نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الظهار
1 - عن سلمة بن صخر
قال: "كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء
ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من
امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب في
ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني
النهار وأنا لا أقدر أن أنزع فبينا هي تخدمني
من الليل إذ
ج / 6 ص -259-
تكشف إلي منها شيء فوثبت عليها فلما أصبحت
غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت لهم انطلقوا
معي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فأخبره بأمري فقالوا واللّه لا نفعل نتخوف أن
ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم مقالة يبقى علينا عارها
ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك فخرجت حتى أتيت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته خبري
فقال:
لي أنت بذاك
فقلت: أنا بذاك فقال:
أنت بذاك قلت: أنا بذاك فقال:
أنت بذاك قلت: نعم ها أنا ذا فأمض فيَّ حكم اللّه عز وجل فأنا صابر له
قال:
أعتق رقبة
فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك
بالحق ما أصبحت أملك غيرها قال: فصم شهرين متتابعين
قال: قلت يا رسول اللّه وهل أصابني ما
أصابني إلا في الصوم قال:
فتصدق
قال: قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا
وحشاً ما لنا عشاء قال:
اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً
من تمر ستين مسكيناً ثم استعن بسائره عليك
وعلى عيالك قال: فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السعة
والبركة وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي
قال: فدفعوها إلي". رواه أحمد وأبو داود
والترمذي وقال: حديث حسن.
- الحديث أخرجه أيضاً
الحاكم وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقد أعله
عبد الحق بالانقطاع وأن سليمان بن يسار لم
يدرك سلمة. وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري
وفي إسناده أيضاً محمد بن إسحاق.
قوله: "ظاهرت من
امرأتي" الظهار بكسر الظاء المعجمة اشتقاقه
من الظهر وهو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر
أمي. قال في الفتح: وإنما خص الظهر بذلك
دون سائر الأعضاء لأنه محل الركوب غالباً
ولذلك سمي المركوب ظهراً فشبهت الزوجة بذلك
لأنها مركوب الرجل. وقد ذهب الجمهور إلى أن
الظهار يختص بالأم كما ورد في القرآن.
وفي حديث خولة التي ظاهر
منها أوس فلو قال كظهر أختي مثلاً لم يكن
ظهاراً وكذا لو قال كظهر أبي وفي رواية عن
أحمد أنه ظهار وطرده في كل من يحرم عليه وطؤه
حتى في البهيمة. وحكي في البحر عن أبي حنيفة
وأصحابه والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح
وزيد بن علي والناصر والإمام يحيى والشافعي في
أحد قوليه إنه يقاس المحارم على الأم ولو من
رضاع إذ العلة التحريم المؤبد. وعن ابن
القاسم من أصحاب الشافعي ولو من الرجال. وعن
مالك وأحمد والبتي وغير
ج / 6 ص -260-
المؤبد فيصح بالأجنبيات.
قوله: "فرقاً"
بفتح الفاء والراء.
قوله: "فأتتابع"
بتاءين فوقيتين وبعد الألف ياء وهو الوقوع في
الشر.
قوله: "فقال لي أنت
بذاك" لعل هذا التكرير للمبالغة في الزجر لا
أنه شرط في إقرار المظاهر ومن ههنا يلوح أن
مجرد الفعل لا يصح الاستدلال به على الشرطية
كما سيأتي في الإقرار بالزنا.
قوله: "أعتق رقبة"
ظاهره عدم اعتبار كونها مؤمنة وبه قال عطاء
والنخعي وزيد بن علي وأبو حنيفة وأبو يوسف
وقال مالك والشافعي وأكثر العترة لا يجوز ولا
يجزئ إعتاق الكافر لأن هذا مطلق مقيد بما في
كفارة القتل من اشتراط الإيمان. وأجيب بأن
تقييد حكم بما في حكم آخر مخالف له لا يصح
وتحقيق الحق في ذلك محرر في الأصول ولكنه يؤيد
اعتبار الإسلام حديث معاوية بن الحكم السلمي
فإنه لما سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
عن إعتاق جاريته عن الرقبة التي عليه قال
لها:
أين اللّه فقالت: في السماء فقال:
من أنا فقالت: رسول اللّه قال:
فأعتقها فإنها مؤمنة" ولم يستفصله عن الرقبة التي عليه وترك
الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم
في المقال وظاهر إطلاق الرقبة أنها تجزئ
المعيبة وقد حكاه في البحر عن أكثر العترة
وداود وحكى عن المرتضى والفريقين ومالك أنها
لا تجزئ.
قوله: "فصم شهرين"
ظاهره أن حكم العبد حكم الحر في ذلك وقد نقل
ابن بطال الإجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه
وأن كفارته بالصيام شهران كالحر واختلفوا في
الإطعام والعتق فقال الكوفيون والشافعي
والهادوية لا يجزيه إلا الصيام فقط وقال ابن
القاسم عن مالك إذا أطعم بإذن مولاه أجزأه
قال: وما ادعاه ابن بطال من الإجماع مردود
فقد نقل الشيخ الموفق في المغني عن بعضهم أنه
لا يصح ظهار العبد لأن اللّه تعالى قال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
والعبد لا يملك الرقاب وتعقب بأن تحرير الرقبة
إنما هو على من يجدها كالمعسر ففرضه الصيام.
وأخرج عبد الرزاق عن
معمر عن قتادة عن إبراهيم أنه لو صام العبد
شهراً أجزأ عنه.
قوله: "وحشاً" لفظ
أبي داود وحشين. قال في النهاية: يقال رجل
وحش بالسكون إذا كان جائعاً لا طعام له وقد
أوحش إذا جاع.
قوله: "بني زريق"
بتقديم الزاي على الراء.
قوله: "ستين
مسكيناً" فيه دليل على أنه يجزئ من لم يجد
رقبة ولم يقدر على الصيام لعلة أن يطعم ستين
مسكيناً وقد حكى صاحب البحر الإجماع على ذلك
وحكى أيضاً الإجماع على أن الكفارة في الظهار
واجبة على الترتيب وظاهر الحديث أنه لا بد من
إطعام ستين مسكيناً ولا يجزئ إطعام دونهم
وإليه ذهب الشافعي ومالك والهادوية وقال زيد
بن علي وأبو حنيفة وأصحابه والناصر أنه يجزئ
إطعام واحد ستين يوماً.
قوله: "فأطعم عنك
منها وسقاً" في رواية:
"فأطعم عرقاً من تمر ستين مسكيناً" وسيأتي الاختلاف في العرق في حديث خولة.
وقد أخذ بظاهر حديث
الباب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والهادوية
والمؤيد باللّه فقالوا الواجب لكل مسكين صاع
من تمر أو ذرة أو شعير أو زبيب أو نصف صاع من
بر وقال الشافعي وهو مروي عن أبي حنيفة أيضاً
أن الواجب لكل مسكين مد وقد تمسكوا بالروايات
التي فيها ذكر العرق وتقديره بخمسة عشر صاعاً
وسيأتي واختلفت الرواية عن مالك وظاهر الحديث
أن الكفارة لا تسقط
ج / 6 ص -261-
بالعجز عن جميع أنواعها لأن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أعانه بما يكفر به بعد أن
أخبره أنه لا يجد رقبة ولا يتمكن من إطعام ولا
يطيق الصوم وإليه ذهب الشافعي وأحمد في رواية
عنه وذهب قوم إلى السقوط وذهب آخرون إلى
التفصيل فقالوا تسقط كفارة صوم رمضان لا غيرها
من الكفارات.
2 - وعن سلمة بن صخر:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في
المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال:
كفارة واحدة".
رواه ابن ماجه والترمذي.
3 - وعن أبي سلمة عن
سلمة بن صخر: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أعطاه مكتلاً فيه خمسة عشر صاعاً
فقال:
أطعمه ستين مسكيناً وذلك لكل مسكين مد". رواه الدارقطني وللترمذي معناه.
4 - وعن عكرمة عن ابن
عباس: "أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها
فقال: يا رسول اللّه إني ظاهرت من امرأتي
فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال:
ما حملك على ذلك يرحمك اللّه
قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر قال:
فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللّه".
رواه الخمسة إلا أحمد
وصححه الترمذي وهو حجة في تحريم الوطء قبل
التكفير بالإطعام وغيره. ورواه أيضاً
النسائي عن عكرمة مرسلاً وقال فيه: "فاعتزلها حتى تقضي ما عليك" وهو حجة في ثبوت كفارة الظهار في الذمة.
حديث سلمة الأول حسنه
الترمذي. وحديثه الثاني أخرجه أيضاً الحاكم
والبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان
وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن سلمة بن صخر
البياضي الحديث.
وحديث ابن عباس أخرجه
أيضاً الحاكم وصححه قال الحافظ: ورجاله ثقات
لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال. وقال
ابن حزم: رواته ثقات ولا يضره إرسال من
أرسله وأخرج البزار شاهداً له من طريق خصيف عن
عطاء عن ابن عباس: "أن رجلاً قال: يا
رسول اللّه إني ظاهرت من امرأتي فرأيت ساقها
في القمر فواقعتها قبل أن أكفر فقال:
كفر ولا تعد" وقد بالغ أبو بكر ابن العربي فقال: ليس في الظهار حديث صحيح.
قوله: "قال كفارة
واحدة" قال الترمذي: والعمل على هذا عند
أكثر أهل العلم وهو قول سفيان الثوري ومالك
والشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعضهم إذا واقعها
قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبد الرحمن
بن مهدي.
قوله: "فلا تقربها
حتى تفعل ما أمرك اللّه" فيه دليل على أنه
يحرم على الزوج الوطء قبل التكفير وهو الإجماع
وأن الكفارة واجبة عليه لا تسقط بالوطء قبل
إخراجها.
وروى سعيد بن منصور عن
الحسن
ج / 6 ص -262-
وإبراهيم أنه يجب على من وطئ قبل التكفير
ثلاث كفارات وذهب الزهري وسعيد بن جبير وأبو
يوسف إلى سقوط الكفارة بالوطء وروى عن عبد
اللّه بن عمرو بن العاص أنه يجب عليه كفارتان
وهو قول عبد الرحمن بن مهدي كما سلف وذهب
الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة مطلقاً وهو
مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم.
واختلف في مقدمات الوطء
هل تحرم مثل الوطء إذا أراد أن يفعل شيئاً
منها قبل التكفير أم لا فذهب الثوري والشافعي
في أحد قوليه إلى أن المحرم هو الوطء وحده لا
المقدمات وذهب الجمهور إلى أنها تحرم كما يحرم
الوطء واستدلوا بقوله تعالى {مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
وهو يصدق على الوطء ومقدماته وأجاب من قال بأن
حكم المقدمات مخالف لحكم الوطء بأن المسيس
كناية عن الجماع وقد قدمنا الكلام على ذلك في
أبواب الوضوء واعلم أنها تجب الكفارة بعد
العود إجماعاً لقوله تعالى
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} واختلفوا هل العدة في وجوبها العود أو الظهار فذهب إلى الأول ابن
عباس وقتادة والحسن وأبو حنيفة وأصحابه
والعترة وذهب إلى الثاني مجاهد والثوري وقال
الزهري وطاوس ومالك وأحمد بن حنبل وداود
والشافعي بل العلة مجموعهما وقال الإمام يحيى
إن العود شرط كالإحصان مع الزنا واختلفوا في
العود ما هو فقال قتادة وسعيد بن جبير وأبو
حنيفة وأصحابه والعترة إنه أراد المس لما حرم
بالظهار لأنه إذا أراد فقد عاد عن عزم الترك
إلى عزم الفعل سواء فعل أم لا وقال الشافعي بل
هو إمساكها بعد الظهار وقتاً يسع الطلاق ولم
يطلق إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها وإمساكها
نقيضه وقال مالك وأحمد بل هو العزم على الوطء
فقط وإن لم يطأ وقال الحسن البصري وطاوس
والزهري بل هو الوطء نفسه وقال داود وشعبة بل
إعادة لفظ الظهار.
5 - وعن خولة بنت مالك
بن ثعلبة قالت: "ظاهر مني أوس بن الصامت
فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أشكو إليه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يجادلني فيه ويقول
اتقي اللّه فإنه ابن عمك فما برح حتى نزل القرآن {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى الغرض فقال:
يعتق رقبة قالت: لا يجد قال:
فيصوم شهرين متتابعين قالت: يا رسول اللّه إنه شيخ كبير ما به
من صيام قال:
فليطعم ستين مسكيناً قالت: ما عنده من شيء يتصدق به قال: فأتي ساعتئذ بعرق من تمر
قالت: يا رسول فإني سأعينه بعرق آخر قال:
قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً
وارجعي إلى ابن عمك والعرق ستون صاعًا".
رواه أبو داود ولأحمد معناه لكنه لم يذكر قدر العرق وقال فيه: "فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر" ولأبي داود في رواية أخرى: "والعرق مكتل يسع
ج / 6 ص -263-
ثلاثين صاعاً" وقال: هذا أصح. وله عن
عطاء عن أوس: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أعطاه خمسة عشر صاعاً من شعير إطعام
ستين مسكيناً" وهذا مرسل قال أبو داود:
عطاء لم يدرك أوساً.
حديث خولة سكت عنه أبو
داود والمنذري وفي إسناده محمد بن إسحاق
وسيأتي تمام الكلام على الإسناد.
وأخرج ابن ماجه والحاكم
نحوه من حديث عائشة قالت: "تبارك الذي وسع
سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة
ويخفى علي بعضه وهي تشتكي إلى رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم" فذكرت الحديث وأصله
في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها.
وأخرج أيضاً أبو داود
والحاكم عن عائشة من وجه آخر قالت: كانت
جميلة امرأة أوس بن الصامت وكان امرأ به لمم
فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته. وحديث أوس
أعله أبو داود بالإرسال كما ذكر المصنف.
قوله: "خولة بنت
مالك" وقع في تفسير أبي حاتم خولة بنت
الصامت قال الحافظ: وهو وهم والصواب زوج ابن
الصامت ورجح غير واحد أنها خولة بنت الصامت بن
ثعلبة وروى الطبراني في الكبير والبيهقي من
حديث ابن عباس أن المرأة خولة بنت خويلد وفي
إسناده أبو حمزة اليماني وهو ضعيف وقال يوسف
بن عبد اللّه بن سلام أنها خويلة وروى أنها
بنت دليح كذا في الكاشف. وفي رواية عائشة
المتقدمة أنها جميلة.
قوله: "والعرق ستون
صاعاً" هذه الرواية تفرد بها معمر بن عبد
اللّه بن حنظلة قال الذهبي: لا يعرف ووثقه
ابن حبان وفيها أيضاً محمد بن إسحاق وقد عنعن
والمشهور عرفاً أن العرق يسع خمسة عشر صاعاً
كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح من حديث سلمة
نفسه والكلام على ما يتعلق بحديث خولة من
الفقه قد تقدم.
باب من حرم
زوجته أو أمته
1 - عن ابن عباس قال:
"إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال
{لقد لكم في رسول اللّه أسوة حسنة}".
متفق عليه. وفي لفظ: "أنه أتاه رجل
فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً فقال:
كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} أغلظ الكفارة عتق رقبة" رواه النسائي.
2 - وعن ثابت عن أنس:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى
حرمها على نفسه فأنزل اللّه عز وجل {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى آخر الآية".
رواه النسائي.
الرواية الثانية من حديث
ابن عباس أخرجها ابن مردويه من طريق سالم
الأفطس عن سعيد بن جبير عنه. وحديث أنس قال
الحافظ: سنده صحيح وهو أصح طرق سبب نزول
الآية وله
ج / 6 ص -264-
شاهد مرسل عند الطبراني بسند صحيح عن زيد بن
أسلم التابعي المشهور قال: أصاب رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم أم إبراهيم ولده في
بيت بعض نسائه فقالت: يا رسول اللّه في بيتي
وعلى فراشي فجعلها عليه حراماً فقالت: يا
رسول اللّه كيف تحرم على نفسك الحلال فحلف لها
باللّه لا يصيبها فنزلت
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}.
- وفي الباب - عن عائشة
عند الترمذي وابن ماجه بسند رجاله ثقات
قالت: آلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وحرم فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفارة
وقد تقدم في كتاب الإيلاء.
وعن ابن عباس غير حديث
الباب عند البيهقي بسند صحيح عن يوسف بن ماهك
أن أعرابياً أتىابن عباس فقال: إني جعلت
امرأتي حراماً قال: ليست عليك بحرام قال:
أرأيت قول اللّه تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاَّ مَا
حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ}
الآية. فقال ابن عباس: إن إسرائيل كان به
عرق الإنسي فجعل على نفسه إن شفاه اللّه أن لا
يأكل العروق من كل شيء وليست بحرام يعني على
هذه الأمة.
وقد اختلف العلماء فيمن
حرم على نفسه شيئاً فإن كان الزوجة فقد اختلف
فيه أيضاً على أقوال بلغها القرطبي المفسر إلى
ثمانية عشر قولاً. قال الحافظ: وزاد غيره
عليها وفي مذهب مالك فيها تفاصيل يطول
استيفاؤها قال القرطبي: قال بعض علمائنا سبب
الاختلاف أنه لم يقع في القرآن صريحاً ولا في
السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه
المسألة فتجاذبها العلماء فمن تمسك بالبراءة
قال لا يلزمه شيء ومن قال إنها يمين أخذ بظاهر
قوله تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بعد قوله
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومن قال تجب الكفارة وليست بيمين بناء على أن
معناه معنى اليمين فوقعت الكفارة على المعنى
ومن قال يقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل
وجوهه الظاهرة وأقل ما تحرم به المرأة طلقة ما
لم يرتجعها ومن قال بائنة فلاستمرار التحريم
بها ما لم يجدد العقد ومن قال ثلاثاً حمل
اللفظ على منتهى وجوهه ومن قال ظهار نظر إلى
معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق فانحصر
الأمر عنده في الظهار انتهى. ومن المطولين
للبحث في هذه المسألة الحافظ ابن القيم فإنه
تكلم عليها في الهدى كلاماً طويلاً وذكر ثلاثة
عشر مذهباً أصولاً تفرعت إلى عشرين مذهباً
وذكر في كتابه المعروف بأعلام الموقعين خمسة
عشر مذهباً وسنذكر ذلك على طريق الاختصار
ونزيد عليه فوائد:
المذهب الأول:
إن قول القائل لامرأته أنت علي حرام لغو وباطل
لا يترتب عليه شيء وهو إحدى الروايتين عن ابن
عباس وبه قال مسروق وأبو سلمة بن عبد الرحمن
وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل الظاهر وأكثر
أصحاب الحديث وهو أحد قولي المالكية واختار
أصبغ بن الفرج منهم واستدلوا بقوله تعالى
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ
وَهَذَا حَرَامٌ}
وبقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وسبب نزول هذه الآية ما تقدم وبالحديث الصحيح وهو قوله صلى اللّه
عليه وآله وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه
أمرنا فهو رد" وقد تقدم في كتاب الصلاة.
القول الثاني:
إنها ثلاث تطليقاتوهو قول أمير المؤمنين علي
رضي اللّه عنه وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن
البصري ومحمد
ج / 6 ص -265-
ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى وحكاه في البحر
عن أبي هريرة واعترض ابن القيم الرواية عن زيد
بن ثابت وابن عمر وقال الثابت عنهما ما رواه
ابن حزم أنهما قالا عليه كفارة يمين ولم يصح
عنهما خلاف ذلك. وروى ابن حزم عن علي عليه
السلام الوقف في ذلك. وعن الحسن أنه قال إنه
يمين واحتج أهل هذا القول بأنها لا تحرم عليه
إلا بالثلاث فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها
حراماً.
الثالث:
إنها بهذا القول حرام عليه قال ابن حزم وابن
القيم في أعلام الموقعين: صح عن أبي هريرة
والحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة
قال: لم يذكر هؤلاء طلاقاً بل أسروه
باجتنابها فقط قال وصح أيضاً عن علي عليه
السلام فإما أن يكون عنه روايتان أو يكون أراد
تحريم الثلاث وحجة هذا القول أن لفظه إنما
اقتضى التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق فحرمت
عليه بمقتضى تحريمه.
الرابع:
الوقف فيها قال ابن القيم: صح ذلك عن علي
عليه السلام وهو قول الشعبي وحجة هذا القول أن
التحريم ليس بطلاق والزوج لا يملك تحريم
الحلال إنما يملك السبب الذي تحرم به وهو
الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ولا هو مما
له عرف الشرع في تحريم الزوجة فاشتبه الأمر
فيه.
الخامس:
إن نوى به الطلاق فهو طلاق وإن لم ينوه كان
يميناً وهو قول طاوس والزهري والشافعي ورواية
عن الحسن وحكاه أيضاً في الفتح عن النخعي
وإسحاق وابن مسعود وابن عمر وحجة هذا القول
أنه كناية في الطلاق فإن نواه كان طلاقاً وإن
لم ينوه كان يميناً لقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله
{تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}.
السادس: إنه إن نوى الثلاث فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى
يميناً فهو يمين وإن لم ينو شيئاً فهو كذبة لا
شيء فيها قاله سفيان وحكاه النخعي عن أصحابه
وحجة هذا القول أن اللفظ محتمل لما نواه من
ذلك فتتبع نيته.
السابع:
مثل هذا إلا أنه إذا لم ينو شيئاً فهو يمين
يكفرها وهو قول الأوزاعي وحجة هذا القول ظاهر
قوله تعالى
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فإذا نوى به الطلاق لم يكن يميناً فإذا أطلق ولم ينو شيئاً كان
يميناً.
الثامن:
مثل هذا أيضاً إلا أنه إن لم ينو شيئاً فواحدة
بائناً إعمالاً للفظ التحريم هكذا في أعلام
الموقعين ولم يحكه عن أحد وقد حكاه ابن حزم عن
إبراهيم النخعي.
التاسع:
إن فيه كفارة ظهار قال ابن القيم: صح عن ابن
عباس وأبي قلابةوسعيد بن جبير ووهب بن منبه
وعثمان البتي وهو إحدى الروايات عن أحمد.
وحجة هذا القول أن اللّه تعالى جعل التشبيه
بمن تحرم عليه ظهاراً فالتصريح منه بالتحريم
أولى. قال ابن القيم: وهذا أقيس الأقوال
ويؤيده أن اللّه تعالى لم يجعل للمكلف التحليل
والتحريم وإنما ذلك إليه تعالى وإنما جعل له
مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها
التحريم فإذا قال أنت علي كظهر أمي أو أنت علي
حرام فقد قال المنكر من القول والزور وكذب على
اللّه تعالى فإنه لم يجعلها عليه كظهر أمه ولا
جعلها عليه حراماً فقد أوجب بهذا القول المنكر
والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار.
العاشر:
إنها تطليقة واحدة وهو إحدى الروايتين عن عمر
بن الخطاب وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي
ج / 6 ص -266-
حنيفة وحجة هذا القول أن تطليق التحريم لا
يقتضي التحريم بالثلاث بل يصدق بأقله والواحدة
متيقنة فحمل اللفظ عليها.
الحادي عشر:
إنه ينوي ما أراد من ذلك في إرادة أهل الطلاق
وعدده وإن نوى تحريماً بغير طلاق فيمين
مكفرة. قال ابن القيم: وهو قول الشافعي
وحجة هذا القول أن اللفظ صالح لذلك كله فلا
يتعين واحدة منها إلا بالنية وقد تقدم أن مذهب
الشافعي هو القول الخامس وهو الذي حكاه عنه في
فتح الباري بل حكاه عنه ابن القيم نفسه.
الثاني عشر:
إنه ينوي أيضاً ما شاء من عدد الطلاق إلا أنه
إذا نوى واحدة كانت بائنة وإن لم ينو شيئاً
فإيلاء وإن نوى الكذب فليس بشيء وهو قول أبي
حنيفة وأصحابه هكذا قال ابن القيم. وفي
الفتح عن الحنفية أنه إذا نوى اثنتين فهي
واحدة بائنة وإن لم ينو طلاقاً فهو يمين ويصير
مولياً وفي رواية عن أبي حنيفة أنه إذا نوى
الكذب دين ولم يقبل في الحكم ولا يكون مظاهراً
عنده نواه أو لم ينوه ولو صرح به فقال أعني به
الظهار لم يكن مظاهراً وحجة هذا القول احتمال
اللفظ.
الثالث عشر:
إنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال قال
ابن القيم: صح ذلك عن أبي بكر وعمر بن
الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن
مسعود وعبد اللّه بن عمر وعكرمة وعطاء وقتادة
والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن
يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع
والأوزاعي وأبي ثور وخلق سواهم وحجة هذا القول
ظاهر القرآن فإن اللّه ذكر فرض تحلة الأيمان
عقب تحريم الحلال فلا بد أن يتناوله يقيناً.
الرابع عشر:
إنه يمين مغلظة يتعين بها عتق رقبة قال ابن
القيم:صح أيضاً عن ابن عباس وأبي بكر وعمر
وابن مسعود وجماعة من التابعين وحجة هذا القول
إنه لما كان يميناً مغلظة غلظت كفارتها.
الخامس عشر:
إنه طلاق ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو
ما نواه من الواحدة فما فوقها وإن كانت
مدخولاً بها فهو ثلاث وإن نوى أقل منها وهو
إحدى الروايتين عن مالك ورواه في نهاية
المجتهد عن علي وزيد بن ثابت وحجة هذا القول
أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتب عليه
حكمه وغير المدخول بها تحرم بواحدة والمدخول
بها لا تحرم إلا بالثلاث.
واعلم أنه قد رجح المذهب
الأول من هذه المذاهب جماعة من العلماء
المتأخرين وهذا المذهب هو الراجح عندي إذا
أراد تحريم العين وأما إذا أراد به الطلاق
فليس في الأدلة ما يدل على امتناع وقوعه به
أما قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا
حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}
وكذلك قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فنحن نقول بموجب ذلك فمن أراد تحريم عين زوجته لم تحرم وأما من
أراد طلاقها بذلك اللفظ فليس في الأدلة ما يدل
على اختصاص الطلاق بألفاظ مخصوصة وعدم جوازه
بما سواها وليس في قوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} ما يقضي بانحصار الفرقة في لفظ الطلاق وقد ورد الأذن بما عداه من
ألفاظ الفرقة كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم
لابنة الجون:
"إلحقي بأهلك"
قال ابن القيم: وقد أوقع الصحابة الطلاق
بأنت حرام وأمرك بيدك واختاري ووهبتك لأهلك
وأنت خلية وقد خلوت مني وأنت برية وقد أبرأتك
وأنت مبرأة وحبلك على
ج / 6 ص -267-
غاربك انتهى. وأيضاً قال اللّه تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وظاهره أنه لو قال سرحتك لكفى في إفادة معنى الطلاق وقد ذهب جمهور
أهل العلم إلى جواز التجوز لعلاقة مع قرينة في
جميع الألفاظ إلا ما خص فما الدليل على
امتناعه في باب الطلاق وأما إذا حرم الرجل على
نفسه شيئاً غير زوجته كالطعام والشراب فظاهر
الأدلة أنه لا يحرم عليه شيء من ذلك لأن اللّه
لم يجعل إليه تحريماً ولا تحليلاً فيكون
التحريم الواقع منه لغواً وقد ذهب إلى مثل هذا
الشافعي وروي عن أحمد أن عليه كفارة يمين. |