نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الصيام.
- قال النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح
الصيام في اللغة الإمساك. وفي الشرع إمساك
مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة انتهى. وكان
فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من
الهجرة.
باب ما يثبت به
الصوم والفطر من الشهود.
1 - عن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أني
رأيته فصام وأمر الناس بصيامه". - رواه أبو
داود والدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد
عن ابن وهب وهو ثقة.
2 - وعن عكرمة عن ابن
عباس قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال يعني
رمضان فقال:
أتشهد أن لا إله إلا اللَّه
قال: نعم قال:
أتشهد أن محمداً رسول اللَّه قال: نعم قال:
يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً". -
رواه الخمسة إلا أحمد. ورواه أبو داود أيضاً
من حديث حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة مرسلاً
ج / 4 ص -187-
بمعناه. وقال: "فأمر بلالاً فنادى في الناس
أن يقوموا وأن يصوموا"
- الحديث الأول أخرجه
أيضاً الدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه
والبيهقي وصححه ابن حزم كلهم من طريق أبي بكر
بن نافع عن نافع عنه.
والحديث الثاني أخرجه
أيضاً ابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم
قال الترمذي: روي مرسلاً وقال النسائي: إنه
أولى بالصواب وسماك بن حرب إذا تفرد بأصل لم
يكن حجة.
"وفي الباب" عن ابن عباس
وابن عمر أيضاً عند الدارقطني والطبراني في
الأوسط من طريق طاوس قال: "شهدت المدينة وبها
ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلي وإليها وشهد
عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر
وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقال: إن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أجاز
شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز
شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين" قال
الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو
ضعيف.
"والحديثان" المذكوران
في الباب يدلان على أنها تقبل شهادة الواحد في
دخول رمضان وإلى ذلك ذهب ابن المبارك وأحمد بن
حنبل والشافعي في أحد قوليه.
قال النووي: وهو الأصح
وبه قال المؤيد باللَّه وقال مالك والليث
والأوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه
والهادوية: إنه لا يقبل الواحد بل يعتبر اثنان
واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب
الآتي وفيه:
"فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" وبحديث أمير مكة الآتي وفيه: فإن لم نره وشهد شاهدا عدل وظاهرهما
اعتبار شاهدين وتأولوا الحديثين المتقدمين
باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم غيرهما وأجاب الأولون بأن
التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول
الواحد بالمفهوم وحديثا الباب يدلان على قبوله
بالمنطوق ودلالة المنطوق أرجح. وأما التأويل
بالاحتمال المذكور فتعسف وتجويز لو صح اعتبار
مثله لكان مفضياً إلى طرح أكثر الشريعة. وحكى
في البحر عن الصادق وأبي حنيفة وأحد قولي
المؤيد باللَّه أنه يقبل الواحد في الغيم
لاحتمال خفاء الهلال عن غيره لا الصحو فلا
يقبل إلا جماعة لبعد حفائه.
واختلف أيضاً في شهادة
خروج رمضان فحكى في البحر عن العترة جميعاً
والفقهاء أنه لا يكفي الواحد في هلال شوال.
وحكى عن أبي ثور أنه يقبل. قال النووي في شرح
مسلم: لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال
عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل
انتهى.
"واستدل" الجمهور بحديث
ابن عمر وابن عباس المتقدم وهو مما لا تقوم به
حجة لما تقدم من ضعف من" تفرد به. وأما حديث
عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وحديث أمير مكة
الآتيان فهما واردان في شهادة دخول رمضان.
وأما حديث أمير مكة فظاهر لقوله فيه نسكنا
بشهادتهما. وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن
الخطاب ففي بعض ألفاظه إلا أن يشهد شاهدا عدل
وهو مستثنى من قوله
"فأكملوا عدة شعبان"
فالكلام في شهادة دخول رمضان.
وأما اللفظ الذي سيذكره
المصنف أعني قوله
"فإن شهد مسلمان فصوموا وأفطروا" فمع كون مفهوم الشرط قد وقع الخلاف في العمل به هو أيضاً معارض بما
تقدم من قبوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لخبر
الواحد في أول الشهر وبالقياس عليه في آخره
لعدم
ج / 4 ص -188-
الفارق فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لإثبات
هذا الحكم به وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار
الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة
فالظاهر أنه يكفي فيه واحد قياساً على
الاكتفاء به في الصوم وأيضاً التعبد بقبول خبر
الواحد يدل على قبوله في كل موضع إلا ما ورد
الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد
كالشهادة على الأموال ونحوها فالظاهر ما قاله
أبو ثور ويمكن أن يقال أن مفهوم حديث عبد
الرحمن بن زيد بن الخطاب قد عورض في أول الشهر
بما تقدم وأما في آخر الشهر فلا ينتهض ذلك
القياس لمعارضته لا سيما مع تأيده بحديث ابن
عمر وابن عباس المتقدم وهو وإن كان ضعيفاً
فذلك غير مانع من صلاحيته للتأييد فيصلح ذلك
المفهوم المعتضد بذلك الحديث لتخصيص ما ورد من
التعبد بأخبار الآحاد والمقام بعد محل نظر.
ومما يؤيد القول بقبول
الواحد مطلقاً أن قبوله في أول رمضان يستلزم
الإفطار عند كمال العدة استناداً إلى قوله
وأجيب عن ذلك بأنه يجوز الإفطار بقول الواحد
ضمناً لا صريحاً وفيه نظر.
3 - وعن ربعي بن حراش عن
رجل من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال: "اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم
أعرابيان فشهدا عند النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم: باللَّه لأهلا الهلال أمس فأمر
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الناس
أن يفطروا". - رواه أحمد وأبو داود وزاد في
رواية: "وأن يغدوا إلى مصلاهم".
- الحديث سكت عنه أبو
داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح وجهالة
الصحابي غير قادحة. وفي الباب عن عبيد اللَّه
أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له: "أن
ركباً جاؤوا إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم "
أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم"
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه
وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم. ورواه
ابن حبان في صحيحه عن أنس: "أن عمومة له" وهو
وهم كما قال أبو حاتم في العلل.
"والحديث" يدل على قبول
شهادة الأعراب وأنه يكتفى بظاهر الإسلام كما
تقدم في حديث الأعرابي في أول الباب: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال له
أتشهد أن لا إله إلا اللَّه قال نهم قال
أتشهد أن محمداً رسول اللَّه قال نعم" الحديث وقد استدل بحديث الباب على
اعتبار شهادة الاثنين في الإفطار وغير خاف أن
مجرد قبول شهادة الاثنين في واقعة لا يدل على
عدم قبول الواحد.
قوله: "فأمر الناس أن
يفطروا" فيه رد على من زعم أن أمره صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بالإفطار خاص بالركب كما فعل
الجلال في رسالة له وقد نبهنا على ذلك في
الاعتراضات التي كتبناها عليها وسميناها إطلاع
أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في
الهلال من الاختلال.
4 - وعن عبد الرحمن بن
زيد بن الخطاب: "أنه خطب في اليوم الذي شك فيه
فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم وسألتهم
ج / 4 ص -189-
وأنهم حدثوني أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم قال:
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن
غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً فإن شهد شاهدان
مسلمان فصوموا وأفطروا". -
رواه أحمد ورواه النسائي ولم يقل فيه مسلمان.
5 - وعن أمير مكة الحارث
بن حاطب قال: "عهد إلينا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم
نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما". - رواه
أبو داود والدارقطني وقال: هذا إسناد متصل
صحيح.
- الحديث الأول ذكره
الحافظ في التلخيص ولم يذكر فيه قدحاً وإسناده
لا بأس به على اختلاف فيه.
والحديث الثاني سكت عنه
أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح إلا
الحسين بن الحارث الجدلي وهو صدوق وصححه
الدارقطني كما ذكر المصنف والحارث بن حاطب
المذكور له صحبة خرج مع أبيه مهاجراً إلى أرض
الحبشة وهو صغير وقيل ولد بأرض الحبشة هو
وأخوه محمد بن حاطب واستعمل على مكة سنة ست
وستين.
قوله: "وانسكوا لها" هو
أعم من قوله صوموا لرؤيته لأن النسك في اللغة
العبادة وكل حق للَّه تعالى كذا في القاموس.
قوله: "فأتموا ثلاثين
يوماً" فيه " الأمر بإتمام العدة وسيأتي
الكلام على ذلك.
قوله: "مسلمان" فيه دليل
على أنها لا تقبل شهادة الكافر في الصيام
والإفطار.
وقد استدل بالحديثين على
اشتراط العدد في شهادة الصوم والإفطار. وقد
تقدم الجواب على ذلك الاستدلال.
قوله: "شاهدا عدل" فيه
دليل على اعتبار العدالة في شهادة الصوم وعارض
ذلك من لم يشترط العدالة بحديث الأعرابي
المتقدم فإن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لم يختبره بل اكتفى بمجرد تكلمه بالشهادتين
وأجيب بأنه أسلم في ذلك الوقت والإسلام يجب ما
قبله فهو عدل بمجرد تكلمه بكلمة الإسلام وإن
لم ينضم إليها عمل في تلك الحال.
باب ما جاء في
يوم الغيم والشك.
1 - عن ابن عمر: "عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال:
إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن
غم عليكم فاقدروا له"
أخرجاه هما والنسائي وابن ماجه وفي لفظ
"الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه
فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". - رواه البخاري. وفي لفظ: "أنه ذكر رمضان فضرب بيديه فقال
الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فاقدروا ثلاثين" رواه مسلم وفي رواية أنه قال:
"إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه
ولا تفطروا حتى تروه فإن
ج / 4 ص -190-
غم عليكم فاقدروا له" رواه مسلم وأحمد وزاد قال نافع: وكان عبد اللَّه إذا مضى من شعبان
تسع وعشرون يوماً يبعث من ينظر فإن رأى فذاك
وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر
أصبح مفطراً وإن حال دون منظره سحاب أو قتر
أصبح صائماً".
- قوله: "إذا رأيتموه"
أي الهلال هو عند الإسماعيلي بلفظ: "سمعت رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول لهلال
رمضان: إذا رأيتموه فصوموا" وكذا أخرجه عبد الرزاق. وظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت
ليلاً أو نهاراً لكنه محمول على صوم اليوم
المستقبل وهو ظاهر في النهي عن ابتداء رمضان
قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها
ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن
تمسك به لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع
للمخالف شبهة وهو "ص 263" قوله "فإن غم عليكم
فاقدروا له" فاحتمل أن يكون المراد التفرقة
بين الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية
متعلقاً بالصحو وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل
أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكداً للأول وإلى
الأول ذهب أكثر الحنابلة. وإلى الثاني ذهب
الجمهور فقالوا المراد بقوله
"فاقدروا له"
أي قدروا أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين
ويرجح هذا الروايات المصرحة بإكمال العدة
ثلاثين.
قوله: "فإن غم" بضم
المعجمة وتشديد الميم أي حال بينه وبينكم سحاب
أو نحوه.
قوله: "فاقدروا" قال أهل
اللغة: يقال قدرت الشيء أقدره وأقدره بكسر
الدال وضمها وقدرته وأقدرته كلها بمعنى واحد
وهي من التقدير كما قال الخطابي ومعناه عند
الشافعية والحنفية وجمهور السلف والخلف
فاقدروا له تمام الثلاثين يوماً لا كما قال
أحمد بن حنبل وغيره أن معناه قدروه تحت السحاب
فإنه يكفي في رد ذلك الروايات المصرحة
بالثلاثين كما تقدم ولا كما قال جماعة منهم
ابن شريح ومطرف بن عبد اللَّه وابن قتيبة إن
معناه قدروه بحساب المنازل قال في الفتح: قال
ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف وأما ابن قتيبة
فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا ولا كما
نقله ابن العربي عن ابن شريح أن قوله فاقدروا
له خطاب لمن خصه اللَّه بهذا العلم. وقوله
فأكملوا العدة خطاب للعامة لأنه كما قال ابن
العربي أيضاً يستلزم اختلاف وجوب رمضان فيجب
على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب
العدد وقال: هذا بعيد عن النبلاء.
قوله: "الشهر تسع
وعشرون" ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه
لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين. والمعنى أن
الشهر يكون تسعة وعشرين أو اللام للعهد
والمراد شهر بعينيه ويؤيد الأول ما وقع في
رواية لأم سلمة من حديث الباب بلفظ الشهر يكون
تسعة وعشرين.
ويؤيد الثاني قول ابن
مسعود: "صمنا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين"
أخرجه أبو داود والترمذي ومثله عن عائشة عند
أحمد بإسناد جيد.
قوله: "فلا تصوموا حتى
تروه" ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في كل
أحد بل المراد بذلك رؤية البعض إما واحداً على
رأي الجمهور أو اثنان على رأي غيرهم وقد تقدم
الكلام
ج / 4 ص -191-
على ذلك وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من
ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها
وسيأتي تحقيقه.
قوله: "الشهر هكذا
وهكذا" الخ قال النووي: حاصله أن الاعتبار
بالهلال لأن الشهر قد يكون تاماً ثلاثين وقد
يكون ناقصاً تسعة وعشرين " وقد لا يرى الهلال
فيجب إكمال العدة ثلاثين قال: قالوا وقد يقع
النقص متوالياً في شهرين وثلاثة وأربعة ولا
يقع أكثر من أربعة.
"وفي هذا الحديث" جواز
اعتماد الإشارة.
قوله: "قتر" بفتح القاف
والتاء الفوقية وبعدها راء هو الغبرة على ما
في القاموس.
قوله: "أصبح صائماً" فيه
دليل على أن ابن عمر كان يقول بصوم الشك
وسيأتي بسط الكلام في ذلك.
2 - وعن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبى عليكم
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". -
رواه البخاري ومسلم وقال:
"فإن غبى عليكم فعدوا ثلاثين" وفي لفظ:
"صوموا لرؤيته فإن غمي عليكم فعدوا ثلاثين" رواه أحمد. وفي لفظ:
"إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه
فانظروا فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي. وفي لفظ:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا" رواه أحمد والترمذي وصححه.
- قوله: "صوموا لرؤيته"
اللام للتأقيت لا للتعليل وسيأتي الكلام على
ذلك في باب ما جاء في استقبال رمضان باليوم
واليومين.
قوله: "فإن غبى" بفتح
الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة مخففة وهو
بمعنى غم مأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة
استعار ذلك لخفاء الهلال. قوله: "فإن غمي
عليكم" بضم المعجمة وتشديد الميم وتخفيفها فهو
مغموم وهو بمعنى غم ونقل ابن العربي أنه روي
عمي بالعين المهملة من العمى وهو بمعناه لأنه
ذهاب البصر عن المشاهدات أو البصيرة عن
المعقولات.
"والحديث" يدل على أنه
يجب على من لم يشاهد الهلال ولا أخبره من
شاهده أن يكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم يصوم
ولا يجوز أن يصوم يوم ثلاثين من شعبان خلافاً
لمن قال بصوم يوم الشك وسيأتي ذكرهم ويكمل عدة
رمضان ثلاثين يوماً ثم يفطر ولا خلاف في ذلك.
3 - وعن ابن عباس قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم
وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا
الشهر استقبالاً".
- رواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه وعنه في لفظ
للنسائي:
"فأكملوا العدة عدة شعبان" رواه من حديث أبي يونس عن سماك عن عكرمة
عنه
"لا تقدموا"ص 265" "1" الشهر بصيام يوم ولا يومين
ج / 4 ص -192-
إلا أن يكون شيئاً يصومه أحدكم ولا تصوموا حتى
تروه ثم صوموا حتى تروه فإن حال دونه غمامة
فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا" رواه أبو داود.
1- وقع في آخر سطر لا
تقدموا. وصوابه: وفي لفظ لا تقدموا".
4 - وعن عائشة قالت:
"كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظه من غيره
يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً
ثم صام". - رواه أحمد وأبو داود والدارقطني.
وقال: إسناد حسن صحيح.
5 - وعن حذيفة قال: "قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
"لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا
العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا
العدة". - رواه أبو داود والنسائي.
6 - وعن عمار بن ياسر
قال:
"من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا
القاسم محمداً صلى اللَّه عليه وآله وسلم". - رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي وهو للبخاري تعليقاً.
- حديث ابن عباس أخرجه
أيضاً ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وهو من
صحيح حديث سماك بن حرب لم يدلس فيه ولم يلقن
أيضاً فإنه من رواية شعبة عنه وكان شعبة لا
يأخذ عن شيوخه ما دلسوا فيه ولا ما لقنوا.
وحديث عائشة صححه أيضاً الحافظ. وحديث حذيفة
أخرجه أيضاً ابن حبان من طريق جرير عن منصور
عن ربعي عن حذيفة. وحديث عمار أخرجه أيضاً ابن
حبان وابن خزيمة وصححاه والحاكم والدارقطني
والبيهقي من حديث صلة بن زفر قال: كنا عند
عمار فذكره وعلقه البخاري في صحيحه عن صلة
وليس هو عند مسلم وقد وهم من عزاه إليه. قال
ابن عبد البر: هذا مسند عندهم مرفوع لا
يختلفون في ذلك. وزعم أبو القاسم الجوهري أنه
موقوف ورد عليه ورواه إسحاق ابن راهويه عن
وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة. ورواه الخطيب
وزاد فيه ابن عباس.
"وفي الباب" عن أبي
هريرة عند ابن عدي في ترجمة علي القرشي وهو
ضعيف وعنه أيضاً حديث آخر عند النسائي بلفظ:
"لا تستقبلوا الشهر بصوم يوم أو يومين إلا أن يوافق ذلك صياماً كان
يصومه أحدكم"
وعنه أيضاً حديث آخر عند البزار بلفظ: "نهى
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن
صيام ستة أيام أحدها اليوم الذي يشك فيه" وفي
إسناده عبد اللَّه بن سعيد المقبري عن جده وهو
ضعيف.
وأخرجه أيضاً الدارقطني
وفي إسناده الواقدي وأخرجه أيضاً البيهقي وفي
إسناده عباد وهو عبد اللَّه بن سعيد المقبري
المتقدم وهو منكر الحديث كما قال أحمد بن
حنبل.
"وقد استدل" بهذه
الأحاديث على المنع من صوم يوم الشك.
ج / 4 ص -193-
قال النووي: وبه قال مالك والشافعي
والجمهور. وحكى الحافظ في الفتح عن مالك وأبي
حنيفة أنه لا يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز
عما سوى ذلك. قال ابن الجوزي في التحقيق:
ولأحمد في هذه المسألة وهي إذا حال دون مطلع
الهلال غيم أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان
ثلاثة أقوال:
أحدها:
يجب صومه على أنه من رمضان.
وثانيها:
لا يجوز فرضاً ولا نفلاً مطلقاً بل قضاء
وكفارة ونذراً ونفلاً يوافق عادة.
ثالثها:
المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر وذهب
جماعة من الصحابة إلى صومه منهم علي وعائشة
وعمر وابن عمر وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي
بكر وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم
وجماعة من التابعين منهم مجاهد وطاوس وسالم بن
عبد اللَّه وميمون بن مهران ومطرف بن الشخير
وبكر بن عبد اللَّه المزني وأبو عثمان النهدي.
وقال جماعة من أهل البيت
باستحبابه وقد ادعى المؤيد باللَّه أنه أجمع
على استحباب صومه أهل البيت وهكذا قال الأمير
الحسن في الشفاء والمهدي في البحر وقد أسند
لابن القيم في الهدى الرواية عن الصحابة
المتقدم ذكرهم القائلين بصومه وحكى القول
بصومه عن جميع من ذكرنا منهم. ومن التابعين
وقال وهو مذهب إمام أهل الحديث والسنة أحمد بن
حنبل واستدل المجوزون لصومه بأدلة: منها ما
أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أم سلمة أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصومه
وأجيب عنه بأن مرادها أنه كان يصوم شعبان كله
لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من
حديثها قالت: "ما رأيته يصوم شهرين متتابعين
إلا شعبان ورمضان" وهو غير محل النزاع لأن ذلك
جائز عند المانعين من صوم يوم الشك لما في
الحديث الصحيح المتفق عليه من قوله صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
"إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه".
وأيضاً قد تقرر في
الأصول أن فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا
يعارض القول الخاص بالأمة ولا العام له ولهم
لأنه يكون فعله مخصصاً له من العموم. ومنها ما
أخرجه الشافعي عن علي عليه السلام قال:
"لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان" وأجيب بأن ذلك من رواية فاطمة بنت الحسين عن علي وهي لم تدركه
فالرواية منقطعة ولو سلم الاتصال فليس ذلك
بنافع لأن لفظ الرواية أن رجلاً شهد عند علي
على رؤية الهلال فصام وأمر الناس أن يصوموا ثم
قال لأن أصوم الخ فالصوم لقيام شهادة واحد
عنده لا لكونه يوم شك وأيضاً الاحتجاج بذلك
على فرض أنه عليه السلام استحب صوم يوم الشك
من غير نظر إلى شهادة الشاهد إنما يكون حجة
على من قال بأن قوله حجة على أنه قد روى عنه
القول بكراهة صومه حكى ذلك عنه صاحب الهدى.
قال ابن عبد البر: وممن روى عنه كراهة صوم يوم
الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمار
وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس
بن مالك.
"والحاصل" أن الصحابة
مختلفون في ذلك وليس قول بعضهم بحجة على أحد
والحجة ما جاءنا عن الشارع وقد عرفته وقد
استوفيت الكلام على هذه المسألة في الأبحاث
التي كتبتها على رسالة الجلال وسيأتي الكلام
على استقبال رمضان بيوم أو يومين في آخر
الكتاب إن شاء اللَّه تعالى.
ج / 4 ص -194-
باب الهلال إذا رآه أهل بلدة هل يلزم بقية
البلاد الصوم.
1 - عن كريب: "أن أم الفضل بعثته إلى معاوية
بالشام فقال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل
علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة
الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني
عبد اللَّه بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى
رأيتم الهلال فقلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال:
أنت رأيته فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا أو صام
معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال
نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: ألا تكتفي
برؤية معاوية وصيامه فقال: لا هكذا أمرنا رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم". - رواه
الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. - قوله:
"واستهل علي رمضان" هو بضم التاء من استهل
قاله النووي.
قوله: "أفلا تكتفي" شك
أحد رواته هل هو بالخطاب لابن عباس أو بنون
الجمع للمتكلم. وقد تمسك بحديث كريب هذا من
قال أنه لا يلزم أهل بلد رؤية بلد غيرها وقد
اختلفوا في ذلك على مذاهب ذكرها صاحب الفتح.
أحدها:
أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية
غيرهم حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن
محمد وسالم وإسحاق وحكاه الترمذي عن أهل العلم
ولم يحكِ سواه وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية.
وثانيها:
أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت
ذلك عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن
البلاد في حقه "ص 268" كالبلد الواحد إذ حكمه
نافذ في الجميع قاله ابن الماجشون.
وثالثها:
أنها إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن
تباعدت فوجهان لا يجب عند الأكثر قاله بعض
الشافعية واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب
وحكاه البغوي عن الشافعي وفي ضبط البعيد أوجه
أحدها اختلاف المطالع قطع به العراقيون
والصيدلاني وصححه النووي في الروضة وشرح
المهذب. ثانيها: مسافة القصر قطع به البغوي
وصححه الرافعي والنووي.
ثالثها:
باختلاف الأقاليم حكاه في الفتح.
رابعها:
أنه يلزم أهل كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا
عارض دون غيرهم حكاه السرخسي.
خامسها:
مثل قول ابن الماجشون المتقدم.
سادسها:
أنه لا يلزم إذا اختلفت الجهتان ارتفاعاً
وانحداراً كأن يكون أحدهما سهلاً والآخر جبلاً
أو كان كل بلد في إقليم حكاه المهدي في البحر
عن الإمام يحيى والهادوية.
وحجة أهل هذه الأقوال
حديث كريب هذا. ووجه الاحتجاج به أن ابن عباس
لم يعمل برؤية أهل الشام وقال في آخر الحديث:
"هكذا أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم" فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه لا يلزم أهل
بلد العمل برؤية
ج / 4 ص -195-
أهل بلد آخر.
"واعلم" أن الحجة إنما
هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في
اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إليه
بقوله هكذا أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم هو قوله فلا نزال نصوم حتى نكمل
ثلاثين والأمر الكائن من رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم هو ما أخرجه الشيخان
وغيرهما بلفظ:
"لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا
العدة ثلاثين".
وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من
يصلح له من المسلمين فالاستدلال به على لزوم
رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من
الاستدلال به على عدم اللزوم لأنه إذا رآه أهل
بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم
ولو سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى
عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر لكان عدم
اللزوم مقيداً بدليل العقل وهو أن يكون بين
القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع
وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم
البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد
وليس بحجة ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل
فلا يشك عالم أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار
يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام
الشرعية والرؤية من جملتها وسواء كان بين
القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع
أم لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل ولو سلم
صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص فينبغي أن يقتصر
فيه على محل النص إن كان النص معلوماً أو على
المفهوم منه إن لم يكن معلوماً لوروده على
خلاف القياس ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم ولا بمعنى لفظه حتى
ننظر في عمومه وخصوصه إنما جاءنا بصيغة مجملة
أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة
برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد ولم
نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصاً لذلك
العموم فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك
الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به فلا
يجب على أهل المدينة العمل برؤية أهل الشام
دون غيرهم ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا
نعقلها ولو نسلم صحة الإلحاق وتخصيص العموم به
فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من
البعد ما بين المدينة والشام أو أكثر وأما في
أقل من ذلك فلا وهذا ظاهر فينبغي أن ينظر ما
دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو
البلد في المنع من العمل بالرؤية والذي ينبغي
اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من
الزيدية واختاره المهدي منهم أو حكاه القرطبي
عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد
كلها ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من
أن هذا القول خلاف الإجماع قال: لأنهم قد
أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من
البلدان كحراسان والأندلس وذلك لأن الإجماع لا
يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة.
باب وجوب النية من الليل في الفرض دون النفل.
1 - عن ابن عمر عن حفصة:
"عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال:
من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". -
رواه الخمسة. - الحديث أخرجه أيضاً ابن خزيمة
وابن حبان وصححاه مرفوعاً وأخرجه أيضاً
الدارقطني
ج / 4 ص -196-
قال في التلخيص: واختلف الأئمة في رفعه
ووقفه فقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا أدري
أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد
اللَّه بن أبي بكر عن الزهري عن سالم أو رواية
إسحاق بن حازم عن عبد اللَّه بن أبي بكر عن
سالم بغير واسطة الزهري لكن الوقف أشبه. وقال
أبو داود: لا يصح رفعه وقال الترمذي: الموقوف
أصح ونقل في العلل عن البخاري أنه قال: هو خطأ
وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف
وقال النسائي: الصواب عندي موقوف ولم يصح "ص
270" رفعه. وقال أحمد: ما له عندي ذلك
الإسناد. وقال الحاكم في الأربعين: صحيح على
شرط الشيخين. وقال في المستدرك: صحيح على شرط
البخاري. وقال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه
روي موقوفاً. وقال الخطابي: أسنده عبد اللَّه
بن أبي بكر والزيادة من الثقة مقبولة. وقال
ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة وقال
الدارقطني: كلهم ثقات انتهى كلام التلخيص. وقد
تقرر في الأصول وعلم الاصطلاح أن الرفع من
الثقة زيادة مقبولة وإنما قال ابن حزم إن
الاختلاف يزيد الخبر قوة لأن من رواه مرفوعاً
فقد رواه موقوفاً باعتبار الطرق.
"وفي الباب" عن عائشة
عند الدارقطني وفيه عبد اللَّه بن عباد وهو
مجهول وقد ذكره ابن حبان في الضعفاء وعن
ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضاً بلفظ:
"سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يقول:
من أجمع الصيام من الليل فليصم ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم" وفي إسناده الواقدي.
"والحديث" فيه دليل على
وجوب تبييت النية وإيقاعها في جزء من أجزاء
الليل وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر وجابر بن يزيد
من الصحابة والناصر والمؤيد باللَّه ومالك
والليث وابن أبي ذئب ولم يفرقوا بين الفرض
والنفل.
وقال أبو طلحة وأبو
حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل والهادي
والقاسم: إنه لا يجب التبييت في التطوع ويروى
عن عائشة أنها تصح النية بعد الزوال. وروي عن
علي عليه السلام والناصر وأبي حنيفة وأحد قولي
الشافعي أنها لا تصح النية بعد الزوال. وقالت
الهادوية وروي عن علي وابن مسعود والنخعي أنه
لا يجب التبييت إلا في صوم القضاء والنذر
المطلق والكفارات وأن وقت النية في غير هذه من
غروب شمس اليوم الأول إلى بقية من نهار اليوم
الذي صامه.
وقد استدل القائلون بأنه
لا يجب التبييت بحديث سلمة بن الأكوع والربيع
عند الشيخين: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم أمر رجلاً من أسلم أن أذن في الناس
إذ فرض صوم عاشوراء الأكل من أكل فليمسك ومن
لم يأكل فليصم".
وأجيب بأن خبر حفصة
متأخر فهو ناسخ لجوازها في النهار ولو سلم عدم
النسخ فالنية إنما صحت في نهار عاشوراء لكن
الرجوع إلى الليل غير مقدور والنزاع فيما كان
مقدوراً فيخص الجواز بمثل هذه الصورة أعني من
ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار كالمجنون
يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم وكمن انكشف له
في النهار أن ذلك اليوم من رمضان. واستدلوا "ص
271" أيضاً بحديث عائشة الآتي وسيأتي الجواب
عنه.
"والحاصل" أن قوله لا
صيام نكرة في سياق النفي فيعم كل صيام ولا
يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط
فيه التبييت والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة
لأنها أقرب المجازين إلى
ج / 4 ص -197-
الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية فيصلح
الحديث للاستدلال به على عدم صحة صوم من لا
يبيت النية إلا ما خص كالصورة المتقدمة.
والحديث أيضاً يرد على
الزهري وعطاء وزفر لأنهم لم يوجبوا النية في
صوم رمضان وهو يدل على وجوبها.
ويدل أيضاً على الوجوب
حديث إنما الأعمال بالنيات والظاهر وجوب
تجديدها لكل يوم لأنه عبادة مستقلة مسقطة لفرض
وقتها وقد وهم من قاس أيام رمضان على أعمال
الحج باعتبار التعدد للأفعال لأن الحج عمل
واحد ولا يتم إلا بفعل ما اعتبره الشارع من
المناسك والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم
إجزائه.
قوله: "يجمع" أي يعزم
يقال أجمعت على الأمر أي عزمت عليه. قال
المنذري: يجمع بضم الياء آخر الحروف وسكون
الجيم من الإجماع وهو أحكام النية والعزيمة
يقال أجمعت الرأي وأزمعت بمعنى واحد.
2 - وعن عائشة قالت:
"دخل علي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم ذات يوم فقال:
هل عندكم من شيء فقلنا: لا فقال:
فإني إذن صائم ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول اللَّه أهدي لنا حيس فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل". - رواه الجماعة إلا البخاري وزاد النسائي: "ثم قال إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها
وإن شاء حبسها"
وفي لفظ أيضاً: "قال يا عائشة
إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع
بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله فجاد منها بما شاء
فأمضاه وبخل منها مما شاء فأمسكه"
قال البخاري: وقالت أم الدرداء: "كان أبو
الدرداء يقول عندكم طعام فإن قلنا لا قال فإني
صائم يومي هذا" قال: وفعله أبو طلحة وأبو
هريرة وابن عباس وحذيفة رضي اللَّه عنهم. -
الرواية الأولى أخرجها أيضاً الدارقطني
والبيهقي وفي لفظ لمسلم: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول
هل من غداء
فإن قالوا لا قال
فإني صائم"
وله ألفاظ عنده.
ورواه أبو داود وابن
حبان والدارقطني بلفظ: "كان النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يأتينا فيقول
هل عندكم من غداء فإن قلنا نعم تغدى وإن قلنا لا قال
إني صائم
وإنه أتانا ذات يوم وقد أهدي لنا حيس" الحديث.
قوله: "حيس" بفتح الحاء
المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها سين
مهملة هو طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن
وقد يجعل عوض الأقط الدقيق والفتيت قاله في
النهاية. وقد استدل بحديث عائشة أنه لا يجب
تبييت النية في صوم التطوع وهم الجمهور كما
قال النووي وأجيب عنه بأنه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قد كان نوى الصوم من الليل وإنما
أراد الفطر لما ضعف عن الصوم وهو محتمل لا
سيما على رواية
"فلقد أصبحت صائماً" ولو سلم عدم الاحتمال كان غايته تخصيص صوم التطوع من
ج / 4 ص -198-
عموم قوله: "فلا صيام له".
قوله: "إنما مثل صوم
المتطوع" الخ فيه دليل على أنه يجوز للمتطوع
بالصوم أن يفطر ولا يلزمه الاستمرار على الصوم
وإن كان أفضل بالإجماع وظاهره أن من أفطر في
التطوع لم يجب عليه القضاء وإليه ذهب الجمهور.
وقال أبو حنيفة ومالك
والحسن البصري ومكحول والنخعي أنه لا يجوز
للمتطوع الإفطار ويلزمه القضاء إذا فعل
واستدلوا على وجوب القضاء بما وقع في رواية
للدارقطني والبيهقي من حديث عائشة بلفظ: واقضي
يوماً مكانه ولكنهما قالا هذه الزيادة غير
محفوظة.
قوله: "كان أبو الدرداء"
هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق.
قوله: "وفعله أبو طلحة
وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة" أما أثر أبي
طلحة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة. وأما
أثر أبي هريرة فوصله البيهقي وعبد الرزاق.
وأما أثر ابن عباس فوصله الطحاوي. وأما أثر
حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة أيضاً.
باب الصبي يصوم
إذا أطاق وحكم من وجب عليه الصوم في أثناء
الشهر أو اليوم.
1 - عن الربيع بنت
المعوذ قالت: "أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار
التي حول المدينة من كان أصبح صائماً فليتم
صومه ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه
فكنا بعد ذلك نصومه ونصومه صبياننا الصغار
منهم ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعب من
العهن فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناها إياه
حتى يكون عند الإفطار". - أخرجاه. قال
البخاري: وقال عمر لنشوان رمضان ويلك وصبياننا
صيام وضربه. - قوله: "الربيع" بتشديد الياء
مصغراً ومعوذ بكسر الواو المشددة وهو ابن عون
ويعرف بابن عفراء.
قوله: "اللعبة" بضم
اللام المشددة بعدها عين مهملة ساكنة ثم باء
موحدة ثم تاء تأنيث وهي الشيء الذي يلعب به
الصبيان.
قوله: "من العهن" أي
الصوف قيل هو المصبوغ منه.
قوله: "أعطيناها إياه
حتى يكون عند الإفطار" وقع في مسلم: "أعطيناه
إياه عند الإفطار" وهو مشكل ورواية البخاري
توضح أنه سقط منه شيء. وقد رواه مسلم أيضاً من
وجه آخر فقال فيه: "فإذا سألونا الطعام
أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم".
قوله: "لنشوان" هو بفتح
النون وسكون المعجمة كسكران وزناً ومعنى وجمعه
نشاوى كسكارى. قال ابن خالويه: سكر الرجل
فانتشى وثمل بمعنى. وقال صاحب المحكم: نشا
الرجل وانتشى وتنشى كله بمعنى سكر. وقال ابن
التين: النشوان السكران سكراً خفيفاً وهذا
الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في الجعديات
بلفظ: "أن عمر بن الخطاب أتي برجل شرب الخمر
في رمضان فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين
والفم" وفي رواية البغوي فلما رفع إليه عثر
فقال عمر على وجهك ويحك وصبياننا صيام. ثم أمر
به فضرب ثمانين سوطاً
ج / 4 ص -199-
ثم سيره إلى الشام.
"الحديث" استدل به على
أن عاشوراء كان فرضاً قبل أن يفرض رمضان وعلى
أنه يستحب أمر الصبيان بالصوم للتمرين عليه
إذا أطاقوه وقد قال باستحباب ذلك جماعة من
السلف منهم ابن سيرين والزهري والشافعي وغيرهم
واختلف أصحاب الشافعي في تحديد السن التي يؤمر
الصبي عندها بالصيام فقيل سبع سنين وقيل عشر
وبه قال أحمد وقيل اثنتا عشرة سنة وبه قال
إسحاق وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام
تباعاً لا يضعف فيهن حمل على الصوم والمشهور
عن المالكية أن الصوم لا يشرع في حق الصبيان
والحديث يرد عليهم لأنه يبعد كل البعد أن لا
يطلع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم على
ذلك.
وأخرج ابن خزيمة من حديث
رزينة بفتح الراء وكسر الزاي: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم كان يأمر برضعائه
ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم
أن لا يرضعن إلى الليل".
وقد توقف ابن خزيمة في
صحته " قال الحافظ: وإسناده لا بأس به وهو يرد
على القرطبي قوله لعل النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم لم يعلم بذلك ويبعد أن يكون أمر
بذلك لأنه تعذيب صغير بعبادة شاقة غير متكررة
في السنة انتهى.
مع أن الصحيح عند أهل
الأصول والحديث أن الصحابي إذا قال فعلنا كذا
في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
كان حكمه الرفع لأن الظاهر إطلاعه عليه مع
توفر دواعيهم إلى سؤالهم إياه عن الأحكام مع
أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه لأنه إيلام
لغير مكلف فلا يكون إلا بدليل ومذهب الجمهور
أنه لا يجب الصوم على من دون البلوغ وذكر
الهادي في الأحكام أنه يجب على الصبي الصوم
بالإطاقة لصيام ثلاثة أيام واحتج على ذلك بما
رواه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه
قال:
"إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام
الشهر كله"
هذا الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير
وقال أخرجه المرهبي عن ابن عباس ولفظه:
"تجب الصلاة على الغلام إذا عقل والصوم إذا أطاق والحدود والشهادة إذا
احتلم"
وقد حمل المرتضى كلام الهادي على لزوم التأديب
وحمله السادة الهارونيون على أنه يؤمر بذلك
تعويداً وتمريناً.
2 - وعن سفيان بن عبد
اللَّه بن ربيعة قال: "حدثنا وفدنا الذين
قدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم بإسلام ثقيف قالوا وقدموا عليه في رمضان
وضرب عليهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا
ما بقي عليهم من الشهر". - رواه ابن ماجه.
3 - وعن عبد الرحمن بن
مسلمة عن عمه: "أن أسلم أتت إلى النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فقال:
صمتم يومكم هذا قالوا: لا قال:
فأتموا بقية يومكم واقضوا". -
رواه أبو داود.
- الحديث الأول إسناده
في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا محمد بن يحيى
حدثنا أحمد بن خالد الوهبي حدثنا محمد بن
إسحاق عن عيسى بن عبد اللَّه بن مالك عن عطية
بن سفيان بن عبد اللَّه فذكره ورجال إسناده
فيهم الثقة والصدوق ومن لا بأس به وفيه عنعنة
محمد بن إسحاق وهذا الحديث هو طرف
ج / 4 ص -200-
أبواب ما يبطل الصوم وما يكره وما يستحب.
باب ما جاء في الحجامة.
1 - عن رافع بن خديج قال: "قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
أفطر الحاجم والمحجوم". - رواه أحمد والترمذي. ولأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث ثوبان
وحديث شداد بن أوس مثله. ولأحمد وابن ماجه من
حديث أبي هريرة مثله. ولأحمد من حديث عائشة
وحديث أسامة بن زيد مثله.
2 - وعن ثوبان: "أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أتى على رجل
يحتجم في رمضان فقال
أفطر الحاجم والمحجوم".
3 - وعن الحسن بن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال: "مر عليَّ
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأنا
أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان
فقال
أفطر الحاجم والمحجوم". -
رواهما أحمد وهما دليل على أن من فعل ما يفطر
جاهلاً يفسد صومه بخلاف الناسي. قال أحمد: أصح
حديث في هذا الباب حديث رافع بن خديج وقال ابن
المديني: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان
وشداد بن أوس. - حديث رافع أخرجه ابن حبان
والحاكم وصححاه قال الترمذي: ذكر عن أحمد أنه
قال: هذا أصح شيء في هذا الباب وبالغ أبو حاتم
فقال: هو عندي من طريق رافع باطل. ونقل عن
يحيى بن معين أنه قال: هو أضعف أحاديث الباب.
وحديث ثوبان أخرجه أيضاً النسائي وابن حبان
والحاكم وروي عن أحمد أنه قال: هو أصح ما روي
في الباب وكذا قال الترمذي
من حديث قدوم ثقيف على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
وإنزاله لهم المسجد.
والحديث الثاني أخرجه
الترمذي أيضاً من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن
مسلمة عن عمه فذكره.
"الحديث الأول" يدل على
وجوب الصيام على من أسلم في رمضان ولا أعلم
فيه خلافاً.
"والحديث الثاني" فيه
دليل على أنه يجب الإمساك على من أسلم في نهار
رمضان ويلحق به من تكلف أو فاق من الجنون أو
زال عذره المانع من الصوم وأنه يجب عليه
القضاء لذلك اليوم وإن لم يكن مخاطباً بالصوم
في أوله. قال في الفتح: وعلى تقدير أن لا يثبت
هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين القضاء
لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء
كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار.
قال المصنف رحمه اللَّه
تعالى بعد أن ساق حديث الربيع وما بعده ما
لفظه: وهذا حجة في أن صوم عاشوراء كان واجباً
وأن الكافر إذا أسلم أو بلغ الصبي في أثناء
يومه لزمه إمساكه وقضاؤه ولا حجة فيه على سقوط
تبييت النية لأن صومه إنما لزمهم في أثناء
اليوم انتهى. وقد قدمنا الكلام على جميع هذه
الأطراف.
ج / 4 ص -201-
عن البخاري وصححه البخاري تبعاً لعلي بن
المديني نقله الترمذي في العلل. وحديث شداد بن
أوس أخرجه أيضاً النسائي وابن خزيمة وابن حبان
وصححاه وصححه أيضاً أحمد والبخاري وعلي بن
المديني.
وحديث أبي هريرة أخرجه
أيضاً النسائي من طريق عبد اللَّه بن بشير عن
الأعمش عن أبي صالح عنه وله طريق أخرى عن شقيق
بن ثور عن أبيه عنه. وحديث عائشة أخرجه أيضاً
النسائي وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وحديث
أسامة أخرجه أيضاً النسائي وفيه اختلاف. وحديث
ثوبان الآخر أخرجه أيضاً النسائي وهو أحد
ألفاظ حديثه المشار إليه أولاً. وحديث معقل بن
سنان في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط
ورواه الطبراني في الكبير وأخرجه أيضاً
النسائي وذكر الاختلاف فيه.
"وفي الباب" عن أبي موسى
عند النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني.
وقال النسائي: رفعه خطأ والموقوف أخرجه ابن
أبي شيبة وعلقه البخاري ووصله أيضاً بدون ذكر
أفطر الحاجم والمحجوم له. وعن بلال عند
النسائي. وعن علي عند النسائي أيضاً. قال علي
بن المديني اختلف فيه على الحسن. وعن أنس
وجابر وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي يزيد
الأنصاري وابن مسعود عند ابن عدي في الكامل
والبزار وغيرهما.
"وقد استدل" بأحاديث
الباب القائلون بفطر الحاجم والمحجوم ويجب
عليهما القضاء وهم علي وعطاء والأوزاعي وأحمد
وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبو
الوليد النيسابوري وابن حبان حكاه عن هؤلاء
الجماعة صاحب الفتح وصرح بأنهم يقولون أنه
يفطر الحاجم والمحجوم له وهو يرد ما قاله
المهدي في البحر وتبعه المغربي في شرح بلوغ
المرام وصاحب ضوء النهار من أنه لم يقل أحد من
العلماء بأن الحاجم يفطر. ومن القائلين بأنه
يفطر الحاجم والمحجوم له أبو هريرة وعائشة قال
الزعفراني: إن الشافعي علق القول به على صحة
الحديث وبذلك قال الداودي من المالكية. وذهب
الجمهور إلى أن الحجامة لا تفسد الصوم وحكاه
في البحر عن جماعة من الصحابة منهم علي وابنه
الحسن وأنس وأبو سعيد الخدري وزيد بن" أرقم
وعن العترة وأكثر الفقهاء والحسن البصري وعطاء
والصادق. قال الحازمي: ممن روينا عنه ذلك من
الصحابة سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي وابن
مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم وابن عمر وأنس
وعائشة وأم سلمة ومن التابعين والعلماء الشعبي
وعروة والقاسم بن محمد وعطاء بن يسار وزيد بن
أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم وسفيان
ومالك والشافعي وأصحابه إلا ابن المنذر.
وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنها منسوخة
بالأحاديث التي ستأتي. وأجيب عن ذلك بما
سنذكره في شرحها وأجابوا أيضاً بما أخرجه
الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في المعرفة
عن ثوبان أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنما
قال أفطر الحاجم والمحجوم لأنهما كانا يغتابان
ورد بأن في إسناده يزيد بن ربيعة وهو متروك
وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل. قال ابن
خزيمة: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم إنما قال أفطر الحاجم والمحجوم
لأنهما كانا يغتابان فإذا قيل له فالغيبة تفطر
الصائم قال لا فعلى هذا لا يخرج من مخالفة
الحديث بلا شبهة وأجابوا أيضاً بأن المراد
بقوله أفطر الحاجم والمحجوم أنهما سيفطران
ج / 4 ص -202-
باعتبار ما يؤل الأمر إليه كقوله تعالى
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا التأويل.
وقال البغوي في شرح
السنة: معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا
للإفطار أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من
الدم إلى جوفه عند المص وأما المحجوم فلأنه لا
يأمن من ضعف قوته بخروج الدم فيؤل أمره إلى أن
يفطر وهذا أيضاً جواب متكلف وسيأتي التصريح
بما هو الحق.
4 - عن ابن عباس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم احتجم وهو
محرم واحتجم وهو صائم" رواه أحمد والبخاري.
وفي لفظ: "احتجم وهو محرم صائم". - رواه أبو
داود وابن ماجه والترمذي وصححه.
5 - وعن ثابت البناني
أنه قال لأنس ابن مالك: "أكنتم تكرهون الحجامة
للصائم على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال: لا إلا من أجل الضعف". - رواه
البخاري.
6 - وعن عبد الرحمن بن
أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال: "إنما نهى النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة
للصائم إبقاء على أصحابه ولم يحرمهما". - رواه
أحمد وأبو داود.
7 - وعن أنس قال: "أول
ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر ابن أبي طالب
احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فقال أفطر هذان ثم رخص النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بعد في الحجامة للصائم
وكان أنس يحتجم وهو صائم". - رواه الدارقطني
وقال: كلهم ثقات ولا أعلم له علة. - حديث ابن
عباس ورد على أربعة أوجه كما حكاه في التلخيص
عن بعض الحفاظ الأول احتجم وهو محرم. الثاني
احتجم وهو صائم. الثالث كالرواية الأولى التي
ذكرها المصنف. الرابع كالرواية الثانية التي
ذكرها المصنف. وقد أخرج اللفظ الأول من
الأربعة الشيخان من حديث عبد اللَّه بن بحينة
وله طرق شتى عند النسائي وغيره من حديث أنس
وجابر والثاني رواه أصحاب السنن من طريق الحكم
عن مقسم عن ابن عباس لكن أعل بأنه ليس من
مسموع الحكم عن مقسم وله طرق أخرى. والثالث
أخرجه من ذكر المصنف وكذلك الرابع وأعله أحمد
وعلي بن المديني وغيرهما فقال أحمد: ليس فيه
صائم إنما هو محرم عند أصحاب ابن عباس. وقال
أبو حاتم: هذا خطأ أخطأ فيه شريك وقال
الحميدي: إنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم
يكن محرماً صائماً لأنه خرج في رمضان في غزاة
الفتح ولم يكن محرماً انتهى.
وإذا صح فينبغي أن يحمل
على أن كل واحد من الصوم والإحرام وقع في حالة
مستقلة وهذا لا مانع منه وقد صح أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صام في
ج / 4 ص -203-
رمضان
وهو مسافر وزاد الشافعي وابن عبد البر وغير
واحد أن ذلك في حجة الوداع. قال الحافظ: وفيه
نظر لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان
مفطراً كما صح أن أم الفضل أرسلت إليه بقدح
لبن فشربه وهو واقف بعرفة وعلى تقدير وقوع ذلك
فقد قال ابن خزيمة: هذا الخبر لا يدل على أن
الحجامة لا تفطر الصائم لأنه إنما احتجم وهو
صائم محرم في سفر لا في حضر لأنه لم يكن قط
محرماً مقيماً ببلد قال: وللمسافر أن يفطر ولو
نوى الصوم ومضى عليه بعض النهار خلافاً لمن
أبى ذلك ثم احتج له لكن تعقب عليه الخطابي بأن
قوله وهو صائم دال على بقاء الصوم.
قال الحافظ: قلت ولا مانع من إطلاق ذلك
باعتبار ما كان عليه حالة الاحتجام لأنه على
هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام انتهى.
وحديث أنس الأول اعترض على البخاري فيه بأنه
سقط من إسناده حميد ما بين شعبة وثابت
البناني. وقال الحافظ: إن الخلل وقع فيه من
غير البخاري وبين وجه ذلك.
وحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه أيضاً عبد
الرزاق. قال في الفتح: وإسناده صحيح والجهالة
بالصحابي لا تضر. وقوله إبقاء على أصحابه
متعلق "ص 279" بقوله نهى. وقد رواه ابن أبي
شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه عن
أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم قالوا
إنما نهى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن
الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف.
وحديث أنس الآخر قال في الفتح: رواته كلهم من
رجال البخاري.
"وفي الباب" عن أبي سعيد الخدري قال: رخص
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الحجامة
أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني قال
الحافظ: إسناده صحيح ورجاله ثقات لكن اختلف في
رفعه ووقفه واستشهد له بحديث أنس المذكور.
وله حديث آخر عند الترمذي والبيهقي: "أنه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال:
ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام" وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
وقال الترمذي: هذا الحديث غير محفوظ. وقد رواه
الداروردي وغير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً
ورواه أبو داود عن زيد بن أسلم عن رجل من
أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ورجحه
أبو حاتم وأبو زرعة وقال: إنه أصح وأشبه
بالصواب وتبعهما البيهقي. وقال الدارقطني:
رواه كامل بن طلحة عن مالك بن زيد موصولاً ثم
رجع عنه وليس هو من حديث مالك قال: ورواه هشام
بن سعد عن زيد موصولاً ولا يصح وأخرجه في
السنن.
"وفي الباب" عن ابن عباس عند البزار وهو معلول
وعن ثوبان عند الطبراني وسنده ضعيف. وقد استدل
الجمهور بالأحاديث المذكورة على أن الحجامة لا
تفطر ولكن حديث ابن عباس لا يصلح لنسخ
الأحاديث السابقة أما أولاً فلأنه لم يعلم
تأخره لما عرفت من عدم انتهاض تلك الزيادة
أعني قوله في حجة الوداع وأما ثانياً فغاية
فعل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الواقع
بعد عموم يشمله أن يكون مخصصاً له من العموم
لا رافعاً لحكم العام نعم حديث ابن أبي ليلى
وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة
ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم فيجمع
بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة في حق من كان
يضعف بها وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ
إلى حد يكون سبباً للإفطار ولا تكره في حق من
كان لا يضعف بها وعلى كل حال تجنب الحجامة
للصائم أولى فيتعين حمل قوله أفطر الحاجم
والمحجوم على المجاز لهذه الأدلة الصارفة له
عن معناه الحقيقي .
ج / 4 ص -204-
باب ما جاء في القيء والاكتحال.
1 - عن أبي هريرة: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء
عمداً فليقض". -
رواه الخمسة إلا النسائي. - الحديث أخرجه
أيضاً ابن حبان والدارقطني والحاكم وله ألفاظ.
قال النسائي: وقفه عطاء على أبي هريرة. وقال
الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث هشام عن محمد
عن أبي هريرة تفرد به عيسى بن يونس. وقال
البخاري: لا أراه محفوظاً وقد روي من غير وجه
ولا يصح إسناده. وقال أبو داود و بعض الحفاظ:
لا نراه محفوظاً. قال الحافظ: وأنكره أحمد
وقال في روايته ليس من ذا شيء يعني أنه غير
محفوظ كما قال الخطابي وصححه الحاكم على
شرطهما.
"وفي الباب" عن ابن عمر
موقوفاً عند مالك في الموطأ والشافعي بلفظ:
"من استقاء وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه
القيء فليس عليه القضاء".
قوله: "من ذرعه" قال في التلخيص: هو بفتح الذال المعجمة أي
غلبه.
قوله: "من استقاء عمداً"
أي استدعى القيء وطلب خروجه تعمداً.
"والحديث" يدل على أنه
لا يبطل صوم من غلبه القيء ولا يجب عليه
القضاء ويبطل صوم من تعمد إخراجه ولم يغلبه
ويجب عليه القضاء. وقد ذهب إلى هذا علي وابن
عمر وزيد بن أرقم وزيد بن علي والشافعي
والناصر والإمام يحيى حكى ذلك عنهم في البحر.
وحكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء
يفسد الصيام.
وقال ابن مسعود وعكرمة
وربيعة والهادي والقاسم: إنه لا يفسد الصوم
سواء كان غالباً أو مستخرجاً ما لم يرجع منه
شيء باختيار واستدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم
في الباب الذي قبل هذا بلفظ:
"ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام"
وأجيب بأن فيه المقال المتقدم فلا ينتهض معه
للاستدلال. ولو سلم صلاحيته لذلك فهو محمول
كما قال البيهقي على من ذرعه القيء وهذا لا بد
منه لأن ظاهر حديث أبي سعيد أن القيء لا يفطر
مطلقاً وظاهر حديث أبي هريرة أنه يفطر نوع منه
خاص فيبني العام على الخاص ويؤيد حديث أبي
هريرة ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن الجارود وابن حبان والدارقطني
والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم من حديث
أبي الدرداء: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قاء فأفطر".
قال معدان ابن أبي طلحة
الراوي له عن أبي الدرداء: فلقيت ثوبان في
مسجد دمشق فقلت له أن أبا الدرداء أخبرني
فذكره فقال: صدق أنا صببت عليه وضوءه. قال ابن
منده: إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف
في إسناده. قال الترمذي: جوده حسين المعلم وهو
أصح شيء في هذا الباب وكذلك قال أحمد. قال
البيهقي: هذا حديث مختلف في إسناده فإن صح فهو
محمول على القيء عامداً وكأنه كان صلى اللَّه
عليه وآله وسلم صائماً تطوعاً وقال في موضع
آخر: إسناده مضطرب ولا تقوم به حجة.
2 - وعن عبد الرحمن بن
النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده: "عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه أمر
بالإثمد المروح عند النوم وقال: ليتقه
ج / 4 ص -205-
الصائم" - رواه أبو داود والبخاري في تاريخه. وفي إسناده مقال قريب. قال
ابن معين: عبد الرحمن هذا ضعيف وقال أبو حاتم
الرازي: هو صدوق.
- الحديث قال ابن معين
أيضاً: هو منكر. وقال الذهبي: إنه روي عن سعيد
بن إسحاق فقلب اسمه أولاً فقال عن إسحاق بن
سعيد بن كعب ثم غلط في الحديث فقال عن أبيه عن
جده ثم النعمان بن معبد غير معروف. وقد استدل
بهذا الحديث ابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا:
إن الكحل يفسد الصوم وخالفهم العترة والفقهاء
وغيرهم فقالوا: إن الكحل لا يفسد الصوم
وأجابوا عن الحديث بأنه ضعيف لا ينتهض
للاحتجاج به.
واستدل ابن شبرمة وابن
أبي ليلى بما أخرجه البخاري تعليقاً ووصله
البيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة من حديث ابن
عباس بلفظ:
"الفطر مما دخل والوضوء مما خرج" قال: وإذا وجد طعمه فقد دخل ويجاب بأن في إسناده الفضل بن المختار
وهو ضعيف جداً وفيه أيضاً شعبة مولى ابن عباس
وهو ضعيف.
وقال ابن عدي: الأصل في
هذا الحديث أنه موقوف. وقال البيهقي: لا يثبت
مرفوعاً ورواه سعيد بن منصور موقوفاً من طريق
الأعمش عن أبي ظبيان عنه. ورواه الطبراني من
حديث أبي أمامة. قال الحافظ: وإسناده أضعف من
الأول. ومن حديث ابن عباس مرفوعاً.
"واحتج الجمهور" على أن
الكحل لا يفسد الصوم بما أخرجه ابن ماجه عن
عائشة أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
اكتحل في رمضان وهو صائم "ص 282" وفي إسناده
بقية عن الزبيدي عن هشام عن عروة والزبيدي
المذكور اسمه سعيد ابن أبي سعيد ذكره ابن عدي
وأورد هذا الحديث في ترجمته وكذا قال البيهقي
وصرح به في روايته وزاد أنه مجهول.
وقال النووي في شرح
المهذب: رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من رواية
بقية عن سعد بن أبي سعيد وهو ضعيف قال: وقد
اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين
مردودة انتهى.
قال الحافظ: وليس سعيد
ابن أبي سعيد بمجهول بل هو ضعيف واسم أبيه عبد
الجبار على الصحيح وفرق ابن عدي بين سعيد بن
أبي سعيد الزبيدي فقال هو مجهول وسعيد بن عبد
الجبار فقال هو ضعيف وهما واحد. ورواه البيهقي
من طريق محمد بن عبد اللَّه بن أبي رافع عن
أبيه عن جده: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم كان يكتحل وهو صائم". قال ابن أبي
حاتم عن أبيه: هذا حديث منكر وقال في محمد:
إنه منكر الحديث وكذا قال البخاري ورواه ابن
حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر قال في
التلخيص: وسنده مقارب.
ورواه ابن أبي عاصم في
كتاب الصيام له من حديث ابن عمر أيضاً بلفظ:
"خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم وعيناه مملوءتان من الإثمد وذلك في رمضان
وهو صائم" ورواه الترمذي من حديث أنس في الأذن
فيه لمن اشتكت عينه. وقال: إسناده ليس بالقوي
ولا يصح عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
في هذا الباب شيء.
ورواه أبو داود من فعل
أنس قال الحافظ: ولا بأس بإسناده قال: وفي
الباب عن بريرة مولاة عائشة في الطبراني. وعن
ابن عباس في شعب الإيمان للبيهقي والظاهر ما
ذهب إليه الجمهور لأن
ج / 4 ص -206-
البراءة الأصلية لا تنتقل عنها إلا بدليل
وليس في الباب ما يصلح للنقل لا سيما بعد أن
شد هذا الحديث من عضدها وعلى فرض صلاحية حديث
الفطر مما دخل للاحتجاج به يكون اكتحال النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم مخصصاً للكحل وكذلك
على فرض صلاحية حديث الباب يكون محمولاً على
الأمر باجتناب الكحل المطيب لأن المروح هو
المطيب فلا يتناول ما لا طيب فيه ويمكن أن
يقال حديث الاكتحال صارف للأمر عن حقيقته أعني
الوجوب فيكون الاكتحال مكروهاً ولكنه يبعد أن
يفعل صلى اللَّه عليه وآله وسلم ما هو مكروه.
قوله: "بالإثمد" بكسر
الهمزة وهو حجر للكحل كما في القاموس
باب من أكل أو
شرب ناسياً.
1 - عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما
اللَّه أطعمه وسقاه". -
رواه الجماعة إلا النسائي. وفي لفظ:
"إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما
هو رزق ساقه اللَّه إليه ولا قضاء عليه" رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. وفي لفظ: "من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" قال الدارقطني: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري.
- لفظ الدارقطني الأول
أخرجه من رواية محمد بن عيسى بن الطباع عن ابن
علية عن هشام عن ابن سيرين عنه وقال بعد قوله
إسناده صحيح: إن رواته كلهم ثقات.
واللفظ الثاني أخرجه
أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال الحافظ
في بلوغ المرام: وهو صحيح وقد تعقب قول
الدارقطني إنه تفرد به محمد بن مرزوق عن
الأنصاري بأن ابن خزيمة أيضاً أخرجه عن
إبراهيم بن محمد الباهلي عن الأنصاري وبأن
الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي عن
الأنصاري أيضاً قال الأنصاري هو المتفرد به
كما قال البيهقي وهو ثقة.
قال في الفتح: والمراد
أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين
رمضان. وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد
مرفوعاً: "من أكل في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه" قال الحافظ: وإسناده وإن كان ضعيفاً لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات
الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً فيصلح
للاحتجاج به وقد وقع الاحتجاج في كثير من
المسائل بما هو دونه في القوة ويعتضد أيضاً
بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير
مخالف لهم كما قال ابن المنذر وابن حزم
وغيرهما منهم علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة
وابن عمر ثم هو موافق لقوله تعالى
{ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } فالنسيان ليس من كسب القلوب وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد
الأكل لا بنسيانه انتهى.
"وقد ذهب إلى هذا
الجمهور" فقالوا من أكل ناسياً فلا يفسد صومه
ولا قضاء عليه ولا كفارة. وقال مالك
ج / 4 ص -207-
وابن أبي ليلى والقاسمية: إن من أكل ناسياً
فقد بطل صومه ولزمه القضاء واعتذر بعض
المالكية عن الحديث بأنه خبر واحد مخالف
للقاعدة وهو اعتذار باطل.
"والحديث" قاعدة مستقلة
في الصيام ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة
بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ولرد
من شاء ما شاء.
وأجاب بعضهم أيضاً بحمل
الحديث على التطوع حكاه ابن التين عن ابن
شعبان وكذا قاله ابن القصار واعتذر بأنه لم
يقع في الحديث تعيين رمضان وهو حمل غير صحيح
واعتذار فاسد يرده ما وقع في حديث الباب من
التصريح بالقضاء ومن الغرائب تمسك بعض
المتأخرين في فساد الصوم ووجوب القضاء بما وقع
في حديث المجامع بلفظ: "واقض يوماً مكانه"
قال: ولم يسأله هل جامع عامداً أو ناسياً وهذا
يرده ما وقع في أول الحديث فإنه عند سعيد بن
منصور بلفظ: "فقال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
تب إلى اللَّه واستغفره وتصدق واقض يوماً
مكانه"
والتوبة والاستغفار إنما يكونان عن العمد لا
عن الخطأ وأيضاً بعد تسليم تنزيل ترك
الاستفصال منزلة العموم يكون حديث الباب
مخصصاً له فلم يبق ما يوجب ترك العمل بالحديث.
وأما اعتذار ابن دقيق
العيد عن الحديث بأن الصوم قد فات ركنه وهو من
باب المأمورات والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في
المأمورات فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة
المدعاة أن تكون بمنزلة الدليل فيكون حديث
الباب مخصصاً لها.
قوله: "فإنما اللَّه
أطعمه وسقاه" هو كناية عن عدم الإثم لأن الفعل
إذا كان من اللَّه كان الإثم منتفياً.
قوله: "من أفطر يوماً من
رمضان" ظاهره يشمل المجامع. وقد اختلف فيه
فبعضهم لم ينظر إلى هذا العموم وقال إنه ملحق
بمن أكل أو شرب وبعضهم منع من الإلحاق لقصور
حالة المجامع عن حالة الآكل والشارب. وفرق
بعضهم بين الأكل والشرب القليل والكثير وظاهر
الحديث عدم الفرق. ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد عن
أم إسحاق أنها كانت عند النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم
تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين الآن بعد
ما شبعت فقال لها النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
"أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه اللَّه إليك"
باب التحفظ من
الغيبة واللغو وما يقول إذا شتم.
1 - عن أبي هريرة: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال:
إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا
يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ
صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم
أطيب عند اللَّه من ريح المسك وللصائم فرحتان
يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح
بصومه". -
متفق عليه.
2 - وعن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للَّه
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". -
رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي.
ج / 4 ص -208-
- قوله: "فلا يرفث" بضم الفاء وكسرها ويجوز في
ماضيه التثليث والمراد به هنا الكلام الفاحش
وهو بهذا المعنى بفتح الراء والفاء وقد يطلق
على الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكر ذلك مع
النساء أو مطلقاً.
قال في الفتح: ويحتمل أن
يكون النهي لما هو أعم منها. وفي رواية: ولا
يجهل أي لا يفعل شيئاً من أفعال الجهل كالصياح
والسفه ونحو ذلك:
قوله: "ولا يصخب" الصخب
هو الرجة واضطراب الأصوات للخصام. قال
القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير يوم الصوم
يباح فيه ما ذكر وإنما المراد أن المنع من ذلك
يتأكد بالصوم.
قوله: "أو قاتله" يمكن
حمله على ظاهره ويمكن أن يراد بالقتل اللعن
فيرجع إلى معنى الشتم ولا يمكن حمل قاتله
وشاتمه على الفاعلة لأن الصائم مأمور بأن يكف
نفسه عن ذلك فكيف يقع ذلك وإنما المعنى إذا
جاء متعرضاً لمقاتلته أو مشاتمته كأن يبدأه
بقتل أو شتم اقتضت العادة أن يكافئه عليها
فالمراد بالمفاعلة إرادة غير الصائم ذلك من
الصائم وقد تطلق المفاعلة على وقوع الفعل من
واحد كما يقال عالج الأمر وعاناه.
قال في الفتح: وأبعد من
حمله على ظاهره فقال المراد إذا بدرت من
الصائم مقابلة الشتم بالشتم على مقتضى الطبع
فلينزجر عن ذلك ومما يبعد ذلك ما وقع في رواية
فإن شتمه أحد.
قوله: "إني امرؤ صائم"
في رواية لابن خزيمة بزيادة: "وإن كنت قائماً فاجلس"
ومن الرواة من ذكر قوله
"إني امرؤ صائم مرتين".
واختلف في المراد بقوله إني صائم هل يخاطب بها الذي يشتمه
ويقاتله أو يقولها في نفسه وبالثاني جزم
المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة ورجح النووي
في الأذكار الأول وقال في شرح المهذب: كل
منهما حسن والقول باللسان أقوى ولو جمعهما
لكان حسناً وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل
بلسانه وإن كان غيره فليقله في نفسه. وادعى
ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع وأما في
الفرض فليقله بلسانه قطعاً.
قوله: "والذي نفس محمد
بيده" هذا القسم لقصد التأكيد.
قوله: "لخلوف" بضم
المعجمة واللام وسكون الواو وبعدها فاء قال
عياض: هذه الرواية الصحيحة وبعض الشيوخ يقول
بفتح الخاء. قال الخطابي: وهو خطأ وحكى عن
القابسي الوجهين وبالغ النووي في شرح المهذب
فقال: لا يجوز فتح الخاء واحتج غيره لذلك بأن
المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة
ذكرها سيبويه وغيره وليس هذا منها والخلوف
تغير رائحة الفم.
قوله: "أطيب عند اللَّه
من ريح المسك" اختلف في معناه فقال المازري:
هو مجاز لأنها جرت العادة بتقريب الروائح
الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريب الصائم من
اللَّه فالمعنى أنه أطيب عند اللَّه من ريح
المسك عندكم أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك
إليكم وإلى ذلك أشار ابن عبد البر وإنما جعل
من باب المجاز لأن اللَّه تعالى منزه عن
استطابة الروائح لأن ذلك من صفات الحيوان
واللَّه يعلم الأشياء على ما هي عليه. وقيل
المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند اللَّه على
خلاف ما عندكم وقيل المراد "إن اللَّه يجازيه
في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما
يأتي المكلوم وريح جرحه يفوح مسكاً قاله
القاضي عياض والمراد أن صاحبه ينال من الثواب
ما هو أفضل من ريح المسك حكاه القاضي عياض
أيضاً.
وقال الداودي من
المغاربة: المعنى أن الخلوف أكثر ثواباً من
المسك حيث ندب إليه
ج / 4 ص -209-
في الجمع والأعياد ومجالس الذكر ورجحه
النووي وقد اختلف هل ذلك في الدنيا أو في
الآخرة فقال بالأول ابن الصلاح وبالثاني ابن
عبد السلام. واحتج ابن الصلاح بما أخرجه ابن
حبان بلفظ:
"فم الصائم حين يخلف من الطعام" وكذا أخرجه أحمد وبما أخرجه أيضاً الحسن بن سفيان في مسنده
والبيهقي في الشعب من حديث جابر بلفظ:
"فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند اللَّه
من ريح المسك" قال المنذري: إسناده مقارب واحتج ابن الصلاح أيضاً بأن ما قاله هو
ما ذهب إليه الجمهور. واحتج ابن عبد السلام
على ما قاله بما في مسلم وأحمد والنسائي:
"أطيب عند اللَّه يوم القيامة" وأخرج أحمد هذه الزيادة من وجه آخر ويترتب على هذا الخلاف القول
بكراهة السواك للصائم وقد تقدم البحث عنه "ص
287" في موضعه.
قوله: "للصائم فرحتان
إذا أفطر" الخ قال القرطبي: معناه فرح بزوال
جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر وهذا الفرح
طبيعي وهو السابق إلى الفهم وقيل أن فرحه
لفطره إنما هو من حيث أنه تمام صومه وخاتمة
عبادته. قال في الفتح: ولا مانع من الحمل على
ما هو أعم مما ذكر ففرح كل واحد بحسبه لاختلاف
مقامات الناس في ذلك فمنهم من يكون فرحه
مباحاً وهو الطبيعي ومنهم من يكون مستحباً وهو
أن يكون لتمام العبادة والمراد بالفرح إذا لقي
ربه أنه يفرح بما يحصل له من الجزاء والثواب.
قوله: "الزور والعمل به"
زاد البخاري في رواية والجهل. وأخرج الطبراني
من حديث أنس:
"من لم يدع الخنى والكذب"
قال الحافظ: ورجاله ثقات والمراد بالزور
الكذب.
قوله: "فليس للَّه حاجة"
الخ قال ابن بطال: ليس معناه أنه يؤمر بأن يدع
صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور وما
ذكر معه قال في الفتح: ولا مفهوم لذلك فإن
اللَّه لا يحتاج إلى شيء وإنما معناه فليس
للَّه إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع
الإرادة. وقال ابن المنير في حاشيته على
البخاري: بل هو كناية عن عدم القبول كما يقول
المغضب لمن رد عليه شيئاً طلبه منه فلم يقم به
لا حاجة لي في كذا. وقال ابن العربي: مقتضى
هذا الحديث أن لا يثاب على صيامه ومعناه أن
ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور
وما ذكر معه واستدل بهذا الحديث على أن هذه
الأفعال تنقص ثواب الصوم وتعقب بأنها صغائر
تكفر باجتناب الكبائر.
باب الصائم
يتمضمض أو يغتسل من الحر.
1 - عن عمر قال: "هششت يوماً فقبلت وأنا صائم
فأتيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقلت
صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم فقال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم قلت لا بأس بذلك فقال صلى اللَّه عليه
وآله وسلم: ففيم". -
رواه أحمد وأبو داود.
2 - وعن أبي بكر بن عبد
الرحمن عن رجل من أصحاب النبي
ج / 4 ص -210-
صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: "رأيت النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصب الماء على رأسه
من الحر وهو صائم".
- رواه أحمد وأبو
داود. - الحديث الأول أخرجه أيضاً النسائي
وقال: إنه منكر. وقال أبو بكر البزار لا نعلمه
يروى عن عمر إلا من هذا الوجه وصححه ابن خزيمة
وابن حبان والحاكم.
والحديث الثاني أخرجه
أيضاً النسائي ورجال إسناده رجال الصحيح.
قوله: "هششت" بشينين
معجمتين أي نشطت وارتحت والهشاش في الأصل
الارتياح والخفة والنشاط كذا في القاموس.
قوله: "أرأيت لو تمضمضت"
الخ فيه إشارة إلى فقه بديع وهو أن المضمضة لا
تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه فكذلك
القبلة لا تنقضه وهي من دواعي الجماع وأوائله
التي تكون مفتاحاً له والشرب يفسد الصوم كما
يفسده الجماع فكلما ثبت عند عمر أن أوائل
الشرب لا تفسد الصيام كذلك أوائل الجماع لا
تفسده وسيأتي الخلاف في التقبيل.
قوله: "يصب الماء على
رأسه" الخ فيه دليل على أنه يجوز للصائم أن
يكسر الحر بصب الماء على بعض بدنه أو كله وقد
ذهب إلى ذلك الجمهور ولم يفرقوا بين الأغسال
الواجبة والمسنونة والمباحة. وقالت الحنفية:
إنه يكره الاغتسال للصائم واستدلوا بما أخرجه
عبد الرزاق عن علي من النهي عن دخول الصائم
الحمام وهو مع كونه أخص من محل النزاع في
إسناده ضعف كما قال الحافظ.
واعلم أنه يكره للصائم
المبالغة في المضمضة والاستنشاق لحديث الأمر
بالمبالغة في ذلك إلا أن يكون صائماً وقد
تقدم. واختلف إذا دخل من ماء المضمضة
والاستنشاق إلى جوفه خطأ فقالت الحنفية
والقاسمية ومالك والشافعي في أحد قوليه
والمزني: إنه يفسد الصوم.
وقال أحمد بن حنبل
وإسحاق والأوزاعي والناصر والإمام يحيى وأصحاب
الشافعي: إنه لا يفسد الصوم كالناسي. وقال زيد
بن علي: يفسد الصوم بعد الثلاث المرات. وقال
الصادق: يفسد إذا كان التمضمض لغير قربة. وقال
الحسن البصري والنخعي: إنه يفسد إن لم يكن
الفريضة.
باب الرخصة في
القبلة للصائم إلا لمن يخاف على نفسه.
1 - عن أم سلمة: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كان يقبلها وهو صائم". - متفق عليه.
2 - وعن عائشة قالت:
"كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان
أملككم لإربه". - رواه الجماعة إلا النسائي.
وفي لفظ: "كان يقبل في رمضان وهو صائم" رواه
أحمد ومسلم.
3 - وعن عمر بن أبي
سلمة: "أنه سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم أيقبل
ج / 4 ص -211-
الصائم فقال له:
سل هذه
لأم سلمة فأخبرته أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يفعل ذلك فقال: يا رسول اللَّه
قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
فقال له:
أما واللَّه إني لأتقاكم للَّه وأخشاكم له". -
رواه مسلم وفيه أن أفعاله حجة.
4 - وعن أبي هريرة: "أن
رجلاً سأل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن
المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فنهاه عنها
فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب". -
رواه أبو داود. - حديث أبي هريرة سكت عنه أبو
داود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده
أبو العنبس الحارث بن عبيد سكتوا عنه وقال في
التقريب: مقبول وقد أخرجه ابن ماجه من حديث
ابن عباس ولم يصرح برفعه والبيهقي من حديث
عائشة مرفوعاً وأخرج نحوه أحمد من حديث عبد
اللَّه بن عمرو.
قوله: "كان يقبلها" فيه
دليل على أنه يجوز التقبيل للصائم ولا يفسد به
الصوم. قال النووي: ولا خلاف أنها لا تبطل
الصوم إلا إن أنزل بها ولكنه متعقب بأن ابن
شبرمة أفتى بإفطار من قبل. ونقله الطحاوي عن
قوم ولم يسمهم وقد قال بكراهة التقبيل
والمباشرة على الإطلاق قوم وهو المشهور عند
المالكية. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن
ابن عمر أنه كان يكره القبلة والمباشرة.
ونقل ابن المنذر وغيره
عن قوم تحريمهما وأباح القبلة مطلقاً قوم. قال
في الفتح: وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة
قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة وبالغ بعض
الظاهرية فقال: إنها مستحبة. وفرق آخرون بين
الشاب والشيخ فأباحوها للشيخ دون الشاب تمسكاً
بحديث أبي هريرة المذكور في الباب وما ورد في
معناه وبه قال ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن
منصور وغيرهما وفرق آخرون بين من يملك نفسه
ومن لا يملك. واستدلوا بحديث عائشة المذكور في
الباب وبه قال سفيان والشافعي ولكنه ليس إلا
قولاً لعائشة نعم نهيه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم للشاب وإذنه للشيخ يدل على أنه لا يجوز
التقبيل لمن خشي أن تغلبه الشهوة وظن أنه لا
يملك نفسه عند التقبيل ولذلك ذهب قوم إلى
تحريم التقبيل على من كان تتحرك به شهوته
والشاب مظنة لذلك ويعارض حديث أبي هريرة ما
أخرجه النسائي عن عائشة قالت: "أهوى النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم ليقبلني فقلت إني صائمة
فقال
وأنا صائم فقبلني"
وعائشة كانت شابة حينئذ إلا أن يكون حديث أبي
هريرة مختصاً بالرجال ولكنه بعيد لأن الرجال
والنساء سواء في هذا الحكم. ويمكن أن يقال أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم علم من حال
عائشة أنها لا تتحرك شهوتها بالتقبيل.
وقد أخرج ابن حبان في
صحيحه أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان لا
يمس شيئاً من وجهها وهي صائمة فدل على أنه كان
يجنبها ذلك إذا صامت تنزيهاً منه لها عن تحرك
الشهوة لكونها ليست مثله. وقد دل حديث عمرو بن
أبي سلمة المذكور على جواز التقبيل للصائم من
غير فرق بين الشاب وغيره وحديث أبي هريرة أخص
منه
ج / 4 ص -212-
فيبنى العام على الخاص.
"واحتج" من قال بتحريم
التقبيل والمباشرة مطلقاً بقوله تعالى
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}
قالوا فمنع من المباشرة في هذه الآية نهاراً.
وأجيب عن ذلك أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم هو المبين عن اللَّه تعالى وقد أباح
المباشرة نهاراً فدل على أن المراد بالمباشرة
في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها
وغاية ما في الآية أن تكون عامة في كل مباشرة
مخصصة بما وقع منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
وما أذن به والمراد بالمباشرة المذكورة في
الحديث ما هو أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى
حد الجماع فيكون قوله كان يقبل ويباشر من ذكر
العام بعد الخاص لأن المباشرة في الأصل التقاء
البشرتين ووقع الخلاف فيما إذا باشر الصائم أو
قبل أو نظر فأنزل أو أمذى فقال الكوفيون
والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا
قضاء في الإمذاء.
وقال مالك وإسحاق: يقضي
في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط
واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب في الجماع
من الالتذاذ في كل ذلك. وتعقب بأن الأحكام
علقت بالجماع فقط وروى ابن القاسم عن مالك أنه
يجب القضاء على من باشرا وقبل فانعظ أنزل أو
لم ينزل أمذى أم لم يمذ وأنكره غيره عن مالك
وروى عبد الرزاق عن حذيفة أن من تأمل خلق
امرأة وهو صائم بطل صومه قال في الفتح:
وإسناده ضعيف: قال وقال ابن قدامة: إن قبل
فأنزل أفطر بلا خلاف كذا قال وفيه نظر فقد حكى
ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل وقوى ذلك وذهب
إليه.
قوله: "لأربه" بفتح
الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته ويروى بكسر
الهمزة وسكون الراء أي عضوه. قال في الفتح:
والأول أشهر وإلى ترجيحه أشار البخاري وبما
أورده من التفسير انتهى.
"وفي الباب" عن عائشة
عند أبي داود: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم كان يقبلها ويمص لسانها" قال الحافظ:
وإسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على أنه لم
يبتلع ريقه الذي خالطه ريقها.
وعن رجل من الأنصار عند
عبد الرزاق بإسناد صحيح: "أنه قبل امرأته وهو
صائم فأمر امرأته فسألت النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم عن ذلك فقال إني أفعل ذلك فقال زوجها ترخص اللَّه لنبيه في أشياء فرجعت فقال أنا أعلمكم بحدود اللَّه وأتقاكم" وأخرجه مالك لكنه أرسله.
باب من أصبح
جنباً وهو صائم.
1 - عن عائشة: "أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه
تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم
فقال: لست مثلنا يا رسول اللَّه قد غفر اللَّه
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: واللَّه إني لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه وأعلمكم بما أتقى". - رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
2 - وعن عائشة وأم سلمة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصبح
جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم في
رمضان". - متفق عليه.
3 - وعن أم سلمة قالت:
"كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يصبح جنباً
ج / 4 ص -213-
من جماع لا حلم ثم لا يفطر ولا يقضي". -
أخرجاه. - هذه الأحاديث استدل بها من قال أن
من أصبح جنباً فصومه صحيح ولا قضاء عليه من
غير فرق بين أن تكون الجنابة عن جماع أو غيره
وإليه ذهب الجمهور وجزم النووي بأنه استقر
الإجماع على ذلك.
وقال ابن دقيق العيد:
إنه صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع وقد ثبت من
حديث أبي هريرة ما يخالف أحاديث الباب فأخرج
الشيخان عنه: "أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قال:
من أصبح جنباً فلا صوم له" وقد بقي على العمل بحديث أبي هريرة هذا بعض
التابعين كما نقله الترمذي. ورواه عبد الرزاق
عن عروة بن الزبير وحكاه ابن المنذر عن طاوس.
قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة قال
الحافظ: ولم يصح عنه لأن ابن المنذر رواه عنه
من طريق أبي المهزم وهو ضعيف.
وحكى ابن المنذر أيضاً
عن الحسن البصري وسالم بن عبد اللَّه بن عمر
أنه يتم صومه ثم يقضيه. وروى عبد الرزاق عن
عطاء مثل قولهما. قال في الفتح: ونقل بعض
المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب
القضاء والذي نقله عنه الطحاوي استحبابه. ونقل
ابن عبد البر عنه. وعن النخعي إيجاب القضاء في
الفرض دون التطوع. ونقل الماوردي أن هذا
الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب وأما
المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه.
وتعقبه الحافظ بما أخرجه
النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه أفتى من
أصبح جنباً من احتلام أن يفطر. وفي رواية أخرى
عنه عند النسائي أيضاً: "من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم" وأجاب القائلون بأن من أصبح جنباً يفطر عن
أحاديث الباب بأجوبة منها أن ذلك من خصائصه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم ورده الجمهور بأن
الخصائص لا تثبت إلا بدليل وبأن حديث عائشة
المذكور في أول الباب يقتضي عدم اختصاصه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بذلك. وجمع بعضهم بين
الحديثين بأن الأمر في حديث أبي هريرة أمر
إرشاد إلى الأفضل فإن الأفضل أن يغتسل قبل
الفجر فلو خالف جاز فيحمل حديث عائشة على بيان
الجواز.
وقد نقل النووي هذا
الجمع عن أصحاب الشافعي وتعقبه الحافظ بأن
الذي نقله البيهقي وغيره عن أصحاب الشافعي هو
سلوك طريقة الترجيح.
وعن ابن المنذر وغيره
سلوك النسخ وبالنسخ قال الخطابي. وقواه ابن
دقيق العيد بأن قوله تعالى
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع
الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن
يصبح فاعل ذلك جنباً ولا يفسد صومه. ويقوي ذلك
أن قول الرجل للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
يدل على أن ذلك كان بعد نزول الآية وهي إنما
نزلت عام الحديبية سنة ست وابتداء فرض الصيام
كان في السنة الثانية ويؤيد دعوى النسخ رجوع
أبي هريرة عن الفتوى بذلك كما في رواية
للبخاري أنه لما أخبر بما قالت أم سلمة وعائشة
فقال هما أعلم برسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم.
وفي رواية ابن جريج فرجع
أبو هريرة عما كان يقول في ذلك وكذا وقع عند
النسائي أنه رجع وكذا عند ابن أبي شيبة وفي
رواية للنسائي أن أبا هريرة أحال بذلك على
الفضل بن عباس ووقع نحو ذلك في البخاري وقال
أنه حدثه بذلك
ج / 4 ص -214-
الفضل. وفي رواية أنه قال حدثني بذلك أسامة
وأما ما أخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة أنه
قال كنت حدثتكم من أصبح جنباً فقد أفطر وأن
ذلك من كيس أبي هريرة فقال الحافظ لا يصح ذلك
عن أبي هريرة لأنه من رواية عمر بن قيس وهو
متروك ومن حجج من سلك طريق الترجيح ما قاله
ابن عبد البر أنه صح وتواتر حديث عائشة وأم
سلمة وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات عنه
أنه كان يفتي بذلك وأيضاً رواية اثنين مقدمة
على رواية واحد ولا سيما وهما زوجتان للنبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم والزوجات أعلم
بأحوال الأزواج وأيضاً روايتهما موافقة
للمنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية وللمعقول
وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال وليس في فعله
شيء يحرم على الصائم فإن الصائم قد يحتلم
بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يفسد صومه بل
يتمه إجماعاً.
قوله: "ولا يقضي" عزاه
المصنف إلى البخاري ومسلم ولم نجده في البخاري
بل هو مما انفرد به مسلم فينظر في ذلك.
باب كفارة من
أفسد صوم رمضان بالجماع.
1 - عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فقال: هلكت يا رسول
اللَّه قال:
وما أهلكك
قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال:
هل تجد ما تعتق رقبة قال: لا قال:
فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال: لا قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً
قال: لا قال: ثم جلس فأتى النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر قال: تصدق بهذا
قال: فهل على أفقر منا فما بين لابتيها أهل
البيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه وقال:
اذهب فأطعمه أهلك". - رواه الجماعة. وفي لفظ ابن ماجه قال:
"أعتق رقبة
قال: لا أجدها قال:
صم شهرين متتابعين
قال: لا أطيق قال: أطعم ستين مسكيناً"
وذكره وفيه دلالة قوية على الترتيب. ولابن
ماجه وأبي داود في رواية:
"وصم يوماً مكانه"
وفي لفظ للدارقطني فيه: "فقال: هلكت وأهلكت
فقال:
ما أهلكك قال: وقعت على أهلي" وذكره. وظاهر هذا أنها كانت مكرهة.
- في الباب عن عائشة
عند الشيخين ولفظ الدارقطني الذي ذكره المصنف
قال الخطابي: إنه تفرد به معلى بن منصور عن
ابن عيينة وذكر البيهقي أن الحاكم نظر في كتاب
معلى بن منصور فلم يجد هذه اللفظة يعني هلكت
وأهلكت وأخرجها من رواية الأوزاعي وذكر أنها
أدخلت على بعض الرواة في حديثه وأن أصحابه لم
يذكروها. قال الحافظ: وقد رواها الدارقطني من
رواية
ج / 4 ص -215-
سلامة بن روح عن عقيل عن ابن شهاب. قوله:
"جاء رجل" قال عبد الغني في المبهمات: إن اسمه
سلمان أو سلمة بن صخر البياضي. ويؤيده ما وقع
عند ابن أبي شيبة عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من
امرأته وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن سعيد
بن المسيب أنه سلمان ابن صخر.
قوله: "هلكت" استدل به
على أنه كان عامداً لأن الهلاك مجاز عن
العصيان المؤدي إلى ذلك فكأنه جعل المتوقع
كالواقع مجازاً فلا يكون في الحديث حجة على
وجوب الكفارة على الناسي وبه قال الجمهور.
وقال أحمد وبعض المالكية: إنها تجب على الناسي
واستدلوا بتركه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
للاستفصال وهو ينزل منزلة العموم.
قال في الفتح: والجواب
أنه قد تبين حاله بقوله "هلكت واحترقت" وأيضاً
وقوع النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية
البعد.
قوله: "وقعت على امرأتي"
في رواية: "أن رجلاً أفطر في رمضان" وبهذا
استدلت المالكية على وجوب الكفارة على من أفطر
في رمضان بجماع أو غيره والجمهور حملوا المطلق
على المقيد وقالوا لا كفارة إلا في الجماع.
قوله: "رقبة" استدلت
الحنفية بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة
الكافرة وأجيب عن ذلك بأنه يحمل المطلق على
المقيد في كفارة القتل وبه قال الجمهور
والخلاف في المسألة مبسوط في الأصول.
قوله: "ستين مسكيناً"
قال ابن دقيق العيد: أضاف الإطعام الذي هو
مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجوداً في
حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلاً وبه
قال الجمهور. وقالت الحنفية: إنه لو أطعم
الجميع مسكيناً واحداً في ستين يوماً كفى ويدل
على قولهم قوله "فأطعمه أهلك" وفي ذلك دليل
على أن الكفارة تجب بالجماع خلافاً لمن شذ
فقال لا تجب مستنداً إلى أنها لو كانت واجبة
لما سقطت بالإعسار وتعقب بمنع السقوط كما
سيأتي وفيه أيضاً دليل على أنه يجزئ التكفير
بكل واحدة من الثلاث الخصال وروي عن مالك أنه
لا يجزئ إلا الإطعام والحديث يرد عليه وظاهر
الحديث أنه لا يجزئ التكفير بغير هذه الثلاث
وروي عن سعيد بن المسيب أنه يجزئ إهداء البدنة
كما في الموطأ عنه مرسلاً.
وقد روى سعيد بن منصور
عن سعيد بن المسيب أنه كذب من نقل عنه ذلك.
وظاهر الحديث أيضاً أن الكفارة بالخصال الثلاث
على الترتيب قال ابن العربي: لأن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم نقله من أمر بعد عدمه
إلى أمر آخر وليس هذا شأن التخيير ونازع عياض
في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك فقال:
إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على
التخيير وقرره ابن المنير.
قال البيضاوي: إن ترتيب
الثاني على الأول والثالث على الثاني بالفاء
يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان
وجواب السؤال فتنزل منزلة الشرط وإلى القول
بالترتيب ذهب الجمهور. وقد وقع في الروايات ما
يدل على الترتيب والتخيير والذين رووا الترتيب
أكثر ومعهم الزيادة وجمع المهلب والقرطبي بين
الروايات بتعدد الواقعة.
قال الحافظ: وهو بعيد
لأن القصة واحدة والمخرج متحد والأصل عدم
التعدد وجمع بعضهم بحمل الترتيب على الأولوية
والتخيير على الجواز وعكسه بعضهم.
قوله: "فأتى النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم" بضم الهمزة للأكثر على
البناء للمجهول والرجل الآتي لم يسم. ووقع في
رواية للبخاري: "فجاء رجل من الأنصار" وفي
أخرى
ج / 4 ص -216-
للدارقطني: "رجل من ثقيف"قوله: "بعرق فيه
تمر" بفتح المهملة والراء بعدها قاف وفي رواية
القابسي بإسكان الراء وقد أنكر ذلك عليه
والصواب الفتح كما قال عياض.
وقال الحافظ: الإسكان
ليس بمنكر وهو الزنبيل والزنبيل هو المكتل قال
في الصحاح: المكتل يشبه الزنبيل يسع خمسة عشر
صاعاً ووقع عند الطبراني في الأوسط أنه أتى
بمكتل فيه عشرون صاعاً فقال تصدق بهذا وفي
إسناده ليث ابن أبي سليم ووقع مثل ذلك عند ابن
خزيمة من حديث عائشة وفي مسلم عنها فجاءه
عرقان فيهما طعام.قال في الفتح: ووجهه أن
التمر كان في عرق لكنه كان في عرقين في حال
التحميل على الدابة ليكون أسهل فيحتمل أن
الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر فمن
قال عرقان أراد ابتداء الحال ومن قال عرق أراد
ما آل إليه وقد ورد في تقدير الإطعام حديث علي
عند الدارقطني بلفظ:
"يطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد"
وفيه: "فأتى بخمسة عشر صاعاً فقال
أطعمه ستين مسكيناً" وكذا عند الدارقطني من حديث أبي هريرة. قال الحافظ: من قال عشرون
أراد أصل ما كان عليه ومن قال خمسة عشر أراد
قدر ما يقع به الكفارة.
قوله: "تصدق بهذا" استدل
به وبما قبله من قال أن الكفارة تجب على الرجل
فقط وبه قال الأوزاعي وهو الأصح من قولي
الشافعي. وقال الجمهور تجب على المرأة على
اختلاف بينهم في الحرة والأمة والمطاوعة
والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل واستدل
الشافعي بسكوته عن إعلام المرأة في وقت
الحاجة وتأخير البيان عنها لا يجوز ورد بأنها
لم تعترف ولم تسأل فلا حاجة ولا سيما مع
احتمال أن تكون مكرهة كما يرشد إلى ذلك قوله
في رواية الدارقطني: "هلكت وأهلكت".
قوله: "فهل على أفقر
منا" هذا يدل على أنه فهم من الأمر له بالتصدق
أن يكون المتصدق عليه فقيراً.
قوله: "فما بين لابتيها"
بالتخفيف تثنية لابة وهي الحرة والحرة الأرض
التي فيها حجارة سود يقال لابة ولوبة ونوبة
بالنون حكاهن الجوهري وجماعة من أهل اللغة
والضمير عائد إلى المدينة أي ما بين حرتي
المدينة.
قوله: "فضحك النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم" قيل سبب ضحكه ما شاهده
من حال الرجل حيث جاء خائفاً على نفسه راغباً
في فدائها مهما أمكنه فلما وجد الرخصة طمع في
أن يأكل ما أعطيه في الكفارة. وقيل ضحك من
بيان الرجل في مقاطع كلامه وحسن بيانه وتوسله
إلى مقصوده.
وظاهر هذا أنه وقع منه
ضحك يزيد على التبسم فيحمل ما ورد في صفته صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أن ضحكه كان التبسم على
غالب أحواله.
قوله: "فأطعمه أهلك"
استدل به على سقوط الكفارة بالإعسار لما تقرر
من أنها لا تصرف في النفس والعيال ولم يبين له
صلى اللَّه عليه وآله وسلم استقرارها في ذمته
إلى حين يساره وهو أحد قولي الشافعي وجزم به
عيسى بن دينار من المالكية وقال الجمهور لا
تسقط بالإعسار قالوا وليس في الخبر ما يدل على
سقوطها عن المعسر بل فيه ما يدل على استقرارها
عليه قالوا أيضاً والذي أذن له في التصرف فيه
ليس على سبيل الكفارة وقيل المراد بالأهل
المذكورين من لا تلزمه نفقتهم وبه قال بعض
الشافعية ورد بما وقع من التصريح في رواية
بالعيال وفي أخرى من الأذن له بالأكل وقيل لما
كان عاجزاً عن نفقة أهله جاز له أن يفرق
الكفارة فيهم. وقيل غير ذلك وقد طول الكلام
ج / 4 ص -217-
عليه في الفتح.
قوله: "وصم يوماً مكانه"
يعني مكان اليوم الذي جامع فيه قال الحافظ:
وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد
الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري وأخرجه
البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن
الزهري. وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن
الزهري نفسه بغير هذه الزيادة. وحديث الليث عن
الزهري في الصحيحين بدونها ووقعت الزيادة
أيضاً في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير
والحسن ومحمد بن كعب. وبمجموع هذه الطرق
الأربع يعرف أن لهذه الزيادة أصلاً وقد حكى
عن الشافعي أنه لا يجب عليه القضاء واستدل له
بأنه لم يقع التصريح في الصحيحين بالقضاء
ويجاب بأن عدم الذكر له في الصحيحين لا يستلزم
العدم وقد ثبت عند غيرهما كما تقدم. وظاهر
إطلاق اليوم عدم اشتراط الفورية.
باب كراهة
الوصال.
1 - عن ابن عمر: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم نهى عن الوصال فقالوا: إنك تفعله فقال: إني لست كأحدكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني".
2 - وعن أبي هريرة: "عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: إياكم والوصال
فقيل: إنك تواصل قال: إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من العمل
ما تطيقون".
3 - وعن عائشة قالت: "نهاهم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
عن الوصال رحمة لهم فقالوا: إنك تواصل قال:
إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني". - متفق عليهن.
4 - وعن أبي سعيد: "أنه
سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يقول:
لا تواصل فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى
السحر
قالوا: إنك تواصل يا رسول اللَّه قال:
لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق
يسقيني".
- رواه البخاري وأبو داود.
- وفي الباب عن أنس عند
الشيخين. وعن بشير بن الخصاصية عند أحمد بلفظ:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
نهى عن الوصال وقال:
إنما يفعل ذلك النصارى" وأخرجه أيضاً الطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد قال في الفتح:
إسناده صحيح. وعن أبي ذر عند الطبراني في
الأوسط.
وعن رجل من الصحابة عند
أبي داود وغيره قال في الفتح: وإسناده صحيح
بلفظ: "نهى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما" وقد تقدم.
قوله: "يطعمني ربي
ويسقيني" قال في الفتح: اختلف في معناه فقيل
هو على حقيقته وأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
كان يؤتى بطعام وشراب من عند اللَّه كرامة له
في ليالي صيامه وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه
لو كان كذلك لم يكن مواصلاً وبأن قوله أظل يدل
على
ج / 4 ص -218-
وقوع ذلك في النهار. وأجيب بأن الراجح من
الروايات لفظ أبيت دون أظل وعلى تقدير الثبوت
فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من
حمل لفظ ظل على المجاز وعلى التنزل فلا يضر
شيء من ذلك لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل
الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا يجري عليه
أحكام المكلفين.
وقال الزين ابن المنير:
هو محمول على أن أكله وشربه في تلك الحال
كحالة النائم الذي يحصل له الشبع والري بالأكل
والشرب ويستمر له ذلك حتى يستيقظ فلا يبطل
بذلك صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص من أجره.
وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب
وهو القوة فكأنه قال يعطيني قوة الآكل الشارب
وهذا هو الظاهر.
قوله: "إياكم والوصال"
وقع في رواية لأحمد مرتين. وفي رواية لمالك
ثلاث مرات وإسنادها صحيح.
قوله: "فاكلفوا" بسكون
الكاف وبضم اللام أي احملوا من المشقة في ذلك
ما تطيقون. وحكى عياض عن بعضهم أنه قال: هو
بهمزة قطع ولا يصح لغة.
قوله: "رحمة لهم" استدل
به من قال أن الوصال مكروه غير محرم وذهب
الأكثر إلى تحريم الوصال. وعن الشافعية وجهان
التحريم والكراهة.
"وأحاديث" الباب تدل على
ما ذهب إليه الجمهور وأجابوا بأن قوله رحمة لا
يمنع التحريم فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم.
ومن أدلة القائلين بعدم التحريم ما ثبت عنه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه واصل بأصحابه
لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوماً
ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال لو تأخر لزدتكم
كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا هكذا في
البخاري وغيره وأجاب الجمهور عن ذلك بأن
مواصلته صلى اللَّه عليه وآله وسلم بهم بعد
نهيه لهم فلم يكن تقريراً بل تقريعاً وتنكيلاً
واحتمل ذلك منهم لأجل مصلحة النهي في تأكيد
زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي
وكان ذلك أدعى إلى قبولهم لما يترتب عليه من
الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه
وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك. ومن
الأدلة على أن الوصال غير محرم حديث الرجل من
الصحابة الذي قدمنا ذكره فإنه صرح بأن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يحرم الوصال.
ومنها ما رواه البزار والطبراني من حديث سمرة
قال: "نهى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن
الوصال وليس بالعزيمة" ومنها إقدام الصحابة
على الوصال بعد النهي فإن ذلك يدل على أنهم
فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم كما قال
الحافظ. وقد ذهب إلى جوازه مع عدم المشقة عبد
اللَّه بن الزبير وروى ابن أبي شيبة عنه
بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً
وذهب إليه من الصحابة أخت أبي سعيد ومن
التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد
اللَّه بن الزبير وإبراهيم بن يزيد التيمي
وأبو الجوزاء كما في الفتح وهو الظاهر فلا أقل
من أن تكون هذه الأدلة التي ذكروها صارفة
للنهي عن الوصال عن حقيقته وذهبت الهادوية إلى
كراهة الوصال مع عدم النية وحرمته مع النية.
وذهب أحمد وإسحاق وابن
المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى
جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور
في الباب. ومثله ما أخرجه الطبراني من حديث
جابر: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
كان يواصل من سحر
ج / 4 ص -219-
إلى سحر" وأخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث
علي فإن كان اسم الوصال إنما يصدق على إمساك
جميع الليل فلا معارضة بين الأحاديث وإن كان
يصدق على أعم من ذلك فيبني العام على الخاص
ويكون المحرم ما زاد على الإمساك إلى ذلك
الوقت.
باب آداب
الإفطار والسحور.
1 - عن ابن عمر قال: "سمعت النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقول:
إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد
أفطر الصائم".
2 - وعن سهل بن سعد: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
- متفق عليهما.
3 - وعن أبي هريرة: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
يقول اللَّه عز وجل أن أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً". - رواه أحمد والترمذي.
- حديث أبي هريرة قال
الترمذي: حديث حسن غريب. وفي الباب عن عائشة
عند الترمذي وصححه: "أنها سئلت عن رجلين من
أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحدهما
يعجل الإفطار ويعجل الصلاة والآخر يؤخر
الإفطار ويؤثر الصلاة فقالت: أيهما يعجل
الإفطار ويعجل الصلاة فقيل لها عبد اللَّه بن
مسعود قالت: هكذا صنع رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم". والآخر أبو موسى.
وعن أبي هريرة حديث آخر
عند أبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ قال:
"قال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى
يؤخرون".
وعن سهل بن سعد حديث آخر عند ابن حبان والحاكم بلفظ:
"لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها "ص 300" النجوم" وعن أبي ذر عند أحمد وسيأتي. وعن ابن عباس وأنس أشار
إليهما الترمذي. قال ابن عبد البر: أحاديث
تعجيل الإفطار وتأخير السحور صحاح متواترة.
وأخرج عبد الرزاق وغيره بإسناد قال الحافظ:
صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب
محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم أسرع الناس
إفطاراً وأبطأهم سحوراً.
قوله: "إذا أقبل الليل"
زاد البخاري في رواية: "من ههنا وأشار بإصبعيه
قبل الشرق" والمراد وجود الظلمة.
قوله: "وأدبر النهار"
زاد البخاري في رواية "من ههنا" يعني من جهة
المغرب.
قوله: "وغابت الشمس" في
رواية للبخاري وغربت الشمس ذكر في هذا الحديث
ثلاثة أمور وهي وإن كانت متلازمة في الأصل
لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة فقد يظن
إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله
حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس وكذلك
إدبار النهار فمن ثم قيد بغروب الشمس.
قوله: "فقد أفطر الصائم"
أي دخل في وقت الفطر كما يقال أنجد إذا أقام
بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة ويحتمل أن يكون
معناه فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس
ظرفاً للصيام الشرعي وقال ابن خزيمة: هو لفظ
خبر ومعناه الأمر أي فليفطر ويرجح الأول ما
وقع في رواية عند البخاري فقد حل الإفطار.
قوله: "ما عجلوا الفطر"
زاد أبو
ج / 4 ص -220-
ذر في حديثه: "وأخروا السحور"
أخرجه أحمد وسيأتي. وما ظرفية أي مدة فعلهم
ذلك امتثالاً للسنة ووقوفاً عند حدها.
قال المهلب: والحكمة في
ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أوفق
بالصائم وأقوى له على العبادة انتهى.
وأيضاً في تأخيره تشبه
باليهود فإنهم يفطرون عند ظهور النجوم وقد كان
الشارع يأمر بمخالفتهم في أفعالهم وأقوالهم
واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب
الشمس بالرؤية أو بإخبار عدلين أو عدل. وقد
صرح الحديث القدسي بأن معجل الإفطار أحب عباد
اللَّه إليه فلا يرغب عن الاتصاف بهذه الصفة
إلا من كان حظه من الدين قليلاً كما تفعله
الرافضة ولا يجب تعجيل الإفطار لما تقدم في
الباب الأول من أذن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم بالمواصلة إلى السحر كما في حديث
أبي سعيد.
4 - وعن أنس قال: "كان
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يفطر
على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات
فتمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء". -
رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
5 - وعن سلمان بن عامر
الضبي قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
"إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد
فليفطر على ماء فإنه طهور". - رواه الخمسة إلا النسائي.
6 - وعن معاذ بن زهرة:
"أنه بلغه أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
كان إذا أفطر قال
اللَّهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت". -
رواه أبو داود. - حديث أنس حسنه الترمذي وقال
أبو بكر البزار: لا يعلم رواه عن ثابت عن أنس
إلا جعفر بن سليمان. وقال أيضاً: رواه النشيطي
فأنكروا عليه وضعف حديثه وقال ابن عدي: تفرد
به جعفر عن ثابت.
والحديث مشهور بعبد
الرزاق تابعه عمار بن هارون وسعيد بن سليمان
النشيطي. قال الحافظ: وأخرج أبو يعلى عن
إبراهيم ابن الحجاج عن عبد الواحد بن ثابت عن
ثابت عن أنس قال: "كان رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو
شيء لم تصبه النار" وعبد الواحد قال البخاري:
منكر الحديث وروى الطبراني في الأوسط من طريق
يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس: "كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا كان
صائماً لم يصل حتى يأتيه برطب وماء فيأكل
ويشرب وإذا لم يكن رطب لم يصل حتى يأتيه بتمر
وماء" وقال: تفرد به مسكين بن عبد الرحمن عن
يحيى بن أيوب وعنه زكريا بن عمر.
وأخرج أيضاً الترمذي
والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً: "من وجد التمر فليفطر عليه ومن لم يجد التمر فليفطر على الماء فإنه
طهور".
وحديث سليمان بن عامر أخرجه أيضاً ابن حبان
والحاكم وصححاه وصححه أبو حاتم الرازي وروى
ابن عدي عن عمران بن حصين بمعناه وإسناده ضعيف
وحديث معاذ مرسل لأنه لم يدرك النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم.
وقد رواه الطبراني في
الكبير والدارقطني من حديث ابن عباس بسند ضعيف
ورواه أبو داود والنسائي
ج / 4 ص -221-
والدارقطني والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر
وزاد: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وأثبت الأجر
إن شاء اللَّه" قال الدارقطني: إسناده حسن.
وعند الطبراني عن أنس
قال: "كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
إذا أفطر قال
بسم اللَّه اللَّهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت"
وإسناده ضعيف لأن فيه داود بن الزبرقان وهو
متروك.
ولابن ماجه عن عبد
اللَّه بن عمرو مرفوعاً:
"إن للصائم دعوة لا ترد"
وكان ابن عمر إذا أفطر يقول
اللَّهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن
تغفر لي ذنوبي.
وحديثا أنس وسليمان يدلان على مشروعية الإفطار بالتمر فإن عدم
فبالماء ولكن حديث "ص 302" أنس فيه دليل على
أن الرطب من التمر أولى من اليابس فيقدم عليه
إن وجد وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو وكل
حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم وهذا أحسن ما
قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة. وقيل لأن
الحلو يوافق الإيمان ويرق القلب وإذا كانت
العلة كونه حلواً والحلو له ذلك التأثير فيلحق
به الحلويات كلها أما ما كان أشد منه في
الحلاوة فبفحوى الخطاب وما كان مساوياً له
فبلحنه. وحديث معاذ بن زهرة فيه دليل على أنه
يشرع للصائم أن يدعو عند إفطاره بما اشتمل
عليه من الدعاء وكذلك سائر ما ذكرناه في
الباب.
قوله: "حسا حسوات" أي
شرب شربات والحسوة المرة الواحدة.
7 - وعن أبي ذر: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يقول: لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر". - رواه أحمد.
8 - وعن أنس: "أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
تسحروا فإن في السحور بركة". -
رواه الجماعة إلا أبا داود.
9 - وعن عمرو بن العاص
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
إن فصلاً ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة
السحر". -
رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
- حديث أبي ذر في
إسناده سليمان بن أبي عثمان قال أبو حاتم:
مجهول. وفي الباب عن أبي ليلى الأنصاري عند
النسائي وأبي عوانة في صحيحه بنحو حديث أنس.
وعن ابن مسعود عند النسائي والبزار بنحوه
أيضاً. وعن أبي هريرة عند النسائي بنحوه
أيضاً. وعن قرة بن إياس المزني عند البزار
نحوه أيضاً. وعن ابن عباس عند ابن ماجه
والحاكم بلفظ:
"استعينوا بطعام السحر على صيام النهار
وبقيلولة النهار على قيام الليل" وله شاهد في علل ابن أبي حاتم عنه وتشهد له رواية لابن داسه في سنن
أبي داود وأخرجه ابن حبان بلفظ:
"نعم سحور المؤمن التمر"
وعن ابن عمر عند ابن حبان بلفظ: "إن اللَّه وملائكته يصلون على المتسحرين"
وفي رواية له عنه: "تسحروا ولو بجرعة من ماء" وعن زيد بن ثابت عند الشيخين أنه "كان بين تسحره صلى اللَّه عليه
وآله وسلم ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل
خمسين آية" وعن أنس عند البخاري بنحوه. وعن
أبي
ج / 4 ص -222-
سعيد عند أحمد بلفظ:
"السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن اللَّه
وملائكته يصلون على المتسحرين"
ولسعيد بن " منصور من طريق أخرى:
"تسحروا ولو بلقمة".
قوله: "ما أخروا السحور" أي مدة تأخيرهم.
"وفيه دليل" على مشروعية
تأخير السحور وقد تقدم قول ابن عبد البر أن
أحاديث تأخير السحور صحاح متواترة.
قوله: "فإن في السحور
بركة" بفتح السين وضمها قال في الفتح: لأن
المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم
لأنه مصدر أو البركة كونه يقوي على الصوم
وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه
اسم لما يتسحر به.
"وفيه دليل" على مشروعية
التسحر وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية
السحور انتهى.
وليس بواجب لما ثبت عنه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن أصحابه أنهم
واصلوا ومن مقويات مشروعية السحور ما فيه من
المخالفة لأهل الكتاب فإنهم لا يتسحرون كما
صرح بذلك حديث عمرو بن العاص وأقل ما يحصل به
التسحر ما يتناوله المؤمن من مأكول أو مشروب
ولو جرعة من ماء كما تقدم في الأحاديث.
أبواب ما يبيح الفطر
وأحكام القضاء.
أبواب ما يبيح
الفطر وأحكام القضاء.
باب الفطر والصوم في السفر.
1 - عن عائشة: "أن حمزة
بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
أصوم في السفر وكان كثير الصيام فقال: إن شئت
فصم وإن شئت فأفطر". -
رواه الجماعة.
2 - وعن أبي الدرداء
قال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان
أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا
صائم إلا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم وعبد اللَّه بن رواحة".
3 - وعن جابر قال: "كان
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في سفر
فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال:
ما هذا
فقالوا: صائم فقال: ليس من البر الصوم في السفر".
4 - وعن أنس قال: "كنا
نسافر مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر
على الصائم".
5 - وعن ابن عباس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم خرج من
المدينة ومعه عشرة آلاف وذلك على رأس ثمان "
سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار بمن
ج / 4 ص -223-
معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى
إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد أفطر
وأفطروا وإنما يؤخذ من أمر رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بالآخر فالآخر". - متفق
على هذه الأحاديث إلا أن مسلماً له معنى حديث
ابن عباس من غير ذكر عشرة آلاف ولا تاريخ
الخروج.
6 - وعن حمزة بن عمرو
الأسلمي أنه قال: "يا رسول اللَّه أجد مني قوة
على الصوم في السفر فهل علي جناح فقال
هي رخصة من اللَّه تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح
عليه". - رواه مسلم والنسائي وهو قوي الدلالة على
فضيلة الفطر.
7 - وعن أبي سعيد وجابر
قالا: "سافرنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب
بعضهم على بعض". - رواه مسلم.
8 - وعن أبي سعيد قال:
"سافرنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم إلى مكة ونحن صيام قال فنزلنا منزلاً
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت
رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا
منزلاً آخر فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر
أقوى لكم فأفطروا فكانت عزمة فأفطرنا ثم لقد
رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم في السفر". - رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
- قوله: "أأصوم" قال
ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان
فلا يكون فيه حجة على من منع صوم رمضان في
السفر. قال الحافظ: هو كما قال بالنسبة إلى
سياق حديث الباب لكن في رواية لمسلم أنه أجابه
بقوله:
"هي رخصة من اللَّه فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم
فلا جناح عليه"
وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة لأن
الرخصة إنما تطلق في مقابل ما هو واجب. وأصرح
من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم عنه أنه
قال: "يا رسول اللَّه إني صاحب ظهر أعالجه
أسافر عليه وأكريه ربما صادفني الشهر يعني
رمضان وأنا أجد القوة وأجد لي أن أصوم أهون
علي من أن أؤخره فيكون ديناً فقال
أي ذلك شئت" وفي هذا الحديث دلالة على استواء الصوم والإفطار في السفر.
قوله: "في شهر رمضان"
هذا لفظ مسلم. وفي البخاري: "خرجنا مع
ج / 4 ص -224-
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في بعض
أسفاره" وبرواية مسلم يتم المراد من الاستدلال
ويتوجه بها الرد على ابن حزم حيث زعم أن حديث
أبي الدرداء هذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون
ذلك الصوم تطوعاً وقد قيل أن هذا السفر هو
غزوة الفتح وهو وهم لأن أبا الدرداء ذكر ابن
عبد اللَّه بن رواحة كان صائماً في هذا السفر
وهو استشهد بموته قبل غزوة الفتح بلا خلاف وإن
كانتا جميعاً في سنة واحدة. وأيضاً الذين
صاموا في غزوة الفتح جماعة من الصحابة ولم
يستثن أبو الدرداء في هذه الرواية مع النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا عبد اللَّه بن
رواحة.
"وفي هذا الحديث" دليل
على أنه لا يكره الصوم لمن قوي عليه.
قوله: "في السفر" في
رواية للبخاري وابن خزيمة أنها غزوة الفتح.
قوله: "ورجلاً قد ظلل
عليه" زعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك
إلى مبهمات الخطيب ولم يقل ذلك في هذه القصة
وإنما قاله في قصة الذي نذر أن يصوم ويقوم في
الشمس وكان ذلك يوم الجمعة والنبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يخطب. قال الحافظ: لم نقف على
اسم هذا الرجل.
قوله: "ليس من البر" الخ
قد أشار البخاري إلى أن السبب في قوله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم هذه المقالة هو ما ذكر
من المشقة التي حصلت للرجل الذي ظلل عليه. وفي
ذلك دليل على أن الصيام في السفر لمن كان يشق
عليه ليس بفضيلة.
"وقد اختلف السلف" في
هذه المسألة أعني صوم رمضان في السفر فقالت
طائفة: لا يجزئ الصوم عن الفرض بل من صام في
السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر وهو قول بعض
الظاهرية وحكاه في البحر عن أبي هريرة وداود
والإمامية.
قال في الفتح: وحكى عن
عمر وابن عمرو وأبي هريرة والزهري وإبراهيم
النخعي وغيرهم انتهى. واحتجوا بقوله تعالى
{ َمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ }
قالوا لأن ظاهر قوله فعدة أي فالواجب عليه عدة
وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة.
واحتجوا أيضاً بما في حديث ابن عباس المذكور
في الباب أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أفطر في السفر وكان ذلك آخر الأمرين وأن
الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله
فزعموا أن صومه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في
السفر منسوخ وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه
الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك
البخاري في الجهاد وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة
وبأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صام بعد
هذه القصة كما في حديث أبي سعيد المذكور في
آخر الباب بلفظ: "ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول
"ص 306" اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد
ذلك في السفر" واحتجوا أيضاً بما أخرجه مسلم
عن جابر: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع
الغميم وصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه
حتى نظر الناس ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض
الناس قد صام فقال
أولئك العصاة"
وفي رواية له: "أن الناس قد شق عليهم الصيام
وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد
العصر" الحديث. وسيأتي. وأجاب عنه الجمهور
بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليهم
فخالفوا. واحتجوا أيضاً بما في حديث جابر
المذكور في الباب من قوله صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
"ليس من البر الصوم في السفر" وأجاب عنه الجمهور بأنه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم إنما قال ذلك في حق من شق عليه
الصوم كما سبق بيانه ولا شك أن الإفطار مع
المشقة الزائدة أفضل وفيه نظر لأن العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن قيل إن
ج / 4 ص -225-
السياق والقرائن تدل على التخصيص. قال ابن
دقيق العيد: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة
السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى
مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على سبب
فإن بين المقامين فرقاً واضحاً ومن أجراهما
مجرى واحد لم يصب فإن مجرد ورود العام على سبب
لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة
رداء صفوان.
وأما السياق والقرائن
الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان
المجملات كما في حديث الباب وأيضاً نفي البر
لا يستلزم عدم صحة الصوم وقد قال الشافعي:
يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض
الذي من خالفه أثم.
وقال الطحاوي: المراد
بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب
وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن
يكون براً لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم
إذا كان للتقوي على لقاء العدو وقال الشافعي:
نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى
قبول الرخصة.
وقد روى الحديث النسائي
بلفظ:
"ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم رخصة اللَّه التي رخص لكم
فاقبلوا"
قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل يعني
الزيادة ورواها الشافعي ورجح ابن خزيمة الأول
واحتجوا أيضاً بما أخرجه ابن ماجه عن عبد
الرحمن بن عوف مرفوعاً:
"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"
ويجاب عنه بأن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف
ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه
مرفوعاً قال الحافظ: والمحفوظ عن أبي سلمة عن
أبيه موقوفاً كذا أخرجه النسائي وابن المنذر
ورجح وقفه ابن أبي حاتم والبيهقي "ص 307"
والدارقطني ومع وقفه فهو منقطع لأن أبا سلمة
لم يسمع من أبيه وعلى تقدير صحته فهو محمول
على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من
الصوم كحالة المشقة جمعاً بين الأدلة واحتجوا
أيضاً بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه
عن أنس بن مالك الكعبي بلفظ:
"إن اللَّه قد وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" ويجاب عنه بأنه مختلف فيه كما قال ابن أبي حاتم وعلى تسليم صحته
فالوضع لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو
محل النزاع وذهب الجمهور منهم مالك والشافعي
وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه
ولم يشق به وبه قالت العترة وروي عن أنس
وعثمان بن أبي العاص. وقال الأوزاعي وأحمد
وإسحاق: إن الفطر أفضل عملاً بالرخصة وروي عن
ابن عباس وابن عمر وقال عمر بن عبد العزيز
واختاره ابن المنذر: أفضلهما أيسرهما فمن يسهل
عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في
حقه أفضل وقال آخرون: هو مخير مطلقاً والأولى
أن يقال من كان يشق عليه الصوم ويضره وكذلك من
كان معرضاً عن قبول الرخصة فالفطر أفضل.
أما الطرف الأول فلما
قدمنا من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من
الصوم وأما الطرف الثاني فلحديث:
"إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه"
وقد تقدم. ولحديث:
"من رغب عن سنتي فليس مني" وكذلك يكون الصيام أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا
صام في السفر. وقد روى الطبراني عن ابن عمر
أنه قال: إذا سافرت فلا تصم فإنك إن تصم قال
أصحابك اكفوا الصيام ادفعوا للصائم
ج / 4 ص -226-
وقاموا بأمرك وقالوا فلان صائم فلا تزال
كذلك حتى يذهب أجرك.
وأخرج نحوه أيضاً من
طريق أبي ذر ومثل ذلك ما أخرجه البخاري في
الجهاد عن أنس مرفوعاً: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم قال للمفطرين لما خدموا
الصائمين
ذهب المفطرون اليوم بالأجر" وما كان من الصيام خالياً عن هذه الأمور
فهو أفضل من الإفطار.
ومن أحب الوقوف على
حقيقة المسألة فليراجع قبول البشرى في تيسير
اليسرى للعلامة محمد بن إبراهيم.
قوله: "الكديد" بفتح
الكاف وكسر الدال المهملة.
قوله: "وقديد" بضم القاف
مصغراً وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال عياض:
اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر فيه
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم والكل في
قضية واحدة وكلها متقاربة والجميع من عمل
عسفان.
قوله: "أجد مني قوة"
ظاهره أن الصوم لا يشق عليه ويفوت به حق. وفي
رواية لمسلم: "إني رجل "ص 308" أسرد الصوم"
وقد جعل المصنف رحمه اللَّه تعالى هذا الحديث
قوي الدلالة على فضيلة الفطر لقوله صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
"فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح"
فأثبت بالرخصة الحسن وهو أرفع من رفع الجناح.
وأجاب الجمهور بأن هذا
فيمن يخاف ضرراً أو يجد مشقة كما هو صريح في
الأحاديث وقد أسلفنا تحقيق ذلك.
قوله: "إنكم قد دنوتم من
عدوكم والفطر أقوى لكم" فيه دليل على أن الفطر
لمن وصل في سفره إلى موضع قريب من العدو أولى
لأنه ربما وصل إليهم العدو إلى ذلك الموضع
الذي هو مظنة ملاقاة العدو ولهذا كان الإفطار
أولى ولم يتحتم وأما إذا كان لقاء العدو
متحققاً فالإفطار عزيمة لأن الصائم يضعف عن
منازلة الأقران لا سيما عند غليان مراجل
الضراب والطعان ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة
لجنود المحقين وإدخال الوهن على عامة
المجاهدين من المسلمين.
"فائدة"
المسافة التي يباح الإفطار فيها هي المسافة
التي يباح القصر فيها والخلاف هنا كالخلاف
هناك وقد قدمنا تحقيق ذلك في باب القصر فليرجع
إليه.
باب من شرع في
الصوم ثم أفطر في يومه ذلك.
1 - عن جابر: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ
كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له إن الناس
قد شق عليهم الصيام وإن الناس يظنون فيما فعلت
فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس
ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن
ناساً صاموا فقال
أولئك العصاة". - رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه.
2 - وعن أبي سعيد قال:
"أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
على نهر من ماء السماء والناس صيام في يوم
صائف مشاة ونبي اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم على بغلة له فقال
اشربوا أيها الناس قال فأبوا قال
إني لست مثلكم إني أيسركم
ج / 4 ص -227-
إني راكب
فأبوا فثنى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس وما كان يريد
أن يشرب".
3 - وعن ابن عباس قال:
"خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى مر بغدير في
الطريق وذلك في نحر الظهيرة قال فعطش الناس
فجعلوا يمدون أعناقهم وتتوق "ص 309" أنفسهم
إليه قال فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم بقدح فيه ماء فأمسكه على يده حتى
رآه الناس ثم شرب فشرب الناس". - رواهما أحمد.
- حديث ابن عباس أخرج
نحوه البخاري في المغازي من طريق خالد الحذاء
عن عكرمة عن ابن عباس قال: "خرج النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم في رمضان والناس صائم
ومفطر فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن
أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس" وسيأتي
وزاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس:
"ثم دعا بماء فشرب نهاراً" وأخرجه من طريق أبي
الأسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه:
"فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس شق عليهم
الصيام فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه
الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر فناوله
رجلاً إلى جنبه فشرب" والأحاديث في هذا المعنى
يشهد بعضها لبعض.
قوله: "كراع الغميم" هو
بضم الكاف والغميم بفتح الغين المعجمة وهو اسم
واد أمام عسفان وهو من أموال أعالي المدينة.
"وفيه دليل" على أنه
يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من
الليل وهو قول الجمهور. قال في الفتح: وهذا
كله فيما لو نوى الصوم في السفر فأما لو نوى
الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل
له أن يفطر في ذلك النهار منعه الجمهور وقال
أحمد وإسحاق بالجواز واختاره المزني وهذا هو
الحق ولحديث جابر المذكور في الباب لما تقدم
من أن كراع الغميم من أموال أعالي المدينة
لحديث ابن عباس الذي سيأتي في الباب الذي بعد
هذا أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أفطر حين
استوى على راحلته. وهذا الحديث أيضاً يرد عن
بعض السلف أن من استهل رمضان في الحضر ثم سافر
بعد ذلك فليس له أن يفطر. وقد روي عن علي عليه
السلام نحو ذلك بإسناد ضعيف والجمهور على
الجواز وهو الحق. واستدل المانع من الإفطار
بقوله تعالى
{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.
قوله: "فشرب" الخ فيه
دليل على أن فضيلة الفطر لا تختص بمن أجهده
الصوم أو خشي العجب والرياء أو ظن به الرغبة
عن الرخصة بل يلتحق بذلك من يقتدي به ليتابعه
من وقع له شيء من هذه الأمور الثلاثة ويكون
الفطر في تلك الحال في حقه أفضل لفضيلة البيان
ويدل على هذا قوله في حديث أبي سعيد: "وما كان
يريد أن يشرب".
قوله: "أولئك العصاة"
استدل به من قال بأن الفطر في السفر متحتم ومن
قال بأنه أفضل وقد تقدم الجواب عن ذلك
قوله: "ص 310" "في يوم
صائف" فيه أن الإفطار عند اشتداد الحر كما
يكون في أيام الصيف أفضل لأنه مظنة المشقة
وأنه يشرع لمن مع المسافرين من إمام أو عالم
أن يفطر ليقتدي به الناس
ج / 4 ص -228-
وإن لم يكن محتاجاً إلى الإفطار لما تقدم.
قوله: "إني أيسركم إني
راكب" يعني إني أيسركم مشقة ثم بين ذلك بقوله
إني راكب.
قوله: "في نحر الظهيرة"
أي في أول الظهيرة قال في القاموس: نحر النهار
والشهر أوله الجمع نحور انتهى.
قوله: "تتوق أنفسهم" أي
تشتاق قال في القاموس: تاق إليه توقاً وتوقاً
وتياقة وتوقاناً اشتاق انتهى.
قوله: "فأمسكه على يده"
في رواية للبخاري: "فرفعه إلى يده" قال
الحافظ: هذه الرواية مشكلة لأن الرفع إنما
يكون باليد وأجاب الكرماني بأن المعنى يحتمل
أن يكون رفعه إلى أقصى طول يده أي انتهى الرفع
إلى أقصى غايتها وفي رواية لأبي داود فرفعه
إلى فيه.
قوله: "حتى رآه الناس"
في رواية للبخاري: "ليراه" وفي رواية
للمستملي: "ليريه" بضم أوله وكسر الراء وفتح
التحتانية والناس بالنصب على المفعولية.
باب من سافر في
أثناء يوم هل يفطر فيه ومتى يفطر.
1 - وعن ابن عباس قال:
"خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
في رمضان إلى حنين والناس مختلفون فصائم ومفطر
فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو
ماء فوضعه على راحلته أو راحته ثم نظر الناس
المفطرون للصوام أفطروا". - رواه البخاري. -
هذا أحد ألفاظ حديث ابن عباس وقد ورد بألفاظ
مختلفة في البخاري وغيره وقد تقدم ذكر بعضها
وذكره المصنف ههنا للاستدلال به على أنه يجوز
للمسافر الإفطار عند ابتداء السفر لقوله فيه:
"فلما استوى على راحلته" الخ وقال الشافعي: من
أصبح في حضر مسافراً فليس له أن يفطر إلا أن
يثبت حديث النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أنه أفطر يوم الكديد انتهى.
"والحديث المذكور" قد
ثبت كما تقدم ولكنها لا تقوم به الحجة على
إفطار من أصبح في حضر مسافراً لأن بين الكديد
والمدينة ثمانية أيام بل هو حجة على أنه يجوز
لمن صام أياماً في سفره أن يفطر وقد ترجم عليه
باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر والذي
تقوم به الحجة على جواز إفطار من أصبح في حضر
مسافراً هو حديث الباب وكذلك حديث جابر
المتقدم في الباب الأول كما تقدم تحقيق ذلك.
قال المصنف رحمه اللَّه
بعد أن ساق الحديث: قال شيخنا عبد الرزاق بن
عبد القادر صوابه خيبر أو مكة لأنه قصدهما في
هذا الشهر فأما حنين فكانت بعد الفتح بأربعين
ليلة انتهى.
والفتح كان لعشر بقين من
رمضان وقيل لتسع عشرة ليلة خلت منه. قال في
الفتح: وهو الذي اتفق عليه أهل السير وكان
خروجه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من المدينة
في عاشر شهر رمضان فإذا كانت حنين بعده
بأربعين ليلة لم يستقم أن يكون السفر إليها في
رمضان.
2 - وعن محمد بن كعب
قال: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد
سفراً وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر
فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة فقال سنة ثم
ركب". - رواه الترمذي.
ج / 4 ص -229-
3 - وعن عبيد بن جبر قال: "ركبت مع أبي بصرة
الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع ثم
قرب غداءه ثم قال اقترب فقلت ألست بين البيوت
فقال أبو بصرة أرغبت عن سنة رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم". - رواه أحمد وأبو
داود. - الحديث الأول ذكره الحافظ وسكت عنه
وفي إسناده عبد بن جعفر والد علي ابن المديني
وهو ضعيف. والحديث الثاني سكت عنه أبو داود
والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده
ثقات. وأخرج البيهقي عن أبي إسحاق عن أبي
ميسرة عمرو بن شرحبيل أنه كان يسافر وهو صائم
فيفطر من يومه.
قوله: "من الفسطاط" هو
اسم علم لمصر العتيقة التي بناها عمرو بن
العاص.
"والحديثان" يدلان على
أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع
الذي أراد السفر منه. قال ابن العربي في
العارضة: هذا صحيح ولم يقل به إلا أحمد أما
علماؤنا فمنعوا منه لكن اختلفوا إذا أكل هل
عليه كفارة فقال مالك: لا وقال أشهب: هو متأول
وقال غيرهما: يكفر ونحب أن لا يكفر لصحة
الحديث ولقول أحمد عذر يبيح الإفطار فطر بأنه
على الصوم يبيح الفطر كالمرض وفرق بأن المرض
لا يمكن دفعه بخلاف السفر. قال ابن العربي:
وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة
السفر ثم ذكر أن قوله من السنة لا بد من أن
يرجع إلى التوقيف والخلاف في ذلك معروف في "ص
312" الأصول.
والحق أن قول الصحابي من
السنة ينصرف إلى سنة رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم وقد صرح هذان الصحابيان بأن
الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة.
باب جواز الفطر للمسافر إذا دخل بلداً ولم يجمع إقامة.
1 - عن ابن عباس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم غزا غزوة
الفتح في رمضان وصام حتى إذا بلغ الكديد الماء
الذي بين قديد وعسفان فلم يزل مفطراً حتى
انسلخ الشهر". - رواه البخاري. ووجه الحجة منه
أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان هكذا جاء في
حديث متفق عليه. - الكديد وقديد قد تقدم
ضبطهما وتفسيرهما. والحديث يدل على أن المسافر
إذا أقام ببلد متردد أجاز له أن يفطر مدة تلك
الإقامة كما يجوز له أن يقصر وقد عرفناك في
باب قصر الصلاة أن من حط رحله في بلد وأقام به
يتم صلاته لأن مشقة السفر قد زالت عنه ولا
يقصر إلا إلى مقدار المدة التي قصر فيها صلى
اللَّه عليه وآله وسلم مع إقامته ولا شك أن
قصره صلى اللَّه عليه وآله وسلم في تلك المدة
لا ينفي القصر فيما زاد عليها ولكن ملاحظة
الأصل منعت من مجاوزتها لأن القصر للمقيم لم
يشرعه الشارع فلا يثبت له إلا بدليل وقد دل
الدليل على أنه يقصر في مثل المدة التي أقام
فيها صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد تقدم
الخلاف في
ج / 4 ص -230-
مقدارها فيقتصر على ذلك. وهكذا يقال في
الإفطار الأصل في المقيم أن لا يفطر لزوال
مشقة السفر عنه إلا لدليل يدل على جوازه له
وقد دل الدليل على أن من كان مقيماً ببلد وفي
عزمه السفر يفطر مثل المدة التي أفطرها صلى
اللَّه عليه وآله وسلم بمكة وهي عشرة أيام أو
أحد عشر على اختلاف الروايات فيقتصر على ذلك
ولا يجوز الزيادة عليه إلا بدليل.
"فإن قيل" الاعتبار
بإطلاق اسم المسافر على المقيم المتردد وقد
أطلقه عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال
إنا قوم سفر كما تقدم في القصر لا بالمشقة
ولعدم انضباطها قلنا قد تقدم الجواب عن ذلك في
القصر فليرجع إليه
باب ما جاء في
المريض والشيخ والشيخة والحامل والمرضع.
1 - عن أنس بن مالك الكعبي: "أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال:
إن اللَّه عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر
الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم". - رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم:
"وعن الحامل والمرضع".
- الحديث حسنه الترمذي
وقال: ولا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم غير هذا الحديث الواحد
انتهى.
وقال ابن أبي حاتم في
علله: سألت أبي عنه يعني الحديث فقال اختلف
فيه والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى.
قال المنذري: ومن يسمى بأنس بن مالك من رواة
الحديث خمسة صحابيان هذا وأبو حمزة أنس بن
مالك الأنصاري خادم رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم وأنس بن مالك والد الإمام مالك
بن أنس روي عنه حديث في إسناده نظر. والرابع
شيخ حمصي حدث. والخامس كوفي حدث عن حماد بن
أبي سليمان والأعمش وغيرهما انتهى.
وينبغي أن يكون أنس بن
مالك القشيري الذي ذكره ابن أبي حاتم سادساً
إن لم يكن هو الكعبي.
"والحديث" يدل على أن
المسافر لا صوم عليه وقد تقدم البحث عن ذلك
وأنه يصلي قصراً وقد تقدم تحقيقه وأنه يجوز
للحبلى والمرضع الإفطار وقد ذهب إلى ذلك
العترة والفقهاء إذا خافت المرضعة على الرضيع
والحامل على الجنين وقالوا إنها تفطر حتماً
قال أبو طالب: ولا خلاف في الجواز. وقال
الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم. وقال
بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران ويقضيان
ويطعمان وبه يقول سفيان ومالك والشافعي وأحمد
وقال بعضهم: ويفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما
وإن شاءتا قضتا ولا طعام عليهما وبه يقول
إسحاق انتهى.
وقد قال بعدم وجوب
الكفارة مع القضاء الأوزاعي والزهري والشافعي
في أحد أقواله. وقال مالك والشافعي في أحد
أقواله: إنها تلزم المرضع لا الحامل إذ هي
كالمريض.
2 - وعن سلمة بن الأكوع
قال: "لما نزلت هذه الآية
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر
ج / 4 ص -231-
ويفتدي حتى أنزلت الآية التي بعدها
فنسختها". - رواه الجماعة إلا أحمد.
3 - وعن عبد الرحمن بن
أبي ليلى عن معاذ بن جبل بنحو حديث سلمة
وفيه: "ثم أنزل اللَّه
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأثبت اللَّه صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر
وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع
الصيام". - مختصر لأحمد وأبي داود.
4 - وعن عطاء: "سمع ابن
عباس يقرأ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين
قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير
والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان
مكان كل يوم مسكيناً". - رواه البخاري.
5 - وعن عكرمة: "أن ابن
عباس قال أثبتت للحبلى والمرضع". - رواه أبو
داود. - حديث معاذ قد اختلف في إسناده
اختلافاً كثيراً.
قوله: "الآية التي
بعدها" هي الآية المذكورة في حديث معاذ الذي
بعده.
قوله: "فنسختها" قد روي
عن ابن عمر كما روي عن سلمة من النسخ ذكر ذلك
البخاري عنه معلقاً وموصولاً وقد أخرج أبو
نعيم في المستخرج والبيهقي: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قدم المدينة ولا عهد
لهم بالصيام فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل
شهر حتى نزل رمضان فاستكثروا ذلك وشق عليهم
فكان من يطعم مسكيناً كل يوم ترك الصيام ممن
يطيقه رخص لهم في ذلك ثم نسخه قوله تعالى
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
فأمروا بالصيام" وهذا الحديث أخرجه أيضاً أبو
داود من طريق شعبة والمسعودي عن الأعمش مطولاً
وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً وإذا
تقرر أن الإفطار والإطعام كان رخصة ثم نسخ لزم
أن يصير الصيام حتماً واجباً فكيف يصح
الاستدلال على ذلك بقوله
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} والخيرية لا تدل على الوجوب لدلالة قوله {خَيْرٌ لَكُمْ}
على المشاركة في أصل الخير.
وأجاب عن ذلك الكرماني
جواباً متكلفاً حاصله أن المراد أن الصوم خير
من التطوع بالفدية والتطوع بها كان سنة والخير
من السنة لا يكون واجباً أي لا يكون شيء خيراً
من السنة إلا الواجب كذا قال ولا يخفى بعده
وتكلفه فالأولى ما روي عن سلمة بن الأكوع وابن
عمر أن الناسخ قوله تعالى
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإلى النسخ في حق غير الكبير ممن يطيق الصيام ذهب الجمهور قالوا
وحكم الإطعام باق في حق من لم يطق الصيام وقال
جماعة من السلف منهم مالك وأبو ثور وداود: إن
جميع
ج / 4 ص -232-
الإطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق
الطعام وقال قتادة: كانت الرخصة لكبير يقدر
على الصوم ثم نسخ فيه وبقي فيمن لا يطيق وقال
ابن عباس: إنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ
الكبير كما وقع في الباب عنه.
وقال زيد بن أسلم
والزهري ومالك: هي محكمة نزلت في المريض يفطر
ثم يبرأ فلا يقضي حتى يدخل رمضان آخر فيلزمه
صومه ثم يقضي بعده ويطعم عن كل يوم مداً من
حنطة فإن اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه
إطعام بل عليه القضاء فقط.
وقال الحسن البصري
وغيره: الضمير في يطيقونه عائد على الإطعام لا
على الصوم ثم نسخ بعد ذلك قوله "سمع ابن عباس
يقرأ
{الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}"
هكذا في هذا الكتاب وهو لا يناسب قوله آخر
الكلام هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا
يستطيعان أن يصوما إلا أن يكون مراداً ابن
عباس أن ذلك من مجاز الحذف كما روي عن بعض
العلماء والأصل وعلى الذين لا يطيقونه وقد روي
عن ابن عباس أنه كان يقرأ وعلى الذين يطوقونه
أي يكلفونه ولا يطيقونه وهو المناسب لآخر
الكلام.
وقد روي عن ابن عباس أنه
قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم كل يوم
مسكيناً ولا قضاء عليه رواه الدارقطني والحاكم
وصححاه وفيه مع ما في الباب عنه وعن معاذ دليل
على أنه يجوز للشيخ الكبير العاجز عن الصوم أن
يفطر ويكفر وقد اختلف في قدر إطعام المسكين
فقيل نصف صاع عن كل يوم من أي قوت وبه قال أبو
طالب وأبو العباس وغيرهما من الهادوية وقيل
صاع من غير البر ونصف صاع منه وبه قال أبو
حنيفة والمؤيد باللَّه. وقيل مد من بر أو نصف
صاع من غيره وبه قال الشافعي وغيره وليس في
المرفوع ما يدل على التقدير.
قوله: "أثبتت للحبلى
والمرضع" لفظ أبي داود أن ابن عباس قال في
قوله
{عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}
قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة
وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل
يوم مسكيناً والحبلى والمرضع إذا خافتا يعني
على أولادهما أفطرتا وأطعمتا وأخرجه البزار
كذلك وزاد في آخره وكان ابن عباس يقول لأم ولد
له حبلى أنت بمنزلة الذي لا يطيقه فعليك
الفداء ولا قضاء عليك وصحح الدارقطني إسناده.
باب قضاء رمضان
متتابعاً ومتفرقاً وتأخيره إلى شعبان.
1 - عن ابن عمر: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال: قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء
تابع".
- رواه الدارقطني. قال
البخاري: قال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقول
اللَّه تعالى
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
2 - وعن عائشة قالت:
"نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقطت
متتابعات". - رواه الدارقطني وقال: إسناد
صحيح. - حديث ابن عمر في إسناده سفيان بن بشر
وقد تفرد بوصله قال الدارقطني: ورواه عطاء بن
عبيد بن عمير مرسلاً قال الحافظ: وفي إسناده
ضعف أيضاً. وقد صحح الحديث ابن الجوزي
ج / 4 ص -233-
وقال: ما علمنا أحداً طعن في سفيان بن بشر
ورواه الدارقطني أيضاً من حديث عبد اللَّه بن
عمر وفي إسناده الواقدي وابن لهيعة ورواه من
حديث محمد بن المنكدر قال: "بلغني أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم سئل عن
تقطيع قضاء شهر رمضان فقال
ذاك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى
الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء واللَّه أحق أن
يعفو" وقال: هذا إسناد حسن لكنه مرسل وقد روي
موصولاً ولا يثبت.
"وفي الباب" عن أبي
عبيدة ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة ورافع بن
خديج أخرجها البيهقي وهذه الطرق وإن كانت كل
واحدة منها لا تخلو عن مقال فبعضها يقوي بعضاً
فتصلح للاحتجاج بها على جواز التفريق وهو قول
الجمهور وحكاه في البحر عن علي عليه السلام
وأبي هريرة وأنس ومعاذ ونقل ابن المنذر عن
عائشة وجوب التتابع قال في الفتح: وهو قول بعض
أهل الظاهر وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن
عمر أنه قال: يقضيه تباعاً وحكاه في البحر عن
النخعي والناصر وأحد قولي الشافعي وتمسكوا
بالقراءة المذكورة أعني قوله "متتابعات" قال
في الموطأ: هي قراءة أُبيِّ بن كعب وأجيب عن
ذلك بما تقدم عن عائشة أنها سقطت على أنه قد
اختلف في الاحتجاج بقراءة الآحاد كما تقرر في
الأصول وإذا سلم أنها لم تسقط فهي منزلة عند
من قال بالاحتجاج بها منزلة أخبار الآحاد وقد
عارضها ما في الباب من الأحاديث.
وقال القاسم بن إبراهيم:
إن فرق أساء وأجزأ. وحكى في البحر عن داود أن
القاضي يطابق وقت الفوات من أول الشهر وآخره
ووسطه ومما احتج به للتتابع ما أخرجه
الدارقطني عن أبي هريرة: "أنه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال:
من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه" لكنه قال البيهقي لا يصح. وفي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاضي
وهو مختلف فيه. قال الدارقطني: ضعيف وقال أبو
حاتم: ليس بالقوي روى حديثاً منكراً قال عبد
الحق: يعني هذا وتعقبه ابن القطان بأنه لم ينص
عليه فلعله غيره قال: ولم يأت من ضعفه بحجة
والحديث حسن.
قال الحافظ: قد صرح ابن
أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه
على عبد الرحمن.
قوله: "قال ابن عباس"
وصله عبد الرزاق وأخرجه الدارقطني عنه من وجه
آخر.
3 - وعن عائشة قالت:
"كان يكون علي صوم من رمضان فما أستطيع أن
أقضي إلا في شعبان وذلك لمكان رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم". - رواه الجماعة ويروى
بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم في رجل مرض في رمضان فأفطر ثم
صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر فقال:
"يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه
ويطعم كل يوم مسكيناً"
رواه الدارقطني عن أبي هريرة من قوله وقال:
إسناد صحيح موقوف.
4 - وروي عن ابن عمر:
"عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: من مات وعليه صيام
ج / 4 ص -234-
شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين". - وإسناده ضعيف قال الترمذي: والصحيح أنه
عن ابن عمر موقوف.
5 - وعن ابن عباس قال:
"إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم
عنه ولم يكن عليه قضاء وإن نذر قضى عنه
وليه". - رواه أبو داود. - حديث أبي هريرة
أخرجه الدارقطني وفي إسناده عمر بن موسى بن
وجيه وهو ضعيف جداً والراوي عنه إبراهيم بن
نافع وهو أيضاً ضعيف وروي عنه موقوفاً وصححه
الدارقطني كما ذكر المصنف وغيره وحديث ابن عمر
أخرجه الترمذي عن قتيبة عن عبثر بن القاسم عن
أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً وقال
غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه
والصحيح أنه موقوف على ابن عمر قال وأشعث هو
ابن سوار ومحمد هو ابن عبد الرحمن بن أبي
ليلى.
قال الحافظ: ورواه ابن
ماجه من هذا الوجه ووقع عنده عن محمد بن سيرين
بدل محمد بن عبد الرحمن وهو وهم منه أو من
شيخه. وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن
عمر وتابعه البيهقي على ذلك. وأثر ابن عباس
صححه الحافظ وأخرجه الدارقطني وسعيد بن منصور
والبيهقي وعبد الرزاق موصولاً وعلقه البخاري.
قال عبد الحق في أحكامه: لا يصح في الإطعام
شيء يعني مرفوعاً وكذا قال في الفتح.
قوله: "فما أستطيع أن
أقضي إلا في شعبان" استدل بهذا على أن عائشة
كانت لا تتطوع بشيء من الصيام ولا في عشر ذي
الحجة ولا عاشوراء ولا غير ذلك وهذا الاستدلال
إنما يتم بعد تسليم أنها كانت ترى أنه لا يجوز
صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان ومن أين
لقائله ذلك.
قوله: "وذلك لمكان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم" هذا لفظ
مسلم. وفي لفظ للبخاري: "الشغل بالنبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم" وفي رواية للترمذي
وابن خزيمة: "أنها قالت ما قضيت شيئاً مما
يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم".
"وفي الحديث" دلالة على
جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء كان لعذر
أو لغير عذر لأن الزيادة أعني قوله وذلك لمكان
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد جزم
بأنها مدرجة جماعة من الحفاظ كما في الفتح
ولكن الظاهر إطلاع النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم على ذلك لا سيما مع توفر دواعي أزواجه
إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية فيكون ذلك أعني
جواز التأخير مقيداً بالعذر المسوغ لذلك.
قوله: "ويطعم كل يوم
مسكيناً" استدل به وبما ورد في معناه من قال
بأنها تلزم الفدية من لم يصم ما فات عليه في
رمضان حتى حال عليه رمضان آخر وهم الجمهور
وروي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن
عباس وأبو هريرة وقال الطحاوي عن يحيى بن أكثم
قال وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم
مخالفاً. وقال النخعي وأبو حنيفة وأصحابه أنها
لا تجب الفدية لقوله تعالى
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يذكرها وأجيب بأنها قد ذكرت في الحديث كما تقدم ويدل على
ثبوتها قوله تعالى
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال
ج / 4 ص -235-
في البحر: ونسخ التخيير لا ينسخ وجوبها على
من أفطر مطلقاً إلا ما خصه الإجماع وقال أبو
العباس: إن ترك الأداء لغير عذر وجبت وإلا
فلا.
وحكى في البحر عن
الشافعي أنه إن ترك القضاء حتى حال لغير عذر
لزمه وإلا فلا وأجيب عن هذين القولين بأن
الحديث لم يفرق وقد بينا أنه لم يثبت في ذلك
عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم شيء
وأقوال الصحابة لا حجة فيها وذهاب الجمهور إلى
قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية
قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية
حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا
فالظاهر عدم الوجوب.
"وقد اختلف القائلون"
بوجوب الفدية هل يسقط القضاء بها أم لا فذهب
الأكثر منهم إلى أنه لا يسقط. وقال ابن عباس
وابن عمر وقتادة وسعيد بن المسيب أنه يسقط
والخلاف في مقدار الفدية ههنا كالخلاف في
مقدارها في حق الشيخ العاجز عن الصوم وقد تقدم
بيانه.
قوله: "إذا مرض الرجل في
رمضان" الخ استدل به على وجوب الإطعام من تركة
من مات في رمضان بعد أن فات عليه بعضه وفيه
خلاف والظاهر عدم الوجوب لأن قول الصحابة لا
حجة فيه ووقع التردد فيمن مات آخر شعبان وقد
رجح في البحر عدم الوجوب لأن الأصل البراءة.
قوله: "وإن نذر قضى عنه
وليه" سيأتي البحث عن هذا قريباً.
باب صوم النذر
عن الميت.
1 - عن ابن عباس: "أن
امرأة قالت: يا رسول اللَّه إن أمي ماتت
وعليها صوم نذر فأصوم عنها فقال:
أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي
ذلك عنها
قالت: نعم قال:
فصومي عن أمك". - أخرجاه. وفي رواية: "أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن اللَّه نجاها
أن تصوم شهراً فأنجاها اللَّه فلم تصم حتى
ماتت فجاءت قرابة لها إلى رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فذكرت ذلك فقال
صومي عنها".
أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود.
2 - وعن عائشة: "أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
من مات وعليه صيام صام عنه وليه". - متفق عليه.
3 - وعن بريدة قال:
"بينا أنا جالس عند رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني
تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال:
وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت: يا رسول اللَّه إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال: صومي عنها
قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال:
حجي عنها". - رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. ولمسلم في رواية صوم
شهرين.
ج / 4 ص -236-
- قوله: "أن امرأة" هي من جهينة كما في
البخاري.
قوله: "وعليها صوم نذر"
في رواية للبخاري: "وعليها صوم شهر" وفي أخرى
له: "أنه أتى رجل فسأل" وفي رواية له أيضاً:
"وعليها خمسة عشر يوماً" وفي رواية أيضاً:
"وعليها صوم شهرين متتابعين" قال في الفتح:
وقد ادعى بعضهم أن هذا اضطراب من الرواة والذي
يظهر تعدد الواقعة وأما الاختلاف في كون
السائل رجلاً أو امرأة والمسؤول عنه أختاً أو
أماً فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث.
قوله: "أرأيت" الخ فيه
مشروعية القياس وضرب الأمثال ليكون أوضح وأوقع
في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه وفيه تشبيه
ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه وفيه أنه
يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب
على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى
لإذعانه وسيأتي مثل هذا في الحج إن شاء اللَّه
تعالى.
قوله: "فجاءت قرابة لها"
هذه الرواية مطلقة فينبغي أن تحمل على الرواية
المقيدة بذكر البنت.
قوله: "من مات وعليه
صيام" هذه الصيغة عامة لكل مكلف. وقوله "صام
عنه وليه" خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم.
"وفيه دليل" على أنه
يصوم الولي عن الميت إذا مات وعليه صوم أي صوم
كان وبه قال أصحاب الحديث وجماعة من محدثي
الشافعية وأبو ثور ونقل البيهقي عن الشافعي
أنه علق القول به على صحة الحديث وقد صح وبه
قال الصادق والناصر والمؤيد باللَّه والأوزاعي
وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه قال
البيهقي في الخلافيات: هذه السنة ثابتة لا
أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحتها والجمهور
على أن صوم الولي عن الميت ليس بواجب وبالغ
إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك
وتعقب بأن بعض أهل الظاهر يقول بوجوبه وذهب
مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أنه
لا يصام عن الميت مطلقاً وبه قال زيد بن علي
والهادي والقاسم.
وقال الليث وأحمد وإسحاق
وأبو عبيد أنه لا يصام عنه إلا النذر وتمسك
المانعون مطلقاً بما روي عن ابن عباس أنه قال
لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد أخرجه
النسائي بإسناد صحيح من قوله وروى مثله عبد
الرزاق عن ابن عمر من قوله وبما أخرجه عبد
الرزاق عن عائشة أنها قالت: "لا تصوموا عن
موتاكم وأطعموا عنهم" قالوا فلما أفتى ابن
عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن
العمل على خلاف ما روياه.
قال في الفتح: وهذه
قاعدة لهم معروفة إلا أن الآثار عن عائشة وابن
عباس فيها مقال وليس فيها ما يمنع من الصيام
إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جداً انتهى.
وهذا بناء من صاحب الفتح على أن لفظ حديث ابن
عباس باللفظ الذي ذكرناه هنالك وهو أنه قال
كان لا يصوم أحد عن أحد ولكنه ذكره في التلخيص
باللفظ الذي ذكرناه سابقاً والحق أن الاعتبار
بما رواه الصحابي لا بما رآه والكلام في هذا
مبسوط في الأصول والذي روي مرفوعاً صريح في
الرد على المانعين وقد اعتذروا بأن المراد
بقوله
"صام عنه وليه" أي فعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام وهذا عذر بارد لا يتمسك
به منصف في مقابلة الأحاديث الصحيحة ومن جملة
أعذارهم أن عمل أهل المدينة على خلاف ذلك وهو
عذر أبرد من الأول ومن أعذارهم أن الحديث
مضطرب وهذا إن تم لهم في
ج / 4 ص -237-
أبواب صوم التطوع.
باب صوم ست من شوال.
1 - عن أبي أيوب: "عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قال:
من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام
الدهر". -
رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ورواه أحمد
من حديث جابر.
2 - وعن ثوبان: "عن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال:
من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام
السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". - رواه ابن ماجه.
حديث ابن عباس لم يتم في حديث عائشة فإنه لا اضطراب فيه بلا
ريب.
"وتمسك القائلون" بأنه
يجوز في النذر دون غيره بأن حديث عائشة مطلق
وحديث ابن عباس مقيد فيحمل عليه ويكون المراد
بالصيام صيام النذر قال في الفتح: وليس بينهما
تعارض حتى يجمع بينهما فحديث ابن عباس صورة
مستقلة يسأل عنها من وقعت له وأما حديث عائشة
فهو تقرير قاعدة عامة وقد وقعت الإشارة في
حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قال في
آخره:
"فدين اللَّه أحق أن يقضى"
انتهى. وإنما قال أن حديث ابن عباس صورة
مستقلة يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد
العام فلا يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر
في الأصول.
قوله: "صام عنه وليه"
لفظ البزار:
"فليصم عنه وليه إن شاء"
قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن.
قال في الفتح: اختلف
المجيزون في المراد بقوله وليه فقيل كل قريب.
وقيل الوارث خاصة. وقيل عصبته والأول أرجح
والثاني قريب. ويرد الثالث قصة المرأة التي
سألت عن نذر أمها قال واختلفوا هل يختص ذلك
بالولي لأن الأصل عدم النيابة في العبادة
البدنية ولأنها عبادة لا يدخلها النيابة في
الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل
فيقتصر على ما ورد ويبقى الباقي على الأصل
وهذا هو الراجح. وقيل لا يختص بالولي فلو أمر
أجنبياً بأن يصوم عنه أجزأ وقيل يصح استقلال
الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب. وظاهر
صنيع البخاري اختيار هذا الأخير وبه جزم أبو
الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم ذلك بالدين والدين لا يختص بالقريب
انتهى.
وظاهر الأحاديث أنه يصوم
عنه وليه وإن لم يوص بذلك وأن من صدق عليه اسم
الولي لغة أو شرعاً أو عرفاً صام عنه ولا يصوم
عنه من ليس بولي ومجرد التمثيل بالدين لا يدل
على أن حكم الصوم كحكمه في جميع الأمور.
قوله: "وردها عليك
الميراث" فيه دليل على أنه يجوز لمن ملك
قريباً له عيناً من الأعيان ثم مات القريب بعد
ذلك وورثه أن يتملك تلك العين وقد سبق الكلام
على هذا في كتاب الزكاة.
قوله: "قال حجي عنها"
فيه دليل على أنه يجوز للابن أن يحج عن أمه أو
أبيه وإن لم يوص وسيأتي الكلام على ذلك في
الحج إن شاء اللَّه تعالى.
ج / 4 ص -238-
- حديث ثوبان أخرجه أيضاً النسائي وأحمد
والدارمي والبزار. وفي الباب عن جابر عند أحمد
وعبد بن حميد والبزار وهو الذي أشار إليه
المصنف وفي إسناده عمرو بن جابر وهو ضعيف كذا
في مجمع الزوائد. وعن أبي هريرة عند البزار
وأبي نعيم والطبراني. وعن ابن عباس عند
الطبراني في الأوسط. وعن البراء بن عازب عند
الدارقطني.
"وقد استدل" بأحاديث
الباب على استحباب صوم ستة أيام من شوال وإليه
ذهب الشافعي وأحمد وداود وغيرهم وبه قالت
العترة. وقال أبو حنيفة ومالك: يكره صومها
واستدلا على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل
لا يليق بعاقل فضلاً عن عالم نصب مثله في
مقابلة السنة الصحيحة الصريحة وأيضاً يلزم مثل
ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل
به.
واستدل مالك على الكراهة
بما قال في الموطأ من أنه ما رأى أحداً من أهل
العلم يصومها ولا يخفى أن الناس إذا تركوا
العمل بسنة لم يكن تركهم دليلاً ترد به السنة.
قال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا والأفضل
أن تصام الست متوالية عقب يوم الفطر قال: فإن
فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى آخره حصلت
فضيلة المتابعة لأنه يصدق أنه أتبعه ستاً من
شوال. قال: قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام
الدهر لأن "ص 323" الحسنة بعشر أمثالها فرمضان
بعشرة أشهر والستة بشهرين وقد جاء هذا في حديث
مرفوع في كتاب النسائي.
قوله: "ستاً من شوال"
على صيغة المؤنث ولو قال سنه بالهاء لكان
صحيحاً لأن المعدود المميز إذا كان غير مذكور
لفظاً جاز تذكير مميزه وتأنيثه يقال صمنا ستاً
وستة وخمساً وخمسة وإنما يلزم إثبات الهاء مع
المذكر إذا كان مذكوراً لفظاً وحذفها مع
المؤنث إذا كان كذلك وهذه قاعدة مسلوكة صرح
بها أهل اللغة وأئمة الإعراب.
قوله: "بعد الفطر" أي
بعد اليوم الذي يفطر فيه وهو يوم عيد الإفطار
فيحمل المطلق على المقيد ويكون المراد بالست
ثاني الفطر إلى آخر سابعه ولكنه يبقى النظر في
البعدية المذكورة هل يلزم أن تكون متصلة بيوم
الفطر بلا فصل أو يجوز إطلاقها على كل يوم من
أيام شوال لكونها بعد يوم الفطر وهكذا يقال في
قوله
"ثم أتبعه ستاً" لأن الإتباع يحتمل أن يكون بلا فاصل بين التابع والمتبوع إلا بما
لا يصلح للصوم وهو يوم الفطر ويحتمل أن يجوز
إطلاقه مع الفاصل وإن كثر مهما كان التابع في
شوال.
باب صوم عشر ذي
الحجة وتأكيد يوم عرفة لغير الحاج.
1 - عن حفصة قالت: "أربع لم يكن يدعهن رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم صيام عاشوراء
والعشر وثلاثة أيام من كل شهر والركعتين قبل
الغداة". - رواه أحمد والنسائي.
2 - وعن أبي قتادة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
"صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة وصوم
يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية". -
رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
ج / 4 ص -239-
3 - وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم عن صوم يوم عرفة
بعرفات". - رواه أحمد وابن ماجه.
4 - وعن أم الفضل: "أنهم
شكوا في صوم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يوم عرفة فأرسلت إليه بلبن فشرب وهو يخطب
الناس بعرفة". - متفق عليه.
5 - وعن عقبة بن عامر
قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
"يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل
الإسلام وهي أيام أكل وشرب". - رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي.
- حديث حفصة أخرجه أبو
داود ولكنه لم يسمها بل قال عن بعض أزواج "ص
324" النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولفظه:
"قالت كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء
وثلاثة أيام من كل شهر وأول اثنين من الشهر
والخميس" وقد اختلف فيه على هنيدة بن خالد
فرواه عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم. وروي عنه عن حفصة.
وروي عنه عن أم سلمة وقد تقدم في كتاب العيدين
أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة
على العموم والصوم مندرج تحتها.
وأما ما أخرجه مسلم عن
عائشة أنها قالت: "ما رأيت رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم صائماً في العشر قط"
وفي رواية: "لم يصم العشر قط" فقال العلماء:
المراد أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو
غيرهما أو أن عدم رؤيتها له صائماً لا يستلزم
العدم على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على
مشروعية صومها كما في حديث الباب فلا يقدح في
ذلك عدم الفعل. وحديث أبي قتادة روي من طريق
جماعة من الصحابة منهم زيد بن أرقم وسهل بن
سعد وقتادة بن النعمان وابن عمر عند الطبراني
ومن حديث عائشة عند أحمد.
"وفي الباب" عن أنس
وغيره وحديث أبي هريرة أخرجه أيضاً أبو داود
والنسائي والحاكم والبيهقي وصححه ابن خزيمة
والحاكم وفي إسناده مهدي الهجري وهو مجهول.
ورواه العقيلي في الضعفاء من طريقه وقال لا
يتابع عليه قال وقد روي عن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم
عرفة بها ولا يصح عنه النهي عن صيامه.
وحديث أم الفضل أخرج
نحوه الشيخان من حديث ميمونة وأخرجه النسائي
والترمذي وابن حبان من حديث ابن عمر بلفظ:
"حججت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم فلم يصم ومع أبي بكر كذلك ومع عثمان فلم
يصم وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه".
وأخرجه النسائي من حديث
ابن عباس وحديث عقبة في معناه أحاديث يأتي
ذكره بعضها في باب النهي عن صوم العيدين وأيام
التشريق.
قوله: "صيام عاشوراء"
سيأتي البحث عنه وكذلك يأتي الكلام على قوله
وثلاثة أيام من كل شهر.
قوله: "والعشر" فيه دليل
على استحباب صوم عشر ذي الحجة وعلى أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصوم يوم عرفة
ورواية أبي داود التي قدمنا بلفظ تسع ذي
الحجة.
قوله: "صوم يوم عرفة
يكفر سنتين" الخ في بعض ألفاظ الحديث:
"أحتسب على اللَّه
ج / 4 ص -240-
أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" وقد استشكل تكفيره السنة الآتية لأن
التكفير التغطية ولا تكون إلا لشيء قد وقع
وأجيب بأن المراد يكفره بعد وقوعه أو المراد
أنه يلطف به فلا يأتي بذنب فيها بسبب صيامه
ذلك اليوم. وقد قيد ذلك جماعة من المعتزلة
وغيرهم بالصغائر. قال النووي: فإن لم تكن
صغائر كفر من الكبائر وإن لم تكن كبائر كان
زيادة في رفع الدرجات.
"والحديث" يدل على
استحباب صوم يوم عرفة وكذلك الأحاديث الواردة
في معناه التي قدمنا الإشارة إليها وإلى ذلك
ذهب عمر وعائشة وابن الزبير وأسامة بن زيد
وعثمان ابن أبي العاص والعترة وكان ذلك يعجب
الحسن ويحكيه عن عثمان وقال قتادة: إنه لا بأس
به إذ لم يضعف عن الدعاء ونقله البيهقي في
المعرفة عن الشافعي في القديم واختاره الخطابي
والمتولي من الشافعية وحكى في الفتح عن
الجمهور أنه يستحب إفطاره حتى قال عطاء من
أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر
الصائم وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: إنه يجب
فطر يوم عرفة للحاج.
"واعلم" أن ظاهر حديث
أبي قتادة المذكور في الباب أنه يستحب صوم يوم
عرفة مطلقاً. وظاهر حديث عقبة بن عامر المذكور
في الباب أيضاً أنه يكره صومه مطلقاً لجعله
قريباً في الذكر ليوم النحر وأيام التشريق
وتعليل ذلك بأنها عيد وأنها أيام أكل وشرب.
وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا يجوز صومه بعرفات
فيجمع بين الأحاديث بأن صوم هذا اليوم مستحب
لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجاً.
"والحكمة" في ذلك أنه
ربما كان مؤدياً إلى الضعف عن الدعاء والذكر
يوم عرفة هنالك والقيام بأعمال الحج. وقيل
الحكمة أنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه
ويؤيده حديث أبي قتادة. وقيل أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم إنما أفطر فيه لموافقته
يوم الجمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم كما
سيأتي ويرد هذا حديث أبي هريرة المصرح بالنهي
عن صومه مطلقاً.
قوله: "فشرب وهو يخطب"
فيه دليل على جواز الأكل والشرب في المحافل من
غير كراهة. وفي رواية للبخاري من حديث ميمونة:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم شربه
والناس ينظرون إليه".
قوله: "عيدنا أهل
الإسلام" فيه دليل على أن يوم عرفة وبقية أيام
التشريق التي بعد يوم النحر أيام عيد
باب صوم المحرم
وتأكيد عاشوراء.
1 - قد سبق أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: "سئل
أي الصيام بعد رمضان أفضل قال:
شهر اللَّه المحرم".
2 - وعن ابن عباس: "وسئل
عن صوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم صام يوماً يطلب
فضله على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهراً إلا
هذا الشهر يعني رمضان".
3 - وعن عائشة قالت:
"كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في
الجاهلية وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يصومه فلما قدم المدينة
ج / 4 ص -241-
صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال
من شاء صامه ومن شاء تركه".
4 - وعن سلمة بن الأكوع
قال: "أمر النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
رجلاً من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل
فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن
اليوم يوم عاشوراء".
5 - وعن علقمة: "أن
الأشعث بن قيس دخل على عبد اللَّه وهو يطعم
يوم عاشوراء فقال يا أبا عبد الرحمن إن اليوم
يوم عاشوراء فقال قد كان يصام قبل أن ينزل
رمضان فلما نزل رمضان ترك فإن كنت مفطراً
فأطعم".
6 - وعن ابن عمر: "أن
أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صامه
والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: إن يوم عاشوراء من أيام اللَّه فمن شاء صامه وكان ابن عمر لا يصومه
إلا أن يوافق صيامه".
7 - وعن أبي موسى قال: "كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه
عيداً فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم
صوموه أنتم".
8 - وعن ابن عباس قال:
"قدم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فرأى
اليهود تصوم عاشوراء فقال
ما هذا قالوا يوم صالح نجى اللَّه فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه
موسى فقال أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه".
9 - وعن معاوية بن أبي
سفيان قال: "سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقول:
إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا
صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر". - متفق على هذه الأحاديث كلها وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ
ويقال لم يجب بحال بدليل خبر معاوية وإنما نسخ
تأكيد استحبابه.
- قوله: "قد سبق أنه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم سئل" الخ هذا
الحديث ذكره المصنف رحمه اللَّه تعالى في باب
ما جاء في قيام الليل من أبواب صلاة التطوع
وهو للجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة. "وفيه
دليل" على
ج / 4 ص -242-
أن أفضل صيام التطوع صوم شهر المحرم ولا
يعارضه حديث أنس عند الترمذي قال: "سئل رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أي الصوم
أفضل بعد رمضان قال
شعبان لتعظيم رمضان" لأن في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقوي.
ومما يدل على فضيلة الصيام في المحرم ما أخرجه
الترمذي عن علي عليه السلام وحسنه: "أنه سمع
رجلاً يسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم وهو قاعد فقال يا رسول اللَّه أي شهر
تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال
إن كنت صائماً بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر اللَّه فيه يوم تاب
فيه على قوم ويتوب فيه على قوم".
وقد استشكل قوم إكثار النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم من صوم
شعبان دون المحرم مع كون الصيام فيه أفضل من
غيره وأجيب عن ذلك بجوابين الأول أنه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم إنما علم فضل المحرم في
آخر حياته والثاني لعله كان يعرض له فيه سفر
أو مرض أو غيرهما.
قوله: "عن صوم عاشوراء"
قال في الفتح: هو بالمد على المشهور وحكى فيه
القصر وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا
يعرف في الجاهلية ورد ذلك ابن دحية بأن ابن
الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء كذا
في الفتح.
وبحديث عائشة المذكور في
الباب: "أن الجاهلية كانوا يصومونه" ولكن
صومهم له لا يستلزم أن يكون مسمى عندهم بذلك
الاسم.
قال في الفتح أيضاً:
واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر هو
اليوم العاشر قال القرطبي: عاشوراء معدول عن
عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة
الليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو
اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم
عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا
أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية
فامتنعوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا
اللفظ علماً على اليوم العاشر وذكر أبو منصور
الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا
وضاروراء وساروراء وذالولاء من الضار والسار
والذال. قال الزين ابن المنير: الأكثر على أن
عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر اللَّه المحرم
وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقيل هو اليوم
التاسع فعلى الأول اليوم مضاف الليلة الماضية
وعلى الثاني هو ضاف لليلة الآتية وقيل إنما
سمي يوم التاسع عاشوراء أخذاً من أوراد الإبل
كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها
في التاسع قالوا وردنا عشراً بكسر العين. وروى
مسلم من حديث الحكم بن الأعرج انتهيت إلى ابن
عباس وهو متوسد رداءه فقلت أخبرني عن يوم
عاشوراء قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح
يوم التاسع صائماً فقلت أهكذا كان النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يصوم قال: نعم. وهذا
ظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع انتهى كلام
الفتح.
وقد تأول قول ابن عباس
هذا الزين ابن المنير بأن معناه أنه ينوي
الصيام في الليلة المتعقبة للتاسع وقواه
الحافظ بحديث ابن عباس الآتي: "أنه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم قال:
إذا كان المقبل إن شاء اللَّه صمنا التاسع"
فلم يأت العام المقبل حتى توفي قال: فإنه ظاهر
في أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصوم
العاشر وهمَّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك.
وأقول: الأولى أن يقال أن ابن عباس أرشد
السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه وهو التاسع
ولم يجب عليه بتعيين يوم عاشوراء أنه اليوم
العاشر لأن ذلك مما لا يسئل عنه ولا يتعلق
بالسؤال عنه فائدة فابن عباس لما فهم من
السائل أن مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه
أجاب عليه بأنه التاسع.
ج / 4 ص -243-
وقوله نعم بعد قول السائل أهكذا كان النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصوم بمعنى نعم
هكذا كان يصوم لو بقي لأنه قد أخبرنا بذلك ولا
بد من هذا لأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مات
قبل صوم التاسع وتأويل ابن المنير في غاية
البعد لأن قوله وأصبح يوم التاسع صائماً لا
يحتمله وسيأتي لكلام ابن عباس تأويل آخر.
قوله: "ما علمت" الخ هذا
يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد
رمضان ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس
فيه ما يرد علم غيره وقد تقدم أن أفضل الصوم
بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم وتقدم في
الباب الذي قبل هذا أن صوم يوم عرفة يكفر
سنتين وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة وظاهره أن
صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء.
قوله: "فلما قدم المدينة
صامه" فيه تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر
بصيام عاشوراء وهو أول قدومه المدينة ولا شك
أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر
بذلك في أول السنة الثانية وفي السنة الثانية
فرض شهر رمضان فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم
عاشوراء إلا في سنة واحدة. ثم فوض الأمر في
صومه إلى المتطوع.
قوله: "من شاء صامه ومن
شاء تركه" هذا يرد على من قال ببقاء فرضية صوم
عاشوراء كما نقله القاضي عياض عن بعض السلف
ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن
بفرض والإجماع على أنه مستحب وكان ابن عمر
يكره قصده بالصوم ثم انعقد الإجماع بعده على
الاستحباب.
قوله: "وعن سلمة بن
الأكوع" قد تقدم شرح هذا الحديث في باب الصبي
يصوم إذا أطاق.
قوله: "إن أهل الجاهلية
"ص 329" كانوا يصومون" الخ في حديث عائشة أنها
كانت تصومه قريش. قال في الفتح: وأما صيام
قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف
كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك.
قال الحافظ: ثم رأيت في
المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن
عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنباً
في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا
عاشوراء يكفر ذلك انتهى.
قوله: "فرأى اليهود تصوم
عاشوراء" في رواية لمسلم: "فوجد اليهود
صياماً" وقد استشكل ظاهر هذا الخبر لاقتضائه
أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حين قدومه
المدينة وجد اليهود صياماً يوم عاشوراء وإنما
قدم المدينة في ربيع الأول. وأجيب بأن المراد
أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم
المدينة أو يكون في الكلام حذف وتقديره قدم
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم المدينة
فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياماً
ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم
عاشوراء بحساب السنين الشمسية فصادف يوم
عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم المدينة.
قوله: "فصامه وأمر
بصيامه" قد استشكل رجوعه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم إلى اليهود في ذلك. وأجاب المازري
باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم أو تواتر
عنده الخبر بذلك أو أخبره من أسلم منهم كابن
سلام ثم قال ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر
بصيامه بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان
يصومه قبل ذلك فغاية ما في القصة أنه لم يحدث
له بقول اليهود تجديد حكم ولا مخالفة بينه
وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومون
كما تقدم إذ لا مانع من توارد الفريقين على
صيامه مع اختلاف السبب في ذلك. قال القرطبي:
وعلى كل حال فلم يصمه إقتداء بهم فإنه كان
يصومه قبل ذلك وكان
ج / 4 ص -244-
ذلك في الوقت الذي يجب موافقة أهل الكتاب
فيما لم ينه عنه.
قوله: "ولم يكتب عليكم
صيامه" الخ هذا كله من كلام النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم كما بينه النسائي. واستدل به
على أنه لم يكن فرضاً قط كما قال المصنف. قال
الحافظ: ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد ولم
يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان
وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم
وجوبه ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم من سنة الفتح والذين
شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه
في السنة الأولى أول العام الثاني ويؤخذ من
مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر
بصومه ثم تأكيد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد
بالنداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك
ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه
الأطفال.
ومقول ابن مسعود الثابت
في مسلم لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم
بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق فدل على أن
المتروك وجوبه.
وأما قول بعضهم المتروك
تأكيد استحبابه والباقي مطلق الاستحباب فلا
يخفى ضعفه بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع
استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى
اللَّه عليه وآله وسلم حيث قال:
"لئن بقيت لأصومن التاسع"
كما سيأتي ولترغيبه فيه وإخباره بأنه يكفر سنة
فأي تأكيد أبلغ من هذا.
10 - وعن ابن عباس قال:
"لما صام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول
اللَّه إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال:
فإذا كان عام المقبل إن شاء اللَّه صمنا اليوم
التاسع
قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم". - رواه
مسلم وأبو داود. وفي لفظ: "قال رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع يعني يوم عاشوراء" رواه أحمد ومسلم. وفي رواية: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا قبله
يوماً وبعده يوماً"
رواه أحمد. - رواية أحمد هذه ضعيفة منكرة من
طريق داود بن علي عن أبيه عن جده رواها عنه
ابن أبي ليلى.
قوله: "تعظمه اليهود
والنصارى" استشكل هذا بأن التعليل بنجاة موسى
وغرق فرعون مما يدل على اختصاص ذلك بموسى
واليهود. وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم
النصارى أن عيسى كان يصومه وهو مما لم ينسخ من
شريعة موسى لأن كثيراً منها ما نسخ بشريعة
عيسى لقوله تعالى
{ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وأكثر الأحكام إنما يتلقاها النصارى من التوراة.
وقد أخرج أحمد عن ابن
عباس أن السفينة استوت على الجودي فيه فصامه
نوح وموسى شكراً للَّه تعالى وكان ذكر موسى
دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار
نجاتهما وغرق أعدائهما.
قوله: "صمنا اليوم
التاسع" يحتمل أن المراد أنه لا يقتصر عليه بل
يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له وإما
مخالفة لليهود والنصارى ويحتمل أن المراد أنه
يقتصر على صومه ولكنه ليس في اللفظ ما يدل
ج / 4 ص -245-
على ذلك ويؤيد الاحتمال الأول قوله في آخر
الحديث:
"صوموا قبله يوماً وبعده يوماً" فإنه صريح في مشروعية ضم اليومين إلى يوم عاشوراء. وقد أخرج الحديث
المذكور بمثل اللفظ الذي رواه أحمد البيهقي
وذكره في التلخيص وسكت عنه وقال بعض أهل
العلم: إن قوله "صمنا التاسع" يحتمل أنه أراد
نقل العاشر إلى التاسع وأنه أراد أن يضيفه
إليه في الصوم فلما توفي قبل ذلك كان الاحتياط
صوم اليومين انتهى.
والظاهر أن الأحوط صوم
ثلاثة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر فيكون
صوم عاشوراء على ثلاث مراتب الأولى صوم العاشر
وحده. والثانية صوم التاسع معه. والثالثة صوم
الحادي عشر معهما وقد ذكر معنى هذا الكلام
صاحب الفتح.
قوله: "يعني يوم
عاشوراء" قد تقدم تأويل كلام ابن عباس بأن يوم
عاشوراء هو اليوم التاسع وتأوله النووي بأنه
مأخوذ من إظماء الإبل فإن العرب تسمي اليوم
الخامس من أيامه رابعاً وكذا باقي الأيام وعلى
هذه النسبة فيكون التاسع عاشراً. قال: وذهب
جماهير العلماء من السلف والخلف أن عاشوراء هو
اليوم العاشر من المحرم ممن قال بذلك سعيد بن
المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق
وخلائق. قال: وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ
وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد انتهى.
باب ما جاء في
صوم شعبان والأشهر الحرم.
1 - عن أم سلمة: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا
شعبان يصل به رمضان". - رواه الخمسة. ولفظ ابن
ماجه: "كان يصوم شهري شعبان ورمضان".
2 - وعن عائشة قالت: "لم
يكن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصوم
أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله" وفي لفظ:
"ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان
يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله" وفي لفظ:
"ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان وما
رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان". -
متفق على ذلك كله. - حديث أم سلمة حسنه
الترمذي.
قوله: "شهراً تاماً إلا
شعبان" وكذا قول عائشة فإنه كان يصومه كله.
وقولها بل كان يصومه كله ظاهره يخالف قول
عائشة كان يصومه إلا قليلاً. وقد جمع بين هذه
الروايات بأن المراد بالكل والتمام الأكثر وقد
نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في
كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صام
الشهر كله ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد
تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كان ابن
المبارك جمع بين الحديثين بذلك وحاصله أن
رواية الكل والتمام مفسرة برواية الأكثر
ومخصصة بها وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز
قليل الاستعمال. واستبعده الطيبي قال: لأن لفظ
كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز
ج / 4 ص -246-
فتفسيره بالبعض مناف له قال: فيحتمل على أنه
كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى
لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان وقيل المراد
بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن
آخره أخرى ومن أثنائه طوراً فلا يخلي شيئاً
منه من صيام ولا يخص بعضاً منه بصيام دون بعض.
وقال الزين ابن المنير: إما أن يحمل قول عائشة
على المبالغة والمراد الأكثر وإما أن يجمع بأن
قولها أنه كان يصومه كله متأخر عن قولها أنه
كان يصوم أكثره وأنها أخبرت عن أول الأمر ثم
أخبرت عن آخره ويؤيد الأول قولها ولا صام
شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان
أخرجه مسلم والنسائي.
"واختلف" في الحكمة في
إكثاره صلى اللَّه عليه وآله وسلم من صوم
شعبان فقيل كان يشتغل عن صيام الثلاثة الأيام
من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في
شعبان أشار إلى ذلك ابن بطال ويؤيده ما أخرجه
الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت: "كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصوم ثلاثة
أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه
صوم السنة فيصوم شعبان" ولكن في إسناده ابن
أبي ليلى وهو ضعيف.
وقيل كان يصنع ذلك
لتعظيم رمضان ويؤيد ما أخرجه الترمذي عن أنس
قال: "سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان فقال شعبان
لتعظيم رمضان" ولكن إسناده ضعيف لأن فيه صدقة
ابن موسى وليس بالقوي.
"وقيل الحكمة" في ذلك أن
نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان
فكان يصوم معهن. وقيل الحكمة أنه يتعقبه رمضان
وصومه مفترض فكان يكثر من الصوم في شعبان قدر
ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع
الذي يعتاده بسبب صوم رمضان والأولى أن الحكمة
في ذلك غفلة الناس عنه لما أخرجه النسائي وأبو
داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال:
"قلت: يا رسول اللَّه لم أرك تصوم من شهر من
الشهور ما تصوم من شعبان قال:
ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو
شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن
يرفع عملي وأنا صائم"
ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى ولا تعارض
بين ما روي عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من
صوم كل شعبان أو أكثره ووصله برمضان وبين
أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين
وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني
فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من
لم يدخل تلك الأيام في صيام يعتاده وقد تقدم
تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
"إلا أن يكون شيئاً يصومه أحدكم".
"فائدة"
ظاهر قوله في حديث أسامة:
"إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان"
أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم
يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون
رمضان ورجباً به.
ويحتمل أن المراد غفلتهم
عن تعظيم شعبان بصومه كما يعظمون رجباً بنحر
النحائر فيه فإنه كان يعظم بذلك عند الجاهلية
وينحرون فيه العتيرة كما ثبت في الحديث
والظاهر الأول لأن المراد بالناس الصحابة فإن
الشارع قد كان إذ ذاك محا آثار الجاهلية ولكن
غايته التقرير لهم على صومه وهو لا يفيد زيادة
على الجواز. وقد ورد ما يدل على مشروعية صومه
ج / 4 ص -247-
على
العموم والخصوص أما العموم فالأحاديث الواردة
في الترغيب في صوم الأشهر الحرم وهو منها
بالإجماع. وكذلك الأحاديث الواردة في مشروعية
مطلق الصوم.
وأما على الخصوص فما أخرجه الطبراني عن سعيد
ابن أبي راشد مرفوعاً بلفظ: "من صام يوماً من رجب فكأنما صام سنة ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه
أبواب جهنم ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له
ثمانية أبواب الجنة ومن صام منه عشرة لم يسأل
اللَّه شيئاً إلا أعطاه ومن صام منه خمسة عشر
يوماً نادى مناد من السماء قد غفر لك ما مضى
فاستأنف العمل ومن زاد زاده اللَّه" ثم ساق حديثاً طويلاً في فضله.
وأخرج الخطيب عن أبي ذر:
"من صام يوماً من رجب عدل صيام شهر"
وذكر نحو حديث سعيد بن أبي راشد.
وأخرج نحوه أبو نعيم وابن عساكر من حديث ابن
عمر مرفوعاً. وأخرج نحوه البيهقي في شعب
الإيمان عن أنس مرفوعاً. وأخرج الخلال عن أبي
سعيد مرفوعاً:
"رجب من شهور الحرم وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة فإذا صام
الرجل منه يوماً وجدد صومه بتقوى اللَّه نطق
الباب ونطق اليوم وقالا يا رب اغفر له وإذا لم
يتم صومه بتقوى اللَّه لم يستغفرا له وقيل
خدعتك نفسك".
وأخرج أبو الفتح ابن أبي
الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلاً أنه: "قال
صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
رجب شهر اللَّه وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي" وحكى ابن السبكي عن محمد ابن منصور السمعاني أنه قال لم يرد في
استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة
والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها
عالم وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أن عمر كان
يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان
ويقول كلوا فإنما هو شهر كان تعظمه الجاهلية.
وأخرج أيضاً من حديث زيد بن أسلم قال: "سئل
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن صوم
رجب فقال: أين أنتم
عن شعبان".
وأخرج عن ابن عمر ما يدل
على أنه كان يكره صوم رجب ولا يخفاك أن
الخصوصات إذا لم تنتهض للدلالة على استحباب
صومه انتهضت العمومات ولم يرد ما يدل على
الكراهة حتى يكون مخصصاً لها. وأما حديث ابن
عباس عند ابن ماجه بلفظ: "أن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم نهى عن صيام رجب" ففيه ضعيفان
زيد بن عبد الحميد وداود بن عطاء.
3 - وعن رجل من باهلة قال: "أتيت النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول اللَّه
أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول فقال: فما لي أرى جسمك ناحلاً
قال: يا رسول اللَّه ما أكلت طعاماً بالنهار
ما أكلته إلا بالليل قال:
من أمرك أن تعذب نفسك
قلت: يا رسول اللَّه إني أقوى قال: صم شهر
الصبر ويوماً بعده قلت: إني أقوى قال:
صم شهر الصبر ويومين بعده قلت:
إني أقوى قال:
صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم أشهر الحرم". - رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه.
ج / 4 ص -248-
- الحديث أخرجه أيضاً النسائي وقد اختلف في
اسم الرجل الذي من باهلة فقال البغوي أبو
القاسم في معجم الصحابة: أن اسمه عبد اللَّه
بن الحارث وقال: سكن البصرة. وروى عن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم حديثاً لم يسمه
وذكر في موضع آخر هذا الحديث وكذلك قال ابن
قانع في معجم الصحابة: أن اسمه عبد اللَّه بن
الحارث والراوي عنه مجيبة الباهلية بضم الميم
وكسر الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء
موحدة مفتوحة وتاء التأنيث ففي رواية أبي داود
عن أبيها أو عمها يعني هذا الرجل وهكذا قال
أبو القاسم البغوي أنها قالت حدثني أبي أو
عمي.
وفي رواية النسائي مجيبة
الباهلية عن عمه وقد ضعف هذا الحديث بعضهم
لهذا الاختلاف. قال المنذري: وهو متوجه وفيه
نظر لأن مثل هذا الاختلاف لا ينبغي أن يعد
قادحاً في الحديث.
قوله: "صم شهر الصبر"
يعني شهر رمضان.
قوله: "ويوماً بعده" إلى
قوله وثلاثة أيام بعده فيه دليل على استحباب
صوم يوم أو يومين أو ثلاثة بعد شهر رمضان وقد
تقدم أنه يستحب صيام ستة أيام فلا منافاة لأن
الزيادة مقبولة.
قوله: "وصم أشهر الحرم"
هي شهر القعدة والحجة ومحرم ورجب.
"وفيه دليل" على مشروعية
صومها أما شهر محرم ورجب فقد قدمنا ما ورد
فيهما على الخصوص وكذلك العشر الأول من شهر ذي
الحجة وأما شهر القعدة وبقية شهر الحجة فلهذا
العموم ولكنه ينبغي أن لا يستكمل صوم شهر منها
ولا يصوم جميعها ويدل على ذلك ما عند أبي داود
من هذا الحديث بلفظ:
"صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك".
باب الحث على
صوم الاثنين والخميس.
1 - عن عائشة قالت: "أن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس". -
رواه الخمسة إلا أبا داود لكنه له من رواية
أسامة بن زيد.
2 - وعن أبي هريرة: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: تعرض الأعمال كل اثنين وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا
صائم". -
رواه أحمد والترمذي. ولابن ماجه معناه. ولأحمد
والنسائي هذا المعنى من حديث أسامة بن زيد.
3 - وعن أبي قتادة: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم سئل عن صوم
يوم الاثنين فقال:
ذلك يوم ولدت فيه وأنزل عليَّ فيه". -
رواه أحمد ومسلم وأبو داود. - حديث عائشة
أخرجه أيضاً ابن حبان وصححه وأعله ابن القطان
بالراوي عنها وهو ربيعة الجرشي وأنه مجهول قال
الحافظ: وأخطأ في ذلك فهو صحابي. قال الترمذي:
حديث عائشة هذا
ج / 4 ص -249-
حسن صحيح. وحديث أسامة أخرجه أيضاً النسائي
وفي إسناده رجل مجهول ولكنه صحح الحديث ابن
خزيمة وحديث أبي هريرة قال الترمذي حديث غريب
وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وحديث أبي
قتادة أخرجه من ذكر المصنف. "وفي الباب" عن
حفصة عند أبي داود.
"وأحاديث" الباب تدل على
استحباب صوم يوم الاثنين والخميس لأنهما يومان
تعرض فيهما الأعمال.
قوله: "فقال ذلك يوم
ولدت فيه وأنزل عليَّ فيه" الولادة والإنزال
إنما كانا في يوم الاثنين كما جاء في
الأحاديث.
باب كراهة إفراد
يوم الجمعة ويوم السبت بالصوم.
1 - عن محمد بن عباد بن
جعفر قال: "سألت جابر أنهى النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم عن صوم يوم الجمعة قال:
نعم". - متفق عليه. وللبخاري في رواية: "أن
يفرد بصوم".
2 - وعن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده
يوم". - رواه الجماعة إلا النسائي. ولمسلم:
"ولا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا
تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن
يكون في صوم يصومه أحدكم" ولأحمد يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن
تصوموا قبله أو بعده.
3 - وعن جويرية: "أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم دخل
عليها في يوم الجمعة وهي صائمة فقال:
أصمت أمس قالت: لا قال:
تصومين غداً قالت: لا قال:
فأفطري". - رواه أحمد والبخاري وأبو داود وهو دليل على أن التطوع لا يلزم
بالشروع.
4 - وعن ابن عباس: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: لا تصوموا يوم الجمعة وحده".
5 - وعن جنادة الأزدي قال: "دخلت على رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم في يوم جمعة في سبعة من الأزد
إناثاً منهم وهو يتغدى فقال:
هلموا إلى الغداء
فقلنا: يا رسول اللَّه إنا صيام فقال:
أصمتم أمس قلنا: لا قال:
أفتصومون غداً قلنا: لا قال:
فأفطروا فأكلنا معه فلما خرج
ج / 4 ص -250-
وجلس على المنبر دعا بإناء من ماء فشرب وهو
على المنبر والناس ينظرون يريهم أنه لا يصوم
يوم الجمعة".
- رواهما أحمد. - حديث
ابن عباس هو مثل حديث أبي هريرة المتقدم وفي
إسناده الحسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه
وثقه ابن معين وضعفه الأئمة. وحديث جنادة
الأزدي هو مثل حديث جويرية وأخرجه أيضاً
الحاكم وأخرجه أيضاً النسائي بإسناد رجاله
رجال الصحيح إلا حذيفة البارقي وهو مقبول.
قوله: "قال نعم" زاد
مسلم وأحمد وغيرهما:
"قال نعم ورب هذا البيت"
وفي رواية النسائي: "ورب الكعبة" وهم صاحب
العمدة فعزاها إلى مسلم.
قوله: "أن يفرد بصوم"
فيه دليل على أن النهي المطلق في الرواية
الأولى مقيد بالإفراد لا إذا لم يفرد الجمعة
بالصوم كما يأتي في بقية الروايات.
قوله: "إلا وقبله يوم أو
بعده يوم" أي لا تصوموا قبله يوماً أو تصوموا
بعده يوماً وكذا وقع في رواية الإسماعيلي
فقال:
"إلا أن تصوموا قبله أو بعده" وفي رواية لمسلم:
"إلا أن تصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً"
وهذه الروايات تقيد مطلق النهي أيضاً.
قوله: "ولا تختصوا ليلة
الجمعة بقيام من بين الليالي" فيه دليل على
عدم جواز تخصيص ليلة الجمعة بقيام أو صلاة من
بين الليالي.
قال النووي في شرح مسلم:
وهذا متفق على كراهته قال: واحتج به العلماء
على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى
الرغائب قاتل اللَّه واضعها ومخترعها فإنها
بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة
وفيها منكرات ظاهرة. وقد صنف جماعة من الأئمة
مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها
ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها
أكثر من أن تحصر واللَّه أعلم انتهى.
واستدل بأحاديث الباب
على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام وقد حكاه
ابن المنذر وابن حزم عن علي عليه السلام وأبي
هريرة وسلمان وأبي ذر. قال ابن حزم: ولا نعلم
لهم مخالفاً في الصحابة ونقله أبو الطيب
الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية.
وقال ابن المنذر: ثبت
النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم
العيد وهذا يشعر بأنه يرى تحريمه. وقال أبو
جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن
الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو
صام قبله أو بعده وذهب الجمهور إلى أن النهي
فيه للتنزيه. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يكره
واستدلا بحديث ابن مسعود الآتي: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قل ما كان يفطر يوم
الجمعة" قال في الفتح: وليس فيه حجة لأنه
يحتمل أنه كان لا يتعمد فطره إذا وقع في
الأيام التي كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة
إفراده بالصوم جمعاً بين الخبرين قال: ومنهم
من عده من الخصائص وليس بجيد لأنها لا تثبت
بالاحتمال انتهى.
ويمكن أن يقال بل دعوى
اختصاص صومه به صلى اللَّه عليه وآله وسلم
جيدة لما تقرر في الأصول من أن "ص 338" فعله
صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما نهي عنه نهياً
يشمله يكون مخصصاً له وحده من العموم ونهياً
يختص بالأمة لا يكون فعله معارضاً له إذا لم
يقم دليل يدل على التأسي به في ذلك الفعل
لخصوصه لا مجرد أدلة التأسي العامة فإنها
مخصصة بالنهي للأمة لأنه أخص منها مطلقاً.
ومن غرائب المقام ما
احتج له بعض المالكية على عدم
ج / 4 ص -251-
كراهة
صوم يوم الجمعة يقال يوم لا يكره صومه مع غيره
فلا يكره وحده وهذا قياس فاسد الاعتبار لأنه
منصوب في مقابلة النصوص الصحيحة وأغرب من ذلك
قول مالك في الموطأ لم أسمع أحداً من أهل
العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم
الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعضهم يصومه وأراه
كان يتحراه قال النووي: والسنة مقدمة على ما
رآه هو وغيره وقد ثبت النهي عن صوم الجمعة
فيتعين القول به ومالك معذور فإنه لم يبلغه.
قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكاً
هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.
"وقد اختلف" في سبب كراهة إفراد يوم الجمعة
بالصيام على أقوال ذكرها صاحب الفتح منها
لكونه عيداً ويدل على ذلك رواية أحمد المذكورة
في الباب واستشكل التعليل بذلك بوقوع الإذن من
الشارع بصومه مع غيره وأجاب ابن القيم وغيره
بأن شبهه بالعيد لا يستلزم الاستواء من كل وجه
ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري
بالصوم ومنها لئلا يضعف عن العبادة ورجحه
النووي.
قال في الفتح: وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع
صوم غيره معه وأجاب النووي بأنه يحصل بفضيلة
اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل به يوم
صومه من فتور أو تقصير. قال الحافظ: وفيه نظر
فإن الجبر لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع
أفعال الجبر فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل
فيه خيراً كثيراً يقوم مقام صيام يوم قبله أو
بعده كمن أعتق فيه رقبة مثلاً ولا قائل بذلك
وأيضاً فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف
لا من يتحقق منه القوة ويمكن الجواب عن هذا
بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز
الفطر في السفر لمن لم يشق عليه.
ومنها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما
افتتن اليهود بالسبت. قال في الفتح: وهو منتقض
بثبوت تعظيمه بغير الصيام وخوف اعتقاد وجوبه
قال في الفتح أيضاً: وهو منتقض بصوم الاثنين
والخميس. ومنها خشية أن يفرض عليهم كما خشي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم من قيام الليل ذلك
قاله المهلب. قال في الفتح: وهو منتقض بإجازة
صومه مع غيره وبأنه لو كان السبب ذلك لجاز
صومه بعده صلى اللَّه عليه وآله وسلم لارتفاع
الخشية ومنها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم
صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم. قال في الفتح:
وهو ضعيف.
وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب الأول لما تقدم
من حديث أبي هريرة وقد أخرجه الحاكم أيضاً
ولما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي
عليه السلام قال:
"من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة
فإنه يوم طعام وشراب وذكر".
6 - وعن عبد اللَّه بن
بسر عن أخته واسمها الصماء: "أن رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا عود
عنب أو لحاء شجرة فليمضغه". -
رواه الخمسة إلا النسائي.
7 - وعن ابن مسعود: "أن النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم قلما كان يفطر يوم الجمعة".
ج / 4 ص -252-
رواه الخمسة إلا أبا داود ويحمل هذا على أنه
كان يصومه مع غيره. - الحديث الأول أخرجه
أيضاً ابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي
وصححه ابن السكن. قال أبو داود في السنن: قال
مالك هذا الحديث كذب وقد أعل بالاضطراب كما
قال النسائي لأنه روي كما ذكر المصنف. وروي عن
عبد اللَّه بن بسر وليس فيه عن أخته كما وقع
لابن حبان. قال الحافظ: وهذه ليست بعلة قادحة
فإنه أيضاً صحابي وقيل عنه عن أبيه بسر. وقيل
عنه عن أخته الصماء عن عائشة.
قال الحافظ: ويحتمل أن
يكون عند عبد اللَّه عن أبيه وعن أخته وعند
أخته بواسطة قال: ولكن هذا التلون في الحديث
الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن
الرواية وينبئ عن قلة ضبطه إلا أن يكون من
الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث
فلا يكون ذلك دالاً على قلة ضبطه وليس الأمر
هنا كذا بل اختلف فيه أيضاً على الراوي عبد
اللَّه بن بسر. وقد ادعى أبو داود أن هذا
الحديث منسوخ قال في التلخيص: ولا يتبين وجه
النسخ فيه ثم قال: يمكن أن يكون أخذه من كون
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يحب
موافقة أهل الكتاب في أول الأمر ثم في آخر
الأمر قال خالفوهم والنهي عن يوم السبت يوافق
الحالة الأولى وصيامه إياه يوافق الحالة
الثانية وهذه صورة النسخ واللَّه أعلم انتهى.
وقد أخرج النسائي
والبيهقي وابن حبان والحاكم عن كريب: "أن
ناساً من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها عن الأيام التي
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أكثر لها صياماً فقالت يوم السبت والأحد فرجعت
إليهم فكأنهم أنكروا ذلك فقاموا بأجمعهم إليها
فسألوها فقالت صدق وكان يقول إنهما يوما عيد
للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم" وصحح الحاكم
إسناده "ص 340" وصححه أيضاً ابن خزيمة.
وروى الترمذي من حديث
عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد
والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء
والخميس" وسيأتي وقد جمع صاحب البدر المنير
بين هذه الأحاديث فقال: النهي متوجه إلى
الإفراد والصوم باعتبار انضمام ما قبله أو
بعده إليه ويؤيد هذا ما تقدم من إذنه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لمن صام الجمعة أن يصوم
السبت بعدها والجمع مهما أمكن أولى من النسخ.
والحديث الثاني حسنه
الترمذي. وقال ابن عبد البر: هو صحيح ولا
مخالفة بينه وبين الأحاديث السابقة وأنه محمول
على أنه كان يصله بيوم الخميس. وروى بسنده إلى
أبي هريرة أنه قال:
"من صام الجمعة كتب له عشرة أيام من أيام
الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا" وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: "ما رأيت رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم مفطراً يوم الجمعة قط"
وقد تقدم الكلام على صوم يوم الجمعة.
قوله: "أو لحاء شجرة"
اللحاء بكسر اللام بعدها حاء مهملة قشر الشجر.
ج / 4 ص -253-
باب صوم أيام البيض وصوم ثلاثة أيام من كل شهر
وإن كانت سواها.
1 - عن أبي ذر قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم:
يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث
عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة". - رواه أحمد والنسائي والترمذي.
2 - وعن أبي قتادة قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام
الدهر كله". -
رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
3 - وعن عائشة قالت:
"كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصوم من
الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر
الثلاثاء والأربعاء والخميس". - رواه الترمذي
وقال حديث حسن.
4 - وعن أبي ذر قال:
"قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم:
من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر
فأنزل اللَّه تصديق ذلك في كتابه
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } اليوم بعشرة". -
رواه ابن ماجه والترمذي. - حديث أبي ذر الأول
أخرجه أيضاً ابن حبان وصححه. ولفظه عند
النسائي والترمذي قال: "أمرنا رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة
أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة"
وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان وصححه من حديث
أبي هريرة ورواه النسائي من حديث جرير مرفوعاً
قال الحافظ: وإسناده صحيح ورواه ابن أبي حاتم
في العلل عن جرير موقوفاً وصحح عن أبي زرعة
وقفه وأخرجه أبو داود والنسائي من طريق ابن
ملحان القيسي عن أبيه. وأخرجه البزار من طريق
ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر. وحديث
عائشة روي موقوفاً قال في الفتح: وهو أشبه.
وحديث أبي ذر الآخر حسنه الترمذي.
"وفي الباب" عن ابن
مسعود عند أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة: "أن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصوم
ثلاثة أيام من غرة كل شهر" وعن حفصة عند أبي
داود والنسائي: "كان رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام
الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى".
وعن عائشة غير حديث
الباب عند مسلم قالت: "كان رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة
أيام لا يبالي من أي الشهر صام".
وعن أبي هريرة غير حديثه
الأول عند الشيخين بلفظ: "أوصاني خليلي بصيام
ثلاثة أيام".
وعن ابن عباس عند
النسائي بلفظ: "كان صلى اللَّه عليه وآله وسلم
لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر" وسيأتي.
وعن قرة بن إياس المزني وأبي عقرب وعثمان بن
أبي العاص أشار إلى ذلك الترمذي.
قوله: "فصم ثلاث عشرة"
الخ فيه دليل على استحباب صوم أيام البيض وهي
الثلاثة المعينة في الحديث وقد وقع الاتفاق
بين العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاث
المذكورة في وسط الشهر كما حكاه النووي
واختلفوا في تعيينها
ج / 4 ص -254-
فذهب الجمهور إلى أنها ثالث عشر ورابع عشر
وخامس عشر. وقيل هي الثاني عشر والثالث عشر
والرابع عشر. وحديث أبي ذر المذكور في الباب
وما ذكرنا من الأحاديث الواردة في معناه يرد
ذلك.
قوله: "ثلاث من كل شهر"
الخ اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة الأيام
المستحبة من كل شهر ففسرها عمر بن الخطاب وابن
مسعود وأبو ذر وغيرهم من الصحابة وجماعة من
التابعين وأصحاب الشافعي بأيام البيض. ويشكل
على هذا قول عائشة المتقدم: "لا يبالي من أي
الشهر صام" وأجيب عن ذلك بأن النبي صلى اللَّه
عليه وآله وسلم لعله كان يعرض له ما يشغله من
مراعاة ذلك أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز وكل
ذلك في حقه أفضل والذي أمر به قد أخبر به أمته
ووصاهم به وعينه لهم فيحمل مطلق الثلاث على
الثلاث المقيدة بالأيام المعينة واختار النخعي
وآخرون أنها آخر الشهر واختار الحسن البصري
وجماعة أنها من أوله واختارت عائشة وآخرون
صيام السبت والأحد والاثنين من عدة شهر ثم
الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر الذي
بعده للحديث المذكور في الباب عنها. وقال
البيهقي: "كان النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي من
أي الشهر صام" كما في حديث عائشة قال: فكل من
رآه فعل نوعاً ذكره وعائشة رأت جميع ذلك
فأطلقت. وقال الروياني: صيام ثلاثة أيام من كل
شهر مستحب فإن اتفقت أيام البيض كان أحب.
وفي حديث رفعه ابن عمر:
"أول اثنين في الشهر وخميسان بعده"
وروي عن مالك أنه يكره تعيين الثلاث. قال في
الفتح: وفي كلام غير واحد من العلماء أن
استحباب صيام أيام البيض غير استحباب صيام
ثلاثة أيام من كل شهر انتهى.
وهذا هو الحق لأن حمل
المطلق على المقيد ههنا متعذر وكذلك استحباب
السبت والأحد والاثنين من شهر والثلاثاء
والأربعاء والخميس من شهر غير استحباب ثلاثة
أيام من كل شهر وقد حكى الحافظ في الفتح في
تعيين الثلاثة الأيام المطلقة عشرة أقوال وقد
ذكرنا أكثرها والحق أنها تبقى على إطلاقها
فيكون الصائم مخيراً وفي أي وقت صامها فقد فعل
المشروع لكن لا يفعلها في أيام البيض.
"فالحاصل" من أحاديث
الباب استحباب صيام تسعة أيام من كل شهر ثلاثة
مطلقة وأيام البيض والسبت والأحد والاثنين في
شهر والثلاثاء والأربعاء والخميس في شهر.
قوله: "فذلك صيام الدهر"
وذلك لأن الحسنة بعشرة أمثالها فيعدل صيام
الثلاثة الأيام من كل شهر صيام الشهر كله
فيكون كمن صام الدهر.
باب صيام يوم
وفطر يوم وكراهة صوم الدهر.
1 - عن عبد اللَّه بن عمرو: "أن رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم قال:
صم من كل شهر ثلاثة أيام قلت: إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى
قال:
صم يوماً وأفطر يوماً فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي
داود عليه السلام".
2 - وعن عبد اللَّه بن
عمرو قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم:
لا صام من
ج / 4 ص -255-
صام الأبد". - متفق عليهما.
3 - وعن أبي قتادة قال:
"قيل يا رسول اللَّه كيف بمن صام الدهر قال:
لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر".
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
3 - وعن أبي موسى: "عن
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:
من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه". - رواه أحمد. ويحمل هذا على من صام الأيام المنهي عنها. - حديث أبي
موسى أخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة
والبيهقي وابن أبي شيبة. ولفظ ابن حبان:
"ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين"
وأخرجه أيضاً البزار والطبراني قال في مجمع
الزوائد: ورجاله رجال الصحيح.
"وفي الباب" عن عبد
اللَّه بن الشخير عند أحمد وابن حبان بلفظ:
"من صام الأبد فلا صام ولا أفطر" وعن عمران بن حصين أشار إليه الترمذي.
قوله: "فإنه أفضل
الصيام" مقتضاه أن الزيادة على ذلك من الصوم
مفضولة وسيأتي البحث عن ذلك.
قوله: "لا صام من صام
الأبد" استدل بذلك على كراهية صوم الدهر. قال
ابن التين: استدل على الكراهة من وجوه نهيه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن الزيادة وأمره
بأن يصوم ويفطر. وقوله
"لا أفضل من ذلك" ودعاؤه على من صام الأبد. وقيل معنى قوله
لا صام النفي أي ما صام كقوله تعالى
{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}
ويدل على ذلك ما عند مسلم من حديث أبي قتادة
بلفظ:
"ما صام وما أفطر" وما عند الترمذي بلفظ:
"لم يصم ولم يفطر"
قال في الفتح: أي لم يحصل أجر الصوم لمخالفته
ولم يفطر لأنه أمسك. وإلى كراهة صوم الدهر
مطلقاً ذهب إسحاق وأهل الظاهر وهي رواية عن
أحمد. وقال ابن حزم: يحرم ويدل للتحريم حديث
أبي موسى المذكور في الباب لما فيه من الوعيد
الشديد.
"وذهب الجمهور" كما في
الفتح إلى استحباب صومه وأجابوا عن حديث ابن
عمرو وحديث أبي قتادة بأنه محمول على من كان
يدخل على نفسه مشقة أو يفوت حقاً قالوا ولذلك
لم ينه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حمزة بن
عمرو الأسلمي وقد قال له يا رسول اللَّه إني
أسرد الصوم ويجاب عن هذا بأن سرد الصوم لا
يستلزم صوم الدهر بل المراد أنه كان كثير
الصوم كما وقع ذلك في رواية الجماعة المتقدمة
في باب الفطر والصوم في السفر. ويؤيد عدم
الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة: "أن
النبي صلى اللَّه "ص 344" عليه وآله وسلم كان
يسرد الصوم".
مع ما ثبت أنه لم يصم
شهراً كاملاً إلا رمضان وأجابوا عن حديث أبي
موسى بحمله على من صامه جميعاً ولم يفطر في
الأيام المنهي عنها كالعيدين وأيام التشريق
وهذا هو اختيار ابن المنذر وطائفة. وأجيب عنه
بأن قول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا
صام ولا أفطر لمن سأله عن صوم الدهر أن معناه
أنه لا أجر له ولا إثم عليه ومن صام الأيام
المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه أثم بصومها
بالإجماع.
وحكى الأثرم عن مسدد أنه
قال: معنى حديث أبي موسى ضيقت عليه جهنم فلا
يدخلها
ج / 4 ص -256-
وحكى مثله ابن خزيمة عن المزني ورجحه
الغزالي. والملجئ إلى هذا التأويل أن من ازداد
اللَّه عملاً صالحاً ازداد عنده رفعة وكرامة.
قال في الفتح: وتعقب بأن ليس كل عمل صالح إذا
ازداد العبد منه ازداد من اللَّه تقرباً بل رب
عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعداً كالصلاة
في الأوقات المكروهة انتهى.
وأيضاً لو كان المراد ما
ذكروه لقال ضيقت عليه واستدلوا على الاستحباب
بما وقع في بعض طرق حديث عبد اللَّه بن عمرو
بلفظ: "فإن الحسنة بعشرة أمثالها وذلك مثل صيام الدهر" وبما تقدم في حديث:
"من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام
الدهر" وبما تقدم في صيام أيام البيض أنه مثل صوم الدهر. قالوا: والمشبه
به أفضل من المشبه فكان صيام الدهر أفضل من
هذه المشبهات فيكون مستحباً وهو المطلوب. قال
الحافظ: وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا
يقتضي جواز المشبه به فضلاً عن استحبابه وإنما
المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام
ثلاثمائة وستين يوماً.
ومن المعلوم أن المكلف
لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه
على أفضلية المشبه به من كل وجه واختلف
المجوزون لصيام الدهر هل هو الأفضل أو صيام
يوم وإفطار يوم فذهب جماعة منهم إلى أن صوم
الدهر أفضل واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملاً
فيكون أكثر أجراً وتعقبه ابن دقيق العيد بأن
زيادة الأجر بزيادة العمل ههنا معارضة باقتضاء
العادة التقصير في حقوق أخرى فالأولى التفويض
إلى حكم الشارع وقد حكم بأن صوم يوم وإفطار
يوم أفضل الصيام هذا معنى كلامه ومما يرشد إلى
أن صوم الدهر من جملة الصيام المفضل عليه صوم
يوم وإفطار يوم أن ابن عمرو طلب أن يصوم زيادة
على ذلك المقدار فأخبره النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم بأنه أفضل الصيام
باب تطوع
المسافر والغازي بالصوم.
1 - وعن ابن عباس قال: "كان رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم لا يفطر أيام البيض في
حضر ولا سفر".
- رواه النسائي.
2 - وعن أبي سعيد قال:
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: من صام يوماً في سبيل اللَّه بعد اللَّه وجهه عن
النار سبعين خريفاً". -
رواه الجماعة إلا أبا داود.
- الحديث الأول في
إسناده يعقوب بن عبد اللَّه القمي وجعفر بن
أبي المغيرة القمي وفيهما مقال. وفيه دليل على
استحباب صيام أيام البيض في السفر ويلحق بها
صوم سائر التطوعات المرغب فيها.
والحديث الثاني يدل على
استحباب صوم المجاهد لأن المراد بقوله في سبيل
اللَّه الجهاد. قال النووي: وهو محمول على من
لا يتضرر به ولا يفوت به حقاً ولا يختل قتاله
ولا غيره من مهمات غزوه. ومعناه المباعدة عن
النار والمعافاة منها مسيرة سبعين سنة.
ج / 4 ص -257-
باب في أن صوم التطوع لا يلزم بالشروع.
1 - عن أبي جحيفة قال: "آخى النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان
أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها:
ما شأنك قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء
فصنع له طعاماً فقال: كل فإني صائم فقال: ما
أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب
أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام ثم ذهب يقوم
فقال: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم
الآن فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً
ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي
حق حقه فأتى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فذكر له ذلك فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم:
صدق سلمان". - رواه البخاري والترمذي وصححه.
- قوله: "متبذلة" بفتح
المثناة الفوقية والموحدة بعدها وتشديد الذال
المعجمة المكسورة أي لابسة ثياب البذلة بكسر
الموحدة وسكون الذال وهي المهنة وزناً ومعنى
والمراد أنها تاركة للبس ثياب الزينة. وفي
رواية للكشمهيني: "مبتذلة" بتقديم الموحدة
وتخفيف الذال المعجمة والمعنى واحد.
قوله: "ليست له حاجة في
الدنيا" زاد ابن خزيمة: يصوم النهار ويقوم
الليل.
قوله: "فقال كل" القائل
أبو الدرداء على ظاهر هذه الرواية وهي لفظ
الترمذي ولفظ البخاري: "فقال كل قال فإني
صائم" فيكون القائل سلمان.
قوله: "فقال ما أنا بآكل
حتى تأكل" في رواية للبزار: "فقال أقسمت عليك
لتفطرن" وكذا رواه ابن خزيمة والدارقطني
والطبراني وابن حبان.
قوله: "فلما كان من آخر
الليل" في رواية ابن خزيمة: "فلما كان عند
السحر" وعند الترمذي: "فلما كان عند الصبح"
وللدارقطني: "فلما كان في وجه الصبح".
قوله: "ولأهلك عليك
حقاً" زاد الترمذي وابن خزيمة: "ولضيفك عليك
حقاً" وزاد الدارقطني: "فصم وأفطر وصل ونم
وائت أهلك".
قوله: "صدق سلمان" فيه
دليل على مشروعية النصح للمسلم وتنبيه من غفل
وفضل قيام آخر الليل وثبوت حق المرأة على
الزوج في حسن العشرة وجواز النهي عن المستحبات
إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت
الحقوق المطلوبة وكراهة الحمل على النفس في
العبادة وجواز الفطر من صوم التطوع وسيأتي
الكلام عليه.
2 - وعن أم هانئ: "أن
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم دخل
عليها فدعا بشراب فشرب ثم ناولها فشربت فقالت:
يا رسول اللَّه أما إني كنت صائمة
ج / 4 ص -258-
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم: الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر". - رواه أحمد والترمذي. وفي رواية: "أن رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم شرب شراباً
فناولها لتشرب فقالت إني صائمة ولكني كرهت أن
أرد سؤرك فقال
يعني إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوماً مكانه
وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا
تقضي" رواه أحمد وأبو داود بمعناه.
3 - وعن عائشة قالت:
"أهدي لحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا ثم دخل
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقلنا
يا رسول اللَّه إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها
فأفطرنا فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم: لا عليكما صوما مكانه يوماً آخر". - رواه أبو داود وهذا أمر ندب بدليل قوله: "لا عليكما".
- حديث أم هانئ أخرجه
أيضاً الدارقطني والطبراني والبيهقي وفي
إسناده سماك وقد اختلف عليه فيه وقال النسائي:
سماك ليس يعتمد عليه إذا انفرد وقال البيهقي:
في إسناده مقال وكذلك قال الترمذي وفي إسناده
أيضاً هارون ابن أم هانئ قال ابن القطان: لا
يعرف وفي إسناده أيضاً يزيد بن أبي زياد
الهاشمي قال ابن عدي: يكتب حديثه وقال الذهبي:
صدوق رديء الحفظ وقد غلط سماك في هذا الحديث
فقال في بعض الروايات أن ذلك كان يوم الفتح
وهي عند النسائي والطبراني ويوم الفتح كان في
رمضان فكيف يتصور أن تكون صائمة قضاء أو
تطوعاً.
وحديث عائشة أخرجه أيضاً
النسائي وفي إسناده زميل. قال النسائي: ليس
بالمشهور وقال البخاري: لا يعرف لزميل سماع من
عروة ولا ليزيد يعني يزيد بن الهاد سماع من
زميل ولا تقوم به الحجة. وقال الخطابي: إسناده
ضعيف وزميل مجهول. وأخرج الحديث الترمذي بلفظ:
"اقضيا يوماً آخر مكانه" وقال: رواه ابن أبي
حفصة وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عروة
عن عائشة مثل هذا يعني مرفوعاً ورواه مالك بن
أنس ومعمر وعبيد اللَّه بن عمر وزياد بن سعد
وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة
مرسلاً ولم يذكروا فيه عروة وهذا أصح لأنه روي
عن ابن جريج قال: سألت الزهري قلت له أحدثك
عروة عن عائشة قال لم أسمع من عروة في هذا
شيئاً ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبد
الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا
الحديث فذكره ثم أسنده كذلك. وقال النسائي:
هذا خطأ. وقال ابن عيينة في روايته: سئل
الزهري عنه أهو عن عروة فقال لا. وقال الخلال:
اتفق الثقات على إرساله وتوارد الحفاظ على
الحكم بضعفه وضعفه أحمد والبخاري والنسائي
بجهالة زميل.
"وفي الباب" عن عائشة
غير الحديث المذكور في الباب: "أن النبي صلى
اللَّه عليه وآله وسلم دخل عليها ذات يوم فقال
هل عندكم من شيء
فقدمت
ج / 4 ص -259-
له حيساً فقال لقد أصبحت صائماً فأكل منه"
وقد تقدم في باب وجوب النية وزاد النسائي فأكل
وقال أصوم يوماً مكانه. قال النسائي: هي خطأ
يعني الزيادة ونسب الدارقطني الوهم فيها إلى
محمد بن عمر الباهلي ولكن رواها النسائي من
غير طريقه. وكذا الشافعي.
"وفي الباب" أيضاً عن
أبي سعيد عند البيهقي بإسناد قال الحافظ: حسن
قال: "صنعت للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
طعاماً فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
دعاك أخوك وتكلف لك أفطر فصم مكانه إن شئت".
"والأحاديث" المذكورة في الباب تدل على أنه يجوز لمن صام
تطوعاً أن يفطر لا سيما إذا كان في دعوة إلى
طعام أحد من المسلمين. ويدل على أنه يستحب
للمتطوع القضاء لذلك اليوم. وقد ذهب إلى ذلك
الجمهور من أهل العلم وحكى الترمذي عن قوم من
أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنهم
رأوا عليه القضاء إذا أفطر قال وهو قول مالك
بن أنس. واستدلوا بحديث عائشة المذكور. وبحديث
أبي سعيد في الباب. وأجيب عن ذلك بما في حديث
أم هانئ من التخيير فيجمع بينه وبين حديث
عائشة وأبي سعيد بحمل القضاء على الندب ويدل
على جواز الإفطار وعدم وجوب القضاء حديث أبي
جحيفة المتقدم لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قرر ذلك ولم يبين لأبي الدرداء وجوب
القضاء عليه وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا
يجوز.
قال ابن المنير: ليس في
تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا
الأدلة العامة كقوله تعالى
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
إلا أن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان.
وقال ابن عبد البر: من احتج في هذا بقوله
تعالى
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
فهو جاهل بأقوال أهل العلم فإن الأكثر على أن
المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال لا
تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها للَّه وقال
آخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر ولو
كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض
اللَّه عليه ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره
لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من
الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك انتهى.
ولا يخفى أن الآية عامة
والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما
تقرر في الأصول والصواب ما قال ابن المنير.
قوله: "لا عليكما" فيه
دليل على أنه يجوز لمن كان صائماً عن قضاء أن
يفطر ولا إثم عليه لأنه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم لم يستفصل هل الصوم قضاء أو تطوع ويؤيد
ذلك قوله في حديث أم هانئ إن كان قضاء رمضان
فاقضي يوماً مكانه.
قوله: "يعني" هذه اللفظة
ليست في متن الحديث.
باب ما جاء في
استقبال رمضان باليوم واليومين وغير ذلك.
1 - عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم:
لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا
أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصمه" "ص 349". - رواه الجماعة.
2 - وعن معاوية قال:
"كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يقول على المنبر قبل شهر رمضان
الصيام يوم كذا وكذا ونحن متقدمون فمن شاء
ج / 4 ص -260-
فليتقدم ومن شاء فليتأخر". - رواه ابن ماجه. ويحمل هذا على التقدم بأكثر من يومين.
3 - وعن عمران بن حصين:
"أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال لرجل
هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً قال لا فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله
وسلم
فإذا أفطرت رمضان فصم يومين مكانه". - متفق عليه. وفي رواية لهم:
"من سرر شعبان"
ويحمل هذا على أن الرجل كانت له عادة بصيام
سرر الشهر أو قد نذره".
- حديث معاوية في
إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن
مولى ابن أمية وفيه مقال والهيثم بن حميد وفيه
أيضاً مقال.
قوله: "لا يتقدمن أحدكم"
الخ قال العلماء: معنى الحديث
"لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان" قال الترمذي لما أخرج هذا الحديث العمل على
هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام
قبل دخول رمضان بمعنى رمضان انتهى. وإنما
اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب فيمن يقصد
ذلك. وقد قطع كثير من الشافعية بأن ابتداء
المنع من أول السادس عشر من شعبان واستدلوا
بحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي
هريرة مرفوعاً: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"
أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره. وقال
الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو
يومين لحديث الباب ويكره التقدم من نصف شعبان
للحديث الآخر.
وقال جمهور العلماء:
يجوز الصوم تطوعاً بعد النصف من شعبان وضعفوا
الحديث الوارد في النهي عنه. وقد قال أحمد
وابن معين: إنه منكر. وقد استدل البيهقي على
ضعفه بحديث الباب وكذا صنع قبله الطحاوي
واستظهر بحديث أنس مرفوعاً:
"أفضل الصيام بعد رمضان شعبان" لكن إسناده ضعيف كما تقدم واستظهر أيضاً بحديث عمران بن حصين
المذكور في الباب لقوله فيه:
"من سرر شعبان" والسرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها ويقال أيضاً سرار
بفتح أوله وكسره ورجح الفراء الفتح وهو من
الاستسرار قال أبو عبيدة والجمهور: المراد
بالسرر هنا آخر الشهر سميت بذلك لاستسراء
القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين
وثلاثين ونقل أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن
عبد العزيز أن سرره أوله ونقل الخطابي عن
الأوزاعي كالجمهور وقيل السرر وسط الشهر حكاه
أبو داود أيضاً ورجحه بعضهم. ووجهه بأن السرر
جمع سرة وسرة الشيء وسطه. ويؤيده الندب إلى
صيام البيض وهي وسط وإن لم يرد في صيام آخر
الشهر ندب بل ورد فيه نهي خاص بآخر شعبان لمن
صامه لأجل رمضان. ورجحه النووي بأن مسلماً
أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية
الروايات وأردف بها الروايات التي فيها الحث
على صيام البيض وهي وسط الشهر كما تقدم.
وقد قال الخطابي أن بعض
أهل العلم قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم أن سؤاله
ج / 4 ص -261-
سؤاله عن ذلك سؤال زجر وإنكار لأنه قد نهى
أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين وتعقب بأنه لو
أنكر ذلك لم يأمره بقضائه وأجاب الخطابي
باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك
أمره بالوفاء وأن يقضي ذلك في شوال وقال آخرون
فيه دليل على أن النهي عن تقدم رمضان بيوم أو
يومين إنما هو لمن يقصد به التحري لأجل رمضان
وأما من لم يقصد ذلك فلا يتناوله النهي وهو
خلاف ظاهر حديث النهي لأنه لم يستثن منه إلا
من كانت له عادة.
وقال القرطبي: الجمع بين
الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة
بذلك وحمل الأمر على من له عادة وهذا هو
الظاهر وقد استثنى من له عادة في حديث النهي
بقوله:
"إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصمه"
فلا يجوز صوم النفل المطلق الذي لم تجر بها
عادة وكذلك يحمل حديث معاوية المذكور في الباب
بعد ثبوته على من كان معتاداً للصوم في ذلك
الوقت. وأما قول المصنف أنه يحمل على التقدم
بأكثر من يومين فغير ظاهر لأن حديث العلاء بن
عبد الرحمن المتقدم يدل على المنع من صوم
النصف الآخر من شعبان وقد جمع الطحاوي بين
حديث النهي وحديث العلاء بأن حديث العلاء
محمول على من يضعفه الصوم وحديث الباب مخصوص
بمن يحتاط بزعمه لرمضان. قال في الفتح: وهو
جمع حسن.
"وقد اختلف" في الحكمة
في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين
فقيل هي التقوي بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوة
ونشاط وفيه نظر لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه
بصوم ثلاثة أيام أو أربعة أيام جاز. وقيل
الحكمة خشية اختلاط النفل بالفرض وفيه نظر
لأنه يجوز لمن له عادة كما تقدم. وقيل لأن
الحكم معلق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين
فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. قال في الفتح:
وهذا هو المعتمد ولا يرد عليه صوم من اعتاد
ذلك لأنه قد أذن له فيه وليس "ص 351" من
الاستقبال في شيء ويلحق به القضاء والنذر
لوجوبهما قال بعض العلماء: يستثنى القضاء
والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما
فلا يبطل القطعي بالظني.
وفي حديث أبي هريرة بيان
لمعنى قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في
الحديث الماضي
"صوموا لرؤيته" فإن اللام فيه للتأقيت لا للتعليل. قال ابن دقيق العيد: ومع كونها
محمولة على التأقيت فلا بد من ارتكاب مجاز لأن
وقت الرؤية وهي الليل لا يكون محل الصوم
وتعقبه الفاكهي بأن المراد بقوله
"صوموا" انووا الصيام والليل كله طرف للنية. قال الحافظ: فوقع في المجاز
الذي فر منه لأن الناوي ليس صائماً حقيقة
بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى
أن يطلع الفجر."1" هكذا الأصل تدبر.
باب النهي عن
صوم العيدين وأيام التشريق.
1 - عن أبي سعيد: "عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم أنه نهى عن صوم يومين يوم الفطر
ويوم النحر".
- متفق عليه. وفي لفظ
لأحمد والبخاري:
"لا صوم في يومين"
ولمسلم:
"لا يصح الصيام في يومين".
ج / 4 ص -262-
- وفي الباب عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن
عمر بنحو حديث الباب وهي في صحيح البخاري
ومسلم وتفرد به مسلم من حديث عائشة. قال
النووي في شرح صحيح مسلم: وقد أجمع العلماء
على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال سواء
صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك
ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما.
قال الشافعي والجمهور:
لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما. وقال أبو
حنيفة: ينعقد ويلزمه قضاؤهما قال: فإن صامهما
أجزأه وخالف الناس كلهم في ذلك انتهى. وبمثل
قول أبي حنيفة قال المؤيد باللَّه والإمام
يحيى. وقال زيد بن علي والهادوية: يصح النذر
بصيامهما ويصوم في غيرهما ولا يصح صومه فيهما
وهذا إذا نذر صومهما بعينهما كما تقدم. وأما
إذا نذر صوم يوم الاثنين مثلاً فوافق يوم
العيد فقال النووي: لا يجوز له صوم العيد
بالإجماع قال: وهل يلزمه القضاء فيه خلاف
للعلماء وفيه للشافعي قولان أصحهما لا يجب
قضاؤه لأن لفظه لم يتناول القضاء وإنما يجب
قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند
الأصوليين انتهى.
"والحكمة" في النهي عن
صوم العيدين أن فيه إعراضاً عن ضيافة اللَّه
تعالى لعباده كما صرح بذلك أهل الأصول.
2 - وعن كعب بن مالك:
"أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فناديا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن وأيام منى أيام أكل وشرب". - رواه أحمد ومسلم.
3 - وعن سعد بن أبي وقاص
قال: "أمرني النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أن أنادي أيام منى أنها أيام أكل وشراب ولا
صوم فيها يعني أيام التشريق". - رواه أحمد.
4 - وعن أنس: "أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم نهى عن صوم خمسة
أيام في السنة يوم الفطر ويوم النحر وثلاثة
أيام التشريق". - رواه الدارقطني.
5 - وعن عائشة وابن عمر
قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا
لمن لم يجد الهدي". - رواه البخاري. وله عنهما
أنهما قالا: "الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى
الحج إلى يوم عرفة فإن لم يجد هدياً ولم يصم
صام أيام منى".
- حديث سعد بن أبي وقاص
أخرجه أيضاً البزار قال في مجمع الزوائد:
ورجالهما يعني أحمد والبزار رجال الصحيح.
وحديث أنس في إسناده محمد بن خالد الطحان وهو
ضعيف.
"وفي الباب" عن عبد
اللَّه بن حذافة السهمي عند الدارقطني بلفظ: "لا
تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب
وبعال"
يعني أيام منى وفي إسناده الواقدي. وعن أبي
هريرة عند الدارقطني
ج / 4 ص -263-
وفي
إسناده سعد بن سلام وهو قريب من الواقدي وفيه
أن المنادي بديل بن ورقاء. وأخرجه أيضاً ابن
ماجه من وجه آخر وابن حبان. وعن ابن عباس عند
الطبراني بنحو حديث عبد اللَّه بن حذافة وفيه
والبعال وقاع النساء وفي إسناده إسماعيل بن
أبي حبيب وهو ضعيف. وعن عمر بن خلدة عن أبيه
عند أبي يعلى وعبد بن حميد وابن أبي شيبة
وإسحاق بن راهويه بنحوه وفي إسناده موسى بن
عبيدة الربذي وهو ضعيف. وعن ابن مسعود بن
الحكم عن أمه عند النسائي: "أنها رأت وهي بمنى
في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
راكباً يصيح يقول يا أيها الناس إنها أيام أكل
وشرب ونساء وبعال وذكر اللَّه قالت فقلت من
هذا فقالوا علي بن أبي طالب". وأخرجه البيهقي
من هذا الوجه لكن قال إن وجدته حدثته. وأخرجه
ابن يونس في تاريخ مصر من طريق يزيد بن الهاد
عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قال يزيد فسألت
عنها فقيل إنها جدته. وعن نبيشة الهذلي عند
مسلم في صحيحه بلفظ: "أيام التشريق
"ص 353" أيام أكل وشراب"
وأخرجه ابن حبان عن أبي هريرة بنحوه وأخرجه
النسائي عن بشر بن سحيم بنحوه. وعن عقبة بن
عامر عند أصحاب السنن وابن حبان والحاكم
والبزار بلفظ: "أن النبي صلى اللَّه عليه وآله
وسلم قال: أيام التشريق
أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد".
وعن عمرو بن العاص عند أبي داود: "أن النبي
صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يأمر بإفطارها
وينهى عن صيامها".
"وقد استدل" بهذه الأحاديث على تحريم صوم أيام
التشريق وفي ذلك خلاف بين الصحابة فمن بعدهم.
قال في الفتح: وقد روى ابن المنذر وغيره عن
الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة الجواز
مطلقاً. وعن علي عليه السلام وعبد اللَّه بن
عمرو بن العاص المنع مطلقاً وهو المشهور عن
الشافعي. وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في
آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدي وهو
قول مالك والشافعي في القديم. وعن الأوزاعي
وغيره أيضاً يصومها المحصر والقارن انتهى.
واستدل القائلون بالمنع مطلقاً بأحاديث الباب
التي لم تقيد بالجواز للمتمتع واستدل القائلون
بالجواز للمتمتع بحديث عائشة وابن عمر المذكور
في الباب وهذه الصيغة لها حكم الرفع وقد أخرجه
الدارقطني والطحاوي بلفظ: "رخص رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وآله وسلم للمتمتع إذا يجد
الهدي أن يصوم أيام التشريق" وفي إسناده يحيى
بن سلام وليس بالقوي ولكنه يؤيد ذلك عموم
الآية قالوا وحمل المطلق على المقيد واجب
وكذلك بناء العام على الخاص وهذا أقوى
المذاهب. وأما القائل بالجواز مطلقاً فأحاديث
الباب جميعها ترد عليه. قال في الفتح: وقد
اختلف في كونها يعني أيام التشريق يومين أو
ثلاثة وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي
تشرق فيها أي تنشر في الشمس. وقيل لأن الهدي
لا ينحر حتى تشرق الشمس. وقيل لأن صلاة العيد
تقع عند شروق الشمس وقيل التشريق التكبير دبر
كل صلاة انتهى. وحديث أنس المذكور في الباب
يدل على أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر |