نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية ج / 6 ص -33-
كتاب الوصايا
باب الحث على
الوصية والنهي عن الحيف فيها وفضيلة التنجيز
حال الحياة
1 - عن ابن عمر "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن
يوصي فيه الا ووصيته مكتوبة عند رأسه". رواه الجماعة واحتج به من يعمل بالخط إذا عرف.
قوله "كتاب الوصايا"
قال في الفتح الوصايا جمع وصية كالهدايا وتطلق
على فعل الموصى وعلى ما يوصى به من مال أو
غيره من عهد ونحوه فتكون بمعنى المصدر وهو
الأيصاء وتكون بمعنى المفعول وهو الأسم. وهي
في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت قال
الأزهري الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه
إذا وصلته وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما
كان في حياته بعد مماته ويقال وصية بالتشديد
ووصاة بالتخفيف بغير همز وتطلق شرعا أيضا على
ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على
المأمورات. قوله: "ما حقط ما نافية
بمعنى ليس والخبر ما بعد إلا. وروى الشافعي
عن سفيان بلفظ
"ما حق امرئ يؤمن بالوصية"
الحديث أي يؤمن بأنها حق كما حكاه ابن عبد
البر عن ابن عيينة وروراه ابن عبد البر
والطحاوي بلفظ
"لا يحل لامرئ مسلم له مال" وقال الشافعي معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم الا أن تكون
وصيته مكتوبة عند وكذا قال الخطابي. قوله:
"مسلم" قال في الفتح هذا الوصف خرج مخرج
العالب فلا مفهوم له او ذكر للتهييج لتقع
المبادرة إلى الأمتثال لما يشعر به من نفي
الإسلام عن ترك ذلك ووصية الكافر جائزة في
الجملة وحكى ابن المنذر فيه الإجماع قوله:
يبيت صفة لمسلم كما جزم به الطيبي. قوله
"ليلتين" في رواية للبيهقي وأبي عوانة
ليلة أو ليلتين. لمسلم والنسائي ثلاث
ليال. قال الحافظ وكأن ذكر الليلتين والثلاث
لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى
ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه
واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا
للتحديد والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان
قليلا الا ووصيته مكتوبه وفيه اشارة إلى
اغتفار الزمن اليسير وكأن الثلاث غاية التأخير
ولذلك قال ابن عمر لم أبت ليلة منذ سمعت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول ذلك الا
ووصيتي عندي. قال الطيبي في تخصيص الليلتين
والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة أي لا
ينبغي أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في
الليلتين والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز
ذلك. قال العلماء لا يندب أن يكتب جميع
الأشياء المحقرة ولاما جرت العادة بالخروج منه
والوفاء به عن قرب.
ـ وقد استدل ـ بهذا
الحديث مع قوله تعالى
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية على وجوب الوصية وبه قال جماعة من السلف منهم عطاء والزهري
وأبو مجلز وطلحة بن مصرف في آخرين
ج / 6 ص -34-
وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال
إسحاق وداود وأبو عوانة الأسفرايني وابن
جرير. قال في الفتح وآخرون وذهب الجمهور إلى
أنها مندوبة وليست بواجبة ونسب ابن عبد البر
القول بعدم الوجوب إلى الإجماع وهي مجازفة لما
عرفت. وأجاب الجمهور عن الآية بأنها منسوخة
كما في البخاري عن ابن عباس قال "كان المال
للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ اللّه من
ذلك ما أحب فجعل لكل واحد من الأبوين السدس.
وأجاب القائلون بالوجوب بأن الذي نسخ الوصية
للوالدين والأقارب الذي يرثون وأما من لا يرث
فليس في الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي
النسخ في حقه وأجاب من قال بعدم الوجوب عن
الحديث بأن قوله "ما حق" الخ للحزم
والأحتياط لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير
وصية. وقيل الحق لغة الشيء الثابت ويطلق
شرعا على ما يثبت به الحكم وهو أعم من أن يكون
واجبا أو مندوبا وقد يطلق على المباح قليلا
قاله القرطبي.
وأيضا تفويض الأمر إلى
أرادة الموصي يدل على عدم الوجوب ولكنه يبقى
الأشكال في الرواية المتقدمة بلفظ "لا
يحل لامرئ مسلم"
وقد قيل أنه يحتمل ان روايها ذكرها بالمعنى
وأراد ينفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم
الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وقد
اختلف القائلون بالوجوب فقال أكثرهم تجب
الوصية في الجملة وقال طاوس وقتادة وجابر بن
زيد في آخرين تجب للقرابة الذي لا يرثون
خاصة. وقال أبو ثور وجوب الوصية في الآية
والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع
على صاحبه ان لم يوص به كالوديعة والدين
ونحوهما قال ويدل على ذلك تقييده بقوله "له
شيء يريد أن يوصي فيه" قال في الفتح وحاصله
يرجع إلى قول الجمهور ان الوصية غير واجبة
بعينها وإنما الواجب بعينه الخروج من الحقوق
الواجبة للغير سواء كان بتنجيز أو وصية ومحل
وجوب الوصية إنما هو إذا كان عاجزا عن تنجيزه
ولم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادة فأما
إذا كان قادرا أو علم بها غيره فلا وجوب قال
وعرف من مجموع ما ذكرنا ان الوصية قد تكون
واجبة وقد تكون مندوبة فيمن رجامتها كثرة
الأجر ومكروهة في عكسه ومباحة فيمن استوى
الأمران فيه ومحرمة فيما إذا كان فيها اضرار
كما ثبت عن ابن عباس "الأضرار في الوصية من
الكبائر" رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد
صحيح ورواه النسائي مرفوعا ورجاله ثقات. قد
استدل من قال بعدم وجوب الوصية بما ثبت في
البخاري وغيره عن عائشة أنها انكرت أن يكون
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أوصى
وقالت متى أوصى وقد مات بين سحري ونحري وكذلك
ما ثبت أيضا في البخاري عن ابن أبي أوفى أنه
قال "ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم
يوص" وأخرج أحمد وابن ماجه قال الحافظ بسند
قوي عن ابن عباس في أثناء حديث فيه أمر النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم أبا بكر أن يصلي
بالناس قال في آخره مات رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم ولم يوص قالوا ولو كانت الوصية
واجبة لما تركها رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم وأجيب بأن المراد بنفي الوصية منه
صلى اللّه عليه وآله وسلم نفي الوصية بالخلافة
لا مطلقا بدليل أنه قد ثبت عنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بعدة أمور كأمره صلى اللّه عليه
وآله وسلم في مرضه لعائشة بانفاق الذهيبة كما
ثبت من حديثها عند أحمد وابن سعد وابن
ج / 6 ص -35-
خزيمة. وفي المغازي لابن إسحاق عن عبيد
اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال لم يوص رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند موته الا
بثلاث لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين
بجاد مائة وسق من خيبر وان لا يترك في جزيرة
العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة. وفي صحيحي
مسلم عن ابن عباس وأوصى بثلاث أن يجيزوا الوفد
بنحوما كنت أجيزهم الحديث. وأخرج أحمد
والنسائي وابن سعد عن أنس "كانت غاية وصية
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين حضره
الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم" وله شاهد من
حديث علي عند أبي داود وابن ماجه. ومن حديث
أم سلمة عند النسائي بسند جيد
والأحاديث في هذا الباب كثيرة أورد منها صاحب
الفتح في كتاب الوصايا شطرا صالحا وقد جمعت في
ذلك رسالة مستقلة.
ـ واستدلوا ـ أيضا على توجيه نفي من نفي
الوصية مطلقا إلى الخلافة بما في البخاري عن
عمر "قال مات رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم ولم يستخلف" وبما أخرجه أحمد
والبيهقي عن علي "أنه لما ظهر يوم الجمل قال
يا أيها الناس إن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة
شيئا" الحديث. قال القرطبي كانت الشيعة قد
وضعوا أحاديث في أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد ذلك جماعة من
الصحابة وكذا من بعدهم فمن ذلك ما استدلت به
عائشة يعني الحديث المتقدم. ومن ذلك إن عليا
لم يدع ذلك لنفسه ولا بعد أن ولى الخلافة ولا
ذكره لأحد من الصحابة يوم السقيفة وهؤلاء
ينتقصون عليا من حيث قصدوا تعظيمه لأنهم نسبوه
مع شجاعته العظمى وصلابته إلى المداهنة
والتقييد والأعراض عن طلب حقه مع قدرته على
ذلك اه ولا يخفى أن نفي عائشة للوصية حال
الموت لا يستلزم نفيها في جميع الأوقات فإذا
أقام البرهان الصحيح من يدعي الوصاية في شيء
معين قبل. قوله "مكتوبة عند رأسه" استدل
بهذا على جواز الأعتماد على الكتابة والخط ولو
لم يقترن بالشهادة وخص محمد بن نصر من
الشافعية ذلك بالوصية لثبوت الخبر فيها دون
غيرها من الأحكام. قال الحافظ وأجاب الجمهور
بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به
قالوا ومعنى قوله "وصيته مكتوبه عنده" أي
بشرطها. وقال المحب الطبري اضمار الأشهاد
فيه بعد وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط
الاشهاد بأمر خارج كقوله تعالى {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ}
فإنه يدل على اعتبار الاشهاد في الوصية وقال
القرطبي ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق
وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم
تكن مكتوبة اه وقد استوفينا الأدلة على جواز
العمل بالخط في الاعتراضات التي كتبناها على
رسالة الجلال في الهلال فليراجع ذلك فإنه
مفيد.
2 - وعن أبي هريرة "قال جاء رجل فقال يا
رسول اللّه أي الصدقة أفضل أو أعظم أجرا قال
"أما وأبيك
لتفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى الفقر
وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم
قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان".
رواه الجماعة إلا الترمذي.
ج / 6 ص -36-
قوله: "أي صدقة أفضل أو أعظم" في رواية
للبخاري أفضل وفي أخرى له أعظم. قوله
"لتفتأن" بفتح اللام وضم الفوقية وسكون
الفاء وبعدها فوقية أيضا ثم همزة مفتوحة ثم
نون مشددة وهو من الفتيا وفي نسخة
"لتنبأن" بضم التاء وفتح النون بعدها ياء
موحدة ثم همزة مفتوحة ثم نون مشددة من
النبأ. قوله "أن تصدق" بتخفيف الصاد على
حذف إحدى التاءين وأصله أن تتصدق والتشديد على
الأدغام. قوله: "شحيح" قال صاحب
المنتهى الشح بخل مع حرص. وقال صاحب المحكم
الشح مثلث الشين والضم أولى. وقال صاحب
الجامع كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم
قال الخطابي فيه ان المرض يقصر يد المالك عن
بعض ملكه وإن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو
عنه سمة البخل فلذلك شرط صحة البدن في الشح
بالمال لانه في الحالتين يجد للمال وقعا في
قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر.
قال ابن بطال وغيره لما كان الشح غالبا في
الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية
وأعظم للأجر بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير
المال لغيره. قوله: "وتأمل" بضم الميم
أي تطمع.
قوله "ولا تمهل" بالإسكان على أنه نهي
وبالرفع على أنه نفي ويجوز النصب. قوله
"حتى إذا بلغت الحلقوم" أي قاربت بلوغه إذ
لو بلغته حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته
والحلقوم مجرى النفس. قاله أبو عبيدة.
قوله "قلت لفلان كذا" الخ قال في الفتح
الظاهر إن هذا المذكور على سبيل المثال.
وقال الخطابي فلان الأول والثاني الموصي له
فلان الأخير الوارث لأنه إن شاء ابطله وإن شاء
أجازه. وقال غيره يحتمل أن يكون المراد
بالجمع من يوصي له وإنما أدخل كان في الثالث
اشارة إلى تقدير القدر له بذلك. وقال
الكرماني يحتمل أن يكون الأول للوارث والثاني
الموروث والثالث الموصى له. قال الحافظ
ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا.
ـ والحديث يدل ـ على أن تنجيز وفاء الدين
والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض لأنه
في حال الصحة يصعب عليه اخراج المال غالبا لما
يخوفه به الشيطان ويزين له من امكان طول العمر
والحاجة إلى المال كما قال تعالى
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وفي معنى الحديث قول تعالى
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}
الآية. وفي معناه أيضا ما أخرج الترمذي
بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء
مرفوعا. قال
"مثل الذي يعتق ويتصدق
عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع"
وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي
سعيد مرفوعا
"لأن يتصدق الرجل في حايته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته
بمائة".
3 - وعن أبي هريرة عن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال "ان
الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة اللّه ستين سنة
ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فيجب لهما
النار ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصي بها
أو دين غير مضار وصية من اللّه إلى قوله وذلك
الفوز العظيم".
ج / 6 ص -37-
رواه أبو داود والترمذي. ولأحمد وابن ماجه
معناه وقالا فيه "سبعين سنة".
الحديث حسنه الترمذي وفي
إسناده شهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد من
الأئمة. ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين
ولفظ أحمد وابن ماجه الذي أشار إليه المصنف
"أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة
فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله
فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر
سبعين سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة" وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد لأن مجرد المضارة في الوصية إذا
كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في
السنين المتعددة فلا شك أنها من الذنوب التي
لا يقع في مضيقها الا من سبقت له الشقاوة
وقراءة أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث
وتقويته لان اللّه سبحانه قد قيد ما شرعه من
الوصية بعدم الضرار فتكون الوصية المشتملة على
الضرار مخالفة لما شرعه اللّه تعالى وما كان
كذلك فهو معصية. وقد تقدم قريبا عن ابن عباس
مرفوعا وموقوفا بإسناد صحيح ان وصية الضرار من
الكبائر وذلك مما يؤيد معنى الحديث فما أحق
وصية الضرار بالابطال من غير فرق بين الثلث
وما دونه وما فوقه وقد جمعت في ذلك رسالة
مشتملة على فوائد لا يستغني عنها.
باب ما جاء في
كراهة مجاوزة الثلث والأيصاء للوارث
1 - عن ابن عباس قال
"لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"الثلث كثير".
متفق عليه.
2 - وعن سعد بن أبي وقاص
"انه قال جاءني رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يعودني من وجع اشتد بي فقلت يا رسول
اللّه اني قد بلغ بي الوجع ما ترى وأنا ذو مال
ولا يرثني الا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي قال
لا
قلت فالشطر يا رسول اللّه قال
لا
قلت فالثلث قال
"الثلث والثلث كثير أو كبير أنك ان تذر ورثتك أغنياء
خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". رواه الجماعة. وفي رواية أكثرهم "جاءني يعودني في حجة
الوداع" وفي لفظ "عادني رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم في مرضي فقال أوصيت
قلت نعم قال بكم
قلت بمالي كله في سبيل اللّه قال
فما تركت لولدك قال هم أغنياء قال
أوص بالعشر فما زال يقول وأقول حتى قال
أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير"
رواه النسائي وأحمد بمعناه الا أنه قال "قلت
نعم جعلت
ج / 6 ص -38-
مالي كله في الفقراء والمساكين وابن
السبيل" وهو دليل على نسخ وجوب الوصية
للأقربين.
3 - وعن أبي الدرداء عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال "ان اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم
ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم".
رواه الدارقطني.
حديث أبي الدرداء أخرجه
أيضا أحمد وأخرجه أيضا البيهقي وابن ماجه
والبزار من حديث أبي هريرة بلفظ
"ان اللّه تصدق عليكم عند موتكم بثلث
أموالكم زيادة لكم في أعمالكم" قال الحافظ وإسناده ضعيف وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث
أبي أمامة بلفظ
"ان اللّه تصدق لكم بثلث أموالكم عند وفاتكم
زيادة في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم" وفي إسناده إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان.
ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر الصديق
وفي إسناده خفص بن عمرو بن ميمون وهو متروك
وعن خالد بن عبد اللّه السلمي عند ابن عاصم
وابن السكن وابن قانع وأبي نعيم والطبراني وهو
مختلف في صحبته رواه عنه ابنه الحرث وهو مجهول
وقد ذكر الحافظ في التلخيص حديث أبي الدرداء
ولم يتكلم عليه. قوله: "غضوا"
بمعجمتين أي نقصوا ولو للتمني فلا تحتاج إلى
جواب أو شرطية والجواب محذوف ووقع التصريح
بالجواب في رواية ابن أبي عمر في مسنده عن
سفيان بلفظ "كان أحب إليّ" وأخرجه
الإسماعيلي من طريق ومن طريق أحمد بن عبدة عن
سفيان. وأخرجه من طريق العباس بن الوليد عن
سفيان بلفظ "كان أحب إلى رسول اللّه".
قوله "إلى الربع" زاده أحمد في الوصية
وكذا ذكر هذه الزيادة الحميدي. قوله "فإن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" هو
كالتعليل لما اختاره من النقصان عن الثلث
وكأنه أخذ ذلك من وصفه صلى اللّه عليه وآله
وسلم للثلث بالكثرة. قوله "والثلث كثير"
في رواية مسلم "كثير أو كبير" بالشك هل هو بالموحدة أو المثلثة والمراد أنه كثير بالنسبة إلى ما
دونه وفيه دليل على جواز الوصية بالثلث وعلى
أن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه قال
الحافظ وهو ما يبتدره الفهم ويحتمل أن يكون
لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كبير
أجره ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل قال
الشافعي وهذا أولى معانيه يعني أن الكثرة أمر
نسبي وعلى الأول عول ابن عباس كما تقدم
والمعروف من مذهب الشافعي استحباب النقص عن
الثلث وفي شرح مسلم للنووي ان كان الورثة
فقراء استحب ان ينقص منه وان كانوا أغنياء فلا
وقد استدل بذلك على انها لا تجوز الوصية بأزيد
من الثلث. قال في الفتح واستقر الإجماع على
منع بأزيد من الثلث لكن اختلف فيمن ليس له
وارث خاص فذهب الجمهور إلى منعه من الزيادة
على الثلث وجوز له الزيادة الحنفية وإسحاق
وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود
واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها
السنة لمن له
ج / 6 ص -39-
وارث
فبقي من لا وارث له على الأطلاق. وحكاه في
البحر عن العترة. قوله "قال الثلث والثلث
كثير أو كبير" يعني بالمثلثة أو الموحدة وهو
شك من الراوي. قال الحافظ والمحفوظ في أكثر
الروايات بالمثلثة قال الثلث بالنصب على
الأغراء أو بفعل مضمر نحو عين الثلث وبالرفع
على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره
محذوف. قوله "انك ان تذر" بفتح ان على
التعليل وبكسرها على الشرطية قال النووي هما
صحيحان وقال القرطبي لا معنى للشرط ههنا لأنه
يصير لا جواب له ويبقى خير لا رافع له. وقال
ابن الجوزي سمعناه من رواة الحديث بالكسر
وأنكره ابن الخشاب وقال لا يجوز الكسر لأنه لا
جواب له لخلو لفظ خير عن الفاء وغيرها مما
اشترط في الجواب وتعقب بأنه لا مانع من
تقديرها كما قال ابن مالك. قوله "ورثتك"
قال ابن المنير إنما عبر له صلى اللّه عليه
وآله وسلم بلفظ الورثة ولم يقل بنتك مع أنه لم
يكن له يومئذ الا ابنة واحدة لكون الوارث
حينئذ لم يتحقق لان سعدا إنما قال ذلك بناء
على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه
وكان من الجائز ان تمون هي قبله فأجابه صلى
اللّه عليه وآله وسلم بكلام كلي مطابق لكل
حالة وهو قول ورثتك ولم يخص بنتا من غيرها.
وقال الفاكهي شارح العمدة إنما عبر صلى اللّه
عليه وآله وسلم بالورثة لانه اطلع على أن سعدا
سيعيش ويحصل له أولاد غير البنت المذكورة فإنه
ولد له بعد ذلك أربعة بنين اه وهم عامر ومصعب
ومحمد وعمر وزاد بعضهم إبراهيم ويحيى وإسحاق
وزاد ابن سعد عبد اللّه وعبد الرحمن وعمر أو
عمران وصالحا وعثمان وإسحاق الأصغر وعمرا
الأصغر وعميرا مصغرا وذكر له من البنات ثنتي
عشرة بنتا.
قال الحافظ ما معناه أنه قد كان لسعد وقت
الوصية ورثة غير ابنته وهم أولاد أخيه عتبة بن
أبي وقاص منهم هاشم بن عتبة وقد كان موجودا اذ
ذاك. قوله "عالة" أي فقراء وهو جمع عائل
وهو الفقير والفعل منه عال يعيل إذا افتقر.
قوله: "يتكففون الناس" أي يسألونهم
باكفهم يقال تكفف الناس واستكف إذا بسط كفه
للسؤال أو سأل ما يكف عنه الجوع أو سأل كفافا
من طعام قال ابن عبد البر وفي هذا الحديث
تقييد مطلق القرآن بالسنة لأنه سبحانه قال
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فأطلق وقيدت السنة الوصية بالثلث قال في الفتح وفيه أن خطاب
الشارع للواحد يعم من كان يصفته من المكلفين
لاطباق العلماء على الأحتجاج بحديث سعد هذا
وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الأفراد
ولقد أبعد من قال إن ذلك يختص بسعد ومن كان في
مثل حاله ممن يخلف وارثا ضعيفا أو كان ما
يخلفه قليلا. وفي حديث أبي الدرداء وما ورد
في معناه دليل على أن الأذن لنا بالتصرف في
ثلث أموالنا في أواخر أعمارنا من الألطاف
الألهية بنا والتكثير لأعمالنا الصالحة وهو من
الأدلة الدالة على اشتراط القربة في الوصية.
4 - وعن عمرو بن خارجة "ان النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها
وهي تقصع بجرتها وان لغامها يسيل بين كتفي
فسمعته يقول إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه
فلا وصية لوارث". رواه الخمسة الا أبا
داود وصححه الترمذي.
ج / 6 ص -40-
5 - وعن أبي امامة قال "سمعت النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم يقول
"ان اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية
لوارث". رواه الخمسة إلا النسائي.
6 - وعن ابن عباس قال
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
"لا تجوز وصية لوارث الا ان يشاء الورثة".
7 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال
"لا وصية لوارث الا أن يجيز الورثة".
رواهما الدارقطني.
حديث عمرو بن خارجه
أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي. وحديث أبي
أمامة حسنه الترمذي والحافظ وفي إسناده
اسماعيل بن عياش وقد قوى حديثه إذا روى عن
الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري
وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن
شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وصرح في روايته
بالتحديث. وحديث ابن عباس حسنه في التلخيص
وقال في الفتح رجاله ثقات لكنه معلول فقد قيلا
إن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني
وهو لم يسمع من ابن عباس. وأخرج نحوه
البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس
موقوفا. قال الحافظ الا انه في تفسير وأخبار
بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في
حكم المرفوع. وأخرجه أيضا أبو داود في
المراسيل عن مرسل عطاء الخراساني ووصله يونس
بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال
الحافظ والمعروف المرسل. وحديث عمرو بن شعيب
قال في التلخيص إسناده واه.
ـ وفي الباب ـ عن أنس
عند ابن ماجه. وعن جابر عند الدارقطني وصوب
إرساله وعن علي عنده أيضا وإسناده ضعيف وهو
عند ابن أبي شيبة وعن مجاهد مرسلا عند الشافعي
قال في الفتح ولا يخلو إسناد كل منهامن مقال
لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا بل جنح
الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر فقال
وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم
بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال عام الفتح
لا وصية لوارث ويأثرونه عمن حفظوه فيه ممن
لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو
أقوى من نقل واحد وقد نازع الفخر الرازي في
كون هذا الحديث متواترا قال وعلى تقدير تسليم
ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي ان القرآن لا
ينسخ بالسنة قال الحافظ لكن الحجة في هذا
اجماع العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي
وغيره قال والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم
اللزوم لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة
الورثة. وقيل أنها لا تصح الوصية لوارث أصلا
وهو الظاهر لأن النفي أما أن يتوجه إلى الذات
والمراد لا وصية شرعية وأما إلى ما هو أقرب
إلى الذات وهو الصحة ولا يصح أن يتوجه ههنا
إلى الكمال الذي هو أبعد المجازين. وحديث
ابن عباس المذكور وان
ج / 6 ص -41-
دل على صحة الوصية لبعض الورثة مع رضا البعض
الآخر فهو لا يدل على أن النفي غير متوجه إلى
الصحة بل هو متوجه إليها وإذا رضى الوارث كانت
صحيحة كما هو شأن بناء العام على الخاص وهكذا
حديث عمرو بن شعيب. وحكي صاحب البحر عن
الهادي والناصر وأبي طالب وأبي العباس أنها
تجوز الوصية للوارث واستدلوا بقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ} قالوا في نسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز وأجاب الجمهور عن ذلك
بأن الجواز أيضا منسوخ كما صرح بذلك حديث ابن
عباس المذكور في الباب وقد اختلف في تعيين
ناسخ آية الوصية للوالدين والأقربين فقيل آية
الفرائض وقيل الأحاديث المذكورة في الباب وقيل
دل الإجماع على ذلك وأن لم يتعين دليله هكذا
في الفتح. وقد قيل ان الآية مخصوصة لأن
الأقربين أعم من أن يكونوا وارثين أم لا فكانت
الوصية واجبة لجميهم وخص منها الوارث بآية
الفرائض وبأحاديث الباب وبقي حق من لا يرث من
الأقربين من الوصية على حاله قاله طاوس
وغيره. قوله: وأنا تحت "جرانها" بكسر
الجيم قال في القاموس جران البعير بالكسر مقدم
عنقه من مذبحه إلى منحره. قوله: "وهي
تقصع بجرتها" الجرة بكسر الجيم وتشديد
الراء. قال في القاموس الجرة بالكسر هيئة
الجر وما يفيض عنه البعير فيأكله ثانية وقد
اجتر واجر واللقمة بها البعير إلى وقت علفه
والقصع البلع. قال في القاموس قصع كمنع
ابتلع جرع الماء والناقة بجرتها ردتها إلى
جوفها أو مضغتها أو هو بعد الدسع وقبل المضغ
أو هو أن تملأ بها فاها أو شدة المضغ اه.
قوله: "وإن لغامها" بضم اللام بعدها غين
معجمة وبعد الألف ميم هو اللعاب. قال في
القاموس لغم الجمل كمنع رمى بلعابه لزبده.
قال والملاغم ما حول الفم. قوله: "الا
أن يشاء الورثة" في ذلك رد على المزني وداود
والسبكي حيث قالوا أنها لا تصح الوصية بما زاد
على الثلث ولو أجاز الورثة واحتجوا بالأحاديث
الآتية في الباب الذي بعد هذا ولكن في هذا
الحديث وحديث عمرو بن شعيب المذكور بعده زيادة
يتعين القول بها.
قال الحافظ ان صحت هذه
الزيادة فهي حجة واضحة واحتجوا من جهة المعنى
بأن المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة فإذا
أجازوه لم يمتنع واختلفوا بعد ذلك في وقت
الإجازة فالجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة
الموصى كان لهم الرجوع متى شاؤا وإن أجازوا
بعد نفذ. وفصل المالكية في الحياة بين مرض
الموت وغيره فألحقوا مرض الموت بما بعده
واستثنى بعضهم ما إذا كان المجيز في عائلة
الموصى وخشى من امتناعه انقطاع معروفه عنه
لوعاض فإن لمثل هذا الرجوع. وقال الزهري
وربيعة ليس لهم الرجوع مطلقا واتفقوا على
اعتبار كون الموصي له وارثا يوم الموت حتى لو
أوصى لأخيه الوراث حيث لا يكون للموصي ابن ثم
ولد له ابن قبل موته صحت الوصية للأخ المذكور
ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت
الموصي فهي وصية لوارث.
ج / 6 ص -42-
باب في أن تبرعات المريض من الثلث
1 - عن أبي زيد الأنصاري
"أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال
غيرهم فأقرع بينهم رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة". رواه
أحمد وأبو داود بمعناه وقال فيه "لو شهدته
قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين".
2 - وعن عمران بن حصين
"أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم
يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع
بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا
شديدا". رواه الجماعة إلا البخاري. وفي
لفظ "ان رجلا أعتق عند موته رجة له فجاء
ورثته من الأعراب فأخبروا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم بما صنع قال أو فعل ذلك لو علمنا إن شاء اللّه ما صلينا
عليه فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق أربعة" رواه
أحمد واحتج بعمومه من سوى بين متقدم العطايا
ومتأخرها لأنه لم يستفصل هل أعتقهم بكلمة أو
بكلمات.
حديث أبي زيد أخرجه أيضا
النسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال
إسناده رجال الصحيح. قوله: "أعتق ستة
أعبد عند موته" قال القرطبي ظاهره أنه نجز
عتقهم في مرضه. قوله "فأقرع بينهم" هذا
نص في اعتبار القرعة شرعا وهو حجة لمالك
والشافعي وأحمد والجمهور على أبي حنيفة حيث
يقول القرعة من القمار وحكم الجاهلية ويعتق من
كل واحد من العبيد ثلثه ويستسعي في باقيه ولا
يقرع بينهم وبمثل ذلك قالت الهادوية.
قوله: "فأعتق اثنين وأرق أربعة" في هذا
أيضا حجة على أبي حنيفة ومن معه حيث يقولون
يعتقون جميعا. قال ابن عبد البر في هذا
القول ضروب من الخطأ والاضطراب. قال ابن
رسلان وفيه ضرر كثير لأن الورثة لا يحصل لهم
شيء في الحال أصلا وقد لا يحصل في الشهر خمسة
دراهم أو أقل وفيه ضرر على العبيد لإلزامهم
السعاية من غير اختيارهم. قوله "لو شهدته
قبل أن يدفن" الخ هذا تفسير للقول الشديد
الذي أبهم في الرواية الأخرى وفيه تغليظ شديد
وذم متبالغ وذلك لأن اللّه سبحانه لم يأذن
للمريض بالتصرف إلا في الثلث فإذا تصرف في
أكثر منه كان مخالفا لحكم اللّه تعالى ومشابها
لمن وهب غير ماله. قوله: "فجزأهم"
بتشديد الزاي وتخفيفها لغتان مشهورتان أي
قسمهم وظاهره أنه اعتبر عدد أشخاصهم دون
قيمتهم وإنما فعل ذلك لتساويهم في القيمة
والعدد. قال ابن رسلان فلو اختلفت قيمتهم لم
يكن بد من تعديلهم بالقيمة مخافة أن يكون
ثلثهم في العدد أكثر من ثلث الميت في
القيمة. قوله: "رجلة" بفتح الراء
وسكون الجيم جمع رجل. قوله: "ما صلينا
عليه" هذا أيضا من تفسير القول الشديد
المبهم في الرواية المتقدمة والحديثان يدلان
على تصرفات المريض إنما تنفذ من الثلث ولو
كانت منجزة في الحال ولم تضف إلى بعد الموت
وقد قدمنا حكاية الإجماع
ج / 6 ص -43-
على المنع من الوصية بأزيد من الثلث لمن كان
له وارث والتنجيز حال مرض المخوف حكمه حكم
الوصية. واختلفوا هل يعتبر ثلث التركة حال
الوصية أو حال الموت وهما وجهان للشافعية
أصحهما الثاني وبه قال أبو حنيفة وأحمد
والهادوية وهو قول علي رضي اللّه عنه وجماعة
من التابعين وقال بالأول مالك وأكثر العراقيين
والنخعي وعمر بن عبد العزيز وتمسكوا بأن
الوصية عقد والعقود تعتبر بأولها وبأنه لو نذر
أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حال النذر
اتفاقا وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل وجه
ولذلك لا يعتبر فيها الفورية ولا القبول
وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع
فيها والنذر يلزم وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما
لو حدث له مال بعد الوصية واختلفوا أيضا هل
يحسب الثلث من جميع المال أو يتقيد بما علمه
الموصى دون ما خفي عيله أو تجدد له ولم يعلم
به وبالأول قال الجمهور وبالثاني قال مالك.
وحجة الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر مقدار
المال حال الوصية اتفاقا ولو كان عالما بجنسه
فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك.
باب وصية الحربي
إذا أسلم ورثته هل يجب تنفيذها
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده "أن العاص بن وائل أوصى أن يعتق
عنه مائة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة
فأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية
فقال يا رسول اللّه إن أبي أوصى بعتق مائة
رقبة وإن هشاما أعتق عنه خمسين رقبة وبقيت
خمسون رقبة أفأعتق عنه فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم
لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو
حججتم عنه بلغه ذلك".
رواه أبو داود.
الحديث سكت عنه أبو داود
وأشار المنذري إلى الأختلاف في حديث عمرو بن
شعيب وقد قدمنا غير مرة أن حديثه عن أبيه عن
جده من قسم الحسن. وقد صحح له الترمذي بهذا
الإسناد عدة أحاديث والحديث يدل على أن الكافر
إذا أوصى بقربة من القرب لم يلحقه ذلك لأن
الكفر مانع وهكذا لا يلحقه ما فعله قرابته
المسلمون من القرب كالصدقة والحج والعتق من
غير وصية منه ولا فرق بين أن يكون الفاعل لذلك
ولدا أو غيره وليس في هذا الحديث ما يدل على
عدم صحة وصية الكافر إذ لا ملازمة بين عدم
قبول ما أوصى به من القرب وعدم صحة الوصية
مطلقا نعم فيه دليل أنه لا يجب على قريب
الكافر من المسلمين تنفيذ وصيته بالقرب. قال
في البحر مسألة ولا تصح يعني الوصية من كافر
في معصية كالسلاح لأهل الحرب. وبناء البيع
في خطط المسلمين. وتصح بالمباح إذا لا مانع
اهـ.
ج / 6 ص -44-
باب الإيصاء بما يدخله النيابة من خلافة
وعتاقة ومحاكمة في نسب وغيره
1 - عن ابن عمر قال "حضرت أبي حين أصيب فأثنوا
عليه وقالوا جزاك اللّه خيرا فقال راغب وراهب
قالوا استخلف فقال اتحمل أمركم حيا وميتا
لوددت أن حظي منها الكفاف لا على ولالى فإن
استخلف من هو خير مني يعني أبو بكر وأن اترككم
فقد ترككم من هو خير مني يعني رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال عبد اللّه فعرفت أنه
حين ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
غير مستحلف". متفق عليه.
2 - وعن عائشة "أن عبد
بن زمعة وسعد بن أبي وقاص اختصما إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم في ابن أمة زمعة
فقال سعد يا رسول اللّه أوصاني أخي إذا قدمت
أن أنظر ابن أمة زمعة فاقبضه فإنه ابني وقال
ابن زمعة أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي
فرأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شبها
بينا بعتبة فقال
هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش واحتجبي منه
يا سودة ".
رواه البخاري.
2 - وعن الشريد بن سويد
الثقفي "أن أمة أوصت أن يعتق عنها رقبة
مؤمنة فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم عن ذلك فقال عندي جارية سوداء فقال
أئت بها
فدعا بها فجاءت فقال
لها من ربك
قالت اللّه قال
من أنا
قالت أنت رسول اللّه قال
أعتقها فإنها مؤمنة". رواه أحمد والنسائي.
حديث الشريد رواه
النسائي من طريق موسى بن سعيد وهو صدوق لابأس
به وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه أبو داود
وابن حبان. قوله "فقد استخلف من هو خيرا
مني" استدل بهذا المصنف على جواز الوصية
بالخلافة وقد ذهب الأشعرية والمعتزلة إلى أن
طريقها العقد والأختيار في جميع الأزمان وذهب
العترة إلى أن طريقها الدعوة وللكلام في هذا
محل آخر. قوله "إنه حين ذكر رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم غير مستخلف" يعني
أنه سيقتدي برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم في ترك الاستخلاف ويدع الاقتداء بأبي بكر
وإن كان الكل عنده جائزا ولكن الاقتداء برسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الترك أولى
من الاقتداء بأبي بكر في الفعل. قوله "وعن
عائشة أن عبد بن زمعة" سيأتي الكلام على هذا
الحديث في باب أن الولد للفراش ان شاء اللّه
لأن المصنف رحمه اللّه سيذكره هنالك وهو
الموضع الذي يليق به وإنما ذكره ههنا
للاستدلال به على جواز الإيصاء بالنيابة في
دعوى النسب والمحاكمة. ووجه ذلك أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم لم ينكر على سعد بن
أبي وقاص دعواه بوصاية أخيه في ذلك ولو كانت
النيابة بالوصية في مثله غير جائزة لا نكر
عليه. قوله "وعن الشريد
ج / 6 ص -45-
ابن سويد" الخ استدل به المصنف على جواز
النيابة في العتق بالوصية وجهه أنه أخبر النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم بتلك الوصية ولم
يبين أن مثل ذلك لا يجوز ولو كان غير جائز
لبينه لما نقرر من عدم جواز تأخر البيان عن
وقت حاجة. قوله "فقال لها من ربك" الخ
قد اكتفى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بمعرفة اللّه والرسول في كون تلك الرقبة مؤمنة
وقد ثبت مثل ذلك في عدة أحاديث. منها حديث
معاوية بن الحكم السلمي عند مسلم وغيره.
ومنها عن رجل من الأنصار عند أحمد ومنها عن
أبي هريرة عند أبي داود وعن حاطب عند أبي أحمد
الغسان في كتاب السنة وعن ابن عباس عند
الطبراني وغير ذلك.
باب وصية من لا
يعيش مثله
1 - عن عمرو بن ميمون
قال "رأيت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قبل
أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن
اليمان وعثمان بن حنيف قال كيف فعلتما أتخافا
أن تكونا قد حملتما الأرض مالا تطيق قالا
حملناها أمرا هي له مطيقة وما فيها كثير فضل
قال أنظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق
قال قالا لا فقال عمر لئن سلمني اللّه لأدعن
أرامل أهل العراق لا يحتجن إلي رجل بعدي أبدا
قال فما أتت عليه رابعة حتى أصيب قال أني
لقائم ما بيني وبينه إلا عبد اللّه بن عباس
غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال أستووا
حتى إذا لم ير فيهن خلل تقدم وكبر وربما قرأ
سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة
الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر
فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه
فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد
يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر
رجلا مات منهم تسعة فلما رأى ذلك رجل من
المسلمين طرح عليه يرنسا فلما ظن العلج أنه
مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن
عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد فقد رأى الذي أرى
وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد
فقدوا صوت عمر وهو يقول سبحان اللّه سبحان
اللّه فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما
أنصرفوا قال يا ابن عباس انظر من قتلني فجال
ساعة
ج / 6 ص -46-
ثم جاء فقال غلام المغيرة فقال الصنع قال
نعم قال قاتله اللّه لقد أمرت به معروفا الحمد
اللّه الذي لم يجعل منيتي بين ورجل يدعي
الإسلام قد كنت أنت وأبوك أن تكثر العلوج
بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن
شئت فعلت أي إن شئت قتليا قال كذبت بعدما
تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم
فاحتمل إلى بيته فأنطلقا معه وكأن الناس لم
تصبهم مصيبه قبل يومئذ فقائل يقول أخاف عليه
فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن
فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا
عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال
أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى اللّه لك من صحبة
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقدم في
الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة
فقال وددت ذلك كفافا لا على ولا لي فلما أدبر
إذا إزاره يمس الأرض فقال ردوا على الغلام قال
يا أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك واتقي لربك
يا عبد اللّه بن عمر أنظر ما على من الدين
فحسبوه فوجدوه ستة وثمانون ألفا ونحوه وقال إن
وفي له مال آل عمر فأدّه من أموالهم وإلا فسل
في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في
قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فأدعني هذا المال
إنطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليكم
عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست
اليوم للمؤمنين أمير وقل يستأذن عمر بن الخطاب
أن يدفن مع صاحبيه ، فسلم واستأذن ثم دخل
عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عمر بن
الخطاب عليكم السلام ويستأذن أن يدفن مع
صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولاؤثرنه به
اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد اللّه
بن عمر قد جاء قال أرفعوني فاسنده رجل إليه
فقال ما لديك الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت
قال الحمد اللّه ما كان شيء أهم إلي من ذلك
فإذا قبضت فأحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن
الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني فردوني
إلى مقابر المسلمين، وجاءت
ج / 6 ص -47-
أم المؤمنين حفصة والنساء تسير تتبعها فلما
رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة
وأستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها
من الداخل فقالوا أوص يا أمير المؤمنين استخلف
فقال ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو
الرهط الذين توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم عنهم وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان
والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال يشهدكم
عبد اللّه بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة
التعزية له فإن أصابت إلا مرة سعدا فهو ذاك
وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعز له
من عجز ولا خيانة وقال أوصى الخليفة من بعدي
بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ
لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيرا الذي تبوؤا
الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم
وأن يعفى عن مسئهم وأوصيه بأهل الأمصار خيرا
فهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وإن
لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه
بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام
أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد في فقرائهم
وأوصيه بذمة اللّه وذمة رسوله أن يوفي لهم
بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلف إلا
طاقتهم فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم
عبد اللّه بن عمر فقال يستأذن عمر بن الخطاب
قالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما
فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد
الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال
الزبير قد جعلت أمري إلى علي فقال طلحة قد
جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمري
إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن بن عوف
أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه واللّه
عليه والإسلام ينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت
الشيخان فقال عبد الرحمن أفتجعلونه إلي واللّه
على أن لا آلو عن أفضلكم قالا نعم فأخذ بيد
أحدهم فقال لك من قرابة رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت
فاللّه عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان
لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له
ج / 6 ص -48-
مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال أرفع يدك يا
عثمان وبايعه على وولج أهل الدار
فبايعوه". رواه البخاري وقد تمسك به من
رأى للوصي والوكيل أن يوكلا.
قوله "عن عمرو بن
ميمون" هو الأودي وهذا الحديث بطوله رواه عن
عمر بن ميمون جماعة قوله: "قبل أن يصاب
بأيام" أي أربعة كما بينا فيما بعد.
قوله: "بالمدينة" أي بعد أن صدر من
الحج. قوله "أن تكونا حملتما الأرض ما لا
تطيق" الأرض المشار إليها هي أرض السواد
وكان عمرم بعثهما يضربان عليها الخراج وعلى
أهلها الجزية كما بين ذلك أبو عبيد في كتاب
الأموال من رواية عمرو بن ميمون المذكور
والمراد بقوله انظرا أي في التحميل أو هو
كناية عن الحذر لأنه يستلزم النظر. قوله:
"قال حملناها أمر هي له مطيقة" في رواية
ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن حصين بهذا
الإسناد فقال حذيفة لو شئت لأضعفت أرضي أي
جعلت خراجها ضعفين وقال عثمان بن حنيف لقد
حملت أرضي أمرا هي له مطيقة وفي رواية له أن
عمر قال لعثمان ابن حنيف لئن زدت على كل رأس
درهمين وعلى كل جريب درهما وقفيزا من طعام
لأطاقوا ذلك قال نعم. قوله "إني لقائم"
أي في الصف ننتظر صلاة الصبح. قوله "قتلني
أو أكلني الكلب حين طعنه" في رواية أخرى
"فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة
فناجى عمر غير يعيد ثم طعنه ثلاثة طعنات فرأيت
عمر قائلا بيده هكذا يقول دونكم الكلب فقد
قتلني واسم أبي لؤلؤة فيروز وروى ابن سعد
بإسناد صحيح إلى الزهري قال "كان عمر لا
يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب
المغيره بن شعبة وعلى الكوفة يذكر له غلاما
عنده صنعا ويستأذنه أن يدخله المدينة ويقول ان
عنده أعمالا تنفع الناس أنه حداد نقاش نجار
فأذن له فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة فشكا
إلى عمر شدة الخراج فقال له عمر ما خراجك
بكثير في جنب ما تعمل فانصرف ساخطا فلبث عمر
ليالي فمر به العبد فقال له ألم أحدثك انك
تقول لو أشاء لصنعت رحا تطحن بالريح فالتفت
إليه عابسا فقال له لاصنعن لك رحا يتحدث الناس
بها فأقبل عمر على من معه فقال توعدني العبد
فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه
وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس
حتى خرج عمر يوقظ الناس الصلاة وكان عمر يفعل
ذلك فلما دنا منه عمر وثب عليه فطعنه ثلاث
طعنات إحداهن تحت السرة قد خرقت الصفاق وهي
التي قتلته. قوله "حتى طعن ثلاثة عشر
رجلا" في رواية ابن إسحاق أثني عشر رجلا معه
وهو ثالث عشر وزاد ابن إسحاق من رواية إبراهيم
التيمي عن عمر وبن ميمون وعلى عمر ازار أصفر
قد رفعه على صدره فلما طعن قال وكان أمر اللّه
قدرا مقدورا. قوله "مات منهم تسعة" أي
وعاش الباقون. قال الحافظ وقفت من أسمائهم
على كليب بن البكير الليثي. قوله: "فلما
رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا"
وقع في ذيل الاستيعاب لابن فتحون من طريق سعيد
بن يحيى الأموي قال
ج / 6 ص -49-
حدثنا أبي حدثني من سمع حصين بن عبد الرحمن
في هذه القصة قال فلما رأى ذلك رجل من
المهاجرين يقال له خطاب التميمي اليربوعي فذكر
الحديث. وروى ابن سعد بإسناد ضعيف منقطع قال
فأخذ أبا لؤلؤة رهط من قريش منهم عبد اللّه بن
عوف وهاشم بن عتبة الزهريان ورجل من بني تميم
وطرح عليه عبد اللّه بن عوف خمصة كانت عليه.
قال الحافظ فإن ثبت هذا حمل على أن الكل
اشتركوا في ذلك. قوله "فقدمه" أي للصلاة
بالناس. قوله "فصلى بهم عبد الرحمن صلاة
خفيفة" في رواية ابن إسحاق بأقصر سورتين في
القرآن إنا أعطيناك الكوثر وإذا نصر اللّه
والفتح.
زاد في رواية ابن شهاب
ثم غلب على عمر النزف فغشى عيله فاحتملته في
رهط حتى أدخلته بيته فلم يزل في غشيته حتى
اسفر فنظر في وجوهنا فقال أصلي الناس فقلت نعم
قال لا اسلام لمن ترك الصلاة ثم توضأ وصلى.
وفي رواية ابن سعد من طريق ابن عمر قال فتوضأ
وصلى الصبح فقرأ في الأولى والعصر وفي الثانية
قل يا أيها الكافرون قال وتساند إلى وجرحه
يثعب دما اني لا أضع أصبعي الوسطى فما تسد
الفتق. قوله "فلما انصرفوا قال يا بن عباس
انظر من قتلني" في رواية ابن إسحاق فقال عمر
يا عبد اللّه بن عباس اخرج فناد في الناس عن
ملأ منكم كان هذا فقالوا معاذ اللّه ماعلمنا
ولا اطلعنا. وزاد مبارك بن فضالة فظن عمر أن
له ذنبا إلى الناس لا يعلمه فدعا ابن عباس
وكان يحبه ويدنيه فقال أحب أن تعلم عن ملأ من
الناس كان هذا فخرج لا يمر بملأ من الناس الا
وهم يبكون فكأنما فقدوا أبكار أولادهم. قال
ابن عباس فرأيت البشر في وجهه. قوله
"الصنع" بفتح المهملة والنون وفي رواية
ابن فضيل عن حصين عند ابن أبي شيبة وابن سعد
الصناع بتخفيف النون قال أهل اللغة رجل صنع
اليد واللسان وامرأة صناع. وحكى أبو زيد
الصناع والصنع بقعان معا على الرجل والمرأة.
قوله: "لم يجعل ميتتي" بكسر الميم وسكون
التحتانية بعدها مثناة فوقية أي قتلني. وفي
رواية الكشميهني منيتي بفتح الميم وكسر النون
وتشديد التحتانية. قوله "رجل يدعى
الاسلام" في رواية ابن شهاب فقال الحمد للّه
الذي لم يجعل قاتلي لم يحاجني عند اللّه لسجدة
سجدها له قط وفي رواية مبارك بن فضالة يحاجني
يقول الا إله إلا اللّه. وفي حديث جابر فقال
عمر لا تعجلوا على الذي قتلني فقيل إنه قد قتل
نفسه فاسترجع عمر فقيل له أنه أبو لؤلؤرة فقال
اللّه أكبر. قوله "قد كنت أنت وأبوك تحبان
أن تكثر العلوج بالمدينة" في رواية ابن سعد
فقال عمر هذا من عمل أصحابك كنت أريد أن لا
يدخلها علج من السبي فغلبتموني. وروى عمر بن
شبة من طريق ابن سيرين قال بلغني إن العباس
قال لعمر لما قال لا تدخلوا علينا من السبي
إلا الوصف ان عمر أهل المدينة شديد لا يستقيم
الا بالعلوج. قوله "إن شئت فعلت" الخ
قال ابن التين إنما قاله ذلك لعلمه بإن عمر لا
يأمره بقتلهم. قوله "كذبت" الخ هو على
ما ألف من شدة عمر في الدين لأنه قهم من ابن
عباس ان مراده إن شئت قتلناهم فأجابه بذلك
وأهل الحجاز يقولون كذبت في موضع أخطأت ولعل
ابن عباس إنما أراد قتل من لم
ج / 6 ص -50-
يسلم منهم. قوله "فأتى بنبيذ فشربه"
زاد في حديث أبي رافع لنظر ما قدر جرحه.
قوله "فخرج من جرحه" هذه رواية الكشميهني
وهي الصواب ورواية غيره فخرج من جوفه وفي
رواية أبي رافع فخرج النبيذ فلم يدر أنبيذ هو
أم دم. وفي رواية أيضا فقال لا بأس عليك يا
أمير المؤمنين فقال إن يكن القتل بأسا فقد
قتلت والمراد بالنبيذ المذكور تمرات نبذن في
ماء أن نقعت فيه كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب
الماء وسيأتي الكلام عليه. قوله: "وجاء
رجل شاب" في رواية للبخاري في الجنائز وولج
عليه شاب من الأنصار وفي إنكار عمر على الشاب
المذكور استرسال ازاره مع ما هو فيه من مكابدة
الموت أعظم دليل على صلابته في الدين ومراعاته
لمصالح المسلمين.
قوله "وقدم" بفتح
القاف وكسرها فالأول بمعنى الفضل والثاني
بمعنى السبق. قوله "ثم شهادة" بالرفع
عطفا على ما قد علمت لأنه مبتدأ وخبره لك
المتقدم ويجوز عطفه على صحبة فيكون مجرورا
ويجوز النصب على أنه مفعول مطلق لمحذوف وفي
رواية جرير ثم الشهاة بعد هذا كله. قوله:
"لا على ولالي" أي سواء بسواء. قوله:
"انقي لثوبك" بالنون ثم القاف للأكثر
وبالموحدة بدل النون للكشميهني. قوله
"فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين الفا" ونحوه
نفي حديث جابر ثم قال يا عبد اللّه أقسمت عليك
بحق اللّه وحق العمر إذا مت فدفنتني أن لا
تغسل رأسك حتى بيع من رباع آل عمر بثلاثين
الفا فتضعها في بيت مال المسلمين فسأله عبد
الرحمن ابن عوف فقال انفقتها في حجج حججتها
وفي نوائب كانت تنوبني وعرف بهذا جهة دين
عمر. ووقع في أخبار المدينة لمحمد بن الحسن
بن زبالة ان دين عمر كان ستة وعشرين الفا وبه
جزم عياض قال الحافظ والأول هو المعتمد.
قوله: "فإن وفى له مال آل عمر" كأنه
يريد نفسه ومثله يقع في كلامهم كثيرا ويحتمل
أن يريد رهطه. قوله: "والأفسل في بني
عدي بن كعب" هو البطن الذي هو منهم وقريش
قبيلته. قوله "لاتعدهم" بسكون العين أي
لا تتجاوزهم وقد أنكر نافع مولى بن عمر أن
يكون على عمر دين فورى عمر بن شبة في كتاب
المدينة بإسناد صحيح إن نافعا قال من أين يكون
على عمر دين وقد باع رجل من ورثته ميراثه
بمائة ألف اه قال في الفتح وهذا لا ينفي أن
يكون عند موته عليه دين فقد يكون الشخص كثير
المال ولا يستلزم نفي الدين عنه فلعل نافعا
أنكر أن يكون دينه لم يقض. قوله: "فأنى
لست اليوم للمؤمنين أمير" قال ابن التين
إنما قال ذلك عندما أيقن بالموت أشار بذلك إلى
عائشة حتى لا تحابيه لكونه أمير المؤمنين
وأشار ابن التين أيضا إلى أنه أراد أن تعلم أن
سؤاله لها بطريق الطلب لا بطريق الأمر.
قوله: "ولاؤثر به" استدل بذلك على أنها
كانت تملك البيت وفيه نظر بل الواقع أنها كانت
تملك منفعته بالسكنى فيه والإسكان ولا بورث
عنها وحكم أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم كالمعتدات لأنهن لا يتزوجن بعده صلى
اللّه عليه وآله وسلم. قوله "ارفعوني"
أي من الأرض كأنه كان مضطجعا فأمرهم أن
يقعدوه. قوله: "فأسنده رجل إليه" قال
الحافظ في الفتح لم أقف على اسمه ويحتمل انه
ابن عباس. قوله "فأن أذنت لي فأدخلوني"
ذكر ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك أن عمر
كان يخشى أن تكون أذنت في حياته حياء منه وأن
ج / 6 ص -51-
ترجع عن ذلك بعد موته فأراد أن لا يكرهها
على ذلك. قوله "فولجت عليه" أي دخلت على
عمر في رواية الكشميهني فبكت. وفي رواية
غيره فمكثت وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن
المقدام بن معد يكرب إنها قالت يا صاحب رسول
اللّه يا صهير رسول اللّه يا أمير المؤمنين
فقال عمر لا صبر لي على ما أسمع أحرج عليك بما
لي من الحق عليك أن تندبيني بعد مجلسك هذا
فأما عيناك فلن أملكهما. قوله "فولجت
داخلا لهم" أي مدخلا كان في الدار. قوله
"أوص يا أمير المؤمنين استخلف" في البخاري
في كتاب الأحكام منه إن الذي قال ذلك هو عبد
اللّه بن عمر. قوله "من هؤلاء النفر أو
الرهط" شك من الراوي.
قوله "فسمى عليلا"
الخ قد استشكل اقتصاره على هؤلاء الستة من
العشرة المبشرين بالجنة وأجيب بأنه أحدهم
وكذلك أبو بكر ومنهم أبو عبيدة وقد مات قبله
وأما سعيد بن زيد فلما كان ابن ابن عم عمر لم
يسمه فيهم مبالغة في التبرى من الأمر وصرح
المدائني باسانيده إن عمر عد سعيد ابن زيد
فيمن توفي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو
عنهم راض الا أنه استثناه من أهل الشورى
لقرابته منه وقال لا أرب في أموركم فأرغب فيها
لاحد من أهلي. قوله "يشهدكم عبد اللّه بن
عمر" الخ في رواية للطبري فقال له رجل
استخلف عبد اللّه بن عمر قال واللّه ما أردت
بهذه وأخرج نحوه ابن سعد بإسناد صحيح من مرسل
النخعي ولفظه "فقال عمر قاتلك اللّه واللّه
ما أردت اللّه بهذا أستخلف من لم يحسن أن يطلق
امرأته".
قوله "كهيئة التعزية
له" أي لابن عمر لأنه أخرجه من أهل الشورى
في الخلافةى أراد جبر خاطره بأن جعله من أهل
المشاورة وزعم الكرماني أن هذا من كلام الرواي
لامن كلام عمر قوله: "الأمرة" بكسر
الهمزة وللكشميهني الإمارة زاد المدارئني وما
أظن أن يلي هذا الأمر الا علي وعثمان فإن ولى
عثمان فرجل فيه لين وان ولى علي فستختلف عليه
الناس. قوله "بالمهاجرين الأولين" هم من
صلى للقبلتين. وقيل من شهد بيعة الرضوان.
قوله "الذين تبوؤا" أي سكنوا المدينة قبل
الهجرة وادعى بعضهم أن الإيمان المذكور هنا من
أسماء المدينة وهو بعيد. قال الحافظ والراجح
أنه ضمن تبوؤا هنا معنى لزموا أو عامل نصبه
محذوف تقديره واعتقدوا أو أن الإيمان لشدة
ثبوته في قلوبهم كأنه أحاط بهم فكأنهم
نزلوه. قوله: "فهم ردء الإسلام" أي
عون الإسلام الذي يدفع عنه وغيظ العدو أي
يغيظون العدو بكثرتهم وقوتهم قوله: "الا
فضلهم" أي إلا ما ما فضل عنهم. قوله "من
حواشي أموالهم" أي ما ليس يختار والمراد
بذمة اللّه أهل الذمة والمراد بالقتال من
ورائهم أي إذا قصدهم عدو. قوله:
"فانطلقنا" في رواية الكشميهني فانقلبنا
أي رجعنا. قوله: "فوضع هنالك مع
صاحبيه" قد اختلف في صفة الثلاثة المكرمة
فالأكثر على أن قبر أبي بكر وراء قبر النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وقبر عمر وراء قبر
أبي بكر وقيل أن قبره صلى اللّه عليه وآله
وسلم تقدم إلى القبلة وقبر أبي بكر حذاء
منكبيه وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر. وقيل
قبر أبي بكر عند رجلي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم وقبر عمر عند رجلي أبي بكر.
وقيل غير ذلك. قوله "اجعلوا أمركم إلى
ثلاثة منكم" أي في الأختيار ليقل الاختلاف
كذا قال ابن التين وصرح ابن المدائني في
روايته بخلاف ذلك
ج / 6 ص -52-
قوله "واللّه عليه والإسلام" بالرفع
فيهما والخبر محذوف أي عليه رقيب أو نحو
ذلك. قوله "أفضلهم في نفسه" أي في
معتقده زاد المدائني في روايته فقال عثمان أنا
أول من رضى وقال علي أعطني موثقا لتؤثرن الحق
ولا تخصن ذا رحم فقال نعم. قوله "فأسكت"
بضم الهمزة وكسر الكاف كأن مسكتا أسكتهما
ويجوز فتح الهمزة والكاف أو هو بمعنى سكت
والمراد بالشيخين علي وعثمان.
قوله "فأخذ بيد
أحدهما" هو على والمراد بالآخر في قوله ثم
خلا بالآخر هو عثمان كما يدل على ذلك سياق
الكلام. قوله "والقدم" بكسر القاف
وفتحها كما تقدم زاد المدائني أن عبد الرحمن
قال لعلي أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر
من كنت ترى أحق بها من هؤلاء الرهط قال عثمان
ثم قال لعثمان كذلك فقال على وزاد أيا أن سعدا
أشار على عبد الرحمن بعثمان وأنه دار تلك
الليالي كلها على الصحابة ومن وافي المدينة من
أشراف الناس لا يخلو برجل منهم الا أمره
بعثمان وفي هذا الأثر دليل على أنه يجوز جعل
أمر الخلافة شورى بين جماعة من أهل الفضل
والعلم والصلاح كما يجوز الاستخلاف وعقد أهل
الحل والعقد. قال النووي وغيره أجمعوا على
انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد
أهل الحل والعقد لانسان حيث لا يكون هناك
استخلاف غيره وعلي جواز جعل الخلافة شورى بين
عدد محصور أو غيره وأجمعوا على أنه يجب نصب
خليفة وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل وخالف
بعضهم كالأصم وبعض الخوراج فقالوا لا يجب نصب
الخليفة وخالف بعض المعتزلة فقالوا يجب بالعقل
لا بالشرع وهما باطلان وللكلام موضع غير هذا.
باب أن ولي
الميت يقضي دينه إذا علم صحته
1 - عن سعد الأطول "أن
أخاه مات وترك ثلثمائة درهم وترك عيالا قال
فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم
ان أخاك محتبس بدينه فاقض عنه
فقال يا رسول اللّه قد أديت عنه الا دينارين
ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال فأعطها فإنها محقة".
رواه أحمد وابن ماجه.
الحديث إسناده في سنن
ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة قال
حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرني
عبد الملك أبو جعفر عن أبي نضرة عن سعد الأطول
فذكره وعبد الملك هو أبو جعفر ولا يعرف اسم
أبيه. وقيل أنه ابن أبي نضره وقد وثقه ابن
حبان ومن عداه من رجال الإسناد فهم رجال
الصحيح وأخرجه أيضا ابن سعد وعبد بن حميد وابن
قانع والبارودي والطبراني في الكبير والضياء
في المختارة وهو في مسند أحمد بهذا الإسناد
فإنه قال حدثنا عفان فذكره وفيه دليل على
تقديم اخراج الدين على ما يحتاج إليه من نفقة
أولاد الميت ونحوها ولا أعلم في ذلك خلافا
وهكذا يقدم الدين على الوصية. قال في الفتح
ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدم على
الوصية الا في صورة واحده هي ما لو أوصى لشخص
بألف مثلا وصدقه
ج / 6 ص -53-
الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في دمة
الميت دينا يستغرف موجوده وصدقه الوارث ففي
وجه للشافعية انها تقدم الوصية على الدين في
هذه الصورة الخاصة وأما تقديم الوصية على
الدين في قوله تعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فقد قيل في ذلك ان الآية ليس فيها صيغة ترتيب بل المراد أن
المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين وانفاذ
الوصية وأتى للإباحة وهي كقولك جالس زيدا أو
عمرا أي لك مجالسة كل واحد منهما اجتمعا أو
افترقا. وإنما قدمت لمعنى اقتضى الأهتمام
بتقديمها واختلف في تعيين ذلك المعنى وحاصل ما
ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة
أمور. أحدهما الخفة والثقل كربيعة ومضر فمضر
أشرف من ربيعة لكن لفظ ربيعة لما كان أخف قدم
في الذكر وهذا يرجع إلى اللفظ. ثانيهما بحسب
الزمان كعاد وثمود. ثالثهما بحسب الطبع
كثلاث ورباع رابعها بحسب الرتبة كالصلاة
والزكاة لأن الصلاة حق البدن والزكاة حق المال
فالبدن مقدم على البدن خامسها تقديم السبب على
المسبب كقوله تعالى{عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وقال بعض السلف عز فلما عز حكم. سادسها
بالشرف والفضل كقوله تعالى{مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي ان تقديم الوصية في الذكر على
الدين لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر
والصلة بخلاف الدين فإنه يقع غالبا بعد الميت
بنوع تفريط فوقعت البداءة بالوصية لكونها
أفضل. وقال غيره قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ
بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان اخراج الوصية
أشق على الوارث من اخراج الدين وكان اداؤها
مظنة للتفريط بخلاف الدين فإن الوارث مطمئن
بإخراجه فقدمت الوصية لذلك وأيضا فهي حظ فقير
ومسكين غالبا والدين غريم يطلبه بقوة وله مقال
كما صح عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال
"ان
لصاحب الدين مقالا"
وأيضا فالوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه
فقدمت تحرضا على العمل بها بخلاف الدين. قال
الزين بن المنير تقديم الوصية في الذكر على
الدين لا يقتضي تقديمها في المعنى لانهما معا
قد ذكرا في سياق البعدية لكن الميراث يلي
الوصية ولا يلي الدين في اللفظ بل هو بعد بعده
فيلزم أن الدين يقدم في الأداء باعتبار
القبلية فيقدم على الوصية وباعتبار البعدية
فتقدم الوصية على الدين اه وقد اخرج أحمد
والترمذي وغيرهما من طريق الحرث الأعور عن علي
سلام اللّه ورضوانه قال قضى محمد أن الدين قبل
الوصية وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين والحديث
وان كان إسناده ضعيفا لكنه معتضد بالأتفاق
الذي سلف قال الترمذي إن العمل عليه عند أهل
العلم. قوله: "قد أديت عنه" فيه دليل
على أنه يجوز للوصي أن يستقل بنفسه في قضاء
ديون الميت لان النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم لم ينكر عليه ذلك. قال في البحر مسألة
وللوصي استيفاء ديون الميت وايفاؤها اجماعا
لنيابته عنه اه قوله: "فإنها محقة" لعله
صلى اللّه عليه وآله وسلم حكم بعلمه أو
بوحي. |