نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية ج / 5 ص -142-
كتاب البيوع1
أبواب ما يجوز بيعه وما لا يجوز
باب ما جاء في بيع النجاسة وآلة المعصية وما
لا نفع فيه
1 - عن جابر: "أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول
"إن اللّه حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام
فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى به السف ويدهن بها
الجلود ويستصبح بها الناس فقال
هو حرام ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أي هذا الكتاب في ذكر الأحاديث التي يستنط
منها أحكام البيوع. ولما فرغ من بيان
العبادات المقصود منها التحصيل الأخروى شرع في
بيان المعاملات المقصود منها التحصيل
الدنيوي. فقدم العبادات لاهتمامها ثم ثنى
بالمعاملات لأنها ضرورية. وأخر النكاح لأن
شهوته متأخرة عن الأكل والشرب ونحوهما. وأخر
الجنايات والمخاصمات لأن وقوع ذلك في الغالب
إنما هو بعد الفراغ من شهوتي البطن والفرج.
وصدر الصنف المبحث بلفظ كتاب لأنه مشتمل على
أبواب كثيرة في أنواع البيوع. وجمع البيوع
وإن كان مصدرا لاختلاف أنواعه. فالمطلق إن
كان ببيع بالثمن كالثوب بالدراهم.
والمقايضة بالياء التحتية إن كان عينا بعين
كالثوب
قاتل اللّه اليهود إن اللّه لما حرم شحومها جملوه ثم
باعوه فأكلوا ثمنه".
رواه الجماعة.
2 - وعن ابن عباس: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال
"لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن اللّه
إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه". رواه أحمد وأبو داود وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس.
حديث ابن عباس في التنفير عنها وأما تحريم
بيعها على أهل الذمة فمبني على الخلاف في خطاب
الكافر بالفروع.
قوله: "والميتة" بفتح الميم وهي مازالت عنها
الحياة لا بذكاة شرعة. ونقل ابن المنذر أيضا
الإجماع على تحريم بيع الميتة والظاهر أنه
تحريم بيعها بجميع اجزائها قيل ويستثنى من ذلك
السمك والجراد ومالا تحله الحياة.
قوله: "والخنزير" فيه دليل على تحريم بيعه
بجميع أجزائه وقد حكى صاحب الفتح الإجماع على
ذلك. وحكى ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي يوسف
وبعض المالكية الترخيص في القليل من شعره
والعلة في تحريم بيعه وبيع الميتة هي النجاسة
عند جمهور العلماء فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة
ولكن المشهور عن مالك طهارة الخنزير.
قوله: "والأصنام" جمع صنم قال الجوهري هو
الوثن وقال غيره الوثن ما له جثة والصنم ما
كان مصورا فبينهما على هذا عموم وخصوص من وجه
ومادة اجتماعهما إذا كان الوثن مصورا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالعبد. والسلم إن كان بيع الدين بالعين
والصرف إن كان بيع الثمن بالثمن. والمرابحة
إن كان بالثمن مع زيادة. والتولية إن لن يكن
مع زيادة. والوضعية إن كان بالنقصان واللازم
إن كان تاما وغير اللازم إن كان بالخيار.
والصحيح والباطل والفاسد والمكروه. وللبيع
تفسير لغة وشرعا وركن وشرط ومحل وحكم وحكمة.
أما معناه لغة فمطلق المبادلة وهو ضد الشراء
ويطلق البيع على الشراء أيضا فلفظ البيع
والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر
فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني
المتضادة وشرعا هو مبادلة مال بمال على سبيل
التراضي. وأما ركنه فإيجاب وقبول. وأما
شرطه فاهلية المتعاقدين. وأما محله فهو
المال. وأما حكمه فهو ثبوت الملك للمشتري في
المبيع وللبائع في الثمن إذا كان تاما وعند
الاجازة إذا كان موقوفا. وأما حكمته على ما
ذكره الحافظ في الفتح إن حاجة الانسان تتعلق
بما في يد صاحبه غالبا وصاحبه قد لا يبذله ففي
شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج
اه اقول قد ذكر العلماء للبيع حكما كثيرة منا
اتساع أمور المعاش والبقاء. ومنا اطفاء نار
المنازعات والنهب والسرق والخيانات والحيل
المكروهة. ومنها بقاء نظام المعاش وبقاء
العالم لان المحتاج يميل إلى ما في يد غيره
فبغير المعاملة يفضي إلى التقاتل والتنازع
وفناء العالم واختلال نظام المعاش وغير ذلك
ومشروعيته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع:
واللّه أعلم.
ج / 5 ص -143-
والعلة في تحريم بيعها عدم المنفعة المباحة
فإن كان ينتفع بها بعد الكسر جاز بيعها عند
البعض ومنعه الأكثر.
قوله: "أرأيت شحوم
الميتة" إلخ أي فهل بيعها لما ذكر من
المنافع فإنها مقتضية لصحة البيع كذا في
الفتح.
قوله: "ويسصبح بها
الناس" الاستصباح استفعال من المصباح وهو
السراج الذي يشتعل منه الضوء.
قوله: "لا هو حرام
الأكثر على أن الضمير راجع إلى البيع وجعله
بعض العلماء راجعا إلى الانتفاع فقال يحرم
الأنتفاع بها وهو قول أكثر العلماء فلا ينتفع
من الميتة بشيء إلا ما خصه دليل كالجلد
المدبوغ والظاهر أن مرجع الضمير البيع لأنه
المذكور صريحا والكلام فيه ـ من قال ان
الضمير يرجع إلى البيع يقول بجواز الانتفاع
بالنجس مطلقا ويحرم بيعه ويستدل أيضا بالإجماع
على جواز اطعام الميتة الكلاب: وإذا كان
التحريم للبيع جاز الانتفاع بشحوم الميتة
والأدهان المتنجسة في كل شيء غير أكل الآدمي
ودهن بدنه فيحرمان كحرمة أكل الميتة والترطب
بالنجاسة. وإلى هذا ذهب الشافعي ونقله
القاضي عياض عن مالك وأكثر أصحابه وأبي حنيفة
وأصحابه والليث. واللّه أعلم. ـ ويؤيد
ذلك قوله في آخر الحديث: "فباعوها" وتحريم
الانتفاع يؤخذ من دليل آخر كحديث:
"لاتنتفعوا من الميتة بشيء" وقد تقدم والمعنى لا تظنوا إن هذه المنافع مقتضية لجواز بيع
الميتة فإن بيعها حرام. قوله: "جملوه"
بفتح الجيم والميم أي أذابوه يقال جملة إذا
أذابه والجميل الشحم المذاب. وفي رواية
للبخاري: "جملوها ثم باعوها"
وحديث ابن عباس فيه دليل على ابطال الحيل
والوسائل إلى المحرم وإن كان ما حرمه اللّه
على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه فلا يخرج
من هذه الكلية إلا ما خصة دليل والتنصيص على
تحريم بيع الميتة في حديث الباب مخصص لعموم
مفهوم قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: "إنما حرم من الميتة أكلها" وقد تقدم: وقوله: "لعن اللّه اليهود" زاد في سنن أبي داود
ثلاثا.
3 - وعن أبي حنيفة:
"أنه اشترى حجاما فأمر فكسرت محاجمه وقال إن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حرم ثمن
الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن الواشمة
والمستوشمة وآكل الربا وموكله ولعن
المصورين". متفق عليه.
4 - وعن أبي مسعود عقبة
بن عمرو قال: "نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحوان
الكاهن". رواه الجماعة.
5 - وعن ابن عباس قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ثمن
الكلب وقال
"إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا".
رواه أحمد وأبو داود.
6 - وعن جابر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن ثمن
الكلب والسنور". رواه أحمد ومسلم وأبو
داود.
حديث ابن عباس سكت عنه
أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله
ثقات لأن أبا داود رواه من طريق عبيد اللّه بن
عمرو الواقي وهو من رجال الجماعة عن عبد
الكريم بن مالك الجزري وهو كذلك عن قيس بن
حبتر بفتح الحاء المهملة واسكان الموحدة وفتح
الفوقية وهو
ج / 5 ص -144-
من ثقات التابعين كم قال ابن حبان. وحديث
جابر هو في مسلم بلفظ: "سألت جابرا عن ثمن
الكلب والسنور فقال زجر النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن ذلك" وقد أخرجه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الهر"
وقال الترمذي غريب وقال النسائي هذا حديث منكر
اه وفي إسناده عمر بن زيد الصنعاني قال ابن
حبان يتفرد بالمناكير عن المشاهير حتى خرج عن
حد الأحتجاج به. وقال الخطابي قد تكلم بعض
العلماء في إسناد هذا الحديث وزعم أنه غير
ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقال ابن عبد البر حديث بيع السنور لا يثبت
رفعه. وقال النووي الحديث صحيح رواه مسلم
وغيره انتهى. ولم يخرجه مسلم من طريق عمر بن
زيد المذكور بل رواه من حديث معقل بن عبد
اللّه الجزري عن أبي الزبير قال: "سألت
جابرا" وقد أخرج الحديث أيضا أبو داود
والترمذي من طريق أخرى ليس فيها عمر ابن زيد
الصنعاني باللفظ الذي ذكره المصنف ولكن في
إسناده اضطراب كما قال الترمذي قوله: "حرم
ثمن الدم" اختلف في المراد به فقيل أجرة
الحجامة فيكون دليلا لمن قال بأنها غير حلال
وسيأتي الكلام على ذلك في باب ما جاء في كسب
الحجام من أبواب الأجارة. وقيل المراد به
ثمن الدم نفسه فيدل على تحريم بيعه وهو حرام
اجماعا كم في الفتح. قوله: "وثمن الكلب"
فيه دليل على تحريم بيع الكلب ـ أقول ما
ذكره الشارح من أن قوله في الحديث: "وثمن
الكلب" يدل على تحريم بيعه إنما هو باللزوم
لا بالنص لأن الحديث دل على تحريم ثمن الكلب
بالنص وعلى تحريم بيعه باللزوم أفهم ـ.
وظاهره عدم الفرق بين
العلم وغيره سواء كان مما يجوز اقتناؤه أو مما
لا يجوز وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة
يجوز وقال عطاء والنخعي يجوز بيع كلب الصيد
دون غيره.
ويدل عليه ما أخرجه
النسائي من حديث جابر قال: "نهى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب إلاكلب
صيد: "قال في الفتح ورجال إسناده ثقات إلا
أنه طعن في صحته وأخرج نحوه الترمذي من حديث
أبي هريرة لكن من رواية أبي المهزم وهو ضعيف
فينبغي حمل المطلق على المقيد ويكون المحرم
بيع ما عدا كلب الصيد ان صلح المقيد للاحتجاج
به وقد اختلفوا أيضا هل تجب القيمة على متلفه
فمن قال بتحريم بيعه قال بعدم الوجوب ومن قال
بجوازه قال بالوجوب ومن فصل في البيع فصل في
لزوم القيمة وروى عن مالك أنه لا يجوم بيعه
وتجب القيمة وروى عنه أن بيعه مكروه فقط.
قوله: "وكسب البغي"
في الرواية الثانية ومهر البغي ـ وسمي مهرا
مجازا وفي حكمه تفاصيل ترجع إلى كيفية أخذه
والذي اختاره العلامة ابن القيم رحمه اللّه
تعالى أنه في جميع كيفياته يجب التصدق به ولا
يرد إلى الدافع لأنه دفعه باختياره في مقابل
عوض ولا يمكن صاحب العوض استرجاعه فهو كسب
خبيث يجب التصدق به ولا يعان صاحب المعصية
بحصول غرضه ورجوع ماله إليه: واللّه أعلم
ـ.
والمراد ما تأخذه
الزانية على الزنا وهو مجمع على تحريمه والبغي
بفتح الموحدة وكسر المعجمة تشديد التحتانية.
وأصل البغي الطلب غير
أنه أكثر ما يستعمل في الفساد واستدل به على
أن الأمة إذا أكرهت على الزنا فلا مهرها وفي
وجه للشافعية يجب للسيد الحكم. قوله: "ولعن
الواشمة والمستوشمة" سيأتي الكلام على هذا
في باب ما يكرهه من تزين النساء من كتاب
الوليمة إن شاء اللّه. قوله: "وآكل الربا
وموكله يأتي إن شاء اللّه الكلام على هذا في
باب التشديد في الربا من أبواب الربا قوله:
"ولعن المصورين" فيه أن المصور من أشد
المحرمات لأن اللعن لا يكون إلا على ما هو
كذلك وقد تقدم ما يحرم من التصوير ومالا يحرم
في أبواب اللباس.
قوله: "وحلوان
الكاهن" الحلوان بضم الحاء المهملة ومصدر
حلوته إذا أعطيته. قال في الفتح وأصله من
الحلاوة شبه بالشي الحلو من حيث أنه يؤخذ سهلا
بلا كلفة ولا مشقة الحلوان أيضا الرشوة
ج / 5 ص -145-
والحلوان أيضا ما يأخذه الرجل من مهر ابنته
لنفسه. والكاهن قال الخطابي هو الذي يدعى
مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن قال
في الفتح حلوان الكاهن حرام بالإجماع لما فيه
من أخذ العوض على أمر باطل وفي معناه التنجيم
والضرب بالحصى وغير ذلك مما يتعاناه العرافون
من استطلاع الغيب. قوله: "فاملأ كفه
ترابا" كناية عن منعه من الثمن كما يقال
للطالب الخائب لم يحصل في كفه غير التراب وقيل
المراد التراب خاصة حملا للتحديث على ظاهره
وهذا جمود لا ينبغي التعويل عليه ومثله حمل من
حمل حديث:
"احثوا التراب في وجوه المداحين" على معناه الحقيقي. قوله: "والسنور" بكسر السين المهملة وفتح
النون المشددة وسكون الواو بعدها راء وهو الهر
وفيه دليل على تحريم بيع الهروبه قال أبو
هريرة ومجاهد وجابر وابن زيد حكى ذلك عنهم ابن
المنذر وحكاه المنذري أيضا عن طاوس وذهب
الجمهور إلى جواز بيعه وأجابوا عن هذا الحديث
بما تقدم من تضعيفه وقد عرفت دفع ذلك وقيل إنه
يحمل النهي على كراهة التنزيه وأن بيعه ليس من
مكارم الأخلاق ولامن المروآت ولا يخفى أن هذا
إخراج للنهي عن معناه الحقيقي بلا مقتض.
باب النهي عن
بيع فضل الماء
1 - عن إباس بن عبد:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن
بيع فضل الماء". رواه الخمسة إلا ابن ماجه
وصححه الترمذي.
2 - وعن جابر عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم مثله. رواه أحمد
وابن ماجه.
حديث إباس قال القشيري
هو على شرط الشيخين وحديث جابر هو صحيح ـ وقد
ذهب إلى هذا العموم العلامة ابن القيم في زاد
المعاد وقال إنه يجوز دخول الأرض المملوكة
لاخذ الماء والكلأ لأن له حقا في ذلك ولا
يمنعه استعمال ملك الغير وقال أنه نص أحمد على
جواز الرعي في أرض غير مباحة للراعي. قال
الصنعاني في سبل السلام وإلى مثله ذهب المنصور
باللّه والإمام يحيى في الحطب والحشيش.
واللّه أعلم - مسلم ولفظه لفظ حديث إباس
وكذا أخرجه النسائي. والحديثان يدلان على
تحريم بيع فضل الماء وهو الفاضل عن كفاية
صاحبه والظاهر أنه لافرق بين الماء الكائن في
أرض مباحة أو في أرض مملوكة وسواء كان للشرب
أو لغيره وسواء كان لحاجة الماشية أو الزرع
وسواء كان في فلاة أو في غيرها وقال القرطبي
ظاهر هذا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الفاضل
الذي يشرب فإنه السابق إلى الفهم وقال النووي
وحاكيا عن أصحاب الشافعي أنه يجب بذل الماء في
الفلاة بشروط.
أحدها
أن لا يكون ماء أخر يستغنى به.
الثاني
أن يكون البذل لحاجة الماشية لا لسقي الزرع.
الثالث
أن لا يكون مالكه محتاجا إليه ويؤيد ما ذكرنا
من دلالة الحديثين على المنع من بيع الماء على
العموم حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعا
بلفظ:
"لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ" وذكره صاحب جامع الأصول بلفظ:
"لا يباع فضل الماء"
وهو لفظ مسلم وسيأتي هذا الحديث وما في معناه
في باب النهي عن منع فضل الماء من كتاب إحياء
الموات ويؤيد المنع من البيع أيضا أحاديث:
"الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ
والنار"
وستأتي في باب: "الناس
ج / 5 ص -146-
شركاء في ثلاث" من كتاب إحياء الموات أيضا
وقد حمل الماء المذكور في حديثي الباب على ماء
الفحل وهو مع كونه خلاف الظاهر مردود بما في
حديث جابر الذي أشار إليه المصنف فإنه في صحيح
مسلم بلفظ: "نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن بيع فضل الماء وعن منع ضراب
الفحل وقد خصص من عموم حديثي المنع من البيع
للماء ما كان منه محرزا في الآنية فإنه يجوز
بيعه قياسا على جواز بيع الحطب إذا أحرزه
الحاطب لحديث الذي أمره صلى اللّه عليه وآله
وسلم بالاحتطاب ليستغني به عن المسألة وهو
متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم في
الزكاة وهذا القياس بعد تسليم صحته إنما يصح
على مذهب من جوز التخصيص بالقياس والخلاف في
ذلك معروف في الأصول ولكنه يشكل على النهي عن
بيع الماء على الأطلاق ما ثبت في الحديث
الصحيح من أن عثمان اشترى نصف بئر رومة من
اليهودي وسبلها للمسلمين بعد أن سمع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"من يشتري بئر رومة فيوسع بها على المسلمين وله الجنة وكان اليهودي
يبيع ماءها"
الحديث فإنه كما يدل على جواز بيع البئر نفسها
وكذلك العين بالقياس عليها يدل على جواز بيع
الماء لتقريره صلى اللّه عليه وآله وسلم
لليهودي على البيع ويجاب بأن هذا كان في صدر
الإسلام وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية
والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صالحهم في
مبادئ الأمر على ما كانوا ثم استقرت الأحكام
وشرع لامته تحريم بيع الماء فلا يعارضه ذلك
التقرير وأيضا الماء هنا دخل تبعا لبيع البئر
ولا نزاع في جواز ذلك.
باب النهي عن
ثمن عسب الفحل
1 - عن ابن عمر قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ثمن
عسب الفحل". رواه أحمد والبخاري والنسائي
وأبو داود.
2 - عن جابر: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع ضراب
الفحل". رواه مسلم والنسائي.
3 - وعن أنس: "أن رجلا
من كلاب سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
عن عسب الفحل فنهاه فقال يا رسول اللّه أنا
نطرق الفحل فنكرم فرخص له في الكرامة".
رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وفي الباب عن أنس غير
حديث الباب عند الشافعي وعن علي عليه السلام
عند الحاكم في علوم الحديث وابن حبان والبزار
وعن البراء عند الطبراني وعن ابن عباس عند
أيضا قوله: "عسب الفحل" بفتح العين المهملة
وإسكان السين المهملة أيضا وفي آخره موحدة
ويقال له العسيب أيضا والفحل الذكر من كل
حيوان فرسا كان أوجملا أو تيسا أو غير ذلك.
وقد روى النسائي من حديث أبي هريرة نهى عن
عسيب التيس واختلف فيه فقيل هو ماء الفحل وقيل
أجرة الجماع ويؤيد الأول حديث جابر المذكور في
الباب.
وأحاديث الباب تدل على
أن بيع ماء
ج / 5 ص -147-
الفحل واجارته حرام لأنه غير متقوم ولامعلوم
ولا مقدور على تسليمه وإليه ذهب الجمهور وفي
وجه للشافعية والحنابلة وبه قال الحسن وابن
سيرين وهو مروي عن مالك أنها تجوز إجارة الفحل
للضراب مدة معلومة وأحاديث الباب ترد عليهم
لأنها صادقة على الأجارة قال صاحب الأفعال
أعسب الرجل عسبا اكترى منه فحلا ينزيه ولا يصح
القياس على تلقيح النخل لأن ماء الفحل صاحبه
عاجز عن تسليمه بخلاف التلقيح قال في الفتح
وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازه.
قوله: "فرخص له في
الكرامة" فيه دليل أن المعير إذا أهدى إليه
المستعير هدية بغير شرط حلت له وقد ورد
الترغيب في اطراق الفحل. أخرج ابن حبان في
صحيحه من حديث أبي كبشة مرفوعا:
"من اطرق فرسا فاعقب كان له كاجر سبعين فرسا".
باب النهي عن
بيوع الغرر
1 - عن أبي هريرة: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر".
رواه الجماعة إلا البخاري.
2 - وعن ابن مسعود: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر". رواه أحمد. 3 - وعن ابن عمر قال: "نهى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم عن حبل الحبلة". رواه أحمد
ومسلم والترمذي. وفي رواية: "نهى عن بيع
حبل الحبلة وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في
بطنها ثم تحمل التي نتجت". رواه أبو داود
وفي لفظ: "كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم
الجزور إلى حبل الحبلة وحبل الحبلة أن تنتج
الناقة ما في بطنها ثم يحمل التي نتجت فنهاهم
صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك" متفق
عليه. وفي لفظ: "كانوا يبتاعون الجزور إلى
حبل الحبلة فنهاهم صلى اللّه عليه وآله وسلم
عنه" رواه البخاري.
حديث ابن مسعود في
إسناده يزيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع عن
ابن مسعود قال البيهقي فيه إرسال بين المسيب
وعبد اللّه والصحيح وقفه وقال الدارقطني في
العلل اختلف فيه والموقوف أصح وكذلك قال
الخطيب وابن الجوزي وقد روى أبو بكر ابن أبي
عاصم عن عمران بن حصين حديثا مرفوعا وفيه
النهي عن بيع السمك في الماء فهو شاهد لهذا.
قوله: "نهى عن بيع
الحصاة" اختلف في تفسيره فقيل وهو أن يقول
بعتك من هذا الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة
ويرمي الحصاة أو من هذه الأرض ما انتهت إليه
في الرمي وقيل هو أن يشرط الخيار إلى أن يرمي
الحصاة وقيل هو أن يجعل نفس الرمي بيعا ويؤيده
ما أخرجه البزار من طريق حفص بن
ج / 5 ص -148-
عاصم عنه أنه قال يعني إذا قذف الحصاة فقد
وجب البيع.
قوله: "وعن بيع
الغرر" بفتح المعجمة وبراءين مهملتين وقد
ثبت النهي عنه في أحاديث. منها المذكور في
الباب. ومنها عن ابن عمر عند أحمد وابن
حبان. ومنها عن ابن عباس عند ابن ماجه.
ومنها عن سهل بن سعد الطبراني ومن جملة بيع
الغرر بيع السمك في الماء كما في حديث ابن
مسعود ومن جملته بيع الطير في الهواء وهو مجمع
على ذلك والمعدوم والمجهول والآبق وكل ما دخل
فيه الغرر بوجه من الوجوه.
قال النووي النهي عن بيع
الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل
كثيرة جدا ويستثنى من بيع الغرر أمران.
أحدهما ما يدخل في المبيع تبعا بحيث لو أفرد
لم يصح بيعه. والثاني ما يتسامح بمثله أما
لحقارته أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه ومن
جملة ما يدخل تحت هذين الأمرين بيع أساس
البناء واللبن في ضرع الدابة والحمل في بطنها
والقطن الحشو في الجبة.
قوله: "حبل الحبلة"
الحبل بفتح الحاء المهملة والباء وغلط عياض من
سكن الباء وهو مصدر حبلت تحبل والحبلة بفتحهما
أيضا جمع حابل مثل ظلمة وظالم وكتبة وكاتب
والهاء فيه للمبالغة وقيل هو مصدرسمي به
الحيوان والأحاديث المذكورة في الباب تقضي
البيع لأن النهي يستلزم ذلك كما تقرر في
الأصول. واختلف في تفسير حبل الحبلة فمنهم
من فسره بما وقع في الرواية من تفسير ابن عمر
كما جزم به ابن عبد البر. وقال الإسماعيلي
والخطيب هو من كلام نافع ولا منافاة بين
الروايتين ومن جملة الذاهبين إلى هذا التفسير
مالك والشافعي وغيرهما وهو أن يبيع لحم الحزور
بثمن مؤجل إلى أن يلد ولد الناقة وقيل إلى أن
يحمل ولد الناقة ولا يشترط وضع الحمل وبه جزم
أبو أسحق في التنبيه وتمسك بالتفسيرين
المذكورين في الباب فإنه ليس فيهما ذكران يلد
الولد ولكنه وقع في رواية متفق عليها بلفظ:
"كان الرجل يبتاع إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج
التي في بطنها وهو صريح في اعتبار ان يلد
الولد ومشتمل على زيادة فيرجح. وقال أحمد
وإسحاق وابن حبيب المالكي والترمذي وأكثر أهل
اللغة منهمه أبو عبيدة وأبو عبيد هو بيع ولد
الناقة الحامل في الحال فتكون علة النهي على
القول الأول جهالة الأجل وعلى القول الثاني
بيع الغرر لكونه معدوما ومجهولا وغير مقدور
على تسليمه ويرجح الأول قوله في حديث الباب:
"لحوم الجزور" وكذلك قوله: "يبتاعون
الجزور" قال ابن التين محصل الخلاف هل
المراد البيع إلى أجل أو بيع الحبين وعلى
الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أم ولادة
ولدها وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول
أو جنين الجنين فصارت أربعة أقوال كذا في
الفتح.
قوله: "أن تنتج" بضم
أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه والفاعل الناقة
قال في الفتح وهذا الفعل وقع في لغة العرب على
صيغة الفعل المسند إلى المفعول قوله:
"الجزور" بفتح الجيم وضم الزاي وهو البعير
ذكرا كان أو أنثى.
4 - وعن شهربن حوشب عن
أبي سعيد قال: "نهى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع
وعن بيع ما في ضروعها إلا
ج / 5 ص -149-
بكيل وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء
المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض
وعن ضربة الغائص". رواه أحمد وابن ماجه
وللترمذي منه شراء المغانم وقال غريب.
5 - وعن ابن عباس قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن بيع
المغانم حتى تقسم". رواه النسائي.
6 - وعن أبي هريرة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مثله . رواه
أحمد وأبو داود.
7 - وعن ابن عباس قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يباع
ثمر حتى يطعم أو صوف على ظهر أو لبن في ضرع أو
سمن في لبن". رواه الدارقطني.
حديث أبي سعيد أخرجه
أيضا البزار والدارقطني وقد ضعف الحافظ إسناده
وشهربن حوشب فيه مقال تقدم وقد حسن الترمذي ما
أخرجه منه ويشهد لأكثر الأطراف التي اشتمل
عليها أحاديث أخر منها أحاديث النهي عن بيع
الغرر وما ورد في النهي عن بيع الملاقيح
والمضامين وما ورد في حبل الحبلة على أحد
التفسيرين وحديث أبي هريرة في إسناد أبي داود
رجل مجهول وحديث ابن عباس الآخر أخرجه أيضا
البيهقي وفي إسناده عمر بن فروخ قال البيهقي
تفرد به وليس بالقوي انتهى. ولكنه قد وثقه
ابن معين وغيره وقد رواه عن وكيع مرسلا أبو
داود في المراسيل وابن أبي شيبة في مصنفه قال
ووقفه غيره على ابن عباس وهو المحفوظ.
وأخرجه ايضا أبو داود من طريق أبي إسحاق عن
عكرمة والشافعي من وجه آخر عن ابن عباس
والطبراني في الأوسط من طريق عمر المذكور وقال
لا يروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إلا بهذا الإسناد وفي الباب عن عمران بن حصين
مرفوعا عند أبي بكر بن أبي عاصم بلفظ: "نهى
عن بيع ما في ضروع الماشية قبل أن تحلب وعن
الجنين في بطون الأنعام وعن بيع السمك في
الماء وعن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة وعن
بيع الغرر" قوله: "عن شراء ما في بطون
الأنعام" فيه دليل على أنه لا يصح شراء
الحمل وهو مجمع عليه والعلة الغرر وعدم القدرة
على التسليم قوله: "وعن بيع ما في ضروعها"
هو أيضا مجمع على عدم صحة بيعه قبل انفصاله
لما فيه من الغرر والجهالة الا أن يبيعه منه
كيلا نحو أن يقول بعت منك صاعا من حليب بقرتي
فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر
والجهالة.
قوله: "وعن شراء العبد
الآبق" فيه دليل على أنه لا يصح بيعه وقد
ذهب إلى ذلك الهادي والشافعي. وقال أبو
حنيفة وأصحابه والمؤيد باللّه وأبو طالب أنه
يصح موقوفا على التسليم واستدلوا بعموم قوله
تعالى :
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
وهو من التمسك بالعام في مقابلة ما هو أخص منه
مطلقا وعلة النهي عدم القدرة على التسليم إن
كانت عين العبد الآبق معلومة ولا فجموع
الجهالة والغرر وعدم القدرة على التسليم.
قوله: "وشراء
المغانم" مقتضى النهي عدم صحة بيعها قبل
القسمة لأنه لا ملك على ماهو الاظهر
ج / 5 ص -150-
من قول الشافعي وغيره لاحد من الغانمين
قبلها فيكون ذلك من أكل أموال الناس
بالباطل.
قوله: "وعن شراء
الصدقات" فيه دليل على أنه لا يجوز للمتصدق
عليه بيع الصدقة قبل قبضها لأنه لا يملكها الا
به وقد خصص من هذا العموم المصدق فقيل يجوز له
بيع الصدقات قبل قبضها وهو غير مقبول إلا
بدليل يخص هذا العموم وجعل التخلية إليه
بمنزلة القبض دعوى مجردة وعلى تسليم قيامها
القبض فلا فرق بينه وبين غيره.
قوله: "وعن ضربة
الغائص" المراد بذلك أن يقول من يعتاد الغوص
في البحر لغيره ما أخرجته في هذه الغوصة فهو
لك بكذا من الثمن فإن هذا لا يصح لما فيه من
الغرر والجهالة.
قوله: "نهى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن يباع ثمر حتى يطعم"
سيأتي الكلام على هذا في باب النهي عن بيع قبل
بدو صلاحه قوله: "أو صوف على ظهر" فيه
دليل على عدم صحة بيع الصوف ما دام على ظهر
الحيوان وإلى ذلك ذهب العترة والفقهاء والعلة
الجهالة والتأدية إلى الشجار في موضع القطع
قوله: "أو سمن في لبن" يعني لما فيه من
الجهالة والغرر.
8 - وعن أبي سعيد قال:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
الملامسة والنابذة في البيع والملامسة لمس
الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا
يقلبه والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل
بثوبه وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك بيعهما من
غير نظر ولا تراض". متفق عليه.
9 - وعن أنس قال: "نهى
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن المحالفة
والمخاضرة والمنابذة والملامسة
والمزابنة". رواه البخاري.
قوله: "عن الملامسة
والمنابذة" هما مفسران بما ذكر في الحديث
ذكر البخاري ذلك في اللباس عن الزهري وقد فسر
ابان الملامسة أن يمس الثوب ولا ينظر إليه
والمنابذة أن يطرح الرجل ثوبه بالبيع إلى
الرجل قبل أن يقلبه وينظر إليه وهو كالتفسير
الأول. قال في الفتح ولأبي عوانة عن يونس أن
يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا
يخبرون عنها أو يتنابذ القوم السلع كذلك فهذا
من أبواب القمار وفي رواية لابن ماجه من طريق
سفيان عن الزهري المنابذة أن يقول الق إلى
مامعك والقي إليك ما معي والنسائي من حديث أبي
هريرة الملامسة أن يقول الرجل للرجل ابيعك
ثوبي بثوبك ولا ينظر احدمنها إلى ثوب الآخر
ولكن يلمسه لمسا. والمنابذة أن يقول انبذ ما
معي وتنبذ ما معك فيشتري كل واحد منهما من
الآخر ولا يدري كم مع الآخر. وروى أحمد عن
معمر أنه فسر المنابذة بأن يقول إذا نبذت هذا
الثوب فقد وجب البيع. والملامسة أن يلمس
بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب
البيع. ولمسلم عن أبي هريرة الملامسة أن
يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل.
والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى
الآخر لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه.
قال الحافظ وهذا التفسير الذي في حديث أبي
ج / 5 ص -151-
هريرة أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة لأنها
مفاعلة فتستدعي وجود الفعل من الجانبين قال
واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث
صور هي أوجه للشافعية أصحها أن يأتي بثوب مطوى
أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول له صاحب
الثوب بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك
ولا خيار لك إذا رأيته وهذا موافق للتفسير
الذي في الأحاديث. الثاني أن يجعلا نفس
اللمس بيعا بغير صيغة زائدة. الثالث أن
يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس والبيع
على التأويلات كلها باطل. ثم قال واختلفوا
في المنابذة على ثلاثة أقوال وهي ثلاثة أوجه
للشافعية أصحها أن يجعلا نفس النبذ بيعا كما
تقدم في الملامسة وهو الموافق للتفسير المذكور
في الأحاديث والثاني أن يجعلا النبذ بيعا بغير
صيغة.
والثالث أن يجعلا النبذ
قاطعا للخيار هكذا في الفتح. والعلة في
النهي عن الملامسة والمنابذة الغرر والجهالة
وابطال خيار المجلس وحديث أنس يأتي الكلام علي
ما اشتمل عليه من المحاقلة والمزابنة في باب
النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه وأما
المخاضرة المذكورة فيه فهي بالخاء والضاد
المعجمتين وهي بيع الثمرة خضراء قبل بدو
صلاحها وسيأتي الخلاف في ذلك.
باب النهي عن
الاستثناء في البيع الا أن يكون معلوما
1 - عن جابر: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا الا ان
تعلم". رواه النسائي والترمذي وصححه.
الحديث أخرجه مسلم بلفظ:
"نهى عن الثنيا" وأخرجه أيضا بزيادة: "إلا
أن تعلم" النسائي وابن حبان في صحيحه وغلط
ابن الجوزي فزعم ان هذا الحديث متفق عليه وليس
الأمر كذلك فإن البخاري لم يذكر في كتابه
الثنيا وهو يدل على تحريم الحاقلة والمزابنة
وسيأتي الكلام عليهما شيئا والثنيا بضم
المثلثة وسكون النون المراد بها الاستثناء في
البيع نحو أن يبيع الرجل شيئا ويستثنى بعضه
فإن كان الذي استثناه معلوما نحو أن يستثني
واحدة من الأشجار أو منزلا من المنازل أو
موضعا معلوما من الأرض صح بالاتفاق وإن كان
مجهولا نحو أن يستثني شيئا غير معلوم لم يصح
البيع وقد قيل أنه يجوز أن يستثني مجهول العين
إذا ضرب لاختياره مدة معلومة لانه بذلك صار
كالمعلوم وبه قالت الهادوية وقال الشافعي لا
يصح لما في الجهالة حال البيع من الغرر وهو
الظاهر لدخول هذه الصورة تحت عموم الحديث
واخراجها يحتاج إلى دليل ومجرد كون مدة
الاختيار معلومة وإن صار به على بصيرة في
التعيين بعد ذلك لكنه لم يصر به على بصيرة حال
العقد وهو المعتبر والحكمة في النهي عن
استثناء المجهول ما يتضمنه من الغرر مع
الجهالة.
باب بيعتين في
بيعة
1 - عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
"من باع بيعين في بيعة فله أو كسهما أو
الربا".
رواه أبو داود. وفي لفظ: "نهى النبي
ج / 5 ص -152-
صلى اللّه عليه وآله وسلم عن بيعتين في
بيعة" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
2 - وعن سماك عن عبد
الرحمن بن عبد اللّه بن مسعود عن أبيه قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
صفقتين في صفقة قال سماك هو الرجل يبيع البيع
فيقول هو بنسا بكذا وهو ينقد بكذا وكذا".
رواه أحمد.
حديث أبي هريرة باللفظ
الأول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد
تكلم فيه غير واحد قال المنذري والمشهور عنه
من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد اللّه
الأنصاري أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: "نهى
عن بيعتين في بيعة" انتهى وهو باللفظ الثاني
عند من ذكره المصنف وأخرجه أيضا الشافعي ومالك
في بلاغاته وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في
التلخيص وسكت عنه. وقال في مجمع الزوائد
رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضا البزار والطبراني
في الكبير والأوسط وفي الباب عن ابن عمر عند
الدارقطني وابن عبد البر قوله: "من باع
بيعتين" فسره سماك بما رواه الصنف عن أحمد
عنه وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال بان
يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ
أيهما شئت أنت وشئت أنا ونقل أن الرفعة عن
القاضي إن المسألة مفروضة على أنه قبل على
الأبهام اما لو قال قبلت بألف نقدا أو بألفين
بالنسيئة صح ذلك. وقد فسر ذلك الشافعي
بتفسير آخر فقال هو أن يقول بعتك ذا العبد
بألف على أن تبيعني دارك كذا أي إذا وجب لك
عندي وجب لي عندك وهذا يصلح تفسير الرواية
الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى فإن قوله
فله أوكسهما يدل على أنه باع الشيء الواجد
بيعتين بيعة بأقل وبيعة بأكثر. وقيل في
تفسير ذلك هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة
إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال
بعني القفيز الذي لك على إلى شهرين بقفيزين
فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد
دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول
كذا في شرح السنن لابن رسلان.
قوله: "فله أوكسهما"
أي انقصهما قال الخطابي لا أعلم أحدا قال
بظاهر الحديث وصحح البيع باوكس الثمنين إلا ما
حكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد انتهى. ولا
يخفى إن ماقاله هو ظاهر الحديث لأن الحكم له
بالاوكس يستلزم صحة البيع به قوله: "أو
الربا" يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه في
الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس بل أخذ
الأكثر وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن
رسلان وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك
وذكره الشافعي ففيه متمسك لمن قال يحرم بيع
الشيء بأكثر من سعر يومه لاجل النساء وقد ذهب
إلى ذلك زين العابدين بن علي بن الحسين
والناصر والمنصور باللّه والهادوية والامام
يحيى. وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي
والمؤيد باللّه والجمهور إنه يجوز لعموم
الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر لان ذلك
المتمسك هو الرواية الأولى من حديث أبي هريرة
وقد عرفت ما في راويها من المقال ومع ذلك
فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي
عن بيعتين في بيعة ولا حجة فيه على المطلوب
ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك
ج / 5 ص -153-
الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير
خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان
قادحا في الاستدلال بها على المتنازع فيه على
أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع
إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول نقدا بكذا
ونسيئة كذا الا إذا قال من أول الأمر نسيئة
بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه مع أن
المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة
ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى
وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها شفاء
الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل
وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه والعلة في تحريم
بعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع
الشيء الواحد بثمنين والتعليق بالشرط المستقبل
في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك ولزوم
الربا في صورة القفيز الحنطة قوله: "أو
صفقتين في صفقة" أي بيعتين في بيعة.
باب النهي عن
بيع العربون
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: "نهى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن بيع العربان". رواه أحمد
والنسائي وأبو دواد وهو لمالك في الموطأ.
الحديث منقطع لانه من
رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب ولم
يدركه فبينهما راو لم يسم وسماه ابن ماجه فقال
عن مالك عن عبد اللّه بن عامر الأسلمي وعبد
اللّه لا يحتج بحديثه وفي إسناده ابن ماجه هذا
أيضا حبيب كاتب الإمام مالك وهو ضعيف لا يحتج
به. وقد قيل أن الرجل الذي لم يسم هو ابن
هليعة ذكر ذلك ابن عدي وهو أيضا ضعيف. ورواه
الدارقطني. والخطيب عن مالك عن عمرو ابن
الحرث عن عمرو بن شعيب وفي إسنادهما الهيثم
ابن اليمان وقد ضعفه الأزدي وقال أبو حاتم
صدوق ورواه موصولا من غير طريق مالك وأخرجه
عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم أنه سئل
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
العربان في البيع فأحله" وهو مرسل وفي
إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف قوله:
"العربان" بضم العين المهملة وإسكان الراء
ثم موحدة مخففة ويقال فيه عربون بضم العين
والياء ويقال بالهمزة مكان العين. قال أبو
داود قال مالك وذلك فيما نرى واللّه أعلم أن
يشتري الرجل العبد أو يتكار الدابة ثم يقول
أعطيك دينارا على أني أن تركت السلعة و الكراء
فما أعطيتك لك انتهى. وبمثل ذلك فسره عبد
الرزاق عن زيد بن أسلم والمراد أنه إذا لم
يختر السلعة أو اكترى الدابة كان الدينار أو
نحوه للمالك بغير شيء وإن اختارهما أعطاه بقية
القيمة أو الكراء وحديث الباب يدل على تحريم
البيع مع العربان وبه قال الجمهور وخالف في
ذلك أحمد فأجازه وروى نحوه عن عمر وابنه.
ويدل على ذلك حديث زيد بن أسلم المتقدم وفيه
المقال المذكور والأولى ما ذهب إليه الجمهور
لأن حديث عمر بن شعيب قد ورد من طرق يقوي
بعضها بعضا ولأنه يتضمن الحظر وهو أرجح من
الإباحة كما تقرر في
ج / 5 ص -154-
الأصول. والعلة في النهي عنه اشتماله على
شرطين فاسدين. أحدهما شرط كون ما دفعه إليه
يكون مجانا إن اختار ترك السلعة. والثاني
شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا
بالبيع.
باب تحريم بيع
العصير ممن يتخذه خمرا وكل بيع أعان على معصية
1 - عن أنس: "لعن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الخمر عشرة
عاصرها ومعتصرها وشاربها وحامله والمحمول
إليها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري
لها والمشتراة له". رواه الترمذي وابن
ماجة.
2 - وعن ابن عمر قال:
"لعنت الخمرة على عشرة وجوه لعنت الخمرة
بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها
وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحموله إليه وآكل
ثمنها". رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود
بنحوه ولكنه لم يذكر وآكل ثمنها ولم يقل
عشرة.
الحديث الأول
قال الحافظ في التلخيص ورواته ثقات والحديث
الثاني في إسناده عبد الرحمن بن عبد اللّه
الغافقي أمير الأندلس قال يحيى لا أعرفه وقال
قوم هو معروف وصححه ابن السكن ـ وفي الباب ـ
عن أبي هريرة عند أبي داود وعن ابن عباس عند
ابن حبان وعن ابن مسعود عند الحاكم وعن بريدة
عند الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن أحمد
بن أبي خيثمة بلفظ:
"من حبس العنب أيام القطف حتى يبيعه من يهودي
أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد نقحم النار
على بصيرة" حسنه الحافظ في بلوغ المرام. وأخرجه
البيهقي بزيادة:
"أو ممن يعلم أن يتخذه خمرا" وقد استدل المصنف رحمه اللّه بحديثي الباب
على تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمرا وتحريم
كل بيع أعان على معصية قياسا على ذلك وليس في
حديثي الباب تعرض لتحريم بيع العنب ونحوه ممن
يتخذه خمرا لأن المراد بلعن بائعها وآكل ثمنها
بائع الخمر وآكل ثمن الخمر وكذلك بقية الضمائر
المذكورة هي للخمر ولو مجازا كما في عاصرها
ومعتصرها فإنه يؤل المعصور إلى الخمر والذي
يدل على مراد المصنف حديث بريدة الذي ذكرناه
لترتيب الوعيد الشديد على من باع العنب إلى من
يتخذه خمرا ولكن قوله حبس وقوله أو ممن يعلم
أن يتخذه خمرا يدلان على اعتبار القصد والتعمد
للبيع لمن يتخذه خمرا ولا خلاف في التحريم مع
ذلك وأما مع عدمه فذهب جماعة من أهل العلم إلى
جوازه منهم الهادوية مع الكراهة ما لم يعلم
أنه يتخذه لذلك ولكن الظاهر أن البيع من
اليهودي والنصراني لا يجوز لأنه مظنة لجعل
الخمر خمرا ويؤيد المنع مع من البيع مع ظن
استعمال المبيع في معصية أما ما أخرجه الترمذي
وقال غريب من حديث أبي أمامة أن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"ولا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا
تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام
".
ج / 5 ص -155-
باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمض فيشتريه
ويسلمه
1 - عن حكيم بن حزام
قال: "قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم ياتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي
ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال
لا تبع ما ليس عندك". رواه الخمسة.
الحديث أخرجه أيضا ابن
حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن صحيح وقد روى
من غير وجه عن حكيم انتهى. وفي بعض طرقه عبد
اللّه بن عصمة زعم عبد الحق أنه ضعيف جدا ولم
يتعقبه ابن القطان بل نقل عن ابن حزم أنه
مجهول. قال الحافظ وهو جرح مردود وقد روى
عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص وقد احتج به
النسائي ـ وفي الباب ـ عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده عند أبي داود والترمذي وصححه
والنسائي وابن ماجه قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم
"لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ماليس
عندك".
قوله: "ما ليس عندك"
أي ماليس في ملكك وقدرتك والظاهر أنه يصدق على
العبد المغصوب الذي لا يقدر لى انتزاعه ممن هو
في يده وفي الآبق الذي لا يعرف مكانه والطير
المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه ويدل على ذلك
معنى عند لغة قال الرضى أنها تستعمل في الحاضر
القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا
انتهى. فيخرج عن هذا ما كان غائبا خارجا عن
الملك أو داخلا عن الحوزو وظاهره أنه يقال لما
كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك. فمعنى
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا تبع ماليس عندك" أي ماليس حاضرا عندك ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك. قال البغوي
النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا
يملكها أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه
السلم بشروطه فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام
الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز وإن لم
يكن البيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم
قال وفي معنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع
الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله
فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلا لم يصح أيضا
عند الأكثر إلا النحل فإن الأصح فيه الصحة كما
قال النووي في زيادات الروضة وظاهر النهي
تحريم مالم يكن في ملك الأنسان ولا داخلا تحت
مقدرته وقد استثنى من ذلك فتكون أدلة جوازه
مخصصة لهذا العموم وكذلك إذا كان المبيع في
ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض.
باب من باع سلعة
من رجل ثم من آخر
1 - عن سمرة عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"أيما إمرأة زوجها وليان فهي للأول منهما وأيما رجل باع بيعا من رجلين
فهو للأول منهما".
رواه الخمسة إلا ابن ماجه لم يذكر فيه فصل
النكاح وهو يدل بعمومه على فساد بيع البائع
المبيع وإن كان في مدة الخيار.
ج / 5 ص -156-
الحديث هو من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه
منه خلاف قد تقدم وقد حسنه الترمذي وصححه أبو
زرعة وأبو حاتم والحاكم. قال الحافظ وصحته
متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة ورجاله
ثقات ورواه الشافعي وأحمد والنسائي من طريق
قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال الترمذي
الحسن عن سمرة في هذا أصح قوله: "فهي للأول
منها" فيه دليل أن المرأة إذا عقد لها ولين
لزوجين كانت لمن عقد له أول الوليين من
الزوجين وبه قال الجمهور وسواء كان دخل بها
الثاني أم لا وخالف في ذلك مالك وطاوس
والزهري. وروى عن عمر فقالوا أنها تكون
للثاني إذا كان قد دخل بها لأن الدخول أقوى
والخلاف في تفاصيل هذه المسألة بين المفرعين
طويل.
قوله: "وأيما رجحل
باع" الخ فيه دليل أن من باع شيئا من رجل ثم
باعه من آخر لم يكن للبيع الآخر حكم بل هو
باطل لأنه باع غير ما يملك إذ قد صار في ملك
المشتري الأول ولا فرق بين أن يكون البيع
الثاني وقع في مدة الخيار أو بعد أنقراضها
الأن المبيع قد خرج عن ملكة بمجرد البيع.
باب النهي عن
بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه
1 - عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع
الكالئ بالكالئ". رواه الدارقطني.
2 - وعن ابن عمر قال:
"أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت
إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ
الدراهم وأبيع بالدراهم ووآخذ الدنانير فقال
لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا
وبينكما شيء".
رواه الخمسة. وفي لفظ
بعضهم: "أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق
وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير" وفيه
دليل على جواز التصرف في الثمن قبل قبضه وإن
كان في مدة الخيار وعلى أن خيار الشرط لا يدخل
الصرف.
الحديث الأول صححه
الحاكم على شرط مسلم وتعقب بأنه تفرد به موسى
بن عبيدة الربذي كما قال الدارقطني وابن
عدي. وقد قال فيه أحمد لا تحل الرواية عنه
عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره وقال ليس في
هذا أيضا حديث يصح ولكن إجماع الناس على أنه
لا يجوز بيع دين بدين وقال الشافعي أهل الحديث
يوهنون هذا الحديث اهـ. ويؤيده ما أخرجه
الطبراني عن رافع بن خديج: "أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع كالئ دين
بدين" ولكن في إسناده موسى المذكور فلا يصلح
شاهدا والحديث الثاني صححه الحاكم وأخرجه ابن
حبان والبيهقي وقال الترمذي لا نعرفه مرفوعا
إلا من حديث سماك بن حرب وذكر أنه روى عن ابن
عمر موقوفا واخرجه النسائي موقوفا عليه ايضا
قال البيهقي والحديث تفرد برفعه سماك بن حرب
وقال شعبة
ج / 5 ص -157-
رفعه لنا سماك وأنا أفرقه.
قوله: "الكالئ
بالكالئ" هو مهموز قال الحاكم عن أبي الوليد
حسان هو بيع النسيئة كذا نقله أبو عبيد في
الغريب وكذا نقله الدارقطني عن أهل اللغة وروى
البيهقي عن نافع قال هو بيع الدين بالدين.
وفيه دليل على عدم جواز بيع الدين بالدين وهو
إجماع كما حكاه أحمد في كلامه السابق وكذا لا
يجوز بيع كل معدوم بمعدوم.
قوله: "بالبقيع" قال
الحافظ بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي في
بقيع الغرقد. قال النووي ولم يكن إذ ذاك قد
كثرت فيه القبور. وقال ابن باطيش لم أر من
ضبطه والظاهر أنه بالنون حكى ذلك عنه في
التلخيص وابن رسلان في شرح السنن قوله: "لا
بأس" فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن
الذي في الذمة بغيره وظاهره إنهما غير حاضرين
جميعا بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم فيدل
على أن ما في الذمة كالحاضر قوله: "مالم تفترقا وبينكما شيء" فيه دليل على أن جواز الاستبدال مقيد بالتقابض في المجلس لان
الذهب والفضة مالان ربويان فلا يجوز بيع
أحدهما بالآخر الا بشرط وقوع التقابض في
المجلس وهو محكى عن عمر وابنه عبد اللّه رضي
اللّه عنهما والحسن والحكم وطاوس والزهري
ومالك والشافعي وأبي حنيفة. والثوري
والأوزاعي وأحمد وغيرهم وروى عن ابن مسعود
وابن عباس وسعيد بن المسيب وهو أحد قولي
الشافعي أنه كروه أي الاستبدال المذكور
والحديث يرد عليهم: "واختلف" الأولون فمنهم
من قال يشترط أن يكون بسعر يومها كما وقع في
الحديث وهو مذهب أحمد وقال أبو حنيفة والشافعي
أنه يجوز بسعر يومها وأغلى وأرخص وهو خلاف ما
في الحديث من قوله: "بسعر يومها" وهو أخص
من حديث:
"إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا
كان يدا بيد" فيبني العام على الخاص.
باب نهي المشتري
عن بيع ما اشتراه قبل قبضه
1 - عن جابر قال: "قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
"إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه".
رواه أحمد ومسلم.
2 - وعن أبي هريرة قال:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن
يشتري الطعام ثم يباع حتى يستوفي". رواه
أحمد ومسلم. ولمسلم: "أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال
"من اشترى طعاما فلا يبيعه حتى يكتاله".
3 - وعن حكيم بن حزام
قال: "قلت يا رسول اللّه أني أشتري بيوعا فما
يحل لي منها وما يحرم على قال
"إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه".
رواه أحمد.
4 - وعن زيد بن ثابت:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن
تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى
رحالهم". رواه أبو داود والدارقطني.
ج / 5 ص -158-
5 - وعن ابن عمر قال: "كانوا يتبايعون الطعام
حزافا با على السوق فنهاهم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن يبيعوه حتى
ينقلوه". رواه الجماعة إلا الترمذي وابن
ماجه وفي لفظ في الصحيحين: "حتى يحولوه"
للجماعة إلا الترمذي:
"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه"
ولأحمد:
"من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه" ولأبي داود والنسائي: "نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى
يستوفيه".
6 - وعن ابن عباس: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس
ولا أحسب كل شيء إلا مثله".
رواه الجماعة إلا الترمذي وفي لفظ في
الصحيحين:
"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله".
حديث حكيم بن حزام أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده
العلاء ابن خالد الواسطي وثقه ابن حبان وضعفه
موسى بن إسماعيل وقد أخرج النسائي بعضه وهو
طرف من حديثه المتقدم في باب النهي عن بيع
مالا يملكه. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا
الحاكم وصححه وابن حبان وصححه أيضا قوله:
"إذا ابتعت طعاما" وكذا قوله في الحديث
الثاني: "نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم" الخ وكذا قوله: "من اشترى طعاما"
وكذلك بقية ما فيه التصريح بمطلق الطعام في
حديث الباب في جميعها دليل على أنه لا يجوز
لمن اشترى طعاما أن يبيعه حتى يقبضه من غير
فرق بين الجزاف وغيره وإلى هذا ذهب الجمهور
وروى عن عثمان التبى أنه يجزم بيع كل شيء قبل
قبضه والأحاديث ترد عليه فإن النهي يقتضي
التحريم بحقيقته ويدل على الفساد المرادف
للبطلان كما تقرر في الأصول وحكى في الفتح عن
مالك في المشهور عنه الفرق بين الجزاف وغيره
فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي
وإسحاق واحتجوا بان الجزاف يرى فيكفي فيه
التخلية والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو
موزون. وقد روى أحمد من حديث ابن عمر
مرفوعا:
"من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه" رواه أبو داود والنسائي بلفظ: "نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل
حتى يستوفيه" كما ذكره المصنف والدارقطني من
حديث جابر: "نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان
صاع البائع وصاع المشتري" ونحوه للبزار من
حديث أبي هريرة قال في الفتح بإسناد حسن قالوا
وفي ذلك دليل على أن القبض إنما سيكون شرطا في
المكيل والموزون دون الجزاف واستدل الجمهور
بإطلاق أحاديث الباب وبنص حديث ابن عمر فإنهم
صرح فيه بأنهم كانوا يبتاعون جزافا الحديث.
ويدل لما قالوا حديث حكيم بن جزام المذكور
لأنه يعم كل مبيع ويجاب عن حديث ابن عمر وجابر
ج / 5 ص -159-
الذين احتج بهما مالك ومن معه بأن التنصيص
على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلا أو
موزونا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره نعم
لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها
إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال أنه يحمل
المطلق على المقيد بالكيل والوزن وأما بعد
التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه كما في
حديث ابن عمر فيحتم المصير إلى أن حكم الطعام
متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره ورجح صاحب
ضوء النهار أن هذا الحكم أعني تحريم بيع الشيء
قبل قبضه مختص بالجزاف دون المكيل والموزون
وسائر المبيعات من غير الطعام وحكي هذا عن
مالك ويجاب عنه بما تقدم من إطلاق الطعام
والتصريح بما هو أعم منه كما في حديث حكيم
والتنصيص على تحريم بيع المكيل من الطعام
والموزون كما في حديث ابن عمر وجابر وما حكاه
عن مالك خلاف ما حكاه عنه غيره فإن صاحب الفتح
حكى عنه ما تقدم وهو مقابل لما حكاه عنه.
وكذلك روى عن مالك ما يخالف ذلك ابن دقيق
العيد وابن القيم وابن رشد في بداية المجتهد
وغيرهم وقد سبق صاحب ضوء النهار إلى هذا
المذهب ابن المنذر ولكنه لم يخصص بعض الطعام
دون بعض بل سوى بين الجزاف وغيره ونفى اعتبار
القبض عن غير الطعام وقد حكى ابن القيم في
بدائع الفوائد عن أصحاب مالك كقول ابن المنذر
ويكفي في رد هذا المذهب حديث حكيم فإنه يشتمل
بعمومه غير الطعام وحديث زيد بن ثابت فإنه صرح
بالنهي في السلع وقد استدل من خصص هذا الحكم
بالطعام بما في البخاري من حديث ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اشترى من عمر
بكرا كان ابنه راكبا عليه ثم وهبه لابنه قبل
قبضه" ويجاب عن هذا بانه خارج عن محل النزاع
لان البيع معاوضة بعوض وكذلك الهبة إذا كانت
بعوض وهذه الهبة الواقعة من النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم ليست على عوض وغاية ما في
الحديث جواز التصرف في المبيع قبل قبضه بالهبة
بغير عوض ولا يصح الالحاق للبيع وسائر
التصرفات بذلك لأنه مع كونه فاسد الاعتبار
قياس مع الفارق وأيضا قد تقرر في الأصول أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أمر
الأمة أو نهاها أمرا أو
نهيا خاصا بها ثم فعل ما يخالف ذلك ولم يقم
دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه كان
مختصا به لأن هذا الأمر أو النهي الخاصين
بالأمة في مسألة مخصوصة هما أخص من أدلة
التأسي العامة مطلقا فيبني العام على الخاص
وذهب بعض المتأخرين إلى تخصيص إلى تخصيص
التصرف الذي نهى عنه قبل القبض بالبيع دون
غيره قال فلا يحل البيع ةيحل غيره من التصرفات
وأراد بذلك الجمع بين أحاديث الباب وحديث
شرائه صلى اللّه عليه وآله وسلم للبكر ولكنه
يعكر عليه أن ذلك يستلزم الحاق جميع التصرفات
التي بعوض وبغير عوض بالهبة بغير عوض وهو
إلحاق مع الفارق وأيضا الحاقها بالهبة
المذكورة دون البيع الذي وردت بمعنه الأحاديث
تحكم والأولى الجمع بالحاق التصرفات بعوض
بالبيع فيكون نعلها قبل القبض غير جائز والحاق
التصرفات التي لا عوض فيها بالهبة المذكورة
وهذا هو الراجح ولا يشكل عليه ما قدمنا من أن
ذلك الفعل مختص بالنبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم لأن ذلك إنما هو على طريق التنزل مع ذلك
الفعل مختص بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
لأن ذلك إنما هو على طريق التنزيل مع ذلك
القائل بعد فرض أن فعله صلى اللّه عليه وآله
وسلم يخالف ما دلت عليه أحاديث الباب وقد عرفت
أنه لا مخالفة فلا اختصاص ويشهد لما ذهبنا
ج / 5 ص -160-
إليه إجماعهم على صحة الوقف والعتق قبل
القبض ويشهد له أيضا ما علل به النهي فإنه
أخرج البخاري عن طاوس قال قلت لابن عباس كيف
ذاك قال دراهم بدراهم والطعام مرجأ استفهمه عن
سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل
القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع
دراهم بدراهم ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن
عباس أنه قال لما ساله طاوس ألا تراهم
يتباعدون بالذهب والطعام مرجأ وذلك لأنه إذا
اشترى طعاما بمائة دينار ودفعها للبائع ولم
يقبض منه الطعام ثم باع الطعام إلى آخر بمائة
وعشرين مثلا فكأنه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه
ولا يخفى ان مثل هذه العلة لا ينطبق على ما
كان من التصرفات بغير عوض وهذا التعليل أجود
ما علل به النهي لأن الصحابة أعرف بمقاصد
الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا شك أن
المنع من كل تصرف قبل القبض من غير فرق بين ما
كان بعوض وما لا عوض فيه لا دليل عليه إلا
الالحاق لسائر التصرفات بالبيع وقد عرفت بطلان
الحاق مالا عوض فيه بما فيه عوض ومجرد صدق اسم
التصرف على الجميع لا يجعله مسوغا للقياس عارف
بعلم الأصول قوله: "حتى يحوزها التجار إلى
رحالهم" فيه دليل على أنه لا يكفي مجرد
القبض بل لابد من تحويله إلى المنزل الذي يسكن
فيه المشتري أو يضع فيه بضاعته وكذلك يدل على
هذا قوله في الرواية الأخرى: "حتى يحولوه"
وكذلك ما وقع في بعض طرق مسلم عن ابن عمر
بلفظ: "كنا نبتاع الطعام فبعث علينا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من يأمرنا
بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان
سواه قبل أن نبيعه" وقد قال صاحب الفتح أنه
لا يعتبر الإيواء إلى الرحال لأن الأمر به خرج
مخرج الغالب ولا يخفى أن هذه دعوى تحتاج إلى
برهان لأنه مخالفة لما هو الظاهر ولا عذر لمن
قال إنه يحمل المطلق على المقيد من المصير إلى
ما دلت عليه هذه الروايات.
قوله: "جزافا"
بتثليث الجيم والكسر أفصح من غيره وهو مالم
يعلم قدره على التفصيل. قال ابن قدامة يجوز
بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل
البائع والمشتري قدرها قوله: "ولا أحسب كل
شيء إلا مثله" استعمل ابن عباس القياس ولعله
لم يبلغه النص المقتضى لكون سائر الأشياء
كالطعام كما سلف قوله: "حتى يكتاله" قيل
المراد بالاكتيال القبض والاستيفاء كما في
سائر الروايات ولكنه لما كان الأغلب في الطعام
ذلك صرح بلفظ الكيل وهو خلاف الظاهر كما عرفت
والظاهر أن من اشترى شيئا مكايلة أو موازنة
فلا يكون قبضه الا بالكيل أو الوزن فإن قبضه
جزافا كان فاسدا وبهذا قال الجمهور كما حكاه
الحافظ عنهم في الفتح ويدل عليه حديث اختلاف
الصاعين.
باب النهي عن
بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان
1 - عن جابر قال: "نهى
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن بيع الطعام
حتى يجري فيه الصاعان صاع للبائع وصاع
للمشتري". رواه ابن ماجه والدارقطني.
2 - وعن عثمان قال:
"كنت ابتاع التمر من بطن اليهود
ج / 5 ص -161-
يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه وإذا بعت
فكل". رواه أحمد والبخاري منه بغير اسناد
كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
حديث جابر أخرجه ايضا
البيهقي وفي إسناده ابن أبي ليلى قال البيهقي
وقد روى من وجه آخر ـ وفي الباب ـ عن أبي
هريرة عند البزار بإسناد حسن. وعن أنس وابن
عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال
الحافظ. وحديث عثمان أخرجه عبد الرزاق ورواه
الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن الحسن عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مرسلا. قال
البيهقي روى موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى
بعض قوي. وقال في مجمع الزوائد إسناد حسن
واستدل بهذه الأحاديث على أن من اشترى شيئا
مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه
بالكيل الأول حتى بكيله على من اشتراه ثانيا
وإليه ذهب الجمهور كما حكاه في الفتح عنهم:
قال وقال عطاء يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا
وقيل إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه
بنسيئة لم يجز الأول والظاهر ما ذهب إليه
الجمهور من غير فرق بين بيع وبيع للأحاديث
المذكورة في الباب التي تفيد بمجموعها ثبوت
الحجة وهذا إنما هو إذا كان الشراء مكايلة
وأما إذا كان جزافا فلا يعتبر الكيل المذكور
عند أن يبيعه المشتري.
باب ما جاء في
التفريق بين ذوي المحارم
1 - عن أبي موسى قال:
"سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول
"من فرق بين والدة وولدها فرق اللّه بينه وبين
أحبته يوم القيامة".
رواه أحمد والترمذي.
2 - وعن علي عليه
السلام: "قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما
وفرقت بينهما فذكرت ذلك له فقال أدركهما
فأرجعتهما ولا تبعهما إلا جميعا". رواه
أحمد. وفي رواية: "وهب لي النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال
لي يا علي ما فعل غلامك فأخبرته فقال رده رده" رواه الترمذي وابن ماجه.
3 - وعن أبي موسى قال:
"لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من
فرق بين الوالد وولده وبين الأخ وأخيه".
رواه ابن ماجه
والدارقطني.
4 - وعن علي عليه
السلام: "أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه
ج / 5 ص -162-
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك ورد
البيع". رواه أبو داود والدارقطني.
حديث أبي أيوب أخرجه
أيضا الدارقطني والحاكم وصححه وحسنه الترمذي
وفي إسناده حي بن عبد اللّه المعافري وهو
مختلف فيه وله طريق أخرى عند البيهقي وفيها
غنقطاع لأنها من رواية العلاء بن كثير
الإسكندراني عن أبي أيوب ولم يدركه. وله
طريق أخرى عند الدارمي. وحديث أبي موسى
إسناده لا بأس به فإن محمد بن عمر بن الهياج
صدوق وطليق بن عمران مقبول. وحديث علي الأول
رجال إسناده ثقات كما قال الحافظ وقد صححه ابن
خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم
والطبراني وابن القطان وحديثه الثاني هو من
رواية ميمون بن أبي شبيب عنه وقد أعله أبو
داود بالإنقطاع بينهما وأخرجه الحاكم وصحح
إسناده ورجحه البيهقي لشواهده ـ وفي الباب ـ
عن أنس عند ابن عدي بلفظ:
"لا يولهن والد عن ولده" وفي إسناده مبشر بن عبيد وهو ضعيف ورواه من
طريق أخرى فيها إسماعيل بن عياش عن الحجاج بن
ارطأة وقد تفرد به إسماعيل وهو ضعيف في غير
الشاميين. وعن أبي سعيد عند الطبراني بلفظ:
"لا توله والدة بولدها"
وأخرجه البيهقي بإسناد ضعيف عن الزهري مرسلا:
"والأحاديث" المذكورة في الباب فيها دليل
على تحريم التفريق بين الوالدة والولد وبين
الأخوين أما بين الوالدة وولدها فقد حكي في
البحر عن الإمام يحيى أنه إجماع حتى يستغني
الولد بنفسه وقد اختلف في إنعقاد البيه فذهب
الشافعي إلى أنه لا ينعقد. وقال أبو حنيفة
وهو قول للشافعي أنه ينعقد. وقد ذهب بعض
الفقهاء إلى أنه لا يحرم التفريق بين الأب
والابن وأجاب عليه صاحب البحر بأنه مقيس على
الأم ولا يخفى أن حديث أبي موسى المذكور في
الباب يشمل الأب فالتعويل عليه أن صح أولى من
التعويل على القياس وأما بقية القرابة فذهبت
الهادوية والحنفية إلى أنه يحرم التفري بينهم
قياسا وقال الإمام يحيى والشافعي لا يحرم
والذي يدل عليه النص هو تحريم التفريق بين
الأخوة وأما بين من عداهم من الأرحام فالحاقه
بالقياس فيه نظر لأنه لا تصل منهم بالمفارقة
مشقة كما تحصل بالمفارقة بين الوالد والولد
وبين الأخ وأخيه فلا الحاق لوجود الفارق
فينبغي الوقوف على ما تناوله النص وظاهر
الأحاديث أنه يحرم التفريق سواء كان بالبيع أو
بغيره مما فيه مشقة تساوي مشقة التفريق بالبيع
إلا التفريق الذي لا اختيار فيه للمفرق
كالقسمة والظاهر أيضا أنه لا يجوز التفريق بين
من ذكر لا قبل البلوغ ولا بعده وسيأتي بيان ما
استدل به على جوازه بعد البلوغ.
5 - وعن سلمة بن الأكوع
قال: "خرجنا مع أي بكر أمره علينا رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فغزونا فزارة فلما
دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا فلما
صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة
فقتلنا على الماء من قتلنا ثم نظرت إلى عنق من
الناس فيه الذرية
ج / 5 ص -163-
والنساء نحو الجبل وأنا أعدو في أثرهم فخشيت
أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم
وبين الجبل قال فجئت بهم اسوقهم إلى أبي بكر
وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم ومعها
ابنة لها من أحسن العرب وأجمله فنفلني أبو بكر
فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة ثم بت فلم
أكشف لها ثوبا فلقيني النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم في السوق فقال يا سلمة هب لي المرأة
فقلت يا رسول اللّه لقد اعجبتني وما كشفت لها
ثوبا فسكت وتركني حتى إذا كان من الغد لقيني
في السوق فقال يا سلمة هب المرأة للّه أبوك
فقلت هي لك يا رسول اللّه قال فبعث بها إلى
مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم بتلك
المرأة". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
قوله: "فعرسنا" التعريس النزول آخر الليل
للاستراحة قوله: "شننا الغارة" شن الغارة
هو اتيان العدو من جهات متفرقة قال في القاموس
شن الغارة عليهم صبها من كل وجه كاشنها.
قوله: "عنق" أي جماعة من الناس قال في
القاموس العنق بضم وبضمتين وكأمير وصرد الجيد
ويؤنث الجمع اعناق والجماعة من الناس
والرؤساء.
قوله: "قشع من أدم" أي نطع قال في القاموس
القشع بالفتح الفر والخلق ثم قال ويثلث والنطع
أو قطعة من نطع قوله: "فلم أكشف لها ثوبا"
كناية عن عدم الجماع وقد استدل بهذا الحديث
على جواز التفريق وبوب عليه أبو داود بذلك لأن
الظاهر إن البنت قد كانت بلغت قال المصنف رحمه
اللّه وهو حجة في جوز التفريق بعد البلوغ
وجواز تقديم القبول بصيغة الطلب على الإيجاب
في الهبة ونحوها وفيه أن ماملكه المسلمون من
الرقيق يجوز رده إلى الكفار في الفداء اه.
وقد حكى في الغيث الاجماع على جواز التفريق
بعد البلوغ فإن صح فهو المستند لا هذا الحديث
لأن كون بلوغها هو الظاهر غير مسلم الا أن
يقال أنه حمل الحديث على ذلك للجمع بين الأدلة
وقد روى عن المنصور باللّه والناصر في أحد
قوليه أن حد تحريم التفريق إلى سبع وقد استدل
على جواز التفريق بين البالغين بما أخرجه
الدارقطني والحاكم من حديث عبادة بن الصامت
بلفظ: "لاتفرق
بين الأم وولدها قيل إلى
متى قال
حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية" وهذا نص على المطلوب صريح لولا إن في إسناده عبد الهل بن عمرو
الواقفي وهو ضعيف وقد رماه على ابن المديني
بالكذب ولم يروه عن سعيد بن عبد العزيز غيره
وقد استدل له الدارقطني بحديث سلمة المذكور
ولا شك إن مجموع ما ذكر من الإجماع وحديث سلمة
وهذا الحديث منتهض للاستدلال به على التفرقة
بين الكبير والصغير.
ج / 5 ص -164-
باب النهي ان يبيع حاضر لباد
1 - عن ابن عمر قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يبيع
حاضر لباد". رواه البخاري والنسائي.
2 - وعن جابر: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق اللّه بعضهم من بعض". رواه الجماعة إلا البخاري.
3 - وعن أنس قال:
"نهينا أن يبيع حضر لباد وإن كان أخاه لأبيه
وأمه". متفق عليه . ولأبي داود
والنسائي: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد وإن كان اباه
وأخاه".
4 - وعن ابن عباس: "قال
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
"لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد فقيل لابن
عباس ما قوله لا يبع حاضر لباد قال لا يكون له
سمسارا". رواه الجماعة إلا الترمذي.
قوله: "حاضر لباد"
الحاضر ساكن الحضر والبادي ساكن البادية قال
في القاموس الحضر والحاضرة والحضارة وتفتح
خلاف البادية والحضارة الأقامة في الحضر ثم
قال والحاضر خلاف البادي.وقال البدو
والبادية والبادات والبداوة خلاف الحضر وتبدي
أقام بها وتبادي تشبه بأهلها والنسبة بداوى
وبدوي وبدا القوم خرجوا إلى البادية انتهى.
قوله: "دعوا الناس"
الخ في مسند أحمد من طريق عطاء بن السائب عن
حكيم بن أبي يزيد عن أبيه حدثني أبي قال قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"دعوا الناس يرزق اللّه بعضهم من بعض فإذا
استنصح الرجل فلينصح له" ورواه البيهقي من حديث جابر مثله.
قوله: "لاتلقوا
الركبان" سيأتي الكلام عليه.
قوله: "سمسارا"
بسينين مهملتين قال في الفتح وهو في الأصل
القيم بالأمر والحافظ ثم استعمل في متولى
البيع والشراء لغيره وأحاديث الباب تدل على
أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادي من غير فرق
بين أن يكون البادي قريبا له أو أجنبيا وسواء
كان في زمن الغلاء أولا وسواء كان يحتاج إليه
أهل البلد أم لا وسواء باعه له على التدريج أم
دفعة واحدة. قالت الحنفية انه يختص المنع من
ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل لمصر
وقالت الشافعية والحنابلة أن الممنوع إنما هو
أن يجيء البلد بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في
الحال فيأتيه الحاضر فيقول ضعه عندي لأبيعه لك
على التدريج بأغلى من هذا السعر قال في الفتح
فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في
معناه قالوا وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه
الغالب فألحق من شاركه في عدم معرفة السعر من
الحاضرين وجعلت المالكية البداوة قيدا. وعن
مالك لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلى من كان
يشبهه فأما أهل القرى
ج / 5 ص -165-
الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا
داخلين في ذلك. وحكى ابن المنذر عن الجمهور
ان النهي للتحريم إذا كان البائع عالما
والمبتاع مما تعم الحاجة إليه ولم يعضه البدوي
على الحضري ولا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه
الأمور من التخصيص بمجرد الاستنباط وقد ذكر
ابن دقيق العيد فيه تفصيلا حاصله أنه يجوز
التخصيص به حيث يظهر المعنى لا حيث يكون خفيا
فاتباع اللفظ أولى ولكنه لا يطميئن الخاطر إلى
التخصيص به مطلقا فالبقاء على ظواهر النصوص هو
الأولى فيكون بيع الحاضر للبادي محرما على
العموم وسواء كان بأجرة أم لا.وروى عن
البخاري أنه حمل النهي على البيع بأجة لا بغير
أجرة فإنه من باب النصيحة. وروى عن عطاء
ومجاهد وأبي حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادي
مطلقا وتمسكوا بأحاديث النصيحة. وروى مثل
ذلك عن الهادي وقالوا إن أحاديث الباب منسوخة
واستظهروا على الجواز بالقياس على توكيل
البادي للحاضر فإنه جائز ويجاب عن تمسكهم
بأحاديث النصيحة بأنها عامة مخصصة بأحاديث
الباب - فإن قيل - إن أحاديث النصيحة وأحاديث
الباب بينها عموم وخصوص من وجه لأن بيع الحاضر
للبادي قد يكون على غير وجه النصيحة فيحتاج
فيحتاج حينئذ إلى الترجيح من خارج كما هو شأن
الترجيح بين العمومين المتعارضين فيقال المراد
بيع الحاضر للبادي الذي جعلناه أخص مطلقا هو
البيع الشرعي بيع المسلم للمسلم الذي بينه
الشارع للأمة وليس بيع الغش والخداع داخلا في
مسمى هذا البيع الشرعي كما أنه لا يدخل فيه
بيع الربا وغيره مما لا يحل شرعا فلا يكون
البيع باعتبار ما ليس بيعا شرعيا أعم من وجه
حتى يحتاج إلى طلب مرجح بين العمومين لأن ذلك
ليس هو البيع الشرعي ويجاب عن دعوى النسخ
بأنها إنما تصح عند العلم بتأخر الناسخ ولم
ينقل ذلك. وعن القياس بأنه فاسدا لاعتبار
لمصادمته النص على أن أحاديث الباب أخص من
الأدلة القاضية بجواز التوكيل مطلقا فيبني
العام على الخاص.
واعلم أنه كما لا يجوز
أن يبيع الحاضر للبادي كذلك لا يجوز أن يشتري
له وبه قال ابن سيرين والنخعي. وعن مالك
روايتان ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن أنس
بن مالك أنه قال كان يقال لا يبع حاضر لباد
وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له
شيئا ولكن في إسناده أبو هلال محمد بن سليم
الراسبي وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج أبو
عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال لقيت أنس بن
مالك فقلت لا يبع حاضر لباد أنهيتم أن تبيعوا
أو تبتاعوا لهم قال نعم قال محمد صدق أنها
كلمة جامعة ويقوى ذلك العلة التي نبه عليها
صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله دعوا الناس
يرزق اللّه بعضهم من بعض فإن ذلك يحصل بشراء
من لا خبرة له بالأثمان كما يحصل ببيعه وعلى
فرض عدم ورود نص يقضي بأن الشراء حكمه البيع
فقد تقرر إن لفظ البيع يطلق على الشراء وأنه
مشترك بينهما كما أن لفظ البيع يطلق على
الشراء وأنه مشترك بينهما كما أن لفظ الشراء
يطلق على البيع لكونه مشتركا بينهما والخلاف
في جواز استعمال المشترك في معنيه أو معانييه
معروف في الأصول والحق الجواز إن لم يتناقضا.
ج / 5 ص -166-
باب النهي عن النجش
1 - عن أبي هريرة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن يبيع
حاضر لباد وان يتناجشوا". 2 - وعن ابن عمر
قال: "نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
النجش". متفق عليهما.
قوله: "النجش بفتح
النون وسكون الجيم بعدها معجمة قال في الفتح
وهو في اللغة تنفير الصيد واستثارته من مكان
ليصاد يقال نجشت الصيد أنجشه بالضم نجشا وفي
الشرع الزيادة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة
البائع فيشتركان في الأثم ويقع ذلك بغير علم
البائع فيختص بذلك الناجش وقد يختص به البائع
كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها
به ليغر غيره بذلك. وقال ابن قتيبة النجش
الختل والخديعة ومنه قيل للصائد ناجش لأنه
يختل الصيد ويحتال له قال الشافعي النجش أن
تحضر السلعة تباع فيعطى بها الشيء وهو لا يريد
شراءها ليقتدي به السوام فيعطون بها أكثر مما
كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه. قال ابن
بطال أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله
واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك ونقل ابن
المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع
إذا وقع على ذلك وهو قول أهل الظاهر ورواية عن
مالك وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان بموطأه
البائع أو صنعته والمشهور عند المالكية في مثل
ذلك ثبوت الخيار وهو وجه للشافعية قياسا على
المصراة والأصح عندهم صحة البيع مع الأثم وهو
قول الحنفية والهادوية وقد اتفق أكثر العلماء
على تفسير النجش في الشرع بما تقدم وقيد ابن
عبد البر وابن حزم وابن العربي التحريم بأن
تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل ووافقهم
على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية وهو تقييد
للنص بغير مقتض للتقييد وقد ورد ما يدل على
جواز لعن الناجش فأخرج الطبراني عن ابن أبي
أوفى مرفوعا:
"الناجش آكل ربا خائن ملعون" وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور
موقوفا مقتصرين على قوله:
"آكل الربا خائن".
باب النهي ن
تلقي الركبان
1 - عن ابن مسعود قال:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن تلقي
البيوع".
متفق عليه.
2 -: "وعن أبي هريرة
قال
نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يتلقى الجلب قإن تلقاه انسان
فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد
السوق". رواه الجماعة إلا البخاري وفيه دليل على صحة البيع.
في الباب عن ابن عمر عند
الشيخين وعن ابن عباس عندهما أيضا قوله:
"نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن تلقي
البيوع" فيه دليل على أن التلقي محرم وقد
اختلف في هذا النهي هل يقتضي الفساد أم لا
فقيل يقتضي الفساد وقيل لا وهو الظاهر لأن
النهي ههنا لأمر خارج وهو لا يقتضيه كما تقرر
في الأصول وقد قال بالفساد المرادف للبطلان
بعض المالكية وبعض الحنابلة وقال غيرهم بعدم
الفساد لما سلف. ول قوله: صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
"فصاحب السلعة فيها بالخيار" فإنه يدل على انعقاد البيع ولو كان فاسدا لم ينعقد.
ج / 5 ص -167-
وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر الحديث الجمهور
فقالوا لا يجوز تلقي الركبان واختلفوا هل هو
محرم أو مكروه فقط حكى ابن المنذر عن أبي
حنيفة أنه أجاز التلقي وتعقبه الحافظ بأن الذي
في كتب الحنفية أنه يكره التلقي في حالتين أن
يضر بأهل البلد وأن يلبس السعر على الواردين
اه. والتنصيص على الركبان في بعض الروايات
خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكون في
الغالب راكبا وحكم الجالب الماشي حكم الراكب
ويدل على ذلك حديث أبي هريرة المذكور فإن فيه
النهي عن تلقي الجلب من غير فرق. وكذلك حديث
ابن مسعود المذكور فإن فيه النهي عن تلقي
البيوع.
قوله: "الجلب" بفتح
اللام مصدر بمعنى اسم المفعول يقال جلب الشيء
جاء به من بلد إلى بلد للتجارة.
قوله: "بالخيار"
اختلفوا هل يثبت له الخيار مطلقا أو بشرط أن
يقع له في البيع عين. ذهبت الحنابلة إلى
الأول وهو الأصح عند الشافعية وهو الظاهر
وظاهره أن النهي لأجل صنعة البائع وازالة
الضرر عنه وصيانته ممن يخدعه. قال ابن
المنذر وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على
نفع رب السلعة وإلى ذلك جنح الكوفيون
والأوزاعي قال والحديث حجة للشافعي لأنه أثبت
الخيار للبائع لا لأهل السوق اه. وقد احتج
مالك ومن معه بما وقع في رواية من النهي عن
تلقي السلع حتى تهبط الأسواق وهذا لا يكون
دليلا لمدعاهم لأنه يمكن أن يكون ذلك رعاية
لمنفعة البائع لأنها إذا هبطت الأسواق عرف
مقدار السعر فلا يخدع ولا مانع من أن يقال
العلة في النهي مرعاة نفع البائع ونفع أهل
السوق.
واعلم أنه لا يجوز
تلقيهم للبيع منهم كما لا يجوز للشراء منهم
لأن العلة التي هي مراعاة نفع الجالب أو أهل
السوق أو الجميع حاصلة في ذلك ويدل على ذلك ما
في رواية للبخاري بلفظ: "لا بيع" فإنه
يتناول البيع لهم والبيع منهم وظاهر النهي
المذكور في الباب عدم الفرق بين أن يبتدئ
المتلقي الجالب بطلب الشراء أو البيع أو العكس
وشرط بعض الشافعية في النهي أن يكون المتلقي
هو الطالب وبعضهم اشترط أن يكون المتلقي قاصدا
لذلك فلو خرج للسلام على الجالب أو للفرجة أو
لحاجة أخرى فوجدهم فبايعهم لم يتناوله النهي
ومن نظر إلى المعنى لم يفرق وهو الأصح عند
الشافعي وشرط الجويني في النهي أن يكذب
المتلقي في سعر البلد ويشتري منهم باقل من ثمن
المثل. وشرط المتولى من أصحاب الشافعي أن
يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول وشرط أبو
إسحاق الشيرازي أن يخبرهم بكساد ما معهم والكل
من هذه الشروط لا دليل عليه والظاهر من النهي
أيضا أنه يتناول المسافة القصيرة والطويلة وهو
ظاهر إطلاق الشافعية. وقال بعض المالكية
ميل. وقال بعضهم أيضا فرسخان. وقال بعضهم
يومان. وقال بعضهم مسافة قصر وبه قال الثوري
وأما ابتداء التلقي فقيل الخروج من السوق وإن
كان في البلد وقيل الخروج من البلد وهو قول
الشافعية وبالأول قال أحمد وإسحاق والليث
والمالكية.
ج / 5 ص -168-
باب النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه
إلا في المزايدة
1 - عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"لا بيع أحدكم على بيع
أخيه ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه إلا أن يأذن له".
رواه أحمد . وللنسائي:
"لا بيع أحدكم على بيع أخيه حتى يبتاع أو
يذر"
وفيه بيان أنه أراد بالبيع الشراء.
2 - وعن أبي هريرة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه". وفي لفظ:
"لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه". متفق عليه.
3 - وعن أنس: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم باع قدحا وحلسا فيمن
يزيد". رواه أحمد والترمذي.
حديث ابن عمر أخرجه أيضا
باللفظ الأول مسلم وأخرجه ايضا البخاري في
النكاح بلفظ: "نهى أن يبيع الرجل على بيع
أخيه وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك
الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" وأخرج نحو
الرواية الثانية من حديثه ابن خزيمة وابن
الجارود والدارقطني وزادوا: "إلا الغنائم
والمواريث" وحديث أنس أخرجه أيضا أبو داود
والنسائي وحسنه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من
حديث الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عنه
وأعله ابن قطان بجهل حال أبي بكر الحنفي ونقل
عن البخاري أنه قال لم يصح حديثه. ولفظ
الحديث عند أبي داود وأحمد: "أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم نادى على قدح وجلس لبعض
أصحابه فقال رجل هما علي بدرهم ثم قال آخر هما
علي بدرهمين" وفيه:
"أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة" وقد تقدم ـ وفي الباب ـ عن أبي هريرة عند الشيخين وعن عقبة بن
عامر عند مسلم.
قوله: "لا يبيع"
الأكثر بإثبات الياء على أن لا نافية ويحتمل
أن تكون ناهية وأشبعت الكسرة كقراءة من قرأ:
{أنه من يتقي ويصبر}
وهكذا ثبتت الياء في بقية ألفاظ الباب قوله:
"إلا أن يأذن له" يحتمل أن يكون استثناء من
الحكمين ويحتمل أن يختص بالأخير والخلاف في
ذلك وبيان الراجح مستوفى في الأصول ويدل على
الثاني في خصوص هذا المقام رواية للبخاري التي
ذكرناها قوله: "لا يخطب الرجل" الخ سيأتي
الكلام على الخطبة في النكاح إن شاء اللّه
قوله: "ولا يسوم" صورته أن يأخذ شيئا
ليشتريه فيقول المالك رده لأبيعك خيرا منه
بثمنه أو يقول للمالك غسترده لأشتريه منك
بأكثر وإنما يمنع من ذلك بعد استقرار الثمن
وركون أحدهما إلى الآخر فإن كان ذلك تصريحا
فقال في الفتح لا خلاف في التحريم وإن كان
ظاهرا ففيه وجهان للشافعية وقال ابن حزم إن
لفظ الحديث لا يدل على اشتراط الرون وتعقب أنه
لا بد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم لأن
السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم
اتفاقا كما حكاه في الفتح عن ابن عبد
البرفتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر
زائد على ذلك. وأما صورة البيع على البيع
والشراء
ج / 5 ص -169-
على الشراء فهو أن يقول لمن اشترى سلعة في
زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع
افسخ لأشتري منك بأزيد قال في الفتح وهذا مجمع
عليه وقد اشترى بعض الشافعية في التحريم أن لا
يكون المشتري مغبونا غبنا فاحشا وإلا جاز
البيع على البيع والسوم على السوم لحديث الدين
النصيحة وأجيب عن ذلك أن النصيحة لا تنحصر في
البيع على البيع والسوم على السوم لأنه يمكن
أن يعرفه أن قيمتها كذا فيجمع بذلك بين
المصلحتين كذا في الفتح وقد عرفت أن أحاديث
النصيحة أعم مطلقا من الأحاديث القاضية بتحريم
أنواع من البيع فيبني العام على الخاص
واختلفوا في صحة البيع المذكور فذهب الجمهور
إلى صحته مه الأثم. وذهبت الحنابلة
والمالكية إلى فساده في إحدى الروايتين عنهم
وبه جزم ابن حزم والخلاف يرجع إلى ما تقرر في
الأصول من أن النهي المقتضى للفساد هو النهي
عن الشيئ لذاته ولوصف ملازم لا لخارج قوله:
"وحلسا" بكسر الحاء المهملة وسكون اللام
كساء رقيق يكون تحت برذعه البعير قال
الجوهري. والحلس البساط أيضا ومنه حديث:
"كن حلس بيتك حتى يأتيك يد خاطئة أو ميتة قاضية" كذا في النهاية قوله: "فيمن يزيد" فيه دليل على على جواز بيع
المزايدة وهو البيع على الصفة التي فعلها
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كما سلف وحكى
البخاري عن عطاء أنه قال أدركت الناس لا يرون
بأسا في بيع المغانم فيمن يزيد ووصله ابن أبي
شيبة ن عطاء ومجاهد وروى هو وسعيد بن منصور عن
مجاهد قال لا بأس بيع من يزيد وكذلك كانت تباع
الأخماس. وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم لم يروا
بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث.
قالابن العربي لا معنى للاختصاص الجواز
بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى
مشترك اه ولعلهم جعلوا تلك الزيادة التي زادها
ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني قيدا لحديث
أنس المذكور ولكن لم ينقل أن الرجل الذي باع
عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم القدح والحلس
كانا معه من ميراث أو غنيمة فالظاهر الجواز
مطلقا أما لذلك وأما لإلحاق غيرهما بهما ويكون
ذكرهما خارجا مخرج الغالب لأنهما الغالب على
ما كانوا يعتادون البيع فيه مزايدة وممن قال
باختصاص الجواز بهما الأوزاعي وإسحاق وروى عن
النخعي أنه كره بيع المزايدة واحتج بحديث جابر
الثابت في الصحيح أنه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال في مدبر:
"من يشتريه منى"
فاشتراه نعيم ابن عبد اللّه بثمانمائة درهم"
واعترضه الإسماعيلي فقال ليس في قصة لمدبر بيع
المزايدة فإن بيع المزايدة أن يعطي به واحد
ثمنا ثم يعطي به غيره زيادة عليه نعم يمكن
الاستدلال بما أخرجه البزار من حديث سفيان بن
وهب قال: "سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم ينهى عن بيع المزايدة" ولكن في إسناده
ابن هليعة وهو ضعيف.
باب البيع بغير
إشهاد
1 - عن عمارة بن خزيمة: "أن عمه حدثه وكان من
أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه
ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ليقضيه
ج / 5 ص -170-
ثمن فرسه فأسرع النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون
الأعرابي فيساومونه بالفرس لا يشعرون أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ابتاعه فنادى
الأعرابي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حين سمع
نداء الأعرابي
أوليس قد ابتعته منك قال الأعرابي لا واللّه ما بعتك فقال النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم
بلى قد بعته فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا قال خزيمة أنا أشهد أنك قد ابتعته
فأقبل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على
خزيمة فقال
بم تشهد؟
فقال بتصديقك يا رسول اللّه فجعل شهادة خزيمة
شهادة رجلين". رواه أحمد والنسائي وأبو
داود.
الحديث سكت عنه أبو داود
والمنذري ورجال إسناده عند أبي داود ثقات.
وأخرجعه أيضا الحاكم في المستدرك قوله:
"ابتاع فرسا: "قيل هذا الفرس هو المرتجز
المذكور في أفراس رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم سمي بذلك لحسن صهيله كأنه بصهيله
ينشد رجز الشعر الذي هو أطيبه وكان أبيض وقيل
هو الطرف بكسر الطاء وقيل هو النجيب قوله:
من: "أعرابي" قيل هو سواء بن الحرث وقال
الذهبي هو سواء بن قيس المحاربي قوله:
"فاستتبعه" السين للطلب أي أمره أن يتبعه
إلى مكانه فاستخدمه إذا أمره أن يخدمه وفيه
شراء السلعة وإن لم يكن الثمن حاضرا وجواز
تأجيل البائع بالثمن إلى أن يأتي إلى منزله
قوله: "فطفق: "بكسر الفاء على اللغة
المشهورة بفتحها على اللغة القليلة.
قوله: "بالفرس"
الباء زائدة في المفعول لأن المساومة تتعدى
بنفسها تقول سمت الشيئ. قوله: "لا
يشعرون" الخ أي لم يقع من الصحابة السوم
النهي عنه بعد استقرار البيع والنهي إنما
يتعلق بمن علم لأن العلم شرط التكليف.
قوله: "لا واللّه ما
بعتك" قيل إنما أنكر هذا الصحابي البيع وحلف
على ذلك لأن بعض المنافقين كان حاضرا فأمره
بذلك وأعلمه أن البيع لم يقع صحيحا وأنه لا
إثم عليه في الحلف على أنه ما باعه فاعتقد صحة
كلامه لأنه لم يظهر له نفاقه ولو علمه لما
أغتر به وهذا وإن كان هو اللائق بجال من كان
صحابيا ولكن لا مانع من أن يقع مثل ذلك من
الذين لم يدخل حب الا يمان في قلوبهم وغير
مستنكر أن يوجد في ذلك الزمان من يؤثر العاجلة
فإنه قد كان بهذه المثابة جماعة منهم كما قال
تعالى :
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الآخِرَةَ} واللّه يغفر لنا ولهم قوله: "هلم" هلم
بضم اللام وبناء الآخر على الفتح لأنه اسم فعل
وشهيدا منصوب به وهو فعيل بمعنى فاعل أي هلم
شاهدا زاد النسائي فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قد ابتعته منك فطفق الناس يلوذون
بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والأعرابي
وهما يتراجعان وطفق الأعرابي يقول هلم شاهدا
أني قد بعتكه قوله: "بم تشهد" أي بأي شيء
تشهد عل ىذلك ولم تك حاضرا عند وقوعه. وفي
رواية للطبراني بم
ج / 5 ص -171-
تشهد ولم تكن حاضرا.
والحديث استدل به المصنف
على جواز البيع بغير إشهاد قال الشافعي لو كان
الإشهاد حتما لم يتبايع رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يعني الأعرابي من غير حضور
شهادة ومراده أن الأمر في قوله: تعالى :
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ليس على الوجوب بل هو على الندب لأن فعل النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قرينة صارفة للأمر من الوجوب إلى
الندب. وقيل هذه الآية منسوخة ب قوله:
تعالى :
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}
وقيل محكمة والأمر على الوجوب قال ذلك أبو
موسى الأشعري وبن عمرو الضحاك وابن المسيب
وجابر بن زيد ومجاهد وعطاء والشعبي والنخعي
وداود بن علي وابنه أبو بكر والطبري قال
الضحاك هي عزيمة من اللّه ولو على باقة بقل
قال الطبري لا يحل لمسلم إذا باع أو اشترى أن
يترك الإشهاد وإلا كان مخالفا لكتاب اللّه قال
ابن العربي وقول العلماء كافة أنه على الندب
وهو الظاهر وقد ترجم أبو داود على هذا الحديث
باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له
أن يحكم به وبه يقول شريح وفي البخاري أن
مروان قضى بشهادة ابن عمر وحده وأجاب عنه
الجمهور بأن شهادة ابن عمر كانت على جهة
الإخبار ويجاب أيضا عن شهادة خزيمة بأن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قد جعلها بمثابة
شهادة رجلين فلا يصح الاستدلال بها على قبول
شهادة الواحد. وذكر ابن التين أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال لخزيمة لما جعل شهادته
بشهادتين لا تعد أي تشهد على ما لم تشاهده.
وقد أجيب عن ذلك باستدلال بأن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه
وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد. وقد
تمسك بهذا الحديث جماعة من أهل البدع فاستحلوا
الشهادة لمن كان معروفا بالصدق على كل شيء
ادعاه وهو تمسك باطل لأن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم بمنزلة لا يجوز أن يحكم لغيره
بمقاربتها فضلا عن مساوتها حتى يصح الإلحاق.
أبواب بيع
الأصول والثمار
باب من باع نخلا مؤبرا
1 - عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للذي باعها الا أن
يشترط المبتاع ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه
الا أن يشترط المبتاع".
رواه ابن ماجه.
2 - وعن عبادة بن
الصامت: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها الا أن يشترط
المبتاع وقضى أن ثمرة النخل لمن أبرها الا أن
يشترط المبتاع وقضى أن مال المملوك لمن باعه
إلا أن يشترط المبتاع". رواه ابن ماجه
وعبد اللّه بن أحمد في المسند.
حديث عبادة في إسناده
انقطاع لانه من رواية إسحاق بن يحيى بن الوليد
بن عبادة بن الصامت عن عبادة ولم يدركه قوله:
"نخلا" اسم جنس ذكر ويؤنث والجمع نخيل
قوله: "بعد أن يؤبر" التأبير التشقيق
والتلقيح ومعناه شق طلع النخلة الأنثى ليذر
فيها شيء من طلع النخلة الذكر. وفيه
ج / 5 ص -172-
دليل على أن من باع نخلا وعليها ثمرة مؤبرة
لم يدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك
البائع ويدل بمفهومه على أنها إذا كانت غير
مؤبرة تدخل في البيع وتكون للمشترى وبذلك قال
جمهور العلماء وخالفهم الأوزاعي وأبو حنيفة
فقالا تكون للبائع قبل التأبير وبعده. وقال
ابن أبي ليلى تكون للمشتري مطلقا وكلا
الإطلاقين مخالف لحديثي الباب الصحيحين وهذا
إذا لم يقع شرط من المشتري بأنه اشترى الثمرة
ولا من البائع بأنه استثنى لنفسه الثمرة فإن
وقع ذلك كانت الثمرة للشارط من غير فرق بين أن
تكون مؤبرة أو غير مؤبرة. قال في الفتح لا
يشترط في التأبير أن يؤبره أحد بل لوتأبر
بنفسه لم يختلف الحكم عند جميع القائلين به
قوله: "إلا أن يشترط المبتاع" أي المشتري
بقرينة الإشارة إلى البائع بقوله: "من
باع" وظاهره أنه لا يجوز له أن يشترط بعضها
أو كلها. وقال ابن القاسم لا يجوز اشتراط
بعضها ووقع الخلاف فيما إذا باع نخلا بعضه قد
أبر وبعضه لم يؤبر فقال الشافعي الجميع
للبائع. وقال أحمد الذي قد أبر للبائع والذي
لم يؤبر للمشتري وهو الصواب قوله: "من ابتاع
عبدا" الخ فيه دليل على أن العبد إذا ملكه
سيده مالا ملكه وبه قال مالك والشافعي في
القديم. وقال في الجديد وأبو حنيفة
والهادوية أن العبد لا يملك شيئا أصلا.
والظاهر الأول لأن نسبة المال إلى المملوك
تقتضي أنه يملك وتأويله بأن المراد أن يكون
شيئا في يد العبد من مال سيده وأضيف إلى العبد
للاختصاص والانتفاع لا للملك كما يقال الجل
للفرس خلاف الظاهر. واستدل بالحديثين على أن
مال العبد لا يدخل في البيع حتى الحلقة التي
في أذنه والخاتم الذي في إصبعه والنعل التي في
رجله والثياب التي على بدنه.
وقد اختلف في الثياب على
ثلاثة أقوال الأول أنه لا يدخل شيء منها وهو
الذي نسبه الماوردي إلى جميع الفقهاء وصححه
النووي قال الماوردي لكن العادة جارية بالعفو
عنها فيما بين التجار. الثاني أنها تدخل في
مطلق البيع للعادة وبه قال أبو حنيفة وكذلك
قالت الهادوية في ثياب البذلة. الثالث يدخل
قدر ما يستر العورة.
والمذهب الأول هو الأولى
والتخصيص بالعادة مذهب مرجوح قوله: "أن مال
المملوك" فيه التسوية بين العبد والأمة.
واعلم ان ظاهر حديثي
الباب يخالف الأحاديث التي ستأتي في النهي عن
بيع الثمرة قبل صلاحها لأنه يقضي بجواز بيع
الثمرة قبل التأبير وبعده قال في الفتح والجمع
بين حديث التأبير وحديث النهي عن بيع الثمرة
قبل بدو الصلاح سهل وهو أن الثمرة في بيع
النخل تابعه للنخل وحديث النهي مستقلة وهذا
واضح جدا. اه.
باب النهي عن
بيع الثمر قبل بدو صلاحه
1 - عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع
الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع
والمبتاع". رواه الجماعة إلا الترمذيز وفي
لفظ: "نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن بيع
السنبل حتى يبيض ويأمن
ج / 5 ص -173-
العاهة" رواه الجماعة إلا البخاري وابن
ماجه.
2 - وعن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
"لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها".
رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
3 - وعن انس: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع العنب
حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد". رواه
الخمسة إلا النسائي.
4 - وعن أنس: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمرة
حتى قالوا وما تزهي قال
"تحمر وقال
إذا منع اللّه الثمرة فيم تستحل مال أخيك".
أخرجاه.
حديث أنس الأول أخرجه
أيضا ابن حبان والحاكم وصححه قوله: "يبدو"
بغير همزة أي يظهر والثمار بالمثلثة جمع ثمرة
بالتحريك وهي أعم من الرطب وغيره. قوله:
"صلاحها" أي حمرتها وصفرتها. وفي رواية
لمسلم: "ما صلاحه قال
تذهب عاهنه".
واختلف السلف هل يكفي
بدو الصلاح في جنس الثمار حتى لو بدا الصلاح
في بستان من البلد مثلا جاز بيع جميع البساتين
أو لا بد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة
أو لا بد من بدو الصلاح في كل جنس عل ىحده أو
في كل شجرة على حدة على أقوال. والأول قول
الليث وهو قول المالكية بشرط أن يكون
متلاحقا. والثاني وقول أحمد والثالث قول
الشافعية. والرابع رواية عن أحمد. قوله:
"نهى البائع والمبتاع" أما البائع فلئلا
يأكل مال أخيه بالباطل وأكا المشتري فلئلا
يضيع ماله ويساعده البائع على الباطل.
قوله: "تزهو" يقال
زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته وأزهى يزهي إذا
احمر أو اصفر هكذا في الفتح وقال الخطابي أنه
لا يقال في النخل تزهو إنما يقال تزهي لا غير
وهذه الرواية ترد عليه. قوله: "عن بيع
السنبل حتى يبيض" بضم السين وسكون النون وضم
الباء الموحدة سنابل الزرع. قال النووي
معناه يشتد حبه وذلك بدو صلاحه. قوله:
"ويأمن العاهة" هي الآفة تصيبه فيفسد لنه
إذا أصيب بها كان أخذ ثمنه من أكل أموال الناس
بالباطل. وقد أخرج أبو داود عن أبي هريرة
مرفوعا:
"إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة عن كل البلد" وفي رواية:
"رفعت العاهة عن الثمار"
النجم هو الثريا وطلوعها صباحا يقع في أو فصل
الصيف وذلك عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز
وابتداء نضج الثمار. واخرج أحمد من طريق
عثمان بن عبد اللّه بن سراقة سألت ابن عمر عن
بيع الثمار فقال: "نهى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة
قلت ومتى ذلك قال
"حتى تطلع الثريا"
قوله: "حتى يسود" زاد مالك في الموطأ:
"فإنه إذا أسود ينجو من العاهة والآفة"
واشتداد الحب قوته وصلابته قوله: "إذا منع
اللّه الثمرة" الخ صرح الدارقطني بأن هذا
مدرج من قول أنس وقال رفعه خطأ ولكنه قد ثبت
مرفوعا من حديث
ج / 5 ص -174-
جابر عن مسلم بلفظ:
"إن بعت من أخيك ثمرا قأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم
تأخذ مال أخيك بغير حق"
وسيأتي وفيه دليل على وضع الجوائح لأن معناه
أن الثمر إذا تلف كان الثمن المدفوع بلا عوض
فكيف يأكله البائع بغير عوض وسيأتي الكلام على
وضع الجوائح.
والأحاديث المذكورة في
الباب تدل على أنه لا يجوز بيع الثمر قبل بد
وصلاحها. وقد اختلف في ذلك على أقوال الأول
أنه باطل مطلقا وهو قول ابن أبي ليلى والثوري
وهو ظاهر كلام الهادي والقاسم قال في الفتح
ووهم من نقل الإجماع فيه. الثاني أنه إذا
شرط القطع لم تبطل وإلا بطل وهو قول الشافعي
وأحمد ورواية عن مالك ونسبه الحافظ إلى
الجمهور وحكاه في البحر عن المؤيد باللّه.
الثالث أنه يصح أن لم يشترط البقية وهو قول
أكثر الحنفية قالوا والنهي محمول على بيع
الثمار قبل أن توجد أصلا. وقد حكى صاحب
البحر الإجماع على عدم جواز بيع الثمر قبل
خروجه. وحكى أيضا الأتفاق على عدم جواز بيعه
قبل صلاحه بشرط البقاء وحكى أيضا عن الإمام
يحيى أنه صخ جواز البيع بشرط القطع الإجماع
وحكى عنه أيضا أنه يصح البيع بشرط القطع
إجماعا ولا يخفى مافي دعوى بعض هذه الإجماعات
من المجازفة وحكى في البحر عن زيد بن علي
والمؤيذ باللّه والإمام يحيى وأبي حنيفة
والشافعي أنه يصح بيع الثمار قبل الصلاح تمسكا
بعموم قوله: تعالى :
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قال أبو حنيفة ويؤمر بالقطع والمشهور من مذهب الشافعي هوماقدمنا
فأما البيع بعد الصلاح فيصح مع شرط القطع
إجماعا ويفسد مع شرط البقاء إجماعا ان جهلت
المدة كذا في البحر. قال الامام يحيى فإن
علمت صح عند القاسمية إذا لاغرر. وقال
المؤيد باللّه لا يصح النهي عن بيع شرط
واعلم إن ظاهر أحاديث
الباب وغيرها المنع من بيع الثمر قبل الصلاح
وإن وقوعه في تلك الحالة باطل كما هو مقتضى
النهي ومن ادعى إن مجرد شرط القطع يصحح البيع
قبل الصلاح فهومحتاج إلى دليل يصلح لتقييد
أحاديث النهي ودعوى الإجماع على ذلك لا صحة
لها لما عرفت من أن أهل القول الأول يقولون
بالبطلان مطلقا وقد عول المجوزون مع شرط القطع
في الجواز على علل مستنبطة فجعلوها مقيدة
للنهي وذلك مما لا يفيد من لم يسمح بمفارقة
النصوص لمجرد خيالات عارضة وشبه واهية تنهار
بأيسر تشكيك فالحق ماقاله الأولون من عدم
الجواز مطلقا وظاهر النصوص أيضا أن البيع بعد
ظهور الصلاح صحيح سواء شرط البقاء أم لم يشرط
لان الشارع قد جعل النهي ممتد إلى غاية بدو
الصلاح وما بعد الغاية مخالف لما قبلها ومن
ادعى ان شرط البقاء مفسد فعليه الدليل ولا
ينفعه في المقام ما ورد من النهي عن بيع وشرط
لأنه يلزمه في تجويزه للبيع قبل الصلاح مع شرط
القطع وهو بيع وشرط وايضا ليس كل شرط في البيع
منهيا عنه فإن اشتراط جابر بعد بيعه للجمل أن
يكون له ظهره إلى المدينة قد صححه الشارع كما
سيأتي وهو شبيه بالشرط الذي نحن بصدده وتقدم
ايضا جواز البيع مع الشرط في النخل والعبد ل
قوله: إلا أن يشترط المبتاع وأما دعوى
الإجماع على الفساد بشرط البقاء كما سلف فدعوى
فاسدة فإنه قد حكى صاحب الفتح عن الجمهور أنه
يجوز البيع بعد
ج / 5 ص -175-
الصلاح بشرط البقاء ولم يحك الخلاف في ذلك
إلا عن أبي حنيفة وأما بيع الزرع أخضر وهو
الذي يقال له القصيل فقال ابن رسلان في شرح
السنن اتفق العلماء المشهورون على جواز بيع
القصيل بشرط القطع وخالف سفيان الثوري وابن
أبي ليلى فقالا لا يصح بيعه بشرط القطع وقد
اتفق الكل على أنه لا يصح بيع القصيل من غير
شرط القطع وخالف ابن حزم الظاهري فأجاز بيعه
بغير شرط تمسكا بان النهي إنما ورد عن السنبل
قال ولم يأت في منع بيع الزرع مذ نبت إلى أن
يسنبل نص أصلا. وروى عن أبي إسحاق الشيباني
قال سألت عكرمة عن بيع القصيل فقال لابأس فقلت
إنه يسنبل فكرهه اه كلام ابن رسلان ـ والحاصل
ـ إن الذي في الأحاديث النهي عن بيع الحب حتى
يشتد وعن بيع السنبل حتى يبيض فما كان من
الزرع قد سنبل أو ظهر فيه الحب كان بيعه
اشتداد حبه غير جائز وأما قبل أن يظهر فيه
الحب والسنابل فإن صدق على بيعه حينئذ إنه
مخاضرة كما قال البعض إنها بيع الزرع قبل أن
يشتد لم يصح بيعه لورود النهي عن المخاضرة كما
تقدم في باب النهي عن بيوع الغرر لأن التفسير
المذكور صادق على الزرع الأخضر قبل أن يظهر
فيه الحب والسنابل وهو الذي يقال له القصيل
ولكن الذي في القاموس إن المخاضرة بيع الثمار
قبل بدو صلاحها وكذا من شروح الحديث فلا
يتناول الزرع لأن الثمار حمل الشجر كما في
القاموس وسيأتي في تفسير المحاقلة عند البعض
ما يرشد إلى انها بيع الزرع قبل أن تغلظ سوقه
فان صح ذلك فذاك وإلا كان الظاهر ماقاله ابن
حزم من جواز بيع الفصيل مطلقا.
5 - وعن جابر قال:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة"
وفي لفظ بدل المعاومة: "وعن بيع السنين".
6 - وعن جابر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع
الثمر حتى يبدو صلاحه" وفي رواية: "حتى
يطيب" وفي رواية: "حتى يطعم".
7 - وعن زيد بن أبي
أنيسة عن عطاء عن جابر: "أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة
والمخابرة وأن يشتري النخل حتى يشقه وإلا شقاه
أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن
يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن
يباع النخل با وساق من التمر والمخابرة الثلث
والربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء أسمعت
جابرا يذكر هذا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال نعم". متفق على جميع ذلك
إلا الأخير فإنه ليس لأحمد.
قوله: "المحاقلة" قد
اختلف في تفسيرها فمنهم من فسرها بما في
الحديث فقال هي بيع الحقل بكيل
ج / 5 ص -176-
من الطعام معلوم وقال أبو عبيد هي بيع
الطعام في سنبله والحقل الحرث وموضع الزرع.
وقال الليث الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن
تغلظ سوقه وأخرج الشافعي في المختصر عن جابر
أن الحاقلة أن يبيع الرجل الرجل الزرع بمائة
فرق من الحنطة. قال الشافعي وتفسير المحاقلة
والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وأن يكون من رواية
من رواه. وفي النسائي عن رافع ابن خديج
والطبراني عن سهل بن سعد أن الحاقلة مأخوذة من
الحقل جمع حقلة. قال الجوهري وهي الساحات
جمع ساحة. والزرع قد تشعب ورقه وظهر وكثر أو
إذا استجمع خروج نباته أو مادام أخضر وقد أحقل
في الكل والمحاقل المزارع والمحاقلة بيع الزرع
قبل بدو صلاحه أو بيعه في سنبله بالحنطة أو
المزارعة بالثلث أو الربع أو أقل أو أكثر
واكتراء الأرض بالحنطة اه وقال مالك المحاقلة
أن تكرى الأرض ببعض ما ينبت منها وهي المخابرة
ولكنه يبعد هذا عطف المخابرة عليها في
الأحاديث قوله: "والمزابنة" بالزاي
والموحدة والنون. قال في الفتح هي مفاعلة من
الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة وهو الدفع
الشديد ومنه سميت الحرب الزبون لشدة الدفع
فيها: وقيل للبيع المخصوص مزابنة كأن كل
واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه أو لأن
أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع
البيع لفسخه وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة
بإمضاء البيع اه وقد فسرت بما في الحديث أعني
بيع النخل باوساق من التمر وفسرت بهذا وبيع
العنب بالزبيب كما في الصحيحين وهذا أصل
المزابنة وألحق الشافعي بذلك كل بيع مجهول أو
معلوم من جنس يجري الربا في نقده وبذلك قال
الجمهور. ووقع في البخاري عن ابن عمر أن
المزابنة أن يبيع الثمر بكيل أن زاد فلى وأن
نقص فعلي. وفي مسلم عن نافع المزابنة أن
يبيع الثمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي.
وفي مسلم عن نافع المزابنة بيع ثمر النخل
بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا وبيع
الزرع بالحنطة كيلا وكذا في البخاري. وقال
مالك أنها بيع كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله
ولا وزنه ولا عدده إذا بيع بشيء مسمى من الكيل
وغير سواء كان يجري فيه الربا أم لا قال ابن
عبد البر نظر مالك إلى معنى المزابنة لغة وهي
المدافعة. قال في الفتح وفسر بعضهم المزابنة
بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه وهو خطأ قال
والذي تدل عليه الأحاديث في تفسيرها أولى.
وقيل أن المزابنة المزارعة وفي القاموس الزبن
بيع كل ثمر على شجرة بتمر كيلا قال والمزابنة
بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر. وعن مالك
كل جزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه أو
بيع مجهول من جنسه أو هي بيع المغابنة في
الحنس الذي لا يجوز فيه الغين اهـ .
قوله: "والمعاومة"
هي بيع الشجر أعواما كثيرة وهي مشتقة من العام
كالمشاهرة من الشهر. وقيل هي غكتراء الأرض
سنين وكذلك بيع السنين هو أن يبيع ثمر النخلة
لأكثر من سنة في عقد واحد وذلك لنه بيع غرر
لكونه بيع مالم يوجد وذكر الرافعي وغيره لذلك
تفسيرا آخر وهو أن يقول بعتك هذا سنة على أنه
إذا انقضت السنة فلا يبيع بيننا وأرد أنا
الثمن وترد أنت المبيع قوله: "والمخابرة"
سيأتي تفسيرها والكلام عليها في كتاب المساقاة
والمزارعة قوله: "حتى يطيب" هذه الرواية
وما بعدها من قوله:
ج / 5 ص -177-
حتى يطعم ينبغي أن يقيد بهما سائر الروايات
المذكورة.
قوله: "حتى يشقه"
بضم أوله ثم شين معجمة ثم قاف. وفي رواية
للبخاري يشقح وهي الأصل والهاء بدل من الحاء
وإشقاح النخل إحمراره وإصفراره كما في الحديث
والاسم الشقحة بضم الشين المعجمة وسكون القاف
بعدها مهملة.
وقد استدل بأحاديث الباب
ونحوها على تحريم المحاقلة والمزابنة وما
شاركهما في العلة قياسا وهي إما مظنة الربا
لعدم علم التساوي أو الغرر وعلى تحريم بيع
السنين وعلى تحريم بيع الثمر قبل صلاحه وقد
تقدم الكلام عليه وقد وقع الاتفاق على تحريم
بيع الرطب بالتمر في غير العرايا وعلى تحريم
بيع الحنطة في سنابلها بالحنطة منسلة وعلى
تحريم بيع العنب بالزبيب ولا فرق عند جمهور
أهل العلم بين الرطب والعنب على الشجر وبين ما
كان مقطوعا منهما وجوز أبو حنيفة بيع الرطب
المقطوع بخرصه من اليابس.
باب الثمرة
المشتراة يلحقها جائحة
1 - عن جابر: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وضع الجوائح". رواه أحمد والنسائي وأبو
داود. وفي لفظ لمسلم: "أمر بوضع
الجوائح". وفي لفظ قال:
"أن بعت من أخيك تمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم
تأخذ مال أخيك بغير حق"
رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي الباب عن عائشة عند
البيهقي بنحوه وفي إسناده حارثة ابن أبي
الرجال وهو ضعيف ولكنه في الصحيحين عنها مختصر
وعن أنس وقد تقدم في باب بيع الثمرة قبل بدو
صلاحها.
قوله: "الجوائح" جمع
جائحة وهي الآفة التي تصيب الثمار فتهلكها
يقال جاحهم الدهر واجتاحهم بتقديم الجيم على
الحاء فيهما إذا أصابهم بمكروه عظيم ولا خلاف
أن البرد والقحط والعطش شجائحة وكذلك كل ما
كان آفة سماوية وأما ما كان من الآدميين
كالسرقة ففيه خلاف منهم من لم يره جائحة
تشبيها بالآفة السماوية.
وقد اختلف أهل العلم في
وضع الجوائح إذا بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها
وسلمها البائع للمشتري بالتخلية ثم تلفت
بالجائحة قبل أوان الجذاذ فقال الشافعي وأبو
حنيفة وغيره من الكوفيين والليث لا يرجع
المشتري على البائع بشيء قالوا وإنما ورد وضع
الجوائح فيما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها
بغير شرط القطع فيحمل مطلق الحديث في رواية
جابر على ما قيد به في حديث أنس المتقدم.
واستدل الطحاوي على ذلك بحديث أبي سعيد:
"أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
"تصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال
"خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" أخرجه مسلم وأصحاب
ج / 5 ص -178-
أبواب الشروط في البيع
باب اشتراط منفعة المبيع وما في معناها
1 - عن جابر: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا
فأراد أن يسيبه قال ولحقني النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فدعا لي وضبه فسار سيرا لم يسر
مثله فقال
بعنيه فقلت لا ثم قال
بعنيه
فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي".
متفق عليه . وفي لفظ
لأحمد والبخاري: "وشرطت ظهره إلى
المدينة".
قوله: "أعيا"
الأعياء التعب والعجز عن السير قوله:
"بعنيه" زاد في رواية متفق عليها:
"بوقية" وفي أخرى بخمس أواق. وفي أخرى
أيضا بأوقيتين ودرهم أو درهمين وفي بعضها
بأربعة دنانير. وفي بعضها بثمانمائة. وفي
بعضها بعشرين دينارا. وقد جمع بين هذه
الروايات بما لا يخلو عن تكلف. واستدل بهذا
على جواز طلب البيع من المالك قبل عرض المبيع
للبيع.
قوله: "حملانه" بضم
الحاء المهملة والمراد الحمل عليه وتمام
الحديث في الصحيحين: "فلما بلغت أتيته بالجمل
فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال
أتراني ما كستك لا آخذ جملك خذ جملك ودراهمك
فهو لك"
وللحديث ألفاظ فيها اختلاف كثير وفي بعضها طول
وهو يدل على جواز البيع مع
السنن قال فلما لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار بالعاهات ولم
يأخذ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ممن
باعها منه دل على أن وضع الجوائح ليس على
عمومه.
وقال الشافعي في القديم
هي ضمان البائع فيرجع المشتري عليه بنا دفعه
من الثمن وبه قال أحمد وأبو عبيد القاسم بن
سلام وغيرهم قال القرطبي وفي الأحاديث دليل
واضح على وجوب اسقاط ما اجتيح من الثمرة عن
المشتري ولا يلتفت إلى قول من قال إن ذلك لم
يثبت مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم من قول أنس بل الصحيح رفع ذلك من حديث
جابر وأنس وقال مالك ان أذهبت الجائحة دون
الثلث لم يجب الوضع وان كان الثلث فأكثر وجب ل
قوله: صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"الثلث والثلث كثير"
قال أبو داود لم يصح في الثلث شيء عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو رأي أهل
المدينة. والراجح الوضع مطلقا من غير فرق
بين القليل والكثير وبين البيع قبل بدو الصلاح
وبعده وما أحتج به الأولون من حديث أنس
المتقدم يجاب عنه بأن التنصيص على الوضع مع
البيع قبل الصلاح لا ينافي الوضع مع البيع
بعده ولا يصلح مثله لتخصيص ما دل على وضع
الجوائح ولا لتقييده. وأما ما احتج به
الطحاوي فغير صالح للاستدلال به على محل
النزاع لأنه تصريح فيه بأن ذهاب ثمرة ذلك
الرجل كان بعاهات سماوية وأيضا عدم نقل تضمين
الثمرة لا يصلح للاستدلال به لانه قد نقل ما
يشعر بالتضمين على العموم فلا ينافيه عدم
النقل في قضية خاصة وسيأتي أحاديث أبي سعيد في
كتاب التفليس ويأتي في شرحه بقية الكلام على
الوضع.
ج / 5 ص -179-
استثناء الركوب وبه قال الجمهور وجوزه مالك
إذا كانت مسافة السفر قريبة وحدها بثلاثة
أيام. وقال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون لا
يجوز ذلك سواء قلت المسافة أو كثرت واحتجوا
بحديث النهي عن بيع وشرط وحديث النهي عن
الثنيا وأجابوا عن حديث الباب بأنه قصة عين
تدخلها الاحتمالات ويجاب بأن حديث النهي عن
بيع وشرط مع ما فيه من المقال هو أعم من حديث
الباب مطلقا فيبني العام على الخاص. وأما
حديث النهي عن الثنيا فقد تقدم تقييده بقوله:
"الا أن يعلم" وللحديث فوائد مبسوطة في
مطولات شروح الحديث.
باب النهي عن
جمع شرطين من ذلك
1 - عن عبد اللّه بن عمر
رضي اللّه عنه: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال
"لا يحل سلف ولا شرطان في بيع ولا ربح مالم
يضمن ولا بيع ما ليس عندك". رواه الخمسة الا ابن ماجه فإن له منه:
"ربح مالم يضمن وبيع ما ليس عندك" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
الحديث صححه أيضا ابن
خزيمة والحاكم وأخرجه ابن حبان والحاكم أيضا
بلفظ:
"لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع" وهو عند هؤلاء كلهم من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده ووجد في النسخ الصحيحة من هذا
الكتاب عن عبد اللّه بن عمر بدون واو والصواب
إثباتها. وأخرجه ابن حزم في المحلى والخطابي
في المعالم والطبراني في الأوسط والحاكم في
علوم الحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده بلفظ: "نهى عن بيع وشرط" وقد استغربه
النووي وابن أبي الفوارس قوله: "لا يحل سلف
وبيع" قال البغوي المراد بالسلف هنا
القرض. قال أحمد هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه
عليه بيعا ويزداد عليه وهو فاسد لانه إنما
يقرضه على أن يجابيه في الثمن وقد يكون السلف
بمعنى السلم وذلك مثل أن يقول أبيعك عبدي هذا
بألف على أن تسلفني مائة في كذا وكذا أو يسلم
إليه في شيء ويقول لم يتهيأ المسلم فيه عندك
فهو بيع لك وفي كتب جماعة من أهل البيت عليهم
السلام أن السلف والبيع صورته أن يريد الشخص
أن يشتري السلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء
وعنده ان ذلك لا يجوز فيحتال فيستقرضه الثمن
من البائع ليعجله إليه حيلة والأولى تفسير
الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية أو اللغوية
أو العرفية أو المجاز عند تعذر الحمل على
الحقيقة لا بما هو معروف في بعض المذاهب غير
معروف في غيره وقد عرفت الكلام في جواز بيع
الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء.
قوله: "ولاشرطان في
بيع" قال البغوي هو أن يقول بعتك هذا العبد
بألف نقدا أو بألفين فهذا بيع واحد تضمن شرطين
يختلف المقصود فيه باختلافهما ولا فرق بين
شرطين وشروط وهذا التفسير مروي عن زيد بن علي
وأبي حنيفة وقيل معناه أن يقول بعتك ثوبي بكذا
وعلى قصارته وخياطته فهذا فاسد عند أكثر
العلماء وقال أحمد إنه صحيح وقد أخذ بظاهر
الحديث بعض أهل العلم فقال إن شرط
ج / 5 ص -180-
في البيع شرطا واحدا صح وإن شرط شرطين أو
أكثر لم يصح فيصح مثلا أن يقول بعتك ثوبي على
أن أخيطه ولا يصح أن يقول على أن أقصره
وأخيطه. ومذهب الأكثر عدم الفرق بين الشرط
والشرطين واتفقوا على عدم صحة ما فيه شرطان
قوله: "ولا ربح مالم يضمن" يعني لا يجوز
أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها مثل أن يشتري
متاعا ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع فهذا
البيع باطل وربحه لا يجوز لأن المبيع في ضمان
البائع الأول وليس في ضمان المشتري منه لعدم
القبض.
قوله: "ولا بيع ماليس
عندك" وقد قدمنا الكلام عليه في باب النهي
عن بيع مالا يملكه.
باب من اشترى
عبدا بشرط أن يعتقه
1 - عن عائشة: "أنها
أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترطوا ولاءها
فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق". متفق عليه ولم يذكر البخاري لفظة أعتقيها.
قوله: "بريرة" هي
بفتح الباء الموحدة وبراءين بينهما تحتية بوزن
فعيلة مشتقة من البرير وهو ثم الأراك وقيل
أنها فعلية من البر بمعنى مفعولة أي مبرورة أو
بمعنى فاعلة كرحيمة أي بارة وكانت لناس من
الأنصار كما وقع عند أبي نعيم وقيل لناس من
بني هلال قاله ابن عبد البر. وقد ذكر المصنف
رحمه اللّه ههنا هذا الطرف من الحديث
للاستدلال به على جواز البيع بشرط العتق
وسيأتي الحديث بكماله قريبا قال النووي قال
العلماء الشرط في البيع أقسام. أحدها يقتضيه
إطلاق العقد كشرط تسليمه. الثاني شرط فيه
مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا. الثالث
اشتراط العتق في العبد وهو جائز عند الجمهور
لهذا الحديث. الرابع ما يزيد على مقتضى
العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته
فهو باطل.
باب أن من شرط
الولاء أو شرطا فاسدا لغا وصح العقد
1 - عن عائشة: "قالت
دخلت عليّ بريرة وهي مكاتبة فقالت اشتريني
فأعتقيني قلت لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي
قلت لا حاجة لي فيك فسمع بذلك النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أو بلغه فقال
ما شأن بريرة فذكرت عائشة ما قالت فقال
اشتريها فأعتقيها ويشترطوا ماشاؤا
قالت فاشتريتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الولاء لمن أعتق وان اشترطوا مائة شرط".
رواه البخاري. ولمسلم
معناه. وللبخاري في لفظ آخر:
"خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق".
2 - وعن ابن عمر: "ان
عائشة أرادت أن تشتري جارية تعتقها
ج / 5 ص -181-
فقال أهلها نبيعكها على ان ولاءها لنا فذكرت
ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال
"لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق". رواه البخاري والنسائي وأبو داود وكذلك مسلم لكن قال فيه عن
عائشة جعله من مسندها.
3 - وعن أبي هريرة قال:
"أرادت عائشة أن تشتري جارية تعتقها فأبي
أهلها الا ان يكون الولاء لهم فذكرت ذلك لرسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق".
رواه مسلم.
قوله: "اشتريها" في
ذلك دليل على جواز بيع المكاتب إذا رضي لولم
يعجز نفسه وبه قال أحمد وربيعة والأوزاعي
والليث وأبو ثور ومالك والشافعي في احد قوليه
واختاره ابن جرير وابن المنذر وغيرهما على
تفاصيل لهم في ذلك كذا في الفتح وإلى مثل ذلك
ذهب الهادي وأتباعه. وقال أبو حنيفة
والشافعي في أصح القولين عنه وبعض المالكية
أنه لا يجوز بيعه مطلقا ويروى عن ابن مسعود
وأجابوا عن حديث الباب بأن بريرة عجزت نفسها
بدليل استعانتها لعائشة كما في كثير من
الروايات ويجاب بأنه ليس في استعانتها لعائشة
ما يستلزم العجز قوله: "ويشترطوا ماشاؤا"
فيه دليل على أن شرط البائع للعبد أن يكون
الولاء له لا يصح بل الولاء لمن أعتق باجماع
المسلمين قوله: "وان اشترطوا مائة شرط"
قال النووي أي لو اشترطوا مائة مرة توكيدا
فالشرط باطل وإنما حمل ذلك على التوكيد لأن
الدليل قد دل على بطلان جميع الشروط التي ليست
في كتاب اللّه فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة
فإنها لو زاد عليها كان الحكم كذلك.
قوله: "واشترطي لهم
الولاء" استشكل صدور الأذن منه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بشرط فاسد في البيع واختلف
العلماء في ذلك فمنهم من أنكر الشرط في الحديث
فروى الخطابي في المعالم بسنده إلى يحيى بن
أكثم نه أنكر ذلك وعن الشافعي في الأم الاشارة
إلى تضعيف هذه الرواية التي فيها الأذن
بالاشتراط لكونه انفرد بها هشام بن عروة دون
أصحاب أبيه وأشار غيره إلى أنه روي بالمعنى
الذي وقع له وليس كما ظن وأثبت الرواية آخرون
وقالوا هشام ثقة حافظ والحديث متفق على صحته
فلا وحه لرد ثم اختلفوا في توجيه ذلك فقال
الطحاوي أن اللام في قولهم: "لهم" بمعنى
على كقوله تعالى: :
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}
وقد أسند هذا البيهقي في المعرفة عن الشافعي
وجزم به الخطابي عنه وهو مشهور عن المزني.
وقال النووي أن هذا تأويل ضعيف وكذلك قال ابن
دقيق العيد وقال آخرون الأمر في قوله:
"اشترطي" للإباحة أي اشترطي لهم أولا فإن
ذلك لا ينفعهم ويقوي هذا قوله: "وبشترطوا ما
شاؤا: "وقيل أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قد كان أعلم الناس أن اشتراط الولاء باطل
واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة فلما
أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه
أطلق الأمر مريدا به التهديد كقوله تعالى :
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فكأنه قال اشترطي لهم الولاء فسيعلمون أن
ذلك لا ينفعهم ويؤيد هذا ما قال صلى اللّه
عليه وآله وسلم بعد ذلك:
"ما بال رجال يشترطون شروطا" الخ فوبخهم بهذا القول
ج / 5 ص -182-
مشيرا إلى أنه قد تقدم منه بيان إبطال إذ لو
لم يتقدم منه ذلك لبدأ ببيان الحكم لا
بالتوبيخ بعدم المقتضى له إذ هم يتمسكون
بالبراءة الأصلية وقال الشافعي أنه أذن في ذلك
لقصدان يعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك
ويرتدع به غيرهم وكان ذلك من باب الأدب وقيل
معنى اشتراطي اتركي مخالفتهم فيما يشترطونه
ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه مراعاة
لتنجيز العتق لتشوف الشرع إليه. وقال النووي
أقوى الأجوية أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه
القصة وأن سببه المبالغة في الزجر عن هذا
الشرط لمخالفته حكم الشرع وهو كفسخ الحج إلى
العمرة كان خاصا بتلك الحجة مبالغة في إزالة
ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج
ويستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم
إزالة أشدهما وتعقب بأ،ه استدلال بمختلف فيه
على مختلف فيه وتعقبه ابن دقيق العيد بأن
التخصيص لا يثبت إلا بدليل. وقال ابن الجوزي
ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان
مقارنا للعقد فيحمل على أنه كان سابقا للعقد
فيكون الأمر بقوله: "اشترطي" مجرد وعد لا
يجب الوفاء به وتعقب باستبعاد أن يأمر النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم شخصا أن يعد مع علمه
بأنه لا يفي بذلك الوعد. وقال ابن حزم كان
الحكم ثابتا لجواز اشتراط الولاء لغير المعتق
فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان ذلك
جائزا فيه ثم نسخ بخطبته صلى اللّه عليه وآله
وسلم وهو بعيد قوله: "فإنما الولاء لمن
أعتق" فيه إثبات الولاء للمعتق ونفيه عما
عداه كما تقتضيه إنما الحصرية واستدل بذلك على
أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع
بينه وبين رجل محالفة. ولا للملتقط وسيأتي
الكلام على بقية هذا الحديث في كتاب العتق إن
شاء اللّه تعالى.
باب شرط السلامة
من الغبن
1 - عن ابن عمر قال ذكر:
"رجل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أنه يخدع في البيوع فقال
"من بايعت فقل لا خلابة".
متفق عليه.
2 - وعن أنس: "أن رجلا
على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان يبتاع وكان في عقدته يعني في عقله ضعف
فأتى أهله لنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقالوا يا رسول اللّه احجر على فلان فإنه
يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه ونهاه فقال يا نبي
اللّه إني لا أصبر عن البيع فقال
إن كنت غير تارك للبيع ها وها ولا خلابة".
رواه الخمسة وصححه
الترمذي. وفيه صحة الحجر على السفيه لأنهم
سألوه أياه وطلبوه منه وأقرهم عليه ولو لم يكن
معروفا عندهم لما طلبواه ولا أنكر عليهم.
3 - وعن ابن عمر: "أن
منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة فحبلت
لسانه فكان إذا بايع يخدع في البيع فقال له
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
ج / 5 ص -183-
بايع وقل لا خلابة ثم أنت بالخيار ثلاثا قال
ابن عمر فسمعته يبايع ويقول لا خذابة لا
خذابة". رواه الحميدي في مسنده فقال حدثنا
سفيان عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر
فذكره.
4 - وعن محمد بن يحيى
ابن حبان قال هو جدي منقذ بن عمر وكان رجلا قد
اصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه وكان لا يدع
ذلك التجارة فكان لا يزال يغبن فأتى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال
إذا أنت بايعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سعة ابتعتها بالخيار ثلاث
ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على
صاحبها". رواه البخاري في تاريخه وابن ماجه والدارقطني.
حديث أنس أخرجه أيضا
الحاكم. وحديث ابن عمر الثاني أخرجه أيضا
البخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه وفي
إسناده محمد بن إسحاق - وفي الباب - عن عمر بن
الخطاب عند الشافعي وابن الجارود والحاكم
والدارقطني وفيه أن الرجل اسمه حبان بن منقذ
أخرجه أيضا عنه الدارقطني والطبراني في الأوسط
وقيل أن القصة لمنقذ والد حبان كما في حديث
الباب. قال النووي وهو الصحيح وبه جزم عبد
الحق وجزم ابن طلاع بأنه حبان بن منقذ وتردد
الخطيب في المبهمات وابن الجوزي في التنقيح
قال ابن الصلاح وأما رواية افشتراط فمنكرة لا
أصل لها قوله: "لا خلابة" بكسر المعجمة
وتخفيف اللام أي لا خديعة قال العلماء لقنه
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا القول
ليتلفظ به عند البيع فيطلع به صاحبه على أنه
ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير
القيمة ويرى له ما يرى لنفسه والمراد أنه لو
ظهر غبن رد الثمن واسترد المبيع واختلف
العلماء في هذا الشرط هل كان خاصا بهذا الرجل
أم يدخل فيه جميع من شرط هذا الشرط فعند أحمد
ومالك في رواية عنه والمنصور باللّه ووالإمام
يحيى أنه يثبت الرد لكل من شرط هذا الشرط
ويثبتون الرد بالغبن لمن لم يعرف قيمة السلع
وقيده بعضهم بكون الغبن فاحشا وهو ثلث القيمة
عنده قالوا بجامع الخدع الذي لأجله أثبت النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم لذلك الرجل الخيار
وأجيب بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إنما جعل لهذا الرجل الخيار للضعف الذي كان في
عقله كما في حديث أنس المذكور فلا يلحق به إلا
من كان مثله في ذلك بشرط أن يقول هذه المقالة
ولهذا روى أنه كان إذا غبن يشهد رجل من
الصحابة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد
جعله بالخيار ثلاثا فيرجع في ذلك وبهذا يتبين
أنه لا يصح الاستدلال بمثل هذه القصة على ثبوت
الخيار لكل مغبون وإن كان صحيح العقل ولا ثبوت
الخيار لمن كان ضعيف العقل إذا غبن ولم يقل
هذه المقالة وهذا مذهب الجمهور وهو الحق
واستدل بهذه القصة على ثبوت الخيار لمن قال لا
خلابة سواء وجد غشا أو عيؤبا أم لا ولا يؤيده
حديث ابن عمر الآخر والظاهر أنه لا يثبت
الخيار إلا إذا وجدت خلابة إلا إذا لم توجد
ج / 5 ص -184-
لأن السبب الذي ثبت الخيار لأجله هو موجود
ما نفاه منها فإذا لم يوجد فلا خيار واستدل
بذلك أيضا على جواز الحجر للسفه كما أشار إليه
المصنف وغيره وهو استدلال صحيح لكن بشرط أن
يطلب ذلك من الإمام أو الحاكم قرابة من كان في
تصرفه سفه كما في حديث أنس قوله: "في
عقدته" العقدجة العقل كما يشعر بذلك التفسير
المذكور في الحديث وفي التلخيص العقدة الرأي
وقيل هي العقدة في اللسان كما يشعر بذلك ما في
رواية ابن عمر أنها خبلت لسانه وكذلك قوله
فكسرت لسانه وعدم افصاحه بلفظ الخلابة حتى كان
يقول لا خذابة بابدال اللام ذالا معجمة. وفي
رواية لمسلم أنه كان يقول لاخنابة بابدال
اللام نونا ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى :
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} ولم يذكر في القاموس الا عقدة اللسان قوله: "سفع" بالسين
المهملة ثم الفاء ثم العين المهملة أي ضرب
والمأمومة التي بلغت أم الرأس وهي الدماغ أو
الجلدة الرقيقة التي عليه: "قوله: "ثم أنت
بالخيار ثلاثا" استدل به على أن مدة هذا
الخيار ثلاثة أيام من دون زيادة قال في الفتح
لانه حكم ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على
أقصى ما ورد فيه ويؤيده جعل الخيار في المصراة
ثلاثة أيام واعتبار الثلاث في غير موضع واغرب
بعض المالكية فقال إنما قصره على ثلاث لأن
معظم بيعه كان في الرقيق وهذا يحتاج إلى دليل
ولا يكفي فيه مجرد الاحتمال انتهى. قوله:
"وعن محمد بن يحيى بن حبان" بفتح الحاء
المهملة وهو غير صاحب الصحيح المعروف بابن
حبان بكسر الحاء.
باب إتيان خيار
المجلس
1 - عن حكيم بن حزام:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى
يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما
وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".
2 - وعن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما
لصاحبه أختر وربما قال أو يكون بيع الخيار" وفي لفظ:
"إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار
ما لم يتفرقا وكانا جميعا أويخير أخدهما الآخر
فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب
البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد
منهما البيع فقد وجب البيع".
متفق على ذلك كله. وفي لفظ:
"كل بيعين لا بيع حتى يتفرقا الا بيع
الخيار"
متفق عليه أيضا. وفي لفظ
"المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم
يتفرقا الا بيع الخيار"
.
وفي لفظ:
"إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما
بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما
عن خيار فإذا
ج / 5 ص -185-
كان بيعهما عن خيار فقد وجب قال نافع وكان
ان عمر رحمه اللّه إذا بايع رجلا فأراد أن لا
يقيله قام فمشى هنية ثم رجع". أخرجاهما.
قوله: "البيعان"
بتشديد التحتانية يعني البائع والمشتري والبيع
هو البائع أطلق على المشتري على سبيل التغليب
أو لأن كل واحد من اللفظين يطلق على الآخر كما
سلف.
قوله: "بالخيار"
بكسر الخاء المعجمة اسم من الاختيار أو
التخيير وهو طلب خير الأمرين من امضاء البيع
أو فسخه والمراد بالخيار هنا خيار المجلس.
قوله: "مالم يفترقا" قد اختلف هل المعتبر
التفرق بالأبدان أو بالأقوال فابن عمر حمله
على التفرق بالأبدان كما في الرواية المذكورة
عنه في الباب وكذلك حمله أبو برزة الأسلمي حكى
ذلك عنه أبو داود: قال صاحب الفتح ولا يعلم
لهما مخالف من الصحابة قال أيضا ونقل ثعلب عن
الفضل بن سلمة أنه يقال افترقا بالكلام وتفرقا
بالأبدان ورده ابن العربي بقوله:
{وماتفرق الذي أوتوا الكتاب}
فإنه ظاهر في التفريق بالكلام لأنه بالاعتقاد
وأجيب بأنه من لازمه في الغالب لان من خالف
آخر في عقيدته كان مستدعيا لمفارقته اياه
ببدنه ولا يخفى ضعف هذا الجواب والحق حمل كلام
الفضل على الاستعمال بالحقيقة وإنما استعمل
أحدهما في موضع الآخر اتساعا انتهى. ويؤيد
حمل التفرق على تفرق الأبدان ما رواه البيهقي
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ:
"حتى يتفرقا من كانهما"
وروايات حديث الباب بعضها بلفظ التفرق وبعضها
بلفظ الأفتراق كم عرفت فإذا كان حقيقة كل واحد
منهما مخالفة لحقيقة الآخر مكا سلف فينبغي أن
يحمل أحدهما على المجاز توسعا وقد دل الدليل
على إرادة حقيقة التفرق بالابدان فيحمل ما دل
على التفرق بالأقوال على معناه المجازي ومن
الأدلة الدالة على إرادة التفرق بالأبدان قوله
في حديث ابن عمر المذكور مالم يتفرقا وكانا
جميعا. وكذلك قوله وإن تفرقا بعد أن تبايعا
ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع فإن
فيه البيان الواضح إن التفرق بالبدن. قال
الخطابي وعلى هذا وجدنا أمر الناس في عرف
اللغة وظاهر الكلام فإذا قيل تفرق الناس كان
المفهوم منه التميز بالأبدان قال ولو كان
المراد تفرق الأقوال كما يقول أهل الرأي لخلا
الحديث عن الفائدة وسقط معناه وذلك ان العلم
محيط بأن يشتري ما لم يوجد منه قبول المبيع
فهو بالخيار وكذلك البائع خياره في ملكه ثابت
قبل أن يعقد البيع وهذا من العلم العام الذي
استقر بيانه قال وثبت ان المتبايعين هما
المتعاقدان والبيع من الأسماء المشتقة من
أفعال الفاعلين ولا يقع حقيقة الا بعد حصول
الفعل منهم كقولهم زان وسارق وإذا كان كذلك
فقدصح أن المتبايعين هما المتعاقدان وليس بعد
العقد تفرق إلا التمييز بالأبدان انتهى.
فتقرر ان المراد بالتفرق
المذكور في الباب تفرق الأبدان وبهذا تمسك من
أثبت خيار المجلس وهم جماعة من الصحابة منهم
علي صلوات اللّه عليه وأبو برزة الأسلمي وابن
عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم من التابعين
شريح والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة نقل
ذلك عنهم البخاري. ونقل ابن المنذر القول به
أيضا عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب
من أهل المدينة
ج / 5 ص -186-
وعن الحسن البصري والأوزاعي وابن جريج
وغيرهم وبالغ ابن حزم فقال لا تعرف لهم مخالف
من التابعين إلا النخعي وحده ورواية مكذوبة عن
شريح والصحيح عنه القول به ومن أهل البيت
الباقر والصادق وزين العابدين وأحمد بن عيسى
والناصر والإمام يحيى نقل ذلك عنهم صاحب
البحر. وحكاه أيضا عن الشافعي وأحمد وإسحاق
وأبي ثور وذهبت المالكية الا ابن حبيب
والحنفية كلهم وإبراهيم النخعي إلى انها إذا
وجبت الصفقة فلا خيار وحكاه صاحب البحر عن
الثوري والليث. والأمامية وزيد بن علي
والقاسمية والعنبري. قال ابن حزم لهم سلفا
الا إبراهيم وحده وهذا الخلاف إنما خهو بعد
التفرق بالأقوال وأما قبله فالخيار ثابت
اجماعا ما في البحر. ولأهل القول الآخر
أجوبة عن الأحاديث القاضية بثبوت خيار المجلس
فمنهم من رده لكونه معارضا لما هو أقوى منه
نحو قوله تعالى :
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قالوا ولو ثبت خيار المجلس لكانت الآية غير مفيدة لأن الاشهاد إن
وقع قبل التفرق لم يطابق الأمر وإن وقع بعد
التفرق لم يصادف محلا. وقوله تعالى :
{تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} فإنا تدل على أنه بمجرد الرضا يتم البيع وقوله تعالى :
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
لأن الراجع عن موجب العقد قبل التفرق لم يف به
ومن ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"المسلمون على شروطهم"
والخيار بعد العقد يفسد الشرط. ومنه حديث
التحالف عند اختلاف المتبايعين لاقتضائه
الحاجة إلى اليمين وذلك يستلزم لزوم العقد ولو
ثبت خيار المجلس لكان كافيا في رفع العقد لا
يخفى إن هذه الأدلة على فرض شمولها لمحل
النزاع أعم مطلقا فيبنى العام على الخاص
والمصير إلى الترجيح مع امكان الجمع غير جائز
كما تقرر في موضعه ومن أهل القول الثاني من
أجاب عن أحاديث خيار المجلس بأنها منسوخة بهذه
الأدلة.
قال في الفتح ولا حجة في
شيء من ذلك لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال
والجمع بين الدليلين مهما أمكن لا يصار معه
إلى الرجيح والجمع هنا ممكن بين الأدلة
المذكورة بغير تعسف ولا تكلف انتهى. وأجاب
بعضهم بأن إثبات خيار المجلس مخالف للقياس
الجلي في الحاق ما قبل التفرق بما بعده وهو
قياس فاسد الأعتبار لمصادمته النص. وأجاب
بعضهم بأن التفرق بالأبدان محمول على
الأستحباب تحسينا للمعاملة مع المسلم ويجاب
عنه بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا
الدليل وهذا يجاب عن قول من قال إنه محمول على
الاحتياط للخروج من الخلاف وقيل أنه يحمل
التفرق المذكور في الباب على التفرق في
الأقوال كما في عقد النكاح والاجارة. قال في
الفتح وتعقب بأنه قياس مع ظهور الفارق لأن
البيع ينقل منه ملك رقبة المبيع ومنفعته بخلاف
ماذكر.
وقيل المراد بالمتبايعين
المتساومان قال في الفتح ورد بأنه مجاز فالحمل
على الحقيقة أو ما يقرب منها أولى. وقد احتج
الطحاوي على ذلك بآيات وأحاديث استعمل فيها
المجاز وتعقب بأنه لا يلزم من استعمال المجاز
في موضع استعماله في كل موضع. قال البيضاوي
ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين لحمله
التفرق على الأقوال وحمله للمتبايعين على
المتساومين وأيضا فكلام الشارع يصان عن الحمل
عليه لأنه يصير تقديره إن المتساومين إن شاء
عقده البيع وإن شاء لم يعقداه وهو تحصيل حاصل
لأن كل أحد يعرف ذلك. ولأهل القول الآخر
أجوبة غير هذه
ج / 5 ص -187-
فمنها ما سيأتي في آخر الباب ومنها غيره وقد
بسطها صاحب الفتح وأجاب عن كل واحد منها وقد
ذكرنا هنا ما كان تحتاج منها إلى الجواب
وتركنا ما كان ساقطا فمن أحب الاستفاء ليرجع
إلى المطولات وقد اختلف القائلون بأن المراد
بالتفرق تفرق بالأبدان هل له حد ينتهي إليه أم
لا والمشهور الراجح من مذاهب العلماء على
ماذكره الحافظ أن ذلك موكولا إلى العرف فكل ما
عد في العرف تفرقا حكم به وما لا فلا قوله:
"فإن صدقا وبينا" أي صدق البائع في إخبار
المشتري وبين العيب إن كان في السلعة وصدق
المشتري في قدر الثمن وبين العيب إن كان في
الثمن ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى
واحد وذكر أحدهما تأكيدا للأخر قوله: "محقت
بركة يبعهما" يحتمل أن يكون على ظاهره وأن
شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد فمحق
بركته وإن كان مأجورا والكاذب مأزورا ويحتمل
أن يكون ذلك مختصا بمن وقع منه التدليس بالعيب
دون الأخر ورجحه ابن أبي حمزة قوله: "أو
يقول أحدهما لصاحبه أختر" وربما قال أو يكون
بيع الخيار قد اختلف العلماء في المراد بقوله
ألا بيع الخيار فقال الجمهور هو استثناء من
امتداد الخيار إلى التفرق والمراد أنهما إن
اختارا مضاء البيع قبل التفرق فقد لزم البيع
حنئذ وبطل اعتبار التفرق فالتقدير ألا البيع
الذي جرى فيه التخاير وقيل استثناء من انقطاع
الخيار بالتفرق والمراد بقوله أو يخير أحدهما
الأخر أي فيشترط الخيار مدة معينة فلا ينقضي
الخيار بالتفرق بل يبقى حتى تمضي المدة حكاه
ابن عبد البر عن أبي ثور ورجح الأول بأنه أقل
في الإضمار ولا يخفى أن قوله في هذا الحديث
فإن خير احدهما الأخر فتبايعا على ذلك فقد وجب
البيع معين للاحتمال الأول وكذلك قوله في
الرواية الأخرى فإن كان بيعهما عن خيار فقد
وجب وفي رواية للنسائي إلا أن يكون البيع كان
عن خيار فإن كان البيع عن خيار وجب البيع وقيل
هو استثناء من إثبات خيار المجلس والمعني أو
خير أحدهما الأخر فيختار عدم ثبوت خيار المجلس
فينتفي الخيار قال الفتح وهذا أضعف هذه
الاحتمالات وقيل المراد بذلك أنهما بالخيار ما
لم يتفرقا إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق وإلا
أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق قال
في الفتح وهو قول يجمع التأويلين الأولين
ويؤيده ما وقع في رواية للبخاري في لفظ:
"إلا اليبع الخيار او يقول لصاحبه اختر إن
حملت أو علي التقسيم لا على الشك".
قوله: "أو يخير بإسكان الراء عطفا على قوله مالم يتفرقا
ويحتمل نصب الراء على أن أو بمعنى الا أن كما
قيل انها كذلك في قوله أو يقول أحدهما لصاحبه
اختر.
قوله: "قال نافع وكان
ابن عمر" وهو موصول بإسناد الحديث ورواه
مسلم من طريق ابن جريج عن نافع وهو ظاهر في إن
ابن عمر كان يذهب إلى أن التفرق المذكور
بالأبدان كما تقدم.
3 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال
"البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن
يكون صفقة خيار ولا يحل له ان يفارقه خشية أن
يستقيله".
رواه الخمسة إلا ابن ماجة.
ج / 5 ص -188-
ورواه
الدارقطني وفي لفظ:
"حتى يتفرقا من مكانهما".
4 - وعن ابن عمر قال: "بعت من أمير المؤمنين
عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر فلما
تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية
أن يرادني البيع وكانت السنة أن المتبايعين
بالخيار حتى يتفرقا". رواه البخاري.
وفيه دليل على أن الرؤية حال العقد لا تشترط
بل تكفي الصفة أو الرؤية المتقدمة.
حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا البيهقي وحسنه
الترمذي وفي الباب عن أبي بزرة عند أبي داود
وابن ماجة بإسناد رجاله ثقات: "أن رجلا باع
فرسا بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما
يعني البائع والمشتري فلما أصبح من الغد حضر
الرحيل فقام الرجل إلى فرسه يسرجه فندم فأتى
الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفعه إليه
فقال بيني وبينك أبو بزرة صاحب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فاتيا أبا بزرة فقال
اترضيان ان أقضي بينكما بقضاء رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم
"البيعان بالخيار ما لم يفترقا"زاد
في رواية أنه قالم ما أراكما افترقتما ـ وفي
الباب ـ أيضا عن سمرة عند النسائي وعن ابن
عباس عند ابن حبان والحاكم والبيهقي وعن جابر
عند البزار والحاكم وصححه.
قوله: "صفقة خيار" بالرفع على ان كان تامة
وصفقة فاعلها والتقدير الا أن توجد أو تحدث
صفقة خيار والنصب على إن كان ناقصة واسمها
مضمر وصفته خبر والتقدير الا أن تكون الصفقة
صفقة خيار والمراد أن المتبايعين إذا قال
أحدهما لصاحبه أختر إمضاء البيع أو فسخه
فاختار أحدهما تم البيع وإن لم يتفرقا كما
تقدم قوله: "خشية أن يستقيله" بالنصب على
أنه مفعول له واستدل بهذا أنه القائلون بعدم
ثبوت خيار المجلس وقد تقدم ذكرهم قالوا لأن في
هذا الحديث دليلا على أن صاحبه لا يملك الفسخ
إلا من جهة الاستقالة وأجيب بان الحديث حجة
عليهم لا لهم ومعناه لا يحل له أن يفارقه بعد
البيع خشية أن يختار فسخ البيع فالمراد
بالاستقالة فسخ النادم منهما للبيع وعلى هذا
حمله الترمذي وغيره من العلماء قالوا ولو كانت
الفرقة بالكلام لم يكن له خيار بعد البيع ولو
كان المراد حقيقة الاستقالة لم تمنعه من
المفارقة لأنها لا تختص بمجلس العقد وقد أثبت
في أول الحديث الخيار ومده إلى غاية التفرق
ومن المعلوم أن من له الخيار لا يحتاج إلى
الاستقالة فتعين حملها على الفسخ وحملوا نفي
الحل على الكراهة لأنه لا يليق بالمرء وحسن
معاشرة المسلم لا أن اختيار الفسخ حرام.
قوله: "رجعت على عقبي" الخ قيل لعله لم
يبلغ ابن عمر حديث عمرو بن شعيب المذكور في
الباب ويمكن أن يقال أنه بلغه ولكنه عرف أنه
لا يدل على التحريم كما تقدم. والمراد بقوله
بالوادي وادي القرى.
قوله: "أن يرادني" بتشديد الدال وأصله
يراددني أي يطلب منه استرداده قوله: "وكانت
السنة" الخ يعني أن هذا هو السبب في خروجه
من بيت عثمان وأنه فعل ليجب البيع ولا يبقى
لعثمان خيار في فسخه.
ج / 5 ص -189-
أبواب الربا
قال الزمخشري في الكشاف
كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة
والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو
الجمع. وقال في الفتح الربا مقصور وحكى مده
وهو شاذ وهو من ربا يربو فيكتب بالألف ولكن
وقع في خط المصاحف بالواو اه قال الفراء إنما
كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من
أهل الحيرة ولغتهم الربو فعلموهم الخط على
صورة لغتهم قال وكذا قرأه أبو سماك العدوي
بالواو وقراه حمزة والكسائي بالإمالة بسبب
كسرة الراء وقرأه الباقون بالتفخيم لفتحة
الباء قال ويجوز كتبه بالألف والواو والياء
اه. وتثنيته ربو أن وأجاز الكوفيون كتابة
تثنيته بالياء بسبب الكسر في أوله وغلطهم
البصريون. قال في الفتح وأصل الزيادة إما في
نفس الشيء كقوله تعالى :
{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}
وأما في مقابلة كدرهم بدرهمين فقيل هو درهمين
فقيل هو حقيقة فيهما. وقيل حقيقة في الأول
مجازو في الثاني حقيقة شرعية ويطلق الربا على
كل مبيع محرم اه ولا خلاف بين المسلمين في
تحريم الربا وإن اختلفوا في تفاصيله.
باب التشديد فيه
1 - عن ابن مسعود:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه
وكاتبه".
رواه الخمسة وصححه الترمذي غير أن لفظ
النسائي:
"آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا
ذلك ملعونون على لسان محمد صلى اللّه عليه
وآله وسلم يوم القيامة".
2 - وعن عبد اللّه بن
حنطلة عسيل الملائكة قال قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست
وثلاثين زنية".
رواه أحمد.
حديث ابن مسعود أخرجه
أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه وأخرجه مسلم من
حديث جابر بلفظ: "إن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
لعن آكل الربا وموكله وشاهديه هم سواء" وفي الباب عن علي عليه السلام عند النسائي وعن أبي جحفة تقدم في
أول البيع وحديث عبد اللّه بن حنظلة وأخرجه
أيضا الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع
الزوائد ورجال أحمد رجال الصحيح ويشهد له حديث
البراء عند ابن جرير بلفظ: "الربا إثنان
وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه"
وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ:
"الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه"
وأخرج عنه جرير نحوه وكذلك أخرج عنه نحوه ابن
أبي الدنيا وحديث عبد اللّه بن مسعود عند
الحاكم وصححه بلفظ:
"الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح
أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" قوله: "آكل الربا" بمد الهمزة ومؤكله بسكون
ج / 5 ص -190-
الهمزة بعد الميم ويجوز إبدالها واوا أي
ولعن مطعمه غيره وسمي آخذ المال آكلا ودافعه
مؤكلا لأن المقصود منه الأكل وهو أعظم منافعه
وسببه إتلاف أكثر الأشياء: قوله:
"وشاهديه" رواية أبي داود بالافراد
والبيهقي وشاهديه أو شاهده: قوله وكاتبه فيه
دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك وكذلك
الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم
فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في
الوعيد ـ ومن جملة ـ ما يدل على تحريم كتابة
الربا وشهادته وتحليل الشهادة والكتابة في
غيره قوله تعالى :
{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وقوله تعالى :
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فأمر بالكتابة والإشهاد فيما أحله وفهم منه تحريمهما فيما حرمه:
قوله: "أشد من ست وثلاثين" الخ يدل على أن
معصية الربا من أشد المعاصي لأن المعصية التي
تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة
والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها لا
شك أنها تجاوزت الحد في القبح وأقبح منها
استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ولهذا جعلها
الشارع أربى الربا وبعد الرجل يتكلم بالكلمة
التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا
جاهه فيكون أثمه عند اللّه أشد من إثم من زنا
ست وثلاثين زنية هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل
نسأل اللّه تعالى السلامة آمين آمين.
باب ما يجري فيه
الربا
1 - عن أبي سعيد قال قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا
بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا
مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا
منهما غائبا بناجز".
متفق عليه. وفي لفظ: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر
والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح
مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى
الآخذ والمعطى فيه سواء"
رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ:
"لاتبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا
وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" رواه أحمد ومسلم.
2 - وعن أبي هريرة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا
بمثل"
رواه أحمد ومسلم والنسائي.
3 - وعن أبي هريرة أيضا
عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير
والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو
استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه"
رواه مسلم.
4 - وعن فضالة بن عبيد
عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"لا تبيعوا الذهب
ج / 5 ص -191-
بالذهب إلا وزنا بوزن" رواه مسلم والنسائي وأبو داود.
قوله: "الذهب بالذهب"
يدخل في الذهب جميع أنواعه من مضروب ومنقوش
وجيد ورديء وصحيح ومكسر وحلى وتبر وخالص
ومغشوش. وقد نقل النووي وغيره الاجماع على
ذلك. قول:
"إلا مثل بمثل" هو مصدر في موضع الحال أي الذهب يباع
بالذهب موزونا بموزون أو مصدر مؤكد أي يوزن
وزنا بوزن. وقد جمع بين المثل والوزن في
رواية مسلم المذكورة: قوله: "ولا تشفوا"
بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء
رباعي من أشف والشف بالكسر الزيادة ويطلق على
النقص والمراد هنا لا تفضلوا قوله: "بناجز"
بالنون والجيم والزاي أي لا تبيعوا مؤجلا
بحال. ويحتمل أن يراد بالغائب أعم من المؤجل
كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا
والناجز الحاضر: قوله: "والفضة بالفضة"
يدخل في ذلك جميع أنواع الفضة كما سلف في
الذهب: قوله: "والبر بالبر" بضم الباء
وهو الحنطة والشعير بفتح أوله ويجوز الكسر وهو
معروف وفيه رد على من قال أن الحنطة والشعير
صنف واحد وهو مالك والليث والأوزاعي وتمسكوا
بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: "الطعام بالطعام" كما سيأتي ويأتي الكلام على ذلك: قوله: "فمن زاد" الخ فيه
التصريح بتحريم ربا الفضل وهو مذهب الجمهور
للأحاديث الكثيرة في الباب وغيرها فإنها قاضية
بتحريم بيع هذه الأجناس بعضها بعض متفاضلا.
وروى عن ابن عمر أنه يجوز ربا الفضل ثم رجع عن
ذلك. وكذلك روى عن ابن عباس واختلف في رجوعه
فروى الحاكم انه رجع عن ذلك لما ذكر له أبو
سعيد حديثه الذي في باب واستغفر اللّه وكان
ينهي عنه أشد النهي. وروى مثل قولهما عن
أسامة ابن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم وسعيد
بن المسيب وعروة بن الزبير واستدلوا على جواز
ربا الفضل بحديث أسامة عند الشيخين وغيرهما
بلفظ:
"إنما الربا في النسيئة"
زاد مسلم في رواية عن ابن عباس:
"لا ربا فيما كان يدا بيد" وأخرج الشيخان والنسائي عن أبي المنهال قال سألت زيد بن أرقم
والبراء بن عازب عن الصرف فقالا نهى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن بيع الذهب
بالورق دينا. وأخرج مسلم عن أبي نضرة قال
سألت ابن عباس عن الصرف فقال إلا يدا بيد قلت
نعم قال فلا بأس فأخبرت ابا سعيد فقال أو قال
ذلك انا سنكتب إليه فلا يفتيكموه وله من وجه
آخر عن أبي نضرة سألت ابن عمر وابن عباس عن
الصرف فلم يريا به بأسا وأني لقاعد عند أبي
سعيد فسألته عن الصرف فقال مازاد فهو ربا
فأنكرت ذلك لقولهما فذكر الحديث قال فحدثني
أبو صهبا أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه. قال
في الفتح واتفق العلماء على صحة حديث أسامة
واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد.
فقيل أن حديث أسامة منسوخ لكن النسخ لا يثبت
بالاحتمال.
وقيل المعنى في قوله:
"لا ربا" الربا الأغلظ الشديد التحريم
المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب
لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء
غيره وإنما القصد نفى الأكمل الأصل وأيضا نفى
تحريم ربى الفضل من حديث أسامة إنما هو
المفهوم فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته
بالمنطوق ويحمل حديث
ج / 5 ص -192-
أسامة
عام لأنه يدل على نفي ربا الفضل عن كل شيء
سواء كان من الأجناس المذكورة في أحاديث الباب
أم لا فهو أعم منها مطلقا. فيخصص هذا
المفهوم بمنطوقها. وأما ما أخرجه مسلم عن
ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يدا بيد كما
تقدم فليس ذلك مرويا عن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا
الفضل منطوقه ولو كان مرفوعا لما رجع ابن عباس
واستغفر لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم وقد
روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند ان
سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّه يحدثان عن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بما يدل
على تحريم ربا الفضل وقال حفظتما من رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما لم أحفظ
وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال كان ذلك برأيي
وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فتركت رأيي إلى حديث
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلى
تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو
عام مخصص بأحاديث الباب لأنها أخص منها
مطلقا. وأيضا الأحاديث القاضية بتحريم ربا
الفضل ثابتة عن جماعة من الصثحابة في الصحيحين
وغيرهما قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد
وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي هريرة
وهشام بن عامر والبراء وزيد بن أرقم وفضالة بن
عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال
اه. وقد ذكر المصنف بعض ذلك في كتابه هذا
وخرج الحافظ في التلخيص بعضها فلو فرض معارضة
حديث أسامة لها من جميع الوجوه وعدم إمكان
الجمع أو الترجيح بما سلف لكان الثابت عن
الجماعة أرجح من الثابت عن الواحد: قوله:
"ولا الورق بالورق" بفتح الواو وكير الراء
وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما كذا في
الفتح وهو الفضة وقيل بكسر الواو المضروبة
وبفتحها المال. والمراد هنا جميع أنواع
الفضة مضروبة وغير مضروبة: قوله: "إلا وزنا
بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" الجمع بين هذه
الألفاظ لقصد التأكيد أو للمبالغة. قوله:
"إلا ما اختلفت ألوانه" المراد أنه ما
اختلفا في اللون اختلافا يصير به كل واحد
منهما جنسا غير جنس مقابله فمعناه معنى ما
سيأتي من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"إذا
اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم"
وسنذر إن شاء اللّه ما يستفاد منه.
5 - وعن أبي بكرة قال: "نهى النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب
والأسواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب
كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا"
أخرجاه وفيه دليل على جواز الذهب بالفضة
مجازفة.
6 - وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"الذهب بالورق ربا الاهاء وهاء والبر بالبر ربا الاهاء وهاء والشعير
بالشعير ربا الاهاء وهاء والتمر بالتمر ربا
إلا هاء وهاء". متفق عليه.
ج / 5 ص -193-
7 - وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
"الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر
بالتمر والملح بالملح سواء بسواء يدا بيد فإذا
اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان
يدا بيد".
رواه أحمد ومسلم. وللنسائي وابن ماجه وأبو
داود نحوه في آخره:
"وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا" وهو صريح في كون البر والشعير جنسين.
8 - وعن معمر بن عبد
اللّه قال: "كنت أسمع النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول
الطعام بالطعام مثلا بمثلا وكان طعامنا يومئذ
الشعير".
رواه أحمد ومسلم.
9 - وعن الحسن عن عبادة
وأنس بن مالك: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال
ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل
فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به". رواه الدارقطني.
حديث أنس وعبادة أشار
إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده
الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه
جماعة. وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا
ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من
الأحاديث: قوله: "كيف شئنا" هذا الإطلاق
مقيد بما في حديث عبادة من قوله: "إن كان يدا
بيد" فلا يد في بيع الربويات ببعض من
التقابض ولا سيما في الصرف وهو بيع الدارهم
بالذهب وعكسه فإنه متفق على اشتراطه. وظاهر
هذا الإطلاق والتفويض إلى المشيئة انه يجوز
بيع الذهب بالفضة والعكس وكذلك سائر الأجناس
الربوية إذا بيع بعضها ببعض من غير تقييد بصفة
من الصفات غير صفة القبض ويدخل في ذلك بيع
الجزاف وغيره: قوله: "إلا هاء وهاء"
بالمد فيهما وفتح الهمزة وقيل بالكسر وقيل
بالسكون وحكى القصر بغير همز وخطأها الخطابي
ورد عليه النووي وقال هي صحيحة لكن قليلة.
والمعنى خذ وهات وحكى بزيادة كاف مكسورة ويقال
هاء يكسر الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى
خذ. وقال ابن الأثير هاء وهاء هو أن يقول كل
واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده وقيل
معناهما خذ وأعط قال وغير الخطابي يجيز فيه
السكون. وقال ابن مالك هاء اسم فعل بمعنى
خذ. وقال الخليل هاء كلمة تستعمل عند
المناولة والمقصود من قوله هاء وهاء أن يقول
كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان
في المجلس قال فالتقدير لا تبيعوا الذهب
ج / 5 ص -194-
بالورق الا مقولا بين المتعاقدين هاء
وهاء: قوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف"
الخ ظاهر هذا انه لا يجوز بيع جنس ربوي بجنس
آخر الا مع القبض ولا يجوز مؤجلا ولو اختلفا
في الجنس والتقدير كالحنطة والشعير بالذهب
والفضة وقيل يجوز مع الأختلاف المذكور وإنما
يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسا
المتفقين تقديرا كالفضة بالذهب والبر بالشعير
إذ لا يعقل التفاضل والاستواء الا فيما كان
كذلك ويجاب بأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص النصوص
وتقييدها وكون التفاضل والاستواء لا يعقل في
المختلفين جنسا وتقديرا ممنوع والسند أن
التفاضل معقول لو كان الطعام يوزن أو النقود
تكال ولو في بعض الأزمان والبلد ان ثم انه قد
يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير
عند شدة الغلاء بحيث يعقل أن يقال الطعام أكثر
من الدراهم وما المانع من ذلك وأما الاستدلال
على جواز ذلك بحديث عائشة عند البخاري ومسلم
وغيرهما قالت: "اشترى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه
درعا له رهنا" فلا يخفى أن غاية ما فيه أن
يكون مخصصا للنص المذكور لصورة الرهن فيجوز في
هذه الصورة لا في غيرها لعدم صحة الحاق مالا
عوض فيه عن الثمن بما فيه عوض عنه وهو الرهن
نعم ان صح الإجماع الذي حكاه المغربي في شرح
بلوغ المرام فإنه قال واجمع العلماء على جواز
بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا
أو مؤجلا كبيع الذهب بالحنطة وبيع الفضة
بالشعير وغيره من المكيل اهـ كان ذلك هو
الدليل على الجواز عند من كان يرى حجية
الإجماع وأما إذا كان الربوي يشارك مقابله في
العلة فإن كان بيع الذهب بالفضة أو العكس فقد
تقدم أنه يشترط التقابض إجماعا إن كان في غير
ذلك من الأجناس كبيع البر بالشعير أو بالتمر
أو العكس فظاهر الحديث عدم الجواز وإليه ذهب
الجمهور.
وقال أبو حنيفة وأصحابه
وابن علية لا يشترط والحديث يرد عليه. وقد
تمسك مالك بقوله:
"إلا يدا بيد" وبقوله
"الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء"
على أنه يشترط القبض في الصرف عند الإيجاب
بالكلام ولا يجوز التراخي ولو كان في
المجلس. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور
ان المعتبر التقابض في المجلس وان التراخي عن
الإيجاب والظاهر الأول ولكنه أخرج عبد الرزاق
وأحمد وابن ماجه عن ابن عمر: "أنه سأل النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
"اشتر الذهب بالفضة فإذا أخذت واحدا منهما فلا
تفارق صاحبك وبينكما لبس" فيمكن أن يقال أن هذه الرواية تدل على اعتبار المجلس: قوله: "ان
يبيع البر بالشعير" الخ فيه كما قال المصنف
تصريح بان البر والشعير جنسان وهو مذهب
الجمهور وحكى عن مالك والليث والأوزاعي كما
تقدم أنما جنس واحد وبه قال معظم علماء
المدينة وهو محكي عن عمر وسعد وغيرهما من
السلف وتمسكوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم
الطعام بالطعام كما في حديث معمر بن عبد اللّه
المذكور ويجاب عنه بما في آخر الحديث من قوله:
"وكان طعامنا يومئذ الشعير" فإنه في حكم
التقييد لهذا المطلق وأيضا التصريح بجواز بيع
أحدهما بالآخر متفاضلا كما في حديث عبادة
وكذلك عطف أحدهما على الآخر كما في غيره من
أحاديث الباب مما لا يبقي معه ارتياب في انهما
جنسان - واعلم - أنه قد اختلف هل يلحق بهذه
الأجناس المذكورة في
ج / 5 ص -195-
الأحاديث غيرها فيكون حكمه حكمها في تحريم
التفاضل والنساء مع الأتفاق في الجنس وتحريم
النساء فقط مع الأختلاف في الجنس والاتفاق في
العلة فقالت الظاهرية إنه لا يلحق بها غيرها
في ذلك. وذهب من عداهم من العلماء إلى أنه
يلحق بها ما يشاركها في العلة ثم اختلفوا في
العلة ماهي فقال الشافعي هي الاتفاق في الجنس
والطعم فيما عدا النقدين وأماهما فلا يلحق
بهما غيرهما من الموزونات واستدل على اعتبار
الطعم بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"الطعام بالطعام"
وقال مالك في النقدين كقول الشافعي وفي غيرهما
العلة الجنس والتقدير والاقتيات وقال ربيعة بل
اتفاق الجنس ووجوب الزكاة.
وقالت العترة جميعا بل
العلة في جميعها اتفاق الجنس والتقدير بالكيل
والوزن واستدلوا على ذلك بذكره صلى اللّه عليه
وآله وسلم للكيل والوزن في أحاديث الباب ويدل
على ذلك أيضا حديث أنس المذكور فإنه حكم فيه
على كل موزون مع اتحاد نوعه وعلى كل مكيل كذلك
بأنه مثل بمثل فاشعر بان الأتفاق في أحدهما مع
اتحاد النوع موجب لتحريم التفاضل بعموم النص
لا بالقياس وبه يرد على الظاهرية لأنهم إنما
منعوا من الألحاق لنفيهم للقياس. ومما يؤيد
ذلك ما سيأتي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال في
الميزان مثل ماقال في المكيل على ما سيبينه
المصنف إن شاء اللّه تعالى وإلى مثل ما ذهبت
إليه العترة ذهب أبو حنيفة وأصحابه كما حكى
ذلك عن المهدي في البحر وحكى عنه أنه يقول
العلة في الذهب الوزن وفي الأربعة الباقية
كونها مطعومة موزونة أو مكيلة ـ والحاصل ـ أنه
قد وقع الاتفاق بين من عدا الظاهرية بأن جزء
العلة الأتفاق في الجنس واختلفوا في تعيين
الجزء الآخر على تلك الأقوال ولم يعتبر أحد
منهم العدد جزأ من العلة مع اعتبار الشارع له
كما في رواية من حديث أبي سعيد:
"ولادرهمين بدرهم" وفي حديث عثمان عند مسلم:
"لاتبيعوا الدينار بالدينارين".
10 - وعن أبي سعيد وأبي هريرة: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر
جنيب فقال أكل تمر خيبر هكذا قال انا لنأخذ
الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال في الميزان مثل ذلك". رواه البخاري.
الحديث أخرجه أيضا
مسلم. قوله: "رجلا" صرح أبو عوانة
والدارقطني ان اسمه سواد بن غزية بمعجمة فزاي
فياء مشددة كعطية: قوله: "جنيب" بفتح
الجيم وكسر النون وسكون التحتية وآخره موحدة
اختلف في تفسيره فقيل هو الطيب وقيل الصلب.
وقيل ما أخرج منه حشفه وريئه وقبل مالا يختلط
بغيره. وقال في القاموس ان الجنيب تمر
جيد. قوله: "بع الجمع" بفتح الجيم وسكون
الميم قال في الفتح هو التمر المختلط بغيره.
وقال في القاموس هو الدقل أو صنف من التمر -
والحديث - يدل على أنه لا يجوز بيع ردئ الجنس
بجيده متفاضلا وهذا أمر مجمع عليه
ج / 5 ص -196-
لاخلاف بين أهل العلم فيه وأما سكوت الرواة
عن فسخ البيع المذكور فلا يدل على عدم الوقوع
أما ذهولا وإما اكتفاء بان ذلك معلوم. وقد
ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال هذا هو الربا فرده كما بنه
على ذلك في الفتح وقد استدل أيضا بهذا الحديث
على جواز بيع العينة لان النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أمره أن يشتري بثمن الجمع جنيبا
ويمكن أن يكون بائع الجنيب منه هو الذي اشترى
منه الجمع فيكون قد عادت إليه الدراهم التي هي
عين ماله لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
لم يأمره بأن يشتري الجنيب من غير من باع منه
الجمع وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم.
قال في الفتح وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل
فإذا عمل به في صورة سقط الأحتجاج به في غيرها
فلا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باع
منه تلك السلعة بعينها انتهى. وسيأتي الكلام
على بيع العينة. قوله: "وقال في الميزان
مثل ذلك" أي مثل ما قال في المكيل من أنه لا
يجوز بيع بعض الجنس منه ببعضه متفاضلا وان
اختلفا في الجودة والرداءة بل يباع رديئه
بالدراهم ثم يشتري بهذا الجيد والمراد
بالميزان هنا الموزون. قال المصنف رحمه
اللّه وهو حجة في جريان الربا في الموزونات
كلها لان قوله في الميزان أي في الموزون وإلا
فنفس الميزان ليست من أموال الربا انتهى.
باب في ان الجهل
بالتساوي كالعلم بالتفاضل
1 - عن جابر قال: "نهى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن بيع
الصبرة من التمر لا يعلم كيلها باليكل المسمى
من التمر". رواه مسلم والنسائي وهو يدل
بمفهومه على انه لو باعها بجنس غير التمر
لجاز.
قوله: "الصبرة" قال
في القاموس والصبرة بالضم ما جمع من الطعام
بلا كيل ووزن انتهى. قوله: "لا يعلم
كيلها" صفة كاشفة للصبرة لأنه لا يقال لها
صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل ـ والحديث ـ
فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه
وأحدهما مجهول المقدار لأن العلم بالتساوي مع
الأتفاق في الجنس شرط لا يجوزالبيع بدونه ولا
شك أن الجهل بكلا البدلين أو بأحدهما فقط مظنة
للزيادة والنقصان وما كان مظنة للحرام وجب
تجنبه وتجنب هذه المظنة إنما يكون بكيل المكيل
ووزن الموزون من كل واحد من البدلين.
باب من باع ذهبا
وغيره بذهب
1 - عن فضالة بن عبيد
قال اشتريت قلادة يوم خيبر بأثني عشر دينارا
فيها ذهب وخرز ففصلتاه فوجدت فيها أكثر من
أثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقال:
"لا يباع حتى يفصل".
رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي
وصححه. وفي لفط: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أتى بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها
رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير
ج / 5 ص -197-
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
"لا حتى تميز بينه وبينه
فقال إنما أردت الحجارة فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم لا حتى تميز بينهما
قال فرده حتى ميز بينهما". رواه أبو
داود.
الحديث قال في التلخيص
له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في
بعضها قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها ذهب
وجوهر. وفي بعضها خرز وذهب. وفي بعضها حرز
معلقة بذهب وفي بعضها بأثني عشر دينارا. وفي
بعضها بتسعة دنانير. وفي أخرى بسبعة
دنانير. وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف
بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة. قال الحافظ
والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب
ضعفا بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف
فيه وهو النهي عن بيع مالم يفصل وأما جنسها
وقدر ثمنها فلا يتعلق به بهذه الحال ما يوجب
الحكم بالاضطراب وحينئذ ينبغي الترجيح بين
رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية
أحفظهم وأضبطهم فيكون رواية الباقين بالنسبة
إليه شاذة انتهى. وبعض هذه الروايات التي
ذكرها الطبراني في صحيح مسلم وسنن أبي داود:
قوله: "ففصلتها" بتشديد الصاد ـ الحديث ـ
استدل به على أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره
بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ويميز عنه ليعرف
مقدار الذهب المتصل بغيره ومثله الفضة مع
غيرها بفضة وكذلك سائر الأجناس الربوية
لاتحادها في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه
متفاضلا. ومما يرشد إلى استواء الأجناس
الربوية في هذا ماتقدم من النهي عن بيع الصبرة
من التمر بالكيل المسمى من التمر. وكذلك
نهيه عن بيع التمر بالرطب حرصا لعدم التمكن من
معرفة التساوي على التحقيق وكذلك في مثل مسألة
القلادة يتعذر الوقوف على التساوي من دون فصل
ولا يكفي مجرد الفصل بل لابد من معرفة مقدار
المفصول والمقابل له من جنسه. وإلى العمل
بظاهر الحديث ذهب عمر بن الخطاب وجماعة من
السلف والشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحكم
المالكي وقالت الحنفية والثوري والحسن بن صالح
والعترة أنه لا يجوز إذا كان الذهب المنفرد
أكثر من الذي في القلادة ونحوها لامثله ولا
دونه. وقال مالك يجوز إذا كان الذهب تابعا
لغيره بأن يكون الثلث فما دون. وقال حماد بن
أبي سليمان أنه يجوز بيع الذهب مع غيره بالذهب
مطلقا سواء كان المنفصل مثل المتصل أو أقل أو
أكثر وأعتذرت الحنفية ومن قال بقولهم عن
الحديث بأن الذهب كان أكثر من المنفصل
واستدلوا بقوله ففصلتها فوجدت فيها أكثرمن
أثني عشر دينار والثمن إما سبعة أو تسعة وأكثر
ما روي أنه أثنا عشر. وأجيب عن ذلك ماتقدم
عن البيهقي من أن القصة التي شهدها فضالة كانت
متعددة فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها
واهدار البعض الآخر وأجيب أيضا بأن العلة هي
عدم الفصل وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي
والأقل والأكثر والغنيمة وغيرها وبهذا يجاب عن
الخطابي حيث قال أن سبب النهي كون تلك القلادة
كانت من الغنائم مخافة أن يقع المسلمون في
بيعها وقد أجاب الطحاوي عن الحديث
ج / 5 ص -198-
بأنه مضطرب. قال السبكي وليس ذلك باضطراب
قادح ولا ترد الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك
انتهى. وقد عرفت مماتقدم أنه لا اضطراب في
محل الحجة والاضطراب في غيره لا يقدح فيه
وبهذا يجاب أيضا على ما قاله مالك. وأما ما
ذهب إليه حماد بن أبي سليمان فمردود في الحديث
على جميع التقادير ولعله يتعذر عنه بمثل ما
قال الخطابي أو لم يبلغه. قوله: "حتى
تميز" بضم تاء المخاطب في أوله وتشديد الياء
المكسورة بعد الميم. قوله: "إنما أردت
الحجارة" يعني الخرز الذي في القلادة ولم
أرد الذهب.
باب مرد الكيل
والوزن
1 - عن ابن عمر عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة".
رواه أبو داود
والنسائي.
الحديث سكت عنه أبو داود
والمنذري وأخرجه أيضا البزار وصححه ابن حبان
والدارقطني وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس
مكان ابن عمر. قوله: "المكيال مكيال أهل
المدينة" الخ فيه دليل على أنه يرجع عند
الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة وعند
الاختلاف في الوزن إلى ميزان مكة. أما مقدار
ميزان مكة فقال ابن حزم بحثت غاية البحث عن كل
من وثقت بتمييزه فوجدت كلا يقول أن دينار
الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة
أعشار حبة بالحب من الشعير والدرهم سبعة أعشار
المثقال فوزن الدرهم سبع وخمسون حبة وستة
أعشار حبة وعشر عشر حبة فالرطل مائة وثمانية
وعشرون درهما بالدرهم المذكور وأما مكيال
المدينة فقد قدمنا تحقيقه في الفطرة. ووقع
في رواية لأبي داود من طريق الوليد بن مسلم عن
حنظلة ابن أبي سفيان الجمحي قال وزن المدينة
ومكيال مكة والرواية المذكورة في الباب من
طريق سفيان الثوري عن حنظلة عن طاوس عن ابن
عمر وهي أصح. وأما الرواية التي ذكرها أبو
داود عن ابن عباس فرواها أيضا الدارقطني من
طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن حنظلة عن
طاوس عن ابن عباس ورواه من طريق أبي نعيم عن
الثوري عن حنظلة عن سالم بدل طاوس عن ابن عباس
قال الدارقطني أخطأ أبو أحمد فيه.
باب النهي عن
بيع كل رطب من حب أو تمر بيابسه
1 - عن ابن عمر قال:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
المزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان بتمر
كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبب كيلا وإن كان
زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله"
متفق عليه.
2 - ولمسلم في رواية:
"وعن كل ثمر بخرصه"
3 - وعن سعد بن أبي وقاص
قال: "سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يسأل عن
ج / 5 ص -199-
اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم فنهى عن ذلك". رواه الخمسة وصححه الترمذي.
حديث سعد أخرجه أيضا ابن
خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه أيضا ابن
المديني وأخرجه الدارقطني والبيهقي وقد أعله
جماعة منهم الطحاوي والطبري وابن حزم وعبد
الحق بان في إسناده زيد أبا عياش وهو مجهول.
قال في التلخيص والجواب ان الدارقطني قال أنه
ثقة ثبت. وقال المنذري وقد روى عنه ثقات
واعتمده مالك مع شدة نقده وقال الحاكم لا أعلم
أحدا طعن فيه: قوله: "عن المزابنة" قد
تقدم ضبطها في باب النهي عن بيع التمر قبل بدو
صلاحه: قوله: "ثمر حائطه" بالمثلثة وفتح
الميم قال في الفتح المراد به الرطب خاصة.
قوله: "بتمر كيلا" بالمثناة من فوق وسكون
الميم والمراد بالكرم العنب قال في الفتح وهذا
أهل المزابنة وألحق الجمهور بذلك كل بيع مجهول
بمجهول أو بمعلوم من جنس يجري فيه الربا.
قال فأما من قال اضمن لك صبرتك هذه بعشرين
صاعا مثلا فما زاد فلي ومانقص فعلي فهو من
القمار وليس من المزابنة وتعقبه الحافظ بأنه
قد ثبت في البخاري عن ابن عمر تفسير المزابنة
ببيع التمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي قال
فثبت أن من صور المزابنة هذه الصورة من القمار
ولا يلزم من كونها قمارا أن لا تسمى مزابنة.
قال ومن صور المزابنة بيع الزرع بالحنطة بما
أخرجه مسلم في تفسير المزابنة عن نافع بلفظ
المزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع
العنب بالزبيب وبيع الزرع بالحنطة كيلا. وقد
أخرج هذا الحديث البخاري كما ذكره المصنف ههنا
ولم ينفرد به مسلم وقد قدمنا مثل هذا في باب
النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه وقدمنا أيضا
ما فسر به مالك المزابنة قوله: "أينقص"
الاستفهام ههنا ليس المراد به حقيقته أعني طلب
الفهم لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان
عالما بأنه ينقص إذا يبس بل المراد تنبيه
السامع بأن هذا الوصف الذي وقع عنه الأستفهام
هو علة النهي ومن المشعرات بذلك الفاء في قوله
فنهى عن ذلك ويستفاد من هذا عدم جواز بيع
الرطب بالرطب لأن نقص كل واحد منهما لا يحصل
العلم بأنه نقص الآخر وما كان كذلك فهو مظنة
للربا. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وجمهور
أصحابه وعبد الملك بن الماجشون وأبو حفص
العكبري من الحنابلة وذهب مالك وأبو حنيفة
وأحمد في المشهور عنه والمزني والروياني من
أصحاب الشافعي إلى أنه يجوز. قال ابن المنذر
إن العلماء اتفقوا على جواز ذلك ألا الشافعي
ويدل على عدم الجواز أن الإسماعيلي في مستخرجه
على البخاري روى حديث ابن عمر بلفظ: "نهى صلى
اللّه عليه وآله وسلم عن بيع الثمرة
بالثمرة" وذلك يشمل بيع الرطب بالرطب.
باب الرخصة في
بيع العرايا
1 - عن رافع بن خديج
وسهل ابن أبي حثمة: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر
الا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم".
ج / 5 ص -200-
رواه أحمد والبخاري والترمذي وزاد فيه:
"وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر
بخرصه".
2 - وعن سهل بن أبي حثمة
قال: "نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن
يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا".
متفق عليه. وفي لفظ:
"عن بيع الثمر بالتمر وقال ذلك الربا تلك
المزابنة الا أنه رخص في بيع العرية النخلة
والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا
يأكلونها رطبا" متفق عليه.
3 - وعن جابر قال:
"سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول حين أذن لأهل العرايا
أن يبيعوها بخرصها
يقول الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة".
رواه أحمد.
4 - وعن زيد بن ثابت:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رخص في
بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا". رواه
أحمد والبخاري. وفي لفظ: "رخص في العرية
يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها
رطبا" متفق عليه. وفي لفظ آخر: "رخص في
بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير
ذلك" أخرجاه . وفي لفظ: "بالتمر
وبالطب" رواه أبو داود.
حديث جابر أخرجه أيضا
الشافعي وصححه ان خزيمة وابن حبان والحاكم ـ
وفي الباب ـ عن أبي هريرة عند الشيخين: "إن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رخص في
بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في
خمسة أوسق" قوله: "بيع الثمر بالتمر"
الأول بالمثلثة وفتح الميم والثاني بالمثناة
الفوقية وسكون الميم والمراد بالأول ثمر
النخلة وقد صرح بذلك مسلم في رواية فقال: "ثم
النخلة" وليس المراد الثمر من غير النخل
لأنه يجوز بيعه بالتمر بالمثناة والسكون:
قوله: "الا أصحاب العرايا" جمع عرية قال في
الفتح وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة
كانت العرب في الجدب تتطوع بذلك على من لا ثمر
له كما يتطوع صاحب الشاة أو الأبل بالمنيحة
وهي عطية اللبن الرقبة ويقال عريت النخلة بفتح
العين وكسر الراء تعرى إذا افردت عن حكم
اخواتها بأن أعطاها المالك فقيرا قال مالك
العرية أن يعري الرجل الرجل الخلة أي يهبها له
أو يهب له ثمرها ثم يتأذى بدخوله عليه ويرخص
الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر
يابس هكذا علقه البخاري عن مالك ووصله ابن عبد
البر من رواية ابن وهب. وروى الطحاوي عن
مالك ان العرية النخلة للرجل في حائط غيره
فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه
فيقول أنا أعطيك بخرص نخلة تمرا فيرخص له في
ذلك فشرط العرية عند مالك أن يكون
ج / 5 ص -201-
لأجل التضرر من المالك بدخول غيره إلى حائطه
أو لدفع الضررعن الآخر لقيام صاحب النخل بما
يحتاج إليه. وقال الشافعي في الأم وحكاه عنه
البيهقي ان العرايا ان يشتري الرجل ثمر النخلة
بخرصه من التمر بشرط التقابض في الحال واشترط
مالك أن يكون التمر مؤجلا. وقال ابن إسحاق
في حديثه عن ابن عمر عند أبي داود والبخاري
تعليقا ان يعري الرجل الرجل أي يهب له في ماله
النخلة والنخلتين فيشق عليه أن يقوم عليها
فيبيعها بمثل خرصها. وأخرج الإمام أحمد عن
سفيان بن حسين ان العريا نخل كانت توهب
للمساكين فلا يستطعيون أن ينتظروا بها فرخص
لهم أن يبيعوها بما شاؤا من التمر. وقال
يحيى بن سعيد الأنصاري العرية أن يشتري الرجل
ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا قال
القرطبي كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية
على قول يحيى بن سعيد. وأخرج أبو داود عن
عبد ربه ابن سعيد الأنصاري وهو أخو يحيى
المذكور أنه قال العرية الرجل يعري الرجل
النخلة أو الرجل يستثني من ماله النخلة يأكلها
رطبا فيبيعها تمرا. وأخرج ابن أبي شيبة في
مصنفه عن وكيع قال سمعنا في تفسير العرية إنها
النخلة يعريها الرجل للرجل ويشتريها في بستان
الرجل. وقال في القاموس وأعراه النخلة وهبه
ثمرة علمها والعرية النخلة المعراة والتي أكل
ما عليها. وقال الجوهري هي النخلة التي
يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن يجعل له ثمرها
عاما من عراه إذا قصده قال في الفتح صور
العرية كثيرة. منها أن يقول رجل لصاحب النخل
يعني ثمر نخلات باعيانها بخرصها من التمر
فيخرصها ويبيعها ويقبض منه التمر ويسلم له
النخلات بالتخلية فينتفع برطبها.
ومنها أن يهب صاحب
الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من
حائطه ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري
رطبها بقدر خرصه بتمر معجل. ومنها أن يهبه
اياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب
تمرا ولا يحب أكلها ربا لاحتياجه إلى التمر
فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره
بتمر يأخذه معجلا. ومنها أن يبيع الرجل ثمر
حائطه بعد بدو صلاحه ويستثني منه نخلات معلومة
يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عفى له خرصها
في الصدقة وسميت عرايا لأنا أعريت عن أن تخرص
في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لانقدلهم
وعنده فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك
التمير من رطب تلك النخلات بخرصها ومما يطلق
عليه اسم العرية أن يعري رجلا ثمر نخلات يبيح
له أكلها والتصرف فيها وهذ هبة محضة. ومنها
أن يعري عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه
نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة وهاتان
الصورتان من العرايا لابيع فيهما وجميع هذه
الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور وقصر مالك
العرية في البيع على الصورة الثانية. وقصرها
أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع
وأراد به رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشترونه
لتجارة ولا ادخار ومنع أبو حنيفة صور البيع
كلها وقصر العرية على الهبة ويه أن يعري الرجل
الرجل ثمر نخلة من نخله ولا يسلم ذلك ثم يبدو
له أن يرتجع تلك الهبة فرخص له أن يحتبس ذلك
ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب يخرصه تمرا
وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع الثمر
بالتمر وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في
الأحاديث قال ابن المنذر الذي رخص في العرية
هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر في لفظ واحد
من رواية جماعة من
ج / 5 ص -202-
الصحابة. قال ونظير ذلك الأذن في السلم مع
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا تبع ماليس عندك"
قال ولو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية
من البيع ولأنه عبر بالرخصة والرخصة لا تكون
الا في شيء ممنوع والمنع إنما كان في البيع لا
الهبة وبأنها قيدت بخمسة أوسق والهبة
التتقيد.
وقد احتج أبي حنيفة
لمذهبه بأشياء تدل على أن العرية ولا حجة في
شيء منه. لأنه لا يلزم من كون أصل العرية
العطية أن لا تطلق شرعا على صور أخرى. وقالت
الهادوية وهو وجه في مذهب الشافعي أن رخصة
العرايا مختصلة بالمحاويج الذين لا يجدون رطبا
فيجوز لهم أن يشتروا منه بخرصه تمرا واستدلوا
بما أخرجه الشافعي في مختلف الحديث عن زيد بن
ثابت أنه سمي رجالا محاجين من الأنصارى شكوا
إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا
نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلون مع
الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن
يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر ويجاب عن
دعوى اختصاص العرايا بهذه الصورة أما أولا
فبالقدح في هذا الحديث فإنه انكره محمد بن
داود الظاهري على الشافعي وقال ابن حزم لم
يذكر الشافعي له إسنادا فبطل. وأم ثانيا
فعلى تسليم صحته لا منافاة بينه وبين الأحاديث
الدالة على أن العرية أعم من الصورة التي
اشتمل عليها ـ والحاصل ـ أن كل صورة من سور
العرايا ورد بها حديث صحيح أو ثبتت عن أهل
الشرع أو أهل اللغة فهي جائزة لدخولها تحت
مطلق الأذن والتنصيص في بعض الأحاديث على بعض
الصور لا ينافي ما ثبت في غيره: قوله ـ
بخرصه ـ بفتح الخاء المعجمة وأشار ابن التين
إلى جواز كسرها وجزم ابن العربي بالكسر وانكر
الفتح وجوزهما النووي وقال الفتح أشهر قال
ومعناه بقدر مافيه إذا صار تمرا فمن فتح قال
هو اسم الفعل ومن كسر قال هو اسم للشيء
المخروص قال في الفتح والخرص هو التخمين
والحدس: قوله: "يقول الوسق والوسقين" الخ
استدل بهذا من قال أنه لا يجوز في بيع العرايا
الا دون خمسة أوسق وهو الشافعية والحنابلة
وأهل الظاهر قالوا لأن الأصل التحريم وبيع
العرايا رخصة فيؤخذ بما يتحقق فيه الجواز
ويلقي ما وقع فيه الشك ولكن مقتضى الاستدلال
بهذا الحديث أن لا يجوز مجاوزة الأربعة الأوسق
مع أنهم يجوزونها إلى دون الخمسة بمقدار
يسير. والذي يدل على ما ذهبوا إليه حديث أبي
هريرة الذي ذكرناه لقوله فيه دون خمسة أوسق أو
في خمسة أوسق فيلقي الشك وهو الخمسة ويعمل
بالمتيقن وهو ما دونها وقد حكى هذا القول صاحب
البحر عن أبي حنيفة ومالك والقاسم وأبي العباس
وقد عرفت ما سلف من تحقيق مذهب أبي حنيفة في
العرايا وحكى في الفتح أن الراحج عند المالكية
الجواز في الخمسة عملا برواية الشك واحتج لهم
بقول سهل ابن أبي حثمة إن العرية ثلاثة أوسق
أو أربعة أو خمسة قال في الفتح ولا حجة فيه
لأنه موقوف وحكى الماوردي عن ابن المنذر أنه
ذهب إلى تحديد ذلك بالأربعة الأوسق وتعقبه
الحافظ بأن ذلك لم يوجد في شيء من كتب ابن
المنذر. وقد حكى هذا المذهب ابن عبد البر عن
قوم وهو ذهاب إلى ما فيه حديث جابر من
الأقتصار على الأربعة وقد ترجم ابن حبان
الاحتياط لا يزيد على أربعة أوسق. قال
الحافظ وهذا الذي قاله يتعين المصير إليه وأما
جعله
ج / 5 ص -203-
حدا لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح اه وذلك
لان دون الخمسة المذكورة في حديث أبي هريرة
يقضي بجواز الزيادة على الأربعة الا أن يجعل
الدون مجملا مبينا بالأربعة كان واضحا ولكنه
لا يخفى أنه لا إجمال في قوله: "دون خمسة
أوسق" لأنها تتناول ما صدق عليه الدون لغة
وتما كان كذلك لا يقال له مجمل ومفهوم العدد
في الأربعة لا يعارض المنطوق الدال على جواز
الزيادة عليها: قوله: "ولم يرخص في غير
ذلك" فيه دليل على أنه لا يجوز شراء الرطب
على رؤوس النخل بغير التمر والرطب. وفيه
أيضا دليل على جواز الرطب المخروص على رؤوس
النخل بالرطب المخروص على الأرض وهو رأي بعض
الشافعية منهم ابن خيران. وقيل لا يجوز وهو
رأي الاصطخري منهم وصححه جماعة وقيل إن كانا
نوعا واحدا لم يجز إذ لا حاجة إليه وإن كانا
نوعين جاز وهو رأي أبي إسحاق وصححه ابن أبي
عصرون. وهذا كله فيما إذا كان أحدهما على
النخل والآخر على الأرض وأما في غير ذلك فقد
قدمنا الكلام عليه في الباب قبل هذا.
باب بيع اللحم
بالحيوان
1 - عن سعيد بن المسيب:
"إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن
بيع اللحم بالحيوان" رواه مالك في الموطأ.
الحديث أخرجه أيضا الشافعي مرسلا من حديث سعيد
وأبو داود في المراسيل ووصله الدارقطني في
الغريب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم
بضعفه وصوب الرواية المرسلة المذكورة وتبعه
ابن عبد البر وله شاهد من حديث ابن عمر عند
البزار في إسناده ثابت بن زهير وهو ضعيف.
وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن
نافع أيضا وأبو أمية ضعيف وله شاهد أقوى منه
من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي
وابن خزيمة وقد اختلف في صحة سماعه منه وروى
الشافعي عن ابن عباس ان جزورا نحرت على عهد
أبي بكر فجاء رجل بعناق فقال أعطوني منها فقال
أبو بكر لا يصلح هذا وفي إسناده إبراهيم بن
أبي يحيى وهو ضعيف ولا يخفى إن الحديث ينتهض
للاحتجاج بمجموع طرقه فيدل على عدم جواز بيع
اللحم بالحيوان وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعي
إذا كان الحيوان مأكولا وإن كان غير مأكول جاز
عند العترة ومالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه
لاختلاف الجنس. وقال الشافعي في أحد قوليه
لا يجوز لعموم النهي. وقال أبو حنيفة يجوز
مطلقا واستدل على ذلك بعموم قوله تعالى :
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
وقال محمد بن الحسن الشيباني إن غلب اللحم جاز
ليقابل الزائد منه الجلد.
باب جواز
التفاضل والنسيئة في غير المكيل والموزون
1 - عن جابر: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم اشترى عبدا
بعبدين". رواه الخمسة وصححه الترمذي ولمسلم
معناه.
2 - وعن أنس: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم اشترى صفية بسبعة
أرؤس من
ج / 5 ص -204-
دحية الكلبي" رواه أحمد ومسلم وابن
ماجه.
قوله - ولمسلم معناه -
ولفظه عن جابر قال: "جاء عبد فبايع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم على الهجرة ولم يشعر أنه
عبد فجاء سيده يريده فقال له النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم
بعنيه واشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحدا بع حتى يسأله أعبد هو"
وفي الحديثين دليل على جواز بيع الحيوان
بالحيوان متفاضلا إذا كان يدا بيد وهذا مما
خلاف فيه وإنما الخلاف في بيع الحيوان
بالحيوان نسيئة وسيأتي. وقصة صفية أشار
إليها البخاري في البيع وذكرها في غزوة
خيبر.
3 - وعن عبد اللّه بن
عمرو قال: "أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي قال
فحملت الناس عليها حتى نفدت الأبل وبقيت بقية
من الناس قال فقلت يا رسول اللّه الأبل قد
نقدت وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال
لي
ابتع علينا ابلا بقلائص من إبل الصدقة إلى
محلها حتى تنفذ هذا البعث قال وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى
محلها حتى نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل
الصدقة أداها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه أحمد وأبو داود والدارقطني
بمعناه.
4 - وعن علي بن أبي طالب
رضي اللّه عنه: "أنه باع جملا يدعى عصيفيرا
بعشرين بعيرا إلى أجل" رواه مالك في الموطأ
والشافعي في مسنده.
5 - وعن الحسن عن سمرة
قال: "نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". رواه الخمسة
وصححه الترمذي. وروى عبد اللّه بن أحمد مثله
من رواية جابر بن سمرة.
حديث ابن عمرو في إسناده
محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف وقوى الحافظ في
الفتح إسناده وقال الخطابي في إسناده مقال
ولعله يعني من أجل محمد بن إسحاق ولكن قد رواه
البيهقي في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده. وأثر علي عليه السلام هو م طريق
الحسن بن محمد بن علي عن علي عليه السلام وفيه
انقطاع بين الحسن وعلي. وقد روى عنه ما
يعارض هذا فأخرج عبد الرزاق من طريق ابن
المسيب عنه أنه كره بعيرا ببعيرين نسيئة.
وروى ابن أبي شيبة عنه نحوه وحديث سمرة صححه
ابن الجارود ورجاله ثقات كما قال في الفتح الا
أنه اختلف في سماع الحسن من سمرة. وقال
الشافعي هو غير ثابت عن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم. وحديث جابر بن سمرة عزاه صاحب
الفتح إلى زيادات المسند لعبد اللّه بن أحمد
كما فعل المصنف وسكت عنه - وفي الباب - عن
ج / 5 ص -205-
ابن
عباس عند البزار والطحاوي وابن حبان
والدارقطني بنحو حديث سمرة قال في الفتح
ورجاله ثقات الا انه اختلف في وصله وإرساله
فرجح البخاري وغير واحد إرساله انتهى. قال
البخاري حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان
نسيئة من طريق عكرمة عن ابن عباس رواه الثقات
عن ابن عباس موقوفا. وعن عكرمة عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم مرسلا ـ وفي الباب ـ
أيضا عن ابن عمر عند الطحاوي والطبراني وعنه
أيضا عند مالك في الموطأ والشافعي أنه اشترى
راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة.
وذكره البخاري تعليقا وعنه أيضا عند عبد
الرزاق وابن أبي شيبة إنه سئل عن بعير بيعيرين
فكرهه. وروى البخاري تعليقا عن ابن عباس
ووصله الشافعي أنه قال قد يكون خيرا من
البعيرين. وروى البخاري تعليقا أيضا عن رافع
بن خديج ووصله عبد الرزاق أنه اشترى بعيرا
ببعيرين فأعطه أحدهما وقال آتيك بالآخر غدا.
وروى البخاري أيضا عن مالك وابن أبي شيبة عن
ابن المسيب أنه أنه قال لا ربا في الحيوان.
وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن ابن سيرين
أنه قال لا بأس ببعيرين. قوله: "حتى نفدت
الأبل" بفتح النون وكسر الفاء وفتح الدال
المهملة وآخره تاء التأنيث. قوله:
"بقلائص" قال ابن رسلان جمع قلوص وهي
الناقة الشابة: قوله: "حتى نفدت ذلك
البعث" بفتح النون وتشديد الفاء بعدها دال
معجمة ثم تاء المتكلم أي حتى تجهز ذلك الجيش
وذهب إلى مقصده والأحاديث والآثار المذكورة في
الباب متعارضة كما ترى فذهب الجمهور إلى جواز
بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا مطلقا
وشرط مالك أن يختلف الجنس ومنع من ذلك مطلقا
مع النسيئة أحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيره من
الكوفيين والهادوية وتمسك الأولون بحديث ابن
عمرو وما ورد في معناه من الآثار وأجابوا عن
حديث سمرة بما فيه من المقال. وقال الشافعي
المراد به النسيئة من الطرفين لأن اللفظ يحتمل
ذلك كما يحتمل النسيئة من طرف وإذ كانت
النسيئة من الطرفين فهي من بيع الكاليء
بالكاليء وهو لا يصح عند الجميع واحتج
المانعون بحديث سمرة وجابر بن سمرة وابن عباس
وما في معناها من الآثار وأجابوا عن حديث ابن
عمرو بأنه منسوخ ولا يخفى ان النسخ لا يثبت
الا بعد نقرر تأخر الناسخ ولم ينقل ذلك فلم
يبق ههنا إلا الطلب لطريق الجمع إن أمكن ذلك
أو المصير إلى التعارض قيل وقد أمكن الجمع بما
سلف عن الشافعي ولكنه متوقف على صحة إطلاق
النسيئة على بيع المعدوم بالمعدوم فإن ثبت ذلك
في لغة العرب أو في اصطلاح الشرع فذاك وإلا
فلا شك أن أحاديث النهي وإن كان كل واحد منها
لا يخلو عن مقال لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من
الصحابة سمرة وجابر بن سمرة وابن عباس وبعضها
يقوي بعضا فهي أرجح من حديث واحد غير خال عن
المقال وهو حديث عبد اللّه بن عمرو ولا سيما
وقد صحح الترمذي وابن الجارود حديث سمرة فإن
ذلك مرجح آخر. وأيضا قد تقرر في الأصول إن
دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة وهذا أيضا
مرجح ثالث. وأما الآثار الواردة عن الصحابة
فلا حجة فيها وعلى فرض ذلك فهي مختلفة كما
عرفت.
ج / 5 ص -206-
باب أن من باع سلعة بنسيئة لا يشتريها أقل مما
باعها
1 - عن ابن إسحاق
السبيعي عن امرأته: "أنها دخلت على عائشة
فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت يا أم
المؤمنين أني بعت غلاما من زيد بن أرقم
بثمانمائة درهم نسيئة وأني ابتعته منه بستمائة
نقدا فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما
شريت إن جهاده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قد بطل إلا أن يتوب"
رواه الدارقطني.
الحديث في إسناده
الغالية بنت أيفع وقد روى عن الشافعي أنه لا
يصح وقرر كلامه ابن كثير في إسناده وفيه دليل
على أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن نسيئة أن
يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدا قبل
قبض الثمن الأول إما إذا كان المقصود التحيل
لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام
فلا شك إن ذلك من الربا المحرم الذي لا ينفع
في تحليله الحيل الباطلة وسيأتي الخلاف في بيع
العينة في الباب الذي بعد هذا. والصورة
المذكورة هي صورة بيع العينة وليس في حديث
الباب ما يدل على أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم نهى عن هذا البيع ولكن تصريح عائشة
بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يدل على أنها
قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع إما على جهة
العموم كالأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل
لمثل هذه الصورة أو على جهة الخصوص كحديث
العينة الآتي ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت
هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل على التحريم
لأن مخالفة الصحابي لرأي صحابي آخر لا تكون من
جهة الموجبات للإحباط.
باب ما جاء في
بيع العينة
1 - عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة
واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل
اللّه أنزل اللّه بهم بلاء فلا يرفعه حتى
يراجعوا دينهم".
رواه أحمد وأبو داود. ولفظه:
"إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر
ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط اللّه عليكم
ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
الحديث أخرجه أيضا
الطبراني وابن القطان وصححه. قال الحافظ في
بلوغ المرام ورجاله ثقات. وقال في التلخيص
وعندي إن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان
معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون
صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء
وعطاء يحتمل أن يكون عطاء الخراساني فيكون فيه
تدليس التسوية باسقاط نافع بين عطاء وابن عمر
انتهى. وإنما قال هكذا لأن الحديث رواه أحمد
والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش
ج / 5 ص -207-
عن الأعمش عن عطاء عن ابن عمر ورواه أحمد
وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن
ابن عمر. وقال المنذري في مختصر السنن
مالفظه في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد
الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه
وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال انتهى.
قال الذهبي فيل الميزان إن هذا الحديث مناكيره
وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها
البيهقي في سننه بابا ساق فيه جميع ما ورد في
ذلك وذكر عللّه. وقال روى حديث العينة من
وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رياح عن عبد
اللّه بن عمر بن الخطاب قال ورورى عن ابن عمر
موقوفا أنه كره ذلك. قال ابن كثير وروى من
وجه ضعيف أيضا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص
مرفوعا وبعضده حديث عائشة يعني المتقدم في
الباب الذي قبل هذا وهذه الطرق يشد بعضها
بعضا: قوله: "بالعينة" بكسر العين
المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون. قال
الجوهري العينة بالكسر السلف. وقال في
القاموس وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو
أعطى بها قال والتاجر باع سلعته بثمن لي أجل
ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى.
قال الرافعي وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من
غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه
قبل قبض الثمن بثمن نفد أقل من ذلك القدر
انتهى. قال ابن رسلان في شرح السنن وسميت
هذا المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة
لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما
يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره
ليصل به إلى مقصورده اه. وقد ذهب إلى عدم
جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد
والهادوية وجوز ذلك الشافعي وأصحابه مستدلين
على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع التي لا
يراد بها حصول مضمونه وطرحوا الأحاديث
المذكورة في الباب واستدل ابن القيم على عدم
جواز العينة بما روى عن الأوزاعي عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أنه قال يأتي على الناس
زمان يستحلون الربا بالبيع قال وهذا الحديث
وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالأتفاق
وله من المسندات ما يشهد له وهي الأحاديث
الدالة على تحريم العينة فإنه من المعلوم إن
العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعا وقد
اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد ثم
غير اسمها إلى المعاملة وصورتها إلى التبايع
الذي لا قصد لهما فيه البتة وإنما هو حيلة
ومكر وخديعة للّه تعال فمن أسهل الحيل على من
أراد فعله أن يعطيه مثلا ألفا الا درهما باسم
القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة
درهم: وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" أصل في إبطال الحيل فإن من أراد أن يعامله معاملة يعطيه فيها ألفا
بألف وخمسمائة أنما نوى بالأقراض تحصيل الربح
الزائد الذي أظهر أنه ثمن الثوب فهو في
الحقيقة أعطاه الفا حالة بالف وخمسمائة مؤجلة
وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا
المحرم ومعلوم إن هذا لا يرفع التحريم ولا
يرفع المفسدة التي حرم الربا لاجلها بل يزيدها
قوة وتأكيدا من وجوه عديدة منها أنه يقدم على
مطالبة الغريم المحتاج من جهة السلطان والحكام
اقداما لا يفعله المربى لأنه واثق بصورة العقد
الذي تحيل به. هذا معنى كلام ابن القيم.
قوله: "واتبعوا أذناب
البقر" المراد الاشتغال بالحرث. وفي
الرواية الأخرى:
"وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع"
وقد حمل هذا على
ج / 5 ص -208-
الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد.
قوله: "وتركوا الجهاد" أي المتعين فعله.
وقد روى الترمذي بإسند صحيح عن ابن عمر كنا
بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من
الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر
وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة
بن عبيد فحمل من المسلمين على صف الروم حتى
دخل بينهم فصاح المسلمون وقالوا سبحان اللّه
يلقى بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب فقال يا
أيها الناس إنكم لتأولون هذا التأويل وإنما
نزلت هذه الآية لما أعز اللّه الكلام وكثر
ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا أن أموالنا قد
ضاعت وإن اللّه قد أعز الإسلام وكثر ناصروه
فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منا
فأنزل اللّه على نبيه ما يرد علينا فقال:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الأموال واصلاحها وترك الغزو: قوله: "ذلا" بضم
الذال المعجمة وكسرها أي صغارا ومسكنة. ومن
أنواع الذل الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك
الأرض وسبب هذا الذل واللّه أعلم أنهم لما
تركوا الجهاد في سبيل اللّه الذي فيه عز
الاسلام وإظهاره على كل دين عاملهم اللّه
بنقيضه وهو انزال الذلة بهم فصاروا يمشون خلف
أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور
الخيل التي هي أعز مكان: قوله: "حتى ترجعوا
إلى دينكم" فيه زجر بليغ لأنه نزل الوقوع في
هذه الأمور منزلة الخروج من الدين وبذلك تمسك
من قال بتحريم العينة وقيل إن دلالة الحديث
على تحريم غير واضحة لأنه قرن العينة بالأخذ
بأذناب البقر والأشتغال بالزرع وذلك غير محرم
وتوعد عليه بالذل وهو لا يدل على التحريم
ولكنه لا يخفى ما في دلالة الاقتران من التضعف
ولانسلم إن الوعد بالذل لا يدل على التحريم
لان طلب أسباب العزة الدينية وتجنب أسباب
الذلة المنافية للدين واجبان على كل مؤمن وقد
توعد على ذلك بإنزال البلاء وهو لا يكون إلا
لذنب شديد وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج من
الدين المرتد على عقبه وصرحت عائشة بأنه من
المحبطات للجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم كما في الحديث السالف وذلك إنما هو
شأن الكبائر.
باب ما جاء في
الشبهات
1 - عن النعمان بن بشير
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن
ترك ما يشتبه عليه من الأثم كان لما استبان
أترك وم أجترأ على ما يشك فيه من الأثم أو شك
أو يواقع ما استبان والمعاصي حمي اللّه من
يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".
متفق عليه.
قوله: "الحلال بين"
الخ فيه تقسم للأحكام إلى ثلاثة أشياء وهو
تقسيم صحيح لان الشيء إما أن ينص الشارع على
طلبه مع الوعيد على تركه أو ينص على تركه مع
الوعيد على فعله أو لانيص على واحد منهما.
فالأول الحلال البين. والثاني الحرام
البين. والثالث المشتبه لخفائه فلا
ج / 5 ص -209-
يدري احلال هو أم حرام وما كان هذا سبيله
ينبغي اجتنابه لانه إن كان في نفس الأمر حراما
فقد برئ من التبعة وإن كان حلالا فقد استحق
الأجر على الترك لهذا القصد لأن الأصل مختلف
فيه حظرا وإباحة. وهذا التقسيم قد وافق قول
من قال ممن سيأتي إن المباح والمكروه من
المشبهات ولكنه يشكل عليه المندوب فإنه لا
يدخل في قسم الحلال البين على ما زعمه صاحب
هذا التقسيم والمراد بكون كل واحد من القسمين
الأولين بينا أنه مما لا يحتاج إلى بيان أو
مما يشترك في معرفته كل أحد وقد يرد أن جميعا
أي ما يدل على الحل والحرمة فإن علم المتأخر
منهما فذاك وإلا كان ما ورد فيه القسم
الثالث: قوله: "أمور مشتبهة" أي شبهت
بغيرها مما لم يتبين فحكمه على التعيين زاد في
رواية للبخاري: "لا يعلمها كثير من الناس" أي لا يعلم حكمها وجاء واضحا في رواية للترمذي ولفظه:
"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام" ومفهوم قوله كثير أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم
المجتهدون فالشبهات على هذا في حق غيرهم وقد
تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد
الدليلين. قوله: "والمعاصي حمى اللّه" في
رواية للبخاري وغيره:
"ألا أن حمى اللّه تعالى في أرضه محارمه" والمراد بالمحارم والمعاصي فعل المنهى المحرم أوترك المأمور
الواجب والحمي المحمي أطلق المصدر على اسم
المفعول. وفي اختصاص التمثيل بالحمى نكتة
وهي إن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم
أماكن مخصبة يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم
بالعقوبة الشديدة فمثل لهم النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم بما هو مشهور عندهم فالخائف من
العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى
خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبعده أسلم له
وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه
فلا يأمن أن يقع الخصب في الحمى فال يملك نفسه
أن يقع فيه فاللّه سبحانه هو الملك حقا وحماه
محارمه ـ وقد اختلف ـ في حكم الشبهات فقيل
التحريم وهو مردود وقيل الكراهة. وقيل الوقف
وهو كالخلاف فيما قبل الشرع واختلف العلماء
أيضا في تفسير الشبهات. فمنهم من قال إنها
ما تعارضت فيه الأدلة. ومنهم من قال إنها ما
اختلف فيه العلماء وهو منتزع من التفسير
الأول. ومنهم من قال إن المراد بها قسم
المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك ومنهم
من قال هي المباح ونقل ابن المنير عن بعض
مشايخه أنه كان يقول المكروه عقبة بين العبد
والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى
الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن
استكثر من تطرق إلى المكروه. ويؤيد هذا ما
وقع في رواية لابن حبان من الزيادة بلفظ:
"اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه
ودينه"
قال في الفتح بعد أن ذكر التفاسير للمشتبهات
التي قدمناها ما لفظه والذي يظهر لي رجحان
الوجه الأول قال ولا يبعد أن يكون كل من
الأوجه مرادا ويختلف ذلك باختلاف الناس
فالعالم الفطن عليه تمييز الحكم فلا يقع له
ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه
ومن دونه تقع له
ج / 5 ص -210-
الشبهة
في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال ولا يخفى
أن المستكثر من المكروه تصير فيه جراءة على
ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده
لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي
المحرم أو يكون ذلك لسر فيه وهو أن من تعاطي
مانهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع
فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه ولهذا
قال صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"فمن ترك ما يشتبه عليه من
الإثم" الخ. ـ وأعلم أن العلماء ـ قد عظموا أمر هذا الحديث فعدوه رابع
أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود
وغيره وقد جمعها من قال.
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير
البرية
اترك الشبهات وازهد ودع ما ليس بعينيك واعملن
بنية
والإشارة بقوله ازهد إلى حديث:
"ازهد فيما في أيدي الناس"
أخرجه ابن ماجه وحسن إسناده الحافظ وصححه
الحاكم عن سهل بن سعد مرفوعا بلفظ:
"ازهد في الدنيا يحبك اللّه وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" وله شاهد
عند أبي نعيم من حديث أنس ورجاله ثقات.
والمشهور عن أبي داود عد حديث:
"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" مكان حديث:
"ازهد" المذكور. وعد حديث الباب بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني وأشار ابن
العربي أنه يمكن أن ينزع منه وحده جميع
الأحكام قال القرطبي لأنه اشتمل على التفصيل
بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال
بالقلب فمن هناك يمكن أن ترد جميع الأحكام
إليه. وقد ادعى أبو عمر الداني أن هذا
الحديث لم يروه عن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم غير النعمان بن بشير فمن أراد من وجهه
صحيح فمسلم وان أراد على الإطلاق فمردود فإنه
في الأوسط للطبراني من حديث ابن عمر وعمار وفي
الكبير له من حديث ابن عباس وفي الترغيب
للأصبهاني من حديث وائلة وفي أسانيدها مقال
كما قال الحافظ.
2 - وعن عطية السعدي أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
"لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به
البأس".
رواه الترمذي.
3 - وعن أنس قال: "أن كان النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم ليصيب التمرة فيقول لولا أني
أخشى أنها من الصدقة لأكلتها". متفق
عليه.
4 - وعن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا
يسأله عنه وإن سقاه شربا من شرابه فليشرب من
شرابه ولا يسأله عنه". رواه أحمد.
5 - وعن أنس بن مالك قال:
"إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه
واشرب من شرابه". ذكره البخاري في صحيحه.
ج / 5 ص -211-
حديث عطية السعدي حسنه الترمذي وأخرج ابن
أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء
نحوه ولفظه:
"تمام التقوى أن يتقي اللّه حتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون
حراما".
وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الطبراني في
الأوسط وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي ضعفه
الجمهور وقد وثق قال في مجمع الزوائد وبقية
رجال أحمد رجال الصحيح. هذه الأحاديث ذكرها
المصنف رحمه اللّه للإشارة إلى ما فيه شبهة
كحديث أنس وإلى ما لا شبهة فيه كحديث أبي
هريرة وقد ذكر البخاري في تفسير الشبهات حديث
عقبة بن الحرث في الرضاع لقوله صلى اللّه عليه
وآله وسلم: "كيف وقد قيل" وحديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة لقوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"واحتجبي منه يا سودة" فإن الظاهر أن الأمر بالمفارقة في الحديث الأول والاحتجاب في
الثاني لأجل الاحتياط وتوقي الشبهات وفي ذلك
نزاع يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى. قال
الخطابي ما شككت فيه فالورع اجتنابه وهو على
ثلاثة أقسام واجب ومستحب ومكروه فالواجب
اجتناب ما يستلزم ارتكاب المحرم والمندوب
اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام والمكروه
اجتناب الرخص المشروعة اهـ. وقد أرشد الشارع
إلى اجتناب ما لا يتيقن المرء حله بقوله ما
يريبك غل ىما لا يريبك واخرجه الترمذي
والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث
الحسن بن علي رضي اللّه عنهما ـ وفي الباب ـ
عن أنس عند أحمد. وعن ابن عمر عند الطبراني
وعن أبي هريرة ووائلة بن الأسقع. ومن قول
ابن عمر وابن مسعود وغيرهما. وروى البخاري
وأحمد وأبو نعيم عن حسان بن أبي سنان البصري
أحد العباد في زمن التابعين أنه إذا شككت في
امر فاتركه. ولأبي نعيم من وجه آخر أنه
اجتمع يونس ابن عبيد وحسان بن أبي سنان فقال
يونس ما عالجت شيئا أهون علي منه قال كيف قال
حسان تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني
فاسترحت. قال الغزالي الورع أقسام ورع
الصديقين وهو ترك ما لم يكن عليه ببنية
واضحة. وورع المتقين وهو ترك ما لا شبهة فيه
ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام. وورع الصالحين
وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن
يكون لذلك الاحتمال موقع فإن لم يكن فهو روع
الموسوسين. قال ووراء ذلك ورع الشهود وهو
ترك ما يسقط الشهادة أي أعم من أن يكون ذلك
متروك حراما أم لا اهـ. وقد أشار البخاري
إلى أن الوساوس ونحوها ليست من الشبهات.
فقال باب من لم ير الوساوس ونحوها من
الشبهات. قال في الفتح هذه الترجمة معقودة
لبيان ما يكره من التنطيع في الورع.
أبواب أحكام
العيوب
باب وجوب تبيين العيب
1 - عن عقبة بن عامر قال سمعت النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول:
"المسلم
ج / 5 ص -212-
أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه
عيب إلا بينه له".
رواه ابن ماجه.
2 - وعن واثلة قال قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا يحل لاحد أن يبيع شيئا الا بين مافيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك الا
بينه"
رواه أحمد.
3 - وعن أبي هريرة أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر برجل يبيع
طعاما فادخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال:
"من غشنا فليس منا".
رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
4 - وعن العداء بن خالد
بن هوذة قال: "كتب لي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم كتابا هذا ما اشترى العداء بن
خالد بن هوذة من محمد رسول اللّه اشترى منه
عبدا أو أمة لاداء ولا غائلة ولا خبثة بيع
المسلم المسلم" رواه ابن ماجه والترمذي.
حديث عبقة أخرجه أيضا
أحمد والدارقطني والحاكم والطبراني من حديث
أبي شماسة عنه على يحيى بن أيوب وتابعه ابن
لهيعة قال في الفتح وإسناده حسن وحديث واثلة
أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم في المستدرك وفي
إسناد أحمد أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول
مختلف فيه والثاني قيل إنه مجهول. وحديث أبي
هريرة أخرجه أيضا الحاكم وفيه قصة وادعى أن
مسلما لم يخرجها فلم يصب. وقد أخرج نحوه
أحمد والدارمي من حديث ابن عمر وابن ماجه من
حديث أبي الحمراء والطبراني وابن حبان في
صحيحه من حديث ابن مسعود وأحمد من حديث أبي
بردة بن نيار والحاكم من حديث عمير بن سعيد عن
عمه. وحديث العداء أخرجه أيضا النسائي وابن
الجارود وعلقه البخاري. قوله: "لا يحل
لمسلم" الخ وكذلك قوله: "لا يحل لأحد"
الخ فيهما دليل على تحريم كتم اليب ووجوب
تبيينه للمشتري. قوله: "فليس منا" لفظ
مسلم: "فليس مني" قال النووي كذا في الأصول
ومعناه ليس ممن اهتدى بهدبي واقتدى بعلمي
وعملي وحسن طريقتي كما يقول الرجل لولده إذا
لم يرض فعله لست مني وهكذا في نظائره مثل
قوله:
"من حمل علينا السلاح فليس منا"
وكان سفيان ابن عيينة يكره تفسير مثل هذا
ويقول بئس مثل القول بل يمسك عن تأويله ليكون
أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر اه وهو يدل على
تحريم الغش وهو مجمع على ذلك قول: "العداء"
بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة أيضا
وآخره همزة بوزن الفعال وهوذة هو ابن ربيعة بن
عمرو بن عامر أبو صعصعة والعداء صحابي قليل
الحديث أسلم بعد حنين. قوله: "لاداء" قال
المطرزي المراد به الباطن سواء ظهر منه شيء أم
لا كوجع الكبد والسعال.
ج / 5 ص -213-
وقال ابن المنير لا داء أي يكتمه البائع
وإلا فلو كان بالعبد داء وبينه البائع كان من
بيع المسلم للمسلم ـ ومحصله ـ إنه لم يرد
بقوله لا داء نفي الداء مطلقا بل نفى داء
مخصوص وهو مالم يطلع عليه. قوله: "ولا
غائلة" قيل المراد بها إلا باق. وقال ابن
بطال هو من قولهم اغتالني فلان إذا احتال
بحيلة سلب بها مالي. قوله: "ولا خبثة"
بكسر المعجمة وبضمها وسكون الموحدة وبعدها
مثلثة قيل المراد الاخلاق الخبيثة كالاباق.
وقال صاحب العين هي الدنية وقيل المراد الحرام
كما عبر عن الحلال بالطيب وقيل الداء كان في
الخلق بفتح الخاء والخبثة ما كان في الخلق
بضمها والغائلة سكوت البائع عن بيان من مكروه
في المبيع قاله ابن العربي.
باب أن الكسب
الحادث لا يمنع الرد بالعيب
1 - عن عائشة: "ان
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى أن الخراج
بالضمان". رواه الخمسة. وفي رواية: "أن
رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده
بالعيب فقال البائع غلة عبدي فقال النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم
الغلة بالضمان" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وفيه حجة لمن يرى تلف العبد
المشتري قبل القبض من المشتري.
الحديث أخرجه أيضا
الشافعي وأبو داود الطيالسي وصححه الترمذي
وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان ـ
ومن جملة ـ من صححه ابن خزيمة كما حكى ذلك عنه
في بلوغ المرام وحكى عنه في التلخيص أنه قال
لا يصح وضعفه البخاري. ولهذا الحديث في سنن
أبي داود ثلاث طرق اثنتان رجالهما رجال الصحيح
والثالثة قال أبو داود إسنادها ليس بذاك ولعل
سبب ذلك أن فيه مسلم بن خالد الزنجي شيخ
الشافعي وقد وثقه يحيى بن معين وتابعه عمر بن
علي المقدمي وهو متفق على الأحتجاج به:
قوله: "إن الخراج بالضمان" الخراج هو الدخل
والمنفعة أي يملك المشتري الخراج الحاصل من
المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه فالباء
سببية فإذا أشترى الرجل أرض فاستغلها أو ذآبة
فركبها أو عبدا فاستخدمه ثم وجد به عيبا قديما
فله الرد ويستحق الغلة في مقابلة الضمان
للمبيع الذي كان عليه. وظاهر الحديث عدم
الفرق بين الفوائد الأصلية والفرعية وإلى ذلك
ذهب الشافعي وفصل مالك فقال يستحق المشتري
الصوف والشعر دون الولد وفرق أهل الرأي
والهادوية بين الفوائد الفرعية والأصلية
فقالوا يستحق المشتري الفرعية كالكراء دون
الأصلية كالولد والثمر وهذا الخلاف إنما هو مع
انفصال الفوائد عن المبيع وأما إذا كانت متصلة
وقت الرد ردها الإجماع قيل إن هذا الحكم مختص
بمن له ملك في العين التي انتفع بخراجها
كالمشتري الذي هو سبب ورود الحديث وإلى ذلك
مال الجمهور. وقالت الحنفية إن الغاصب
كالمشتري قياسا ولا يخفى ما في هذا القياس لان
الملك فارق يمنع الالحاق والأولى أن يقال أن
الغاصب داخل تحت عموم اللفظ ولا عبرة بخصوص
السبب كما تقرر في الأصول: قوله:
"فاستغله" بالغين المعجمة وتشديد اللام أي
أخذ غلته.
ج / 5 ص -214-
باب ما جاء في المُصَرّاة
1 - عن أبي هريرة أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: "لا تصروا الأبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن
يحلبها ان رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا
من تمر". متفق عليه. وللبخاري وأبي داود: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي
حلبتها صاع من تمر وهو دليل على أن الصاع من
التمر في مقابلة اللبن وأنه أخذ قسطا من
الثمن".
وفي رواية:
"إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة أو شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن
يحلبها أما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر" رواه مسلم وهو دليل على أنه يمسك بغير أرش. وفي رواية:
"من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء
ردها ومعها صاعا من تمر لا سمراء"
رواه الجماعة إلا البخاري.
2 - وعن أبي عثمان
النهدي قال: "قال عبد اللّه من اشترى محفلة
فردها فليرد معها صاعا" رواه البخاري
والبرقاني على شرطه وزاد: "من تمر".
قوله: "لاتصروا" بضم
أوله وفتح الصاد المهملة وضم الراء المشددة من
صربت اللبن في الضرع إذا جمعته وظن بعضهم أنه
من صروت فقيده بفتح أوله وضم ثانيه. قال في
الفتح والأول أصح قال لأنه لو كان من صررت
لقيل مصرورة أو مصررة لا مصراة على أنه سمع
الأمر إن في كلام العرب ثم استدل على ذلك
بشاهدين عربيين ثم قال وضبطه بعضهم بضم أوله
وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول
والمشهور الأول اهـ. قال الشافعي التصرية هي
ربط اخلاف الشاة أو الناقة وترك حلبها حتى
يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها
فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. وأصل
التصرية حبس الماء يقال منه صريت الماء إذا
حبسته قال أبو عبيدة وأكثر أهل اللغة التصرية
حبس اللبن في الضرح حتى يجتمع وإنما اقتصر على
ذكر الأبل والغنم دون البقر لأن غالب مواشيهم
كانت من الأبل والغنم والحكم واحد خلافا
لداود: قوله: "فمن ابتاعها بعد ذلك" أي
اشتراها بعد التصرية: قوله: "بعد أن
يحلبها" ظاهره إن الخيار لا يثبت الا بعد
الحلب والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت
له الخيار على الفور ولو لم يجلب لكن لما كانت
التصرية لا يعرف غالبها الا بعد الحلب جعل
قيدا في ثبوت الخيار قوله: "إن رضيها
أمسكها"
ج / 5 ص -215-
استدل بهذا على صحة بيع المصراة مع ثبوت
الخيار: قوله: "وصاعا من تمر" الواو
عاطفة على الضمير في ردها ولكنه يعكر عليه إن
الصاع مدفوع ابتداء لامر دود ويمكن أن يقال
أنه مجاز عن فعل يشمل الأمرين نحو سلمها أو
أدفعها كما في قول الشاعر علقتها تبنا وماء
باردا. أي ناولتها ويمكن أن يقدر قبل آخر
يناسب المعطوف أي ردها وسلم أو أعط صاعا من
تمر كما قيل أن التقدير في قول الشاعر المذكور
وسقيتها ماء باردا. وقيل يجوز أن تكون الواو
بمعنى مع ولكنه يعكر عليه قول جمهور النحاة إن
شرط المفعول معه إن يكون فاعلا في المعنى نحو
جئت أنا وزيدا. وقمت أنا وزيدا نعم جعله
مفعولا معه صحيح عند من قال بجواز مصاحبته
للمفعول به وهم القليل: وقد استدل بالتنصيص
على الصاع من التمر على أنه لا يجوز رد اللبن
ولو كان باقيا على صفته لم يتغير ولا يلزم
البائع قبوله لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد
عند المشتري: قوله: "لقحة" هي الناقة
الحلوب أو التي نتجت. قوله: "ثلاثة أيام"
فيه دليل على امتداد الخيار هذا المقدار فتقيد
بهذه الرواية الروايات القاضية بأن الخيار بعد
الحلب على الفور كما في قوله: "بعد أن
يحلبها" وإلى هذا ذهب الشافعي والهادي
والناصر وذهب بعض الشافعية إلى أن الخيار على
الفور وحملوا ورواية الثلاث على ما إذا لم
يعلم إنها مصراة قبل الثلاث قالوا وإنما وقع
التنصيص عليها لأن الغالب أنه لا يعلم
بالتصرية فيما دونها.
واختلفوا في ابتداء
الثلاث فقيل من وقت بيان التصرية وإليه ذهبت
الحنابلة وقيل من حين العقد وبه قال
الشافعي. وقيل من وقت التفرق قال في الفتح
ويلزم عليه أن يكون الفور أوسع من الثلاث في
بعض الصور وهو ما ذا تأخر ظهور التصريح إلى
آخر الثلاث ويلزم عليه أن تحسب المدة قبل
التمكن من الفسخ وأن يفوت المقصود من التوسع
بالمدة اه: قوله: "من تمر لاسمراء" لفظ
مسلم وأبي داود:
"من طعام لاسمراء" وينبغي أن تحمل الطعام على التمر المذكور في هذه الرواية وفي غيرها
من الروايات ثم لما كان المتبادر من لفظ
الطعام القمح نفاه بقوله لا سمراء ويشكل على
هذا الجمع مافي رواية للبزار بلفظ:
"صاع من بر لا سمراء"
وأجيب عن ذلك بأنه يحتمل أن يكون على وجه
الرواية بالمعنى لما ظن الراوي أن الطعام مساو
للبر عبر عنه بالبر لان المتبادر من الطعام
البركما سلف في الفطرة ويشكل على ذلك الجمع
أيضا ما في مسند أحمد بإسناد صحيح كما قال
الحافظ عن رجل من الصحابة بلفظ:
"صاعا من طعام أو صاعا من تمر" فإن التخيير يقتضي المغايرة: وأجاب عنه في الفتح باحتمال أن
يكون شكا من الراوي والاحتمال قادح في
الاستدلال فينبغي الرجوع إلى الروايات التي لم
تختلف. ويشكل أيضا ما أخرجه أبو داود من
حديث ابن عمر بلفظ:
"ردها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا" وأجاب عن ذلك الحافظ بأن إسناد الحديث ضعيف قال وقال ابن قدامة أنه
متروك الظاهر بالأتفاق: قوله: "محفلة"
بضم الميم وفتح الحاء المهملة والفاء المشددة
من التحفيل وهو التجمع قال أبو عبيده سميت
بذلك لكون اللبن يكثر في ضرعها وكل شيء كثرته
فقد حفلته. تقول ضرع حافل أي عظيم واحتفل
القوم إذا كثر جمعهم ومنه سمي المحفل. وقد
أخذ بظاهر الحديث الجمهور وقال في الفتح
ج / 5 ص -216-
وافتي به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف
لهما في الصحابة. وقال به من التابعين ومن
بعدهم لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون
اللبن الذي احتلب قليلا كان أو كثيرا ولا بين
أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا وخالف في
أصل المسألة أكثر الحنفية وفي فروعها آخرون
أما الحنفية فقالوا لا يرد بعيب التصرية ولا
يجب رد الصاع من التمر وخالفهم زفر فقال بقول
الجمهور إلا أنه قال مخير بين صاع من التمر أو
نصف صاع من بر. وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو
يوسف في رواية إلا أ،هما قالا لا يتعين صاع
التمر بل قيمته. وفي رواية عن مالك وبعض
الشافعية كذلك ولكن قالوا يتعين قوت البلد
قياسا على كل زكاة الفطر. وحكى البغوي أنه
لا خلاف في مذهب الشافعية أنهما لو تراضيا
بغير التمر من قوت أو غيره كفى وأثبت ابن كج
الخلاف في ذلك. وحكى الماوردي وجهين فيما
إذا عجز عن التمر هل يلزمه قيمته ببلد أو
بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه وبالثاني
قالت الحنابلة اهـ كلام الفتح: والهادوية
يقولون أن الواجب رد اللبن إن كان باقيا وإن
كان تالفا فمثله وإن لم يوجد المثل فالقيمة.
وقد اعتذر الحنفية عن
حديث المصراة بأعذار بسطها صاحب فتح الباري
وسنشير إلى ما ذكره باختصار ونزيد عليه ما لا
يخلو عن فائدة العذر الأول الطعن في الحديث
بكون راوية أبا هريرة وقالوا لم يكن كابن
مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما
يرويه إذا كان مخالفا للقياس الجلي وبطلان هذا
العذر أوضح من أن يشتغل ببيان وجهه فإن أبا
هريرة رضي اللّه عنه من أحفظ الصحابة وأكثرهم
حديثا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
له بالحفظ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة
بسطه لردائه بين يدي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم ومن كان بهذه المنزلة لا ينكر
عليه تفرده بشيء من الأحكام الشرعية. وقد
اعتذر رضي اللّه عنه عن تفرده بكثير مما لا
يشاركه فيه غيره بما ثبت عنه في الصحيح من
قوله أن أصحابي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق
بالأسواق وكنت ألزم رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا.
وأيضا لو سلم ما ادعوه من أنه ليس كغيره في
الفقه لم يكن ذلك قادحا في الذي يتفرد به لأن
كثيرا من الشريعة بل أكثرها وارد من غير طريق
المشهورين بالفقه من الصحابة فطرح حديث أبي
هريرة يستلزم طرح شطر الدين على أن أبا هريرة
لم ينفرد برواية هذا الحكم عن رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم بل رواه معه ابن عمر كما
أخرج ذلك من حديثه أبو داود والطبراني وأنس
كما أخرجه ذلك من حديثه أو يعلى وعمرو بن عوف
المزني كما أخرج ذلك عنه البيهقي ورجل من
الصحابة لم يسم كما أخرجه أحمد بإسناد صحيح
وابن مسعود كما أخرجه الإسماعيلي وإن كان قد
خالفه الأكثر ورووه موقوفا عليه كما فعل
البخاري وغيره وتبعهم المصنف ولكن مخالفة ابن
مسعود للقياس الجلي مشعرة بثبوت حديث أبي
هريرة. قال ابن عبد البر ونعم ما قال ان هذا
الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل
واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها.
العذر الثاني من أعذار الحنفية الاضطراب في
متن الحديث قالوا لذكر التمر فيه تارة والقمح
أخرى واللبن أخرى
ج / 5 ص -217-
واعتبار الصاع تارة والمثل أو المثلين أخرى
وأجيب بأن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها
والضعيف لا يعل به الصحيح. العذر الثالث أنه
معارض لعموم قوله تعالى :
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات ولو سلم دخوله تحت العموم
فالصاع مثل لأنه عوض المتلف وجعله مخصوصا
بالتمر دفا للشجار ولو سلم عدم صدق المثل عليه
فعموم الآية مخصص بهذا الحديث اما على مذهب
الجمهور فظاهر وأما على مذهب غيرهم فلأنه
مشهور وهو صالح لتخصيص العمومات القرآنية.
العذر الرابع أن الحديث منسوخ وأجيب بأن النسخ
لا يثبت بمجرد الاحتمال ولو كفى ذلك لرد من
شاء ما شاء واختلفوا في تعيين الناسخ فقال
بعضهم هو حديث ابن عمر عند ابن ماجه في النهي
عن بيع الدين بالدين وذلك لأن لبن المصراة قد
صار ينافي ذمة المشتري فإذا ألزم بصاع من تمر
صار دينا بدين كذا قال الطحاوي وتعقب بأن
الحديث ضعيف باتفاق المحدثين ولو سلمت صلاحيته
فكون ما نحن فيه من بيع الدين بالدين ممنوع
لأنه يرد الصاع من الصراة حاضرا لا نسيئة من
غير فرق بين أن يكون اللبن موجودا أو غير
موجود ولو سلم أنه من بيع الدين بالدين فحديث
الباب مخصص لعموم ذلك النهي لأنه أخص منه
مطلقا. وقال بعضهم أن ناسخه حديث الخراج
بالضمان وقد تقدم وذلك لأن اللبن فضلة من
فضلات الشاة ولو تلفت لكانت من ضمان المشتري
فتكون فضلاتها له وأجيب بأن المغروم هو ما كان
فيها قبل البيع لا الحادث وأيضا حديث الخراج
بالضمان بعد تسليم شمولة المحل النزاع عام
مخصوص بحديث الباب فكيف يكون ناسخا.
وايضا لم ينقل تأخره
والنسخ لا يتم بدون ذلك ثم لو سلمنا مع عدم
العلم بالتاريخ جواز المصير إلى التعارض وعدم
لزوم بناء العام على الخاص لكان حديث الباب
أرجح لكونه في الصحيحين وغيرهما ولتأيده بما
ورد في معناه عن غير واحد من الصحابة. وقال
بعضهم ناسخة الأحاديث الوادرة في رفع العقوبة
بالمال هكذا قال عيسى بن ابان وتعقبه الطحاوي
بأن التصرية إنما وجدت من البائع فلو كان من
ذلك الباب لكانت العقوبة له والعقوبة في حديث
المصراة للمشتري فافترقا وأيضا عموم الأحاديث
القاضية بمنع العقوبة بالمال على فرض ثبوتها
مخصوصة بحديث المصراة وقد قدمنا البحث في
التأديب بالمال مبسوطا في كتاب الزكاة. وقال
بعضهم ناسخه حديث:
"البيعان بالخيار ما لم يفترقا" وقد تقدم بذلك أجاب محمد بن شجاع. ووجه الدلالة أن الفرقة قاطعة
للخيار من غير فرق بين المصراة وغيرها.
وأجيب بأن الحنفية لا يثبتون خيار المجلس كما
سلف فكيف يحتجون بالحديث المثبت له. وأيضا
بعد تسليم صحة احتجاجهم به هو مخصص بحديث
الباب. وأيضا قد أثبتوا خيار العيب بعد
التفريق وما هو جوابهم فهو جوابنا. العذر
الخامس أن الخبر من الآحاد وهي لا تفيد إلا
الظن وهو لا يعلم به إذا خالف قياس الأصول وقد
تقرر أن المثلى يضمن بمثله والقيمى بقيمته من
أحد النقدين فكيف يضمن بالتمر على الخصوص
وأجيب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو إذا
كان مخالفا للأصول لا لقياس
ج / 5 ص -218-
الأصول والأصول الكتاب والسنة والإجماع
والقياس والأولان هما الأصل والآخران مردودان
إليهما فكيف يرد الأصل بالفرع ولو سلم أن
الآحادي يتوقف فيه على الوجه الذي زعموا فلا
أقل لهذا الحديث الصحيح من صلاحيته تخصيص ذلك
القياس المدعي. وقد أجيب عن هذا العذر
بأجوبة غير ما ذكر ولكن أمثلها ما ذكرناه.
ومن جملة ما خالف فيه هذا الحديث القياس عندهم
أن الأصول تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف
وهو مختلف وقد قد ههنا بمقدار معين وهو الصاع
وأجيب بمنع التعميم في جميع المضمونات فإن
الموضحة أرشها مقدار مع اختلافها بالكبر
والصغر وكذلك كثير من الجنايات. والغرة
مقدرة في الجنين مع اختلافه
- والحكمة - في تقدير
الضمان ههنا بمقدار واحد لقطع التشاجر لما كان
قد اختلط اللبن الحادث بعد العقد باللبن
الموجود قبله فلا يعرف مقداره حتى يسلم
المشتري نظيره
- والحكمة - في التقدير
بالتمر أنه أقرب الأشياء إلى اللبن لأنه كان
قوتهم إذ ذاك كالتمر - ومن جملة - ما خالف به
الحديث القياس عندهم أنه جعل الخيار فيه ثلاثا
مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث وكذلك خيار
الرؤية والمجلس وأجيب بأن حكم المصراة تفرد
بأصله عن مماثلة فلا يستغرب أن ينفرد بوصف
يخالف غيره وذلك لأن هذه المدة هي التي يتبين
بها لبن الغرر بخلاف خيار والمجلس فلاج مدة.
- ومن جملة - ما خالف به
القياس عندهم أنه يلزم من الأخذ به الجمع بين
العوض والمعوض فيما إذا كان قيمة الشاة صاعا
من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو
مقدار ثمنها وأجيب بأن التمر عوض اللبن لاعوض
الشاة فلا يلزم ما ذكر
- ومن جملة - ما خالف به
القياس عندهم أنه إذا استرد مع الشاة صاعا
وكان ثمن الشاة صاعا كان قد باع شاة وصاع بصاع
فيلزم الربا وأجيب بأن الربا إنما يعتر في
العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا
ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض ولو
تقابلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل
القبض. ـ ومن جملة ـ المخالفة أنه يلزم من
الأخذ به ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان
اللبن موجودا وأجيب بأنه تعذر رده لاختلاطه
باللبن الحادت وتعذر تميزه فأشبه الآبق بعد
الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينة لتعذر رده
ومنهما أنه يلزم من الأخذ به إثبات الرد بغير
عيب ولا شرط وأجيب بأن اسباب الرد بالتدليس
وقد أثبت به الشارع الرد في الركبان إذا
تلقفوا كما سلف ولا يخفى على منصف أن هذه
القواعد التي جعلوا هذا الحديث مخالفا لها لو
سلم أنها قد قامت عليها الأدلة لم يقصر الحديث
عن الصلاحية لتخصيصها فياللّه العجب من قوم
يبلغون في المحاماة عن مذاهب اسلافهم وإيثارها
على السنة المطهرة الصريحة الصحيحة إلى هذا
الحد الذي يسر به ابليس وينفق في حصول مثل هذه
القضية التي قل طعمه في مثلها لا سيما من
علماء الإسلام النفس والنفيس وهكذا ففلتكن
ثمرات التمذهبات وتقليد الرجال في مسائل
الحرام والحلال. العذر السادس أن الحديث
محمول على صورة مخصوصة وهي ماذا اشترى شاة
بشرط أنها تحلب مثلا خمسة ارطال وشرط
ج / 5 ص -219-
فيها الخيار فالشرط فاسد فإن اتفقا على
اسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا
بطل ووجب رد الصاع من التمر لأنه كان قيمة
اللبن يومئذ وأجيب بأن الحديث معلق بالتصرية
وما ذكروه يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء وجدت
تصرية أم لا فهو تأويل متعسف. وأيضا لو سلم
أن ما ذكروه من جملة صور الحديث فالقصر على
صورة معينة هي فرد من أفراد الدليل لا بد من
إقامة دليل عليه.
قال في الفتح واختلف
القائلون بالحديث في أشياء. منها لو كان
عالما بالتصرية هل يثبت له الخيار فيه وجه
للشافعية قال. ومنها لو صار لبن المصراة
عادة واستمر على كثرته هل له الرد فيه وجه
للشافعية قال. ومنها لو صار لبن المصراة
عادة واستمر على كثرته هل له الرد فيه وجه لهم
أيضا خلافا للحنابلة في المسئلتين. ومنها لو
تصرت بنفسها أو صراها المالك لنفسه ثم بدا له
فباعها فهل يثبت ذلك الحكم فيه خلاف فمن نظر
إلى المعني لأن العيب يثبت الخيار ولا يشترط
فيه تدليس ومن نظر إلى أن حكم التصرية خارج عن
القياس خصه بمورده وهو حاله العمد فإن النهي
إنما يتناولها فقط. ومنها لو كان الضرع
مملوءا لحما فظنه المشترى لبنا فاشتراها على
ذلك ثم ظهر له أنه لحم هل يثبت له الخيار فيه
وجهان حكاهما بعض المالكية. ومنها لو اشترى
غير مصراة ثم اطلع على عيب بها بعد حلبها فقد
نص الشافعي على جواز الرد مجانا لأنه قليل غير
معتني بجمعه. وقيل يرد بدل اللبن
كالمصراة. وقال البغوي يرد صاعا من تمر
انتهى.
والظاهر عدم ثبوت الخيار
مع علم المشترى بالتصرية لأنتفاء الغرر الذي
هو السبب للخيار. وأما كون سبب الغرر حاصلا
من جهة البائع فيمكن أن يكون معتبرا لأن حكمة
صلى اللّه عليه وآله وسلم بثيوت الخيار بعد
النهي عن التصرية مشعر بذلك وأيضا المصراة
المذكورة في الحديث اسم مفعول وهو يدل على أن
التصرية وقعت عليها من جهة الغير لأن اسم
المفعول هو لمن وقع عليه فعل الفاعل ويمكن أن
لا يكون معتبرا لأن تصري الدابة من غير قصد
وكون ضرعها ممتلئا لحما يحصل به من الغرر ما
يحصل بالتصرية عن قصد فينظر. قال ابن عبد
البر هذا الحديث أصل في النهي عن الغش وأصل في
ثبوت الخيار لمن دلس عليه بعيب. وأصل في أنه
لا يفسد أصل البيع وأصل في أن مدة الخيار
ثلاثة أيام. وأصل في تحريم التصرية وثبوت
الخيار بها.
باب النهي عن
التسعير
1 - عن أنس قال غلا
السعر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقالوا يا رسول اللّه لو سعرت فقال:
"إن اللّه هو القابض الباسط الرازع المسعر
وأني لارجو ان القي اللّه عز وجل ولا يطلبني
أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال"
.رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
الحديث أخرجه أيضا
الدارمي والبزار وأبو يعلى قال الحافظ وإسناده
على شرط مسلم وصححه أيضا ابن حبان - وفي الباب
- عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: "جاء
رجل فقال يا رسول اللّه سعر فقال
بل ادعو اللّه
ثم جاء آخر فقال يا رسول اللّه سعر فقال
بل اللّه يخفض
ج / 5 ص -220-
ويرفع" قال الحافظ وإسناده حسن. وعن أبي سعيد عند ابن ماجه والبزار
والطبراني نحو حديث أنس ورجاله رجال الصحيح
وحسنه الحافظ. وعن علي عليه السلام عند
البزار نحوه. وعن ابن عباس عند الطبراني في
الصغير. وعن أبي جحيفة عنده في الكبير:
قوله: "لوسعرت" التسعير هو أن يأمر السلطان
أو نوابه أو كل من ولى من أمور المسلمين أمرا
أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم الا بسعر كذا
فيمنع من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة:
قوله: "المسعر" فيه دليل على أن المسعر من
أسماء اللّه تعالى وإنها لا تنحصر في التسعة
والتسعين المعروفة. وقد استدل بالحديث وما
ورد في معناه على تحريم التسعير وأنه مظلمة.
ووجهه أن الناس مسلطون على اموالهم والتسعير
حجر عليهم والإمام مأمور برعاية مصلحة
المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص
الثمن أولي من نظره في مصلحة البائع بتوفير
الثمن وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين
من الأجتهاد ولانفسهم وإلزام صاحب السلعة أن
يبيع بما لا يرضي به مناف لقوله تعالى :
{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وإلى هذا ذهب جمهور العلماء وروى عن مالك أنه يجوز للإمام التسعير
وأحاديث الباب ترد عليه. وظاهر الأحاديث أنه
لافرق بين حالة الغلاء وحالة الرخص ولا فرق
بين المجلوب وغيره وإلى ذلك مال الجمهور.
وفي وجه للشافعية جواز التسعير في حالة الغلاء
وهو مردود. وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين ما
كان قوتا للآدمي ولغيره من الحيوانات وبين ما
كان من غير ذلك من الادامات وسائر الأمتعة
وجوز جماعة من متأخري أئمة الزيدية جواز
التسعير فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة كما حكى
ذلك منهم صاحب الغيث. وقال شارح الاثمار إن
التسعير في غير القوتين لعله اتفاق والتخصيص
يحتاج إلى دليل والمناسب الملغى لا ينتهض
لتخصيص صرائح الأدلة بل لا يجوز العمل به على
فرض عدم وجود دليل كما تقرر في الأصول.
باب ما جاء في
الاحتكار
1 - عن سعيد بن المسيب
عن معمر بن عبد اللّه العدوي أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال:
"لا يحتكر الا خاطئ وكان سعيد يحتكر الزيت".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
2 - وعن معقل بن يسار
قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان
حقا على اللّه أن يقعده بعظم من النار يوم
القيامة"
3 - وعن أبي هريرة قال
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"من احتكر حكرة يريد أن يغري بها على المسلمين فهو
خاطئ"
رواهما أحمد.
4 - وعن عمر قال سمعت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"من احتكر على
ج / 5 ص -221-
المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس".
رواه ابن ماجه.
حديث معمر أخرجه أيضا
الترمذي وغيره. وحديث معقل أخرجه الطبراني
في الكبير والأوسط وفي إسناده زيد بن مرة أبو
المعلى. قال في مجمع الزائد ولم أجد من
ترجمه وبقية رجاله رجال الصحيح. وحديث أبي
هريرة خرجه أيضا الحاكم وزاد وقد برئت منه ذمة
اللّه وفي إسناد حديث أبي هريرة أبو معشر وهو
ضعيف وقد وثق. وحديث عمر في إسناده الهيثم
بن رافع قال أبو داود روى حديثا منكرا. قال
الذهبي هو الذي خرجه ابن ماجه يعني هذا وفي
إسناده أيضا أبو يحيى المكي وهو مجهول ولبقية
أحاديث الباب شواهد. منها حديث ابن عمر عند
ابن ماجه والحاكم وإسحاق بن راهوية والدارمي
وأبي يعلى والعقيلي في الضعفاء بلفظ:
"الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" وضعف الحافظ إسناده. ومنها حديث آخر عند ابن عمر أيضا عند أحمد
والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى
بلفظ:
"من أحتكر الطعام أربعين ليلة فقد بريء من
اللّه وبرئ اللّه منه" زاد الحاكم:
"وأيما أهل عرصة اصبح فيهم امرؤ جائع فقد
برئت منهم ذمة اللّه"
وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة والأول
مختلف فيه والثاني قال ابن حزم إنه مجهول وقال
غيره معروف ووثقه ابن سعد وروى عنه جماعة
واحتج به النسائي. قال الحافظ ووهم ابن
الجوزي فأخرج هذا الحديث في الموضوعات وحكى
ابن أبي حاتم عن أبيه أنه منكر ولا شك أن
أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على
عدم جواز الاحتكار لو فرض عدم ثبوت شيء منها
في الصحيح فكيف وحديث معمر المذكور في صحيح
مسلم والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة
عدم الجواز لأن الخاطئ المذنب العاصي وهو اسم
فاعل من خطئ بكسر العين وهمز اللام خطأ بفتح
العين وبكسر الفاء وسكون العين إذا أثم في
فعله قال أبو عبيدة وقال سمعت الأزهري يقول
خطئ إذا تعمد وأخطأ إذا لم يتعمد: قوله:
"بعظم" بضم العين المهملة وسكون الظاء
المعجمة أي بمكان عظيم من النار: قوله:
"حكرة" بضم الحاء المهملة وسكون الكاف وهي
حبس السلع عن البيع. وظاهر أحاديث الباب أن
الاحتكار محرم من غير فرق بين قوت الآدمي
والدواب وبين غير والتصريح بلفظ: "الطعام"
في بعض الروايات لا يصلح لتقييد بقية الروايات
المطلقة بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد
التي يطلق عليها المطلق وذلك لأن نفي الحكم عن
غير الطعام إنما هو لمفهوم اللقب وهو غير
معمول به عند الجمهور وما كان كذلك لا يصلح
للتقييد على ما تقرر في الأصول وذهبت الشافعية
إلى أن المحرم إنما هو احتكار الأقوات خاصة لا
غيرها ولا مقدار الكفاية منها وغلى ذلك ذهبت
الهادوية.
قال ابن رسلان في شرح
السنن ولا خلاف في أن ما يدخره الإنسان من قوت
ولا يحتاجون إليه من سمن وعسل وغير ذلك جائز
لا بأس به انتهى. ويدل على ذلك ما ثبت أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعطي كل
واحدة من زوجاته مائة وسق من خيبر. قال ابن
رسلان في شرح السنن وقد كان رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يدخر لأهله قوت سنتهم من
تمر وغيره. قال أبو داود قيل لسعيد يعنس ابن
المسيب فإنك
ج / 5 ص -222-
تحتكر قال ومعمر كان يحتكر وكذا في صحيح
مسلم. قال ابن عبد البر وآخرون إنما كانا
يحتكران الزيت وحملا الحديث على احتكار القوت
عند الحاجة إليه وكذلك حمله الشافعي وأبو
حنيفة وآخرون. ويدل على اعتبار الحاجة وقصد
إغلاء السعر على المسلمين قوله في حديث معقل:
"من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم" وقوله في حديث أبي هريرة:
"يريد أن يغلي بها على المسلمين"
قال أبو داود سألت أحمد ما الحكرة قال ما فيه
عيش الناس أي حياتهم وقوتهم وقال الأثرم سمعت
أبا عبد اللّه يعني أحمد بن حنبل يسئل عن أي
شيء الاحتكار فقال إذا كان من قوت الناس فهو
الذي يكره وهذا قول ابن عمر. وقال الأوزاعي
المحتكر من يعترض السوق أي ينصب نفسه للتردد
إلى الأسواق ليشتري منها الطعام الذي يحتاجون
إليه ليحتكره قال السبكي الذي ينبغي أن يقال
في ذلك أنه ان منع غيره من الشراء وحصل به ضيق
حرم وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القدر الذي
يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من
شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه
معنى. قال القاضي حسين والروياني وربما يكون
هذا حسنه لأنه ينفع به الناس وقطع المحاملي في
المقنع باستحبابه قال أصحاب الشافعي الأولى
بيع الفاضل عن الكفاية قال السبكي أما إمساكه
حالة استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه
إليهم وقت حاجتهم إليه فينبغي أن لا يكره بل
يستحب ـ والحاصل ـ إن العلة إذا كانت هي
الإضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار الا على
وجه يضر بهم ويستوي في ذلك القوت وغيره لأنهم
يتضررون بالجميع. قال الغزالي في الأحياء ما
ليس بقوت وولا معين عليه فلا يتعدى النهي إليه
وإن كان مطعوما وما يعين على القوت كاللحم
والفواكه وما يسد مسد شيء من القوت في بعض
الأحوال وإن كان لا يمكن المداومة عليه فهو في
محل النظر فمن العلماء من طرد التحريم في
السمن والعسل ووالشيرج والجبن والزيت وما يجري
مجراه. وقال السبكي إذا كان في وقت قحط كان
في إدخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار
فينبغي أن يقضي بتحريمه وإذا لم يكن إضرار فلا
يخلوا احتكار الأقوات عن كراهة. وقال القاضي
حسين إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها
لشدة البرد أو لستر العورة فيكره لمن عنده ذلك
امساكه. قال السبكي إن أراد كراهة تحريم
فظاهر وان أراد كراهة تنزيه فبعيد. وحكى أبو
داود عن قتادة أنه قال ليس في التمر حكرة.
وحكى أيضا عن سفيان أنه سئل عن كبس القت فقال
كانوا يكرهون الحكرة والكبس بفتح الكاف واسكان
الموحدة والقت بفتح القاف وتشديد التاء
الفوقية وهي اليابس من القضب. قال الطيبي ان
التقييد بالأربعين اليوم غير مراد به التحديد
انتهى. ولم أجد من ذهب إلى العمل بهذا
العدد.
ج / 5 ص -223-
باب النهي عن كسر سكة المسلمين إلا من بأس
1 - عن عبد اللّه بن
عمرو المازني قال: "نهى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أن تنكسر سكة المسلمين الجائزة
بينهم إلا من بأس". رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه.
الحديث أخرجه الحاكم في
المستدرك وزاد: "نهى ان تكسر الدراهم فتجعل
فضة وتكسر الدنانير فتجعل ذهبا" وضعفه ابن
حبان ولعل وجه الضعف كونه في إسناده محمد بن
فضاء بفتح الفاء والضاد المعجمة الأزدي الحمصي
البصري المعبر للرؤيا قال المنذري لا يحتج
بحديثه: قوله: "سكة" بكسر السين المهملة
أي الدراهم المضروبة على السكة الحديد
المنقوشة التي تطبع عليها الدراهم
والدنانير. قوله: "الجائزة" يعني النافقة
في معاملتهم: قوله: "إلا من بأس" كأن تكون
زيوفا وفي معنى كسر الدراهم كسر الدنانير
والفلوس التي عليها سكة الإمام لا سيما إذا
كان التعامل بذلك جاريا بين المسلمين كثيرا ـ
والحكمة ـ في النهي ما في الكسر من ضرر بإضاعة
المال لما يحصل من النقصان في الدراهم ونحوها
إذا كسرت وأبطلت المعاملة بها. قال ابن
رسلان لو ابطل السلطان المعاملة التي ضربها
السلطان الذي قبله وأخرج غيرها جار كسر تلك
الدراهم التي ابطلت وسبكها لإخراج الفضة التي
فيها وقد يحصل في سبكها وكسرها ربح كثير
لفاعله انتهى. ولا يخفى أن الشارع لم يأذن
في الكسر إلا إذا كان بها بأس ومجرد الإبدال
لنفع البعض ربما أفضى إلى الضرر بالكثير من
الناس فالجزم بالجواز من غير تقييد بانتفاء
الضرر لا ينبغي. لاقال أبو العباس بن سريج
أنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير
بالمقرض ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما
به ويجمعون من تلك القراضة شيئا كثيرا بالسبك
كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها وهذه
الفعلة هي التي نهى اللّه عنها قوم شعيب بقوله
:
{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} فقالوا انتهانا أن نفعل في اموالنا يعني الدراهم والدنانير ما
نشاء من القرد ولم ينتهوا عن ذلك فأخذتهم
الصيحة.
ـ فائدة ـ
قال في البحر مسألة الإمام يحيى لو باع بنقد
ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان
يلزم ذلك النقد إذ عقد عليه. الثاني يلزم
قيمته إذا صار لكساده كالعرض انتهى. قال في
المنار وكذلك لو صار كذلك يعني النقد لعارض
آخر وكثير ما وقع هذا في زمننا لفساد الضربة
لإهمال الولاة النظر في المصالح والأظهر أن
اللازم القيمة لما ذكره المصنف انتهى.
باب ما جاء في
اختلاف المتبايعين
1 - عن ابن مسعود قال
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: "إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما
يقول صاحب السلعة أو يترادان".
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وزاد فيه ابن
ماجه:
"والبيع قائم بعينه".
وكذلك أحمد في رواية:
"والسلعة كما هي"
وللدارقطني عن أبي وائل عن عبد اللّه قال:
"إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول
البائع".
ج / 5 ص -224-
ورفع الحديث إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم. ولأحمد والنسائي عن أبي عبيدة:
"وأتاه رجلان تبايعا سلعة فقال هذا أخذت بكذا
وكذا قال هذا بعت بكذا وكذا فقال أبو عبيدة
أتى عبد اللّه في مثل هذا فقال حضرت النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم في مثل هذا فأمر بالبائع
بأن يستحلف ثم يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن
شاء ترك".
الحديث روي عن عبد اللّه
بن مسعود من طرق بألفاظ ذكر المصنف رحمه اللّه
بعضها. وقد أخرجه أيضا الشافعي من طريق سعيد
بن سالم عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن
عبد الملك بن عمير عن أبي عبيدة عن أبيه عبد
اللّه بن مسعود قد اختلف فيه على اسمعيل بن
أميه ثم على ابن جريج. لقد اختلف في صحة
سماع أبي عبيدة من أبيه. ورواه من طريق أبي
عبيدة أحمد والنسائي والدارقطني وقد صححه
الحاكم وابن السكن. ورواه أيضا الشافعي من
طريق سفيان بن عجلان عن عون بن عبد اللّه بن
عتبة عن ابن مسعود وفيه ايضا انقطاع لأن عونا
لم يدرك ابن مسعود. ورواه الدارقطني من طريق
القاسم بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن مسعود
عن أبيه عن جده: وفيه اسمعيل بن عياش عن
موسى بن عقبة. ورواه أبو داود من طريق عبد
الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس عن
أبيه عن جده عن ابن مسعود. وأخرجه أيضا من
طريق محمد بن أبي ليلى عن القاسم بن عبد
الرحمن بن عبد اللّه بن مسعود عن أبيه عن ابن
مسعود ومحمد بن أبي ليلى لا يحتج به وعبد
الرحمن لم يسمع من أبيه. ورواه ابن ماجه
والترمذي من طريق عون بن عبد اللّه ايضا عن
ابن مسعود وقد سبق أنه منقطع. قال البيهقي
وأصح إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس
عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن
قيس عن أبيه عن جده ورواه أيضا الدارقطني من
طريق القاسم ابن عبد الرحمن:قال الحافظ
ورجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن اختلف في سماعه
من أبيه. ورواية التراد زواها أيضا مالك
بلاغا والترمذي وابن ماجه بإسناد منقطع ورواه
أيضا الطبراني بلفظ:
"البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا"
قال الحافظ رواته ثقات لكن اختلف في عبد
الرحمن بن صالح يعني الراوي له عن فضيل بن
عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن
مسعود قال وما أظنه حفظه فقد حزم الشافعي أن
طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شيء
موصول. ورواه أيضا النسائي والبيهقي والحاكم
من طريق عبد الرحمن بن قيس بالإسناد الذي رواه
عنه أبو داود كما سلف وصححه من هذا الوجه
الحاكم وحسنه البيهقي ورواه عبد اللّه بن أحمد
في زيادات المسند من طريق القاسم بن عبد
الرحمن عن جده بلفظ:
"إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا
بينة لأحدهما تحالفا" ورواه من هذا الوجه الطبراني والدارمي وقد انفرد بقوله:
"والسلعة قائمة"
محمد بن أبي ليلى ولا يحتج به كما عرفت لسوء
حفظه. قال الخطابي إن هذه اللفظة يعني
والسلعة قائمة لا تصح من طريق النقل مع احتمال
أن يكون
ج / 5 ص -225-
ذكرها من التغليب لأن أكثر ما يعرض النزاع
حال قيام السلعة كقوله تعالى :
{فِي حُجُورِكُمْ}ولم
يفرق أكثر الفقهاء في البيوع الفاسدة بين
القائم والتالف انتهى.
وأبو وائل الراوي لقوله
والبيع مستهلك كما في حديث الباب هو عبد اللّه
بن بحير شيخ عبد الرزاق الصنعاني القاص وثقه
ابن معين وقال ابن حبان يروى العجائب التي
كأنها معمولة لا يحتج به وليس هذا المذكور عبد
اللّه بن بحير ابن ريشان فإنه ثقة وعلى هذا
فلا يقبل ما تفرد به أبو وائل المذكور. وأما
قوله فيه تحالفا فقال الحافظ لم يقع عند أحد
منهم وإنما عندهم والقول قول البائع أو يتراد
ان البيع انتهى. قال ابن عبد البر أن هذا
الحديث منقطع إلا أنه مشهور الأصل عند جماعة
تلقوه بالقبول وبنوا عليه كثيرا من فروعه
وأعله ابن حزم بالإنقطاع وتابعه عبد الحق
وأعله هو وابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن
وأبيه وجده. وقال الخطابي هذا حديث قد اصطلح
الفقهاء على قبوله وذلك يدل على أن له أصلا
وإن كان في إسناده مقال كما اصطلحوا على قبول
لا وصية لوارث وإسناده فيه ما فيه انتهى.
قوله: "البيعان" أي البائع والمشتري كما
تقدم في الخيار ولم يذكر الأمر الذي فيه
الاختلاف وحذف المتعلق مشعر بالتعميم في مثل
هذا المقام على ما تقرر في علم المعاني فيعم
الأختلاف في المبيع والثمن وفي كل أمر فرجع
إليهما وفي سائر الشروط المعتبرة والتصريح
بالأختلاف في الثمن في بعض الروايات كما وقع
في الباب لا ينافي هذا العموم المستفاد من
الحذف. قوله: "صاحب السلعة" هو البائع
كما وقع التصريح به في سائر الروايات فلا وجه
لما روى عن البعض إن رب السلعة في الحال هو
المشتري. وقد استدل بالحديث من قال إن
القول: قول البائع إذا وقع الأختلاف بينه
وبين المشتري في أمر من الأمور المتعلقة
بالعقد ولكن مع يمينه كما وقع في الرواية
الآخرة وهذا إذا لم يقع التراضي على التراد
فإن تراضيا على ذلك جاز بلا خلاف فلا يكون
لهما خلاص عن النزاع إلا التفاسخ أو حلف
البائع والظاهر عدم الفرق بين بقاء المبيع
وتلفه لما عرفت من عدم انتهاض الرواية المصرح
فيها باشتراط بقاء المبيع للاحتجاج والتراد مع
التلف ممكن بأن يرجع كل واحد منهما بمثل
المثلى وقيمة القيمي إذا تقرر لك ما يدل عليه
هذا الحديث من كون القول قول البائع من غير
فرق فاعلم أنه لم يذهب إلى العمل به في جميع
صور الأختلاف أحد فيما أعلم بل اختلفوا في ذلك
اختلافا طويلا على حسب ما هو مبسوط في الفروع
ووقع الأتفاق في بعض الصور والأختلاف في بعض
وسبب الاختلاف في ذلك ما سيأتي من قوله صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"البينة على المدعي واليمين على المدعى
عليه"
لأنه يدل بعمومه على ان اليمين على المدعى
عليه والبينة على المدعي من غير فرق بين أن
يكون أحدهما بائعا والآخر مشتريا أولا.
وحديث الباب يدل على أن
القول قول البائع مع يمينه والبينة على
المشتري من غير فرق بين أن يكون البائع مدعيا
أو مدعى عليه فبين الحديثين عموم وخصوص من وجه
فيتعارضان باعتبار مادة الأتفاق وهي حيث يكون
البائع مدعيا فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى
الأمور الخارجية وحديث أن اليمين على المدعى
عليه عزاه المصنف في كتاب
ج / 5 ص -226-
الأقضية إلى أحمد ومسلم وهو أيضا في صحيح
البخاري في الرهن وفي باب اليمين على المدعى
عليه وفي تفسير آل عمران. وأخرجه الطبراني
بلفظ:
"البينة على المدعي واليمين على المدعى
عليه"
وأخرجه الإسماعيلي بلفظ:
"ولكن البينة على الطالب واليمين على
المطلوب"
وأخرجه البيهقي بلفظ:
"لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى رجال أموال
قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعي واليمين
على من أنكر" وهذه الألفاظ كلها في حديث ابن عباس ممن
رام الترجيح بين الحديثين لم يصعب عليه ذلك
بعد هذا البيان ومن أمكنة الجمع بوجه مقبول
فهو المتعين. |