شرح التلقين

كتاب الرهن

(3/ 2/329)


{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
صلى الله على سيدنا محمَّد وسلم
كتاب الرهن (1)

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ورضي عنه: معنى الرهن احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم، مفردة كانت أو مشاعة.
وهو جائز لكل دين لازم أمكن استيفاؤه من ثمنه، كالدين من قرض أو بيع أو قيمة متلف أو غير ذلك.
ويصح عقده قبل وجوب الحق وبعده ومقارنًا له.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل أحد عشر سؤالًا منهما أن يقال:
1 - ما الدليل على جواز الرهن على الجملة؟
2 - وما الدليل على جوازه في الحضر؟
3 - وهل ينعقد الرهن قبل ثبوت الحق في الذمة؟
4 - وما الذي يصح رهنه من مشاع أو مفرد؟
__________
(1) في المغربية والغاني: الرهون.

(3/ 2/331)


5 - وهل استدامة القبض في الرهن شرط في صحّتها (1) أم لا؟
6 - وهل يجوز رهن المجهول؟
7 - وهل يجوز رهن الغرر؟
8 - وهل يجوز اشتراط كون المبيع رهنًا؟
9 - وهل إذا رهن العصيرَ فصار خمرًا ثم تخلل يبقى على حكم كونه رهنًا أم لا؟
15 - وهل تحل الخمر إذا تخللت؟ (2)

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
أما جواز الرهن على الجملة فالكتاب والسنّة وإجتماع الأمة،
فأما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) فذكر الرهن على معنى الأمر به كما أمر بالشهادة، ووصفه بما تمّمه ويؤكد عقده فقال: "مقبوضة".
وأما السنّة فورد فيها ذلك قولأوفعلًا.
فأما القول فقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يَغْلَق الرهن" (4) وما رواه أيضًا أبو هريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم - "الرهن مركوب ومحلوب" (5) و"الرهن من راهنه له ثمنه وعليه غرمه" (6).
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب، صحته.
(2) لم يذكر إلا عشرة أسئلة.
(3) البقرة: 282.
(4) الموطأ: 2: 271: حد. 2132. كتاب الأقضية.
(5) فيض التفسير: 59:4 حد: 4545. وفيه: محلوب. بالحاء.
(6) البيهقي: المسنى الكبرى: 6: 39. وقد روه: "الرهن من صاحيه الذي رهنه له عُنْمه وعليه غُرْمه".

(3/ 2/332)


وقد روي هذا عن أبي هريرة من طُرق أخرى من لفظ آخر.
وأما رواية ذلك فعلًا فإنه قد روى أيضًا أنه عليه السلام رهن درعه عند يهودي بالمدينة في شعير أخذه لأهله (1). وقالت عائشة رضي الله عنها: "فإنه مات عليه السلام ودرعه مرهونة" (2).
وأجمعت الأمة على جواز الرهن على الجملة. واختلفت في أحكام بعض تفاصيله، كما نورده في موضعه إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما جواز الرهن في السفر فقد نص عليه الكتاب كما ذكرناه. وأما جوازه في الحضر فجماعة العلماء على إجازته سوى مجاهد وداود، فإنهما منعا الرهن في الحضر تعلقًا منهما بدليل الخطاب من قوله تعالى "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة" (2) فدل هذا التقييد بالسفر على أنه لا يجوز الرهن في الحضر.
والردّ عليهما في هذا الذي تعلقا به أنَّا نلتفت في هذا التعارض الذي ظننّاه إلى أنواع من أصول الفقه، منها القول بدليل الخطاب، فإن حذاق المتكلمين من الأصوليين أنكروه، فعدى مذهب هؤلاء (يبطل هذين الرجلين) (3) بدليل الخطاب الذي ذكرناه في هذه الآية.
وإذا قلنا بدليل الخطاب التفتنا فيه إلى أصل آخر من أصول الفقه، وهو النظر في دليل الخطاب: هل يقدم عليه، إذا وقع في القرآن خبر واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون هو المقدم على خبر الواحد؟
__________
(1) البيهقي: المسنى الكبرى: 6 , 36.
(2) البقرة: 283.
(3) هكذا في النسختين.

(3/ 2/333)


فإن قلنا: إن الخبر مقدّم على دليل الخطاب سقط أيضًا تعلقهما بهذا الدليل، وكونه عليه السلام رهن درعه بالمدينة، والمدينة حاضرة وهي وطنه ووطن أصحابه.
ويلتفت أيضًا إلى فعله عليه السلام هل هو مقصور عليه أو (1) مختصر به حتى يقوم دليل على تعديه إلى أمته، أو يكون حكمًا متعديًا إلى أمته حتى يقوم دليل على اختصاصه به دون أمته؟
فإن قلنا بتعديه أيضًا سقط ما تعلقوا به مع مجموع الأصول التي قدمنا ذكرها.
فهذا وجه العمل فيه من أصول الفقه.
ويلتفت أيضًا إلى أصل آخر وهو التعلق بدليل الخطاب إذا لاح أنه يقصد به اختصاص الحكم بالمذكور. وإنما خص بالذكر الوصف المذكور لكون العادات مقتضية له.
فإن قلنا: لا يتمسك بمثل دليل الخطاب الذي اقتضى موجب العادة تقييدة بالذكر لم يصح لمجاهد ودواد التعلق بهذه الآية. إن الله سبحانه لم يذكر السفر ها هنا قصدًا إلى تخصيص الحكم بالمذكور. لكن مقتضى العادات أن الكتّاب والشهود يوجَدون في الحضر غالبًا، ويتعذرون (2) وجودهم في السفر غالبًا، فكأنه تعالى يقول: اكتبوا وأشْهِدوا إذا تداينتم، وإن تعذر الشهود والكتاب فخذوا الرهن خوفًا من الجحود، أو خوفًا من فوت الحق بالعُدْم والفلس.
ومما يؤكد هذا التأويل أن الرهن على شرطين وهما: عدم الكتاب والسفر. وقد اتفق على أنهما لو كانا مسافرين ولم يَعْدِما الكتاب لجاز لهما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويَتَعَذَّرُ.

(3/ 2/334)


الرهن. فدليل الخطاب يقتضي أنه لا يجوز في هذه الجهالة (1) الرهن لعدم أحَدِ الشرطين، فإذا كان لا يُختلف في جواز الرهن في السفر وإن وجد الكاتب دل ذلك على أن هذا الاشتراط غير مقصود به تخصيص الحكم بالمذكور. وهذا واضح لأنه إذا لم يُعتبر أحد الشرطين فالآخر مثله لا يعتبر أيضًاوهو السفر. وقد اعتُذِر عما وقد في هذا الحديث من كونه عليه السلام رهن درعه عند يهودي، وعَدَل عن مياسير أصحابه كعبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفان المشهورين بإفراط اليسار، وغيرهما. وذكرنا في كتابنا المعلم العذر عن ذلك، وأنه عليه السلام يمكن أن يكون قصد بذلك تعليم أمته جواز معاملة أهل الكتاب لئلا يظنوا أنّ كفوهم وعملهم بما لا يحل في شوعنا يمنع معاملتهم. وهذا جواب صحيح لا قدح فيه.
وقيل: إنه عليه السلام عدل عن ذلك لاعتقاده أن أصحابه لا يأخذون منه الرهن فيما يريد أن يتسلف منهم، ولا يطلبونه بالقضاء لما تسلفه ولو بذل ذلك (عليهم لنقل) (2) عليهم قبول ذلك منه. فلهذا عدل إلى رجل يهودي ترتفع هذه العلة فيه.
وقد ركّب بعض الناس على هذا العذر فائدة أخرى، وقال: إن هذا يدل على أن مَن له دين فأبرأ مَن هو عليه أنه لا يفتقر في ذلك إلى قبول مَن عليه الدين الذي أسقِط عنه على قول بعض العلماء الذاهبين إلى هذا.
وهذا استنباط فيه إشكال لا ينتهض دليلًا على هذه المسألة, لأنه عليه السلام عدل عن ذلك لِما أشرنا إليه من أنه يعتقد في أصحابه أنهم لا يقضونه (3) فيما أسلفوه له، ولو بذله لهم وقد أسقطوه ولزمهم (4) قبول ذلك لثقل ذلك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحالة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إليهم لَثَقُلَ.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَقْتضونَه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَلْزَمَهُم.

(3/ 2/335)


عليهم وشق، فآثر عليه السلام رفع هذه المشقة عنهم سواء كان يلزمه قبول إسقاطهم وإبراؤه من دينهم أولًا يلزمه.
وأضاف هؤلاء إلى هذا فائدة ثانية، فقالوا: فيه دليل على أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن، لقول عائشة عليها السلام "مات عليه السلام ودرعه مرهونة "عند يهودي" ولم تقل: انفسخ الرهن بموته.
وهذه أيضًا فائداة قد اتضح حكمها من غير هذا الحديث، مع كون سكوتها عن ذكر الفسخ ليس بصريح في إثبات الفسخ ولا نفيه.
وذكروا أيضًا فائدة ثالثة فقالوا: فيه دلالة على جواز معاملة مَنْ بعضُ مالِه حرام. لان اليهود يستحلون في المعالات ما يمنعه شرعنا. ثم (1) هذا قد عاملهم عليه السلام. وهذا يرجع إلى ما ذكرناه نحن مع العذر عنه عليه السلام وأنه قصد تعليم جواز معاملة أهل الكتاب.
وهذا أيضًا يُلتفت فيه إلى كونهم مخاطبين بفروع شرعنا وهم على كفرهم، فيكون لهذه الفائدة وجه وإن كان قد تقدم فيه إشكال، أو يقال: إنهم غير مخاطبين فلا يثبت التحريم علينا في معاملتهم.
وذكروا أيضًا فائدتين قد ذكرناهما، وهما جواز الرهن على الجملة، وجوازه في الحَضر، ردًا على مجاهد وداود كما بيناه.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
للرهن ثلاث حالات:
1 - أحَدُها: أن يؤخذ الرهن بعد ثبوت الحق في الذمة.
2 - والثاني: أن يقارن الرهن انعقاد الحق في الذمة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الأوْلى: ثم إنه مع هذا.

(3/ 2/336)


3 - والثالث: أن يستحق الرهن (1) انعقاد الحق في الذمة.
فأما أخذ الرهن وقبضه بدين قد تقدم في الذمة فبعد تقرّره تبرَّع من عليه الحق بدفع رهن به، فإن هذا جائز بإجماع.
وكذلك إذا قارن اشتراطُ الرهن انعقادَ الحق، فإنّه أيضًا جائز بغير خلاف.
على أن بعض الناس أشار إلى أن الأصل في الجواز القسمُ الأول، وهو التطوع بالرهن بعد ثبوت الحق في الذمة، مثل أن يقترض رجل من رجل آخر دينارًا من غير أن يشترط دافعُ الدينار أن يأخذ رهنًا، لكن مَن عليه الحق تطوّع بعد قبضه السلفَ بأن دفع به رهنًا، أو يبيعه سلعة بثمن من غير أن يشترط البائع رهنًا، فبعد إنعقاد البيع تطوع المشتري بدفع رهن بالثمن، لكن أجازةَ اشتراطِه في العقد كالرخصة، لأجْل الضرورة الداعية إليه, لأن من باع سلعة ولم يشترط رهنًا، أو أسْلف دنانير ولم يشترط رهنًا، قد يطالب المشتريَ أو الذي تسلف منه بأن يدفع له رهنًا، فلا يساعده، فيكون ذلك داعية لسدّ باب المعاملات، فلأجل هذه الضرورة جاز اشتراط الرهن حين عقد البيع أو القرض، وإن لم يكن ذلك رهنأ بحقٍّ قد استقر.
وهذا الاستعذار لا نحتاج نحن إليه لأجل أنا نجيز تقْدِمة اشتراط الرهن على عقد البيع أو السلف.
والحالة الثانية (2) أن يتقدم ذكرُ الرهن والتزامُه على انعقاد الحق الذي يؤخذ به الرهن. فهذا مما اختلف الناس فيه ومثاله: أن يقول رجل لرجل: إن بِعتَني ثوبَك هذا غدًا دفعتُ لَك في ثمنه عبْدي هذا رهْنًا، وإن أقرضتَني مالًا غدًا دفعتُ إليك عبدي هذا به رهنًا. فهذا يجيزه مالك وأبو حنيفة، ويمنعه الشافعي.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة، الرهن [قبْل] انعقاد.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الثالثة.

(3/ 2/337)


وسبب هذا الاختلاف التنازع في ظواهرَ وأقيسةٍ.
فأما الظواهر فإن الشافعي يقول: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. وقوله تعالى: "تداينتم" صيغته صيغة الأفعالُ الماضية، لكنه لما دخل عليه حرف الشرط صيّرة للاستقبال. لكن وإن صيّره ذلك للاستقبال فإن ما عُلِّق به بحرف التعقيب إنما يكون بعد حصول الفعل، وبعقِبِه, فذلك قوله تعالى " إذا تداينتم بدين" يعني في المستقبل يعني " فرهان مقبوضة" هذا الحرف، الذي هو الفاء، يقتضي أن الرهن يكون بعد وقوع المداينة، واقتضى هذا المنعَ من انعقاد الرهن قبل ثبوت الحق في الذمة.
وقابل ذلك أصحابنا بقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فعمَّ جميعَ الأحوال، ولم يشترط ها هنا كون هُذا الرهن المقبوض مقارنًا لثبوت الحق أو متقدمًا عليه أو متأخرًا عنه. والشافعي يرى إن هذا عطف على ما تقدم، والمراد: وإن كنتم على سفر وقد تداينتم فلم تجدوا كاتبًا ولا شاهدًا فرهان مقبوضة.
ويقابل أصحابنا استدلاله هذا بالآية بقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) لم يشترط فيه كونه سابقًا لثبوت الدين أو متأخرًا عنه أو مقارنًا له، فهو على عمومه.
وكذلك ظاهر لمحوله عليه السلام "المؤمنون عند شروطه" (3) فعم سائر الشروط، منها الرهبان السابقات (4) لعقد الييع واللاحقة له.
لكن الشافعي قد يرجح استدلاله بأن التعلق بظاهر كلامٍ يختص بالمسألة
__________
(1) البقرة: 282، 283.
(2) المائدة: 1.
(3) سبق تخريجه.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: السابقة.

(3/ 2/338)


بعينها، وقد ذكر الرهن والمداينة، أَوْلَى من التعلق بكلام لم تختص به المسألة هذا سبب الاختلاف من جهة الظواهر.
وأما من جهة الاعتبار فإن الشافعي يقول: إنما يتصور في النفس حقيقة الرهن بأن يكون رهنًا بحق استقر في الذمة، وأما رهْن بغير شيء ولا بحق فلا يُقبل، ولا يتصور فيه كونه رهنًا.
وهذا يضطر إلى أنّ الراهن من حقّه أن يكون متأخرًا عن ثبوت الحق، أو مقارنًا له، لأجل الحاجة والضرورة الداعية إلى اشتراط الرهن في العقود كما نبهنا عليه. وأيضًا فإن الظاهر من القرآن أن الرهن أقيم مقام الشهادة، عند تعذر أخذ الشهادة، ليكون الرهن ثقة بالحق، ومانعًا من فواته والطلب به. ألا ترى قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (1) والمراد أن الرهن يستوثق به في الحق كما يستوثق بالشهادة. وقد تقرر أن الشهادة لا تصح إن سبق (2) ثبوت الحق المشهود به، فكذلك الرهن الذي أقامه الله سبحانه مقامها، ألا ترى أن رجلًا لو قال لشاهدين: أَشهِدا عليَّ بأن فلانًا يُقرِضني بالغداة مائة دينار. فإن هذه الشهادة غير مستقلة ولا يقضي بها على المشهود عليه، (ولا يأمره بها) (3)، فصارت ملغاة مُطّرحة، فكذلك الرهن الذي أقيم مقامها إذا تقدم عقدَ السلف أو البيع لم يكن رهنًا، كما لم تكن الشهادة التي ذكرنا شهادة ينتفع بها.
وأصحابنا يجيبون عن ذلك بأن الرهن السابق، الذي ذكرنا مثاله، كأنه انعقد إنعقادًا مرقبًا، فإن صح السلف بالغداة كان ذلك المذكور بالأمس رهنًا، وخيِر القائلُ لذلك على تسليمه لمن أسلفه، ولمن باعه منه. لكنه لم يستقرّ كونه
__________
(1) البقرة: 282، 382.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سبقتْ.
(3) هكذا في النسختين.

(3/ 2/339)


رهنًا بمجرد قول أمس، لكن ما فعلاه اليوم من قرضٍ أو بيعٍ والذي فعلاه اليوم أوجَب جبر المشتري أو المقترض على دفع ما جعله بالأمس رهنًا. وجرى ذلك مجرى الشروط التي يتأخر المشروط عن زمن العقد. لكن وإن تأخر عن ذمة (1) إذا أتى زمنه تعلق الشرط بالمشروط تعفُق وجوبٍ، كقول القائك: إنْ طلقتَ زوجتَك فعلي مائة دينار، أو اعتقتَ عبدك فعلى مائة دينار. فإن هذا الشرط إذا تقدم بقي على الترقّب فإنْ وقع الطلاق أو العنق إثر الشرط، وصار مع المشروط كالواقعيْن في زمن واحد، أو يفد (2) أنهما، وإن تزاحما في الزمن، فإن المشروط لم يحصل إلا بعد حصول الشرط، كقوله لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فلا تأثير لهذا القول، لكنها لو دخلت وجب الطلاق.
والشافعي يلغي هذا الشرط في الرهن ويوجب القرض والبيع من غير زمن (3)، ولو أخذه لم يكن في يديه رهنًا، فهو كالأمَانَة. وهذا إضرار بالذي يُقرض والذي باع لأنهما إنما التزما إخراج ملكهما بشرط الرهن، وإذا قال: إذا بعتَ مني عبدك غدًا بمائة دينار فعبدي هذا رهن بها. فأصْبَحا وتبايعا, ولزم البيع عند الشافعي إذا عقداه من غير رهن، فلهذا ألزمَ البائعَ بيعًا التزمه على صفة ما ألزمه إياه مع سقوط الصفة، لا سيما والرهن كأنه جزء من الثمن، ولا يصح أن يُلزمَ من باع سلعة بمائة دينار أَلا يقبِض في ثمنه (4) إلا تسعين دينارًا.
وأما قياسهم على الشهادة، فإن الشهادة ها هنا لا تصح إلا عن أمر معلوم عند الشاهد، ألا ترى قوله تعالى {اوَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (5). وعلمهما بقول هذا القائل اليوم: إذا بعتني غدًا عبدك بمائة دينار رهنتك عبدي هذا، لا يكون علمًا فيهما بما يفعلانه في الغداة من بيع أو غيره، وإنما يصير الثمن في الذمة
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ذلك.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يُقدَّر.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رهن.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثمنها.
(5) يوسف: 81.

(3/ 2/340)


بانعقاد البيع، وهذان الشاهدان لم يعلما به، بخلاف الرهن فإنه لا تعلق له ها هنا، في صحة كونه رهنًا بالعلم، كما تتعلق الشهادة بعلم الشاهدة.
ويتعلق أصحابنا من جهة الاعتبار بأن الرهن إذْن من مالكه في إمساك الرهن وحفظه، والإذْن ها هنا يصح تقدُّمُه، ألا ترى أن القائل لو قال لرجل: أذنت لك أن تقبض بالغداة هذا الثوب وديعةً عندك، فإن هذا يصح. فإذا قبضه بالغداة صار وديعة بالقول الذي كان بالأمس، ولم يكن متعديًا في قوله: أذنت لك أن تقبض عبدي هذا غدًا على أنه رهن عندك. ألا ترى أن النبي عليه السلام لما بعث عسكرًا إلى الشام قال: "أميركم فلان، فإن قتل فأميركم فلان، فإن قتل فأميركم فلان (1) فعلق الإذن بشرط، على ما ذكر في الحديث، واحد بعد واحد، ثلاث مرات. فلا يستنكر في الشرع تعلق الإذن بأمر يكون في المستقبل.
وقد قال أصحاب الشافعي: الرهن لا يتعلق بالصفات ألا ترى أنه لو قال: إذا طلعت الشمس بالغداة فخذ عبدي رهنًا بالحق الذي استقر في ذمتي لك، فكذلك إذا تقدم على عقد البيع صار الرهن علق بصفة.
وقد تردد كلام ابن القصار في هذا فقال: إنما يتعلق الرهن بصفة تُفِيد كقوله: إن صبرت عليَّ، بالدين الذي حل لك عليّ، شهرًا فخذ عبدي رهنًا، فهذا القول ينعقد ويصح.
وأما تعليقه بزمن لا فائدة فيه، للراهن ولا للمرتهن، فإن ذلك لا يصح.
ثم قال: إنه لا يمتنع، على أصولنا، صحة هذا القول، وكون هذا رهنًا إذا طلعت الشمس.
وهذا الذي تردد فيه، ظاهر المذهِب فيه ما قال من كون ذلك يصح, لأن القائل ذلك كالواهب منفعة لمن له الدين وتطوع ببذل ما يستوثق به من حقه ببذله بعد حين من القول. وهذا لا نكير فيه.
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري: كتاب المغازي: باب غزوة مُوتة: 9: 52, 53. ابن هشام: تهذيب السيرة: 3: 427.

(3/ 2/341)


فإن قاسوا الرهن المتقدم على المعاملة فإن ذلك قياس يصح على مذهبهبم دون مذهبنا، فإن رجلًا إذا قال لرجل: دائنْ فلانًا، وعليّ ضمان ما تدايِنُه به، فإن ذلك ضمان لازم عندنا، إذا داينه بعد هذا القول بما يشبه أن يداين به ويثبت ذلك. وهو يمنعون ذلك، ولا يرون الضمان ينعقد بما يستقبل المعاملة كما قالوا في الرهن.
وكذلك لو قال: ما داينتَ به أحد إلغرماء أو غصب أحد فعلىّ ضمانه. نختلف نحن فيه معهم.
وقد ذكر ابن القصار أن من قال لرجل: اطرح متاعك في البحر، وعليّ ضمانه، فطرح الرجل متاعه في البحر، أنه لم يختلف في لزوم هذا الضمان، وإن كان ضمانًا تقدم الوجوبَ. فكذلك الرهن إذا تقديم ثبوتَ الحق.
وهم ينفصلون عن هذا بأن هذا يجري مجرى المعاوضة فكأنه قال له اطرح متاعك، وأنا أعطيك قيمته عوضًا عنه، فلهذا أُلزِم ذلك، لأن حكم المعاوضة خارج عما نحن فيه. وابن القصار يرى أن هذا من الأسلوب الذي نحن فيه، (لأنه قيمة التزام قيمته) (1) قبل وجوبها ووجود سببها.
وقد تقدم حكم ضمان دين يثبت فيما بعد، في كتاب الحمالة بما يغني عن بسطه ها هنا.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
الرهن يكون أنواعًا، منه ما يجوز ملكه وبيعه، ومنه مالًا يجوز ملكه ولا بيعه، ومنه ما يصح ملكه ولايصح بيعه، ومنه مايصح بيعه.
واختلف في رهنه:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأن نيَّتَهُ التزامُ قيمته.

(3/ 2/342)


فأما ما يصح بيعه وملكه، فواضح أنه يجوز رهنه، كالعقار والعروض والحيوان، وغير ذلك من ضروب الأموال التي يصح ملكها وبيعها فيجوز رهنها.
وأما ما لا يصح ملكه ولا بيعه، فواضح أيضًا حكمه في كونه لا يصح رهنه، كالخمر والخنزير، وشبه ذلك مما لا يصح ملكه ولابيعه.
وأما ما يصح ملكه ولا يصح بيعه، كأم الولد والمعتق إلى أجل، المدبّر، فإن هذا أيضًا (1) يصح رهنه, لأن فائدة الرهن الاستيثاق من الحق حتى يستوفي الحق من ثمن العين المرهونة. فإذا كانت العين المرهونة لا يجوز بيعها فلا فائدة في رهنها. وأما الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، والأجِنّة التي في البطون التي لم توضع، فإنها يجوز رهنها بعد عقد البيع، وفي السلف، مقارنة له أو متأخرةً عنه. وهل يجوز رهنها في عقد البيع؟
فيه اختلاف في المذهب، لأجل مراعاة المآل، وهو ترقب مصيرها إلى حالةٍ يجوز البيع فيها. وهذا الترقب. يُلحقها بعقود الغرر التي لا يجوز عقد المعاوضة عليها في الشرع. لكن هذا متفق عليه في كون الغرر في نفس الثمن، أو نفس المثمون، وكأن، الرهن خارج عن الثمن والمثمون، عند من أجاز أخذه رهنًا في عقد البيع.
وعلى هذا يجري الأمر في رهن المدبّر، إن مات سيده وعليه دين يَرُدُّ التدبير، أو ارتُهنت خدمتُه أيامَ حياته، ولا يُدرَى مبلغها.
وأما ارتهان الكلاب التي اتخذت للضّرع أو للزرع أو للصيد، فارتهانها مبني على الخلاف في جواز بيعها، فمن أجاز بيعها أجاز رهنها، وميت منع بيعها منع رهنها لعدم الفائدة المقصودة في الرهن، وهو استيفاء الحق من ثمن الرهن.
وأما ما يجوز بيعه واختلفوا في رهنه، فهو رهن المشاع. فعندنا وعند الشافعي أنه جائز. ومنع ذلك أبو حنيفة ورأى أن المشاع لا ينعقد فيه رهن، مثل
__________
(1) هكذا في النسختين وظاهر التعليل يفيد: لا يصح.

(3/ 2/343)


أن يرهن نصف دار أو نصف عبد، فإن الرهن عنده لا يصح إلا أن ترهن الدار كلها أو العبد كله، فيكون هذا الرهن مفردًا محوزًا متميزًا ما رُهن عمّا لم يرهن.
وذكر الشيخ أبو الطيب عبد المنعم، وهو أحد أشياخ شيوخي، تخريجَ مذهب أبي حنيفة من قول من قال من أصحابنا: إن هبة المشاع لا تصح، لكون القبض فيه لا يتأتى، فكذلك يَلزم على هذا. أن يمنع من رهن المشاع.
وهذا النقل الذي نقله أو التخريج الذي خرجه، لم أسمعه من أحد من أشياخي، وإنما ذكر في بعض ما صنعه.
واستدل أصحابنا على رهن المشاع بقوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) ولم يفرق بين كون الرهن مفردًا متميزًا، ولا بين كونه مشاعًا.
والمعتمد عليه من طريق النظر أن الغرض من الرهن استيفاء الحق من العين المرهونة. وقد اتفق على جواز بيع المشاع، فيقتضي هذا الاتفاقُ على جواز بيعه أن يُتّفق على جواز رهنه, لأنه لو كان القبض فيه لا يتأتى لوجب أن يكون البيع فيه لا يجوز. فإذا أشعر الاتفاف على جواز بيعه يكون قبضه ممكنًا، اقتضى ذلك امكانَ القبض في كونه رهنًا. ولا وجه للمنع منه مع هذا الذي عللنا به الأصل المتفق عليه، وهو جواز البيع فيه.
ويعتمد أبو حنيفة على أن الغرض. في الرهن ملك اليد لا ملك الرقبة، والعوض في المبيع ملك العين لا ملك اليد. وإذا كان الأمر هكذا فلا يتأتى ملك اليد في رهن المشاع لأن النصيب الذي لم يُرهن من حق مالكه أن يقول للمرتهن: اقْسِم معي منافع هذه الدار قسمة مهاياة، فتكون في يدك يومًا وفي يدي يومًا، وكذلك العبد يكون في يديك يومًا وفي يدي يومًا. والحكم عنده الجبر على هذه القسمة، فصار ذلك كالمشترط في عقد الرهن كون هذا النصيب من العبد في يد المرتهن يومًا وفي يد المشتري يومًا. ولو صرح بهذا الشرط في
__________
(1) البقرة: 283.

(3/ 2/344)


أصل العقد الرهن (1)، فقال الراهن: رهنتك داري على أن تكون يومًا بيدك رهنًا، ويومًا ترجع إلىّ ولا تكون لك رهنًا. لم يصحّ، فكذلك رهن المشاع إذا اقتضى الحكم فيه المنع في عقد الرهن.
ويحترز أصحابه في تحديد هذا الاعتبار بقوله: إنّ معْنىً قارن الرهن العقد فأفسده قياسًا على ان من رهن داره على أنها تكون يومًا رهنًا، ويومًا بعده (لم يكن) (2) رهنًا في مسألة ناقضهم بها أصحابنا، وهي من أرهن جميع داره في دنانير، ثم سأل الراهنُ من بيده الرهن أن يمكّنه منَ بيع نصفها لينتفع بثمنه، ويبقى بيده النصف الآخر رهنًا بجميع حقه، فيجوز ذلك، ولا يَمنَع من صحة الرهن، مع كون المشترى لهذا النصف من حقه أن يدعُوَ من بيده النصف الذي هو رهن إلى هذه القسمة، فيقول له: تكون عندك الدار كلها يومًا، وعندي يومًا آخر. فقد صارت العلة المانعة عنده لرهن المشاع تتصور في هذه المسألة التي ذكرناها، فكأنه نقض العلة وخصصها. لكنه يقول: فإن هذا أمر طرأ على الرهن بعد انعقاد على الصفة التامة الكاملة، فلهذا لم يفسد هذا الرهن. وقد تكون حالة الابتداء تقتضي حكمًا بخلاف حالة ما بعدها فلهذا احترز القوم في الاعتبار الذي حَررَّوه بقولهم: معنًى قارن العقد فأفسده، على أن القوم يقولون بتخصيص العلة الشرعية، على ماذكرناه في أصول الفقه. فإذا قام لهم دليل على الجواز في هذه المسألة مع وجود العلة فيها لم يبطل عندهم أصل القياس. فإذا كان المقصود من الرهن ملك اليد لا ملك الرقاب، لم تؤثر المشاعة (3) في صحة البيع تكون اليد لا يُبْطِل ارتفاعُها عن الرقاب المملوكة حقيقةَ الملك، فكذلك في هبة المشاع, لأن القصد بها تملّك الرقاب، فلم يبطلها الإشاعة، بخلاف رهن المشاع فإنه المقصود منه قبض الرهن، وكونه في حكم يده، لا ملك الرقبة. فكل ما أثّر في هذا المقصود وهو رفع اليد مَنَع من صحة الرهن.
__________
(1) هكذا في النسختين، رلعل الصواب: للرهن.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا تكون.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب: الإشاعة.

(3/ 2/345)


وناقضهم أصحابنا أيضًا بمسألة أخرى وهي إذا قال رجل رجلين، أرهنتكما عبدي هذا في مائة دينار. فإن هذا الرهن يصح عنده وينعقد، وإن كان يتصور (فيه في صورة في) (1) رهن المشاع من كل واحد من المرتهنين لهذا العبد، من حقه أن يقول لشريكه في الرهنيّة: سلّمْ إليّ العبدَ يومًا وأسلمُه لك يومًا. وهذا أيضًا رفع لحكم اليد بمعنى قارن العقدَ فوجب أن يبطل الرهن.
فأجاب أصحابه عن هذا بأن هذا رهَنَ جميعَ ملكه مفردًا مميزًا فلا يُلتَفَت بعد ذلك إلى ما يكون من حق الرجلين اللذين ارتهناه. لكن كل واحد منهما يأخذ هذا العبد يومًا نصفه بحق كونه مرتهَنًا عنده، ونصفه الآخر بحوزه نيابة عن صاحبه، على أن يفعل صاحبه غدًا مثل ما فعل هو من الحوز لنفسه، ونيابة عن صاحبه.
والشريك بالملك لا يقال فيه:. إنه يحوز اليوم بحكم الرهن في النصف، وبحكم الرهن في النصف الآخر نيابة عن صاحبه، بل الشريك في الملك يحوز نصفه الذي يملكه بحق الملك في اليومين جميعًا وقد قلنا إن حق الملك لا يفتقر إلى حوز.
وأصحابنا لا يرون هذا الاعتذار مقنعًا، ولا دافعًا لتصور رفع اليد بمعنًى قارن العقد.
وسنتكلم نحن على صفة الحوز في زهن المشاع إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
جرى الرسم بأن الكلام على هذه المسألة مسوبقًا بالكلام على رهن المشاع بل يشار إلى كونها أصلًا فيها.
فاعلم أن الرهن من شروط كماله وتمامه القبض. واختلف الناس: هل من شرط هذا العقد أن يكون مستمدًا أو يصحّ انقطاعه ولا يُبطل ذلك عقدَ الرهن؟
فمذهبنا أن الاستدامة شرط في صحته، فمتى رجع إلى يد الراهن، وردّه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه صورة.

(3/ 2/346)


إليه المرتهن بأىّ وجه كان، فإن الرهن يبطل.
ووافقنا أبو حنيفة على ذلك، ولكنه استثنى أن يرفه إليه المرتهن وديعةً تكون عنده أو عارية يُعيرها له. فلم ير إبطال الرهن بذلك. وأما الشافعي: إنّ رده إلى يد المرتهن لينتفع به الانتفاعَ المعتادَ في مثل ذلك الرهن، ويعيده عند انقطاع المنفعة إلى المرتهن، لا يُبطل الرهنَ. فإذا رهنه دابّة، وعادت إلى يد الراهن يركبُها نهارًا بالبلد الذي هي به رهْن، ويردّها للمرتهن ليلًا، فإن ذلك لا يُبطل الرهنَ. وكذلك استخدامه العبدَ على هذا الرسم، ورجوع الرهن إليه لينتفع المنفعةَ المعتادةَ لا يؤثّر ذلك في الرهن، لقوله عليه السلام "الرهن مركوب ومحلوب" (1). ولا يراد بهذا أن المرتهن يركبه ويحلبه، وإذا لم يُرَدْ به هذا انصرف تأويله إلى الراهن يركبه ويحلبه. وأيضًا فإن حق المرتهن في تلك الرقبة (وذلك لمنفعة) (2) متابعة لها، وحق المرتهن في الاستيفاء وحفظه، إلى غير ذلك. فلا يُبطل أدنى الحقين آكَدَهما، فيكون حق المرتهن البيع (3) من انتفاع الراهن بملكه على وجه لا يضر المرتهن ولا يفسد رهنه.
والمراد، عندنا، بالحديث أنه مركوب ومحلوب، ولكن لا يتولى ذلك الراهن بل يكون المرتهن يتولى ذلك من غير أن يعيده ليد الراهن.
ويستدل أصحابنا بقوله تعالى فرهان مقبوضة (4) فوصَفها بالقبض، فوجب أن يستدام ذلك أيضًا حتى يُستوفى الحق, لأنه إذا شُرِط القبضُ حين عقد الرهن، والحق لم يحلّ، ولا وجبت المطالبة يه، فأحرى أن يُشترط ذلك عند الحاجة إلى الرهن، وأخذ الحق من ثمنه. وهذا لا يحصل إلا باستدامة القبض، مع أن قوله تعالى مقبوضة جعله كالصفة للرهن، فيجب أن يكون ذلكَ صفة
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتلكَ المنفعة.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب، المنْعَ.
(4) البقرة: 283.

(3/ 2/347)


لازمة. وإنما ذكرنا نحن هذه المسألة ها هنا لتعلقها بالمسألة التي قبلها، وبسط القول فيها يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
اختلف الناس في رهن المجهول، وضمان رجل مجهول. فعند مالك رضي الله عنه، أن من باع سلعة بدنانير معلومة على أن يعطيه المشتري رهنًا بَالثمن أو ضمينًا به، فإن ذلك جائز، (ويقتضي للمشتري) (1) بأن يدفع للبائع رهنا يكون ثقة بحقه يستوفي من ثمنه إذا بيع، الثمنَ المبيع به السلعة، وكذلك يعطيه ضمينًا مليئًا بالحق لا يَعْسُر تَناولُ الحق منه الذي ضمنه إذا توجه عليه.
ومنع الشافعي وأبو حنيفة رهنَ المجهول، ونقل المزني عن الشافعي أنه يرى فسخ البيع المشترط في ثمنه رهن "مجهول" وقال المزني: هذا غلط، وإنما ينفسخ الرهن خاصة، لأجل ما فيه من جهالة، وأما البيع فمعلوم فلا ينفسخ، لكن يكون البائع بالخيار بين أن. يُمضيَ البيع (2) وبين أن يفسخه لعدم الرهن الذي بطل من ناحية الشرع.
وهكذا الحكم في اشتراط ضمين مجهول، على ما حكيناه عن الشافعي والمزني.
وسبب هذا الاختلاف أنه تقرر أن المبيع من شرطه أن يكون معلومًا، من غير خلاف في ذلك. واشتراط الشهادة بالثمن لا يلزم فيها التعيين من غير خلاف.
وكأن مالكًا رضي الله عنه قاس اشتراط رهن المجهول على اشتراط الشهود المجهولين، ويوضح قياسه أن الله سبحانه أقام الشهادة على الحق مقام الرهن وجعل الرهن دَنِيًّا عن الشهادة إذا تعذرت الشهادة، فقال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ثم قال
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويُقْضَى على المشتري.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب بلا رهنٍ.

(3/ 2/348)


بعد ذلك: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) فنبّه تعالى على أن الرهن يقوم مقام الشهادة في المقصود منَ الاستيثاق والأمْن ميت الجحود. فإذا وقع الاتفاق على أنه إذا باع سلعة، واشترط على المشتري أن يُشهِد على نفسه بالثمن، ولم يُسمِّ في اشتراطه الشهودَ، فإن هذا الشرطَ لا يُمنَع منه، ولا يُبطِل البيعَ, لأنا إذا خيّرنا المشترىَ، واشتُرِط عليه الرهن بالثمن أن يأتي برهن يكون فيه وفاء بالحق المرهون به، فإنه قد حصل الغرض المقصود من الاستيثاق، وإن لم يكن قد عُتن جنسُ الرهن في أصل البيع. كما يجْعل الاستيثاق بشهادة عدلين وإن لم يسمَّيا حين اشترط الشهادة. فإن قيل: الفوق بينهما أن الشهادة لا غرض في تعيينها، وشهادة عدلين يسقَيان زيدًا وعَفرًا، كشهادة عدلين يسميان بكرًا وخالدًا، بخلاف الرهن فإن الراهن قد يُوثر أن يرهن جنسًا يكون لا يضمنه، أو يؤثر الراهن جنسًا تشق حراسته وحفظه، ويؤثر المرتهن مالًا يشق حراسته وحفظه، كالحلي والثياب. فإذا تباعدت هذه الأغراض وجب فسادُ الشرط وإبطالُه، بخلاف الشهادة.
وأجاب أصحابنا عن هذا بأن المقصو تحصيل ما يُوَفّى الثمن الذي وقع به الرهن، فإذا لم يسمّيا جنس الرهن ولا عيّناه أشعر بأنه لا غرض لهما, ولا مقصود عندهما سوى اعتبار كون الرهن يوفّى بالدين بِلا حاجة إلى أن يعايَن الرهن في حين الاشتراط، كما قال المخالف.
وأيضًا فإنا لو سلمنا اختلاف الأغراض في ذلك، لكان في حكم التبَع للمقصود الذي ذكرناه، وإنما يراعى في الشرع المتبوع لا التابع. وبهذا ندافعهم عن قياسهم الرهنَ الذي لم يعيَّن على نفس المبيع الذي لا بد أن يعيَّن, لأن المقصود من المبيع ملك عينٍ على التأبيد يُنتفع بها على الوجه الذي يُنتفع (بها مثالها إذا) (2) كان هذا المقصودَ لم يصح ضبطُه مع عدم التعيين. ألا ترى
__________
(1) البقرة: 282، 283.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: به أمثالُها وإذا.

(3/ 2/349)


أن نفس المبيع يُعفى عنه (1) عن الجهالة بالاتباع، كما أجاز الشرع بيع الديار من غير كشف على أساسها وباطن سقفها وحيطانها، وما ذاك إلا تكون ذلك في حكم البيع (2)، فكذلك يعفى عن الرهن وإن لم يكن معينًا كونه تبعًا للحق الذي وقع به الرهن.
فإن قيل: يلزمكم على هذا أن تجيزوا بيع سلعة بثمن معلوم على أن المشتري قال: أرتهنُك بثمنها شيئًا، أو أرهنك ما في كَمَا (3) أو ما في صندوقي.
فأما قوله: أرهنك شيئًا، فقد التزم ابن القصار، من أصحابنا، أن ذلك لا يُمنع، ويقضي برهنٍ فيه وفاء.
وهذا الذي قاله التفات منه إلى أنه ليس المقصود بقوله "شيئًا" إحالةً على جهالة، بل المراد به ما يراد بهذا الكلام لو أُطلق ولم يقيّد بقوله: شيئًا.
ومعلوم أن الركن لابدّ أن يكون شيئًا، فلأجل هذا اطَّرح هذه الزيادَة. وأما قوله: أرهنك ما في كُمّي أو صندوقي، فإنهما أشعرا بذلك أن الرهن يتعين، والقصد منهما اعتبارُ ما يوفّي بالحق، بل أحاله على عينٍ محصورة لا يُدرى جنسها ولا مبلغها، فقد يكون في كمّه ما يعظم ثمنه، أو يكون في كمّه ما لا قيمة له، فيصيران ها هنا قاصدين إلى المخاطرة لمّا حضر الرهن، وأشار إلى عين موجودة لا يُدرَى ما هي، بخلاف إذا قال: أبيعك على أن تعطيني رهنًا، فإن هذا الإطلاق لا يقتضي تعيينًا ولا إشارة إليه، فلهذا كان ممنوعًا، والقُصُود معتبرة في العقود، ألا ترى أنه لو تزوّج امرأةً بعبدٍ، ولم يصفْه بالصفات التي.
تجب في البياعات لصح النكاح وقُضِي فيه بعبد وسطٍ، وما ذاك إلا تكون النكاح مبناه على المسامحة والرغبة في الاتصال، والبياعات مبناها على المشاحّة والحرص على الغبن. فكذلك اشتراط رهن عينٍ معينٍ. ولو قال: أنكَحْكِ بعبد
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التبع.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كُمّي.

(3/ 2/350)


في بيتي، لم يوسف، لم يجز ذلك تكون الأمر ها هنا أشير به إلى معيَّن لا تُعرف صنعته ولا سلامته من العيوب، فدل ذلك على صحة ما قلناه من اعتبار القُصود في العقود.
وإذا وقع اشتراط الرهن أو الضمين معينًا فلا يلزم البائعَ قبولُ غيرِهما، وإن سدّ مسدَّهما, لأنه أشعر بالتسمية والتعيين أن له غرضًا في التعيين، فإذا لم يسمِّ حين الشرط أشعر أن غرضه في أن يعطَى ثقة بحقّه إلى غير ذلك. لكن لو اشترط شهادة شاهدين سمَّاهما، فأشهد غيرَهما عدالته (1) كعدالتهما فهذا يعتبر فيه هل له غرض في تعيينهما فيوفى له بشرطه، أو يكون لا غرض له فيجوز ذلك على القولين عندنا في اشتراط مالًا يفيد في عقود البيع: هل يوفى به أم لا؟
هذا الحكم عندي في هذه المسألة. ولأصحاب الشافعي فيها قولان: أحدهما: هذا الشرط مطَّرَح. والآخر: أنه يلزم الوفاء به. والأمر فيه ينحصر، عندي، إلى ما أشرنا إليه من رأْيى، وكأن من رأى من أصحاب الشافعي كون هذا الشرط مطّرَحًا تُصُوِّر فيه أنه لا يمكن أن يكون فيه غرض، فهذا طرحه.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
أمّا ما فيه عزر وتردّد بين السلامة والعطب، كالثمرة قبل زُهِوّها، فإن بيعها حينشذ لا يجوز، لأجل ما في ذلك من الغرر، والتردّد بين أن تَسْلَمَ إلى وقت يُومَن عليها أو تَهلَكَ قبل ذلك.
وأما رهنها، فإذا لم يقارِن عقدَ بيعٍ، فإن ذلك جائز، كارتهان هذه الثمرة التي لم تزْه في أصل قَرْض أو بعدَهُ أو بعد إنعقاد بيع لم يُشتَرطْ فيه. وأمّا إن اشترطت في عقد البيع جائز (2) في ذلك قولين: أحدهما: إن ذلك جائز، بناء على أن الرهن له حصة من الثمن، فيصير كجزء من الثمن فيه غرر وتخاطر.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عدالتهما.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإِنّ.

(3/ 2/351)


وإذا قلنا بمنع اشتراطه في أصل عقد البيع فهل يفسُد ذلك البيعُ أم لا؟ فيه قولان جاريان على ما قدمناه في كتاب البيوع في أحكام الشروط الفاسدة المقارنة للبيع، وقد ذكرنا فيهما طريقة أشياخي مبسوطة هناك.
وأما ارتهان الجنين، وإن كان من هذا النوع، لكنه أوْضحُ في الغور, لأن الثمرة موجودة مشاهدةٌ، وما يطرأ عليها من الآفات مترقَّب، والجنين لا يدرَى وجوده حين ارتهانه أوْ لا, ولو علم وجوده لم يُعلم هل يوضَع حيًّا أم ميتًا؟ فكان الغورُ فيه أشدَ من الثمرة. وقد مَنَع في كتاب الصلح أن يُرْتَهن الجنين. وأجازه ابن ميسّر وكان الابن (1) الغرر فيه أقل من الجنين وأكثر من الثمرة.
ولو رهنه ثمرة لم تُخلق، (وأحال ما علم هل يخلق في شجرة معلومة) (2) لكان ذلك كرهن الجنين.
ولو رهنه خدمة مُدَبَّرة يجوز عقد الإجارة فيها مدة معلومة لجاز ذلك.
وأما خدمته سائر أيام حياته، فهو على الخلاف في رهن الغرر إذا قارن عقد بيع.
(ولو رهنه رقبة فيها منفعة، فبطل ارتهان الرقبة، فهل يعود الرهن متعلقًا بمننمعة هذا الجنين أم لا؟ فيه قولان) (1). كمن ارتهن دارًا فثبت أنها محبَّسة على من هي رهن في يديه، فهل يعود الرهن إلى منفعة هذا الحبس أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: إنه لا يعود إلى المنفعة. وإذا بطل الرهن في الرقبة لكونها حُبُسا بطل في منفعتها.
والثاني: إن الرهن يتعلق بمنفعتها (3) وكرائها، وكان ذلك كجزء منها
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: برقبها.

(3/ 2/352)


يجوز بيعه ورهنه فلم يبطل هذا الجزء ببطلان ما أخدمه (1).
وأما ارتهان عبد مرتدّ يجب قتله للردة أو عبد قَتَل عبدًا عمدًا حتى وجب عليه القصاص، فإن ذلك يعتبر فيه جواز بيعه، وإذا أجزنا بيعه أجزْنا رهنَه.
وقد أجاز الشافعي بيعهما ورهنهما كالمريض المدْنف الذي يُخشى عليه الموت. ولكن إذا لم يعلم المرتهِن بذلك كان ذلك عنده يُرَدْ الرهن به. وقد تكلمنا نحن على ما يجوز بيعه في كتاب البيوع الفاسدة.
ومما يلحق بهذا رهن جِلْد الميتة إذا دُبِغ: هل يحرم أم لا؟ وذلك مبني على الخلاف عندنا في المذهب في جواز بيعه إذا دُبِغ. وكذلك جلود السباع إذا ذكِّيتْ يُستباح بالذكاة جلدها، هل يصح بيع الجلد، وتعمَل فيه الذكاة أوْ لا تعملُ فيه التذكية؟ هذا أيضًا فيه اختلاف، وارتهانُه يجوز عند من أجاز بيع هذا الجلد إذا ذكّي، وتذكيته كتذكية الصيد، إذْ لا يمكن ذبحه. ويُمنع عند من لا يجيز بيعَه.
ومما ينخرط في هذا السلك جواز ارتهان الأمَة، ولها ولد صغير في سن من لا يحل أو (2) يفرق بينه وبينها في البيع، فإن ذلك مما يجوز ويخالف حكم التفرقة بالبيع. وقد روي عن مالك أنها إذا رُهنت، ووجب بيعها في الذي هي موهونة به، فإنها تباع مع ولدها ويفَضُّ الثمن عليها وعلى ولدها، مما (3) قابل رقبتها أخذه المرتهن، وما قابل الولد تحاصّ فيه سائر الغرماء حتى المرتهن إذا كان بقي من دينه شيء. وقد ذكر بعض أصحابنا في هذا أن المذهب على قولين تعلّقًا بما في المستخرجة، فقال: اتُّفق على منع التفرقة بالبيع واختُلف في ذلك في الرهن. ففي المستخرجة عن مالك كراهة ذلك. قال يحيى بن عمر:
فسألتُه (4) عن ذلك ابن وهب فقال: لا أرى به بأسًا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أُخِذ منه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنْ.
(3) هكذا في النستخين، ولعل الصواب: فَمَا.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فسألْتُ.

(3/ 2/353)


وعندي أن هذا الاختلاف، إن ثبت، فإنما يحسن إذا لم يفرَّق بين الولد وبين أمه تفرقَةً يلحقه الضررُ الشديد منها، ويلحقها من تعلق النفس به، إذا حيل بينه وبينها، الضرر أيضًا, لأن العلة في الاتفاق على منع التفرقة في البيع مراعاة الضرر الذي أشرنا إليه.
وقد يكون الرهن مما يجوز بيعه باتفاق، ولكن يعرُض فيه عارض يمنع من رهنه، غيرُ هذه المعاني التىِ تكلمنا. عليها، مثل رهن الدانير والدراهم والفلوس، فإن ذلك يُمنع منه، إلا أن يُطبع عليها، حتى يحال بين المرتهن وبين التصرف فيها، فتوضع على يديه مطبوعًا عليها، فلا يخفى تصرفه فيها إذا اطُلِع على زوال الطبعْ. وإذا اطُّلع علي بنائه (1) عُلِم أنه لا (2) يتصرف فيها. وما ذلك إلا حماية الذريعة أن يكون الراهن والمرتهن قصدا إلى أن يقبض على جهة السلف وسمَّيا ذلك القبض رهنًا، واشتراط السلف في المداينة أو المبايعة يُمنع، والتطوع به كهبة المديان. وقد سلف القول فيها.
وأما إذا كان الرهن مما يعرف بعينه، فلا يختلف في جواز أخذه رهنًا إذا كان لم يختلف في جواز بيعه.
وإن كان لا يُعرف بعينه، وليس من الاثمان التي هي الدنانير والدراهم والفلوس، كالمكيل والموزون، فإن في ذلك قولين: المشهور منهما إلحاق ذلك بالدنانير والدراهم. وأجاز ذلك أشهب، وقال: إن التصرف في هذا الجنس لا يخفَي ولعله يشير بهذا التعليل إلى أن التصرف والسلف مما يقع في الدنانير والدراهم من واضع يده عليها. بغير إذن مالكها، ويبعد في العادة استخفاف مثل ذلك في المكيل والموزون من طعام كالقمح والزيت ومن سلع كالكتان والحرير.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقائه.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمْ.

(3/ 2/354)


والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
إذا اشترط البائع أن يكون ثمن المبيع مؤجلًا، على أن يبقى المبيع في يده رهنًا، فإن ذلك مما اضطرب فيه المذهب. ففي الموازية عن مالك: إن ذلك لا يجوز: يفسخ المبيع المُشتَرَط فيه هذا، إذا كان الاشتراط بقاءَ المبيع في يد البائع رهنًا. وأما إن كان الشرط خروجَه عن يد البائع إلى يد أمين، اتفقا عليه، فإن ذلك جائز. وقال ابن المواز لا يجب ذلك. وظاهر ما أشار إليه أنه كَره ذلك.
ولو اشترط وقف الرهن في يد أمين غيرِ البائع جاز ذلك، إذا كان المبيع يؤمن تغيُّره كالعقار، ويمنع إذا كان يسْرع إليه التغيّر، كالحيوان. وأما اشتراط وضعه على يد أمين، فيجوز ذلك في العقار والحيوان. ولابن الجلاب منعْ ذلك في الحيوان خاصة، ولم يقيد باشتراط ذلك في يد البائع أو في يد أمين، وابن القصار، منا أصحابنا أجاز ذلك على الإطلاق في جنس البيع وفيمن يوضع على يديه. لكن ابن القصار ذهب إلى ذلك وهو كالمعتذر عن مخالفة المذهب فيه، فقال: يجوز ذلك عند مالك، ويمنع عنْ أبي حنيفة والشافعي، والظاهر من قول مالك أنه موافق لهما في منع ذلك، ولعل ذلك منه على جهة الكراهة، قال: وأنا أنْصرُ جوازه (وما نزل) (1) عليه أصول المذهب، فقال بعض الأشياخ: اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه. وذكر أن هذا الخلاف من أصحابنا إذا لم يُشترط في رهن المبيع أجلٌ بعيدٌ، وأما لو اشتُرط فيه أجل بعيد فإنه يمنع قولًا واحدًا. نقلناه نحن. وبعض أشياخي أطلق الخلاف من غير تعرض لذكر قرْب أجل الرهن أو بعْده، ونقل ما قلناه من الخلاف.
وتلخص في هذا الذي نقلناه نحن على التفصيل أن اشتراط وضع المبيع
__________
(1) هكذا في النسختين.

(3/ 2/355)


على يد أجنبي غير البائع، جائزٌ عند الأكثر، في المشهور عندنا، إلا ما أشار ابن المواز أنه مكروه، وما تأوّله ابن القصار على صفة ما حكيناه عنه، والمنع من ذلك في الحيوان خاصة على ما نقلناه عن ابن الجلاب. وأما اشتراط بقائه رهنًا في يد البائع فثلاثة أقوال: مالك منع ذلك على الإطلاق، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعى. وابن القصار أجاز على الإطلاق، وأصبغ أجاز ذلك في العقار وما يؤمن عليه من التغير، ومنعه في الحيوان.
والمانعون لذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي يعتلّون للمنع بأن إجازة ذلك. يُؤدّى إلى التنافر والتناقض في الأحكام، وذلك أن عقد البيع يوجب تسليم المبيع، واشتراطَ ارتهانه يوجب حبس المبيع، والحبس والإطلاق مَعنَيان متضادان، فوجب القول بالمنع. لكن (1) القول بالجواز يوقع في التضاد، وأيضًا فإن المشتري قد ملك المبيع، وملْكُه على التأبيد لا يخرج من يده إلا باختياره.
وفي اشتراط كونه رهنًا إخراجُه من ملكه بغير اختياره، إذا بيع عليه في الدين، وهذان أيضًا معنيان متنافران.
والقائلون بالجواز يجيبون عن ذلك بأنه لو سلم المبيع ثم أعاده المشتري للبائع رهنًا، فإن ذلك جائز، فيقدر هذا المعنى في اشتراطه كونه رهنًا يبقى في يد البائع في أصل عقد البيع, لأنه إنما رهن ما صح ملكه له، ثم بعد صحة ملكه له عتمد على نفسه فيه رهنًا، فصار ذلك في معنى الرهن بعد القبض.
وهذا يمنعهم من الاعتلال للمنع أيضًا بقولهم: إنه رهنُ مالم يستقر ملكه عليه، فأشبه أن يرهن عبدَ غيره، مع أنّا أيضًا نحن نقدر هذا بعد صحة الملك.
وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب أنّا نجيز أن يتقدم الرهن على عقد البيع، خلافًا للشافعي. وبالجملة أنه التمت في هذا إلى أنه تحجير على المشتري في المبيع، والتحجير ينافي موجب البيع من إطلاق التصرف. فإن هذا قد يلتفت إليه من منع هذا الاشتراط، ويدافعه عن ذلك من أجاز هذا الاشتراط بأن هذا التحجير ليس
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل اصواب: تكون.

(3/ 2/356)


بضربه لازمة على المشتري لكونه متى أتى بالثمن تسلم المبيع، فصار التحجير كأنه من قِبَله، والتحجير الممنوع أن يكون من قِبَل البائع اشتراطه. فإن راعينا أنه شراء معين اشتُرط ضمانُ البائع إلى أجل بعيد فإن ذلك يكون وجهًا للمنع.
وقد يجاب عنه أيضًا بأن هذا ليس كاشتراط ضمان العين على بائعه، وأنه هو المقصود في هذا العقد، وإنما هو كاشتراط احتباس السلعة المبيعة بالثمن وشرط احتباس السلعة المبيعة بالثمن جائز، فكذلك هذا. لكن اشتراط حبس السلعة إنما جاز ذلك في بياعات النقود، وأما إذا كان التأجيل البعيد صار ذلك فيه معنى ما أشرنا إليه من القصد لاشتراط الضمان على البائع، ولهذا قال بعض أشياخي: لا يختلف المذهب في منع هذا الشرط إذا كان الخمن إلى أجل بعيد. كما حكيناه.

والجواب عن السؤال التاسع أن يقال:
إذا رهن عصير العنب، وهو حلو حلال، فصار خمرًا، ثم تخلل، فإنه يبقى على الملك على ما كان عليه قبل أنْ يصير خمرًا، من غير خلاف. وهكذا نقلوه (1) على حكم كونه رهنًا عند فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبي حنيفة.
وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لا يعود رهنًا إلا بعقد مستأنف. وحكاه أيضًا بعض أصحاب الشافعي عن أبي حئيفة. وأنكر ابن القصار هذه الحكاية على من حكى من أصحابنا، ورأى أن أبا حنيفة مذهبُه كمذهبنا في هذه المسألة. وكذلك أنكر أبو الحامد الإسفراييني على من حكي ذلك عن أبي حنيفة أيضًا، ورأى أن مذهبه كمذهب الشافعي في ذلك. وكذلك أشار أبو حامد إلى إنكار من نقك أن هذا أيضًا حُكي عن الشافعي، وأن له قولًا بكونه لا يعود رهنًا.
لكن ينبغي ألا ينكر الخلاف في هذه المسألة، فإن ابن القصار قال في كتابه: وقال قوم: لا يبقى على حكم كونه رهنًا ويفتقر في كونه رهنًا إلى تجديد
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: أبقوْهُ.

(3/ 2/357)


عقد مستأنف. وكأن هؤلاء رأوا أن المِلك أقوى من الرهن، فبقاه على الملك الأول، وكون زوال اليد عند لا يضعفه والرهن أضعف من الملك، وزوال يد الراهن عنه يضعف الرهن على الجملة، وقد أمر الشرع، لما صار هذا العصير خمرًا، بدفع (1) يد المالك عنه ويد المرتهن، فكأن يد المرتهن يقدّر ارتفاعها تقديرًا. ورأت الجماعة والجمهور أن الرهن يتعلق به حفان: حق الملك وحق الرهن، فإذا اتفق على أن حق الملك في هذه العين يبقى على ما كان عليه، فكذلك حق الرهن, لأنه تابع للملك ومن حقوق الملك.
ولو كان عقد الرهن على الخمر، والراهن والمرتهن مسلمان، لم ينعقد هذا الرهن، تكون الحكم إراقةَ هذا الخمر.
ولو كان الراهن ذميًا والمرتهن مسلمًا، لم ينعقد هذا الرهن في حق المسلم، بل يعاد إلى الذمي مالِكه، ولو بيع هذا الخمر لم يكن المسلم، الذي أخذه رهنًا، أحقّ به من غيره من الغرماء, لأن حيازته إياه كالعدم، فصار كمالِ الغريم (2) لم يحزه أحد من الغرماء.
ولو كان الراهن مسلمًا والمرتهن ذميًا لأريقت على المسلم، وبطل حق الذميّ المرتهن فيها.

والجواب عن السؤال العاشر أن يقال:
حق هذه المسألة أن تذكر في كتاب الأشربة، ولكن لما جرى الرسم بذكرها في كتاب الرهن، في تصنيف البغداديين من أصحابنا وأصحاب الشافعي، اقتفيتُ أثرَهم في ذلك.
واعلم أن تخليل الخمر لا يخلو من أحد وجهين:
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: برفْع.
(2) هكذا, ولعل الصواب: كمالٍ للغريم.

(3/ 2/358)


أحدهما: أن تكون تخلّلت من غير صنع المخلوقين في ذلك، لا بإلقاء شيء يخلّلها وينقلها عن كونها خمرًا، ولا ينْقلها من ظل إلى شمسٍ، أو هواء إلى هواء.
أو يكون تخللها بعلاج أُبقيَ فيها وهو على قسمين: أحدهما أن يعالجها بالنقْل وتبديل الأهوية والأمكنة. والثاني أن يعالجها بشيء يلقيه فيها.
فأما القسم الأول، وهو مصيرها خلًّا من غير علاج من إلقاء، فإنها تطهير ويحل بيعها، والتأدُّم بها، وتكون كسائر الخلول التي (تصير خمرًا) (1). وهذا مما حكى فيه بعض الأئمة إجماع الأمة على ذلك. لكن بعض أصحاب الشافعي اشترط في إباحتها وطهارتها تكون (2) هذا التخليل في خمرة قُصِد بها في أول عصرها أن تُتَّخذ خلًّا، حتى لا يكون عاصيًا فيما بعدُ (أنها من إمساكها) (3) لتصير خَمْرًا.
وأما إذا تخللت بعلاج أو بالنقل من هواء إلى هواء أو مكان إلى مكان، من غير أن يُلقَى فيها شيء، فإن ابن القصار من أصحابنا، ذكر أنْ لا خلاف في هذه أنها تحل إذا صارت خلًا بهذا النوع من العلاج، وتطهُر. وذكر ذلك في احتجاجه عن الشافعي، ولعله أراد: لا خلاف بيننا وبينه، وإلا فبعض أصحاب الشافعي أجرى هذا العلاج بها مجرى علاجها بشيء يطرح فيها مما يخفلها في مقتضى العادة كالخل والبوْرق وما أشْبه ذلك، وأن ذلك يجري في بقائها على التحريم مجرى تخللها بشيء يُلقى فيها.
وأما إن كان علاجها بشيء يلقى فيها فتخللت، فهذا مما اختلف الناس فيه، فذهب مالك إلى كونها تطهير بذلك، وتحلّ، وترتفع عنها أحكام الخمرية من حد شاربها وتفسيقه وكرِه أكلَها بعض أصحاب مالك، عبد الملك
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: أصلُها خمرٌ.
(2) هكذا, ولعل الصواب: كوْنَ.
(3) هكذا, ولعل الصواب: إن هو أمسكها.

(3/ 2/359)


وسحنون. وبمثل ما قال مالك قال أبو حنيفة. وذهب الشافعي إلى أنها ترتفع عنها أحكام الخمرية عن (1) التفسيق وحدّ شاربها، ونجاسة الخمرية. لكنها يبقى فيها حكم نجاسة خل تنجس بما ألقي فيه من بول أو غيره. وهل يسوغ التخليل لها ابتداء أو يحرم؟ حزمه الشافعي وأباحه أبو حنيفة. وأغْلى بعض أصحابه في ذلك، حتى رآه مشرَّعًا مندوبًا إليه عندهم. وكره مالك رضي الله عنه.
وكأن هذه المسألة كالأصل فيما ذكرناه من الخلاف في تطهيرها وإباحية أكلها واستعمالها.
ويحتج المبيحون لها بهذا العلاج بقوله تعالى {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (2) فقيل: إنه النحل وأنه رزق حسن. ويؤكده قوله عليه السلام "نعم الإدام النحل" (3). وهذا الثناء عليه يؤكد كونه رزقًا حسنًا.
وعم عليه السلام أنواع الخلول، ما تخلل منها، بعد أن كان خمرًا، بعلاج أو بغير علاج، أو ما لم يكن قطّ خمرًا. ويجيب أصحاب الشافعي عن هذا بأن ظاهر الآية التنبيه على ما أنعم به علينا مما يتخذه من نفس ثمرات النخيل والأعناب، لا فيما يكون يتخذ منها بواسطة، وهو التخليل بما يلقى.
ويحتج المجيبون (4) لها أيضًا بما روى أنه عليه السلام (يُحِل الدباغُ الجلدَ كما يحلّ النحل الخمر) فكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل تحْليل الخمير بالتخليل كالأصل والدباغ في تخليلها (5) الجلد عند من رأى كون الجلد يطهر بالدباغ كالفرع.
واحتجوا بأن لفعل الآدمي تأثيرًا في الاستباحة، ألا ترى أن الشاة إذا ماتت حتف أنفها لم تؤكل، فإذا ذُكِّيت أكلت، فقد صار الموت الذي وقع عن فعل
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: من.
(2) النحل: 67.
(3) المنذري: مختفى سنن أبي داود: 5: 328. حد 672.
(4) هكذا, ولعل الصواب: المُجيزون.
(5) هكذا, ولعل الصواب: تحليله.

(3/ 2/360)


آدمي يبيع مالم يبعه الموت الذي وقع عن فعل الله سبحانه.
وهذا وإن كان نوعًا من الاستدلال فإنه لا يطّرد في أصول الشرع، ألا ترى أن موت الإنسان من قِبَل الله لا يمنع ولده أن يرثه، ولو قتله ولدُه لم يرثْه، فقد صار ها هنا فعل الله سبحانه يتعلق به من الحكم ما لا يتعلق بفعل الآدمي، فلا يستنكر افتراق فعل الله سبحانه في تحليل الخمر وابن آدم لها، فيكون الحكم في ذلك مختلفًا.
ويحتج أصحاب الشافعي على التحريم بما روي أن أبا طلبة ذكر للنبي عليه السلام أن عنده مال أيتام فاشترى لهم به خمرًا، يريد حين كانت الخمر مباحة، فلما حرمت سأل النبي عليه السلام عن حكمه، فقال له: أرقْها. فقال: يا رسول الله هَلآ أخلّلها؟ فقال: لا).
فالأمر بالإراقة يقتضي منع التخليل، وقوله عليه السلام، لما سأله عن التخليل، لا، نهي عن تخليلها. وأيضًا فإن هذا مال أيتام، والشرع مبني على الاحتياط على مال الأيتام، وصونه عن التلف، فلو كان التخليل مباحًا يُصان به مال اليتامى لكون (1) - صلى الله عليه وسلم - يأمره به، ولا ينهاه عنه لما استفتاه في ذلك، ألا ترى أنه أشار بدباغ الجلد في شاة ميمونة لما كان مصلحة وصيانة للجلد.
يقولون: إن الحديث الذي تعلق به المبيحون للتخليل من قوله عليه السلام" يحل الدباغ الجلد كما يحل النحل الخمر، ضعيف لم يثبت.
ويقول أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك المبيحون لذلك إن سؤال أبي طلبة كان حين نزل تحريم الخمر، وهي محبوبة كانت عندهم، فنمع عليه السلام من تخليلها لئلا يكون ذلك داعية إلى إفساد فِطامِهم عن شربها، فلما استقرّ الحكم بالتحريم وألِفُوا اجتنابها زالت هذه العلة.
وهذا تأويل ضعيف, لأن أحكام الشرع وأوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: لَكَان.

(3/ 2/361)


منسحبة على عموم الأزمان والأعصار، وتقرير النسخ فيها بالإمكان تطرّقٌ إلى فساد خطاب صاحب الشرع.
ومما يعتمد عليه أصحاب الشافعي أنه متى ألقي في الخمر بورق أو خلّ، أو غير ذلك مما يخللها، تنجس الملقَى فيه ابن جاستها، وصار مائعًا فيها مخالطًا لأجزائها، وقد صارت نجسًا، فلهذا منع من استعمالها وأكلها.
ويقول المبيحون لذلك: لما استحالت الخمر وطهُرت في نقسها زالت نجاسة ما خالطها مما ألقي فيها بزوال نجاسة ما نجّسه كالدن فإنه ينجس لمماسة أجزاء الخمر.
وإذا تخللت الخمر من قبل الله سبحانه وطَهُرت طهُر الدنّ بطهارة ما نجّسه. ويمنع أصحاب الشافعي هذا القياس على طهارة الدنّ، فإن الدن إذا نجس لمماسة الخمر النِجسة فإذا طهرت فقد استحالت تلك الأجزاء التي ماسته، فيبقى طاهرًا على ما كان عليه قبل أن يماسها، وما يلقى في الخمر مما يخلّلها فقد صار مائعًا فيها وهو نجس, فلا يطهر بطهارة الخمر التي نجسة (1) لأدت أجزاءه لم تنقلب عينها كما انقلبت عين الخمر.
وإذا وضح ما قلناه في هذه المذاهب والأدلة عليها، فقد وقع اضطراب في جواز (2) الخمر هل هو مما يؤثر؟، وكأن اليد عليها مما يرجح أم لا؟ فيه اضطراب، فقال بعض أصحابنا، فيمن غصب خمرًا فتخللت عنده: إنها تبقى للغاصب, لأن يد من غُصِبت منه كلايد، وحوزه كالعدم، فأشبه من خلل خمرًا لا يد لأحد عليها ولا حقّ لأحد فيها. وإذا قلنا: إن لوضع اليد عليها تأييدًا وترجيحًا رُدَّت إلى المغصوب منه وهذا مما ذكرناه في كتاب البيوع.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: [هي] نجسة.
(2) هكذا, ولعل الصواب: حَوْز.

(3/ 2/362)


والجواب عن السؤال الحادي (1) عشر أن يقال:
الرهن يصح أن يؤخذ عن كل حق، وإن اختلفت أنواع الحقوق الثابتة في الذمم، بأن يكون ثمنَ مبيع بيع النقد (2)، أو بيع بثمن إلى أجل، أو ثمنًا لإجارة، أو صداقًا في نكاح، أو عرضًا (3) عن خلع، أو أرشَ جناية إلى غير ذلك من سائر الحقوق الثابتة في الذمم.
وعلى هذا جمهور العلماء. وحكي عن بعضهم أنه لم يُجز الرهن إلا في السلمَ خاصة، تعلقًا منه بقوله تعالى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (4) إلى قوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (4) فافتتح الآية بذكر الدين المؤجّل وهو السلم، ولو كان المبيع سلعة وثمنها دنانير مؤجلة لحسن دخولها في هذا الظاهر, لأنها مداينة إلى أجل، وإن كان العرف تسمِيَتها بيعة أجل.
وإنما جرى العرف تسميته دفع دنانير في سلعة مؤجلة موصوفة بتسميتها سلمًا، فلأجل هذا قال هؤلاء لا يجوز الرهن إلا في السلم.
وعندي أن القوم قد يتخيلون أن الرهن كالرخصة لأجل الضرورة، والحاجة الداعية إلى أن يرخص فيه، وإنما تدعو الضرورة في غالب الأمر إلى ذلك في السلَم لأن الرهن بدل مال عن مال يكون في الذمة، ويُخشى الفلَس عند مَحِلّ الأجل، فيقبض من المديان سلعة تكون بيده رهنًا، فيمنع الراهن من التصرف فيها ويعطل منفعته بها، ويحجر عليه بيعها والانتفاع بها. والأصل في الأملاك ألا تُحجَر على مالكها، فقد صار الرهن كالخارج عن الأصول، فلهذا لا يجوز إلا فيما نص الشرع عليه.
__________
(1) لم يذكر هذا السؤ الذي تعداد الأسئلة. ويصاغ: هل يؤخذ الرهن عن كل حق؟
(2) هكذا, ولعل الصواب: بالنقد.
(3) هكذا, ولعل الصواب: عِوَضًا.
(4) البقرة: 282، 283.

(3/ 2/363)


ورأى العلماء أن معنى سائر الديون تساوي (1) في المقصود بالرهن، وهو الاستيثاق بالحق المطلوب، وكون دافع الرهن له في ذلك منفعة، فلم يعطل مارهنَه من ماله، أو يحجره على نفسه إلا بعوض وهو (2) أنفع له، ولولاه ما عومل ولا دُويِن. وهذا المعنى يشترك الحقوق فيه وقد قال تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم " ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعل الرهبان تقوم مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد، والإشهار (3) يجوز في سائر الديون والحقوق، فكذلك ما جعل ينوب (4) منابه.
وقد منع الشافعي الرهن في كتابة المكاتب لأجل أن الدين غير ثابت، وللمكاتب أن يعجّز نفسه، ويفسخ الكتابة متى شاء، وهذا يمنع من الرهن, لأن الرهن، توثّق بالحق، وما ليس بثابت فلا يتوثق منه.
ونحن نمنع هذا إذا كان الرهن من أجنبي تحمّل بكتابة المكاتب، ودفع رهنًا بما تحمل به, لأنّا لا (5) نجيز الكتابة يحمالة، كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وكذلك منع الشافعي من أخذ الرهن بالدرَك في ثمن المبيع, لأنه يرى أن الدرك يحمل على التأبيد، فإذا باع رجل سلعة من رجل بمائة دينار على أن دفع البائع سلعة من عنده رهنًا للمشتري يأخذ ثمنها إن استُحِق المبيع من يده، فإن ذلك يكون مؤقّتًا بوقت معلوم، فيصح دفع الرهن به تطوعًا, وأما في أصل العقد فإن فيه مخاطرة, لأنه لا يدفع على التأبيد، فمتى وقع استحقاقٌ بيع الرهن في الثمن، فكأن الراهن عطّل مِلكًا من أملاكه على التأبيد، وهذا كإضاعة المال.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: تتساوَى.
(2) هكذا, ولعل الصواب: حذف الواو.
(3) هكذا, ولعل الصواب: الإشهاد.
(4) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [أَنه] ينوب.
(5) هكذا, ولعل الصواب: حذف (لا).

(3/ 2/364)


وهذا التعليل قد يدافع فيه بأن دافع الرهن لو لم يعلم أن منفعته بما اشتراه ترْبي على المضرة بتعطيل منفعته بالرهن لَما فَعَل ذلك، فكأنه كمتلف سلعة ليُحصل بتلفها ما هو أنفع له منها، فهذا مما ينظر فيه.

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى؛ ورضي عنه:
ويلزم بمجر [القول] (1) والقبض شرط في صحته واستدامته، وليس بشرط في انعقاده. وإذا عقداهُ (2) قولًا لزم، وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن. فإن تراخى المرتهن في المطالبة به أو رضي بتركه في يده بطل. فإن قبضه ثم رده إلى الراهن بعارية أو وديعة أو استخدام أو ركوب بطل الرهن. ويجوز أن يَجْعلاه على يد أمين.

قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة (3) أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الرهن يلزم بالقول؟
2 - وما الدليل على أن القبض شرط في وجوب تعلق الحق به؟
3 - وما صفة هذا القبض؟
4 - وما الحكم في قبض المرتهن جُزْءًا شائعًا؟
5 - وما الحكم في قبض المرتهن ما في يديه؟
6 - وهل استدامة القبض شرط في صحته أم لا؟
7 - وما الحكم فيه إذا رجع إلى يد الراهن بواسطة؟
8 - وما الحكم فيه إذا استُحق؟
__________
(1) كلمة ساقطة من (و).
(2) في (و): عقدًا.
(3) الأسئلة التي ذكرها ثمانية لا سبعة.

(3/ 2/365)


فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس في لزوم الرهن بالقول دون القبض:
فذهب مالك رحمه الله أن الرهن يلزم بالقول ولا يفتقر كونه عقدًا لازمًا إلى القبض.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يلزم بمجرد القول، ولا يجبر الراهن على دفع الرهن إن امتنع من ذلك.
ومذهبنا أنه يجبر على دفع الرهن، لكونه عندنا يلزم بمجرد القول كما يلزم البيع بمجرد القول، ويجبر البائع على دفع ما باع إذا قبض الثمن، وإن لم يقبضه جرى ذلك على تقدم ذكره في كتاب البيوع، لما ذكرنا الحكم فيمن يجبر على الدفع: هل البائع يدفع المبيع ثم يأخذ الثمن أو المشتري يدفع الثمن ثم يأخذ المبيع؟
وهذا الاختلاف مبني على ما اشتهر من الخلاف في الهبة: هل تلزم بمجرد القول، ويجبر الواهب على دفع الهبة أم لا؟
فعند أبي حنيفة والشافعي أن الواهب لا يجبر على دفع ما وهب ولا تلزم الهبة بمجرد القول.
وعندنا أنها تلزم بمجر القول، وكذلك الرهن. وقد حكى ابن خويز منداد رواية شاذة في كون الهبة لا تلزم بمجرد القول.
وأشار بعض أشياخي إلى تخريج ذلك من مسألة المدونة فيمن (عار رجل) (1) أرضًا ليبني فيها أو يغرس، ثم أراد أن يُخرجه لما بني وغرس فإنه يمكّن من ذلك إذا أعطاءه ما أنفق، ولم يكن ضربًا أجلًا لهذه العطية.
وبعض أشياخي مَنَعَ هذا التخريج. وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: أعار رجلًا.

(3/ 2/366)


تعالى. والشافعي، وإن كان يرى أن الرهن لا يلزم بالقول، فإنه إذا اشتُرط في أصل عقد بيع ولم يتطوع المشتري بدفع الرهن، فإن البائع يكون له الخيار بين أن يُمضي البيعَ بلا رهن، أو يفسخ لعدم الشرط وهو الرهن.
وسبب هذا الاختلاف في الرهن هل يلزم بالقول أم لا؟ التنازع في مقتضى قوله تعالى {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) هل المراد بقوله تعالى {مَّقبُوضَةٌ} أي يقبضونها بعد عقد الرهن.، أولًا يكون لها حقيقة الرهن إلا بعد أن تصير مقبوضة؟
فيحملها مالك رضي الله عنه على أن المراد بها: تُقبض بعد عقد الرهن.
ويحملها أبو حنيفة والشافعي على أن المراد به أن الرهن هو المقبوض.
وكل واحد من المذهبين يتخرج بطريقة يسلكها من جهة البيان، ومن جهة الاعتبار.
أما مالك فإنه يرى أنه لما تقدم قولَه تعالى "مَّقبُوضَةٌ" قَوْلُه "فرهان" فأثبت تسمية الرهن قبل ذكر القبض، ثم نعته بالقبض، اقتضى ذلك أن يكون رهْنًا قبل القبض، ولو كان لا يكون الرهن رهنًا حتى يُقبض لاستغنُيَ عن قوله {مَّقبُوضَةٌ}.
ويرى المخالف أن قوله تعالى "مقبوضة" وصف لازم كقوله: ساحة واسعة، فإن الاتساع وصف لازم، فوجب بلزومه أن يكون كالشرط فيها. وهذا يقتضي أن الرهن لا يكون إلا مقبوضًا، ألا ترى أن قوله تعالى في كفارة القتل {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) يقتضي أن العتق في هذه الكفارة لا يجزى إلا بشرط الإيمان في الرقبة. فكذلك لا يصح الرهن ويلزم إلا بأن يصير مقبوضًا.
وكذلك قوله تعالى {وَأَشهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مّنِكُمْ} (3) المراد به من هو عدل
__________
(1) البقرة: 283.
(2) النساء: 92.
(3) الطلاق: 2.

(3/ 2/367)


منكم حين الإشهاد، ولم يرد به أن يستشهد من ليس بعدل، ولكنه قد يُعدَّل بعد ذلك.
وأيضًا فإن تخصيص الرهن بالذكر لا يراد به التنبيه ببعض الجنس على بقيته, لأن ما سوى الرهن من العقود أجناس مختلفة، والأولى التنبيه على ما هو أوْلى في الحكم, لأن البيع أقوى من الرهن، لكونه ينقل الملك، والرهن لا ينقله، فلو كان المراد التنبيه لذكر القبض في البيع الذي هو أقوى من الرهن لينبه به على أن ما هو أضعف منه أحق بأن يشترط فيه القبض، فدل ذلك على أن فائدة التخصيص بذكر القبض في الرهن يقتضي اختصاصه بهذا الحكم، وكونَ القبض شرطًا ونحن وإن سلمنا أن الآية محتملة للمذهبين فإنا نقابل ترجيحهم لتأويلهم بقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وهذا عقد في الرهن يؤمر بإلغائه (2). وقوله عليه السلام" المؤمنون عند شروطهم" (3).
وأمّا الترجيح من جهة الاعتبار، فيقولون: إنه عقد لا عوض فيه، فأشبه الوصية، فإن للموصي أن يرجع عما وصّى به.
ونحن نقابل هذا بأنه حق تبايع (4) للبائع، والبيع يلزم بالقول عندنا، أو بالقول والافتراق، فيجب أن يجري الرهن الذي هو تابع البيع مجرى متبوعه، فيلزم بالقول، ولا يفتقر إلى القبض كالبيع.
ويقولون: فإنه وثيقة بالحق، والمقصود باشتراطه استيفاء الحق، فإذا سلمتم أنه لا يكون المرتهن أحقَّ به إذ لم يقبضه فلا فائدة فيه، وقد بطل المقصود به.
ونجيبهم عن هذا، بأنه يلزم بالقول، ويجبر الراهن على إقباض الرهن
__________
(1) المائدة: 1.
(2) هكذا, ولعل الصواب: بإيفائه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) هكذا ولعل الصواب: تابع.

(3/ 2/368)


حتى يكون المرتهن أحق به عند الفلَس، فإن تراخى في قبضه تراخِيًا شعر بإسقاط حقه فيه، صار هو المسقطَ لحقَّه. وهذا عندنا فائدة قوله تعالى "فرهان مقبوضة" المراد به الثخصيص (1) على الفبادرة بالقبض، ليكون المرتهن أحق في الفلس والموت، بخلاف البيع فإن المشتري أحق بما اشتراه في فلس البائع أو موته.
ونقول نحن فإن العقد إذا كان غير لازم لم يجعله القبض لازمًا، كالقراض فإن رب المال، ولو سلم المال إلى العامل، ثم أراد أن ينتزعه منه في الحال، لكان له ذلك، تكون عقد القراض غير لازم لم يجعله القبض لازمًا. أصله ما ذكرناه في القراض والجعالة والشركة والمعاملات، عكسه البيع لما أن كان لازمًا بمجرد العقد لم يجعله عدم القبض غير لازم.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
قد قدمنا التنازع في تأويل قوله تعالى "فرهان مقبوضة" هل المراد به أنها لا تكون رهنًا لازمًا إلا بالقبض، أو تكون رهنًا لازمًا قبل القبض، وإنما القبض شرط في كمال التوثقة بالرهن. فقد حصل من هذا أن أبا حنيفة والشافعي يريان القبض شرطًا في صحة كونه رهنًا ولزومه، ومالك يراه شرطًا في كون المرتهن القابض له أحق به إذا فلِّس الراهن أو مات، فيباع له الرهن، ولا يحاضه في ذلك غرماء الميت أو المفلّس. وإذا أمكن المرتهنَ القبضُ ففرّط فيه حتى فلّس الراهن أو مات أسقط حقه في تعلق دينه بثمن الرهن، وهذا (2) يختلف فيه.
وإن وقع موته قبل أن يمضي من الزمن ما يتمكن المرتهن من القبض حتى فلّس الراهن أو مات، ففي ذلك قولان: هل يسقط حق المرتهن وإن لم يفرّط في القبض؟ أولًا يسقط لكونه لم يتراخ في طلب الرهن ولا فرّط في تحصيله
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: التحضيض.
(2) هكذا, ولعل الصواب: وهذا [لا] يختلف.

(3/ 2/369)


وقبضه؟ وهكذا اختلف عندنا في الهبات: هل يبطلها موت الواهب أو فلسه قبل أن يقبضها الموهوب له، إذا لم يفرط الموهوب له في القبض، مثل أن يهبه سلعة غائبة، أو دارًا غائبة، فخرج الموهوب له ليقبض ذلك، فمات الواهب، والموهوب له لم يصل إلى الموضع الذي به الهبة، فالحكم عندنا في الهبة والرهن إذا لم يحصل القبض في واحد منهما حكم واحد. وإن فرّط المرتهن في القبض فإن الرهن والهبة يبطلان، إذا وقع الموت أو الفلس و (بعد تفريطه) (1) في القبض الذي هو شرط في صحة إمضاء هذه العقود كالتارك لحقه، والمسقط لما ملك من ذلك. وإن لم يفرط في القبض فها هنا القولان.
وسبب اختلاف المذهب في ذلك الالتفات إلى كون القبض مشترطًا في إمضاء الهبة والرهن معلّلًا بالتهمة شرعًا أو غيرَ معلل؟ فمن رآه معللًا بالتهمة اللاحقة بالواهب والراهن وهو أن من وهب عبدًا فأبقاه في يده ولم يسلّمه للموهوب (2) لم يستخدمه وينتفع به إلى أن مات، فإنه لو مكّن من ذلك لأمكن أن يقصد كثير من الناس أن يمنع من يرثه ممن يكرهه ويبغضه من أن يرث ماله بعد موته، من غير ضرر يلحق الواهب، فيحصل على الغرضين: غرضه في حرمان ابن عمه أن يرثه، والانتفاع بماله إلى أن يموت عنه، ونفسه لا تسمح بأن يذهب ماله وتبطل منفعته ليحصلَ له الغرض الآخر، وهو حرمان الوارث له ان يرثه.
وكذلك في الرهن يمسكه (3) الراهن ماله لينتفع به، فإذا وقع الفلس والموت استأثر به الغريم الذي سمّاه له رهنًا دون سائر الغرماء لكونه معينًا لَه دون غيره من الغرماء. فإذا قلنا: إن القبض إنما اشترط لنفْي هذه التهمة فإذا لم يفرط الموهوب له في القبض، وإنما عاجل الواهبَ الموتُ، قبل إمكان
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: يُعَدُّ بتفريطه.
(2) هكذا, ولعل الصواب حذف (لم).
(3) هكذا, ولعل الصواب: يمسك.

(3/ 2/370)


القبض، فإن الهبة والرهن يمضيان، لارتفاع هذه التهمة. وإن قلنا: إن ذلك شرع غير معلل، أبطل عدمُ القبض الهبةَ سواء فرط الموهوب له في القبض أو المرتهن أو لم يفرط.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
إذا تقرر كون القبض شرطًا في تعلق المرتهن بثمنه، فإن القبض يَختلِف باختلاف المتملكات، وينضبط ذلك بالاستناد إلى العادات. ثم لا يخلو الرهن أن يكون منفردًا، لا شركة فيه، أو غير منفرد.
فأمّا رهن شيء بكماله كدار أو عبد أو ثوب أو طعام، فإن القبض فيه أن يدفع (1) الراهن يده عن جميع الرهن، وتصير يد المرتهن على جميعه، على ما كانت يد الراهن عليه. فكان (2) ذلك الرهن مما ينقل من مكان إلى مكان كالثوب والعبد والطعام فإن القبض في ذلك أن يصير (3) المرتهن على جميعه وينقله من حيازة الراهن المالك له إلى حيازة نفسه والمكان الذي لا يد للراهن عليه.
وإن كان مما لا ينقل ولا يزال به كالدار والبستان، فإن القبض فيه رفع يد الراهن وتسليم النظر فيه والذبّ عنه إلى المرتهن، وتفريغ ذلك من شواغل الراهن، وجميع ما ينفعه منه. فإن بقي مُغْلقًا خاليًا كان مفتاح ما يقفل منه بيد الراهن، وإن كانت أرضًا لا تُغْلق، ولا شاغل فيها للراهن، كفى في ذلك الإشهاد على تسليم الراهن لها، والذبّ عنها إلى المرتهن.
وإن كانت ذلك مما يكترى واجب (4) الملك (5) كراءه والانتفاع بذلك،
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: يرفع.
(2) هكذا, ولعل الصواب: فإن كان.
(3) هكذا, ولعل الصواب: تصير [يَدُ].
(4) هكذا, ولعل الصواب: وأحَبَّ.
(5) هكذا, ولعل الصواب: المالكُ.

(3/ 2/371)


تولى عقدَ الكراء أو النظرَ فيه، وقبَضَه المرتهنُ ثم سلمه إلى الراهن.
وإن كان حانوتًا، وفيه مختزنٌ للراهن، كمواعين أو غير ذلك، فإن تصرف الراهن في الحانوت بسبب مواعينه حتى يكون يفتحه متى شاء، ويغلقه متى شاء، من غير مطالعة المرتهن، فإن ذلك لا يكون حوزًا ولا قبضًا. ولو كان الراهن إنما رهن فيه الحانوت خاصة أو الدار خاصة، وفيها مختزَن له، فإن المرتهن متى سلّم إليه منَع الراهن من ذلك للحوائج وما كان مختزنًا، وحيل بينه وبين ذلك فإن القبض المصحِّح للرهن يحصل بهذا، وإن كانت قد بقيت فيه حوائج الرهن. هكذا قيل في هذا.
وعندي فيه نظر إذا كان قد رهن مختزنًا فيه طعام، ولا منفعة فيه له في المختزن قبل أن يرهنه سوى كونه يختزن فيه الطعام أو الزيتَ إلى أن يحول سوقه بعد مدة طويلة فإن هذا قد ينقدح فيه أن القبض ها هنا لم يحصل تكون الراهن لم يتغير عليه من حال الرهن وما يقصد به شيء، إلا أن يقال: إن منْعَه من التصرف إلى هذا المخزن والدخول فيه متى شاء، يكون حاجزًا بينه وبين ما فيه، فيحصل القبض لأجل ذلك، فلا يبعد ما قيل فيه مما ذكرناه.
وإذا تقرر كون القبض شرطًا في صحة الرهن، وصفة القبض كمن (1) يكون القابض هذا لا يشترط فيه إلا المنع من كون القابض هو الراهنَ، ومن يحل محله مِمّن هو تحت يده، ويده كيد الراهن، كعبد الراهن وولده الصغير الذي في ولأنه وتحت نظره.
وإن اشترط (2) كون الرهن تحت يد هذا العبد أو هذا الولد الصغير لا يصح به القبض، ويقدر كأنه باقٍ تحت يد الراهن.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: كأن.
(2) هكذا, ولعل الصواب: اشتراط.

(3/ 2/372)


(وأما ما ولد الراهن البائع) (1) عنه فإن قبضه لا يفسد الرهن، بل يكون كقبض المرتهن.
وزوجة الراهن كولده البائن، وقد قال ابن القاسم: إذا رهن زوجته خادمًا تخدمها في بيته، فإن ذلك لا يكون رهنًا بخلاف أن يهبها خادمه، وهي تخدمها في البيت، فإن ذلك يكون حوزًا لأنّ الهبة إذا رجعت إلى يد الواهب بعد صحة الحوز لم يبطل (2)، والرهن إذا رجع إلى يد الراهن بعد الحوز بطل الرهن.
وحكى فضل بن مسلمة في وثائقه عن سحنون: إن رهَن خادمة لزوجته تخدمها لم يصح. وسنبسط الكلام في الزوجة ما وهبها زوجها من خادم أو قشّ وذلك في دار سكناهما، في كتاب الهبة والصدقة إلى غير ذلك من المسائل التي من هذا النوع إن شاء الله تعالى. كهبة ما عقد فيه وَجيبَة والخلاف في ذلك، هل قبض الواهب ثمن المنافع يمنع كون الموهوب له أو المرتهن حائزًا، كما لو بقيت المنافع تحت يد الراهن ينتفع بها، أولًا يمنع ذلك من صحة القبض, لأن ثمن المنافع ليس هو عين المنافع. وأما حوز القيَّم بأمور الراهن، والمتصرف في ماله وشؤونه، فقد وقع في الرواية أنه إن حاز جميع الرهن، كدار رهن الراهن جميعها فحازها القائم بشؤون الراهن للمرتهن بإذنه، فإن ذلك حوز لا يبطل الرهن.
ولو كان إنما رهن الراهن نصف هذه الدار خاصة، وأبقى النصف الآخر على ملكه وتصرفه، فإن قبْض هذا القائم بشؤون الراهن (3) للنصف المرتهَن لا يكون قبضًا، لأجل أنه إذا كان جزءًا (3) من الدار في يد القائم بشؤون الراهن (4)، فإن قبض الجزء المرتَهن وكأنَه تحت يد القائم بشؤون الرهن لا
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: وأما ولدُ الراهن البائِن.
(2) هكذا, ولعل الصواب: تبطل.
(3) هكذا، والصواب: الرهْن.
(4) هكذا، والصواب: جزءٌ.

(3/ 2/373)


يصح، تكون الجزء الآخر الذي لم يُرتَهن يحوزه هذا القائم نيابة عن الراهن، وهو غير متميز من الجزء المرتهن، فقدّر كأن يد الراهن باقية على جميع الرهن. وقد قيل، في أحد القولين،: إنه لا يصح رهن نصف دار على أن تبقى يد الراهن على النصف الآخر، لما كان الرهن شائعًا غير متميز، فكذلك بقاء يد القائم، لا سيما أن القائم ها هنا لا يتبدل الح الذيه، وقد كانت يده على جميع الدار يحوزها الراهن، وبقيت يده على جميعها يحوز النصفَ منها للراهن والنصف للمرتهن، وإنما تبّدلت النية خاصة، ويد أخرى لم نظر (1) على هذا الرهن، بخلاف أن نظرًا (6) يد أخرى، وهي يد المرتهِن، فتحُوز مع الراهن نصف الدار.
ولو كان الرهن وديعة أوْدعها الراهن، فحاز الموح جميعها للمرتهن فذلك حوز يصح معه الرهن ولو لم يحز في لك له لم يصح القبض.
وقد اختلف لو كان المودع إنما رهن نصف الوديعة خاصة، وحاز المرتهِن نصفَها المرتَهَنَ، ونصفَها الراهنُ، لأجل كون يد المودع ها هنا حازت حقًا للمرتهِن لم يتميّز عن نصف الراهن، فكان القبض لم يصحّ.
وإذا وضح الحكم في حيازة (من نسب) إلى الراهن بحيازة رجل أجنبي من الراهن لا تدركه تهمة في الحوز يصح معه القبض ويحل محل قبض المرتهن بنفسه.
ولو اختلف الراهن والمرتهن فيمن يحوز الرهن، فقال الراهن: يحوزه العدل المؤتمَن. وقال المرتهن: أنا أحوزه. ولم يكن بينهما اشتراط في أصل العقد (2) الرهن في تعيين من يحوزه فإن القول قول من دعا إلى كونه بيد رجل يؤتمن عليه. وأما الراهن فقد يكره حيازة المرتهن لهذا الرهن خوفًا عليه أن يدعي ضياعه، فيحول بينه وبين ملكه أو يفرّط فيه حتى يضيع، أو يضيّعه، فلهذا
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: تَطْرَأ.
(2) هكذا, ولعل الصواب: عقد.

(3/ 2/374)


قُبِل قوله إذا ادعى (1) إلى حيازة رجل مؤتمن عليه وأما المرتهِن فإنه يقبل قوله إذا ادعى (1) إلى حيازة غيره ليكفيَ نفسَه مؤونة التكلّف للاحتفاظ عليه، ويكفي نفسه أيضًا مؤونة ضمانه وإذا (2) كان قابضه، فكان الحكم وقفَه على يد عدل، فمن دَعَا إلى الحكم قُبِل قوله. ولا (3) تنازعًا في عَيْن هذا العدل المؤتَمن، فدعا هذا الراهن إلى رجل، ودعا المرتهِن إلى رجل آخر، فقال محمَّد بن عبد الحكم: يدفع ذلك إلى القاضي لينظر من يوقف عنده.
وبعض أشياخي تعقب هذا، ورأى أن الراهن إذا دعا إلى رجل عدلٍ يؤتمن على الرهْن، فإن قوله مقبول في ذلك تكون الملك له، فيختار لحفظه وصيانته من شاء من الثقاة، ما لم (يدفع إلى ثقة) (4) فيضر ذلك بالمرتهن.
وكان ابن عبد الحكم ينفصل عن هذا بأن المرتهِن ينازع الراهن في عدالة من دعا إلى كون الرهن عنده، ويقول له: إنه غير ثقة. وقد يصْنع (5) الرهن الذي فيه حقه، فيفتقر حينئذ إلى النظر في ثقة من دعا إليه الراهن، ولا ينطق (6) في كونه ثقة ومأمونًا على ذلك إلا القاضي، فلهذا بدأ به في الأول، وصرف النظر إليه.
لكن بعض أشياخي يرى أنه (7) ثبت عند القاضي أن من دعا إليه الراهن ثقة "فإنه يتعين تسليم هذا الرهن إليه دون أن يرجع في ذلك إلى رأي قاض أو غيره.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: دَعَا.
(2) هكذا, ولعل الصواب حذف الواو.
(3) هكذا, ولعل الصواب: لو.
(4) هكذا, ولعل الصواب: يَدْعُ ألى [غير] ثقة.
(5) هكذا, ولعل الصواب: يضيع.
(6) هكذا, ولعل الصواب: ينظُر.
(7) هكذا, ولعل الصواب إضافة: إنْ.

(3/ 2/375)


والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
لا يخلو رهن جزء من دار أو عبْد أو ثوب من أن يكون الجزء الآخر (ما كان) (1) للراهن أو لآخر غيره.
فإن كان ذلك الجزء الذي لم يُرهن ملكًا للراهن، فهل يصح حوز المرتهِن للجزء الذي سلّم إليه رهنًا غير متميز من ملك الراهن أم لا؟ في ذلك قولان:
1 - أحدهما: إن ذلك لا يصح، تكون يد الراهن لم ترتفع عن الرهن ارتفاعًا كليًا، بل تصرفه في كل جزء من الدار إنما تصرف في شيء بعضه ليس برهن بل هو باق على ملكه. فإذا لم يتصور رفْع يده عن جملة الرهن إلا بأن يدفع الراهن للمرتهن جميع ما ملك من هذا الراهن الجزءَ الذي رهنه والجزءَ الذي لم يرهنه لأجل ما قدمنا.
2 - والقول الآخر: إن هذا حوز وقبض يصح به الرهن، قياسًا على بيع جزء شائع من الدار تصير يد المشري علي على الجزء المبيع، وتبقى يد البائع على الجزء الذي لم يبعه. ثم لم يمنع كون يد البائع على جزء شائع من صحة البيع، فكذلك لا يمنع من صحة الراهن (2) في الجزء الشائع مع بقاء يد الراهن على الجزء الآخر. وإذا قلنا بجواز ذلك،، وصحة كونه قبضًا وإن كان غير متميز، فإن الرهن يكون إذا قبض المرتهِن جميعَ ما بعضُه رهنٌ، الجزءَ المرتَهَن يضمنه للراهن إذا كان مما يغاب عليه، والجزءَ الآخرَ يكون في يده على جهة الأمانة، وكأنه وديعة عند (3) الراهن فلا يضمنه.
فإن قيل: هَلا اختلِف في هذا، كما اختلف في ضمان الصانع المثالَ، فيقول من ضمن الصانع المثال الذي يأخذه ليصنع عليه بأن هذا المرتهن يضمن جميع ما قبضه رهنًا وأمانةً، تكون هذا الجزء المقبوض على جهة الأمانة إنما
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: مِلكًا.
(2) هكذا, ولعل الصواب: الرهن.
(3) هكذا ولعل الصواب: من الراهن.

(3/ 2/376)


دعا إليه الحاجة إلى صحة حوز الرهن. قيل: ضمان الصانع إنما علة (1) المصلحة، على ما يذكر في كتاب تضمن الصناع إن الصنَّاع لو لم يضمنوا لادّعَوْا تلفَ ما دفِع إليهم، وبالناس ضرورة إلى دفع ذلك إليهم، وكذلك ما دُفع إليهم ليجعلوه مثالًا لما استَؤجروا عليه، ميت المصلحة تضمينهم له (2) في الرهن إنما الغرض المقصود به كون القابض للرهن أحق بثمن الرهن من غيره من الغرماء. وها هنا لا يكون أحق بثمن بعض الرهن الذي لم يجعلْه بيده رهنًا،
وإنما جُعِل أمانةً، وإذا لم يكن أحق بثمنه من غير خلاف، لم يكن ضامنًا له، لأن الضمان إنما يتوجه في الرهبان وما في معناها لا في الأمانات.
وكذلك اختلِف في صدقة الوالد على ولده بنصف دار أو سلعة في يده، والولد في ولايته، هل يصح كون الأب حائزًا للنصف الذي تصدّق به على ولده أم لا، لما كانت يده تحوز لنفسه ولغيرْه حوزًا على الشياع، على حسب ما قدمنا تعليله والخلاف فيه إذا رهن نصف داره؟
وأما لو كان الجزء الذي لم يُرهَن لغيز الراهن، مثل أن يكون دارٌ أو عبدٌ أو ثوب بين شريكين، ورهن أحدهما النصف الذي له ووضع المرتهِن يده على هذا النصف الدي جُعِل بيده رهنًا، فإن ذلك لا يخلو أن يكون مما لا يصح نقله والزوال به من مكان إلى مكان كالديار والأرضين، أو مما يصح نقله كالعبد والثوب وشبه ذلك، فإن كان ما لا يصح نقله وأن يزال به كالرّباعِ، فإن المذهب صحة الحوز للرهن إذا قبَض هذا النصفَ المرتهنُ، وهو جميع حق الدائن، وحلّت يد المرتهِن محل يد الراهن، فصار ينفرد بحيازة هذا النصف والذبّ عنه، على حسب ما كان ينفرد به الشريك الذي رهَن جميعَ نصيبه. وإن كان مما يزال به وينقل من مكان إلى مكان كالعبد والثوب ففي الذهب قولان:
مذهب ابن القاسم إن ذلك يصح الحوز فيه كما صح هذا الحوز فيما لا
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: عِلَّتُه.
(2) هكذا, ولعل الصواب إضافة [وَ].

(3/ 2/377)


ينقل من مكانه كالديار والأرضين، لعله كون يد الراهن ارتفعت عن جميع نصيبه الذي رهن، فلا يفترق الحكم بين أن يكون ذلك مما ينقل أوْ لا ينقل.
ومذهب أشهب وعبد الملك، إن ذلك لا يصح, لأن الحوز إنما صح في الرباع لأن نقلها لا يمكن، فصار المقدور عليه في قدرة الخلق رفعَ يد الراهن عن نصيبه، وكونَ يد المرتهن تحل محله. وأمّا ما ينقل ويزال به فإنه يمكن فيه أن ينقله من مكان إلى مكان. وهكذا المعتاد فيه في قبضه يُطلب في الحوز أعْلى درجاته وهي نقْله من مكان إلى مكان ينفرد به المرتهن.
وإذا تقرر هذا فإن هذا النصيب الذي رهنه الشريك ورفع يده عنه، ينبغي ألا يرهنه حتى يُعلم شريكَه بذلك، ويستأذنه فيه، لأجل أن الشريك الذي لم يرتهن نصيبه قد يدعو إلى بيع الجميع، لأجل ما عليه في بيع نصيبه منفردًا ميت
البخس في الثمن، فإذا دعا إلى ذلك مُكَن منه، لكونه من حقه، فيؤدي ذلك إلى بيع النصيب المرتَهن فيه، فينتقل حقُّ المرتهِن من عين الرهن إلى حكم آخر.
وهذا مما ينبغي أن يتوثق به بالرهن الذي لا يكون لأحد فيه حق في إزالة يد الراهن عنه إلا بعد قضاء الديْن الذي هو رهن به. فإذا استؤذن الشريك الذي لم يرْهَن في هذا، لم يكن له أن يدعُوَ إلى المفاصَلَة وبيع الجميع، حتى يحل أصل الدين، فيقبض المرتهن ديْنه، تكون الشريك قد أسقط حقه في الدعاء إلى المفاصلة، لما كان الرهن عن إذنه وقع. لكن لو أراد الشريك الذي لم يرهَن نصيبَه مفردًا، على أن يقبض إلى أجل الدين الذي نصيب تركه مرتهنٌ به، وهو أجل بعيد لا يجوز بيع المعَيَّنات على أن تُقبَض إليه، فإن في ذلك قولين: أحدهما إنه يمكن من ذلك. وذهب ابن ميسّر إلى أنه لا يصح هذا البيع، كما لا يصح بيع سلعة معينة تقبض إلى أجل بعيد، فكذلك هذا, لأن الشريك يبيع نصيبه على أن يَقبضَ إلى أجل بعيد. والقول الآخر: بالجوزا، علته أن بيع المعين على أن يقبض إلى أجل بعيد، دخل المتعاقدان عليه اختيارًا منهما، وهما قادران على أن يُعقَد البيع على أن تُقبَض السلعة المبيعة بالفور، فعدو لهما عما يقدِران عليه، وهو الغالب المألوف قصدًا إلى التخاطر في اشتراط تأخير

(3/ 2/378)


القبض إلى الأجل البعيد الذي قد تتغير السلعة قبل حلوله بالاشتراط لضمانها إلى أجل بعيد.
وأما بيع هذا الشريك، الذي أذن له شريكه في رهن نصيبه، فإنه ها هنا لا قدرة له على أن يبيع نصيبه ليقبض بالفور، ويدعو المشتري لنصيبه إلى المفاصلة، ويُمنع من ذلك، كما كان الشريك الذي باع منه ممنوعًا. فإذا كان غير قادر على بيعه ليقبض على الفور، ومنعه الشرع من ذلك فلم يقصد المخاطرة، لكونه غير ممكَّن من العدول عنها لما أوجبت الأحكام منعَه من بيع نصيبه على الفور. وقد (تعذر من أصول المذهب بالمنع) (1) إذا عقد على جهة ما أوجبته الأحكام ففي ذلك قولان: هل يعذر المتعاقدان في هذا العقد لكونهما كالمغلوبين عليه أوْ لا يعذران في ذلك تكون العقد وقع باختيارهما ولم يجبرهما الشرع عليه، وإنما منعهما من التصرف فيه على أحد وجوهه؟ وعلى هذا الأصل تجري مسائل كثيرة نبهنا على بعضها في كتاب البيوع، وبسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته ها هنا.
فإن قيل قد اتفق المذهب على جواز بيع الغائب، واختلف القول في ضمانه، هل هو من المشتري أو من البائع. وفي بيع هذا الشريك لنصيبه الذي لم يرهنه إلى أن يقبض إلى أجل لم يُنَصّ فيه على هذا الاختلاف، بل جعل الضمان في هذا النصيب من مشتريه بالعقد، وإن كان أجل القبض يتأخر قيل (2) السلعة المبيعة إذا كانت غايته لا يصح في العق ان تقبض عقيب العقد، فصار القصد غيرَ متأت عقلًا، وها هنا يتأتى القبض ويتمكّن، وإنما منع الشرع من اشتراطه خاصة معجلًا إلى أن يسقط حقه في التعجيل للبيع من له أن يمنع منه، فلما صار القبض ممكنًا متأتيًا في الحال صار ذلك بخلاف ما لا يمكن قبضه عقلًا في الحال. وقد بسطنا هذا الذي أشرنا إليه في كتاب البيوع في ضمان
__________
(1) هكذا.
(2) هكذا.

(3/ 2/379)


المحتبسة بالثمن وبيع الغائب.
وإذا قيل في مسألة هذا الشريك: إن البائع يَسقط الضمان عنه بالعذر، فيجب له نقد الثمن على حسب ما بيناه في كتاب البيوع في أحكام بيع الغائب.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
قد بينا صفة القبض فيما في يد الراهن، منفردًا أو متميزًا أو مشاعًا. فأما ارتهان الإنسان شيئًا في يديه هو من غير أملاك الراهن، فإنه لا يخلو أن يكون ذلك في يديه غصبًا أو وديعة.
فإن كان في يديه غصبًا، وحازه حوْزًا لم يأذن له الشرع فيه، فأتى مالكُه فجعله رهْنًا في يد الغاصب لديْن للغاصب عليه، وقد تمكن من أخذه، فإن فقهاء الأمصار مختلفون في زوال ضمان الغاصب عن هذا الغَصْب، بأن جعَلَه المالكُ رهنًا في يده، وأذن له في أن يُمسكه رهنًا في دين له عليه. فمذهبنا أن ضمان الغاصب يَسقط، ويُمحى حكمه بهذا الفعل الثاني، وهو إذن المالك في أن يبقى في يد الغاصب رهنًا.
وبهذا قال أبو حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي.
وذهب الشافعي إلى أن ضمان الغاصب لا يَسقط، تكون المالك عقد فيه الرهنَ بعد أن كان غصبًا.
وقد قدمنا نحن القول في كون الرهن يلزم بالقول، وأنه لا يقف لزومه، والجبر على تسليمه على شيء زائد على مجرد القول.
وقد قدمنا عن الشافعي أنه لا يَلزم بمجرد القول. وسنتكلم على اختلافهم في ضمان الرهن.
فعندنا أنه مضمون على الجملة، يضمنه بالأقل من قيمته، أو الحق الذي هو رهن به. فإذا تقررت هذه المذاهب على الجملة فسبب الاختلاف في زوال

(3/ 2/380)


الغصب إذا صُيّر الشيء المغصوب رهنًا، أن الشافعي يراه قد ثبت فيه ضمان الغصب بإجماع، ولم يحدث بعد ذلك سوى قول المالك: صيرته بيدك رهنًا، وقد كان بيده غصبًا، فلم يحصل سوى القول، والرهن لا يلزم بمجرد القول، واستصحاب القبض كابتدائه، فيسقط (1) حكم ضمان الغصب، تكون المالك في بقائه في يد الغاصب على وجه ينافي حكم الغصب, لأن ضمان الغصب لا يتساوى مع ضمان الرهن، بل يتنافيان في بعض وجوبهما (2)، ويصير (3) هذا الشيء المغصوب، إذا بقي في يد الغاصب رهنًا بإذن المالك، كأنه رهن يُستأنَف دفَعَه في دين استدانه، وكأنه رد الشيء المغصوب إلى مالكه، ثم دفعه إليه مالكُه بعد ذلك رهنًا.
ووافقنا أبو حنيفة على هذا لأجل أنه يرى أن استدامة هذا القبض كابتدائه، وكأنه كان في يد الغاصب أوّلًا يحوزه لنفسه، ويخيَّل انه يتملّكه، ثم صار بحوزه على ملك راهنه، وكان (4) رهن رهنًا وإخراجه (5) من يده وأقبضه للمرتهن.
وإذا حصل القبض لزم عقْده الرهن، وصار مضمونًا ضمان الرهبان.
ولزم الرهن عند المزني، وصار غير مضمون تكون الرهن عنده غير مضمون.
هذا سبب الاختلاف عندي في ذلك، وإن كان الأئمة الذين تكلموا على المسألة من أصحابنا كابن القصار، ومن أصحاب الشافعي كأبي حامد الإسفرايني لم يسلكوا هذه الطريقة، في البناء على الأصول، التي قدمنا، وإنما سلكوا طريق الحِجاج على حسب عادتهم في مسائك الخلاف.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: فَـ[لاَ] يسقط.
(2) هكذا, ولعل الصواب: وجوههما.
(3) هكذا, ولعل الصواب: أو.
(4) هكذا, ولعل الصواب: كأنّه.
(5) هكذا, ولعل الصواب: أخْرجه.

(3/ 2/381)


في (1) ذلك أن هذا الغاصب لو اشترى الذي غصبه من مالكه بعد أن تمكن منه، لسقط ضمان الغصب باتفاق. ولذلك يجب بذل (2) عقد البيع عقد رهن أن يسقط ضمان الغصب أيضًا، طردًا للأصل في أن هذا العقد الطارئ ينفي حكم الأوّل وهو الغصب.
ويفرق أصحاب الشافعي بين عقد الرهن في الشيء المغصوب وعقد البيع فيه، بأن عقد البيع يصيّره ملكًا للغاصب، وملك الإنسان لا يضمنه لغيره، والرهن لم يصيّر الشيء المغصوبَ ملكًا للغاصب، فلهذا لم يسقط ضمان الغصب ..
وأما لو كان أبقى الشيءَ المغصوبَ. في يد الغاصب وديعةً لكان أصحاب الشافعي مختلفين في ذلك، منه من قال: يسقط بالإيداع كما يسقط بالبيع.
ومنهم من قال: لا يسقط الضمان بالإيداع، بخلاف الرهن. وهؤلاء يلزمهم طلب التفرقة بين الإيداع والرهن. وهم يشيرون إلى أن التفرقة لا تتضح.
ولو أذن المالك للغاصب في أن يُبقي الشيءَ في يده وديعة، لسقط الضمان عندنا أيضًا، بناء على ما قدمناه في أن الإيداع كالإبْراء من حكم الضمان.
وأصحاب الشافعي يرون أن الإبراء من حقوق الذمة لازم باتفاق، وأما الإبراء من ضمان أعيانٍ لم تثبت في الذمة غرامة لأجلها، فإن الإبراء ميت ذلك فيه قولان عندهم.
وإذا تقرر هذا، وتقدم الكلام فيما سلف في صفة القبض، فإن أصحاب الشافعي يرون أن من ارتهن شيئًا كان في يديه وديعة لمالكه، فإنه إن كان حيوانًا فلابد من إحضاره ومشاهدته, لأنه أذا كان عبدًا أو فَرَسًا في يديه وديعة،
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: مِنْ.
(2) هكذا.

(3/ 2/382)


فأخذ منه صاحب العبد أو الفرس دينًا، وهما غائبان في دار المودَع أو بموضع اخر في البلد، فإنه لا بد من تصحيح القبض (1) والمشاهدة تكون (2) هذا الحيوان في القبضة، لجواز أن يكون العبد قد أبقَ من مكانه، والفرس قد نَدَّ من مكانه.
وإن كان هذا مما (3) ينتقل بنفسه، كالعروض والطعام فعندهم فيه اضطراب، هل يكون كالحيوان لجواز أن يكون قد سُوق أيضًا، أو صادفه عقد الرهن مسروقًا، أولًا يكون كالحيوان لأن هذا الإمكان يبعُد يخلاف الإمكان في العبد؟
وكذلك عندهم اختلاف هل يراعى بعد عقد هذا الرهن أن يمضي من مدة يمكن فيها أن يمشي المرتهن إلى الشيء فيقبضه؟ فالمشهور عندهم مراعاتها.
وقال رجل منهم: لا تراعى.
ونحن قدمنا في كتاب البيوع الكلام في مراعاة مُضيّ قدر التسليم للبيع وذكرنا الكلام في المصارفة عن وديعة بدار المودَع، وعقد صرفها من مالكها وهما غائبان عنها، ما يُعلَم به وجه الحكم في ذلك عندنا. وكذلك ذكرنا ها هنا موت الراهن قبل إِمكان القابض (4)، وهذه المسألة تَردَّد بين هذه القواعد التي أشرنا إليها.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
قد قدمنا أن القبض شرط في صحة الرهن، وكونَ المرتهن أوْلى به من غيره من غرماء الراهن. وبقي النظر بعد ذلك إذا حصل القبض المطلوب، على الوجه الذي وصفناه قبل هذا، ثم خرج الرهن من يد المرتهِن باختياره، وعاد
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: بِالمشاهدة.
(2) هكذا, ولعل الصواب: يكون.
(3) هكذا, ولعل الصواب: مما لاَ.
(4) هكذا, ولعل الصواب: القبض.

(3/ 2/383)


إلى يد الراهن، هل يبطل حكم القبض الأول ويزول حكم الراهن؟ وكون المرتهن أوْلى أم لا؟ هذا مما اختلف الناس فيه:
فمذهب مالك أن عوْد الرهن إلى يد الراهن تمكين المرتهِن يُبطل الرهن، ويَمنع المرتَهِن أن يكون أوْلى به، إذا وقع الموت أو الفلس وهو بيد الراهن، ولا يراعى الوجه الذي عاد به إلى الراهن باختيار المرتهِن.
وقال أبو حنيفة: إنْ عاد إلى الراهن بعارية أو إيدل، لم يبطل بذلك الرهين، وإن عاد بإجارة بطل الرهن.
ويبطل (1) عندنا تصوّر الإجارة فيه؛ لأن المنافع المستأجرة على ملك الراهن، فكيف يشتري ما يملكه منها! اللهم إلا أن يقال: إن الراهن أكراه من المرتهن، ثم عاد المرتهن فأكراه من الراهن. فهذا قد يتصوّر من غير تقدير، وتأويل أن يؤاجَر الرهن بإذن المرتهِن من رجل أجنبي، ويتولى المرتهن ذلك على حقيقة مذهبنا.
وذهب الشافعي إلى أن استدامة القبض ليس بشرط في صحة الرهن إذا كان قد حصل مقبوضًا قبل عوده إلى يد الراهن.
وكشف الغطاء عن هذه المذاهب أنّ رقبة الرهن ومنافعه باقيتان على ملك الراهن، ولا ملك فيها للمرتهن، وإنما يتعلق له حق بعين الرهن يمسكه حتى يستوفي من ثمنها مالَه من دْين له عليه. والرقبة هي المرتهَنة وهي التي تعلق بها حق، فمن تعلق به (2) حقه بعين رقبة الرهن لاستيفاء دينه يوجب أن يمنع الراهن من عود رقبة المرتهن إليه والراهن يقتضي ملكه للمنفعة أن يحال بينها وبينه ويكون من حقها (3) استيفاؤها, ولا يمكن استيفاء منفعَة الرهن إلا
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: يَبْعُدُ.
(2) هكذا, ولعل الصواب حذف (به).
(3) هكذا, ولعل الصواب: حقّه.

(3/ 2/384)


بعد عوده إلى يد الراهن، إذا أراد أن ينتفع به بنفسه، لكن ملكه باقيا (1) عليه يقتضي تمكينه من ذلك، وتمكينه من ذلك يقتضي إبطال حق المرتهِن في تعلق حقّه بعين رقبة الرهن، فما الذي يغلَّب من هَذين الجانبين؟ هذا سبب الاختلاف بين المذهبين:
فأبو حنيفة يغلّب حق المرتهِن، ويقول: المنافعْ، وإن كانت مملوكة للراهن، فليس ذلك يوجب أن يُستوفى ويقبضَه مالكُه، ألا ترى أن من اشترى سلعة حُبِسَتْ عنه بالثمن، فإنه، وإن ملك منافعها, لا يمكنَّ من استيفائها حتى يدفع الثمنَ. فقد تبين أن مجرد الملك لا يوجب التمكين من المنفعة. وأيضًا فإن حقيقة الرهن: ملكُ اليد بحفظه وبحوزه، والمنْع منه، ولهذا منع أبو حنيفة رهن المشاع، تكون حوْز اليد يحصوّر في المشاع، لكونه غيرَ متميّز ولا منفرد، كما تقدم بيانه. وإذا مكنْا الراهن من استيفاء المنفعة أدى ذلك إلى بطلان حكم اليد، وكل ما أدى إلى إبطال حكم اليد كان ممنوعًا. ويؤكد هذا بأن الشافعي، وإن قال: يتمكّن الراهن من استيفاء المنفعة بنفسه، فإنه إنما يستوفيها على حسب ما جرت به العادة، فلو رهن دابّة وقبضها المرتهِن لكان من حق الراهن، عند الشافعي، أن يركبها نهارًا بالبلد الذي هي رهنٌ به، ويردّها للمرتهن ليلًا يحفظها مع كون المالك أوْلى بحفظ ماله من غيره، وما ذاك إلا أن حكم اليد مغلَّب على حكم الملك.
هذا كشف الغطاء عن سر ما ذهب إليه أبو حنيفة.
والشافعي يقول: حق المِلكْ مغلّب على حكم اليد، في مثل هذا، ما لم يرد (2) تمكين المالك إلى تفويت حق المرتهن في رقبة الرهن، أو نقْصٍ من حقه فيها، فإذا غلّب حقّ المالك على حق اليد لم يمنع الراهن من استيفاء
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: لأنّ ملكه باقٍ.
(2) هكذا, ولعل الصواب: يُؤَدِّ.

(3/ 2/385)


المنفعة, لأن ثمرة المالك (1) الانتفاع به، وهو المقصود في الأَمْلاك، إذ لا يَملكُ عين الدواب إلا الله سبحانه الذي يوجدها ويُعدِمها متى شاء، وإنما يملك حق الانتفاع به، فمتى رهن شاة وطلب الانتفاع بأكلها مُنع من ذلك, لأن فيه تفويتا لحقَّ المرتهن من ذلك, لأنه يؤدي إلى نقْصِ حق المرتهِن. وكذلك كل ما أدّى إلى إخراج الرهن عن سلطان (2) والتمكين منه، فإنه يمنع، كما لو رهن دابة، وأراد أن يأخذها ليسافر بها، فإنه يمنع من ذلك، تكون السفر بها يمنع المرتهِن من التمكن منها، وكذلك إن أراد الراهن أن يحول بينه وبين الدابة ليْلًا أو نهارًا، فإنه لا يمكن من ذلك أيضًا، تكون ذلك يخرجها من حكم الرهبان (3) وعند التمكن من الرهن. فلهذا لم يمكن إلا من ركوبها، واستخدام العبد نهارًا دون الليل، على ما جرت به العادة في استخدام العبيد، وكذلك الدابة إن كانت لا تركب ولا تستخدم إلا نهارًا كانت مثل العبد.
وهذا الذي حكيناه عن الشافعي هو المشهور من مذهبه، وهو يحكيه عن أصحابه من مسائل الخلاف، وأبو حامد الإسفراييني وهو من أئمة أصحابه، يشير إلى اختلاف قوله في هذا في كتابه (4)، فأكثرها يقول فيه ما حكيناه عنه، وفي موضع غير ذلك يقول: لا يمكن الراهن من الانتفاع بغير إذن المرتهِن، على حسب ما نقوله نحن. وذكر أن أصحاب الشافعي لهم طريقان في نقل مذهبه: فمنهم من يقول: مذهبه على قولين: أحدهما التمكين من استيفاء المنفعة، كما ذكرناه عنه. والثاني أنه لا يمكن من غير اختيار المرتهِن، كمذهب مالك، إذا طلب أن ينتفع بالرهن وقد رجع إليه.
ومنهم من يقول: لم يختلف قوله في تمكينه من ذلك، كما قال في عامة كتبه، إذا كان الراهن ثقة. والذي قاله في موضع آخر من الكتب المشار إليها
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: المِلُك.
(2) هكذا, ولعل الصواب إضافة: المرْتهِن.
(3) هكذا, ولعل الصواب: عن.
(4) هكذا, ولعل الصواب: كُتُبِه.

(3/ 2/386)


أراد به أنه لا يمكَّن إذا كان غير ثقة. وأشار أبو حامد الإسفرايني إلى اختيار هذه الطريقة وهذا التأويل ..
وعند مالك إنَّ منعَ المالك من استيفاء المنافع لا سبيل إليه، لما قال أبو حنيفة: إنه يمنع من ذلك، ولو بطلت المنفعة وبطلت. وكذلك أيضًا لا يمكن منه تمكينا يعيده إلى يده، كما قال الشافعي، لكنه إذا آجره بإذن الراهن، وتولّى المرتهن ذلك، ولم يُعدْه إلى يد الراهن، فإن ذلك لا يبطل حكم القبض الأوّل، وأبو حنيفة إنما قصد الأبْطال إذا عاد بإجارة بعد أن يعود بعارية أو وديعة, لأن عقد الإجارة عنده (1) كلما لازم (حلّه، والوديعة ارتجاعها، وكذلك العارية،) فخالف ذلك حكم الإجارة.
فهذا ضبط مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة على سبب الخلاف بينهم من جهة الاعتبار.
وأما الظواهر فتنازعوا في قوله تعالى "فرهان مقبوضة" فقال أصحابنا: هذا ظاهره يقتضي استدامة القبض، لربطه حقيقة الرهن بالقبض، وإنما شرط القبض لأن في ذلك فائدتين: إحداهما كون المرتهن يتمسك بالرهن حتى يستوفي دينه منه، وهذا الاستيفاء هو المقصود، ولا يحصل هذا المقصود إلا يكون الرهن في يديه وقت الحاجة إلى بيعه، فصار ذلك كالصفة اللازمة للرهن كقوله: رجل قائم، وإنما يوسف بذلك في حال قيامه، فإذا انفصل عن القيام قيل: كان قائما، والبارى سبحانه لم يقل "كنتم قبضتموها" وأيضًا فإن للرهن فائدة أخرى ومن (2) استعجال الراهن في قضاء الدين لأنه إذا أجبل (3) بينه وبين الرهن، ومُنِع من الانتفاع به استعجل نفسَه بقضاء الدين ليفكَّ رهنَه، ويعود
__________
(1) هكذا.
(2) هكذا, ولعل الصواب: وَهْىَ.
(3) هكذا, ولعل الصواب: جبل.

(3/ 2/387)


إليه الانتفاع به، فإذا كان ممكّنًا من الانتفاع به لم يحثّ نفسَه ويستعجلْها بقضاء الدين، فتبطل فائدة الرهن.
ويقول الشافعي: لم يرد الله سبحانه بقوله "فرهان مقبوضة" القبض الحِسَيّ، بل القبض الحَكْميَّ، بدليل كون الرهن رهنًا وإن وضع على يد عين (1) المرتهن، وما ذلك إلا أنّه كقبض المرتهن من ناحية الحكم، فإذا كان المراد القبض الحكمي بدليل ما ذكرناه، وقد قبض الرهن، وكان عبدًا استخدمه في النهار، ويعيده ليلًا إلى المرتهن، فإن قبض المرتهن من ناحية الحكم لم يبطل، بل يُستصحَب القبضُ إلى أن يعود إليه بالليل.
واستدل أصحاب الشافعي بقوله عليه السلام "الرهن مركوب ومحلوب" ولم يرد أن ذلك حق للمرتهن.
وإذا اتفقنا على أن ذلك مما لا يملكه المرتهن لم يبق إلا صرفه إلى كون الراهن يركبه ويحلبه.
ونحن نجيب عن هذا بأنه لم يذكر مَنِ الراكب ولا الحالب، فصار ذلك مجملًا من هذه الناحية، محتملًا بتناوله على أن المراد يُركَب بإجارة يتولى حلابها (2).
وقد ذكرنا عن الشافعي أنه في المشهور عنه يجيز الانتفاع بالرهن، وإن عاد إلى يد المرتهن، في العبد بأن يستخدمه نهارًا ويعود بالليل إلى يد المرْتهن.
ولو كانت دارًا لكان من حقه أن يعيدها إلى يَدِه يسكنها نهارًا وليلًا, لأن الديار هكذا ينتفع بها في العادة، بخلاف العبد. وعلى قوله الآخر: يمنع من سكناها إذا كان غير ثقة، على حسب ما ذكرناه لاختلاف أصحابه في تأويلًا الاختلاف.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
قد فرغنا من الكلام على رجوع الرهن من يد المرتهن باختياره إلى يد
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: غير.
(2) هكذا.

(3/ 2/388)


الراهن. وأما إن رجع بواسطة مثل أن يكتري الدار المرهونة رجل من المرتهِن بإذن الراهن، فينعقد الكراء بين المرتهن والمكتري، ثم يكتريها الراهن من هذا المكتري لها، فإن ابن القاسم رأى أن ذلك يبْطل الرهن ما دامت في يد الراهن، إذا قام الغرماء على الراهن، إن كان المكتري الذي أكراها من الراهن من جهة الراهن وبينه وبينه علاقة، وإن لم يكن بينه وبين الراهن اختلاط وعلاقة لم ييطل الرهن. وكأن ابن القاسم اعتبر التهمة في هذا وقدّر أن هذا المكتري إذا كان بينه وبين الراهن علاقة، فإن المرتهِن والراهن يتهمان على أن أظهرا الحوز للرهن زورصا، وباطنهما رجوعه إلى يد الراهن، وإنما جَعَلا هذا المكتري ذريعة إلى ما تحيّلا عليه من إظهار الحوز، وباطنهما خلافه. فإذا كان لا علاقة بينه وبين الراهن، بعدت التهمة.
وهذا عندي مثلُ ما ذهب إليه فيمن حلف ألاّ يبيع ثوبه من فلان، فاشتراه منه رجل أظهرا أن الشراء له، وهو إنما اشتراه للمحلوف عليه ألا يباع الثوب منه. واعتبر في هذا كون المتولي للشراء من جهة المحلوف عليه، فيقع الحنث لكون البائع منه إذا علم أنه من جهة فلان صار ذلك كعلمه أنه إنما اشترى ذلك لفلان المحلوف عليه. وإن لم يكن من جهته لم يحنث الحالف.
وهذا مثل ما حكيناه عنه في مسألة الرهن، وأن ابن حارث قد تعقب ما قاله ابن القاسم في مسألة الرهن، وجعل جواب ابن القاسم كالخارج عن المعروف من أصول المذهب، واستشهد بأن من له نصف دار رهنا لرجل، ثم اكترى نصيب شريكه أن هذا الاكتراء يُبطل الرهن، تكون يد الراهن رجعت إلى نصف الدار، وهو مشاع، فكأن يده (1) رجع رهنه إليه. فإذا بطل ها هنا مع بُعد التهمة، فأحرى أن يبطل الرهن إذا أخذه الراهن من يد مكتريه، ولو كان ليست بينه وبينه علاقة.
وهذا السؤال الذي استشهد به، مذهب ابن قاسم أن يقوم المرتهن طالبا
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: بيده ..

(3/ 2/389)


إذ (1) بحيازه نصف الدار الذي صار في يديه رهنا بأن يدعو الرهن (2) الذي اكترى نصيب الشريك إلى المقاسمة إن كانت الدار تنقسم، حتى ينفرد بحيازة النصف الذي هو بيد (3) رهن، وتزول يد الراهن عنه على كل حال. وإن كانت الدار لا تنقسم أكريت وصار الكراء للراهن، نصفُه بسبب ملكه رقبة نصف الدار الذي جعله رهنا، ونصف الكراء عن منافع النصف الذي اكترى، فإذا خرجت الدار عن يد الراهن بالكراء صحَّ الحوز.
ولو أن هذا الراهن لما اكترى نصف الشريك إنما سكن بعضَه، وبقي البعض لم يضع يدَه عليه، فإن ذلك مفضوض على النصيبيْن جميعًا، تكون ما بقي معطَلًا لم يُسكن بقي على الشياع تحت يد الراهن، (لذكر نصف الدار) (4) من شريكه وتحت يد المرتهن. هكذا مذهب ابن القاسم.
وذكره اشهب في كتابه، وذكر ابن عبدوس عنه في مجموعته أن هذه الدار تجعل على يد من كانت بيده رهنا ليصح الحوز.
وهذا الإطلاق الذي حُكي عن اشهب ما أراه ذهب إليه إلا لأجل ما صار إليه ابن القاسم من دعاء المرتهن إلى مقاسمة رقبة الدار اضرار بالرهن (5) , لأنه قد يَكْرَه القسمة، ويزيد (6) بقاء الدار شركة على حسب ما كانت لغرض له في ذلك، ولما يلحقه من الضرر بالقسمة، وفو لم يدخل مع المرتهن على التزام ما يضره، وإنما دخل معه على تصحيح الحوز. وإنما يجب النظر في أدنى ما يصح به، وما ذاك إلا برفع يد الراهن.
ولو أن هذه الدار التي بين شريكين رهَنَ أحدُهما نصيبَه منها، وهو
__________
(1) كلمة غير واضحة، ولعلها: انفرادَه.
(2) هكذا, ولعل الصواب: الراهنَ.
(3) هكذا, ولعل الصواب: بيدِهِ.
(4) هكذا, ولعل الصواب: لِكراء نصف الدار.
(5) هكذا, ولعل الصواب بالراهن.
(6) هكذا, ولعل الصواب: يريد.

(3/ 2/390)


النصف، من رجل، فوضع هذا النصفَ على يد الشريك، فإن ذلك رهن صحيحٌ مَحُوزٌ.
ولو أن هذا الشريك الذي لم يرهن قبض (1) نصيبَ شريكه إلى الآخر رهنا يحوزه لغيره، احتاج أيضًا إلى رهن نصيبه، فرهَنَه ووضع نصيبه على يد شريكه، فإن هذا الرهن ذكر ابن المواز أنه قد بطل، وأن ذلك سمعه من أصحاب مالك، تكون الدار رجعت بعد هذين الرهنين تحت يد الشريكين، على حسب ما كانا عليه قبل أن يرهن كل واحد منهما نصيبَه. قال: ولو أن الشريك الذي وضع نصيب تركه على يديه يحوز للمرتهن، رهَن نصيبه ولم يضعه على يد شريكه، لبطل نصيبُه خاصةً، وصحَّ رهنُ شريكه الذي بدأ برهن نصيبه.
وإنما قال ابن المواز ببطلان نصيب الثاني تكون هذا الشريك بقي في يده نصيب شريكه الذي رهَن أوّلًا يحوزه للمرتهن، وقد صار يحوز جزءًا من الدار على الشياع غيرَ متميز من نصيب شريكه، فلهذا بطل ارتهان نصيبه خاصة.
وهذا الذي قاله إنما ينبني على أحد القولين في أن من رهن نصف داره من رجل وبقي الراهن يجوز مع المرتهنن إن ذالك يمنع من صحة حوز الرهن، تكون الراهن تحوز (2) يدُه مع المرتهن بحق ما بقي له في الدار من نصيب لم يرهنه. وأما إن قيل بصحة الحوز فإنه ينبغي ألاّ يبطل رهنُ الثاني، وإن كانت يد الراهن باقية على نصيب شريكه يحوزه نيابة عن غيره.
ومما يعتبر في حوز الرهن وضعفه أنّا قدمنا أن رجوعَ الرهن إلى يد الراهن باختيار المرتهن أن ذلك يُبطل الرهن، ولكن يشترك أن يرجع إليه، وأما لو لم يكن حصل من المرتهن سوى الإذن للراهن في الانتفاع، مثل أن يكون رهن رجل داره وقبض المرتهِن الدارَ كما يجب القبض، ويصح به الحوز، فأذن للراهن أن يأخذها، ويسكنها, ولم يسلمْها إليه، فسكنَها، فهل يكون مجرد
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: أَقْبَض.
(2) هكذا, ولعل الصواب: تجول.

(3/ 2/391)


الإذن إبطال للحوز المتقدم أوْ لا؟ فيه اختلاف:
ذهب ابن القاسم إلى أن مجرد الإذن من المرتهن للراهن في سكنى هذه الدار يبطل الرهن، وأقام الإذنَ في ذلك، وإن لم يقع ما أذن فيه من السكنى، مقام المسكنى إن وقعتْ.
وذهب أشهب أن مجرد الإذن لا يبطل الرهن.
وذهب ابن حارث إلى أن مجرد الإذن يبطل الرهن إذا كانت الدار موضوعة على يد أمين يحوزها للمرتهن، بمجردُ (1) إذنه لم يبق له تأثير في الحوز، وكأن امساك الدار بيد أمين حتى يتسلمها الراهن المأذون له في سكناها إنما بقي بحكم الراهن (2).
وأما إن كانت الدار بين المرتهن فإن مجرد الإذن لا يبطل الحوز, لأن الحوز معلوم حسًّا, ووجودًا، فكأن الحوزَ باقٍ حتى تخرج من يد المرتهن.
وهذا الاختلاف عندي إنما يتصور إذا قام الغرماء عقيب الإذن، ولم ترجع إلى يد الراهن. وكأن ابن القاسم قدّر أن مجرد الإذن كالتصريح بإسقاط حق المرتهن في الرهن، وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب أن الرهن يلزم بمجرد القول، وكذلك إسقاط الحق فيه يلزم بمجرد القول. وهذا شبّه بأصل المذهب على ما فلناه. وكأن أشهب استصحب حكم الحوز، وأبقى حكمه حتى يرتفع بوقوع ضده. فلما كان مجرد القول في عقد الرهن لا يصيّر الرهنَ رهنًا يتميز به المرتهن عن الغرماء حتى يقع الفعل وهو القبض، وكذلك حلّه ينبغي أن يرتبط أيضًا بعوْد الرهت إلى يد الراهن بعد الإذن.
وكان ابن حارت لما ترجحت عنده الطريقتان غلّب إحْداهما عن الأخرى
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: فمجرّدُ.
(2) هكذا, ولعل الصواب: الرهن.

(3/ 2/392)


بتفصيل ما قال، فقدّر أن الرهن إذا كان بيد أمين ووقع الإذن، فإن يد الأمين بعد الإذن كيد الراهن، وإذا كان الرهن بيد المرتهن فالحوز باق على حكم ما كان حتى يقع ضدُّ ما كان عليه من وزال الدار من يد المرتهن.
وكذلك لو اتفق المرتهن والراهن على أن يُعار هذا الرهن لرجل اتّفق على عاريته له، فهل يُبطل ذلك الرهنَ أم فيه أيضًا هذان القولان بين ابنْ القاسم وأشهب؟ فمن ذهب إلى صحة الرهن (زال الرهن وإن خرج من يد المرتهن بهذه العارية فإذا لم يرجع إلى يد الراهن والمعتبر في إبطال) (1) رجوعه إلى يد الراهن. ومن رأى إبطال الحوز بهذه العارية قدر أنها كهبة وهبها الراهن بغير عوض، وذلك يُشعر يكون ملكه رجع إليه، على حسب ما كان يتصرف فيه حيث شاء.
ورجّح ابن حارث أيضًا هذين المذهبين بصرفهما إلى حالين، فرأى أن المستعير إن كان من جهة الراهن، وهو الراغب للمرتهن في أن يمكّن المستعير من الرهن، فمكنه المرتهِن، فإن ذلك كتمكين الراهن من رهنه، وإعادته إلى يده. وإن كان المُوثِر لهذه العارية والراغب فيها هو المرتهنَ فإن ذلك لا يُبطل الحوزَ، تكون الرهن لم يرجع إلى يد الراهن، وكأن يد الراهن لم تخرج عنه، فلهذا لم يُبطل الحوزَ، وطرد هذا التفصيل حتى في الإجارة للشيء المرتهن.
ولو أن المرتهن أعار الرهن للراهن بشرط أن يرده إليه، فإن من حق المرتهن أن يطالبه برده إليه بما شرط عليه. وأما لو لم يشترط ذلك عليه، وقام الغرماء والرهن في يد الراهن، فإن الرهن قد بطل. وأما إن لم يقم الغرماء حتى ردّ الراهن الرهن إلى المرتهن فهل يكون المرتهن أوْلى به من الغرماء أم لا؟ ذهب مالك إلى أنه لا يكون أولى به، وذهب ابن القاسم إلى أنه يكون أولى به.
وكأن مالكًا رأى أن العارية لما كانت مطلقة لم يشترط ارتجاعها أبطلتْ الرهن، وإذا بطل الرهن لم يردّ إلا بعقد آخر يجعلانه رهنًا للراهن والمرتهن،
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: رأى أن الرهن، إنْ خرج من يد المرتهن بهذه العارية، لم يرجعْ إلى يد الراهن، والمعتبر في إبطاله.

(3/ 2/393)


وها هنا لم يحصل ذلك منهما، فاستُصحِب حكم بطلان الرهن. ورأى ابن القاسم أن مجرد هذا الردّ المراد به تصيير الرهن على ما كان عليه أوّل مرة من كونه رهنًا، وأن مجرد لفظ العارية يقتضى هذا.
وأما إن وقع الرهن: استحقاق لجميعه بطل الحوز من غير خلاف، ولم يكن للمرتهن حق في الرهن. فلو استُحِقْ بعضه فإن المستحق يكون شريكًا في الرهن، ويبقى نصيب الراهن بيد المرتهن رهنًا، ثم ينظر في هذا المستحق فإن كان مما ينقسم كان من حق المرتهن أو الراهن الدعاء إلى قسمته لينفرد هذا بملكه، وهذا برهنه، وإن لم يكن مما ينقسم، (1) وضعاه على يد أحدهما أو يد أجنبي برضى الراهن، فإن ذلك لا يُبطل حوز الرهن.
وإن لم يكن الرهن حاضرًا نظر القاضي في ذلك في القسمة أو بيع الجميع، فإن توجه عنده بيع الجميع أخذ المستحِق نصف الثمن، وبقي نصف الثمن موقوفًا بيد المرتهِن بدلًا عن الرهن الذي أُخِذ من يده. هذا من مذهب ابن القاسم. ورأى أشهب أن الرهن إن بيع بعينٍ، وهي مثل الدين، أو بمكيل أو بموزون، وهو من جنس الدين، فإن ذلك يُعجَّل للمرتهن، إذ لا فائدة في وقفه، بل ربما لحقه ضرر من ذلك، وهو ضياع هذا الموقوف وشهدت بذلك بيّنة، فيغرم الراهن الدينَ وقد خسر الرهن.
وإن بيع بغير جنس الدين فلا بد من وقفه لأنه لا يلزمه أن يقبض جنسًا غيرَ جنس دينه.
ولو أتى الراهن برهن يكون مكان هذا الثمن الذي بيع به الرهن وأخذه معجلًا يتَّجر به إلى الأجل، لكان ذلك من حقه، لما يظهر فيه من فائدة له.
وإنما يجب التعجيل للمرتهن قبل الأجل مع انتفاء الفوائد والأغراض للراهن.
فإذا (2) تقرر هذا فإنه يجب النظر في الرهن إذا استُحِق جميعُه هل على
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: [وَ] وَضَعاه.
(2) هذا جواب عن السؤال الثامن.

(3/ 2/394)


الراهن خَلَفُه أم لا؟ فذلك على قسمين:
أحدهما: أن يكون الرهن المشترط في أصل عقد البيع أو القرض مضمونًا.
والثاني: أن يكون معيَّنًا.
فأما إن كان مضمونًا لم يعين في أصل الاشتراط فإنه قد تقدم الكلام على جواز اشتراط رهن غير معين بل مجهول جنسه، وذكرنا أن مالكًا وأصحابه يجيزون ذلك. ويُلزم من اشتُرِط عليه الرهن أن يأتي برهن يكون ثقة بمقدار الحق. خلافًا للشافعي في منعه الرهن المجهول.
فإذا تقرر أنّا نجيز اشتراط رهن في الذمة غير معين، فإن الملتزِم للرهن يطالَب به، ويُجبر على إحضار ما يكون ثقة بمقدار الحق. فإن أحضر رهنًا هو بمقدار الحق ورضي به المرتهن، ولكن لم يقبضه حتى استُحِق هذا الرهن الذي أُحضر، فإن هذا الإحضار من غير تسليم للرهن لا يبرئ الراهن مما التزَم، ويكَلَّف احضارَ رهن آخر.
وإن وقع الاستحقاق للرهن بعد أن قبضه المرتهن، فهل على الراهن خلَفه أم لا؟ في ذلك قولان:
أحدهما: أنه يجبر على خلفه، وإليه ذهب سحنون.
والثاني: لا يجبر على الخلف.
وكأن هذا الخلاف راجع إلى أصل، عندنا الخلاف فيه معلوم، وهو كون ما أصله مضمون يتعين بالدفع، ويصير كأنه اشترط معينًا في أصل الشرط (1).
أَوْ لا يتعين بالدفع، وقد تقدم في كتاب التفليس الكلام على هذا الأصل، وهو كون مكتري الدابة أحقَّ بركوبها إذا فلّس رب الدابة، وكان الحمْل مضمونًا على المُكري (فرأى مضمون) (2) أن ذلك لا يتعين بالدفع فإذا استحق الراهن
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: العقد.
(2) هكذا.

(3/ 2/395)


المدفوع بقيت الذمة مطلوب (1) بما اشترط، حتى كأن الراهن لم يدفع رهنًا، وإذا لم يدفع رهنًا طُلب بما في ذمته من ذلك.
ولو كان الرهن المشروط معيّنًا فاستُحِق قبل أن يقبضه المرتهن، فإن الراهن لا يجبر على خلَفِه, لأنه إذا التزم رهنًا معيّنًا، فإذا سلمه (2) كشف الغيب أنه لم يكن له، فلا يلزمه خلَفه, لأن يلتزبم عينًا أُخْرى، كما لو باع رجل سلعة معينة فاستحِقتْ فإنه لا للزمه دفع سلعة اخرى بدلًا مما استحق، لكنه لو تطوع بخلفه مما يَقُوم مقامَه، فهل يجبر المرتهن على قبوله أم لا؟ فيه قولان:
ذهب ابن القاسم إلى أن المرتهن لا يجبر على قبول العوض من الرهن المستحَق, لأنه إنما شرط رهنًا بعينه، ولعله أن يكون له غرض في تعيين ما اشترط، فلا يلزمه قبول غيره. وذهب ابن الماجشون إلى أنه يلزمه قبول عوض الرهن الذي يقوم مقامه, لأن الغرض في الأكثر أن يحصل على ثقة حقه وما يستوفي من ثمنه دينَه، فلا يكون له مقال في امتناعه من قبول عوض الرهن إذا استُحِق.
وإن لم يتطوع الراهن بعوض الرهن على مذهب عبد الملك أو تطوع به فلم يقبله المرتهن على مذهب ابن القاسم فإن ذلك يوجب الخيار للمرتهن في سلعته التي باعها واشترط رهنًا بها معيَّنًا، إن شاء البائع لهذه السلعة، ويمضي البيع فيها من غير رهن، وإن شاء أن يفسخ البيع إذا كانت قائمة لم تَفُت.
وزاد بعض أشياخي في هذه المسألة قولًا ثالثًا، وهو سقوط حق المرتهن في خلَف الرهن وفي فسخ البيع، بل يكون البيع لازمًا له من غير رهن يأخذه بعوإلاستحقاق. وخَرَّج ذلك من قول مالك في الراهن إذا تعدى أو باع الرهن من قبل أن يقبضه المرتهن، فإن المرتهن لا مقال له في فسخ بيع الرهن، ولا في فسخ بيع سلعته التي أخذ بثمنها رهنًا، فإذا لزم المرتهنَ بيعه لسلعته، وأُسقِط
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: مطلوبة.
(2) هكذا, ولعل الصواب: [وَ] كَشَف.

(3/ 2/396)


مقالُه فيها وفي الرهن، مع تعدى الراهن في بيعه وظلمه في ذلك، فأحرى أن يَسقُط حقه في استحقاق الرهن والراهن لم يتعد في الاستحقاق.
وهذا الذي خرّجه يمنع من صحته ما علَّلَه بعض الأئمة من أصحابنا. فابن القصار وغيره أشاروا إلى أن العلة في إمضاء بيع الراهن لرهنه تفريط المرتهن في قبضه، وتوانيه في طلبه، مع علمه أنه باق على ملك الراهن، وتحت يده، والمالك يتصرف في ملكه متى شاء، فصار المرتهن كالآذن له في بيع الرهن. ولو لم يكن من المرتهن توانٍ ولا تفريط في قبض الرهن. لكان له مقال في ردّ البيع.
وهذا التعليل يمنع من هذا التخريج الذي حكيناه عن بعض الأشياخ, لأن الاستحقاق لم يكن من المرتهن فيه تفريط ولا توان، وإنما طرأ عليه ما لم يحتسب ولا يظت أن السلعة المرهونة تُستَحَق عليه.
وإن كان هذا الرهن المشترط بعينه إنما يستحق (1) بعد القبض فلا مقال للمرتهن في خلَفه، ولا في فسخ بيع السلعة التي اشترط أخذ هذا الرهن المستحق رهنًا بثمنها.
هذا إذا لم يكن الراهن عن (2) المرتهن في هذا الرهن، ورهنه إياه وهو يعلم أنه لم يُستحق من يده. وأما إن دلّس وغرّه بهذا الرهن، فرهنه وهو يعلم أنه سرقه وكتم ذلك عن المرتهن، فإن للمرتهن مقالًا. وسواء، إذا ثبت الغرور، كان الاستحقاق قبل قبض الرهن أو بعد قبضه، فابن القاسم مضى على أصله في أن الراهن الغار لا يجبر على الخلَف. وكذا ظاهر قوله: إن المرتهن لا يجبر على قبول رهنٍ آخر، وإنما يكون له الحكم في فسخ بيع سلعته التي باع إن كانت قائمة، وأخِذ قيمتها إن كانت فائتة، أو إمضاء بيعه فيها من غير رهن.
وأما عبد الملك فرأى أن الراهن ها هنا يجبر على أن يأتي برهن آخر،
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: استُحِقَّ.
(2) هكذا, ولعل الصواب: غَرَّ.

(3/ 2/397)


وقدّر أنه لما دلّس وظلم وجب أن يُجبَر على عوض الرهن، والظالم أحق أن يحمل عليه. بخلاف كونه لم يغرّ فإنه إذا لم يغرّ لم يقع منه ظلم.
ورأى سحنون أن عقوبته لا تكون بإلزامه رهنًا آخر، وإنما تكون بتعجيل الحق لما ظلم ورهن ما يعلم أنه لا ملك له فيه.
ورأى ابن المواز أن الراهن لا يجبر على الخَلَف ولو غرّ، ولكن إن تطوع بالخلَف جبر المرتهن على قبوله لحصول غرضه في كونه قد صار في يده ثقة حقّه.
ولو كان الرهن عبدًا فمات، أو دابة فنفقت، وذلك بعد قبض المرتهن، فإنه لا مقال له في الخلَف. وكذلك لا مقال له في سلعته التي باع، والاستحقاق بعد القبض أجروه مجرى الموت.
وبعض أشياخي يشير إلى إنكار هذا القياس، ويرى أن الاستحقاق أظهر، لأن الراهن كأنه لم يدفع رهنًا لما دفع ما ظهر أنه لا يمكنه، والموت لا يَرفع الملكَ فلم يدفع إلا ملكه. ولا يقاس الاستحقاق بعد القبض على الموت.
وقد ذكرنا الموضع الذي يكون للبائع فيه فسخ البيع، وارتجاع سلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن فاتت أو إنما البيع بلا رهن.
والفوت ها هنا العيوب المفسدة من غير خلاف، وأما مجرد حوالة الأسواق ففيه الاختلاف: الأشهر أن ذلك فوت كالبياعات الفاسدة. وذهب ابن المواز إلى أنه ليس بفوت كالسلع المردودة بالعيب فإن حوالة الأسواق لا تمنع من الرد. وألزمه بعض الأشياخ على هذا أن يقول، فيمن باع سلعة بسلعة فاستحقت إحدى السلعتين فإن للمستحق من يده ما اشترى، له الرجوع في عين السلعة التي لم تُسحق إن كانت قائمة، وإن كانت فائتة أخَذَ قيمتَها. فينبغي على أصل ابن المواز أن تكون حوالة الأسواق فيها ليس بفوت. وسنبسط نحن الكلام على هذا في كتاب الاستحقاق.

(3/ 2/398)


وقد عورض بما وقع في الرواية من كون المرتهن بالخيار، إذا استُحِق الرهن من يديه، بين أن يُمضيَ البيع من غير رهن، أو يفسخ البيع ويأخذ سلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة. فإن هذا قد يوقع فيما لا يجوز فعله، لأنه إذا كانت السلعة قد فاتت وخيِّر بين إمضاء بيعه فيها، وقد باعها بعشرة دنانير، وأخْذ قيمتها، وقيمتُها ثمانية دنانير. فقد يكون سبق إلى نفسه اختيار أخذ القيمة، وهي ثمانية دنانير، ففسخ ذلك في عشرة دنانير يأخذها إلى أجل، وهذا لا يجوز. لكنه قد تقرر أيضًا أنه اختار أخذ الثمن، وهو عشرة دنانير مؤجلة، فعدل عنها إلى أن أخذ ثمانية، فصار ذلك ممنوعًا أيضًا من جهة أنه أخذ عن دين مؤجّل أقل منه نقدًا، وضعْ وتعجلْ يمنع. فإذا كان هذا التقدير يدور في الصرفين جميعًا فيوقِع في ممنوع منه فيهما جميعًا، ولا مَعْدل لهم عن أحدهما وجب أن يُسامَح في أن يَخْتار ما شاء منهما، لكونه لا معْدل له عنه، كمن باع عبدًا فأبق من يد مشتريه، وأفلس المشتري، فإن للبائع طلب الآبق، مع قدرته على أخذ الحصاص مع الغرماء، فكأنه كمشتري آبق بما ترك من الثمن. وكذلك لو اختار المحاصّة، وهو قادر على طلب الآبق، فكأنه باع الآبق بما يجب له في المحاصة في تمكينه من طلب الآبق لأجْل ما نبهنا عليه من طريق المنع من ذلك. وقد نبهنا في كتاب التفليس على هذا، وفيما تقدم من كتاب البيوع على هذا الأصل في من خيّر بين شيئين: عدو له عن أحدهما إلى الآخر لا يجوز على مقتضى الأصل بما يغني عن بسطه ها هنا، وذكرنا أن من ملَك أن يملِك هل يعدّ مالكًا أم لا, وهذا الاضطراب يستند إلى الأصل.

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه:
وضمان الرهن من مرتهِنه إن كان مما يغاب عليه، إلا أن يقوم بهلاكه بينة. وإن كان مما لا يغاب عليه، كالعقار والحيوان، فضمانه من مرتهنه (1) وكذلك إن كان على يد أمين.
__________
(1) في غ، والغاني، راهنه. (وهو الصواب).

(3/ 2/399)


قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما حقيقة المذاهب في ضمان الراهن؟
2 - وما يستدل به على ذلك من طريق الاعتبار (1)؟

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس في ضمان الراهن، وما يستدل به على ذلك، على ثلاثة أقوال:
ذهب أبو حنيفة إلى أن ضمان الراهن (2) على الإطلاق، وأيّ جنس كان، حتى قال: لو كان الرهن دارًا فانهدمت من غير سبب المرتهن في ذلك لضمنها.
وقال الشافعي: لا يضمن المرتهن الرهن، قولًا على الإطلاق، أي جنس كان، وهو في يد المرتهن كالوديعة.
وقال مالك: إن كان مما يغاب عليهن كالحليّ والثياب وما في معنى ذلك من المتملكات، فإنه يضمن، وإن كان مما لا يغاب عليه من المتملكات المرهونة فإنه غير مضمون بل تَلَفه من راهنه.
هذا هو المعروف من مذهبه.
وقد خرج بعض الأشياخ من المذهب قولًا آخر من ضمان الحيوان، فمنهم من خرج ذلك من اختلاف قول مالك في المدونة، فيمن باع عبدًا أو (3) احتبسه بالثمن فمات العبد، فقد قال مالك، في أحد قوليه: إن ضمانه من بائعه الذي أمسكه رهنًا بالثمن. وهذا يقتضي أنه يرى، في أحد قوليه، ضمان الحيوان في الرهبان.
__________
(1) سقط نص السؤال الثالث. وسننبه عليه في مكانه.
(2) هكذا، والصواب: المرتهِن.
(3) هكذا, ولعل الصواب: وَ.

(3/ 2/400)


وبعض أشياخي يردّ هذا التخريج، ويرى أن سبب الاختلاف في قوله في ضمان العبد المحبوس بالثمن، ما اشتهر من الخلاف عندنا في ضمان المبيع هل يلزم المشتريَ بمجر العقد، أو لا يلزمه حتى يمضيَ بعد العقد من الزمن ما يُمكِن فيه البائع أن يسلم المبيع، ويمكنَ مشتويه منه، على حسب ما وقع الاختلاف فيه عندنا في كيّال الزيت إذا امتلأ اّو أهراق عقيب زمن امتلائه من غير أن يمضي بعد ذلك زمن يمكن فيه أن يفرِّغ في وعاء المشتري، فقد قيل: ضمانه من بائعه، وقيل: من مشتريه.
وبعض الأشياخ يخرج الخلاف في ضمان الحيوان في الرهبان من مسألة ذكرها في المدونة من استعارة أحد الشريكين دابة ليحمل عليها مال الشركة، فذكر الحكم في مشاركة الشريك التي لم يستعرها في غرامة قيمتها إذا تلفت، ولم يقل: إنه لا يضمنها مستعيرها ولا شريكه، تكون العارية كالرهان لا يضمن منها ما لا يغاب عليه. وقد قيل: إن القصد بما جرى في المدونة. بيان حكم ما يلزم الشريك فيما فعله شريكه في مال الشركة، ولم يقصد بذلك بيان حكم الضمان, لأنه يمكن أن يكون قاضي المكان أن يحكم بضمان العارية في الحيوان، فبنى الجواب عمّا سئِل عنه من المشاركة في الغرامة على ثبوت الضمان لوجه مّا.
ويستغنى عن هذا التخريج عندي: إن كان القصد إثبات اختلاف في المذهب في ضمان ما لا يغاب عليه من الرهبان بما ذكره القاضي أبو الفرج عن ابن القاسم فيمن ارتهن نصف عبدٍ وقبض العبد كله، فتلف، فقال ابن القاسم: لا يضمن إلا نصفه. والمعروف من المذهب لا يضمن منه شيئًا, لأن النصف في يده رهن، والحيوان لا يضمن في الرهبان.
وأمّا ما يغاب عليه فلا يختلف القول عندنا في ضمان ما يرهنا منه لا تصريحًا ولا تخريجًا. لكن اختلفت الرواية عن مالك رضي الله عنه في سقوط الضمان فيه إذا قامت بينة بهلاكه، فروى ابن القاسم وغيره عنه أن الضمان يسقط

(3/ 2/401)


عن المرتهن. وروى عنه أشهب وابن عبد الحكم أن الضمان لا يسقط عن المرتهن ولو قامت بينة بهلاكه. ظاهر كلام ابن القصار، في نقله هذا الخلاف عن مالك، أنه مقصور على قيام البينة، وكون الراهن غيرَ مصدق لها في ذلك، وأما مجرد تصديق الراهن في تلف الرهن فإنه يُسقط الضمان عن المرتهن، وإنما اختلفت الرواية في قيام البينة خاصة في هلاك ما يغاب.
فإذا تقررت هذه المذاهب، مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة في المقدار الذي يُضمن اختلف فيه أيضًا على ثلاثة أقوال:
مذهب مالك وأصحابه أن المضمون قيمة الرهن، كانت قيمة الرهن أكثر من مقدرا الدين الذي أخرج الراهن أو أقلَّ.
وذهب أبو حنيفة إلى أن المضمونَ الأقلُّ من الأمرين، إما قيمة الرهن، وإما مقدار الدين. وبذلك قال النخعي والثوري. وذهب شريح والحسن البصري إلى أن الرهن يُضمن بالدين ولو كان الدين أكثر من قيمة الرهن.
فتلخص من هذا أن من تسلّف عشرة دنانير، وأعطى بها رهنًا مقداره عشرة دنانير، وضاع الرهن، فإن مالكًا وأبا حنيفة وشريحًا ومن وافقه متفقون على أن المرتهن يضمن عشرة دنانير. وإن كانت قيمة الرهن تخالف الدين بأن يكون الدين عشرة دنانير والرهن قيمته ثمانية أو بالعكس بأن تكون قيمة الرهن عشرة والدين ثمانية، فعند ممالك أن المضمون في الوجهين قيمةُ الرهن الثمانية أو العشرة. وعند أبي حنيفة أن المضمون ثمانية على كل حال في الوجهين جميعًا.
وعند شريح ومن وافقه أن يستحق دينه الذي هو العشرة ولو كانت قيمة الرهن ثمانية.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلفت ألفاظ الآثار في ضمان الرهبان، فروي عنه عليه السلام أنه قال لا

(3/ 2/402)


يَغْلَقُ الرهن" (1) وروي عنه "الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه" (2)
وروي عنه عليه السلام أنه قال "ذهب الرهن بما فيه" (3) وروي عنه: "أن رجلًا رهن فرسًا، فنفق الفرس في يد المرتهن، فتحًا كلما إلى النبي عليه السلام فقال للمرتهن: "ذهب حقك" (4).
وجميع ما أوردناه من الآثار ليست بالنصوص الصريحة، وسنتكلم فيما بعد على معنى قوله "لا يغْلق الرهن" بضم القاف، ولو كان إعرابه يقتضي خبرًا والمراد به النهي الذي إعرابه لا يغلَقِ الرهن بكسر القاف لا بضمها تنكسر لالتقاء الساكنين. ولو (5) قال أبو عبيدة: فيه تأويلان:
أحدهما: ما كانت تفعله الجاهلية من أنّ أجَل الدين إذا حلّ ولم يفك الرهن فإن المرتهن يفك الرهن بدينه.
والثاني: أنه لا يذهب الدين بذهاب الرهن.
وهذا التأويل يحسن لأصحاب الشافعي التعلق به على الجملة، ولنا نحن في الرد على من قال: إن الدين يذهب بذهاب الرهن، كما حكيناه عنهم.
وأما قوله "الرهن من راهنه" فإنه يحتمل أن يراد بقوله "الرهن من راهنه" كما قال الشافعي، ويحتمل أن يريد به: الرهن من راهنه، أنه مال راهنه، حتى يدفع الإشكال في كونه يَسقط ملك راهنه عنهما (6) إذا حل الأجل ولم يفتكه. وقد قيل: إنه يحتمل أن يريد أن النفقة على الرهن من مال راهنه، وهذا تأويل فيه تعسّف، والأظهر أنه أراد به من راهنه في الضمان لا كونه مِلْكًا
__________
(1) نصب الراية: 4: 319.
(2) نصب الراية: 4: 319.
(3) نصب الراية: 4: 321 - 322.
(4) نصب الراية: 4: 321.
(5) هكذا ولعل الصواب: قد.
(6) هكذا ولعل الصواب: عنه.

(3/ 2/403)


له ولكنه يُنْفق عليه.
وقوله "غنمه" يعني منافعَه "وعليه غرمه" المراد به ضمانه منه إذا تلف. فسمّي المصيبة معًا هنا والجائحة غرمًا.
وقد استبعد أيضًا هذا التأويل لأنه إنما يسمّي الغرم ما غرمه الإنسان لغيره، وأما ما أصيب به في ماله فإنه لاَ يسمى غرمًا.
وقيل في تأويله: إن المراد بقوله "له غرمه" أي افتكاكه، (وكأنه استفادةُ بالفكاك غنم للرهن) (1) بعد أن كان كالخارج من ملك الراهن.
وقوله "وعليه غرمه" يعني غرم الدين الذي يفتكه، فكأن الغنْمَ للراهن بأن يستفيد عين ماله، والغرم على الراهن بأن يدفع ما يفكّ الرهن به.
وقوله "ذهب الرهن بما فيه" يحتمل أن يريد: ذهبت التوثقة بذهابه، ويحتمل أن يريد ذهب بما فيه أي يضمنه المرتهن حتى يسقط دينه. وقد قيل: إن هذا الحديث مرفوع على شريح وإنما أسنده إسماعيل بن أبي أمية وكان متهمًا برفع (2) الحديث.
وكذلك قوله في الفرس المرهون الذي قال "ذهب حقك" يحتمل أن يريد ذهب حقك في التوثق بالرهن، فإنك لا تطلب رهنًا آخر. وقد أشار بعض أصحابنا إلى من سوانا من أهل المذهب يتعلق بظاهر الحديث وترك ظاهر حديث آخر.
ونحن نبني الأحاديث جميعها فنقول: قوله "الرهن من الراهن" فيما لا يغاب عليه، ألا ترى أنه قال: "له غنمه، والاستغلال إنما يكون في الرباع والحيوان. ونجعل قوله لأذهب بما فيه" على أنه فيما يغاب عليه، فيُضمن، وصفة الضمان تُعلم من دليل آخر.
__________
(1) هكذا ولعل الأوضح: وكأن استفادته بالفكاك غُنمٌ للرهن.
(2) هكذا والذي في نصب الراية: بوضع.

(3/ 2/404)


وأمّا طريق الاعتبار فإنها إنما تجري بين مذهب الشافعي الذي نفى ضمان الراهن على الإطلاق، ومذهب أبي حنيفة الذي أثبت الضمان فيها على الإطلاق. وأما نحن فإنا إن جررنا أقيسة في إثبات الضمان نوقضنا بقولنا، فيما لا يغب عليه: إنه غير مضمون. وإن نفيْنا الضمان نوقضنا بقولنا، فيما يغاب عليه،: إنه مضمون. والأوْلى بنا أن تقصر (1) على الآثار, ونبني ما تعارض منها على أن ما ظاهره نفي الضمان محمول على ما لا يغاب عليه، وما ظاهره إثبات الضمان محمول على ما يغاب عليه، على حسب ما قدمنا بيانه في طريق البناء. وإلى هذا أشار ابن القصار, ورأى اعتمادنا على هذا في نص المذهب علي بن اء الآثار من الاستناد إلى طريق الاعتبار لما قدمناه في طريق الاعتبار يجب أن تقدم لك فيها مقدمة تعلم منها منشأ الخلاف في الرهبان والعوادي والصنّاع وغير ذلك مما يُشكِّل حكم الضمان فيه مما اختلف الناس فيه.
فاعلم أن من أوْدع وديعة فادعى المودَع الذي هي في يده ضياعَها، فإن الاتفاق حاصل على أنها غير مضمونة إذا ثبت ضياعها، والقول قوله في الضياع، على خلاف في تحليفه على صدقه في قوله، كما حصل الاتفاق على أن من تسلّف من رجل سلفصا فإنه إن ضاع في يده فقل (2) قبضه فإنه ضامن له.
فلما رأينا في المسألة (3) على سقوط الضمان، وإجماعًا في أخرى على ثبوت الضمان، وجب أن يتطلب علة في كل واحد من هذين الأصلين. ولا يمكن التعليل في نفي ضمان الوديعة إلا بكونها لم ينتقل ملك ربها عنها, ولا في قبض قابضها له منفعة، فكأن يد قابض الوديعة يد مودعها، والإنسان إذا ضاع ماله وهو في يده لم يخْفَ أن لا يتبع به أحدًا.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: نقتصر.
(2) هكذا ولعل الصواب: بعد.
(3) هكذا ولعل الصواب إضافة: إجماعًا.

(3/ 2/405)


وأما القرض فإن هلك (1) القرض لا منفعة فيه للمقرض، بل يحرم عليه أن يُسلف لمنفعة تختصّ به، وكون الإنسان يضيع ملكه الذي في يديه فإنه لا خفاء يكون ضمانه عليه.
فإذا تقرر حكم هذين الأصلين وعلتهما، فاعلم أن العلة العقلية لا تكون مركبة باتفاق، والعلة الشرعية يصح أن تكون مركبة. وقد قلنا: إن علة سقوط الضمان في الوديعة تركبا (2) من وصفين: أحدهما: كون ملك المودع لم ينتقل وكون حوز الحائز، لها، منفعة لرب المالك يحرسه ولا منفعة له في ذلك.
وكذلك القرض انتقل الملك والمنفعة لمن انتقل الملك إليه وذلك أيضًا مركب من وصفين. فنظرنا بعد ذلك إلى الرهن فوجدنا ملك الراهن ولم ينتقل، فأشبه الرهن بهذا الوصف الواحد الوديعة. وأماْ الوصف الآخر في الوديعة فهو كون المنفعة للقابض، فإنه ها هنا مشكل، وذلك أنَّا لا نقدر أن نُصَمِّمَ على أَنْ لا منفعة للمرتهن في قبضه الرهنَ، كما نقول في الوديعة, لأنه لا شك أنه قبضه لمنفعة نفسه، وهي الاستيثاق بحقه لئلا يتلف بفَلَس من هو عليه. وكذلك أيضًا نقول: لا يمكن أن نصمّم على أن الراهق لا منفعة له في الرهن لأنه لولاه ما عومل بهذا الرهن عليه، فإذا أشكل الأمر فقصارى ما يقال فيه: إن أحد الوصيفين أشبه الوديعة شبها محقَّقًا، وهو كون الملك لم ينتقل في الرهن ولا في الوديعة، وأما الوصف الآخر ففيه بعض الاشتراك.
فيقول الشافعي: ردّ هذا الفرع إلى أصل أشبه الفرع في أحد وصفي العلة شبها كلّيًّا، وفي الوصف الآخر شبهًا مشتركًا، فلا شك أن الشبه بوصف واحد وشطْرِ الآخر أوْلى من ردّ الفرع بالشبه في شطر أحد وصفي العلة.
ويقول أبو حنيفة: إن العلة إذا ركبت من وصفين لو انفرد كل واحد منهما ما أثار الحكمَ، فإنهما إذا اجتمعًا ينبغي أن يُنظر الأقوى منهما في إثارة
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: هلاك.
(2) هكذا ولعل الصواب: تركّبها.

(3/ 2/406)


الحكم، فيغلَّب على الوصف الآخر، والمغلَّب ها هنا كون القبض لمنفعة القابض، وهو المرتهن, لأنه طولَ أيام إمساك الرهن يختص بهذه المنفعة وهي حَبْسه عن ربه حتى يفتمنه، أو يبيعه وأخذ (1) ثمنه في دينه. فوجب بهذا التغليب الذي هو أقوى في إثارة الحكم أن يجب الضمان على المرتهن لكونه أشد منفعة من الراهن. وعلى هذا الأسلوب ينبغى أن يُنظر في ضمان العوادي والبرهان، كما سننبه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد أشار بعد أصحابنا إلى الالتفات إلى هذا الطريق من الاعتبار، فقال: قد علم أن الودائع لا تُضمَن، والاقتراض والتعدي يوجب الضمان، والرهانْ ما أشبهت شبهًا كليًا الودائعَ، ولا أشبهت شبهًا. كليًا الاقتراضَ، فيجب أن يكون لها حكم بين حكمين، وما ذاك إلا ما ذهبنا إليه من كون ما يغاب عليه يُضمن، وما لا يغاب عليه لا يضمن. فتحصل بهذه التفرقة عدم إلحاقه بأحد الأصلين إلحاقًا كليًّا.
وهذا الطريق إذا عرضت (2) علي التحقيق في أصول الفقه ضعفت (2)، فالأوْلى التمسك في مذهبنا بما قدمناه.
وقد رجح أصحاب الشافعي مذهبهم بأن الحق إذا كان له محلَّان لم يسقط الحق ويتلف بتلف أخذِ (3) المحلين، كديْن على رجل أعطى به ضمينًا، فإن موت الضمين وهو أخذ (3) المحلين لا يسقط. وكذلك يجب أن يكون الرهن (4) ذهاب الرهن، وهو أحد المحلين، لا يكون ذهابه مُسقطًا للدين، وإنما يَسقُط الديْن إن كان له محل واحد كالعبد إذا جنى ثم مات فإن حق الجناية قد سقط لسقوط محلها وهو العبد.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: يأخذ.
(2) هكذا ولعل الصواب: عُرِض. ضَعُفَ.
(3) هكذا ولعل الصواب: أَحَد.
(4) هكذا ولعل الصواب: والأوْلى حذفها.

(3/ 2/407)


وهذا الذي قالوه لا يسلم لهم فيه التشبيه, لأن الضمين يحل محل المضمون، وكل واحد من المحلّين إذا ذهب بقي المحل الآخر، تكون الحق غيرَ معيَّن في الضمان، وإنما هو متردد بين ذمتين إن تعذّر الأخذ من أحدهما توجه علي (1)، والرهن مال الراهن، والدين في ذمته، والدين تعلق بعين الرهن، فكأنه بعض ذمة الراهن، وسقوط بعض ذمته لا يُسقِط عن البعض الآخر المطالبةَ بالدين.
ومما يدن (2) النظر فيه في الترجيح بين المذهبين المتقدمين أن أصحاب الشافعي يقولون: إن الدين في الذمة، والرهنُ إنما أُخذ زيادة في تأكيده، ونفيًا لرهن الدين ومما (3) يجوز من تلفه. فإذا قضينا بأن الرهن مضمون وأنه إذًا ضاع سقط الدين صار مُرهنًا (4) للدين ومُضعِفًا له، وأصلح أن يكون مؤكدًا للدين ونافيًا للرهن (4) عنه والضعف. والقياس إذا أدى إلى عكس الموضوع، ومضادة الأصل بطل الفرع المؤدي إلى نقض أصله.
ويقول أصحاب أبي حنيفة: (من القرض) (5) من الرهن استيفاء الحق منه، ولهذا أُخِذ، ومن استوفى دينه فقد ضمن ما استوفاه. ولو بطل أصل الدين لكان ضمانًا لما أَخَذ. فإذا تقرر أن المقصود منه استيفاء الدين (6) أو من ثمنه إن لم يكن الرهن من جنس الدين، يقتضي هذا كون الرهن مضمونًا لأنه إنما أَخذ لاستيفاء الدين منه، وضمانه يقرب من استيفاء الدين، وكل ما قرب من المقصود حُكم له بحكم ما قرب منه.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب إضافة (الآخر) بعد على.
(2) هكذا ولعل الصواب: يَدِقُ.
(3) هكذا ولعل الصواب: ومَا.
(4) هكذا ولعل الصواب: مُوهِنًا. للوَهن.
(5) هكذا ولعل الصواب: إنّ الغرَض.
(6) هكذا ولعل الصواب إضافة: منه.

(3/ 2/408)


هذه طرق الترجيح بين المذهبين، وأما نحن فقد كنا قدمنا أن مالكًا رضي الله عنه اختلف قوله في ضمان ما يغاب عليه إذا قامت البينة على ضياعه، فإن قلنا برواية ابن القاسم عنه: أنّ الضمان يسقط بقيام البينهّ، أشعر ذلك بأن أصله كأصل الشافعي في نفي الضمان، وإنما ضمن ما يغاب عليه للتهمة بإخفائه، وكون المرتهن لا يمكن أن يظهر صدقه من كذبه، والذي لا يغاب عليه بعيد كذبه فيه لأنه قد يظهر كذبه فيه يأتي العبد حيًّا، الذي زعم أنه مات، فكأنه نحا نحو الشافعي، لكنه ضمن في مواضع التهمة، ورأى في ذلك المصلحة كما يضمَّن الصناع لأجل المصلحة. وكثيرًا ما يلتفت رضي أدله عنه إلى النظر في المصالح وحماية الذرائع وأنْزل التهمة منزل اليقين في مواضع قد عُلمت.
وأما إن قلنا برواية أشهب عنه: أن الرهن مضمون ولو قامت البينة على ضياعه، فإن الأمر ها هنا مشكل في قاعدة مذهبه، هل يقول (1) أبو حنيفة: إن الأصل الضمان؛ وهذا يقتضي ضمان ما يغاب عليه وإن قامت البينة على ضياعه، لكن طرد هذا اقتضى أن يضمن ما لا يغاب عليه الآن ظهور هلاكه، ولو في الكذب بظهور سلامته، يحل محل البينة) (2). فهذا يجب أن ينظر فيه، وقد ذكرنا إذا ضمَّنَّا ما لغاب عليه ضمانه بقيمته غير ملحفتين فيه إلى مقدار الدين زاد على قيمة الرهن أو نقص؟ تكون هذا الرهن مضمونًا، ولو تعدى عليه المرتهن فأهلكه لضمن قيمته كما يضمن الغاصب قيمة ما أتلف. وذكرنا عن أبي حنيفة أنه إنما يضمن الأقلّ من قيمة الرهن أقل (3) من الدين، قال: إنما ضمّنتُ تكون المرتهن كأنه استوفى حقه بالرهن الذي أخذه، فلا يضمن إلا مقدار ما استوفاه.
وإن كان الدين أقل من قيمة الرهن فلا يضمن الزيادة على الدين, لأنه ليس له استحفاء هذه الزيادة، بل إذا بيع الرهن في الدين وفضلت من ثمنه فضلة
__________
(1) هكذا ولعل الصواب إضافة: [بقول] أبي حنيفة،
(2) هكذا.
(3) هكذا ولعل الصواب: والأقل.

(3/ 2/409)


ردّها إلى الراهن، فلهذا يضمن هذه الزيادة لكونه لا حق له فيها.
وأما من أسقط الدين ولو كان أكثر من قيمة الرهن، كما حكيناه عن حكم (1) فإنه يتعلق بظاهر قوله عليه السلام: ذهب الرهن بما فيه وعموم هذا يقتضى سقوط الدين وإن كان أكثر من قيمة الرهن.
وإذا تقرر ما ذكرناه من الخلاف بين فقهاء الأمصار في ثبوت ضمان الرهبان أي جنس كان، كما قال أبو حنيفة، وبسقوط الضمان فيما لا يغاب عليه وبثبوته فيما يغاب عليه كما قال مالك، فلو وقع الشرط حين الارتهان بخلاف الحكم، مثل أن يشترط فيما يغاب عليه كما قال مالك أنه يأخذه رهنًا:
إنه لا يضمنه. فإن فيه قولين: ذهب مالك وابن القاسم إلى إبطال هذا الشرط والرجوع إلى أصل الحكم فيما يغاب عليه أنه مضمون. وذهب أشهب إلى إثبات الوفاء بهذا الشرط، وإسقاط الضمان بهذا الاشتراط. وأما لو اشترط مالًا يغاب عليه انه مضمون عكس الحكم عندنا فيه فإن المنصوص أن الشرط باطل ويتخرج على القول بمراعاة الخلاف إمضاء هذا الشرط تكون أبي حنيفة يراه مضمونًا عليه بحكم الشرع كما قدمناه، ألا ترى أن في المدونة اختلاف قول مالك في بيع الغائب، فقال مرة: ضمان السلعة المبيعة وهي غائبة من بائعها، إلا أن يشترط أن الضمان على المشتري. وقال مرة أخرى: ضمانها على المشتري إلا أن يشترط ذلك على البائع. فأنت ترى كيف أثبت الضمان في محل بأصل الشرع، وأجاز اشتراط نقله إلى محل آخر. كذا كان رأي بعض أشياخي في تخريج الخلاف في اشتراط ضمان ما لا يغاب عليه من الرهبان من هذه المسألة المذكور فيها جواز اشتراط نقل الضمان من محلٍّ إلى محل، وهذا يظهر وجهه إذا قلنا بمراعاة الخلافة قولًا مطلقًا، وأما إذا قلنا بمراعاته إذا كان اختلافًا في المذهب وقلنا: إن المذهب لم يُنَص فيه على خلاف في إسقاط الضمان فيما لا يغاب عليه من الرهبان، فإنه يُقدح في تخريج هذا الخلاف.
__________
(1) هكذا.

(3/ 2/410)


والنظر عندي يقتضي في هذه الطريقة أن ما أشكلت الأدلة فيه وتقاومت أو كادت تتقاوم، فإنه يحسن فيه الوفاء بهذا الاشتراط. وما اتضحت طرق التخريج فيه فيكون بخلاف ذلك، وإذا اقتضى الشرع كون العقد موجبه إثبات الضمان أو سقوط نظر فيما (1) أولى أن يقدم: هل الوفاء بموجب العقد أو الوفاء بالشرط لقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمنون عند شروطهم" (2) وهذا الخلاف الذي وقع مطلقًا، وحسن الخلاف فيه إذا كان الرهن في أصل عقد بيع أو عقد سلف، لأن الرهن هناك تكون له حصة من الثمن في المبيع، أو معناها في السلف.
وأما لو كان هذا الاشتراط في رهن تطوع به الراهن بعد عقد البيع والسلف من غير شرط كان في أصلها، فإنه ها هنا قد لا يحسن الخلاف فيه على أصل المذهب لأنّ التطوع ها هنا بالرهن كالهبة والمعروف والإحسان، وإذا أضاف إلى هذا أنه تطوع بإسقاط الضمان فيه، وإن كان إسقاط الضمان معروفًا آخر فإن ذلك إحسان بعد إحسان فلا وجه للمنع فيه، بخلاف إذا كان ذلك في أصل العقد للبيع والسلف. ويؤكد هذا أن ما يغاب عليه في العوادي يُضمن عندنا.
وهذان الإمامان اللذان اختلفا في اشتراط سقوط الضمان في الرهبان هل يوفّى به أم لا؟ اتفقا على ضمان ما يغاب عليه في العوادي، واتفقا على أن اشتراط إسقاط الضمان في العوادي يجب أن يوفى به. والذي فرّق بينهما، بين العوادي والبرهان، في هذا، إنما رأى أن الرهبان لها حصة في المعاوضات وأما العوادي فلا عوض فيها، وإنما هي هبة ومعروف، فإسقاط الضمان فيها معروف على معروف، فلا يُمنع. ولو ظهر هلاك ما يغاب عليه من الرهبان على الجملة دون التفصيل، مثل أن يكون الرهن ثوبًا فيأتي به المرتهن وقد قرضه الفأر، فهل يسقط عنه الضمان في قرض الفأر أم لا؟ أما إن ثبت انه قرْضُ فأرٍ، وثبت أنه غُلِب على ذلك بعد الاجتهاد في صيانته، ولم يفرط، فإن ضمان ذلك يسقط عنه
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: فيما [هو] أوْلى.
(2) سبق تخريجه.

(3/ 2/411)


عند ابن القاسم. وأما إن ثبت أنه قرض فأر ولم يثبت أنه لم يفرط، فهل يصدَّق في قوله: إني لم أفرط، أولًا يصدق؟ في ذلك قولان: ذكر في المدونة في كتاب تضمين الصناع أنه لا يصدق إلا أن يثبت أنه قرض فأر وإنه لم يفرط.
وذكر ابن حبيب أنه يصدق في أنه لم يفرط.
وأما إن أتى به وقد أثر فيه السوس ففي ذلك قولان أيضًا: ذكر ابن حبيب أنه لا ضمان عليه، لكون السوس عنده أمر غالب يبعد منه. وفي الدمياطية عن ابن وهب أنه يضمن.
وأما إن أتى به وقد أحرقت بعضه النار، ففيه أيضًا قولان في المدونة:
إنه لا يضمن إذا ثبت أنه حرْق نار، كما لا يضمن لو ثبت كونه سُرق. ولمالك في الموازية أنه يضمن. قال ابن المواز: إلا أن يثبت أن ذلك (1) سبب له فيه.
فأنت ترى ما ذكرناه من الخلاف في هذه الثلاث مسائل، وأن الأمر انحصر فيه على أن التلف إذا كان من فعل غير المرتهن أو الصانع فهل يسقط عنه الضمان بمجرد ثبوت هذا، لكون الفعل عُلم أنه وقع من غيره، أو يبقى حكم الضمان حتى يثبت أنه مغلوب في هذا التلف، ولم يتعدّ في تمكين غيره من هذا الفعل، كفأر وسوس, لأن هذه الأمور، وإن كان يعرف أنها من فعل غير المرتهن، فإنه أيضًا قد عُلم أنه من جهة العادة أن فعل التلف في قدرة المرتهن أن يمنعه منه، ويصون الرهنَ، فصار كمن قدر على صيانة مالِ مسلمٍ فلم يفعل، فإنه يضمنه، هذا بمجرد القدرة على صيانة مال مسلمٍ، فكيف في الرهبان والصناع!؟ وأربابها إنما أسلموا الرهن ليصونه المرتهن، فصار كمن التزم شيئًا فلم يفعله، فيتأكد وجوب الضمان عليهم في هذا في معاينة التلف لبعض الرهن والعلم بأنه من غير فعل المرتهن، فالشك في كونه أعان على تلفٍ بتفريطٍ أو لم يفق (2) على التلف، فذلك استصحاب لبراءة ذمته. وكون الأصل فيمن أضيف عليه فعل
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: لا سبب.
(2) هكذا ولعل الصواب: يُعِنْ.

(3/ 2/412)


عدم (1) أو يقال الأصل ثبوت الضمان فلا يشقط يالشك. هذا ضبط المذهب في هذه الأقسام وبُيِّن الخلاف فيه.
وأما إن لم يعاين حرق الرهن، ولكن احترق السوق الذي يكون فيه الرهن، وكان فيه الرهن غالبًا، فزعم المرتهن أنه احترق في جملة ما احترق، فأشار بعض المتأخرين إلى أن ظاهر كتاب ابن حبيب أنه لا يصدَّق, لأنه ذكر أن الحرْق إذا كان مشهودًا وأتى المرتهن ببعض الثوب، وقد احترق، فإنه يصدّق ويسقط الضمان عنه. ورأى أن اشتراط إحضار الثوب محروقًا يقتضي دليل الخطاب أنه إن لم يحضرْه فإنه لا يصدّق. ولكن هذا الذي ذكره لم يبين فيه وجه الاشتراط.
وقد كان نزل عندنا سنة ثمانين وأربعمائة لما فتح الروم دمّرهم الله زوياة (2) والمهدية، وقتلوا كثيرًا من أهلها، ونهبوا الأموال من سائر الديار، وكثرت الخصومات مع المرتهنين من الصناع، وفي بلدٍ المشايخ من أهل العلم متوافرون فأفتى جميعهم بتكليف المرتهن والصانع البينة أن ما عنده من رهن، أو شيء يصنعه، قد أخذه الروم.
وأفتيت أنا بأنهم مصدقون لأجل أن الغالب صدقهم فيما زعموا من التلف، كما أن مالكا أسقط ضمان ما لا يغاب عليه وإن لم يثبت تلفه بعينه، ولكن قنع بالعلم على الجملة أنه لا يستتر ولا يخفى ولو كان موجودًا لظهر، فإذا أقام بالبلد أيامًا كثيرة ينهب، وتخرج منه الخبايا كان ذلك آكد في غلبة الظن بأن مدعي ذهاب الشيء مصدّق، وغلبة الظن قد أشار مالك رضي الله عنه إلى اعتبارها في هذا، على حسب ما قلناه. وكان القاضي يعتمد على ما أفتيتُه به، فتوقف عن القضاء لأجل كثرة من خالفنا من المفتين، حتى شهد عنده عدلان أن الشيخ أبا القاسم السيوري رحمه الله، وهو شيخ الجماعة الذين خالفوني،
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: غرم.
(2) هكذا ولعل الصواب: زُوِيْلة.

(3/ 2/413)


أمَّتي بمثل ما أفتيتُ به لما غلب الأعراب على القيروان ونهبوا ما فيها، فأنفذ الحكم بسقوط الضمان. ثم بعد ذلك وصل كتاب المنتقى لأبي الوليد الباجي ذكر فيه انه كان بطرطوشة لما احترقت. أسواقها فأفتى بتصديق من عنده رهن انه احترق في جملة ماله الذي الشأن خزنه في الأسواق، وذكر أنه يغلب على ظنه أن بعض أهل العلم وقفه على رواية عن أبي أمِن بمثل ذلك. ولهذا ذكرنا أن مذهبنا تصديق المرتهن فيما لا يغاب عليه، فإن ذلك مقتضى ما علّلنا به، فيما تقدم، من كون العبد والدابة لا يمكن في غالب العادة إخفاؤهما وسترهما، فيغلب على الظن صدق المرتهن في دعوى الضياع. وهذا أيضًا يقتضي متى ادعى من التلف ما يغلب على الظن أنه كذب فيه، فإنه لا يصدّق فيه، مثل أن يدعي موت الدابة وهو بموضع عمارة وجماعة فيُسألون عن ذلك، فإن صدقوه تأكد غلبة الظن بصدقه عدولًا كانوا أو غير عدول، وإن كذبوه وكانوا عدولًا غلَّب الظن كذبه فلم يصدّق وإن كانوا غير عدول لم ينقل الحكم عن تصديقه إلى تكذيبه قوم له ليسوا بعدول لتطرق التهم إليهم بأنهم كتموا ما علموا من موت الدابة لما طلبت منهم الشهادة، ويكتفي في خبر الحضور وتصديقهم بانهم رأوا دابة ميتة وإن لم يعلموا أنها الدابة التي كانت بيد المرتهن رهنًا. هكذا وقع في المجموعة. وهذا صحيح إذا كانت هذه الشهادة على صفة تغلب على الظن أن الدابة ليست هي عين الدابة التي بيد المرتهن، أو يكون الأمر مشكلًا فيستصحب الحكم في أن ما لا يغاب عليه لا يضمن.
وإذا حكم بضمان الرهن لأجل كونه حبسه الذي هو في يديه لمنفعة نفسه، وهو أن يستوفي حقه ودينه منه، فلو سقط الدين بأن يُقضى، أو يسبَّق الرهنُ قبل أن يدفع الدينَ فإن الضمان لا يسقط، لكون الدين قد سقط بأن أداه من هو عليه، أو لم يستقر بالقبض إلا بعد قبض الرهن والعلة في هذا أن من أخذ رهنًا مضمونًا فأتاه الراهن بالدين وقبضه، ثم زعم بعد ذلك أن الرهن قد ضاع ولم يجده، فإنه لا يقبل قوله لأن الأصل أخذه على الضمان. فيستصحب

(3/ 2/414)


هذا الحكم حتى يرجع الرهن إلى دافعه، أو يمكنه المرتهن منه فيتركه على جهة الوديعة عنده.
وكذلك إذا سأل رجل رجلًا في أن يسلفه دنانير ودفع إليه رهنًا بها فقبضه منه قبل أن يدفع الدنانير فإنه ضامن لأنه إنما أخذه على حكم الرهبان وحكمها الضمان فيما يغاب عليه.
وكذلك لو سقط الدين بالهبة من المرتهن للراهن، وزعم المرتهن الواهب للدين أن الرهن ضاع بعد ذلك، فإنه لا يبرأ من ضمانه، وعليه قيمته إذا كان مما يغاب عليه. لكن أشهب ذكر في هذا أن المرتهن إذا طلبه الراهن الموهوب له الدين بقيمة الرهن فله الرجوع فيما وهب بمقدار قيمة الرهن خاصة، ولو كان الدين يزيد على قيمة الرهن لم يرجح به المرتهن الواهب، وذلك لأنه إذا وهب الدين وردّ عيْنَ الرهن لم يخسره (1) سوى شيء واحد وهو الدين. فإذا ضاع الرهن وغرم قيمته خسر خسارتين: الدينَ وقيمةَ الرهن. ومعلوم من جهة العادة أنه لو علم أنه إذا خسر الدين خسر شيئًا آخر لم يهب الدينَ، فصارت هبة (2) كالمشترط فيها إني أهبك الدينَ على ألا أخسر سواه وإن طلبتني بغرامة الرهن رجعتُ في هبتي.
وأعلم أن الرهن يصحّ وإن كان موقوفًا على يدي عدل تراضيًا به ويكون من دفع المال لأجله كما لو قبضه لنفسه. ولم يخالف في ذلك فيما علمُت إلا ابن أبي ليلى فإنه منع من ذلك. وما أراه تعلق في ذلك إلا بقوله تعالى {ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} (3) وهذا وإن لم يذكر من هو القابض للرهن فسياق الخطاب يقتضي عنده أن القابض هو من له الدين يقبض الرهن توثقًا بحقه كما يستشهد الشهودَ توثقًا بحقه. ويردّ عليه بأن هذا الخطاب ليس فيه
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بخَسره.
(2) هكذا ولعل الصواب: هبته.
(3) البقرة: 282.
__________

(3/ 2/415)


تصريح بمن يكون القابض، وأصول الشريعة تقتضي جواز النيابة في الحقوق المالية وهذا منها. أما دافع الرهن فإنه رضي بأمانة العدل ووثق به في حفظ عين رهنه وصيانته. وأما دافع الدين فرضي به في حفظ حقه حتى يستوفيه من عين الرهن أو من ثمنه، وكل واحد منهما استبانة في حقه في مال، والنيابة في الحقوق المالية لا تُمنع، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سلعة وملكها بالشراء، ووكل رجلًا على قبضها من البائع لحق ملكه فيها لجاز ذلك. وكذلك إذا وكله على قبض رهن لتعلق حقه بأخذه من ثمن الرهن، إذا تقرر جواز ذلك، فضمان هذا الرهن من الراهن عندنا ولو كان مما يغاب عليه. والشافعي أحق أن يقول بذلك لأنه لا يرى ضمان الرهن ولو كان في يد المرتهن. وأما أبو حنيفة فإنه يرى أن ضمان الرهن الموقوف بيد عدل من المرتهن. وسبب الخلاف في هذا ما أشرنا إليه من كون العدل الذي بيده الرهن وكيلًا للراهن ووكيلًا للمرتهن، وقد علم أن يد الوكيل كيد موكله. ورجح أبو حنيفة جانب الوكالة من جهة المرتهن؛ لأنه إنما كان محبوسًا بيد العدل لأجل حق المرتهن في استيفائه منه.
وإذا كان ذلك كذلك فهو كوكيل المرتهن خاصة، ويد الوكيل كيد موكله، ورأينا نحن أن لا ترجيح لجانب المرتهن في الوكالة على جانب الراهن في الوكالة وأصلنا فيما لا يغاب عليه أنه غير مضمون. وكذلك هذا الرهن وإن كان يغاب عليه فهو في يد غير المرتهن فلا يتهم في إخفائه كما يتهم في ذلك إذا كان الرهن بيده.
ومما يلحق بما نحن فيه ضمان فضلة الرهن، مثل أن يرهن رجل لرجل سلعة بمائة دينار يأخذها منه، ثم تسفف صاحب السلعة المرهونة سلفًا آخر على أن يكون حقه مرتهنًا به ما فضل من مقدار الدين الذي هو الأول، ورضي الأول بذلك، فإن المرتهن الثاني لا يضمن ما في يد غيره مما جُعِل رهنًا له من غير خلاف عندنا, لأن قدمنا أن ما في يد العدل لا يضمنه المرتهن مع (1) لتعلق حقه
__________
(1) بعد (مع) بياض مقدرا كلمة.

(3/ 2/416)


بعين ذلك الرهن، وكيف بهذا وقد لا يفضل فضلة من هذا الرهن عن حق الأول، ولا يكون للثاني تعلق فيه، وإذا تقرر أن المرتهن الثاني لا يضمنه، بلا خلاف عندنا، فهل يضمن الأوّلُ الذي في يده الرهن جميعَه أو إنما يضمن من قيمته مقدار مالَه من الدين لأن ما زاد على ذلك أقِرّ في يديه على جهة الأمانة، والمرتهن غير ضامن؟ فيه قولان: ذهب ابن القاسم إلى أنه لا يضمن من هذا الرهن إلا مقدار دينه، وما فضل يكون لصاحب الرهن. وقال أشهب بل يضمن الرهن كله.
وسبب الخلاف في هذا أن الرهن أخذه أوّلًا على جهة ضمانه كله، ويمكن أن تَخول أسواقُه فلا يحصل إلا مقدار حق المرتهن الأول، فيصير الرهن كله محبوسًا عند الأول بحق الأول خاصة، ولا يكون فيه حق للثاني. وإذا أمكن أن يتعلق دينه بجميعه حتى لا تفضل منه فضلة فقد أخذه على الضمان في أوّل ما قبضه، فيبقى الضمان عليه في جميعه عند أشهب، ويرى ابن القاسم أنه إذا كان فيه فضلة عن حق الأوّل، وقد رضي الأول والراهن والمرتهن الثاني. يتعلّق (1) الحق بهذه الفضلة صار ما زاد، من قيمة الرهن على دين (2)، في يديه على جهة الأمانة لِرِضى الراهن والمرتهن ينقل (1) هذه الفضلة عن حكم الرهبان إلى حكم الأمانة.
وإذا أنجزت أحكام الضمان في الرهبان ففى أي يوم تعتبر قيمة الرهن المضمون؟ فيه قولان: قيل: يوم قبضه؛ لأنه تلك الساعة أخذه على الضمان فكان الاعتبار يوم ثبوت أصل الضمان، ولا يلتفت إلى ما بعده. وقيل: بل تعتبر قيمته يوم الضياع, لأنه قبل ذلك موجود، والموجود لا يضمن، إنما يضمن ما يغاب عليه للتهمة في إخفائه، وإذا كان موجودًا لم ينظر أنه أخفاه، ألا ترى أنه لو قامت بينة على ضياعه سقط، عند ابن القاسم، عنه الضمان لانتفاء
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: يتعلّق - بِنَقْل.
(2) هكذا ولعل الصواب: الدين.

(3/ 2/417)


التهمة. وهذا يقتضي أن تعتبر القيمة يوم الضياع.

وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه:
ونَماء الرهن داخل معه إن كان مما لا يتميّز كالسمن، أو كان نسْلًا كالولادة والنِّتاج، وما في معناه فَسِيلُ النخل، وما عدا ذلك من كلة ولبن وصوف وما أشبه ذلك، فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. ونفقته على راهنه. ومال العبد ليس برهن معه ويثبت رهنًا بتقارُرِهما ما لم يفلّس الراهن (1) فلا يقبل إقرارهما بالإقْباض دون البينة. فإذا (2) كان فيه فضل جاز أخذ حق آخر عليه من مرتهنه، وكان رهنًا بهما. ويجوز من غيره بإذن المرتهن الأوّل. واختلف فيه إن لم يأذن، والرهن متعلق بجملة الحق وبأبعاضه، فمتى بقي جزء منه فهو رهن به. ولا يجوز غَلَق الرهن وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأْتِ به عند أجله.

قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن (3) الرهن لا يكون ملكًا للمرتهن؟
2 - وما الدليل على أنه إذا كان ملكًا للراهن لا يدخل في الرهن؟ (4)
3 - وما الحكم في إفراد هذه الزيادة المنفصلة بالارتهان أو بيعها مع أصولها؟
4 - وهل على رهن واحد؟ (5)
__________
(1) في الغاني، و (غ): وَلا.
(2) في الغاني، و (غ): وإذا.
(3) هكذا ولعل الصواب: أن [نماء] الرهن ...
(4) هذا السؤال فيه سقط، ولعل نصّه الكامل هو: وما الدليل ...... لا يدخل [النماء] في الرهن؟ كما يتبيّن من تفصيل الجواب عن هذا السؤال.
(5) هكذا، ويتبين من الجواب أن النص ينبغي أن يكون على النحو التالي: وهل يجوز ترادف دينين، على رهن واحد.

(3/ 2/418)


5 - وما حكم النفقة على الرهن؟ (1)

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس في نماء الرهن وزيادته، إذا كان هذا النماء والزيادة متميزًا عن الرهن، هل ذلك ملك للمرتهن أو ملك للراهن تبعًا لأصل الرهن؟ فمذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور العلماء أن نماء الرهن تبع لأصله في كونه ملكًا للراهن.
ومذهب ابن حنبل إلى أن (2) الرهن يكون ملكًا للمرتهن.
ومذهب غيره من أهل الحديث إلى أن ذلك تبع للنفقة، فإن كان المرتهن هو المنفق على الرهن كانت الغلات ملكًا له، وإن كان الراهن هو المنفق على الرهن كانت له. ودائد (3) الجماعة على رد هذا المذهب قوله عليه السلام فيما
رواه ابن حبيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا يُغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه" والغنم هو النماء والغلة، وهذه لام التمليك، وقد أثبت النبي عليه السلام بهذا الفَضّ كونَ النماء ملكًا للراهن لقولهْ "وله غنمه".
وقد روى الشعبي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "من أرهن دابة فعليه نفقتها وله ظهرها" وهذا نص في الرد على المخالف.
ومن أوضح ما يحتج به فقهاء الأمصار حصول الإجماع على أن عين الرهن ملك للراهن، وإذا كان ملكًا للراهن وجب أن يكون نماؤه له، قياسًا على أصول الشريعة في أن من ملك الرقبة ملك نماءها. وأيضًا فإن من باع حيوانًا أو
__________
(1) هذا كل ما ذكر من الأسئلة، وسنتبيّن بقيتها من متابعة شرحه، وننبّه عليها في مكانها، إن شاء الله.
(2) هكذا ولعل الصواب: أن [نماء] الرهن ...
(3) هكذا ولعل الصواب: اعتمد.

(3/ 2/419)


حبسه حتى يعطَى ثَمنه فإن الغلة للمشتري لكونه قد ملك العين المبيعة بالشراء، وكذلك ملْك الراهن لعين الرهن يجب أن يكون نماؤه له. وبهذا احتج ابن القصار وغيره. وقد كنا نحن قدمنا في كتاب البيوع أن الغلة الحادثة في المبيع المحبوس بالثمن، حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب وغيره، أنها للمشتري، وأشار إلى الاتفاق على ذلك وهكذا (1) يقتضي ما ذكرناه عن ابن القصار في هذه المسألة، وذكرنا أن بعض أشياخنا كان يرى أن ذلك جار على القولين في ضمان المحبوسة بالثمن، فمن قال: إن ضمانها من البائع وجب أن لكون الغلة له، ومن قال: إن ضمانها من المشتري، وجب أن لكون الغلة للمشتري. فهذا الذي احتج به ابن القصار قد كنا بسطنا القول فيه، وأشرنا إلى تخريج الخلاف فيه.
على أن ابن القصار عقّب قوله هذا بأن الحديث الوارد فيه " الخراج بالضمان" إنما هو محمول على ملك الإنسان، ويضمنه ضمان الملك، والرهن لا يضمن إذا كان مما لا يغاب عليه، أو مما يغاب عليه وقامت البينة على ضياعه على إحدى الروايتين عن مالك.
وأما ابن حنبل فإنه إن تعلق في كون الرهن ملكًا للمرتهن بقوله عليه السلام "الرهن مركوب ومحلوب" (2) وظن أن المراد بهذا المفعول الذي لم بسم فاعله أنه محمول على الراهن فدل أن هذا لم يصرَّح به في الحديث، والذي يكون له اليَد لم يُذكر، فيمكن أن يكون المراد مركوب ومحلوب للراهن، وهذا هو الظاهر، لما قدمنا من شهادة الأصول لبهون النماء تبعًا للنامي في الملك.
وقد تعلق من رأى أن الغلة متابعة للإنفاق بقوله عليه السلام في بعض الأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه "الظهر يركب ويشرب الدَرّ" أو كمن (3) قال. وهذا لو ثبت حمل على أنه قضيّة في عين، المراد به أن الرهن رفعه المرتهن للحاكم لما لم يجد نفقة عليه فأمره بالإنفاق ويأخذ ذلك من الغلة. وهذا يضطر
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: هذا.
(2) تقدم تخريجه.
(3) هكذا ولعل الصواب: كما.

(3/ 2/420)


إليه ما قدمناه من الأحاديث الدالة على صحة ما قلناه، وكون أصل الشريعة شهد بصحة ما ذهبنا إليه في كون النماء تابعًا في الملك للنامي الذي كان عنه.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف الناس في دخول النماء الحادث، بعد عقد الرهن، في يد المرتهن، وهو متميز عن النامي، هل يدخل في الرهن تبعًا لما نما عنه، ويكون منه، أم لا؟
فذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخل في الرهن، قولًا على الإطلاق سواء كان النماء الحادث من جنس الرهن، كالولد وفراخ النحل، ومن غير جنسه كالدَّر والصوف وغلة الرباع.
وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن على الإطلاق، سواء كان من جنس الرهن كالولد أو من غير جنسه مما عددناه.
وذهب مالك إلى التفصيل، ورأى أن ما كان من جنس الرهن دخل في الرهن كالولد، وما لم يكن من جنسه لم يدخل في الرهن كالثمر والصوف واللبن مما عددناه.
فأمّا الشافعي فإنه يعتمد على أن الرهن مجمع على كونه على ملك الراهن، ومن ملك شيئًا فإنه لا يسقط حقه من التصرف فيه إلا باختياره ورضاه، وهو لم يرض إلا بحبس عين الرهن، وقطع حقه في التصرف فيه، إلى أن يفديه، ولم يرَ ذلك فيما يكون عن الرهن من دَرّ أو ثمر أو غلة: كما لو باع سلعة لم يلزمه أن يبيع أخرى بغير اختياره. واستناد هذا إلى هذه الأصول استدلال واضح يردّ به على أبي حنيفة. ويستند مالك إليه أيضًا لكونه خالف الشافعي في الولد فأدخله في الرهن لآجل كون الأصول أيضًا تقتضي إجراء حكم الأمهات على أولادها، ألا ترى أن الولد تابع لأمه في الحرية وإن كان أبوه عبدًا، وفي الرق إذا كانت مملوكة وإن كان أبوه حرًا وطى بنكاح. وهكذا من فيه عقد من عقود الحرية، كالمكاتبة والمدبّرة والمعتقة إلى أجل، فإن أولاد من ذكرناه ينسحب عليهم حكم أمهاتهم في الحرية والرق وما ذاك إلا لكون الولد

(3/ 2/421)


يقدَّر كأنه عضو من الأم وإن انفصل عنها، وجميع أعضاء الحرة (1) تابع لها في الحرية والرق.
وقد وقع الإجماع على أن السِّمن في الحيوان المرهون، وزيادة الطول في الأبدان، يدخل في الرهبان، وكذلك الولد لكونه يقدر كعضو من أعضائها. وهم يقولون بأن السمن لا يتميز عن بقية الجملة المرهونة ولا يصح بيعه مفردًا، والولد وغيره من الغلات يتميز عن جملة الرهن فيعرف مقداره، فلا يشبه الولدُ السمنَ في البدن.
وأما إجْراء حكم الأمهات على الولد في الرق والحرية فإنما ذلك لأنها أحكام (كالسور النفيسة اللازمة) (2) وليست بعارضة فيها، والرهن معنى عارض ليس بلازم لذات الرهن. فإن كان الرهن لاحق فيه للمرتهن فبعد ذلك رضي الراهن أن يجعل له فيه حقًا في حبسه، ومتى افتكه فقد حل الدين، ولم يكن للمرتهن حق في حبسه. والأحكام والصفات العارضة الزائلة بخلاف الصفات والأحكام الثابتة الملازمة.
وقد نوقض أبو حنيفة في مذهبه لما حكيناه عنه من أن الزوائد المنفصل (3) لا تدخل في الرهن كانت من جنس الرهن أو غير جنسه، فإنه يرى أنها غير مضمونة مع كونها مرهونة، وهو يرى أن الرهن مضمون على الإطلاق أيَّ جنس كان، كما تقدم ذكر مذهبه فيه.
وقد اعتذر عنه في هذا بأن دخول الزوائد المنفصلة في الرهن ليس هو الأصل، وإنما حكم له بذلك بحكم التبعية للرهن. والضمان إنما يتعلق بأصل الرهن لكونه إنما أخذ ليستوفي من عينه أو من ثمنه ما هو رهن به، ولم يقصد إلى استيفاء الحق من زوائد قد لكون أو لا تكون، فيسقط حكم الضمان، لكون
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: المرأة.
(2) هكذا ولعل الصواب: كالصُّوَر النفسية اللازمة.
(3) هكذا ولعل الصواب: المنفصلة.

(3/ 2/422)


ذلك غير مقصود فيها، وثبتت الرهنية بحكم تبعها لأصولها.
وهذا لا يتضح كونه فرقًا, كما أنّا نحن أيضًا نوقضنا بولد الأمة إذا جنت، وحملت بعد الجناية ووضعت، فإن مقتضى تعليل مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن يدخل ولدها في حكم الجناية ويسلم معها في الجناية، أو يفدى، هو وهي، لكون أحكام الأمهات تجري في أحكام المولودات، وأن الولد كعضو من أعضاء أمّه.
وهذا إنما يلزمنا الاعتراض به والنظر في الجواب عنه على إحدى الروايتين عن مالك. فقد روى عنه أن ولد الجناية (1) يدخل معها في حكم الجناية، فلا تُعتَرض هذه الرواية. وأما الرواية الأخرى عنه أنه لا يدخل في حكم الجناية فإن ابن القصار يشير إلى طريق الاعتذار عن هذا بأن الرهن تعلق الحق بعينه في أصل عقده بين راهنه الذي رهنه وبين من أخذه، ولو حاول الراهن نزعه من يد المرتهن فأمكن (2) من ذلك قبل استيفاء الحق. وأما الأمة الجانية فإن ربّها لم يعقد على نفسه عقدًا تعلق به حق المجني عليه، وهي باقية على ملكه حتى يختار تسليمها في الجناية، وله منع المجني عليه من قبضها وحوزها بأن يدفع إليه أرش الجناية، بخلاف الرهن الذي عقد على نفسه تعلق حق المرتهن بعينه أو بثمنه.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
المرتهن ثلاثة أنواع: حيوان، ورباع، وأشجار.
فأما الحيوان فقد تقدم أن ولد كل أنثى رهينة داخل معها في الرهن. هذا إذا حدث بعد عقد الرهن وقبضه، وكانت الأمّ حين عقد الرهن حاملًا به، فإنه يدخل معها في الرهن، ويكون حكم الولد حكمَها في الرهن، سواء كانت من
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: الجانية.
(2) هكذا ولعل الصواب: ما مُكن.

(3/ 2/423)


الآدميات أو البهائم. وإذا عقد الركن وهي حامل به دخل معها في الرهن من عند (1) اشتراط، كما يدخل معها في البيع من عند (1) اشتراط. وفي الموازية أنه لا يجوز أن تُرهَن المرأة الحامل ويُشترط أن ولدها لا يدخل معها في الرهن.
وأجرَى استثناء حملها في عقد الرهن مجرى استثنائه في عقد البيع بأن ذلك لا يجوز، وكذلك في الرهن. على أن المنع من ذلك في البيع لأجل الغرر، والبيع يُمنع فيه الغرر، والبيع (2) قد يجوز في (3) الغرر على صفة. لكن لمالك أن الولد مقدّر أنه كعضو من أعضائها وجب منع استثنائه في الرهن. كما لا يجب (4) أن يرهن أمة ويستثني بعض أعضائها غير مرهون معها. و (إنما إبراء) (5) الجنين بالركن فقد قدمنا ذكر الخلاف فيه، وأن المشهور من المذهب منع إفراده بالرهن، وذكرنا أن ابن ميسّر أجاز إفراده بالرهن.
وإما إفراد الولد بالرهن بعد انفصاله من بطن أمه، فإنه روي عن ابن القاسم في وصيف رضيع رُهِن أنه لا يجوز ذلك إلا أن لكون معه أمه. وحُمِل قوله هذا على أنه أراد أن لكون أمه معه في التربية الممنوع من إسقاط حقها فيها، أو حق الولد. لكن ابن شعبان قال: لا يجوز رهن الولد دون أمه حتى يثغر، إلا أن يُرهن معها، كما لا تجوز التفرقة بينهما في البيع.
وظاهر كلام ابن شعبان منع إفراده بالارتهان. وأما كلام ابن القاسم فهو أقرب إلى التأويل الذي تأوله عليه بعض الأشياخ.
وأما إفراد الأم بالارتهان فقد روي أشهب عن مالك جوازَ ذلك.
وإذا احتيج إلى بيع الأم بيع معها ولدُها، وفُضَّ الثمن بما قابل الأمّ (6)
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: غير.
(2) هكذا ولعل الصواب: والرهن.
(3) هكذا ولعل الصواب: فيه.
(4) هكذا ولعل الصواب: يجوز.
(5) هكذا ولعل الصعواب: أمّا إفْراد.
(6) هكذا ولعل الصواب إضافة: [وَ] كان ...

(3/ 2/424)


كان المرتهن أحقَّ به، وما قابل الولد كان لسائر الغرماء (المرتهن للأم بما بقي وغيره من الغرماء) (1).
وظاهر هذا أن المطلوب التفرقة في الارتهان في إفْراد الأم بذلك أو الولد، وهو يطابق التأويل الذي ذكرنا أنه تأوُّلٌ على ما قال ابن القاسم. وقد ذكر ابن شعبان أن العبد إذا كان له أمة استولدها فإنها وغيرَها من ماله لا تدخل في الرهن، ولكن ولدَه يدخل في الرهن لكونه من جنسه، وقد قدمنا أن ما كان من جنس الرهن دخل في الرهن.
وهذا الذي قاله يفتقر إلى نظر, لأن ولد الأمة إنما أُلحِق بها لأنه يقدّر كعضو من أعضائها يلحقه ما يلحقها من حرية أو رق. وأمّا ولد الذكر فلا يقدّر كعضو من أعضائه، ألا ترى أن الاستدلال. الذي قد قدمنا في كون الولد تابعًا لأمه في حكم الرهن هوا الاتفاق على أحكام حريتها ورقها يجريان في ولدها، ويتبعها في ذلك، ولا يتبع أباه حريةً ولا رقًا. فهذا ينبغي أن يُتأمَّل.
وقد وقع لمالك في أُرُوش الجنايات على العبيد أنها إذا أُخِذت دخلت في الرهن معهم من غير اشتراط مع كونها ليست من جنس الرهن، ولكنها عوض عن عضو ذهب من الرهن، وقد كان ذلك العضو مرهونًا فليكن عوضُه من الدنانير والدراهم رهنًا بدلَ ذلك العضو الذاهب، وأمّا مال العبد فإنه لا يكون رهنًا معه لأنه ليس بملكه كما يملك الحرّ مالَه لقدرة السيّد على انتزاعه، فلا يدخل في الرهن معه إلا بأن يُشترط ذلك، واشتراطه جائز وإن كان مجهولًا. وإفراد مال العبد بالشراء له لا يجوز مع الجهالة، ويجوز إفراده بالرهن مع الجهالة. وإذا اشترط المرتهن كونَ مال العبد رهنًا معه فأفاد العبد مالًا في أيام الرهن، فإن في الموازية والمجموعة أنه لا يكون، رهنًا، ولا يتناوله اشتراط كون مال العبد رهنًا معه, لأنه لم يكن حينئذ مالًا له. لكن لو ربح فيما في يديه لدخل هذا في الرهن، لأن ربح المال تابع له، كما نقول في الأرباح: إنها تبع لأصول الأموال في
__________
(1) هكذا، والكلام واضح بدونه.

(3/ 2/425)


الزكاة، وإن لم يحل عليها الحول. لكن ينبغي أن يُتَأمّل ما يتخرج من الأقوال في أن الأرباح في الزكاة تجري مجرى العوائد، هل يقتضي أيضًا هذا ألا تدخل الأرباح في الرهن إذا اشترط كون مال العبد رهنًا معه. وقد قيل في الوصايا:
إنها لا تدخل في مال لم يَعلَم به الميت، وتدخل في أرباح المال الذي علم به.
وقد تعقب بعض المتأخرين هذا، وقال بأن المعروف من المذهب أن من اشترى عبدًا بالخيار، واشترط ماله، فإنه إن استفاد فائدة في أيام الخيار كانت للمشتري. وذكر في كتاب المكاتَب على الخيار، إذا أفاد فائدة في أيام الخيار كانت له دون سيّده. ولكن هذا ذكر عن ابن القاسم فأشار بهذا إلى أن العبد المرهون إذا اشترط المرتهن دخولَ ماله في الرهن فإنه يدخل معه في الرهن ما استفاد في أيام كون الرهن محبوسًا عنده، من هبة أو غيرها.
هذا حكم الحيوان فيما تعلق به من ولد أو مال.
وأما (صوف الغنم) (1) إذا رُهنت وقد كمل صوفها، فإن ابن القاسم رآه داخلًا في الرهن معها، كما يدخل في البيع. ويراه أشهب غير داخل معها كلَبَنها.
وأما حكم الثمار فإنها لا تدخل في الرهن إلا أن تُشترطَ، سواء كانت حين عقد الرهن مأبورة أو غير مأبورة، مزهية أو غير مزهية، قال ذلك ابن القاسم وأشهب، وهو أصل المذهب. لكن لو رهنت الأشجار وفيها ثمرة، وقد تنامت ويبست، فإن الأشياخ المتأخرين اختلفوا فيها: هل تدخل في الرهن، كما قال ابن القاسم في الصوف إذا تمّ: إنه يدخل في الرهن من غير اشتراط أم لا؟
فقال بعضهم: ينبغي، على أصل ابن القاسم، أن تدخل في الرهن بغير اشتراط، كما دخل الصوف إذا كمل بغير اشتراط. وذلك أن الثمرة ما دامت تحتاج إلى الشجرة في زيادتها ونموّها ونضجها، كانت غلّةً، ولا يختلف في أنها لا تدخل في الرهن، فإن يبست فاستغنت عن الشجر خرجت عن كونها غلةً، فسكوت الراهن عن استثنائها يوجب، على أصل ابن القاسم، أن تدخل في
__________
(1) هكذا، والأوْلى: الغنمُ.

(3/ 2/426)


الرهن كما كان سكوته عن الصوف إذا تمّ وكمل يوجب دخولَه في الرهن. ومنهم من أنكر ذلك، وقال بأن إطلاق البيع في شاة كمل صوفها يقتضي دخول صوفها معها في البيع، وإطلاق البيع في شجر قد كملت ثمرتها لا يقتضى دخول الثمرة في البيع، وما ذاك إلا لأنّ الصوف يقدر كعضو منها، وإنما يُنزع مْنها مصلحةً لها، وإلا فهو لازم لها مُتأبّد معها، والثمرة ليست بمتأبدة مع الشجر وإنما توجد من حين إلى حين. وإذا عقد الرهن في شجر أبِرّت فإن الثمرة لا تدخل في الرهن كما لا تدخل في بيع الشجرة إذا أطلق بيعها، على ما وقع في الحديث. فإذا بيعت الشجرة وفيها ثمر لم يؤثر فهي للمشتري، ولا يجوز أن يشترطها البائع. وفي الرهن لا لكون رهنًا بيد المرتهن لأن البيع نَقَل الملكَ عن الشجر فكان ما يظهر من ثمر لمن صار الملك إليه. والرهن لا ينقل الملك فبقيت الثمرة على ملك ربها.
لكن إذا بيعت الشجر، (1) ثمر لم يؤبَّر، في الدين فقد وجب بيعها على الراهن فإنها تباع على ما هي عليه. وكذلك لو رهن أرضًا، وفيها بذْرٌ لم يظهر، فإنه إذا قام بالبيع لأجل الدين بيعت على ما هي عليه، لكون (استثناها فيها) (2) لا يجوز.
ولو لم يقم بالبيع حتى نبت البذر وظهر، لاختلف فيه هل يكون ذلك كالشجر إذا بيعت وقد أُبرت ثمرتها, ولا يكون للمرتهن حق في الثمرة.
ويجوز إفراد ثمار النخل والشجر بالارتهان وإن لم تظهر، وقد أجازوا ارتهانها سنين وقد عُلم أنها لم تظهر في السنة الثانية وما بعدها.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
أما ترادف دينين على رهن واحد فلا يخلو من قسمين:
أحدهما أن يكون ذلك من رجل واحد أو من رجلين. فإن كان من رجل واحد، مثل أن يرهن رجلًا رهنًا في مائة دينار تسلفها منه، وقيمة الرهن مائتان،
__________
(1) بياض، ولعله: وفيها.
(2) هكذا ولعل الصواب: استثنائِها منها.

(3/ 2/427)


ثم يأتي الراهن بعد ذلك فيقول لمن بيده الرهن: أسلفْني مائة أخرى والذي بيدك من الرهن يكون رهنًا بالمائتين جميعًا، الأولى والثانية. فإن هذا مما اختلف الناس فيه:
فذهب مالك رضي الله عنه إلى جواز ذلك وانعقاد الرهن بالمائتين جميعًا،
وكون الرهن لا يؤخذ حتى يُوفِيَ الراهن بجميع المائتين الأولى والثانية.
وذهب أبو حنيفة إلى المنع من كون ذلك رهنًا بالمائة الثانية.
واختلف قول الشافعي في هذا، فقال في القديم مثلَ قولنا بصحة ذلك، وقال في الحديث مثل قول أبي حنيفة بإبطال كون الرهن رهنًا بالمائة الثانية.
وكذلك اختلف اختيار صاحبي أبي حنيفة فوافقه على مذهبه الذي حكيناه عنه محمَّد بن الحسن. وأما أبو يوسف فخالفه، فقال مثلَ قولنا.
وسبب الخلاف الالتفات إلى نكتة وهي النظر في كون الرهن محلًا لما يستدان عليه، فهل يكون الدين (1) يؤخذ عليه يَستحوذ على جميع الرهن ويَستغرقه حتى يستحيل أن يكون الرهن محلًا لدينٍ غيره، أو (2) يستحيل أن يكون محلًا لأحد الحالين؟ ألا ترى أن الرهن إذا دُفع في مائة دينار، فإن الرهن تابع لها والمائة مستحوذة على جميع أجزائه، فجميع أجزاء الرهن على الجملة، وكل جزء منه على التفصيل، قد استحقّتْه المائةُ الدينُ واستحوذت عليه، ولا يصح أن يكون الرهن كأنه في قبض المائة الأولى، وهو في قبْضة غيرها في زمن واحد. ومما يؤكّد ذلك أنه لو قضى من عليه الدين المائةَ كلَّها سِوى دانقٍ واحد منها لم يُمكَّن من الرهن حتى يقبض ذلك الدانق، لكون جميع أجزاء الرهن مقابلًا لكل جزء من الدين فَلّ أو جَلّ. فإذا كان الأمر كذلك استُبعد أن يكون الرهن الواحد الذي أخذ بمائة دينار بالأمس، يكون رهنًا بمائة أخرى تؤخذ
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: الذي.
(2) هكذا ولعل الصواب: أوْ [لا] يستحيل ...

(3/ 2/428)


اليومَ. فهذا نظر أبي حنيفة، والنكتة التي يَلتفِت إليها.
وأما مالك، والشافعي في أحد قوليه، فإنهما لم يسلّما له هذه القاعدة، ورأيا أنه لا يمتنع ترادُف دينين على رهن واحد، وليس ذلك لكون المحل الواحد محلًا لحالَّيْنِ معًا، ولا يتنافى في حكم العقل أن يكون هذا الرهن محبوسًا بالمائة الأولى وبالمائة الثانية. فإذا وجب بيعه وكانت في ثمنه فضلةٌ أخذها المرتهن من دينه الباقي عن الرهن.
وإذا كانت قيمة الرهن مائتين وقد استدان صاحبه عليه مائة واحدة، فإنها وإن كانت هذه المائة تستولي على جميع أجزاء الرهن، فإنما ذلك إذا أنْفَضَّتْ قيمته حتى صارت لا زيادة فيها على هذه المائة الأولى. وأما إذا بقيت قيمته على ما كانت عليه حين الارتهان، وهي مائة دينار، فيقدر كأن المرتهن أسقط حقه في نصف الرهن، ولم يجعله رهنًا بها، وبقي نصف الرهن الآخر لا شغل فيه، ولاحقًا معلقًا به، فلم يمتنع ارتهانه، كما لو كان الارتهان بالمائتين جميعًا في عقد واحد. وهذا يتضح على أصولنا المجيزين لرهن المشاع، وأما هو فقد يقول: لا يصح ارتهان نصف الرهن مشاعًا، كما قدمناه عنه في صدر هذا الكتاب، إنْ خالفنا في هذا الذي صورناهْ في هذه المسألة، نقلْنا الكلام إليه، ونستشهد على صحة مذهبنا بأصول مقررة: منها أن الرهن المقصودُ منه الاستيثاق بالحقّ، فلا يمتنع أن يكون وثيقة بحق يأتي بعد الحق الأوّل، (ألا ترى استيثاق) (1) ثم مع هذا يجوز أن يتحمل لرجل بمائة دينار ويضمنها على رجل أَخر، ثم يضمن عليه مائة أخرى. فلما جاز ترادف حق بعد حق لرجل واحد على حميل واحد جاز أن يترادف دين على دين في رهن واحد لرجل واحد.
وعندي أنه قد يجيب عن هذا بأنّا قد أشرنا إلى أن مذهبه المنع من رهن المشاع، بما صورناه في الرد عليه بأن الرهن بمعيّن ربما يُدعى إلى قسمته
__________
(1) هكذا، وفي الكلام سَقط.

(3/ 2/429)


وبيعه، حتى يؤثر ذلك في الحق، وذمةُ الحميل ليست من هذا القبيل.
وكذلك احتج عليه أصحابنا بأنه يجوز أن يرهن رهنًا بمائة دينار يتسلّفها ثم يزيد الراهنُ المرتهنَ رهنًا آخر بتلك المائة بعينها. فإذا جاز ترادف رهن على رهن بحق واحد جاز ترادف دين على دين بحق واحد.
وهذا قد يجيب عنه بأن الرهن مشغول بالدين، والدين مستحَق عليه، والرهن تابع للدين فلا يكون تابعًا لغيره، إذ لا يصح أن يكون الشيء تابعًا لشيئين في زمن واحد، وأما الدين فمتبوع، والمتبوع يصح أن يكون له توابع كثيرة، والرهن مشغول بالدين الأول فلا يكون مشغولًا بغيره، والدين غير مشغول بالرهن فيصح أن تُشتغَل به شواغل كثيرة.
ومما يستدل به أصحابنا أيضًا أن العبد إذا جنى على رجل جناية، واستحق به رقبته، ثم كرر عليه جناية أخرى، فإنه من حق المَجنيّ عليه المطالبة بجنايتين مع كون العبد قد استحوذت على رقبته الجناية الأولى، ولم يمنع هذا من كونه تُستَحق رقبته جناية (1) أخرى. وكذلك الرهن، وإن استحقه الدين الأول، فلا يمتنع أن يستحقه الدين الثاني.
وهم يجيبون عن هذا بأن الرهن إذًا ثبت حق إنسان تعلق به، فلا يجوز لراهنه أن يرهنه لرجل آخر، وإن كان يجوز أن يجعله رهنًا بدين كان من الرجل بعينه الذي داينه أوَّلًا، والجناية إذا كُرِّرت على واحد تعلقت بعين العبد.
وكذلك لو كانت جناية على رجل ثم جنى على رجل آخر لتعلق حق الآخر بوقبة العبد، فلا يتعلق بالرهن من رجل آخر، فدلّ ذلك على افتراق الأصلين.
ونحن نجيب عن هذا بأنّا لا نمنع أن يكون الرهن الذي بيد الأول رهنًا بدين استدانه الراهن من رجل آخر، إذا رضي الذي بيده الرهن، وإن لم يأذن ففيه اختلاف في المذهب نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بجناية.

(3/ 2/430)


وقد قال ابن القصار: إن أظهر الروايتين عن مالك جواز ارتهان فضلة الرهن (وإذا) (1) لم يرضَ من بيده الرهن بذلك. وهكذا ذكر ابن الجلاب في تفريعه أن ارتهان فضلة الرهن لرجل آخر بغير إذْن من بيده الرهن لا يصحّ، وأما بإذنه ففيه روايتان.
وها نحن نتكلم على سبب اختلاف هاتين الروايتين بعد أن يضبط بالتقسيم، فنقول: إذا رهن رجل رهنًا قيمته مائة دينار، وأخذ على الرهن نصف قيمته وهي خمسون، ثم أراد أن يتسلّف مِمّن بيده الرهن سلفًا آخر، وهو خمسون دينارًا بقية قيمة الرهن، فلا يخلو أن يكون الرهن بيد من أعطى السلف (2) وبيد عدل أُوقِفَ الرهنُ بيده.
فإن كان الرهن بيد معطي الدين الأوَّلِ فقد ذكرنا خلاف فقهاء الأمصار في ذلك، وأَنّ مذهبَنا جواز ترادف دين على دين في رهن واحد، وهو يد دافع الدينين.
وإن كان هذا الرهن موقوفًا على يد رجل آخر غيرِ معطي الدينين، فقد ذكرنا أن ما أُوقِف من الرهبان بيد غير المرتهن فإن ضمانه من ربّه. ولكن يبقى النظر في هذا الدين الثاني الذي ارتُهِن فيه فضلة الرهن على الدين الأول، فإن هذا العدلَ الموقوف الرهن على يده إن رضي بأن يحوز هذا الرهن بالدينين جميعًا فإنه يكون رهنًا بالدينين جميعًا، كما لو كان الرهن في يد دافع الدينين جميعًا, لأن يد هذا العدل الموقوف عنده الرهن كيده في باب الحيازة. وإن كان العدل لم يعلم بهذا الثاني، ولا رضي بأن يكون الرهن تحت يده وبحوْزِه إلا في الخمسين دينارًا الأولى فإنه يجري ذلك على القولين، وقد قدمنا ذكرهما وعلتهما حيث قلنا: إن المذهب على قولين في الهبات والبرهان. هل لا يصحان إلا بحيازة محسوسة أو يصحان عند ارتفاع التهمة الموجبة لافتقارهما إلى
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: وإِنْ.
(2) هكذا ولعل الصواب: أو.

(3/ 2/431)


الحيازة، وهذه التهمة في كون الواهب إذا وهب ماله في صحته وأبقاه تحت يده ينتفع به إلى أن يموت فيأخذه الموهوب له فإن نفسه لا تسْمَح بذلك بل (1) يغني غيرَه ويبقى فقيرًا، فيؤدي ذلك إلى منعه من القصد إلى حرمان الوارث ما أوجب الشرع أن يرثه عنه.
وكذلك في الرهبان إذا قال لأحد غرمائه: رهنتك داري وباقيًا (2) ساكنًا فيها إلى أن أفلس، فلو جعلناها رهنًا صحيحًا يستبدّ به من قَبِل هذه الدار رهن ذلك في دينه، ويختص به دون سائر الغرماء، أدى ذلك إلى إيثاره بماله غريمًا دون غيره، ولهذا افتقر الرهن إلى الحيازة. فإذا تُصوّر في بعض المسائل ارتفاع هذه التهمة التي لأجلها افتقر الرهن إلى الحيازة، فهل يرتفع الافتقار إليها لعدم العلة الموجبة لها، ويبقى الحكم باقيًا وإن ارتفعت علته؟ المذهب على قولين في هاتين المسألتين اللتين ذكرناهما.
وهذا العدل إذا كان إنما حارٍّ الرهن في خمسين دينارًا إذا وصلت إلى دافعها رد الرهنَ إلى صاحبه، فسقط كونه رهنًا فإن الخمسين الأخرى إذا لم يعلم بها ولم يقصد إلى حيازتها لدافع هذه الخمسين فإن ذلك لا يصح على أحد القولين لعدم القصد إلى الحيازة. وعلى القول الآخر يصحّ ذلك, لأن هذا الرهن لا يَدَ لصاحبه عليه، ولا انتفاع له به، فلا تُتصور فيه التهمة التي ذكرناها في الافتقار إلى الحيازة. هذا بيان أحد القسمين.
وأما القسم الآخر فهو أن يكون الرهن بيد دافع الخمسين الأولى، ولكن الراهن تسلّف من رجل آخر خمسين أخرى، وجعل الفضلة الباقية من قيمة الرهن رهنًا لهذا الثاني، فإن المشهورَ من المذهب المنصوصَ نصًّا لا إشكال فيه كونُ هذا الدين الثاني إنما يصحّ كونه رهنًا به بعد أن يصل الأوَّلُ إلى حقّه، بِشرط أن يعلم الذي بيده الرهن بهذه الاستدانة الثانية، ويرضى أن يحوز هذه
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بأنْ.
(2) هكذا ولعل الصواب: بَقِيَ.

(3/ 2/432)


الفضلة لصاحب هذا الدين الثاني. فإن لم يعلم ذلك ولا رضي به فإنه لا يكون لدافع الدين الثاني في هذا الرهن حقّ بل يباع الدين الأوّل إذا وجب قضاؤه له، وما فضل عن دينه يحاصّ به سائر الغرماء دافعُ هذه الخمسين الأخرى، ومن سواه من الغرماء. ووقع لمالك في كتاب ابن المواز فيمن رهن رهنًا ثم استدان من رجل آخر دينًا، وجعل فضلة الرهن رهنًا، فقال مالك: لا يصح هذا الرهن الثاني إلا أن يحوزه لهذا الثاني غيرُ الأول. قال: لأن الأوّل إنما حاز لنفسه. هكذا روى ابن القاسم عنه في الموازية، وقام عقب هذه الرواية عن ابن مالك (1): إلا أن يعلم الأول بذلك ويرضى، بحوزه للثاني.
وظاهر هذه الرواية أنه لا يصح هذا الرهن الثاني، وإن علم به الأوّل فوضي أن يحوزه له، لقول مالك في صحة هذا الرهن: لأن الأوّل إنما حاز لنفسه؛ بعد أن قال: لا يصح ذلك إلا أن يحوزه لهذا والآخَرِ غيرُ الأوّل الذي قبضه لنفسه. لكنه لم يذكره في السؤال الذي أجاب عنه مالك بحوز الموتهن الأوّل، علم بهذا الرهن الثاني أو لم يعلم به. لكن التعليل يقتضي أنه لا يصح هذا الرهن ولو علم به الأول ورضي بحوزه للثاني. لكن قول ابن مالك (1) عقيب ما نَقَل عنه: إلا أن يعلم الأوّل بذلك ويرضى به. كالمشير إلى تأويل قول مالك على كون الأوّل لم يعلم بالرهن. ولكن تعليل ذلك وظاهر كلامه خلاف ما أشار إليه ابن القاسم. وهكذا حمل بعض أشياخي هذه المسألة على قولين: أحدهما صحة هذا الرهن إذا رضي الأوّل بهذه الاستدانة الثانية وحَاز الفضلة لهذا الثاني. والقول الآخر: إن ذلك لا يصح ولو علم بهذا الأوّلُ ورضي بحوزها للثاني. لكنه خرّج: إذا لم يعلم بها الثاني ولا رضي بحوزها للثاني، أن هذه الفضلة لكون رهنًا للثاني، كما قيل فيمن أخْدَم عبده لرجل، وحازه هذا الرجل، ثم وُهبتْ رقبته لآخر، فإن هذه الهبة للرقبة تصحّ، وإن لم يعلم المُخدَم بهذه الهبة للرقبة، ولا رضي بحيازتها لمن وُهبت له. وهذا الذي قيل في هذا
__________
(1) هكذا ولعل الصواب حذف (ابن).

(3/ 2/433)


العبد المخدَم، وما خرجه بعض أشياخي من كون فضلة الرهن لكون رهنًا، وإن لم يعلم الأول بارتهان الثاني لها، مبنى على ما فرغنا منه الآن من كون الرهن لا يصح إلا بالحيازة المحسوسة لقوله تعالى "فرهان مقبوضة" (1) فشرط القبض في صحتها والقبض مشاهَد محسوس، فإذا لم يوجد لم يصح الرهن. أو يُراعى في صحة (2) ارتفاع يد الواهب عنه، وعلُم انتفاعه به، وإن لم يقبضه الموهوب له ولا قبضه المرتهن، كما بسطنا بيانه الآن.
فإذا تقرر حكم هذا القسم وحكم هذه الفضلة المرهونة بدين ثان، فقد قدمنا ذكر الخلاف على الجملة في ضمان هذه الفضلة: هل يضمنها من بيده الرهن الذي أخذه عوضًا عما دفعه، أو لا يضمن هذه الفضلة، وأن ابن القاسم يرى أنه لا يضمن من هذا الرهن إلا مقدار دينه وهي الخمسون دينارًا، وما فضل عن ذلك فضمانه من ربه, لأن دافع الدين الثاني لم يقبض هذه الفضلة فلا يضمنها وهي في يد المرتهن الأول محبوسة بحق الثاني، فيجري مجرى الأمانة في يده ومجرى ما أوقف على يد عدل، فإن العدل لا يضمنه. وقد احتجّ أشهب لصحة مذهبه بأنه لو كان هذا الرهن بيد رجل على أنه لا يستحق منه إلا ما فضل عن دين رجل آخر، فإنه لا يضمنه لكونه إنما يستحق الفضلة وهي غير محققة.
وبعض أشياخي يميل إلى أن ابن القاسم قد يخالفه في هذا الذي احتج به، ويجري فيه على أصله في كون ما سوى الفضلة لا يضمنه. وقد قال بعض الأشياخ: إنما يقتصر ابن القاسم على ضمان ما سوى الفضلة خاصة على من بيده الرهن إذا علم أن الرهن موجود حين رهن الراهن للثاني فضلته، وأما إذا لم يعلم وجوده فإنه يضمنه لجواز أن يكونْ قد تلف ولزمته غرامته قبل أن يرهن الفضلة.
__________
(1) البقرة: 282.
(2) هكذا ولعل الصواب: صحّته.

(3/ 2/434)


وقد احتج بعض الناس لأشهب إذا قضى الدين الذي كان به رهنًا ثم زعم من هو بيده أنه ضاع فإن ذلك لا يُقبَل منه مراعاة لأصل قبضه لأنه إنما قبضه على الضمان فلا يصدّق في دعوى الضياع فيما يغاب عليه أنْ كان يقضي (1) الدين خرج عن كونه رهنًا. وهذا الاستدلال على ابن القاسم فيه نظر, لأنه أخذه على الضمان، ودعوى الضياع بغير بينة لا يقبل منه حتى يَرُد الرهن على صاحبه, لأن على اليد أن ترد ما أخذتْ. وكأنّ أشهب رأى أن هذه الفضلة غيرُ محقق حصولها لهذا الذي دفع الدينَ الثاني، لكون الرهن، وإن كانت قيمته عند الدفع مائة دينار، وأخذه رهنًا بخمسين دفعها، فإنه قد يحُول سوقُه فلا يساوي حين بيعه إلا مقدار دين الأول وهي الخمشون دينارًا، فيصير جميعه محبوسًا للأول وجميع ثمنه له كلَّه. وكأن ابن القاسم قدّر أن هذه الفضلة، لما كانت عند الارتهان الثاني موجودةً، استُصحِب وجودُها, ولم يُلتَفت إلى ما يمكن أوْلًا يمكن من تقصير ثمنها.
ومما يلاحظ ما نحن فيه ما ذكره ابن المواز عن مالك، فيمن رهن رهنًا وأخذ عليه دينًا، وشرط في حين الارتهان أنه مبَدَّأٌ من قيمته مائة دينار، ثم ادّانَ فوجب بيع الرهن، فقال غرماء الراهن نحن أحقّ بهذه المائة التي شرط أن يأخذها لنفسه من ثمن الرهن، فإن ذلك لهم. وظاهر كلام مالك في هذا الإطلاق: أنه مَن بيده الرهن لم يبْقَ بعد هذه المائة دينار ما يأخذ منه جميع دينه، فإن ما بقي من دينه يبقى في ذمة الراهن، ولا يحاصّ الغرماء بالبقية التي بقيت له, لأن هذا الاشتراط لهذه، لمائة يقتضى ألاَّ حق لهذا الذي بيده الرهن في عين الرهن وهو مقدرا ما يقابل المائة، فكذلك لا يكون له حق في هذا الثمن.
وهذا مما ينبغي أن يُنظر فيه، وما قصد من بيده الرهن بهذا الاشتراط هل أسقط حقَّه في هذه المائة أَلا يأخذَ دينه منها على حال، وإنما (2) أسقط حقه منها
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بقَضاء.
(2) هكذا ولعل الصواب: أَو.

(3/ 2/435)


في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه.
وفي العتبية لان القاسم أن هذا الرهن لا يصح، وكأنه يشير إلى أن هذه الفضلة بعد المائة دينار إذا لم تكن مقدرة ولا مُتَيقّنًا وجودها عند بيع الرهن، وكأنه لم يَحز رهنًا لنفسه على حال. وهذا الذي عللناها به فلا يضمن هذا الرهن على كلام ابن القاسم، وأما على قول مالِك: إن الراهن يُبدَّأ بهذه المائة، فإن هذه الفضلة تجري على الخلاف الذي قدمناه بين ابن القاسم وأشهب. لكن هذا الشرط لما كان مشترطًا في أصل دفع الرهن حسُن أن يقول ابن القاسم: إنه لا يصح، وحسُن أن يُظَن به أنه يقول: إنه لا يضمن أيضًا.
بخلاف إرتهان فضلة الرهن بعد أن أخذه من هو بيده على أنّ جميعه رهنًا في حقه. وما حدث بعد العقود بخلاف ما قارنها. وهذا مما ينبغي إن يُتأمل أن كان المراد بالرواية أن ذلك وقع في عقد واحد واشتُرط حين دفع الرهن.
وإذا وضح صحّ القول في ارتهان فضلة الرهن إذا كان الرهن بيد مرتهنه أوَّلًا. فينبغي أن تعلم أنه إذا كان بيد غير مرتهنه بل وقف على يد عدل فاستدان الرافنُ عليه دينًا، وجعل ما فضل من قيمته عن دين المرتهن الأول رَهْنًا بيد العدل لهذا الرجل الثاني، فإن اشترط (1) علم العدل الموقوف بيده الرهن، ورضاه بأن يحوز هذه الفضلة للمرتهن الثاني لا بد منه، في المنصوص المشهور من المذهب، فيتخرج على أن الرهن يصحّ وإنْ لم يُحَزْ إذا ارتفعت التهمة، وحيلَ بينه وبينه، أَلا يُشترط علم العدل بهذا الارتهان الثاني لكون الراهن قد حيل بينه وبين الرهن، وقد قدمنا ذلك. وقد رأيت لسحنون أنه لا يُفتقر إلى علم من بيده الرهن في ارتهان فضلته من رجل آخر، قال: لأنه لا يعلم في هذا الارتهان الذي هو مقصور على ما فضل عنه.
وظاهر كلامه أنه ذكر ذلك ولو كان ارتهان هذه الفضلة في رهن بيد المرتهن الأول ووجد ذلك مما قدمناه.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: اشتراط.

(3/ 2/436)


هذا حكم الافتقار إلى رضي العدل الموقوف بيد (1) الرهن.
وأما اعتبار رضي المرتهن الأول فقد ذكرنا عن سحنون ما يدل على أنه يُعتبر رضاه، وبيّنّاه ومهّدناه. وهكذا حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه يعتبر رضي المرتهن الأول وأطلق هذا القول، ولم يفرّق فيه بين كون هذا الرهن الذي ارتُهِنت فضلته بيد عدل أو بيد المرتهن الأول. وذكر أصبغ عن مالك أنه يخالف هذا, ولا يعتبر اشتراط رضي المرتهن الأول بأنه لا ضرر عليه في هذا الارتهان الثاني إذا كان إنما يؤخذ ما فضل عن دينه.
وهذا قاله أصبغ، ونَفْيُ الضرر عن الأوّل يتضح تصوره إذا كان أجل دين الأوّل وأجل دين الثاني الذي نُقِلت الفضلة رهنًا له يستويان حتى يكون دعوى الغريمين الأوّل والثاني إلى بيع الرهن ليُقضى من ثمنه دينُهما سَواء، ولا يقدر أحدهما أن يدعوَ إلى بيعه قبل أجل الآخر، أو يكون المرتهن الأول أجل دينه يحل قبل أن يحل دين المرتهن للفضلة ليكون قادرًا عَلى ادعاء (2) إلى بيع الرهن ليأخذ منه دينه كلّه. وأما لو كان دين المرتهن الثاني الذي ارتهن الفضلة يحل قبل أجل دين المرتهن الأوّل فها هنا قد يحصور ضررٌ يلحق المرتهن الأوّل إذا بيع الرهن للثاني، ولم يكن (3) المرتهن الأوّل من أخذ دينه من عين الرهن ولا من ثمنه، وقد يكون ثمنه وإن وُقف له لا يُومن له عليه الضياع، ويؤمن على الرهن نفسه إذا لم يُبَعْ. ففي هذا الوضع يتصور الضرر. ولكن (يحتج إلى ذكر) (4) الحاكم إذا دعا مرتهن الفضلة على البيع. وقد ذكر مالك في كتاب ابن المواز، لما سئل عن رجل أخذ رهنًا من رجل بدين له عليه يحل إلى ستة أشهر، ثم اشترى سلعة من رجل آخر بدين يحل إلى شهر، ورهن هذا الآخر
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بيَدِهِ.
(2) هكذا ولعل الصواب: الدّعْوة.
(3) هكذا ولعل الصواب: يُمَكّنْ.
(4) هكذا ولعل الصواب: يحْتاجُ إلى إِذْن.

(3/ 2/437)


الذي باع منه السلعة ما فضل من قيمتها عن دين الأوّل. فقال مالك: أَعَلِم الآخَر بدين الأوّل؟ فقيل له: لم يعلم. فقال: يُباع الرهن ويُجعل منه للمرتهن الأوّل دينُه، ويأخذ الثاني ما فضل عن ذلك. وأطلق هذا الجواب من غير تفصيل لأجناس الرهبان وأجناس الدين. وفصل أشهب الجواب، وقال: إن كان الرهن مما يكال أو يوزن وديْن المرتهن الأوّل مثلُه في الجوْدة والدناءة والجنسية، فإنه يُعجَّل حق الأول على حسب ما حكيناه عن مالك.
وأما إن كان دين الأوّل مما يكال أو يوزن، ولكنه مخالف بجنس (1) ثمن الرهن فإن الحق لا يُعجَّل للأوّل، بل يوقف له رهنًا. وكذلك لو كان الدينُ دراهمَ، وبيع الرهن بدنانيرَ، لم يُعجَّل الحق أيضًا للأول. وأما إن كان الرهن بيع بعَرْض فإن دين الأوّل لا يعجل ولو كان عرضًا مثل العرض الذي بيع به الدين.
وزاد سحنون في الجواب الذي أطلقه مالك تفصيلًا آخر، فأشار إلى اعتبار دين الأوّل هل هو مِمّا إذا عُجِّل له أخبِر على قبول ذلك، فيكون تفصيل أشهب صحيحًا، أو يكون دين الأوّل مما لا يُجبر على قبوله إِنْ عجز (2) له قيلَ أجَله كعرض من بيع أو طعام من بيع، فإنه يشترط في هذا رضي المرتهن الأول لقبول ماعُجِّل له من حقه.
وذكر ابن عبدوس عن سحنون كلامًا فهم منه عن سحنون أن الرهن، إذا كان يباع بثمن بخلاف دين المرتهن الأول، فإن الرهن لا يباع بل يبقى موقوفًا إلى أن يحل أجل الأول بجواز (3) أن يكون ثمن الرهن إذا بقي موقوفًا رهنًا بحق الأول إلى أن يحل أجل الأول فإنه قد تنقص قيمته حتى لا يمكن المرتهنَ الأول أن يستوفي جميع دينه منه، وهذا لا يرتفع الضرر عنه إلا بأن يمنع من بيع الرهن. وقد ذكرنا عن مالك أنه سأل السائل له عن علم الأحق (4) بدين الأوّل أم
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: لجنْس.
(2) هكذا ولعل الصواب: عُجِّل.
(3) هكذا ولعل الصواب: لِجَواز.
(4) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: على الآخر. راجع كلام مالك أعلاه.

(3/ 2/438)


لا؟ فقيل له: لم يعلم. ودليل هذا الخطاب. أنه إذا عَلِم بدين الأوّل كان الجواب بخلاف ذلك
واختلفت إشارات أهل المذهب إلى ما يكون الحكم إذا علم الآخر بدليل (1) الأول:
فأما بعض الأشياخ فإنه تأوّل على مالك أنه إنما سأل، هل علم الآخر بدين الأول أم لم يعلم، لأجل أنه ذُكِر في السؤال أن الدين الثاني إنما كان عن ثمن بيع، فإذا علم هذا المرتهنُ الثاني بالفضلة بأنه قد سبقه دين يتأخر عن أجل دينه، والحكم يقتضي تعجيله، صار كمن باع سلعة واشترط تعجيل دين لم يحلّ، فإن ذلك لا يجوز, لأن تعجيل الدين قبل حلوله سلف والبيع إذا قارنه سلف فسد بغير خلاف.
وهذا الذي تأوَّل هذا التأويل إنما يصح تأويلُه على أنه علِم أن الحكم يوجب تعجيل حق الأوّل ويوجب جبرَه على قبول ذلك، فكأنه كالقاصد إلى بيع اشترَط فيه السلفَ.
وقد وقع في المستخرجة لأشهب ما يشير إلى أنه إذا علم الآخر بدين الأوّل بقي دينه مؤخرًا حتى يحل أجل دين المرتهن الأول. وكأنه، وإن اشترط في ثمن سلعته أن يحل إلى شهر، فعلمُه بأنّ الرهن الذي ارتهن فضلته قد سبق فيه حقّ لاخر قبله لا يحل الأول إلى ستة أشهر، كأنه أبطل الأجل الأول وصار أجل ثمن سلعته إنما يحل إلى ستة أشهر.
وبعض أشياخي يشير إلى أن في هذا (2) من الغرر.
فأما تلخيص هذا الاضطراب فإنه إذا كان ثمن الرهن مثل دين الأول، وهو مكيل أو موزون، فإن حق الأول يعجل، بغير خلاف، إذا لم يعلم الثاني بدين
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بِدَيْن.
(2) كلمة غامضة، ولعلها: مَغْمَزًا.

(3/ 2/439)


الأول، ولكن اشترط ابن القاسم في هذا أن يكون إذا عجل دين الأوّل إذا بيع الرهن وفضلت فضلة إلى المرتهن الآخر، وأما إذا لم تفضل له فضلة بقي دين الأول إلى أجله ولم يُبَع الرهن إذ لَا فائدة للمرتهن الآخر في بيعه، وما لا فائدة له فيه فليس من حقه أن يدعو إليه.
وإن كان ثمق الرهن مخالفًا لدين الأول فإن إطلاق جواب مالك يقتضي تعجيل دين الأوّل، وأشهب لا يوجب تعجيله بل يوجب إيقاف رهنٍ (1) بحقّ الأول. وسحنون، على ما حكيناه عن ابن عبدوس أنه فهمه عنه، بأن الحق لا يعجل، والرهن لا يباع للعلة التي ذكرنا.
فصار إذا بجع الرهن بثمن بخلاف الدين فيه ثلاثة أقوال: تعجيل الحق إن حملْتَ جواب مالك على عمومه. وترْكُ التعجيل ووضع رهن (1) بحق الأول، والمنع من البيع لما يُخشى من انتقاص قيمة ثمن الرهن عن الرهن، ويلحَق الأول في ذلك ضرر يمنع من استيفاء دينه.
وقد أشار بعض الأشياخ إلى اضطراب ما وقع في كتاب ابن المواز، مما نقلناه عنه ها هنا، وقال: إنه فرق بين أن يكون الرهن بقمح والدين بقمح، أو يباع بعوض والدين عرض، والقمح إذا كان مبيعًا فلا يجبر مشتريه على قبول تعجيله كالعروض. وقد فرق في الموازية بين أن يباع بعرْض أو بقمح. ولا يصح هذا إلا أن يكون بيعه بقمح كان الدين قمحًا من قرضه، وإذا بيع بعرض كان الدين عرضًا من بيع. وهذه التفرقة كأنها تنافي ظاهر هذا الكلام. ثم عقب قوله إذا بيع الرهن بعرض، وأشار إلى أن بيعه بعرض يكون تعدّيًا. فلهذا جعل هذه الزوائد فيها إشكال من وجوه وهو الذي تعقبه من كون البيع للرهن تعدّيًا إذا بيع بعوض، فإن ابن القاسم يقول: إنه تعدٍّ، كما اعترض به هذا المعترض، ذكر ذلك فيمن وكّله السلطان على بيع رهن فباعه بعرض.
وقال أشهب إن باعه بعرض وهو من جنس الدين الذي بيع الرهن بسَبَبِه،
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: إيقافه رهنًا، ووضعه رهنًا.

(3/ 2/440)


فإنه يكون تعدياّ. لكن إن كانت فضلة عن قضاء الدين لكون بيع بعضه كافيًا في قضاء الدين لكانت هذه الزيادة تعدّيًا لا تفزم صاحب الرهن، ويكون المشتري بالخيار إذا (رد الرهن) (1) بيع هذه الفضلة لضرر الشركة الطارئة عليه.
فأنت ترى هذا الذي أنكره بعض الأشياخ قد وقع لأشهب (ما إذا) (2) حمل ما في كتاب ابن المواز عليه لم يكن في الكلام تعقب. وفي هذا كفاية.
هذا حكم الاشتراك في الرهن بغير حق محدود مقدر.
ولو كان الاشتراك بحدٍّ محدود مقدَّر، مثلُ أن يسلف رجلان لرجل مائة في مائة، ثم يأْخذان بذلك رهنًا، فإنه إذا سلمه الراهن لأحد هذين الرجلين لم يضمن قابضه إلا حصّته منه، وهي النصف. وصحة (3) الآخر ضمانها من الراهن, لأنها كرهن لم يقبضه المرتهن ووافق (4) له على يدي عدل.
ولو قضى المديان أحد هذين الرجلين ما أسلفه لاسترجع حصة هذا الذي مضى مما له عليه من الدين، وبقيت حصة الآخر الذي لم يقْضِ من دينه شيئًا بيد من كان الرهن بيده. ولكن هذا إنما يُبْنى جملى أحد القولين في صحة رهن نصف دار ويبقى النصف الآخر في يد الراهن. يحوزه مع من بيده الرهن المبقَّى في يده لأجْل ما لم يقض من الدين.
ولو أن الراهن أسلمه إليهما جميعًا، فجعله أحدهما بإذن صاحبه، أو جعلاه، بيد أمين لهما لم يسقط الضمان عتهما لكون الراهن لم يرض بدفع الرهن لمن دفعاه إليه، ولا إِذْن له في ذلك.
وها الذي ذكر في الروايات من كون الرهن (5) يرتجع حصته ما قابل ما
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: أراد الراهنُ.
(2) هكذا ولعل الصواب: فإذا.
(3) هكذا ولعل الصواب: حِصَّةُ.
(4) هكذا ولعل الصواب: أوقِف.
(5) هكذا ولعل الصواب: الراهن.

(3/ 2/441)


قضاه من الدين وتبينه (1) بعض الأشياخ على أن ذلك إنما يجري على أحد القولين في رهن حصّة المشاع إذا بقي بقيمته في يد الراهن يَحُوزُه مع المرتهن، فيلتفت فيه أيضًا إلى ما تقدم بيانه في كتاب البيوع من كون الشريكين في دين إذا قبض أحدهما حصّته من الدين فإن له أن يشارك الآخر، على المشهور من المذهب، وعلى التخريج الآخر لا يشاركه. فإذا قيل: إنّه لا يشاركه فيمن (2) اقتضى لم يكن في الرواية تعقب. فإن قيل: إنه يشاركه وليس له أن يُفرِد أحدَهما بالقضاء، فإنه إذا قضى أحدهما جميع دينه، وقاسمه شريكه فكأنّ جميعَ دينه لم يصل إليه، ومن لم يصل إليه جميع حقه كان له حبس الرهن في هذا.
وينبني، على ما بسطناه في كتاب البيوع، من أن المشهور من المذهب المشاركة.
هذا إذا كان الدين جنسا واحدًا، ودفعاه معًا. ولو دفع أحدهما الدين ثم دفع الآخر بعد ذلك ما لا آخر فإن ما اقتضاه أحدهما لا يشاركه فيه الآخر, لأن كل واحد منهما انفرد بالدفع على الآخر شركة بينه وبين الدافع الآخر.
ولو أحْدثا الشركة بعد الدفع منهما جميعًا ورضيا بها لم يجز ذلك، على ما أشار إليه بعض الأشياخ.
وقد اختلف في قسمة شريكين للدين بعد أن كانا شريكين فيه. وإحداث شركة بعد أن لم تكن أولى بالمنع على ما يقتضيه ما سنبين أصوله في كتاب الشركة.
هذا إذا كان الرهن من رجل واحد، والمرتهن له رجلان. وأما لو كان دافع الرهن رجلين أخذا دينًا من رجل واحد فإنه إذا قضى أحدهما ما عليه من الدين أخذ حصّته من الرهن، وبقي يحوزها مع المرتهن. وهذا لا يقدح فيه (3)
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بيّنهُ.
(2) هكذا ولعل الصواب: في ما.
(3) هكذا، والكلام واضح بدونها.

(3/ 2/442)


في صحة الحوز، لكون مالك الرهن لم يرجع إلى يده شيء من رهنه.
وقد ذكر في الموطأ وفي غيره من الدواوين المشهورة في هذه المسألة أن أحد الرجلين إذا قضى ما عليه من الدين فأراد أن يرتجع نصيبه الذي رهنه، وقد كان شريكه في الرهن أنَظر الراهنَ بدينه إلى سنة، فإن ذلك الرهن إن كان مما لا (1) ينقسم قسمة لا ضرر فيها على أحد الشريكين، ولا تعيب الرهنَ القسمةُ فإنه يقسم ويأخذ نصيبه منه مَن ادعى ما عليه ميت الدين. ولو كانت القسمة تنقصه وتعيبه لِبيع الرهن كلُّه، فإن تطوّع الذي أُنْظِر بدينه إلى سنة أن يسلم نصف ثمن الرهن إلى المرتهن، وهو ما يقابل ما عليه من الدين، فلا مقال في ذلك، وإن امتنع من تسليمه استُحلِف على أنه لم يُنظِرْه، ويؤخره إلى سنة ليبقى الرهن بثقة في حقه. فإذا حلف على ذلك عجِّل له حقّه. وأطلق مالك في الموطأ في هذه المسألة تعجيل هذا الحق. وفصل أشهب الجواب، على حسب ما قدمناه عنه في مسألة من ارتهن فضلة رهن، ودينُه يحل قبل دين المرتهن الأوّل، ورأى أن الحق إنما يعجَّل إذا كان مكيلًا أو موزونًا، مثل الدين الذي أخَذَ به الرهن، إذ لا فائدة في وقفه.
وإما إن بيع الرهن بخلاف جنس الدين فإنه يوقف ثمنه رهنًا رجاءَ أن يحول سوقه.
وذكر ابن القاسم في المستخرجة أن الراهن لو أتى برهن آخر لدُفع إليه ما يُحبس عليه من ثمن الرهن الذي بيع. وكأنه حمل ما أشار إليه مالك على أن الراهن معسر. وأما إذا كان موسرًا، وأتى برهن آخر ليأخذ ما وجب إيقافه من ثمن رهنه الذي بيع، لكان ذلك مِن حقه. ولو كان الذي لهذين الرجلين اختلف مقداره، فبيع من الرهن حصة الذي وجب له التعجيل فلم يف ثمن المبيع من الرهن كمالَ دينه، وبقي في يد الآخر الذي انظر ما فيه فَضْل عن حقه، لوجب بيع ما في يد الآخر الذي انظر بحقه ليأخذ الذي لم يكمل من دينه
__________
(1) هكذا، والكلام أوضح بدونها.

(3/ 2/443)


تمام دينه. وأما إذا لم تكن فضلة لأتْبع من نَقَص دينه ذمةَ غريمه بمقدار ما انتقص من دينه.
وهكذا قال ابن القاسم فيمق أخذ رهنًا بدين مؤجل ثم طرأ غريم، وفي الرهن فضلة عن حق من هو بيده، لوجب بيع هذا الرهن ليأخذ هذا الغريم الطارئ دينَه معجَّلًا من هذه الفضلة، وتعجيل صاحب الدين المؤجل دينه، على حسب ما قدمناه من تعجيل الديون المؤجلة في مثل هذا مما نقلناه عن مالك مطلقًا، وعن أشهب وغيره مفصّلًا.
ولو كان ما ينوب هذا الذي حل دينه من الرهن يُرْبي على مالَه من الدين لم يُبَعْ من نصيبه من الرهن إلا مقدرا دينه، وما فضُل عن ذلك يرجع إلى الراهن, لأن (من حقه قد أخذه بيده) (1) ما يأخذ منه دينه، والذي حقه قد حل يصل إلى حقه من بعض ما ينوبه من الرهن، فبقي ما فضل عن ذلك لا حقّ فيه لواحد من المرتهنين فيرجع إلى صاحبه على أحد القولين في كون بقاء يد الراهن على بعض ما رهن نصيبًا منه لا يُبطل الرهنَ، وعلى القول بإبطاله: يوقف له ليصح الرهن.
ومما ينخرط في هذا الأسلوب المشاركة في الحيازة من جهة الراهن لا من جهة عين الرهن، مثل أن يرهن رجل رهنًا على أنه إنما يكون رهنًا في سنة، فإذا انقضت خرج عن كونه رهنًا. فإن مذفب ابن القاسم بطلان هذا الرهن، وأنه لا يكون رهنًا في السنة الأولى ولا فيما بعدها من السنين الأخَر. ورأى تغليب أحكام السنة الثانية على الأولى. وهو الأوْلى وقد شرط في حين دفع الرهن أنها لا لكون رهنًا، ومن حكم الرهن أن يتابد بيد قابضه حتى يقضي دينه، وبهذا يصح الحوز.
ورأى أشهب أن الشرط باطل، وأن هذا الرهن يكون رهنًا في السنة
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: مَنْ حقُه بيده قد أخَذَ.

(3/ 2/444)


الأولى وفيما بعدها، تغليبًا لحكم السنة على ما بعدها، وقال: إن الشرط باطل، واحتج بأن من قال لعبده: أنت حرّ إلى أن يشرب، فإنه يكون حرًا، والشرط ساقط باطل. ولم يعجب يحيى بنَ عمر هذا التمثيلُ ولا رأى هذا حجةً.
ولو كان السؤال بالعكس فدفع إليه سلعة، على أن لكون رهنًا في السنة الثانية ولا لكون رهنًا في السنة الأولى، لصح هذا الرهن، وكأنها في السنة الأولى لكون عنده وديعة، ومن كانت له وديعة بيد رجل فاستدان عليها دينًا من الذي هي بيده وديعةٌ، وجعلها رهنًا بيده، فإن ذلك يصح وتكون رهنًا.
ومما يلحق بهذا كون الوصي على يتيم يجوز له أن يتسلف له ويرهن له أشياء مما له، كما لَه أن يبيع سلعة مما له فكذلك له أن يرهنها, ولو كان الوصي أسلف اليتيم من يده وقبض سلعة من مال اليتيم من نفسه، ولم (1) يحصلَ له إلا نيّة تبدّلت.
ورأى أشهب أن ذلك يصح له إن شُهِد بذلك.
وقد اختُلف أيضًا فيمن بيده وديعة لرجل يتسلف على بعضها الذي أودعها سلفًا، وجعل بعض الوديعة رهنًا بالسلف، وعقد ذلك على أن المودعَ حائز للذي أسلف. وهذا أيضًا مما اختُلف فيه، وفيه الاقتصار على نية تبدلت، مع كون يد من في يده الوديعة كيد من أودعها له، فيصير كانّ يد المودَع باقية على بعض الرهن وقد قدمنا ما في ذلك من الاختلاف.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إن حكم مَن يلزمه الإنفاق على الرهن هل هو الراهن أو المرتهن؟ فقد تقدم الكلام عليه على الجملة. ونحن الآن نفصّل فروعه.
فإذا تقرر فيما سبق أن نفقة الرهن على الراهن عندنا، وعند جماعة الفقهاء، فإن الراهن إنما يتولى الإنفاق على وجه لا يؤثّر في حوز المرتهن
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف الواو.

(3/ 2/445)


ويرهنه (1)، ومن حق المرتهن أن يمنعه من تولي ما يؤثر في صحة حيازته للرهن، فلا يمكَّن الراهن إذا أراد الإنفاق على العبد أن يضمّه إليه ويحوزه المرتهن (2) ويضِفه إلى عياله وحوزه، لكن يدفع الإنفاق دفعًا لا يؤثر في حيازة المرتهن.
وكذلك لو كان الرهن ربما يحتاج إلى الاسترمام والإصلاح فإن المرتهن يمنع الراهن من تولي ذلك بنفسه على وجه يؤثر في الجواز (3) أيضًا. وأما عقد الإجارة في الرباع وغيرها، فإن الراهن يتولاه بإذن المرتهن، فيقتصر على مجرد العقد، ولا يضيف إليه قبض الغلة على وجه يؤثر في الحوز.
وهل للمرتهن أن يعقد الإجارة بإذن الراهن فإن ذلك سائغ. وإن تولاها بغير إذن الراهن نطْقًا أو ظهر من الراهن ما يدل على الإذن في ذلك فإن المذهب على قولين: أحدهما: أن المرتهن لا يُمنع من ذلك وينفذ عقده فيه، وإن كان قد استحب عبد الملك ابن الماجشون مطالعة الراهن إذا كان حاضرًا، فإن لم يطالعه المرتهن نفِّذ عقدُه.
وهذا الاختلاف راجع إلى ما يتضمنه عقد الرهن، فهل يتضمن ذلك إذن الراهن للمرتهن في عقد الإجارة لكونه يكره في العادة تعطيل رَبْعه، واستقلال (4) عبده، ويعلم أنه محجور عليه، بالتصرف فيه، لحق المرتهن، فإن ذلك يقتضي إذنه للمرتهن في عقد الإجارة. أو يكون عقد الرهن لا يتضمن ذلك، والأصل أن منافع الرهن باقية على ملك الراهن، ومن له ملك فلا ينفذ عقدُ غيره فيه من غير إذنه، وإن كانت منافع الرهن (5)، كفا لا ينفذ عقد المرتهن في بيع رقبة الرهن لما كانت لم تنتقل عن ملك الراهن. وإذا قلنا: أن المرتهن لا يمكن من
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: رهنه.
(2) هكذا, ولا يصح الكلام إلا بحذف: المرتهن.
(3) هكذا, ولعل الصواب: الحوْز.
(4) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: واستغلال.
(5) هكذا ولعل الصواب إضافة: له.

(3/ 2/446)


عقد إجارة الرباع والعبيد إلا بإذن الراهن فأبْقى الرهن معطلًا، والربع خاليًا، فإن قلنا: إن ذلك له بغير إذن الراهن، ولا مطالعة، وكان الراهن يرى الرهن خاليًا ولم يُنكِر ذلك حتى صار كالراضي بتعطيل الرهن، فإن المرتهن لا يختلف أيضًا عن هؤلاء في كونه غير ضامن لقيمة ما عطل من غلة الربع. وإن كان الراهن لا علْم عندهْ بذلك والدار المرهونة مما الغالب كونها لا تبقى معطلة فإن المذهب على قولين: قال عبد الملك: المرتهن يضمن قيمة المنافع التي عطلها. وقال أصبغ: لا يضمنها، كما لو وكل وكيلًا على كراء ربعه فلم يفعل، فإن الوكيل لا يضمن.
وهذا الذي احتج به أصبغ قد يخالَف فيه. والخلاف مبني على كون الوكيل ممكَّنًا من عزْلة نفسَه عن الوكالة، مع غيبة الموكل، وقد قدمنا ما قيل في ذلك، وما وقع فيه من الاضطراب في كتاب الوكالات. ثم يلتفت في هذا إلى أصل آخر، وهو: أن من غصب دارًا وسكنها أو اغتلها، فإنه يردّ الغلة، في المشهور من المذهب. ولو أبقاها معطلة لم يرد العلةَ، وقيمةَ المنافع التي منع ربَّها منها، في المشهور من المذهب فهذا تحقيق القول في هذا الاختلاف في هذه المسألة.
وقد اضطرب المذهب في إجبار الراهن على استرمام الربع المرهون إذا حدث فيه ما يحتاج إلى الاسترمام والإصلاح، فقال ابن القاسم في العتبية: إن ذلك مما يلزم الراهن، ويجبر عليه إن أباه. وظاهر المدونة: أنه لا يجبر على ذلك إن أباه, لأنه (قد أدى) (1) الراهن من إصلاح البئر إذا تهدمت، وقد ارتهن زرعًا أو نخلًا، فإن المرتهن إنْ أنفق في إصلاحها كان له الرجوع بذلك فيما حَي بإصلاحه واسترمامه من زرع أو رقاب نخل فيباع له من ذلك مقدرا ما أنفق فيه، وما فضل أخَذَه من دينه. فكأن من ذهب إلى الجبْر على الإصلاح، والقضية بذلك على الراهن فإنه يراه كالإنفاق على العبد, لأنه لو لم ينفق على
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: إذا أَبي.

(3/ 2/447)


عبده المرهون لهلك العبد، وبهلاكه يبطل حق المرتهن في التوثُق بدينه، فعلى الراهن إتمام التوثق بالرهن الذي دخل معه المرتهن عليه. وكأن من رأى أنه لا يجبر على ذلك يقول: لو مات العبد المرهون لم يكن على الراهن أن يُخْلفه، أو يأتي برهن آخر بدلَه, لأنه إنما التزم رهنَ عيْن، فإذا هلكتْ العين بأمر من الله سبحانه لم يلزمه أن يأتي ببدلها, لأن ذلك لم يلتزمه في أصل عقد الرهن.
وكذلك الاسترمام لِما خُرِم من الربْع كأنه تعويض عن بدل عيْن هلكت من الله سبحانه، وإن حدث بعد عقد الرهن (1) لم يدخل عليه الراهن، بخلاف نفقة العبد فإنه يعلم حين عقد الرهن أنه لابذ لعبده من الإنفاق، فكأنه دخل على التزام ذلك، وكذلك ينبغي لو أرتهن تخلا، وشأنُها أن تُسْقى، ولابد للراهن من سقيها، فإن الراهن يُجبر على سقيها كنفقة العبد، بخلاف ما يحدث في الرهن بعوإنعقاد وحيازة المرتهن. والتحقحق في ذلك الالتفات إلى العوائد التي دخل عليها الراهن والمرتهنُ فيما قارن العقد، وفيما حدث بعده.
وقد وقع في الروايات أن الرهن إذا كان من الأثقال، التي تححّاج إلى اختزان لا بد فيه من إجارة، فإن ذلك يلزم الراهنَ. وكأنه لما قارن العقد الحاجةُ إليه فكأن الراهن التزمه في حين العقد.
وقد اختلف أيضًا في الرهن إذا احتيج إلى بيعه، ولا يتوصل إلى بيعه إلا بإجارة سمسار فقال ابن القاسم: إجارة السمسار على المرتهن. وروى ذلك عنه عيسى وأصبغ، وخالفاه فيما روياه فقالا: بل إجارة السمسار على الراهن.
فكأن ابن القاسبم رأى أن بيع الرهن لمنفعة المرتهن وتناول حقه منه، ولا منفعة فيه للراهن، فكانت أجرة ذلك لمن انتفع. بخدمة السمسار، والذي انتفع به هو المرتهن دون الراهن.
ومن خالفه في ذلك رأى أن على الراهن قضاء الدين الذي عليه، فعليه أن يصيّر الدين من جنس الدين الذي عليه، ولا يُنال ذلك إلا ببيعه، فكان ذلك نيابة
__________
(1) هكذا ولعل الصوإب إضافة: وَ.

(3/ 2/448)


عما يلزمه من قضاء الدين، فكانت أجرة ذلك عليه دون المرتهن.
وكذلك ذكر ابن عبدوس من هذا المعنى، في كتاب تصير المسائل، اختلافا في العبد إذا كان رهْنًا فأبق، فطلبه مَنْ شأنُه طلب الأبّاق بجعل، فأتى به وقد استحق الجُعل، فعلى من يكون هذا الجعل؟ فذكر ابن سحنون قال: إن هذا الجعل على المرتهن. فكأنه رأى ما فعله من طلبه وأتى به يختص بمنفعة المرتهِن، فجَعَل إجارة ذلك عليه، كما قلنا في جُعل السمسار في أحد القولين.
وذكر عن غير ابن سحنون من أتى بالآبق وهو مستحق لأخذ الجعل عليه، فإن هذا الجعل على الراهن, لأن فيه تثبيتَ ملك الراهن وعودَ عين ما ملك إلى يديه إذا قضى الدينَ الذي عليه.
وقد قررنا أن نفقة العبد على الراهن، كما أن غلته له، ولكن يبقى النظر في وجهين اثنين أحدهما: أن الراهن إذا لم ينفق على هذا العبد، وأنفق عليه المرتهن، هل لكون نفقة المرتهن متعلقة بيمن (1) العبد لا (بدمته الرهن) (2) فيستوفي من عين العبد فإن فضل من ثمن العبد شيء كان ملكًا للراهن، فإن قصر ثمن العبد عن الإنفاق لم يرجع على الراهن بشيء. أو يكون الإنفاق متعلقًا بذمة الراهن، هذا لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يكون المرتهن إنما أنفق على العبد بأمر الراهن، أو أنفق عليه بغير أمر الراهن ولا إذنه في ذلك.
فإن كان أنفق عليه بأمر الراهن، فإن ذلك يكون في ذمة الراهن يتبعه به المرتهن. ولو هلك الراهن لطلبت ذمته بالنفقة, لأنه لَمَّا أمر المرتهنَ بالإنفاق فكانه تسلّف ما أمره بإنفاقه، والسلف متعلق بالذمة.
وأما إن كان الإنفاق من المرتهن بغير إذن الراهن، ففيه قولان: ذهب ابن القاسم إلى أنه يتعلق بذمة الراهن، كما لو كان الإنفاق بأمر الراهن. وذهب
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: بعيْن.
(2) هكذا ولعل الصواب: بذمة الراهن.

(3/ 2/449)


أشهب إلى أنه لا يتعلق بذمة الراهن بل بعين الرهن، قياسًا على من أنفق على ضالّة وجدها، فإن الإنفاق يكون في عين الضالة تباع فيه، وإن قصر ثمنها على الإنفاق لم يُتبَع به الراهن (1).
وفرق ابن القاسم بينهما لأجل أن الضالة لم يكن من ربها إذن في الإنفاق ولا فعل يدل على الإذن، فلهذا تعلق الإنفاق بعينها لا بذمة ربها، وأما الرهن فإن الراهن لما دفعه للمرتهن، وقد علم أنه لا بد من النفقة عليه، وهي واجبة عليه دون المرتهن، صار ذلك كالإذن للمرتهن في الإنفاق.
ولو كان رب الرهن غائبًا فأنفق علبه المرتهن (فأخذ يتبعه) (2) بالإنفاق.
وقال بعض الأشياخ يتبعه بالإنفاق بالغًا ما بلغ. ولو زاد الإنفاق على ثمن الرهن إذا بيع لكان من حق المرتهن أن يطلب بما بقي من الإنفاق.
وخالف في ذلك بعضْ الأشياخ، ورأى أنْ لا مطالبة له على الراهن بما زاد من الإنفاق على ثمن الرهن، وكأنه قدّر أن من سوء النظر للغائب أن يُنفق على عبده أكثر من ثمنه، بل تحسين النظر له أن يُدْفَع إلى القاضي فيبيع العبد لئلا تتعلق بذمة مالِكه زيادةٌ على ثمنه. وكأن الراهنَ إنما أَذِن له في الإنفاق ما لم يجاوز قيمة العبد.
وأما الكلام على الوجه الثاني وهو كون المنفق أوْلى بهذا الرهن من غرماء الراهن إن فُلِس الراهن فإنه قد وقع في المدونة، في هذا الوجه، كلام وقع فيه اضطراب بين الأشياخ. وذلك أنه إذا قال الراهن للمرتهن: أنفقْ على الرهن، ولم يَزِدْ على هذا اللفظ شيئًا، فإن المرتَهن لكون نفقته في ذمة الراهن، ولا يكون أحق بما فضل عن دينه الذي أحدثه ابراهن من غرماء الراهن.
وإن كان زاد على هذا اللفظ زيادةً، وهي التصريح يكون الرهن مرهونًا
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: صاحبُها.
(2) هكذا ولعل الصواب: فإنّه لا يتبعه.

(3/ 2/450)


بالإنفاق، كما هو مرهون بالدين، فقال الراهن للمرتهن: أنفق على الرهن، والرهن رهن بنفقتك، فإنه يكون أحق من غرماء الراهن بجميع الرهن حتى يستوفيَ دينه، ثم يستوفيَ نفقته. فما فضل بعد ذلك للغرماء. وكأنه تسلّف مالًا ينفقه على العبد ودُفِع العبد به رهنًا، أو ما فضل عن الدين الذي أخذ المرتهنُ الرهنَ به.
وإن لم تكن الزيادة بهذا اللفظ ولكن قال: انفق على الرهن على أنّ نفقتك في الرهن، فإنه قال في المدونة، فمن أنفق على الرهن، بأمر الراهن، أنَّ له حبْسَه بالإنفاق. ولا يكون أحقَّ به منْ الغرماء إذا قال. أنفق ونفقتك في الرهن إلى (1) أن يقول: أنفق والرهن رهن بنفقتك. وظاهر الكتاب على ما نقلناه: معناه التفرقة بين اللفظين. وذهب ابن شبلون من الأشياخ المتقدمين، إلى التفرقة بين اللفظين، فلا يكون أحق إذا قال: أنفق ونفقتك في الرهن، ويكون أحقَّ إذا قال أنفق والرهن رهن بنفقتك. وإلى هذا مال بعض أشياخي، ورأى أن معنى هذا اللفظ وهو قوله: أنفق ونفقتك في الرهن أن ذلك (2) إمساكه وبيعه لتأخذ إنفاقك من ثمنه، فهو كمن عليه دين فدفع إلى من له الدين سلعة ليبيعها ويقبض من ثمنها. ولو قام الغرماء قبل بيعها لم يكن أحقَّ منهم بثمنها، لأن (دينه من جنس ثمنها لم يضرّ) (3) في يديه جنس دينه، ولا يكون أحق من الغرماء حتى يصبر في يديه جنس دينه. لكن لو صرح في هذا القسم بأن يقول: ولا يكون الإنفاق دينًا في ذمتي، لكان ها هنا أحق من الغرماء, لأن النفقة تعلقت بعين الرهن لا بالذمة.
وذهب بعض الأشياخ إلى أنه لا فرق بين اللفظين، وحَمَل اللفظ في المدونة على أن فيه تقدمًا تأخيرًا، وإن مراده أنه أحق، سواء قال له: أنفق
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: إلا.
(2) هكذا ولعل الصواب: لك.
(3) هكذا ولعل الصواب: دينه [ليس] من جنس ثمنها [فـ] لَمْ يصر.

(3/ 2/451)


ونفقتك في الرهن، أو قال له: أنفق والرهن رهن بنفقك، فإن معنى العبارتين أن الإنفاق يكون به الرهن رهنًا كما هو رهن بالدين.
وقد وقع في المجموعة والموازية ما يؤكد تأويل هؤلاء، فقال: إن الإنفاق متعلق بذمة الراهق، أنفق بأمره أو بغير أمره، وللمرتهن حيسه حتى يأخذ إنفاقه، ولا يكون أحق من الغرماء إلا أن يقول: أنفق والرهن رهن ينفعك، بخلاف الضالة، لكونه قادرًا في الرهن على أن يرفع إلى الحاكم ليبيع الرهن، أو يقول له: أنفق ونفقتك في الرهن، فيكون أحق به من الغرماء. ولو كان الإنفاق بغير إذن الراهن فقد قدمنا أن أشهب يراه كالضالة يكون أحق بما أنفق على الضالة من صاحبها, ولا يكون عند ابن القاسم أحق بذلك ميت الغرماء, لأنا قدمنا عنه أنه يرى أن الإنفاق متعلق بذمة الراهن لا بعين الرهن، فلا يكون أحق من الغرماء. وذكر في المدونة أن له حبس الرهن إذا كان الإنفاق بأمر الراهن حتى يستوفي نفقته، ولم يصرح بذلك إذا كان الإنفاق بغير أمر الراهن وكأنه سلَف استقرّ في ذمته لا بإذن في حبْس شيء من ماله، وإن كان بأمْره فكأنه أذن له في حبس الرهن حتى يستوفي نفقته، كما مثلناه بمن عليه دين فقال لمن له الدين: خذ هذه السلعة فبعها واستوف دينك من ثمنها، فإنه، وإن كان له حبسها, ولا يكون أحق من الغرماء بها قبل بيعها. وظاهر الموازية والمجموعة أنّ له حبس الرهن بما أنفق ولم يشترط كون الإنفاق بإذن الراهن. ومما يلحق بما نحن فيه أن من ارتهن زرعًا، وامتنع المرتهن من الإنفاق على بئره، فلما انقطع ماؤها، وتهدمت، وتسفف الراهن مالًا أنفقه على البئر حتى يسقي، ولو لم يسق لهلك الزرع: أن المسلفَ للمال أحق بالزرع ممن هو في يديه رهن, لأنه بماله حي الزرع، ولولا ماله الذي أسلفه لم يحصل للمرتهن من الزرع منفعة.
وحمل بعض الأشياخ هذه الرواية على أن المراد بها أن المسلف لهذا المال أخبر الذي أسلفه أنه ينفق ما تسلفه منه على إحياء هذا الزرع، ويكون الزرع بما تسلف رهنًا، وهذا يلاحظ ما نحن فيه من النفقة على العبد إنما حي بالإنفاق عليه، فلهذا أوردنا هذه الرواية.

(3/ 2/452)


والجواب عن السؤال السادس (1) أن يقال:
ذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب ها هنا حكم الإقرار بقبض الرهن، وكان الترتيب عندنا يقتضي أن يلحقه بالفصل المشتمل على أحكام الحيازة، ولكن أخرناه إلى حيث آخره.
وهي مسألة اختلاف بين فقهاء الأمصار.
فمذهبنا أن الحوز لا يكفي فيه ولا يثبت حكمه بمجرد إقرار الراهن أن المرتهن قد حازه عنه، وتصديق المرتهن له في ذلك إذا كان مما يُنْقل ويفتقر إلى مشاهدة فراغه من منافع الراهن، على حسب ما قدمنا تفصيله. وإنما ذهبنا إلى ذلك لأجل أن الأصل أخذ كل مُقرّ من الحائز في الأمر بإقراره في حقوق الخلق، ما لم يتعلق بإقراره مضرةٌ غير ميق أقرّ له بالحق، ويكون الإقرار مبطلًا لحق رجل غير من أقرّ له. وهاهنا لو اقتصرنا على مجرد إقرار الراهن بالقبض لأدّى ذلك إلى الاستغناء عن الإقباض ومعاينة الحوز. وقد قدمنا فيما سلف أن العلة في افتقار الرهن والهبات إلى الحيازات تصوّرُ التهمة في إبطال حقوق غير المقرّ (2) بأن يُؤْثِر غريمًا على سواه من الغرماء فيقول: كنتْ رهنته كذا وكذا، ولا يحاصّه الغرماء فيه، ويكون إقراره مبطلًا لحقهم في الديون التي لهم عليه.
وهذا يقتضي اشتراط ما يدفع هذه التهمة وما ذلك إلا معاينة الحيازة وشهادة البيّنة بها.
وأصل الشافعي اطّراح اتّهام الناس. والاضراب عن حماية الذرائع جَعَل مجردَ الإقرار كافيًا في صحة الحيازة، تغليبًا لحقّ المقرّ له، وإعراضًا عما يُتَّهم به في حق من لم يُقرّ له.
فإن قيل: هلا فصّلتم القول في هذا كما فصّلتموه في إقرار المريض
__________
(1) هذا السؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة ويمكن صياغته: ما حكم الإقرار بقبض الرهن؟
(2) هكذا, ولعل الصواب: المقرّ [له].

(3/ 2/453)


لوارث دون وارث، فأمضيتم الإقرار إذا تبيّنَ ارتفاع التهمة، مثلُ أن يقرّ لابن عمّه بدين في مرضه الذي مات فيه، وله ولد صغير، فإنّ هذا لم يختلف المذهب في صحة إقراره، ولو أضَرَّ الإقرار بولده (قبل المريض على طرف الحيازة وصار إلى الله سبحانه) (1) وهذه قرينة تدل على ارتفاع التهم، بخلاف الحي الصحيح ولهذا قبل مالك قول الجريح: إن فلانا هو جارحي، لما كان صائريم إلى الآخرة. ولا يتهم في قتل مسلم ظلمًا بخلاف دعواه في حال الصحة. وأيضًا فإن الإقرار بالرهن إقرار بعين قد استحقها الغرماء، وتعلق حقهم فيها، فليس له إبطال ما تعين فيه حقهم، وتعين حقهم فيه عند الفلس قد تأكّد حتى صار الغرماء مالكين لعين هذا الذي أقرّ به الميت مع كون ثبوت الدين في ذمة من أقرّ بهذا الرهن وإنه حوَّزه ثبَّت الدينَ، ولا يمنع من ثبوته في ذمته إقراره بأنه قد حوز الرهن، بخلاف الوارث الذي لم يثبت له الأصل الذي أقرّ به.
وقد اختلف قول مالك في إقرار من أحاط الدين بماله، هل يجوز أم لا؟ مع أن في إمضائه إبطال حق من سواه من الغرماء. لكن يُضعِف التهمة كونُه خلّف في ذمته دينًا يوجب عليه مطالبته لمن (2) أقرّ له بعد إحاطة الدين بماله. فلو رددناه الآن لم نرده في المستقبل إذا أيسر المقرّ.
هذا قصارى ما يظهر لي في التفرقة بين هذه الأصول المشهورة.

والجواب عن السؤال السابع (3) أن يقال:
أما الدين إذا أُخِذ دفعة واحدة على وجه واحد ودفع آخذه رهنًا به، فإن
__________
(1) هكذا، والكلام غير واضح
(2) هكذا, ولعل الصواب: مِمَنْ.
(3) هذا السؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة، ويمكن صياغته: ما حكم الرهن إذا قبض المرتهن بعض دينه؟

(3/ 2/454)


كان (1) جزء من الدين متعلق بجميع أجزاء الرهن، حتى لو تسلّف مائة دينار واشترى بها سلعة، ودفع المشتري أو السلف (2) رهنًا بهذه المائة دينار، ثم قضى منها تسعة وتسعين دينارًا، فإنه لا يمكّن من أخذ رهنه ولا من أخذ شيء منه، ولو قل حتى يقضي الدينار الذي بقي عليه.
وكان الأصل يسبق إلى النفس فيه أنه متى قضى جزءًا من الدين بطل ما يقابله من الرهن، ولكن المذهب على ما حكيناه. وبعض الأشياخ يرى أنه إنما عَدَل عن الأصل في هذا العادةُ جرتْ، واطراد الأمر في المتراهنين أن الراهن لا يأخذ من رهنه شيئًا إلا بعد كمال الدين الذي عليه.
ويمكن عندي أن يُلتفَت في هذا إلى طريقة أخرى سوى العادة، وهي أن الراهن لو كان كلّما قضى من الدين جزءًا استردّ من الرهن جزءًا في مقابلته، لأثّر هذا في الحيازة.
أمّا على القول بأن رهن الجزء المشاع لا يصح مع بقاء يد الراهن على جزء آخر، فإن هذا يؤكد ما حكيناه عن المذهب من كون الراهن يُمنع من أخذ شيء من الرهن، لئلا يفسُد الحوزُ، على (3) القول الآخر: إن ذلك لا يفسد الحوز وهو نافذ (4)، يلتفت إلى العادة التي أشار إليها بعض الأشياخ، وإلى المشقة في تبعيض الرهن حينًا بعد حين.
وأما لو أخذ الرهن بديون شتى، فإن المشهور من المذهب ما قلنا أيضًا من كون الرهن لا يؤخذ منه شيء إلا بعد قضاء جميعها. وقد حكى ابن شعبان أنه يستردّ من الرهن بقدر الدين الذي قضى، استمساكًا بالأصل الذي أشرنا إليه.
وقد اشتهر في المذهب فيمن أسلف رجلًا مائة دينار بغير رهن ثم أسلفه بعد
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: كُلَّ
(2) هكذا, ولعل الصواب: المتسَلّف.
(3) هكذا, ولعل الصواب: [و] على ...
(4) هكذا, ولعل الصواب: [و] يلتفت.

(3/ 2/455)


ذلك مائة أخرى على أن يدفع رهنًا بالمائة الثانية والمائة الأولى، فإن ذلك لا يجوز لكونه سلفًا جرّ منفعة، وإنما أسلف المائة الثانية لانتفاعه بأنه تولق في المائة الأولى بالرهن بعد أن كانت بغير رهن. فأما المائة الأولى فتبقى على ما كان (1) عليه بغير رهن, لأنه إنما دفع الرهن بها لمنفعته بالمائة الثانية. فإذا أبطلنا السلف في المائة الثانية ومنعْناه لم يصح في المائة الأولى رهنًا. لكن اختلف قول اين القاسم في هذا الرهن هل يبقى جميعهُ رهنًا بالمائة الثانية حتى يردها قابضها، أو يُفَضّ الرهن على المائتين جميعًا، فيبطل نصفه وهو ما قابل
المائة الأولى، ويبقى نصفه رهنًا بالمائة الثانية. وهكذا ذكر في المدونة، وذكر في غيرها أن جميع الرهن يبقى رهنًا بالمائة الثانية. وهذا الذي اختار ابن المواز في كتابه بعد أن ذكر المذهب الآخر، وأشار إلى أن ذلك كأخذه رهنًا بعبدين، فاستُحِق أحدهما أو رده أحدٌ بعيب فإن جميع العبد (2) يبقر رهنًا بالعبد الآخر.
وبعض أشياخي حاول أخذ الخلاف فيما ذكرناه من استحقاق أحد العبدين، ويراه جاريًا على القولين المتقدمين.
وكذلك لو تزوج امرأة بمائة دينار، ثم طلقها قبل الدخول وقد كان دفع إليها رهنًا بالمائة، فسقط بالطلاق نصفها وهي الخمسون دينارًا، فإن الرهن يجري على القولين المذكورين، هل يبقى جميعه رهنًا بالخمسين الثانية بعد الطلاق، أو يسقطى نصف الرهن بسقوط نصف الصداق؟
وهذا الذي أجراه على القولين ينبغي، عندي، أن يلتفت إلى الاختلاف المشهور في الصداق: هل وجب كله بالعقد، فيحسن ها هنا بقاء جميع الرهن رهنًا بالخمسين الثانية، وإن قلنا: إن نصفه مترقَّب، ولا يثبت ويستقر إلا بالدخول حسن ها هنا الالتفات إلى الخلاف الذي ذكرناه لاختلاف حكم
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: كانت.
(2) هكذا, ولعل الصواب: الدين.

(3/ 2/456)


الخمسين الأولى والخمسين الثانية كما اختلف الحكم فيمن أسلف مائة بلا رهن، ثم أسلف مائة أخرى وأخذ رهنًا بالمائتين، لكون حكم المائتين قد اختلف، وقد قالوا: لو كانت الزوجة أمة، فأخذ السيد صداقها فأكله، ثم أعمقها قبل الدخول بها, ولا مال له، فإن عتقها ماضٍ، وهذا بناء على أن الصداق وجب كله بالعقد، فكان الزوج إنما وجب له الرجوع بنصف الصداق بعد أن نفذ العتق لا يؤثر في العتق. ولو قيل: إن نصفه مترقب لأمكن أن يقال: فإن سقوط نصف الصداق، ووجوب ارتجاعه من السيد يؤثّر، إلا أن يقال بأن الزوج لم يكن قادرًا على رد العتق حين أوقعه السيد، على كل مذهب، في الصداق هل جميعه مترقب أو نصفه، فإذا لم يكن قادرًا على رد العتق حين وقوعه، صار إيقاعه الطلاق مع علمه بذلك كالراضي بإجازة العتق وإتْباع ذمة السيد، وهذا يزاد بسطًا في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثامن (1) أن يقال:
قد تقدم ذكرنا للحديث الذي نهي فيه عن غلق الرهن، وأن مالكًا في الموطأ رواه عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن" (2) والمرادُ بهذا النهي.
وهذا الحديث، وإن كان مرسلًا، فقد أسند في غيره بزيادة في لفظه، فقال: عن ابن المسيب عن أبي هريرة وإنّ تأوُّل هذا الحديث مما تنازع فيه العلماء.
فأمّا مالك فإنه بسط في موطئه بأن يرهن رجل عبَد رجل رهنًا في دين يكون له عليه إلى أجل على أن الراهن إنْ لم يأت بفكاك الرهن ويقضي الدينَ عند الأجل وإلا كان الرهن يتملكه المرتهن بالدين الذي له على الراهن.
__________
(1) هذا السؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة، ويمكن صياغته: ما المراد بغلق الرهن.
(2) سبق تخريجه.

(3/ 2/457)


وهذا الذي فسره به لا شك في أنْ الأصول تقتضي تحريمه لأن المرتهن الذي أخذ الرهن عن دنانير أسلفها أو عن ثمن سلعة باعها بهذا الشرط لا يدري ما الذي يحصل له: هل دينه يُعطاه عند حلول الأجل، فيردّ الرهن إلى راهنه، أو يتخلف الراهن عن قضاء الدين عند الأجل، ويكون الرهن مِلكًا للمرتهن وعِوَض الدين الذي وجب له على الراهن من سلف أو ثمن سلعة لا يدري هل يكون الدين الذي خرج من يده سلفًا عند قابضه أو ثمنًا للرهن الذي دفعه الراهن، وهذا لاخفاء بتحريمه لما فيه من الغرر، وكون ما دفعه تارة يكون سلفًا وتارة يكون بيعًا. وفيه معنى آخر من فسخ الدين في الدين لأنه كمن أخذ عن دين سلعة لم يتعجل تملكها وقبضها.
وأما أبو عبيد فإنه ذكر أن فيه تأويلين:
أحدهما أن الجاهلية كانت إذا لم يأت بفكاك الرهن عند أجله يملك الرهن، وهذا أيضًا هو تأويل مالك، ولكن جَعك هذا الفعل يكون مشترَطًا، وأبو عبيد جعله عادة في الجاهلية من غير أشتراط.
والتأويل الثاني الذي ذكره أبو عبيد أن المراد أن الدين لا يذهب ولا يتلف الرهن كما قال أبو حنيفة أن الراهن إذا ضاع ذهب الدين، على التفصيل الذي حكيناه عنه فيما سلف.
وقال الشافعي تأويله أن الرهن لا يكون على صفة لا يمكن فكاكه، ولكنهم استشهدوا بقول قائلهم:

وفارَقتْكَ برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلِقًا

والمراد: أن الرهن ذهب بغير بدل، وكذا قلب هذا الشاعر أخذتْه وذهبتْ به من غير بدل منه، أو أخذته أخذًا لا يمكن انتزاع القلب منها، فأوقع هذا وتسلف رجل من رجل مالًا إلى أجل أو اشترى منه سلعة بثمن إلى أجل على أن

(3/ 2/458)


أعطاه رهنًا إن لم يفتكه منه عند الأجل وإلا ملك الرهن من هو في يديه ملكًا مؤبدًا، فإن هذا يفسخ إذا وقع فإن كان الدين سلفًا فسخ هذا السلف ورد الرهن، ورد المتسلف ما تسلف إلى الأجل الذي تسلف إليه, لأن دافع السلف أمنًا (1) رضي بالتأخير بشرط أن يأخذ ثقة بدينه، فإذا بطلت هذه الوثيقة لم يلزمه بقاء الدين إلى أجله من غير ثقة تبقى في يديه يأخذه منها دينه.
وإذا كان الدين الذي أخذ ثمن سلعة باعها ودفع بثمنها رهنًا بهذا الشرط، فإن البيع ينفسخ أيضًا لَأن بائع السلعة أخرجها من يده ولا يرى (2) ما أخذه عوض سلعته هل الثمن الذي باعها به أو السلعة المرتهنة.
وإذا فسخ الرهن وفسخ البيع رجع إلى كل واحد ما كان على ملكه، وله حبسمعتى يرجع إليه ما استحقه من الدين على الراهن، وهو السلعة، إن لم تفت، أو قيمتها إن فاتت. ويكون بذلك أحقَّ من الغرماء إن فلّس دافع الرهن.
وهذا إذا كان اشتراط هذا الرهن حين عقد السلف أو حين عقد البيع لأن دافع هذا الدين الذي هو السلف أن (3) السلعة المبيعة لم يخرجه من يده إلا بعد ثقته برهن حصل عنده، فلهذا جعلناه أحق به من غيره من غرماء الراهن. وأما لو كان دفع هذا الرهن تطوعًا من الراهن من غير شرط كان في أصل السلف وفي أصل البيع، فإنه إنما ينفسخ الرهن خاصّة ويبقى السلف صحيحًا لا يطالب إلى أجله. وكذلك ثمن السلعة يبقى صحيحًا لا مطالبة به إلا إلى أجله. وإنما وقع الفسخ في الرهن خاصة لأن دافعه تطوع به على وجه لا يجوز، وهو أنه دفع هذا الرهن على أنه يرجع إليه بعيْنه إن أفتكه، أو يُملَك عليه ملكًا مَؤبَّدًا إن لم يفتكه عوضًا عما عليه من الدين.
وإنما لم يكن أحق بهذا الرهن من الغرماء عند الفلس أو الموت لأنه لم
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: إنما.
(2) هكذا, ولعل الصواب: يدري.
(3) هكذا, ولعل الصو اب: أوْ.

(3/ 2/459)


يُخرِج ما أخرج من يده بسبب هذا الرهن ولا لثقته به فيكون أحق به من غيره.
وهكذا قال ابن حبيب في الرهبان الفاسدة: إنها إذا كانت بعد العقود لا يكون قابضها أحق بها من الغرماء لأنه لم يخرج من يده بسببها شيئًا، وقد قال في المدونة، في كتاب الحمالة، فيمن دفع لرجل مافة دينار إلى شهر من غير رهن أخده، ثم دفع إليه رهنًا على أن يؤخره بها شهرًا آخر: إن ذلك لا يجوز, لأن التأخير سلف، والتطوع بالرهن منفعة حصلت لمؤخر الدين، وسلف جر منفعة لا يجوز. وقال غيره: إنه لا يكون أحق بهذا الرهن من الغرماء. ذكر ذلك قولًا مطلقًا. وقال في الموازية، قولًا مفيدًا: إنه لا يكون أحق به من الغرماء إلا أن يدخل في الشهر الثاني الذي أخده إليه بسبب الرهن فيكون أحْق بالرهن حينئذ، لأنه كمن أخرج من يده شيئًا بسبب الرهن.
وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا الذي في الموازية خلافٌ لما في المدونة، وأن الذي في الموازية أوْلى للعلة التي ذكرناها.
واعلم أن هذا الرهن، إن كان فاسدًا، فإنه يجري في الضمان مجرى الرهبان "الصحيحة" فيضمنه قابضه (1) أن يجل الأجل، إن كان مما يغاب عليه، ولم تقم بينة بضياعه، على أصل ابن القاسم، ولا يضمنه إذا قامت البينة، وكذلك لا يضمنه إذا كان مما لا يغاب عليه، وإنما هذا لأنه قبل الأجل مقبوض مَحوز على جهة الرهن، لا على جهة الملك، فإذا حل الأجلِ تغيّر القصد بالحوز والنية فيه، فحازه قابضه على أنه ملك له، وثمنه الذي دَفع وقبضه على جهة الملك، وإن كان فاسدًا، فيضمنه حينئذ، كان مما يغاب عليه أوْ لا يغاب عليه، شهدت بتلفه بينة أو لم تشهد. ويجري ذلك مجرى البيوع إذا قُبِضت.
هذا المشهور من المذهب.
وإن فات هذا الرهن بعد حلول الأجل غرم قيمته يوم حل الأجل، لأنه حينئذ قابض له، وتقويم السلعة المبيعة بيعًا فاسدًا إنما يعتبر فيه يوم القبض.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [إلى] أن ...

(3/ 2/460)


هذا المشهور من المذهب في هذه المسألة. وقد ذكر إسماعيل القاضي في المبسوط عن ابن محمد الحكم أنه قال: إنما يضمن هذا الرهنَ قابضُه بعد الأجل يوم أفاته، بإعتاق في العبد، أو بناء في الربع، أو هدم، فيومئذ يُعتبر فيه القيمة.
ورآه بخلاف أحكام البيوع، في المشهور من المذهب عندنا، وما ذاك إلا أن أصل قبضه على معنى الرهبان لا على معنى البياعات الفاسدة. وقد علم أنه قبل حلول الأجل إنما يُضمن ضمان الرهبان، فكذلك بعد الأجل لا تجب فيه القيمة إلا حين أفاته قابضه، فيصير كالرهن إنما يغرم قيمة المرتهَن يوم أفاته، فكأنه رأى أن تبديل النية وتغيُّرها فيما قبْل الأجل، وبعد الأجل لا يجري مجرى القبض الحسّي في البياعات الفاسدة. هذا الذي يمكن عندي أن يُوَجَّهَ به ما قال.
وقد ذكر ابن المواز أن المشهور من المذهب في هذه المسألة أنه يُضمن بقيمته يوم حل الأجل. قال: وقد قيل: يضمن قيمته يوم الفوت.
ولكنه لم يصرح بحقيقة الفوت، هل من فعل قابض هذا الرهن إذا هو فوَّت الرهن (1) من قبل الله سبحانه. فإن كان أراد أن الفوت من قبل قابض هذا الرهن، فهو الذي حكيناه عن المبسوط. وقد ذكر ابن عبدوس عن ابن عبد الحكم أنه يغرم قيمته يوم الفوت، وقيل: يوم حل الأجل. فإن كان هذا الرهن المشترَط فيه هذا الشرط الفاسد موقوفًا على يد عدل، وحل الأجل وهو في يديه، فإن المذهب على قولين، هل يضمنه دافع الدين يوم حل الأجل أم لا؟ فكأن من رأى أنه لا يضمنه دافع الدين عند حلول الأجل إذا كان الرهن في يد عدل قدّر أنه لم يحصل لدافع الدين إلا إذنُ مالك الرهن لدافع الدين بقبضه من يد العدل، وإذنُه كلا إذن لمّا أَذِن بما لا يجوز، وأمر بما نهى الله سبحانه عنه، فصار دافع الدين لم يحصل منه القبض، وإنما حصل منه التمكين من القبض، وهو تمكين لا يسوغ، وما لا يسوغ فكالعدم، فلهذا لا يضمنه. بخلاف إذا حل
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [أو] مِنْ قِبَل ...

(3/ 2/461)


الأجل، وهو في يده، فإن تجدّد نية أخرى تصيّره كمن استأنف قبضا لمبيع بيعًا فاسدًا، ولهذا قال بعض الأشياخ: إن مذهب ابن القاسم في البيع الفاسد أن مشتريه لا يضمنه ما دام في يد البائع، ولو كان البائع مكّنه منه فإن تمكينه لا حكم له لما كان منهيًّا عنه. فلا يلزمه على هذا أن يقول في هذه المسألة: إن الرهن إذا كان على يد عدل فإنه لا يضمنه المرتهن بحلول الأجل, لأن الذي حكيناه عن ابن القاسم، في تمكين البائع سلعتَه بيعًا فاسدًا، إنما حصل منه التمكين والسلعة في يد بائعها، فكان بائعها أحق بضمانها، وفي مسألة الرهن إذا كان على يد عدل مكّن الراهن من الرهن المبيع بيعًا فاسدًا، فيحسن ها هنا أن يقول: إن مشتريه شراء فاسدًا يضمنه بالتمكين، لما لم يكن هذا التمكن (1) منه في يد بائعه، وكأن الأجل، لما حل، صار هذا العدل وكيلًا للمرتهن خاصة، ويد الوكيل كيد موكّله، ولو قبضه مشتريه لضمنه، وكانت قيمته يوم القبض، وكذلك إذا قبضه وكيله.

قال الفقيه أبو عبد الوهاب رحمه تعالى ورضي عنه:
وإذا حل الحق، (2) وتعذر أخذه من الغريم باعه الوكيل على المرتهن، واستوفى المرتهن حقه من ثمنه، من كير حاجة إلى إذن حاكم.
ويجوز أن يكون المرتهن وكيلًا في بيعه، وليس للراهن فسخ الوكالة. فإن لم يكن له وكيل (3) فإن المرتهن يُثبِت حقَّه ورهنه (4) عند الحاكم.

قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه:
يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة، منها أن يقال:
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: المُتَمَكَّنُ.
(2) في المغربية: أجَله.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وكيلًا.
(4) في المغربية: يثبت حقه عند الحاكم وهنه. وفي الغاني: ويرهنه.

(3/ 2/462)


1 - ما حكم وكالة الراهن المرتهِن على بيع الرهن أو وكالته لعدلٍ وُقف الرهن على يديه؟
2 - وهل لكون العهدة على العدل إذا باعه؟
3 - وممّن يكون ضمان المشترَى إذا تلف في يد العدل؟
4 - وهل يجوز اشتراط منفعة الرهن؟
5 - ما هو الحكم في تسليم الرهن لأحدهما قبل المفاصلة (1).

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
قد تقرر في أصل الشرع أن مِلك الإنسان لا يباع عليه إلا بعد ثبوت سبب يوجب بيعَه عليه بغير اختياره. والذي تعلق حقه بالرهن توثُّقًا به ليستوفي دينَه منه لم يمْلِك بذلك عيْن الرهن فيكونَ له بيعه، وإنما ملك استيفاء دينه، وبالإجماع إذا فكّ الراهن الرهن، ودفع الدين الذي عليه لمن استحق التوثق بالرهن، فإنه يأخذ رهنه، ولا يمْنع منه. فإذا كان الأمر كذلك، وحلّ أجل الدين، وكان الراهن حاضرًا ولم يوكل أحدًا بحكم بيعه، فلا خفاء بأن مطالعته واستئذانه في البيع واجب، فهو حق من حقوقه لجواز أن يَشخ على خروج الرهن من يديه ويَدْفع مِنْ عنده ما هو رهن به، أو يتسلف عليه من رجل آخر ما يفك الرهن به، فإن طالعه على ذلك، ولم يُفكَّ الرهن أو أظهر العجز عن فكه، أمِر ببيعه وهو بيد المرتهن، أو بيد العدل، ويمنع من رجوعه إليه. فإن لذَ وامتنع باعه القاضي عليه. ولم (2) يكن حاضرًا لافتقر من بيده الرهن إلى مطالعة الحاكم، إلا أن لكون مطالعة الحاكم مما يتعذر ويشُق فإنه إنْ تولّى البيع، وأبدى العذر، نفذ بيعه، على ظاهر ما قال أشهب. ولكن المختار أن يحضر
__________
(1) سقط نص السؤال: وهذا ما يمكن فهمه من الجواب المطول.
(2) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [لو] لم ...

(3/ 2/463)


لذلك من العدول مما نفى (1) عنه تهمة الخيانة في الثمن، أو النقص في الاجتهاد. وأسقط أشهب، فيما رواه عن مالك، عنه المطالعة في رهن يخشى فساده إن أبْقي للمطالعة.
فإن وكّل الراهن وكيلًا على البيع في أصل الرهن، فلا يخلو أن يكون هذا الوكيل هو العدل الذي تراضيا بوقف الرهن على يديه، أو هو المرتهن نفسه فإن كان الوكيل على بيع الرهن هو العدل الموقوف ذلك على يديه، فإن ذلك جائز عند فقهاء الأمصار. وإن كان الوكيل هو المرتهن، فقال ابن القصار وغيره من البغداديين: يجوز ذلك عند مالك رضي الله عنه، وإليه صار غيره من البغداديين، وهو مذهب أبي حنيفة.
وذهب الشافعي إلى منع كون المرتهن وكيلًا على البيع، ولم يُجز اشتراط ذلك.
وقد روي عن مالك أنه لم يُبح للمرتهن بيع هذا الرهن الذي جعل بيعه إليه إلا بعد مطالعة الحاكم إن لم يرض الراهن بالوفاء بالشرط، وامتنع من ذلك، ولم يفرق بين كون الرهن له قدْر وبال، أو كونه حقيرًا لا قدر له ولا بال، ولا كونه بيد المرتهن أو بيد عدل. لكنه، في هذه الرواية, رأى أنه، وإن كان منهيًا عن ذلك، فإنه إذا باعه بنفسه من غير مطالعة وأخذ بموجب الشرط نُفِّذ بيعه. ورُوي ذلك عن ابن القاسم أيضًا أد ذلك إنما يجوز له في الرهبان المحتقَرة التي لا قدر لها ولا بال، وأمّا ما له قدر وبال من الرهبان فإنه يفتقر في بيعه إلى استئذان الحاكم وأمره به، فإن لم يفعل فإن بيعه يفسخ ما لم يفُتْ. واختلف قول ابن القاسم في فسخه، كاختلاف قول غيره، كما حكاه عنه، لكونه انفرد بأن قال عن نفسه: ما لم يفت، فإن فات كان فيه الأكثر من الثمن أو القيمة.
وقد ذكرنا أن البغداديين من أصحابنا أجازوا له الأخذ بهذا الشرط، وأن ينتفع من غير مطالعة، فصار المحتقَر من الرهبان يُنفَّذ البيع فيه دون اعتبار الفوات بغير خلاف عندنا، وإنما خالف فيه الشافعي، وما كان له قدر وبال من
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: ما يَنْفي.

(3/ 2/464)


الرهبان ففيه قولان: هل يفوت بالعقد (1) ولا يفوت بمجرد العقد، (ويعتبر فيه
الفوات مع المرتهن عن ذلك ابتداء إلا ما حكيناه عن أصحابنا البغداديين (2) ورأيت ابن القصار ما رواه عن مالك من جواز اشتراط كون المرتهن وكيلًا على البيع، على أنه إنما نهي عن ذلك استحبابًا، وقد ذكرنا عن الشافعي أن ظاهر مذهبه منع ذلك إيجابًا. ولعل ابن القصار لما رأى قول مالك: إنه يفتقر المرتهن إلى مطالعة الحاكم، فإن لم يفعل نفذ بيعه، اعتقد من هذا أن نفوذ البيع يدل على أن يمينه (3) على جهة الاستحباب.
ويمكن، عندي، أن يكون إنما نفذ البيع بمجرد العقد مراعاة للخلاف.
وقد حكينا عن أبي حنيفة أنه يجيز ذلك وقد وقع في كتاب البيوع النهي عن عقود، وأمضاها إذا عقدت، كما تقدم ذكره هناك.
وإذا تلخص ما ذكرناه من المذهب في جواز هذا الاشتراط أو النهي عنه، فهل للموكل أن يُسقط هذه الوكالة، ويعزل وكيله عنها؟
ذكر ابن القصار، فيمن وكل العدل الموقوف بيده الرهن على بيعه أن ليس ذلك من حقه، وذكر أنه رأى إسماعيل القاضي يشير إلى ذلك. وبعض أشياخي يرى أن البغداديين المجيزين لهذه الوكالة يمنعون الراهن من عزلة الوكيل، وأن مقتضى مذهب مالك وابن القصار، فيما حكيناه، فيما يمكن الراهن من عزلة هذا الوكيل. وذكر ابن القصار، في الرهن إذا كان موقوفًا على يد عدل، أن الراهن يُمنع من عزلة العدل عن وكالته على بيع الرهن عند الشافعي، وأن إسماعيل القاضي يشير إلى هذا، على حسب ما حكيناه عنه.
ولكن ذكر ذلك في العدل، ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون الرهن بيد عدل، واشترط أن للعدل بيعه، أو بيد المرتهن واشترط أن للمرتهن بيعه.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: أو.
(2) هكذا.
(3) هكذا, ولعل الصواب: نهْيَه.

(3/ 2/465)


واعلم أن نكتة الخلاف في هذه المسألة راجع إلى أن الأصل جواز هذه الوكالة، والوفاء بالشرط، كما ذكره ابن القصار عن مالك، وعن أبي حنيفة.
وإنما عدل الشافعي عن هذا الأصل إلى أنه رأى أن هذه الوكالة للمرتهن تشتمل معنيين متنافرين متضادين، فمعلوم من جهة العادة أن الراهن يحرص على الاستقصاء في بيع الرهن، والمطاولة في الاجتهاد والنداء عليه، والمرتهن يحرص على ضد ذلك مق سرعة بيعه ليأخذ حقه منه. وإذا كانت الوكالة تشتمل على معنيين متنافرين بطلت في نفسها. وقد ذكرنا عنه أنه يبيح هذا الشرط في العدل الموقوف على يديه الرهن: أن يجعل البيع إليه، وما ذاك إلا لزوال هذه العلة في العدل, لأنه لا غرض له في الاستعجال كغرض المرتهن، فلا يتهم في التقصير في غرض الراهن والاجتهاد فيه، بخلاف المرتهن، ألا ترى أن من وكّل وكيلًا على بيع سلعة فإنه يُمنع أن يشتريها لنفسه, لأنه يتُهم على أن يشتريها برخص، وصاحب السلعة يحب أن تباع له غالية، فلما تنافر قصدهما مُنع الوكيل من أن يشتري لنفسه. وأجاب ابن القصار عن هذا بأن الوكيل إذا اشترى لنفسه، وظهر أنه اجتهد وانتفت عنه التهمة، فإن شراعه ماضٍ.
وقد تكلما نحن في كتاب الوكالات على حكم شراء الوكيل لنفسه، وانفصل عما رآه الشافعي من تهمة المرتهن في هذا البيع بأن الراهن قد رضي بهذه التهمة. ودخل عليها، فلو وهبه الرهن لم يمنع من ذلك، فكيف إذا اتهمه بأن يحابي نفسه! ذلك أحرى أن يلزم رضاه به. وذكر أن هذا مثلُ قول الناس: رضي الخصمان وأبى القاضي.
فهذه النكتة التي عول عليها الشافعي، وإن عوَّل على أن هذه الوكالة فيها خطر لنقلتها (1) يكون الراهن لم يأت عند الأجل بعد (2) الرهن، فلمن بيده الرهن بيعه والخطر لا يجوز. قيل له: فإن الوصية جائزة بشرط أن يموت
__________
(1) هكذا.
(2) هكذا, ولعل الصواب: بثمن.

(3/ 2/466)


الموصي، ولا يُدْرى متى يموت.
وأمّا ما حكيناه عن مالك وابن القاسم من افتقار هذا الوكيل إلى مطالعة الحاكم فإن أشهب أشار في روايته عن مالك: أن الوكالة على هذا البيع بمحض الاختيار، كوكالة رجل آخر على بيع سلعة، لكنها لضرورة ما عليه من الدين، فقد يكون الرهن مما يشح عليه. ويكره بيعه، فلا تنبغي المبادرة إلى إخراجه من ملكه إلا بعد مطالعة الحاكم. إلى هذا المعنى أشار غير أشهب، قال: فإن أمد اشتهار السلع في المبيعات تختلف باختلاف أجناسها في مقتضى العادات، وليس أمد بيع الحيوان كأمد بيع الديار، فلهذا افتقر إلى مطالعة الحاكم ليجتهد.
وأما تمكين الراهن من عزلة العدل الموقوف بيده الرهن عن بيعه بعد أن جَعل ذلك إليه، فقد ذكرنا ما فيه من الاختلاف، فكأن من جعل للراهن أن يعزل الوكيل عن هذه الوكالة أجرى ذلك على الأصل في أن للموكل أن يعزل وكيله.
ومَن منع ها هنا العزلة فكأنه رأى أن هذه الوكالة قد تعلق بها حق لمن استوثق بهذا الرهن، والعزلة عن هذه الوكالة قد تضرّ به، ويحدث عنها مطاولة في قضاء حقه، فلهذا منع من العزلة.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
مذهبنا أن من باع مال غيره بوكالة مق صاحب المال، أو وصية وصّاه على ذرية، فباع عليهم، أو أب باع علي بنيه الصغار، أو حاكم باع على مفلّس أو يتيم أو غائب، أو أمين حاكم، فإن جميع هؤلاء لا عهدة عليهم عندنا، وعند الشافعي. وأوجب عليهم العهدة أبو حنيفة لكنه استثنى من هؤلاء الحاكمَ وأمينَه لأجل أن إثبات الشيء إذا أدى إلى سقوط وجب أن يُمنع ذلك.
والحاكم لو جعلنا علمه عهدة فيما باعه على يتيم أو مفلس، لكان إذا وقع استحقاق أو مطالبة برد الثمن فهو يكون الخصمَ فيها، ويدافع عن نفسه لئلا يضمن، وإذا كان خصمًا لم يجز حكمه وإذا لم يجز حكمه لم ينفذ بيعه وحكمه

(3/ 2/467)


بإمضاء البيع، فلهذا استثنى الحاكمَ وأمينه.
وعندنا، نحن، أن جميع هؤلاء لو أوجبنا عليهم العهدة والضمان لم يدخل أحد في قبول وصية، أو قبول وكالة، أو بيع على غيره، بحكم الأبوة أو بحكم ولاية القضاء، وكل ما أدّى إلى أصك فساد من أصول الشريعة، وإلحاق ضرر عظيم بالناس، وجب أن يُمنع. وهذا بسطناه في موضعه.
وإذا أوجب أبو حنيفة الضمان على من ذكرنا، فإنه إذا وقع استحقاق، ووجب للمشتري الرجوع بالثمن، فعندنا أنه إنما يرجع بالثمن على مالك السلعة التي بيعت عليه. وعند أبي حنيفة أنه يرجع بالثمن على العدل الذي باع الرهن، ويرجع هذا الوكيل البائع للرهن على المرتهن الذي تسلم ثمن هذه السلعة.
وهكذا عندنا نحن إنما يجب الرجوع إذا وقع استحقاق على المرتهن الذي قبض ثمن السلعة التي بيعت في دينه. وكذلك الحاكم إذا باع على مفلس، وأخذ غرماؤه ثمن سلعته، ثم وقع استحقاق، فإن الرجوع عندنا وعند أبي حنيفة على الغرماء الذين قبضوا الثمن. وعند الشافعي أن الرجوع في الاستحقاق بثمن السلعة، التي قبض ثمنها الغرماء، على المديان الذي بيعت عليه السلع لأجل الغرماء القابضين للثمن. فنحن وإياه نتفق على أن لا عهدة على من ذكرنا، من وصي أو وكيل أو حاكم، ولكن الرجوع، إذا وقع الاستحقاق، عندنا على من قبض الأثمان، وعنده على من بيعت عليه. وتوجيه ذلك في موضعه.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
إذا باع العدل الرهن بمقتضى وكالة الراهن له على بيعه إذا حل الأجل، ووجب لمن له الدين استيفاؤه، وضاع الثمن من يديه قيل أن يصير إلى المرتهن، فقد اختلف الناس في ذلك:
فعند أبي حنيفة أن ضمان الثمن من المرتهن، وكذلك ضمان الرهن

(3/ 2/468)


بنفسه لو تلف قبل بيعه فإن ضمانه من المرتهن، وان كان على يدي عدل, لأنه يرى أن العدل وكيل لمن له الدين، ويد الوكيل كيد موكله، وهو يرى ضمان سائر الرهبان إذا كانت في يد المرتهن، منه، ويد العدل ها هنا كيد المرتهن.
وأما الشافعي فإنه يرى أن ضمان هذه الأثمان من الراهن، وكذلك ضمان غير الرهن إذا تلف من الراهن، كما قدمناه في مذهبه، ومذهب أبى حنيفة.
ونحن نرى أن ضمان الأثمان التي ضاعت بيد العدل الذي باع الرهن، بحكم وكالته على ذلك من المرتهن، كما ذهب أبو حنيفة إليه، ويرى ضمان الرهبان من الراهن إذا كانت مما يغاب عليها وما قامت بضياعها بينة، على أحد القولين اللذين قدمناهما. فأفا حكم ضمان الرهبان بنفسها، وسبب الخلاف فيها فقد مضى في موضعه مستقصى.
وأما الاختلاف، الذي ذكرنا في هذا الثمن إذا ضاع في يد العدل، فنكتة الخلاف فيه ترجع إلى بيع المرتهن وقبضه للثمن، هل للجميع، وكأنه من الراهن الإذنُ له في البيع ويد ها هنا العدل (1) كيد الراهن، في الرهن وفي تمكينه، فيكون الضمان منه، أو يقال: إن العدل وكيل للراهن على مجرد العقد خاصة، ووكيل المرتهن على قبض الثمن, لأنه ملك استيفاءه لما صار الرهن ثمنًا، فتكون الأثمان من المرتهن, لأن العدل وكيل للمرتهن عدى قبض الثمن، ويد الوكيل كيد موكله، فيجب أن يكون ضمان الثمن من المرتهن الذي وكل العدل على قبضه؟

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
ذكر بعض أصحاب الشافعي ضبط الشروط المقارنة لعقد الرهن، فذكر أن منها ما هو من موجبات الرهن شرعًا، ويستغنى عن ذكره، كقوله: أرهنك
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: ويدُ العدلِ ها هنا.

(3/ 2/469)


عبدي هذا على أنّ لك إمساكَه حتى أفْتكُّه، أو على (من حقه) (1) أن يباع لك إذا حل الأجل وعجزتُ عن القضاء، فذكْرُ هذا لا يفسد الرهن, لأنه أبان فيه حكم الشرع. وهذا مثل الشروط التي من مقتضى البيع: كقوله: أبيعك عبدي على أن التصرف فيه بحق المِلك. إلى غير ذلك مما يوجبه الشرع.
وإن اشترط في الرهن شرطًا ليس هو من مقتضى الرهن فلا يخلو أن يكون إسقاطًا لبعض حق المرتهن من الرهن، كقوله: أرهنك إياه على أن لا يباع لك في الدين، وشبه ذلك. فهذا عندهم شرط باطل بغير خلاف. وإذا كان الشرط باطلًا لم يكن الرهن رهنا بغير خلاف عندهم، وذلك لأن الرهن القصد به الاستيثاق بالحق، ولَمّا شرط ألا يباع فقد منع المقصود منه، وأبطل حقيقة الاستيثاق، ولهذا بطل كونه رهنًا.
وإذا كان الشرط زيادة في حق المرتهن، فإن الشرط باطل بغير خلاف، وذلك مثل أن يقول: أرهنك هذا الرهن على أنّ لك أن تتولى بيعه بنفسك دون مطالعة الحاكم، أو على أن لك الانتفاع به. فإذا كان هذا الشرط باطلًا، عندهم بغير خلاف، لمخالفة موجب الشرع في الرهبان، فهل يبطل كون هذا المشترَط فيه هذا الشرط رهنًا أم لا؟ عندهم فيه قولان: أحدهما: أنه يبطل كونه رهنًا، لمخالفة مقتضى الشرع، كما أبطل اشتراط نقص حق المرتهن كون الشرط ذلك رهنًا فيه بغير خلاف، أو لا يبطل كونُه، وَإن بطل الشرط، لكون الشرط الذي يُنقص من حق المرتهن أثّر في المقصود من الرهن. وما اشترط فيه زيادة في (2) حقوق الرهن فليس بقادح في المقصود الذي هو الاستيثاق، فلهذا لم يُبطل الشرطُ حقيقة الرهن.
وإن قلنا ببطلان الشرط إذا كان نقصًا في حق المرتهن بغير خلاف، أو كان فيه زيادة لحق المرتهن على أحد القولين، وقارن ذلك بيعًا، فهل يفسخ
__________
(1) هكذا، والأوْضح: [أنَّ] من حقك [على العبد].
(2) كلمة غامضة تحتمل: في

(3/ 2/470)


البيع أم لا؟ عندهم فيه فولان: أحدهما: أن البيع يفسخ لأن الرهن له قسطه من الثمن، فإذا أبطلناه، والذي ينوبه من الثمن مجهول، عاد ثمن السلعة المبيعة مجهولًا، والبيع بثمن مجهول لا يجوز. أو يقال: إن البيع لا يفسخ, لأن الرهن عقدٌ منفردٌ مستقلّ بنفسه، ليس بشرط مشروط في أصل العقد، ففساده لا يسري إلى فساد ما قارنه بالتراضي، ولم يقارنه لإيجاب الشريعة. فهذا الصنف الذي ضبطه الشافعية في أحكام الشروط.
وأما نحن، فإنا قدمنا، في الشروط، أن المذهب على قولين، بين ابن القاسم وأشهب، فيمن أخذ رهنًا على أنه يكون رهنًا عنده سنةً، فإذا انقضت السنة خرج عن كونه رهنًا، هل يبطل هذا الشرط ويبقى رهنًا في السنة الثانية، كما قال أشهب، أو يبطل كونه رهنًا في السنة الأولى وفي السنة الثانية؟ وهذا اشتراط يُنقص من حق المرتهن في الرهن، ثم فيه قولان، فلا يكاد يستمرّ في شرط يعود بنقض ما ذكروه من مذهبهم، لأجل ما حكيناه من الخلاف عندنا في هذه المسألة. ولكن تختلف أحكام الشروط باختلاف معانيها.
وأمّا اشتراط ما فيه زيادة، فقد قدمنا نحن، فيمن أخذ رهنًا وشرط له الراهن أن له بيعه من غير مطالعة، أن فيه عندنا اختلافًا بيّنّاه في فصل قبل هذا.
وها نحن نتكلم على شرط فيه زيادة في حق المرتهن، وهو اشتراط الانتفاع بالرهن.
فاعلم أن من ارتهن رهنًا واشترط ذلك في أصل عقد سلعة باعها، فإنه إن لم يبيّن حقيقة الانتفاع بالرهن، كما بيّنْ في عقد إجارته، فإن ذلك لا يجوز لكون هذه المنفعة المشترطة لها حصة من الثمن، فصارت كالإجارة، والإجارة لا تجوز إلا على منافع معلومة. وكذلك يفتقر في اشتراط هذه المنافع إلى تحديد أجلَ معلوم، فإن سَلِم عقد هذه الإجارة مما يفسدها، كما بيناه، التُفِت إلى أصل آخر، وهو كونها عقدًا قارن عقدَ بيع، وعقد البيع يختلف فيه الغرر في ثمنه، وفيما قارنه مما هو كبعض ثمنه. فإن كان الرهن عقارًا، كالدور

(3/ 2/471)


والأرضين، جاز اشتراط الانتفاع به إذا ثبتت المنفعة، وضُرب أجلها, لارتفاع تصور الغرر في رهن العقار.
وأمّا إن كان الرهن المشترط للانتفاع عروضًا أو حيوانًا، فإن مالكًا منع ذلك في المدونة، وذكر ابن القاسم إن علة منع مالك إياه كونُ الثياب والحيوان يغئرها الاستخدام، فلا يدرَى، عند انقضاء المنافع وحلول الدين، كيف يكون الرهن، هل يوفي بالحق لبقائه على حاله, أولًا يوفي لكثرة تغيره وانتقاصه، واشتراط رهن فيه غرر في أصل عمّد بيع لا يجوز، على هذا. وفي كتاب الحمالة من المدونة إن الحمالة إذا كانت فيها غرر لا تجوز، ويَبطل البيع الذي قارنها. وخالف أصبغ في بطلان البيع، كما تقدم بيانه. وقال ابن القاسم، عقيب حكايته عن مالك ما ذكرناه: وأما أنا فلا أرى بذلك بأسًا. وأشار إلى أن عقد الإجارة على انفراده يجوز، وإن كان المؤاجِر لعبده أو ثوبه لا يدري كيف يرجع إليه إذا انقضى أمد الإجارة، ثم مع هذه الجهالة لا تبطل الإجارة، فكذلك إذا عُمَدت على هذه الصفة، وقُرن معها عقد بيع. وذكر ابن المواز أن أشهب وأصبغ أجازا ذلك، وأن قول مالك اختُلف فيه.
وأما إن كان اشتراط المنفعة في عقد قرض فإن ذلك لا يجوز، بغير خلاف قولًا على الإطلاق, لأن المنفعة إنما اشترطها المُسلِف بماله على أنْ جَعَل عِوَض السلف منفعةً ينالها من المتسلف، وهي الانتفاع بالرهن الذي دَفَع إليه.
وأما إن كان هذا الاشتراط لهذه المنفعة بعد عقد البيع، وعقد القرض، فإن حكمها يستوي في كون ذلك لا يجوز, لأنها هدية المديان، وإنما سمَح له صاحب الرهن بالانتفاع برهنه بعد عقد البيع أو القرض رجاءَ أن لا يضيّق عليه في الطلب إذا حل الأجل، ويؤخرَه بالدين الذي له عليه، وتأخيره كالسلف، وما أباح له من الانتفاع هو عوض التأخير الذي يؤخره به. ولو صحّ في هذين الرجلين أنهما لم يقصدا لذلك لمُنع، حمايةً لغيرهما.

(3/ 2/472)


ولو كان الرهن بعد عقد البيع والسلف، فشرط الراهن أن للمرتهن الانتفاع به بإجارة، يجري ذلك على أحد القولين، فيمن عليه دين مؤجّل، فعامل من له الدين ببيع على النّقد. وذلك مذكرر في كتاب البيوع، ولأنه يتوفى منه في المسامحة هدية المديان، والزيادةُ، على حسب ما تقدم ذكره.
وإذا صح حكم جواز اشتراط المنفعة في الرهن، على التفصيل الذي ذكرناه، ومنْع الشافعية ذلك على الإطلاق، فقد علمت أنّ هذا الرهن امتزج فيه حكمان متنافيان في أحكام الضمان، وقد عملت أن الرهن إذا كان مما يغاب عليه فإنه مضمون، كما تقدم بيانه، والمستأجَر للانتفاع به غير مضمون، على ما يذكر في كتاب الإجارات.
وإذا ادّعى، هذا المرتهن لما يغاب عليه، وقد اشتوط المنفعة،: أنه ضاع، فهل يصدق في دعواه الضياع ويسقط عنه الضمان تغليبًا لحكم الإجارات، أو لا يصدق في ذلك، ويجب عليه الضمان، تغليبًا الأحكام الرهبان؟ فبسبب هذا الامتزاج في هذين الحكمين وقع الإشكال: ما الذي يغلب متهما على صاحبه: هل حكم الرهبان فلا يضمن؟
من الأشياخ من غلب حكم الرهبان وأوجب الضمان، ومنهم من غلب حكم الإجارة فأسقط الضمان، ومنهم من أفرد كل واحد بحكمه ورأى أن الأجزاء التي تنتَهك وتنعدم بالاستخدام لا تضمن، حتى لو اشترط منفعة لباس الثوب شهرًا وادّعى ضياعه، بعد يوم من يوم أخذه، فإنه يسقط عنه مقدار ما يُنقص الثوبَ اللباسُ. فإن نقصه في هذا الشهر ربع قيمته، رجع بمقدار ذلك على الراهن، من غير المبيع له، في قيمته لأجل ضرر الشركة. ولو لم يذعِ الضياعَ إلا بعد فراغ لكان في ذلك القولان المذكوران في كتاب الجُعْل والإجارة: هل تلزمه الإجارة كاملة، وإن سقط عنه ضمان العين أمْ لا تلزمه الإجارة، ويصذَق في سقوط الثمن كما صدق في ضياع عينِ مالٍ مستأجَرةٍ؟ وأشياخي الذي شافهتهم على المسألة، يعتبرون المقصود في هذا العقد، هل

(3/ 2/473)


قصدهم الإجارة فلا يضمن هذا الرهن، أو قصدهم الرهن فيضمن؟ ويستدلون على مراعاة القصد في هذا مما ذكر المدونة من أن الحمَّال، إذا فُلّس صاحب الأحمال، كان الإجمال (1) أحق بما حل (2) من الغرماء، وهو مع هذا لو ادّعى الضياع لما حمل من العروض لصدِّق, لأن المقصود في هذا العقد الإجارة لا الرهن، حتى إذا بلغ المكانَ الذي استؤجر على أن يبلّغ الأحمال إليه ولم يُعْطِه صاحب الأحمال إجارتَه أبقى عنده الأحمال رهنًا، وغاب عليها، فإنه حينئذ يضمنها.
وهذا يشير إلى اتباع المقصود في هذه العقود. فإذا وضح هذا فإنه يلتفت إلى صحة الحوز في هذا، وقد قدمنا أن المرتهن إنما يكون أحق بالرهن إذا حازه. وظاهر مذهب ابن القاسم أن هذا يكون رهنًا مَحُوزًا، وإن امتزج فيه الحكمان: حكمُ الإجارة وحكم الرهبان، فكذلك لو استأجر هذا الثوب ثم ارتهنه فإن سحنونا ذكر أن مذهب ابن القاسم صحة الحوز، وإن تقدم فيه عقد الإجارة، كمن أخدم رجلًا عبده ثم تصدق به عليه، فذكر عبد الملك في الموازية والمبسوط أنه إذا استأجر شيئًا أمسكه رهنًا بعد ذلك بدين أسلفه لصاحب الرهن أن ذلك لا يكون حوزًا، قال: لأنه إنما قبضه أوَّلًا على حكم الإجارة، لا على حكم الرهن، فلا ينتقض الحكم الأول الذي هو حوز الإجارة. ولو كان الرهن سبق أوَّلًا ثم استأجر هذا الرهن فقد قال عبد الملك: إن الحيازة تصح، لكونه أولًا قبضه على حكم الرهن، فلا يتغير هذا الحكم. وذكر ابن المعذل لا يصح حوز هذا الرهن, لأن عقد الإجارة فيه بعد ارتهانه كالفسخ لارتهانه.
وقد اختلف أيضًا في رهن ما هو مستأجر في يد غير المرتهن، فوقع لمالك: أن ذلك لا يكون محوزًا. وقال ابن نافع في المْبسوط: إنه يكون محوزًا.
وقال ابن القاسم في الدمياطية، فيمن وجد جِمالًا ثم رهنها: إن المرتهن إن كان
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: الحمّال.
(2) هكذا, ولعل الصواب: حَمَل.

(3/ 2/474)


يقوم عليها ويعلفها فإن الحيازة تصح، وقدر أن هذا النوع من التصرف من المرتهن كالحيازة له، وهي أقصى ما يقدر عليه.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
قد قدمنا جواز وقف الرهن على يد أمين، بتراضي الراهن والمرتهن، أو بحكم حاكم، وذكرنا حكم الضمان في ذلك. ولكن قد يخالِف هذا الأمين ما أُذِن له فيه من إمساك الرهن حتى يُقضى الدين، بأن يسلّمه إلى أحد الرجلين اللذين تراضيًا به، إما المرتهن وإما الراهن، فإن سلّمه المرتهن فضاع عنده ضمنه للراهن، وإن أسلمه للراهن ضمنه لبمرتهن. ولكن إذا سلّمه للراهن ضمن للمرتهن الأقل من قيمة الرهن أو الدين الذي أخذ به الراهن، (1) لأنه إن كان قيمة الرهن أقل من الدين فإنما أتلف على المرتهن قيمة الرهن، الذي لو لم يسلم إلى الراهن لباع الرهنَ وأخذ ثمنه في دينه. وإن كان الدين أقل من قيمة الرهن فإنما أتلف عليه الدينَ لأنه لا يستحق من الرهن إلا مقدار الدين، وما زاد على ذلك فلا يستحقه.
وإن أسلمه للمرتهن، وقد حلّ أجل الدين، سقط حق المرتهن في الدين، وحوسب بقيمة الرهن في دينه. فإن تساويا ووجبت المقاصّة برئ الراهن من الدين، لاستحقاقه في ذمة المرتهن مثله، وبرئ الأمين الذي كان الرهن موقوفًا بيده أيضًا, لأنه لم يتلف على واحد منهما شيئًا.
وأما إن وقعت المحاكمة في ذلك قبل الأجل، فإن الراهن لم يُستحق عليه الدين، فمن حقه أن يطالب عين الرهن لما (2) تعدى عليه فيه، وقد حصل التعدي من الأمين في دفعه للمرتهن، وحصل التعدي أيضًا من المرتهن في أخذه وقبول ذلك من الأمين، مع كونه لا يجوز له ذلك. فإن اختار مطالبة الأمين
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: الرهْن.
(2) هكذا، والمعنى: مِمَّنْ.

(3/ 2/475)


بقيمة الرهن الذي تعدى عليه، وسلّمه لغيره، كان ذلك من حقه، وغرم هذا الأمين قيمة الرهن، ويستحقها الراهن فيأخذها إن أتى برهن يسد مسدَّها. وإن لم يأت برهن أُوقِفت هذه القيمة على يد أمين آخر، لظهور خيانة هذا الأمين الأوّل. فقد يحوز (1) أيضًا مرة ثانية. وغلب ها هنا حق الراهن لأنه مالك عينِ الرهن، وإنما للمرتهن التوثق بالرهن، والتوثق يحصل له إذا كان في يد أمين غير الأول الذي خان. وأما الراهن بحقه في عين الرهن، فهو أوْلى بأن يُنظَر له في صيانة عين ملكه، فإن أَغرمَ الراهنُ هذا الأمين قيمة الرهن، رجع بها على المرتهن الذي ضاع الرهن في يديه, لأنه غرم ذلك بسببه، ولم يسلم إليه الرهن على أنه ساقط عنه، وأنه ملتزم قيمتَه قضى (2) عنه، وإنما سلم على حكم الرهبان: الضمان فيما يغاب عليه، يُقضى بذلك على المرتهن, لأنه أخذه على حكم الرهبان التي تؤخذ لمنفعة المرتهن. لكن لو ضاع في يد المرتهن ببيّنة لسقطت عنه مطالبة هذا الأمين بما استخرج (3) من قيمة الرهن، لكونه سلطه عليه، وهو غير متعد في قبضه في حق الأمين وإن كان متعديًا في حق الراهن.
وإذا كان من حق هذا الأمين أن يرجع على المرتهن بقيمة الرهن التي غرمها بسببه، فهل من حق المرتهن أن يمتنع من أدائها، ويقاصَّ بدينه عوضًا عنها، إذا لم يحل الأجل؟ هذا على قولين: أحدهما: إنه يمنع من المقاصة، ويغرم القيمة على مقتضى حكم التعدي. وعلى القول الثاني: له المقاصة, لأنا نجوّز صِدْقَه في أن الرهن قد ضاع له. ولو قامت بينة على ضياعه لم يغرمه، فلا يلزمه تعجيل القيمة إذا رضي بالمقاصّة مع هذا التجويز لصدقه.
ولو اختار الراهن طلب المرتهن بحكم التعدي، وعدل عن طلب الأمين، لكان له أن يُغرمه القيمةَ. وإن طلبه بغرامة القيمة من جهة دعوى الضياع لجرى ذلك على القولين المتقدمين.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: يخون.
(2) هكذا, ولعل الصواب: قضاء.
(3) هكذا, ولعل الصواب: اسْتُغْرِم.

(3/ 2/476)


ولو كان الرهن موجودًا في يد هذا المرتهن، ولكن لم يعلم به الراهن حتى قام عليه، فوجده مفلّسًا، عليه غرماء يطالبونه بديونٍ، فهل يكون أحقّ بهم (1) بعين الرهن أوْ لا يكون أحق بل يكون كأحدهم في المحاصة بقيمة الرهن؟
المذهب في هذا على قولين: أحدهما: إنه يكون أحق. والثاني: إنه لا يكون أحق, وإليه ذهب ابن المواز. وقال عيسى بن دينار: إنه لا يكون أحق إذا كان الأمين عديمًا. فأجْرى على قوله أَلا يكون أحق إذا كان الأمين مليا يمكنه أخذ قيمة الرهن منه. وقال أصبغ: بل يكون أحق إذا كان الأمين عديمًا لا مال له.
وعندي أن سبب هذا الاختلاف الالتفات إلى ما كنا قدمناه أن الرهن إذا رجع إلى يد الراهن، باختيار المرتهن وطوعه، سقط (في الرهن) (2) ولم يكن أحق به إذا وقع الفلس، وذلك بأن يرده الراهن إلى جهة الوديعة أو الإجارة، لكنه له ارتجاعه بعد رمنه على جهة الوديعة وبعْد رده على جهة الإجارة إذا انقضى الأجل ولم يقمْ الغرماء ولا فلِّس الراهن.
ولو ظهر أنه إنما واجَر الراهن من الرهن لاعتقاده أن ذلك لا يُبطل الرهن، لكن (3) من حقه، فيما اختاره بعض أشياخي، أن يفسخ الإجارة.
وهذا عندي يتعلق بأصل آخر ينظر فيه هل يمكن من فسخ الإجارة أم لا؟
ولو كان الرهن عبدًا، فأبق العبد من غير تفريط من المرتهن، وعاد بعد إباقه إلى سيده، ولم يعلم بذلك المرتهن حتى قام الغرماء، لم يبطل حق المرتهن في هذا الرهن، لكونه مغلوبًا على رجوعه إلى يد الراهن.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: منهم.
(2) أي: في كونه رهنًا.
(3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: لكان.

(3/ 2/477)


وهاهنا قد يقال: إنه كالمغلوب لكون الأمين ردّ الرهن على الراهن بغير اختيار المرتهن، فأشبه إباقَ العبد. أو يقال ها هنا: إن المرتهن رضي بوقف الرهن عند هؤلاء (1) الأمين، مع تجوزه أن يرده إلى الراهن، فصار كأنه ليس بمغلوب على الردّ، بخلاف الإباق، مع كونه ها هنا أيضًا له مرجع بقيمة الرهن على هذا الأمين المتعدى، وينفرد بما يأخذ منه عن الغرماء، ويتبعه بذلك إن كان فقيرًا، ولا يكون أحق من الغرماء، مع كونه قد تميّز عنهم باستحقاق قيمة الرهن في ذمة رجل أحق (2) غير غريمه. فإذا قلنا: إنه يكون أحق بعين الرهن، وإن فلس الراهن، والرهن في يده، حكم له بأخذ الرهن وحاصّ بما يبقى له بعد ثمن الرهن من الدين. وإن قلنا: إنه لا يكون أحق, فإن هذا الأمين الموقوف على يديه الرهن قد أضَرَّ بالمرتهن في إعادته إلى يد الراهن، فللمرتهن مطالبة الرهن (3) بما أضر به ما فعله من إعادة الرهن للراهن. فمذهب جماعة من أشياخ القرويين وحذاقهم أنه يرجع المرتهن على الأمين بمقدار ما نقصه الحِصاص لأجل تسليم الرهن.
ونحن نضرب لهذا مِثالًا يتبين به اختلاف طرق الأشياخ.

فلهم في المسألة ثلاث طرق:
1 - أحدها: ما ذكرناه عن بعض حذاقهم، وإليه مال بعض مشايخ الصقلّيين. فإذا فرضنا أن الراهن عليه عشرون دينارًا للمرتهن، وعشرون دينارًا أخرى لرجل آخر لم يأخذ بها رهنًا، ففُلِّس الراهن، فوجدنا بيده الرهن الذي رده عليه الأمين، وقيمته عشرة دنانير، وفي يده مع ذلك عشرة دنانير أخرى، فقد صار الموجود في يده عشرين دينارًا، وهي نصف الأربعين التي عليه للرجلين، فيتحاصان في هذه العشرين التي هي عشرة منها ثمن الرهن، وعشرة أخرى
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: هذا.
(2) هكذا, ولعل الصواب: آخر.
(3) هكذا, ولعل الصواب: الأمين.

(3/ 2/478)


بيده. فإذا تحاصًا فإن كل واحد من هذين الرجلين يأخذ نصف حقه، وهي عشرة دنانير، فيقول، الذي دينُه أخذ له الرهنَ، للأمين: لو لم تسلم الرهن إلى الراهن وبقي في يديك لكنتُ أنا أحقَّ به، ولم يحاصَّني الغريم الآخر فيه بدينه، بل آخذ ثمنه وهو عشرة دنانير، فتبقى لي من ديني عشرة دنانير، وللغريم الآخر عشرون لا رهن له بها، فتكون المحاصة بيني وبينه على ما حكم به الحاكم الآن، وذلك أن العشرة التي أخذتها من ثمن الرهن سقط بها، وبقي لي النصف الآخر الزائد على قيمة الرهن، وهو عشرة لا رهن لي بها, وللغريم الآخر عشرون ولا رهن لي (1) بها، فتقع المحاصة بيني وبينه، على أن له ثلثي العشرة، وهو سبعة غيرُ ثلث، ولي أنا ثلثُها وهو ثلاثة دنانير وثلث، فيحصل في يدفيَ ثلاثة عشر دينارًا وثلث، عشرة منها هي التي حكم بها الحاكم، وثلاثة وثلث تجب بالمحاصة.
ولو كانت على غير الصفة التي حكم لي الحاكم، فيُطلَب الأمين بثلاثة دنانير وثلث، وهي التي تعدَّى الأمينُ على الرهن من حقي هذا في الحصاص.
ولو كان الرهن قد أفاته الراهن بأن يكون طعامًا فأكله، أو ثوبًا فلبسه، ووجد في يده عشرون دينارًا، لرجع المرتهن على الأمين بسبعة دنانير غيرِ ثلثٍ، وهي ضِعْفا ما يرجع به عليه لو كان الموجود في يده عينَ الرهن وعشرون (2) دينارًا, لأن الرهن إذا كان موجودًا وقع الحصاص للمرتهن بعشرة دنانير، لسقوط عشرة من دينه بالرهن الذي يأخذه لو بقي في يد الأمين، وإذا كان الرهن قد فات في يد الراهن وقيمته عشرون دينارًا ووقع الحصاص للمرتهن بعشرة دنانير في عشرين بيد الراهن. وفي المسألة الأولى يقع له الحصاص بعشرة، فلا شك أن الذي يجب له في الحصاص في عشرين دينارًا أضعاف (3) ما يجب له في الحصاص في عشرين (4)، وهو سبعة إلا ثلث.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: له.
(2) هكذا, ولعل الصواب: عشرين.
(3) هكذا, ولعل الصواب: ضِعْف.
(4) هكذا, ولعل الصواب: عشرة.

(3/ 2/479)


ولو فرضنا المسألة الأولى، وهي الحصاص بعشرة بقيت له بعد الرهن في عشرة قبالة (1) في الحصاص ثلاثة وثلث كضا بيناه، ثم طرأ للراهن عشرة أخرى، فإن حكم الحصاص، الذي ذكرناه، ينتقض بطريان مالِ الراهن (2)، وإذا انتقض فقد صار للراهن ثلاثون دينارًا، منها عشرة قيمة الرهن، والعشرة الأخرى التي قدرناها في السؤال الأول، والعشرة الأخرى طرأت، فهذه ثلاثون، تقسم بين الغريمين نصفين كما فعلناه في السؤال الأول، فيحصل للمرتهن خمسة عشر دينارًا, وتبقى له عشرة دنانير لا يشاركه فيها أحد، ويبقى له من دينه عشرة دنانير، وللغريم الآخر عشرون دينارًا، العشرة التي قدرناها مع الرهن، والعشرة الطارئة، فتضرب في العشرين المرتهن بالعشرة الباقية به، ويضرب بالغريم الآخر بجميع دينه وهو عشرون دينارًا، فينوب المرتهن من العشرة ثلثاها، وهو سبعة دنانير غير ثلث، فيضاف إلى العشرة التي هي ثمن رهن الذي هو أحق بها لو بقي الرهن في يد الأمين، فيضرب جملة ما يستحق سبعة عشر دينارًا غير ثلث، وقد أخذ خمسة عشر دينارًا، والذي أضرّ به تسليم الرهن دينارًا وثلثا.
وهكذا لو كان الراهن وجد الرهن وقد فات، فإن التفريع على هذا يجري. فانظر ما حصل له في المحاصة وما نقصه، وأضرَّ به تسليم الرهن، فهو الذي يرجع به على الأمين. فهذه إحدى الطرق الثلاثة فيما يرجع به المرتهن على الأمين.
وأما الطريقة الثانية، وهي طريقة الشيخ أبى محمَّد بن أبي زيد رحمه الله، وذلك أنه رأى أن هذا المرتهن قد تعدى الأمينُ عليه في تسليم رهنه إلى الراهنو فله أن يطالبه بقيمة الرهن الذي تعدى عليه، وقيمته عشرة دنانير، وقد أخذ الحصاص (3) أوَّلًا عشرة دنانير، على أنّ المحاصة كانت له بعشرين وبعشرين للغريم الآخر، فصارت ها هنا لما أخذ العشرة قيمةَ الرهن من الأمين
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: فما له.
(2) هكذا, ولعل الصواب: مالٍ للراهن.
(3) هكذا, ولعل الصواب: بالحصاص.

(3/ 2/480)


قد سقط دينه، وبقي له المحاصة بنصف دينه الآخر الزائد على قيمة الرهن (1) من العشرة التي قبضها بالمحاصة نصفَها لأنه حاص أوّلًا بَعشرين وكشف الغيب أنه لما أخذ من العشرين عشرة من الأمين أنّ المحاصة إنما تجب له بعشرة، فيردّ من العشرة، التي أخذ نصفها في المحاصة، نصفَها وهو خمسة دنانير التي تمسّك بها من عشرة المحاصة، فذلك خمسة عشر دينارًا، وقد ردّ مِمّا أخذ في المحاصة خمسة دنانير بقيت من جملة دينه لكونه حصل في يده خمسة عشر دينارًا، ويضرب فيها الغريم الآخر بعشرة دنانير، وهي التي بقيت من دينه بعد العشرة التي أخذ في الحصاص، فيقضى له بثلثها، وهو ديناران غير ثلث، يضاف إلى الخمسة عشر فيحصل له سبعة عشر دينارًا غير ثلث.
ونحا الشيخ أبو محمَّد في هذه الطريقة نحو ما ذكره يحيى بن عمر في مسألة المدونة، فيمن رهن زرعًا لم يبْدُ صلاحه، وفلّس الراهن، فإن الزرع لما كان لا يحلّ بيعه صار كالعدم، وحاص هذا المرتهن بهذا الزرع غرماءَ الراهن بجميع دينه. فإذا حل بيع الزرع فإنه تبطل المحاصة الأولى، ويرد نصفَ ما أخذ فيها إذا كان هو قد أخذ نصف دينه، والغريم الآخر نصفَ دينه. فيرد نصف ما أخذ في المحاصّة، ثم يتحاص فيه هو بما بقى له.
وذهب بعض المتأخرين إلى طريقة ثالثة، وأنكر طريقة الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد، وقال: إنما يرجع المرتهن على الأمين في مسألتنا بخمسة دنانير، وذلك أن مِن حقه أن يُغرّم الأمين (2) وقيمة رهنه، وهو عشرة دنانير، ويبقى له من دينه عشرة يحاص بها. ويحاص أيضًا الأمين بالعشرة التي غرمها المرتهن، ويحاص الغريم الثالث، الذي له عشرون بغير رهن، بالعشرين دينارًا، فصار جملة ما على الراهن من الدين أربعين دينارًا، وفي يده عشرون دينارًا يتحاص فيها ثلاثة غرماء، المرتهن بالعشرة التي بقيت له بعد ما أخذ الأمين، والأمين
__________
(1) كلمة غامضة، ولعلها: فيَرُدُّ.
(2) هكذا, ولعل الصواب حذف الواو.

(3/ 2/481)


بالعشرة التي غرمها المرتهن، والغريم الثالث يحاص بالعشرين جملة دينه. فالذي ينوب المرتهنَ والأمينَ في الحصاص في العشرين التي بيد الراهن عشرة دنانير، خمسة منها للمرتهن، وهي التي صارت له (1) حاص بالعشرة الباقية، وخمسة منها للاثنين، فيأخذ الأمين خمسة بالحصاص فيصير جملة ما غرم خمسة، ويأخذ المرتهن خمسة، يتمسّك بها مع العشرة التي غرمها له الأبن، فصار جملة ما يأخذ خمسة عشر دينارًا، منها عشرة التي غرم له الأمين، ومنها خمسة هي التي تنوبه في المحاصة مما بقي له.
فلو فرضنا أنه بدأ بغرامة الأمين، وقدم ذلك على الحصاص، لكان الحكم ما ذكرناه بمن (2) كونه يحصل في يديه خمسة (3) دنانير، وهي ثلاثة أرباع حقه.
فإذا لم يبدأ بغرامة الأمين وبدأ بالمحاصة فإنه يحاص عن نفسه وعن الأمين، فيجب أن يكون الذي يحصل له لو بدأ بغرامة الأمين هو الذي يُعْطى له في المحاصة، فإنها (4) يستغرم الأمين خمسة دنانير.
واعتد صاحب هذا المذهب بلفظ وقع في الموازية وهو قوله "يحصل للمرتهن ثلاثة أرباع حقه".

قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه:
وإذا اختلف المتراهنان في عين الرهن فالقول قول المرتهن (5). وإن اختلفا في قدر الحق فلا يخلو الرهن أن يكون باقيًا أو تالفًا. فإن كان باقيًا فلا يخلو أن يكون في يد المرتهن أو في يد أمين.
__________
(1) هكذا, ولعل الصواب: التي صارت له [لمّا] حاص ...
(2) هكذا, ولعل الصواب: مِنْ.
(3) هكذا, ولعل الصواب: خمسة عشرة دينارًا.
(4) هكذا, ولعل الصواب: فإنه.
(5) في الغاني إضافة: مع يمينه.

(3/ 2/482)


نجز ما وجد من الأمَّ النسخ منها بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقه.
والصلاة على النبي وآله. وكان الفراغ من نسخه أواخر ذي الحجة سنة 1237، سبع وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. ولا حول ولا قوة إلا باللهِ العلي العظيم. "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

انتهى

(3/ 2/483)