نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

كتاب السلم
1 - عن ابن عباس قال قدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "‏من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم‏"‏‏.‏ رواه الجماعة وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد‏.‏
قوله ـ كتاب السلم ـ هو بفتح السين المهملة واللام كالسلف‏.‏ وزنا ومعنى وحكى في الفتح عن الماوردي أن السلف لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز وقيل السلف تقديم رأس المال والسلم تسليمه في المجلس فالسلف أعم‏.‏ قال في الفتح والسلم شرعا بيع موصوف في الذمة وزيد في الحد ببدل يعطى عاجلا وفيه نظر لأنه ليس داخلا في حقيقته‏.‏ قال واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكى عن ابن المسيب واختلفوا في بعض شروطه واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا اه قوله: "‏يسلفون‏"‏ بضم أوله قوله: "‏السنة والسنتين‏"‏ في رواية للبخاري
"عامين أو ثلاثة" "‏والسنة‏"‏ بالنصب على الظرفية أو على المصدر وكذلك لفظ: "‏سنتين وعامين‏"‏ قوله: "‏في كيل معلوم‏"‏ احترز بالكيل عن السلم في الأعيان وبقوله معلوم عن المجهول من المكيل والموزون وقد كانوا في المدينة حين قدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر إذا قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئا قال الحافظ واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل الا أن يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق‏:‏ قوله: "‏إلى اجل معلوم‏"‏ فيه دليل على اعتبار الأجل في السلم وإليه ذهب الجمهور وقالوا لا يجوز السلم حالا وقالت الشافعية يجوز قالوا لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى وليس ذكر الأجل في الحديث لأجل الأشتراط بل معناه إن كان لأجل فليكن معلوما وتعقب بالكتابة فإن التأجيل شرط فيها‏.‏ وأجيب بالفرق لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا واستدل الجمهور على اعتبار التأجيل بما أخرجه الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال

 

ج / 5 ص -227-       أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله اللّه في كتابه وأذن فيه ثم قرأ ‏: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ‏}‏ ويجاب بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل ولا يدل على أنه لا يجوز إلا مؤجلا وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: "‏لاتسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا‏"‏ ويجاب بأن هذا ليس بحجة لأنه موقوف عليه‏.‏ وكذلك يجاب عن قول أبي سعيد الذي علقه البخاري ووصله عبد الرزاق بلفظ: "‏السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل‏"‏ وقد اختلف الجمهور في مقدار الأجل فقال أبو حنيفة لا فرق بين الأجل القريب والبعيد وقال أصحاب مالك لا بد من أجل تتغير فيه الأسواق واقله عندهم ثلاثة أيام وكذا عند الهادوية وعند ابن القاسم خمسة عشر يوما وأجاز مالك السلم إلى العطاء والحصاد ومقدم الحاج ووافقه أبو ثور واختار ابن خزيمة تأقيته إلى الميسرة واحتج بحديث عائشة إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: "‏بعث إلى يهودي أبعث إلى ثوبين إلى الميسرة‏"‏ وأخرجه النسائي وطعن ابن المنذر في صحته وليس في ذلك دليل على المطلوب لأن التنصيص على نوع من أنواع الأجل لا ينفي غيره‏.‏ وقال المنصور باللّه أقله أربعون يوما وقال الناصر أقله ساعة والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الأجل لعدم ورود دليل يدل عليه فلا يلزم التعبد بحكم بدون دليل‏.‏ وأما ما يقال من أنه يلزم مع عدم الأجل أن يكون بيعا للمعدوم ولم يرخص فيه إلا في السلم ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة وذلك كاف ـ واعلم ـ أن للسلم شروطا غير ما اشتمل عليه الحديث مبسوطة في كتب الفقه ولا حاجة لنا في التعرض لما لا دليل عليه الا أنه وقع الإجماع على اشتراط معرفة صفة الشيء المسلم فيه على وجه يتميز بتلك المعرفة عن غيره‏.‏
2 - وعن عبد الرحمن بن أبزي وعبد اللّه بن أبي أوفى قالا: "‏كنا نصيب المغانم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكان يأتينا انباط من انباط الشام فنسلفهم في الحنطة والزيت إلى أجل مسمى قيل أكان لهم زرع أو لم يكن قالا ما كنا نسألهم عن ذلك‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏ وفي رواية: "‏كنا نسلف على عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر ومانراه عندهم‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا الترمذي‏.‏
3 - وعن أبي سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"‏من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره‏"‏‏.‏
رواه أبو داود وابن ماجه‏.‏
4 - وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"‏من اسلف شيئا وفا يشرط على صاحبه غير قضائه‏"‏‏.‏ وفي لفظ: "‏من أسلف في شيء فلا

 

ج / 5 ص -228-       يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله‏"‏ رواهما الدارقطني دليل امتناع الرهن والضمين فيه والثاني بمنع الاقالة في البعض‏.‏
حديث أبي سعيد في إسناده عطية بن سعد العوفي قال المنذري لا يحتج بحديثه قوله: "‏بن أبزي‏"‏ بالموحدة الزاي على وزن علي وزن أعلى وهو الخزاعي أحد صغار الصحابة ولأبيه أبزي صحبة‏.‏ قوله: "‏انباط‏"‏ جمع نبيط وهم قوم معروفون كانوا ينزلون بالبطائح من العراقين قاله الجوهي وأصلهم قوم من العرب دخلوا في العجم واختلطت أنسابهم وفسدت السنتهم ويقال لهم النبط بفتحتين والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وإنما سموا بذلك لمعرفتهم بانباط الماء أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة وقيل هم نصارى الشام وهم عرب دخلوا في الروم ونزلوا بوادي الشام ويدل على هذا قوله من انباط الشام‏.‏ وقيل هم طائفتان طائفة اختلطت العجم ونزلوا البطائح وطائفة اختلطت بالروم ونزلوا الشام‏:‏ قوله فنسلفهم بضم النون واسكان السين المهملة وتخفيف اللام من الاسلاف وقد تشدد اللام مع فتح السين من التسليف‏:‏ قوله: "‏ما كنا نسألهم عن ذلك‏"‏ فيه دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه وذلك مستفاد من تقريره صلى اللّه عليه وآله وسلم لهم مع ترك الاستفصال‏.‏ قال ابن رسلان وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه‏.‏ قوله: "‏ومانراه عندهم‏"‏ لفظ أبي داود الي قوم ما هو عندهم أي ليس عندهم أصل من الأصول الحنطة والشعير والتمر والزبيب‏.‏ وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت السلم إذا امكن وجوده في وقت حلول الأجل فذهب إلى جوازه الجمهور قالوا ولا يضر انقطاعه قبل الحلول‏.‏ وقال أبوحنيفة لا يصح فيما ينقطع قبله بل لا بد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل ووافقه الثوري والأوزاعي فلو أسلم في شيء فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور وفي وجه للشافعية ينفسخ‏.‏ واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر: "‏أن رجلا أسلف رجلا في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئا فاختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
بم تستحل ماله اردد عليه ماله ثم قال لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه‏"‏ وهذا نص في التمر وغيره قياس عليه ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى لأنه صريح في الدلالة على المطلوب بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزي وعبد اللّه بن أبي أوفى فليس فيه الا مظنة التقرير منه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع ملاحظة تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم ولكن حديث ابن عمر هذا في إسناده رجل مجهول فإن أبا داود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر ومثل هذا لا تقوم به حجة‏.‏ - قال القائلون - بالجواز ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الأعيان أو على السلم الحال عند من يقول به أو على ما قرب أجله قالوا ومما يدل على الجواز ماتقدم من أنهم كانوا يسلفون في الثمار السنتين والثلاث ومن المعلوم إن الثمار لا تبقى هذه المدة ولو اشترط الوجود لم يصح السلم في الرطب إلى هذه المدة وهذا أولى ما يتمسك به في الجواز‏.‏ قوله - فلا يصرفه إلى غيره - الظاهر أن الضمير راجع إلى المسلم فيه لا إلى

 

ج / 5 ص -229-       ثمنه الذي هو رأس المال والمعنى أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل القبض أي لا يصرفه إلى شيء غير عقد السلم‏.‏ وقيل الضمير راجع إلى رأس مال السلم‏.‏ وعلى ذلك حمله ابن رسلان في شرح السنن وغيره أي ليس له صرف رأس المال في عوض آخر كأن يجعله ثمنا لشيء آخر فلا يجوز له ذلك حتى يقبضه وإلى ذلك ذهب مالك وأبو حنيفة والهادي والمؤيد باللّه‏.‏ وقال الشافعي وزفر يجوز ذلك لأنه عوض من مستقر في الذمة فجاز كما لو كان قرضا ولانه مال عاد إليه بفسخ العقد على فرض تعذر المسلم فيه فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع إذا فسخ العقد قوله ـ فلا يشرط على صاحبه غير قضائه ـ فيه دليل على أنه لا يجوز شيء من الشروط في عقد السلم غير القضاء واستدل به المصنف على امتناع الرهن وقد روى عن سعيد بن جبير أن الرهن في السلم هو الربا المضمون‏:‏ وقد روى نحو ذلك عن ابن عمر والأوزاعي والحسن وهو إحدى الروايتين عن أحمد ورخص فيه الباقون واستدلوا بما في الصحيح من حديث عائشة ـ أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اشترى طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد ـ وقد ترحم عليه البخاري باب الرهن في السلم وترجم عليه أيضا في كتاب السلم باب الكفيل في السلم واعترض عليه الإسماعيلي بأنه ليس في الحديث ماترجم به ولعله أراد الحاق الكفيل بالرهن لأنه حق ثبت الرهن به فجاز أخذ الكفيل به والخلاف في الكفيل كالخلاف في الرهن‏:‏ قوله ـ فلا يأخذ إلا ما سلف فيه ـ الخ فيه دليل لمن قال أنه لا يجوز صرف رأس المال إلى شيء آخر وقد تقدم الخلاف في ذلك‏.‏