الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ التَّاسع: العصبات: تعريف العصبة، وتقسيم العصبات، وأنواعها، وحكم إرث كل نوع (1).
العصبات جمع عصبة، وهو الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أنثى، فعصبة الرجل: أبوه وبنوه وقرابته لأبيه. وسموا عصبة؛ لأنهم يحيطون بالإنسان القريب ويذودون عنه.
_________
(1) السراجية: ص 70 - 82، تبيين الحقائق: 237/ 6 ومابعدها، اللباب: 193/ 4 ومابعدها، الشرح الصغير: 625/ 4 - 631، مغني المحتاج: 17/ 3 - 20، الرحبية: ص 38، المغني: 168/ 6، 175، 182، الدرا لمختار:546/ 5 - 550، كشاف القناع: 470/ 4 - 476.

(10/7794)


وقد استعمل الفقهاء لفظ (العصبة) في الواحد؛ لأنه يقوم مقام الجماعة في إحراز جميع المال، مع أن الأصل في لفظ العصبة جمع. وقالوا في مصدرها: العصوبة.
والذكر يعصِّب الأنثى، أي يجعلها عصبة، ويطلق العصبة على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجمع على عصبات.
والعصبة في علم الميراث: كل من يحوز التركة إذا انفرد بها، أو يحوز ما أبقاه أصحاب الفرائض، وإذا لم يبق عنهم شيء، فلا يرث شيئاً. فهم في المرتبة بعد أصحاب الفرائض.
وبإيجاز: العصبة في عرف الفرضيين: من لم يكن له نصيب مقدر.
وحكمه: أن يأخذ ما أبقت الفروض، ويستقل بالكل إذا انفرد.

تقسيم العصبة:
تنقسم العصبة إلى قسمين: عصبة نسبية، وعصبة سببية.

1ً - العصبة السببية: هي عصبة المعتق لمن أعتقه، ثم عصبته على ترتيب العصبة بالنفس الآتي. فهو أي مولى العتاقة يرث من أعتقه إن لم يكن له وارث صاحب فرض ولا عصبة نسبية، فهي قرابة حكمية، سببها العتق لإنعام السيد على العبد. ولا داعي لبحث هذا النوع لعدم وجود الرقيق، ويحتاج إليه المتخصص فقط.
وترتيب عصبة المعتق هو أن ابن المعتق أولى عصباته، ثم ابن ابنه، وإن سفل،

(10/7795)


ثم أبوه، ثم جده وإن علا، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لُحْمة كلُحمة النَّسَب» (1) لأن المعتِق سبب لإحياء المعتَق، كما أن الأب سبب لإيجاد الولد، باعتبار أن الحرية حياة الإنسان، لإثبات صفة المالكية له، كما أن الأب سبب لإيجاد الولد، باعتبار أن الحرية حياة الإنسان، لإثبات صفة المالكية له، والرق تلف وهلاك، وكما أن الولد يصير منسوباً لأبيه، كذلك المعتَق يصير منسوباً إلى معتقه بالولاء، وبما أن الإرث بالنسب، فكذلك يثبت بالولاء. وذلك في حدود المعتق وعصبته، فالشرع جعل صلة المعتق بعتيقه في حكم صلة القريب بقريبه، فيرث منه جميع المال إذا انفرد، والباقي بعد أصحاب الفروض إذا وجدوا.
ولا شيء للإناث من ورثة المعتِق، إلا بسبب ولاء عتيقهن، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس للنساء من الوَلاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن ... » (2).
وذكر سابقاً دليل الإرث بسبب العتق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لمن أعتق».
ومرتبة العصبة السببية بعد مرتبة العصبة النسبية، وقبل مرتبة الرد على ذوي الفروض، وإرث ذوي الأرحام.
وروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وكثير من الصحابة والتابعين أن إرث العصبة السببية مؤخر عن إرث ذوي الأرحام.
_________
(1) رواه الطبري عن عبد الله بن أبي أوفى، والحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وتتمته: «لا يباع ولا يوهب» وهوصحيح.
(2) أخرج ابن أبي شيبةوعبد الرزاق والدارمي والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال: «ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا ترث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن أو أعتقه من أعتقن» (نيل الأوطار: 69/ 6) وقال في الدر المختار (550/ 5) عن حديث «ليس للنساء ... »: وهو وإن كان فيه شذوذ (انفراد راو به) لكنه تأيد بكلام كبار الصحابة، فصار بمنزلة المشهور.

(10/7796)


وأخذ القانون المصري بمذهب ابن مسعود ومن معه، فأصبح العاصب السببي لا يرث، إلا إذا لم يوجد للمتوفى وارث أصلاً بالقرابة أو الزوجية.

2ً - العصبة النسبية وأنواعها وحكم كل نوع:
تعريف العصبة النسبية: هم أقارب الميت الذكور، الذين لا تتوسط بينهم وبين الميت أنثى، كالابن والأب والأخ والعم، والبنت بأخيها، والأخت مع البنت. وهم يرثون ما أبقى ذوو الفروض، فإن تخللت أنثى في النسبة إلى الميت، كان الشخص من ذوي الأرحام كأبي الأم، وابن البنت، أو من ذوي الفروض كالأخ لأم.
ودليل توريثهم: قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/ 4] ثم بين نصيب الأب والأم، فدل على أن الأولاد يأخذون الباقي بعد نصيب الأب والأم.
ودل قوله سبحانه: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:176/ 4] على أن جهة الأخوة من جهات العصبة النسبية.
ودلت الآيتان أيضاً على أن الأنثى صاحبة الفرض تصبح عصبة بأخيها، احتفاظاً بمبدأ كون حصة الذكر ضعف الأنثى.
وصرحت السنة بإثبات التعصيب لكل قريب من الرجال يتصل بالميت عن طريق الرجال، في قوله عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر» والمراد أولوية القرابة.
أنواعها: تنقسم العصبة النسبية إلى ثلاثة أنواع:

(10/7797)


1 - العصبة بالنفس:
وهي كل ذكر قريب للمتوفى، لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى. وهم أربع جهات مقدم بعضها على بعض، ينحصرون في اثني عشر نفساً، على الترتيب التالي عند الإمام أبي حنيفة:
أـ جهة البنوة: وهي جزء الميت، من الابن وابن الابن مهما نزل.
ب ـ جهة الأبوة: وهي جزء أبي الميت، من الأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب.
ج ـ جهة الأخوة: وهي جزء أبي الميت، من الأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب.
د ـ جهة العمومة: وهي جزء جد الميت، من العم الشقيق ثم لأب، وبعدهما ابن العم الشقيق ثم لأب مهما نزل درجة بعد درجة، ثم عم أبيه الشقيق أو لأب، أو ابن عم أبيه الشقيق أو ابن عم أبيه لأب، ثم عم الجد، ثم ابنه. ويقدم القريب على البعيد.
وتقدم جهة البنوة على جهة الأبوة، وجهة الأبوة على جهة الأخوة، وهذه تقدم على جهة العمومة.

والترجيح يكون أولاً بالجهة، ثم بقرب الدرجة، ثم بقوة القرابة، قال العلامة الجعبري:
فبالجهة التقديم، ثم بقربه ..... ..... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا
أي أن التقديم يكون بالجهة أولاً من الجهات السابقة، ثم بالقرب إلى الميت، ثم بالقوة أي الشقيق مقدم على الذي لأب.

أولاً ـ الترجيح بالجهة: يرجح أولاً بالجهة، فإذا كان بعض العصبة من جهة

(10/7798)


البنوة، والآخر من جهة الأبوة، فتقدم الأولى على الثانية، أي جهة الفرع مقدمة على جهة الأصل، وهذه مقدمة على جهة الأخوة، وهذه مقدمة على جهة العمومة.
فابن الميت وابن ابنه وإن نزل مقدمان في الميراث بالعصوبة على أصوله، والأصول مقدمون على الإخوة وبينهم، وهؤلاء مقدمون على الأعمام وبنيهم.
فلو ترك الميت ابناً وأباً، أو ترك أباً وأخاً، أو ترك أخاً وعماً، قدم الابن فأخذ الباقي بالعصوبة، وأخذ الأب فرضه وهو السدس فقط. وفي المثال الثاني: المال كله للأب بالتعصيب، ولا شيء للأخ. وفي المثال الثالث: المال كله للأخ تعصيباً، ولاشيء للعم.
والسبب في تقدم البنين على الأب: هو أن فرع الإنسان أشد اتصالاً به من أصوله، ولقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد} [النساء:11/ 4] فإنه جعل الأب صاحب فرض، والولد عصبة.
وقدم بنو البنين وإن نزلوا على الأب؛ لأنهم من جهة البنوة وهي مقدمة على الأبوة.
والأصول أقرب الى الإنسان من الإخوة، إذ الأصول واسطة في صلة الأخوة، فقدموا عليهم في الإرث.

ثانياً ـ الترجيح بقرب الدرجة إلى الميت: ثم يرجح بقرب الدرجة، فمن كان أقرب درجة، قدم على غيره، فيقدم الابن على ابن الابن، والأب على الجد، والأخ على ابن الأخ، والعم على ابن العم، وعم الميت على عم أبيه. ولا اعتبار حينئذ لقوة القرابة، فالأخ لأب يحجب ابن الأخ الشقيق، والعم لأب يحجب ابن العم الشقيق.

(10/7799)


ثالثاً ـ الترجيح بقوة القرابة: ثم يرجح بقوة القرابة من المتوفى إذا اتحدت الدرجة، فيقدم ذو القرابتين على ذي القرابة الواحدة، كالأخ الشقيق يقدم على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق يقدم على ابن الأخ لأب، والعم لأبوين على العم لأب، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب، وهكذا الحال في عم أبيه وعم جده.
فإذا استوى العصبات في الجهة والدرجة وقوة القرابة، استحق الجميع على السواء، فلو ترك ابن أخ وعشرة بني أخ آخر، قسم المال بينهم باعتبار رؤوسهم لا أحوالهم.

ترتيب العصبات عند الجمهور: كان الترتيب السابق مذهب أبي حنيفة، أما الجمهور (وهم الأئمة الثلاثة والصاحبان) وبه أخذ القانون في مصر وسورية، فاعتبروا الجد مع الإخوة في منزلة واحدة من العصوبة، إذ أن الإخوة الأشقاء لايحجبهم من الأصول غير الأب عندهم.
ويكون ترتيب العصبات عندهم بحسب الآتي:

1 - جهة البنوة أو جزء الميت: وهم البنون وأبناؤهم وإن نزلوا.
2 - جهة الأبوة أو أصل الميت: وهي قاصرة على الأب فقط.
3 - الجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب، دون أبنائهم.
4 - أبناء الإخوة الذكور الأشقاء أو لأب، مهما نزلوا.
5 - جهة العمومة: وتشمل كما تقدم أعمام الميت وأعمام أبيه وجده، مهما علوا، وبنوهم.

(10/7800)


2 - العصبة بالغير:
هي كل أنثى لها فرض مقدر وجد معها ذكر من درجتها، فتصير به عصبة. ولا يكون هذا النوع إلا فيمن فرضه النصف عند الانفراد والثلثان عند التعدد، وهي أربعة فقط:
(1) البنت الواحدة فأكثر مع الابن من درجتها. أما مع ابن الابن فتكون ذات فرض.
(2) بنت الابن الواحدة فأكثر مع ابن الابن من درجتها، سواء أكان أخاها أو ابن عمها، وكذا مع ابن ابن الابن أنزل منها، تتعصب به إذا احتاجت إليه بأن لم يكن لها شيء من الثلثين، ولو كان أدنى منها درجة، حتى لاتحرم من الميراث، وتأخذه من هي أدنى منها. فإن لم تحتج إليه كبنت وبنت ابن فلا يعصبها. وإذا كان ابن الابن أعلى درجة من بنت الابن فيحجبها، كبنت ابن ابن مع ابن ابن.
(3) الأخت الشقيقة بشقيقها. فإن كان معها أخ لأب فلها النصف فرضاً، وللأكثر الثلثان.
(4) الأخت لأب مع الأخ لأب، سواء أكان شقيقاً لها أم لا. أما الأنثى التي لافرض لها وأخوها عصبة كالعمة مع العم، وبنت العم مع ابن العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، فلا تكون عصبة بأخيها؛ لأنها ليست صاحبة فرض.

3 - العصبة مع الغير:
هي كل أنثى تصير عصبة باجتماعها مع أنثى أخرى، ولها حالتان فقط:
(1) الأخت الشقيقة واحدة فأكثر، مع بنت أو بنات، أو بنت ابن أو بنات ابن.

(10/7801)


(2) الأخت لأب واحدة فأكثر، كذلك مع بنت أو بنات، أو بنت ابن أو بنات ابن، فالباقي عن البنت أو البنات أو بنت الابن أو بنات الابن، للأخت أو للأخوات بالتعصيب معهن، للقاعدة السابقة: (اجعلوا البنات مع الأخوات عصبة) ولقضاء النبي صلّى الله عليه وسلم للأخت مع البنت وبنت الابن بما بقي.
وتصبح الأخت الشقيقة التي تصير عصبة مع البنت أو بنت الابن، كأخ شقيق، فتحجب الإخوة لأب مطلقاً.
وتصبح الأخت لأب التي تصير عصبة مع الغير، أي مع البنت أو بنت الابن كأخ لأب، فتحجب ابن الأخ الشقيق، فمن بعده.
أما إن كان مع الأخت أخوها، فتصير عصبة بالغير، لا مع الغير، كما بينت، ويكون الباقي بينها وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين.
مثال الحالة الأولى: بنت، بنت ابن، أخت شقيقة، أخ لأب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وللأخت الباقي، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه محجوب بالشقيقة حيث صارت عصبة مع البنت وبنت الابن.
وأما القانون المصري (م16 - 22) والسوري (م274 - 280) فنصا على أنواع العصبة بالنفس، وطريق الترجيح، وأحوال الجد مع الإخوة على النحو السابق المقرر فقهاً.
أمثلة:
1 - مات عن: أب وابن وبنت وأخت شقيقة: للأب السدس فقط، ولا شيء له تعصيباً، لوجود الابن، وللابن والبنت للذكر ضعف الأنثى، ولا شيء للشقيقة لسقوطها بالابن وبالأب.

(10/7802)


2 - مات عن: جد، وبنت، وأخ شقيق: للبنت النصف، والباقي للأخ والجد.
3 - ماتت عن: زوج، وأخ لأم، وأخ شقيق، وأخت شقيقة: للزوج النصف، وللأخ لأم السدس، والباقي بين الأخ والأخت للذكر ضعف الأنثى.
4 - مات عن: بنت، بنت ابن، ابن ابن، ابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن مع ابن الابن الباقي، ولا شيء للأخير.
5 - مات عن: بنت ابن، أخت لأب، عمة: لبنت الابن النصف، وللأخت لأب الباقي تعصيباً مع ابنة الابن، ولا شيء للعمة.
6 - زوج وبنت ابن وأخت شقيقه وجدة: للزوج الربع، ولبنت الابن النصف، وللجدة السدس من (12)، وللشقيقة الباقي؛ لأنها عصبة مع بنت الابن.
7 - مات عن: بنت، وأخت لأب وأخ لأب، وزوجة: للبنت النصف، وللزوجة الثمن، وللأخت لأب والأخ لأب الباقي عصبة بالغير.
8 - مات عن: بنتين، وبنتي ابن، وبنت ابن، وابن ابن، وبنت ابن ابن، وأب: للبنتين الثلثان، وللأب السدس، ولبنتي الابن مع ابن الابن الباقي تعصيباً، ولا شيء لبنت ابن الابن لحجبها بابن الابن.
9 - مات عن: بنت، وبنت ابن وأخت شقيقة: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللشقيقة الباقي عصبة مع الغير.
10 - زوج، شقيقة، وأخت لأب، وأخ لأب: للزوج النصف، وللشقيقة النصف، والأخيران عصبة، لاشيء لهما إذ لم يبق لهما شيء، ولولا الأخ لأخذت الأخت السدس.

(10/7803)


11 - بنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخير عصبة، لاستغناء بنت الابن عنه.
12 - بنت، بنت ابن، بنت ابن ابن، ابن ابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخيرين عصبة، لاحتياجها إليه.
13 - زوج، وأم، وأخ لأم، وشقيقة، وشقيق: للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ لأم السدس، والباقي للأخيرين عصبة.
14 - زوج، بنت، جدة، أخت لأب: للزوج الربع، وللبنت النصف، وللجدة السدس، والباقي للأخت لأب تعصيباً.