ سيدها قيمتَها وقيمة ولدها.
ثم رجع عن هذا إلى مذهب ثالث، فقال: يأخذ سيدها قيمتها يوم حمَلت ولا يأخذ قيمة ولدها. وبهذا أفتى لما استُحقت أم ولد إبراهيم. وتابعه على هذا جماعة من كبار أصحابه كاين كنانة وابن دينار وغيرهما. ثم رجع عن هذا إلى المذهب الأ وَل، وهو أنه يأخذها بعينها وقيمة، ولدها. قال ابن كنانة: وعلى هذا المذهب مات.
واعلم أن سبب هذا الاضطراب الموازنة ما بين ضررين تَقابَلا من جانبي رجلين.
أما ضرر مستحق الأمة إذا مُنِع من أخذ عيْنها، فهو ما يدركه من بيع ملكه بغير اختياره، وأصول الشرع تقتضي ألاّ يخرج ملك إنسان بغير اختياره، وهو ظاهر الأحاديث كقوله عليه السلام: "كل ذي مال أحق بماله" (3) وقوله عليه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَلاَ خلافَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على الواطىء.
(3) فيض القدير: 5: 20 حد 6305

(3/ 2/318)


السلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (1) هذا الضرر اللاحق بالمستحق.
وأما الضرر اللاحق بمستولد الأمة بوجه شبهة، فهو ما يدركه من المعرّة من كون أم ولده تباع وتشرى وتستخدم، فيلحق من ذلك أولاده أشدُّ المعرة وأكبرُ المضرة، ومالحق أولاده من ذلك يلحقه. فأي الضررين أوْلى أن يعتبر؟
هذا سبب الاختلاف، فتارة (رجحا جانبه) (2) المستحق لظاهر الحديث الذي ذكرنا, ولمشاهدة (3) الأصول. لا يخرج ملكه بغير اختياره إلا فيما نص الشرع عدى جبره عدى بيعه. وقد عضد هذا القول باتفاق أهل المذهب على أنه إذا استولد أمة بنكاح يظنها حرة أنها تؤخذ من يديه وإن كان يلحقه من المعرفة ويلحق بنهيه (4) منها مثل مات يلحقه، ويلحق بنهيه (5) في استحقاق الأمة إذا استولدها سيدها بملك اليمين فاستحقت.
وهذا عندي قد يعذر عنه بأن من تزوج الأمَةَ يعتقد أنها حرة، لم يدخل على الرقبة ولا على تملكها، فإذا وقع استحقاق (لم يَلزَمْه بذل قيمتها، والمعاوضة على ما دخل على أنه لا يعاوض عنه ولا يصح في الشرع تملكه.
بخلاف من استولد بملك اليمين فإنه دخل على تملك الرقبة بثمن بذله فإذا وقع الاستحقاق) (5) حسن أن يلزم عوض ما دخل على تملّكه، وهي قيمة الأمة التي استولد ألا ترى أن سحنونا قال فيمن تزوج امرأة بعبد مغصوب أو بحرّ كَتَمَ حريته عنها: إن النكاح يفسخ في تزوُّجه بعبد مغصوب، كما قدمنا ذكر ذلك عنه، وتوجيهَه من أن الحرّ لما استحال فلكه شرعًا صار عقد النكاح به كعقد النكاح بغير صداق، بخلاف عقد نكاحٍ بعبد يصح تملّكه.
__________
(1) تقدم تخريجه
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رجّح جانب.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِشهادة.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَنِيهِ.
(5) ما بين القوسين ساقط في (مد).

(3/ 2/319)


فإذا تقرر أن منْشَأ هذا الاضطراب والاختلال الموازنة بين الضرر الذي يلحق عن استُحص الأمة من يديه، ويلحق بنيه منها، فإن المستحق لو رضي بأخذ القيمة وأسقط حقه في عين الأمة، فهلى يرتفع الخلاف لأجل رضاه بهذا أم لا؟ في ذلك قولان: ذكر ابن القاسم في كتاب القسم من المدونة: اختلاف قول مالك يرتفع إذا رضي المستحق بأخذ القيمة. وهكذا ذكر ابن المواز. وقال ابن الموأز عن اشهب: إن هذا خطأ، وأشار إلى أن الاختلاف باقٍ مع رضي المستحق بأخذ القيمة، فكأنَّ ابن القاسم غلّب جانب المستحق باستحقاقه العينَ، فإذا رضي بإسقاط حقه في العين، وقنع بأخذ القيمة ارتفعت العلة التي من أجلها رجّح جانبه، وصار كالطالب لمستولد هذه الأمة بحق إفاتته لها بالاستيلاد، وكأن أشهب غلب جانب من استحقت الأمة من يديه في أن لا يُجبر على شراء مال غيره بغير اختياره.
ومذهب الشافعي أن من وطئ أمة بملك اليمين فاستولدها، ثم أتى سيدها فاستحقها، فإنه يأخذها بعينها وقيمةَ ولدها يوم (........) (1) , أو يأخذ من مستولدها مثل المثل، وأرش البكارة إن كانت بكرا، وقيمة ما استخدمها، أو قيمة ما عطّلها عن الخدمة إن كان لم يستخدمها, لأنه يرى أن الغلات تردّ في الاستحقاق (حق مشتري اغتل بوجه شبهة) (2) كما حكيناه عن الشيخ أيىِ القاسم السيورى من أشياخنا وأجرى الحكم في إيلاد من استولد أمة بملك اليمين بوجه شبهة مجرى استيلاد الغاصب في الغلة، وفي غرامة أرش البكارة. وإنما يفترق المشتري والغاصب في ثبوت الحدّ على الغاصب، وسقوطه عن المشتري، (3) في لحوق الولد واسترقاق الولد.
وأمّا ما حكيناه عن مالك من إلمذهب الثالث من أنه يرى أن المستحق
__________
(1) فراغ بمقدار كلمة في النسختين.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وضع الواو.

(3/ 2/320)


يأخذ قيمة الولد يوم الحمل ولا مطالبة له بقيمة الولد، فإنما ذلك لكونه يعتقد أن وطأها إفاتة لها لأجل حبسها للاستبراء من هذا الوطء، كأمة من (1) شريكين وطئها أحدهما، فإنه يضمن قيمتها بوطئها وإذا ضمن القيمة بالوطء صار الولد قد وضعته أنه، وقد ثبتت له الحرية، بوجوب غرامة أبيه قيمة أمه، وإذا غرم قيمة أمه فقد ملكها بالقيمة، وإذا ملكها بالقيمة صار استولد أمة استقر ملكه عليها، فولده حرّ منها.
ومقتضى هذا المذهب أنها لو ماتت قبلَ أن يأتي مستحقها للزم واطئها قيمتُها لوجوبها عليه بنفس الوطء. ومقتضى أيضًا هذا التعديلا أن تكون أمَّ ولد لواطئها, لأجل ما عللت به من وجوب القيمة عليه، وإنما استولد من استحقَّ ملكَه عليه. وإذا قلنا: إن قيمتها انما تجب عليه يوم استحقاقها بأنها (2) لا تكون أم ولد، على ما ذكرناه عن اشهب من أن وطئها (3) لا يجبر على بذل قيمتها إن رضي المستحق بذلك، وإنما عليه تسليم عينها، وإن غرم قيمتَها فكأنه افتداها. وإن ولدت وهي رقيق ولا (4) تكون أم ولد. وأما على مذهب ابن القاسم، الذي ذكرناه عنه، أن الخلاف يرتفع في أخذ عينها، إذا رضي المستحق بأخذ قيمتها، فإن بعض أشياخي ترجح فيه.
وعندي أنه انما ترجح فيه لأجل الاختلاف في المترقبات إذا وقعت الأحكام بها مستندة لأسباب تقدمت، هل يقدّر الحكم الحاصل يوم السبب الذي اقتضاه فيما بعد، فحسن أن تكون أمَّ ولد، وإن قضي بالقيمة يوم الاستحقاق, أوْلاَ يُلتفت إلى السبب، وكأن الحكم إنما وقع هو وسببه يوم الاستحقاق، فلا تكون أمَّ ولد.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنّها.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: واطئها.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

(3/ 2/321)


على هذا التفريع ينبني أيضًا طلب المستحق لها، وهي حامل لم تضع، فإن قلنا: من حقه أن يأخذها بعينها أُخِرّ الحكم إلى ان تضع فتُسلَّم إليه، وإن قلنا: إن الحكم أخذ قيمتها دون عينها حُكِم له يالقيمة على ما هي عليه يوم استحقها.
وأما الحكم في ولدها فإن الأصل أن يكونوا (1) تبعًا. لها في الحكم. فإن أخذها سيدها يسترقها فكذلك ينبغي أن يسترق ولدها، لكن منع من ذلك كون المستولد وضع نطفته على أن ما يكون عنها من ولد هو حرّ، وفعَل ذلك بوجه شبهة غيرَ متعدٍّ فيه، فامتنع الرقّ ها هنا احتياطا للحرية وتغليبًا لأحكام الحرية على أحكام الاسترقاق، كما أصلته الشريعة، والولد ليس بغلة فيُقضى بهم (2) للمستحق ولا يصح استرقاقهم (2) لما ذكرناه من الشبهة وكون الواطىء وضع نطفته على أنّ ما يكون عنها حرّ، فلم يبق إلا القضاء بقيمتهم (2) لأجل أن سبب إتلاف هذا الملك، والحيلولة بينها وبين سيد الأم، واطئها، فلزمه قيمةُ ما أحال بينه وبين مالكه.
ويؤكد هذا الاستدلال قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن قال يقضى فيهم بأمثالهم. وأشار أيضًا إلى مراعاة المثلية على الحقيقة، فقال: اشتبارهم، يعني قياسهم بالشبر. وهذا كالإشارة إلى ما حكيناه عن العنبري أن العروض يقضى فيها بالأمثال. ولكن هذا ملكٌ غير مستقر، ولا تصح المعاوضة عنه بالبيع والشراء، فصار كفرع خرج عن أصوله، لأجل ما اشرنا إليه.
ومتى تكون القيمة في الولد؟ المشهور من المذهب، وعليه الأكثر أن القيمة فيهم تعتبر يوم الاستحقاق لهم، يقوّمون كأنهم عبيد على ما هم عليه.
وقال المغيرة: بل تعتبر قيمتهم يوم وُلدوا، وهو مذهب الشافعي وكأنه رأى أن تقويهم في الرحم لا يصح, لأنّا لا نثق بأنهم موجودون، ولو وثقنا بذلك لم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يكون.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِهِ -استرقاقه- بقيمته.

(3/ 2/322)


تتحقق صفتهم فنقوّمها. والحيلولة التي سبب الضمان التي قدمنا ذكرنا لا تتصور، والولد مجهول في بطن أمه، فلم يبق إلا اعتبار القيمة يوم وُلِد, لأنه، ذلك اليوم، حَالَ ابوه بينه وبين مستحقه، ومنعه تملكَه، فما حدث بعد ذلك من نساء (1) فإنه لا يضمنه كما لو مات بعد الولادة لضمن القيمة.
وأشار أشهب في الرد إلى هذا المذهب أن الواطىء غير متعدّ، ومن كان في يديه الشيء بوجه شبهة فإنه لا يضمنه بتعديه عليه، فوجب أن يكون الموت قبل الاستحقاق يرفع الضمان عن أبيهبم فلاْ يجب على أبيهم فداؤهم بالقيمة إلا يوم الاستحقاق.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما تقويم الولد المستحَق أمّه فقد قررنا أن الأب تلزمه قيمته, لأنه حال بين المستحِق وبين استرقاقه الولد الذي هو تبع لأمّه، وعضو من أعضائها، فكان كالجاني على مال غيره بالإتلاف. وكون سيّد الأمة التي استولدها لا يصح أن يُرقّ ولدَهُ لكونه وضع نطفته على أن ما يتكّون منها حرّ، والحكم بالحرية ها هنا من غير عوض إتلاف لمال المستحِق، فوجب أن الحكم تقويم الولد على أبيه. فإن وجب ذلك فالتقويم، على مقتضى ما ذكرناه، على أن الولد الذي استُحِقت أمّه عبد مرقوق مثلُ أمّه، لكونه تابعًا لها في الحرية والرق.
وهذا ظاهر ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولو كانت الأمة المستحقه فيها عقد حرية من سيدها الذي استحقها، مثل أن يكون دبَّرها فاشتراها مشتر من يد من غصبها فاستولدها مشتريها، ثم أتى سيدها الذي يستحقها، فإن التقويم ها هنا يكون بحسب حال الامّ لأن ولد المدبَّرة مدبَّر هذا مذهب ابن القاسم في هذا الولد الذي استحقه (2) أمّه، أنه يُغرَّم على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولعل المراد: من زائد.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استُحِقت.

(3/ 2/323)


الرَّجاء والخوف، بأن يُعتَق من ثلث سيده، أو يرق إذا مات سيده وعليه دين يستغرقُه. والمشهور الذي عليه الأكثر من أصحاب مالك خلاف هذا وأنه يقوَّم:
رقيق. ألا ترى انه لو اشترى المدبَّرَ رجلٌ فأعتقه لكان العتق فيه فوتًا، ولا يرجع على البائع بشيء من الثمن على إحدى الروايتين. وهذا يستقصى في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، وفيه يتكلم على استحقاق ولد المكاتبة والمعتقه إلى أجل.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
اختلف المذهب على قولين: هل يقوّم ولد المستحقه بماله أو يقوم بغير مال؟ فمذهب ابن القاسم في العتبية إلى أنه يقوم بغير مال، ووافقه على هذا ابن كنانة وهو ظاهر المدونة من موضعين اثنين: أحدهما ما قاله ابن القاسم في كتاب الاستحقاق: إن الأب إذا كان فقيرًا أخذت القيمة من مال الولد. وهذا لا يتصور أخذه من مال الولد على أن يقوم بغير مال. وأما إذا قوّم بماله فكيف تكون قيمته بعضًا لماله وقيمة رقبته؟
وقد اختلف في أمّ الولد إذا جنت ووجب على سيّدها أن يفديها بقيمتها لكون الجاني تعلق حقّه بعينها, ولا سبيل إلى استرقاقها لما أحدثه سيدها من الاستيلاد لها المانع من بيعها. وفيها أيضًا قولان: هل يلزم السيدَ أن يفديها من الجناية بقيمتها فقيرةً أو بقيمتها بمالها الذي. في يدها؟ فكأن من رأى أن التقويم يكون بالمال قدّر أن من استقر فيه الرقّ فإن ماله لمن ملك استرقاقه، فلولا ما فعل مشتري الأمة من استيلادها لكان ولدها يأخذه مستحقُّها بماله، وقد حال بينه وبين أخذ المال، فوجب أن يغرم قيمة عوضه لأجل الحيلولة، كما يغرم قيمة الأمة. وكأن من رأى أن التقويم يكون بغير مال، رأى أن الرق لم يستقر في هذا الولد، فيكون لمن يملك رقَّه أن ينتزع مالَه، والحرية في هذا الولد هي

(3/ 2/324)


الأصل، والحر لا يمُلك عليه ماله.
وكان بعض اشياخي يرى أن التقويم بماله أَوْلَى لأنه تجب عليه غرامة قيمة نفسه عند ابن القاسم إذا كان أبوه فقيرًا، فكذلك يجب أن يقوّم بماله، وإن كان الغير رأى أن الأب إذا كان فقيرًا فإن الولد لا تلزمه غرامة قيمة نفسه.
وكأن شيخي هذا يرى أن القياس أن تكون الغرامة على الولد، ولو كان أبوه موسرًا, لأنه أحق بل يجب عليه فداء نفسه وانتقاذها من الرقّ فكان أولى بالغرامة من أبيه وإن كان موسرًا.
وهذا الذي قاله، رحمه الله، لا يطابق التعليل الذي عللنا به وجوبَ القيمة على الاب, لأنا علّلنا ذلك بأن الأب كالجاني على ملك غيره يالحيلولة بينه وبين مالكه، فلهذا وجبت عليه القيمة، والولد لا جناية له في هذا, ولا علاقة بينه وبين إتلاف مال الغير، فلهذا لم يكن أوْلى بالغرامة خلاف ما أشار إليه شيخنا. وقد اختلف ايضا في تعلق الغرامة بالأب هل هي بشرط أن يكون حيًّا، أو تتعلق به حيًّا، وتؤخذ من تركته ميتًا, كما اختلف في أم الولد إذا جنت، ومات سيّدها، فقيل: التباعة بالغرامة على سيدها إن ترك مالًا، وإن لم يترك مالًا لم تغرم هي في فداء نفسها شيئًا. وقيل: إن الغرامة على سيدها تُؤخذ من تركته.

والجواب عن السؤال الرابع ان يقال:
إذا قتل هذا الولد عمدًا فإن استحقاق المطالبة بهذا الدم لأبيه، ولاحق للمستحق لأمّه في طلب هذا الدم. فأبوه غير بين أن يقتل قاتله (ولا يعتد منه) (1) المستحق، بأن يقال له: قد تعلق لي حق بفكاك ولدك من الرق، فيجب أن يتعلق لي حق بالعوض الذي يؤخذ فيه، وهي ديته. لأن قتل العمد إنما تجب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَعْتَرضُ.

(3/ 2/325)


فيه الدية بتراضي القاتل وأولياء المقتول، وما يحتاج فيه إلى تراضي المتحاكمين فليس بحق ثابت لأحدهما. ولو قلنا بمذهب اشهب، بأن لأولياء القتيل أن يجبروا القاتل على أن يدفع لهم الدية، لكان الانفصال عن هذا الاعتراض بأن أشهب لا يرى الدية حق (1) متعين (1) لا معدل عنه، وإنما يرى أن يملك أولياء الدية أن يتملّكوه، ومن ملك أن يملك فلا يعد كالمالك، على إحدى الطريقتين، لا سيما وأشهب يقول: إن القتل لو كان خطأ، وأخذت الدية جبرًا من العاقلة، فإن المستحق لا يأخذ منها قيمة الولد، خلافًا لما ذهب إليه ابن القاسم من أن المستحق يأخذ من الدية قيمة الولد. وإن قصرت الدية عن قيمة الولد فلا تباعة على الأب. وكأن هذا يلتفت إلى أصل آخر، وهو أن الدية المأخوذة في الحُر هلْ هي كالبدل من عينة والقيمة له، كما تكون قيمة العبد إذا قُتِل بدلا من عينه، فيحسن على هذا أن يأخذ المستحق قيمة الولد من الدية التي أخذها أبوه من العاقلة. أو يقال إن الدية في قتل الخطأ ليست كالقيمة لشيء مستهلّك، كتقويم العبد إذا قُتِل، فلا يكون بدلا من العين (إذا لم نكن) (2) وإذا لم تكن بَدلًا لم تؤخذ منها القيمة. وإذا قلنا بمذهب ابن القاسم إن المستحق يأخذ قيمة الولد من الدية المنجَّمة على العاقلة، فإنما يأخذ القيمة من نفس ما نُجِّمّ على العاقلة، فإن قَصُر النجم الأول عن قيمة الولد التي تجب للمستحق أخّر طلبه حتى يحل النّجم الثاني، فيأخذ حقّه منه. وإن قصر أيضًا فيؤخر أيضًا حتى يستوفي الدية من العاقلة. ولو أنفقها الأب ما رجع المستحق على العاقلة, لأنهم دفعوها لمن لا يستحق قبضها.
ولو قطع عضو من الولد المستحَق قبل أن يأتي المستحِق فأخذ الأب دية ذلك العضو مثل أن يأخذ دية يدِ هذا الولد إذا قطعت، فإن المستحِق إذا لم يكن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حقًّا متَعَيّنًا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف ما بين القوسين.

(3/ 2/326)


له في دية اليد شيء على مذهب أشهب القائل بأنه لا تؤخذ القيمة من دية الخطأ في قتل النفس، وإنما للمستحق قيمة الولد على أنه مقطوع اليد، وعند ابن التهاسم أنه يُحكَم للمستحق بقيمة الولد يوم المحاكمة في الاستحقاق على أنه مقطوع اليد،، ثم ينظر ما بين قيمته صحيحًا يوم جُنِيَ عليه وبين قيمته مقطوعَ اليد ذلك اليوم، فيستحق المستحِق لأنّه بين أخذ قيمته مقطوع اليد، ما بين قيمته صحيحا يوم قطعت وقيمته مقطوع اليد، يأخذ ذلك من دية اليد، فإن قصرت عنه دية اليد لم يطلب المستحق بزيادة على ما أخذ.
وإن أخذ المستحق قيمة اليد من الدية التي أخذها الأب، وفضل من ذلك فضلة، فقد قال ابن القاسم: إنها للأب.
وتأول الأشياخ أن هذا الإطلاق ليس على ظاهره، وأن المراد به أنها للأب ينظر فيها لولده.
وهذا التأويل، وإن اقتضاه القياس، عندهم، فإن ظاهر الكلام لا يقتضيه.
وهكذا وقع لسحنون في أحد قوليه: إن الفاضل يكون للأب قولًا مطلقًا أيضًا.
وإن كان سحنون قد قال إن دية اليد للولد لأنها كَمَالٍ له، وماله يبقى في يده، ولا تؤخذ منه قيمة، مع كون الأب موسرًا، فكذلك ما هو ثمن لعضو من أعضائه. ولكن سحنون، بعد أن قال هذا، قال: أُوقِفُ القولين حتى انظر فيهما.
وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في ولد هذه المستحَقة إذا لم تضعه
وضرَب بطنَها رجل فأسقطته، فوجب على الضارب غرة، عبدٌ أو وليدة. فإن أشهب يرى أن هذه الغرة تكون للأب، ولا جق لمستحق الأم فيها طردًا لأصله: إن القِيَمَ لا تؤخذ من الديات. ودية الجنين كدية الرجل الكامل. وكما لا يأخذ المستحق قيمة الولد من دية الرجل الكامل فكذلك لا يأخذها من دية الجنين.
ومضى ابن القاسم على أصله أيضًا في هذا كما حكيناه عنه من أن المستحِق يأخذ قيمة الولد على أنه عبدُ من الدية الكاملة، فكذلك يأخذ عشر قيمة أم

(3/ 2/327)


الجنين, لأن ذلك هو دية الجنين الأمة (1) فيقضى له من الغُرة بمقدار قيمة عشرة (2) الأمة. فإن قصرت الغرة عن ذلك فلا مطالبة على الأب بزيادة على ما قبض من دية الجنين وهو الغرة الواجبة فيه.

تم كتاب الاستحقاق والحمد لله.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للأمة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عشر.

(3/ 2/328)