نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب النفقات
باب نفقة الزوجة وتقديمها على نفقة الأقارب
1 - عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"دينار أنفقته
ج / 6 ص -321-
في سبيل اللّه ودينار أنفقته في رقبة ودينار
تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك
أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك". رواه أحمد ومسلم.
2 - وعن جابر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل:
"ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك
فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن
ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا". رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
3 - وعن أبي هريرة
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"تصدقوا قال رجل: عندي دينار قال:
تصدق به على نفسك قال: عندي دينار آخر قال:
تصدق به على زوجتك قال: عندي دينار آخر قال:
تصدق به على ولدك
قال: عندي دينار آخر قال:
تصدق به على خادمك
قال: عندي دينار آخر قال:
أنت أبصر به". رواه أحمد والنسائي ورواه أبو داود لكنه قدم الولد على الزوجة
واحتج به أبو عبيد في تحديد الغني بخمسة
دنانير ذهباً تقوية بحديث ابن مسعود في
الخمسين درهماً.
حديث أبي هريرة الآخر
أخرجه أيضاً الشافعي وابن حبان والحاكم قال
ابن حزم: اختلف يحيى القطان والثوري فقدم
يحيى الزوجة على الولد وقدم سفيان الولد على
الزوجة فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الآخر بل
يكونان سواء لأنه قد صح أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً
فيحتمل أن يكون في إعادته إياه مرة قدم الولد
ومرة قدم الزوجة فصارا سواء ولكنه يمكن ترجيح
تقدم الزوجة على الولد بما وقع من تقديمها في
حديث جابر المذكور في الباب وهكذا قال الحافظ
في التلخيص. وحديث أبي هريرة الأول فيه دليل
على أن الإنفاق على أهل الرجل أفضل من الإنفاق
في سبيل اللّه ومن الإنفاق في الرقاب ومن
التصدق على المساكين. وحديث جابر فيه دليل
على أنه لا يجب على الرجل أن يؤثر زوجته وسائر
قرابته بما يحتاج إليه في نفقة نفسه ثم إذا
فضل عن حاجة نفسه شيء فعليه إنفاقه على زوجته
وقد انعقد الإجماع على وجوب نفقة الزوجة ثم
إذا فضل عن ذلك شيء فعلى ذوي قرابته ثم إذا
فضل عن ذلك شيء فيستحب له التصدق بالفاضل
والمراد بقوله هكذا وهكذا أي يميناً وشمالاً
كناية عن التصدق.
واعلم أنه قد وقع
الإجماع على أنه يجب على الولد الموسر مؤنة
الأبوين المعسرين كما حكى ذلك في البحر واستدل
له بقوله تعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ثم قال: ولو كانا كافرين لقوله تعالى
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ}
و "أنت ومالك لأبيك"
ثم حكى بعد حكاية الإجماع المتقدم
ج / 6 ص -322-
عن العترة والفريقين أن الأم المعسرة كالأب
في وجوب نفقتها. – واستدل - بقوله صلى اللّه
عليه وآله وسلم: "أمك ثم أمك" الخبر.
وحكي عن مالك الخلاف في ذلك لعدم الدليل وأجاب
عليه بأن هذا الخبر دليل وعلى فرض عدم الدليل
فبالقياس على الأب ثم قال وكذا الخلاف في الجد
أبي الأب ثم حكي عن عمر وابن أبي ليلى والحسن
بن صالح والعترة وأحمد بن حنبل وأبي ثور أنها
تجب النفقة لكل معسر على كل موسر إذا كانت
ملتهما واحدة وكانا يتوارثان واستدل لذلك
بقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} اللام للجنس. وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنها إنما تلزم للرحم
المحرم فقط. وعن الشافعي وأصحابه لا تجب إلا
للأصول والفصول فقط. وعن مالك لا تجب إلا
للولد والوالد فقط.
وقد أجيب عن الاستدلال
بالآية المذكورة بمنع دلالتها على المطلوب
ودعوى أن الإشارة بقوله ذلك إلى عدم المضارة
وعلى التسليم فالمراد وارث الأب بعد موته
والأولى أن يقال لفظ الوارث فيه احتمالات:
أحدها:
أن يراد المولود له المذكور في صدر الآية وهو
المولود وقد قال بهذا قبيصة بن ذؤيب.
الثاني:
أن يراد وارث المولود وبه قال الجمهور من
السلف وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
الثالث:
أن يراد به الباقي من الأبوين بعد الآخر وبه
قال سفيان وغيره فحينئذ لفظ الوارث مجمل لا
يحل حمله على أحد هذه المعاني إلا بدليل مع
أنه لا يصح الاستدلال بالآية على وجوب نفقة كل
معسر على من يرثه من قرابته الموسرين لأن
الكلام في الآية في رزق الزوجات وكسوتهن ولكنه
يدل على المطلوب عموم فلذي قرابتك.
قوله: "تصدق به على
ولدك" فيه دليل على أنه يلزم الأب نفقة ولده
المعسر فإن كان الولد صغيراً فذلك إجماع كما
حكاه صاحب البحر وإن كان كبيراً فقيلنفقته على
الأب وحده دون الأم وقيل عليهما حسب الإرث
ويأتي بقية الكلام على نفقة الأقارب في باب
النفقة على الأقارب.
قوله: "تصدق به على
خادمك" فيه دليل على وجوب نفقة الخادم
وسيأتي الكلام على ذلك في باب نفقة الرقيق.
قوله: "بخمسة دنانير
ذهباً" قد قدمنا الكلام على هذا في
الزكاة.
باب اعتبار حال
الزوج في النفقة
1 - عن معاوية القشيري
قال: "أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال: فقلت ما تقول في نسائنا
قال:
"أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن". رواه أبو داود.
الحديث أخرجه أيضاً
النسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححاه
وعلق البخاري طرفاً منه وصححه الدارقطني في
العلل وقد ساقه أبو داود في سننه من ثلاث طرق
في كل واحدة منها بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
وهو معاوية القشيري المذكور. قال المنذري:
وقد اختلف الأئمة في الاحتجاج بهذه النسخة
يعني نسخة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فمنهم
من احتج بها ومنهم من أبى ذلك وخرج الترمذي
منها شيئاً وصححه.
- وفي الحديث - دليل على
أنه يجب على
ج / 6 ص -323-
الزوج أن يطعم امرأته مما يأكل ويكسوها مما
يكتسي وأنه لا يجوز له ضربها ولا تقبيحها وقد
تقدم الحديث وشرحه في باب إحسان العشرة وقد
استدل المصنف بهذا الحديث على أن العبرة بحال
الزوج في النفقة ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}
وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعية وبعض الحنفية
وذهب أكثر الحنفية ومالك إلى أن الاعتبار بحال
الزوجة واستدلوا بقصة هند امرأة سفيان الآتية
وأجيب عن ذلك بأنه أمرها بالأخذ بالمعروف ولم
يطلق لها الأخذ على مقدار الحاجة.
باب المرأة تنفق
من مال الزوج بغير علمه إذا منعها الكفاية
1 - عن عائشة: "أن هنداً قالت: يا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إن أبا سفيان
رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني أنا وولدي إلا
ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال:
"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
رواه الجماعة إلا الترمذي.
قوله: "أن هنداً"
هي بنت عتبة بن ربيعة والرواية بالصرف ووقع في
رواية للبخاري بالمنع وأبو سفيان اسمه صخر بن
حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
قوله: "شحيح" أي
بخيل حريص وهو أعم من البخل لأن البخل مختص
بمنع المال والشح يعم منع كل شيء في جميع
الأحوال كذا في الفتح.
قوله: "خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف" قال القرطبي: هذا أمر
إباحة بدليل ما وقع في رواية للبخاري بلفظ:
"لا حرج"
والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه
الكفاية قال: وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة
لفظاً فهي مقيدة معنىً كأنه قال إن صح ما
ذكرت.
- والحديث - فيه دليل
على وجوب نفقة الزوجة على زوجها وهو مجمع عليه
كما سلف وعلى وجوب نفقة الولد على الأب وأنه
يجوز لمن وجبت له النفقة شرعاً على شخص أن
يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه
الامتثال وأصر على التمرد وظاهره أنه لا فرق
في وجوب نفقة الأولاد على أبيهم بين الصغير
والكبير لعدم الاستفصال وهو ينزل منزلة العموم
وأيضاً قد كان في أولادها في ذلك الوقت من هو
مكلف كمعاوية رضي اللّه عنه فإنه أسلم عام
الفتح وهو ابن ثمان وعشرين سنة فعلى هذا يكون
مكلفاً من قبل هجرة النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم إلى المدينة وسؤال هند كان في عام الفتح
وذهبت الشافعية إلى اشتراط الصغر أو الزمانة
وحكاه ابن المنذر عن الجمهور والحديث يرد
عليهم ولم يصب من أجاب عن الاستدلال بهذا
الحديث على وجوب نفقة الأولاد بأنه واقعة عين
لا عموم لها لأن خطاب الواحد كخطاب الجماعة
كما تقرر في الأصول.
وفي رواية متفق عليها:
"ما
يكفيك ويكفي وليدك"
وقد أجيب عن الحديث أيضاً بأنه من باب الفتيا
لا من القضاء وهو فاسد لأنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم لا يفتي إلا بحق. واستدل بالحديث
أيضاً من قدر نفقة الزوجة بالكفاية وبه
قالالجمهور وقال الشافعي: إنها تقدر
بالأمداد فعلى الموسر كل يوم مدان والمتوسط مد
ونصف والمعسر مد. وروي نحو ذلك عن مالك
والحديث حجة عليهم كما اعترف بذلك النووي
وللحديث فوائد لا يتعلق غالبها بالمقام وقد
استوفاها في فتح الباري واستوفى طرق الحديث
واختلاف ألفاظه.
ج / 6 ص -324-
باب إثبات الفرقة للمرأة إذا تعذرت النفقة
بإعسار ونحوه
1 - عن أبي هريرة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"خير الصدقة ما كان منها عن ظهر غِنىً واليد
العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول
فقيل: من أعول يا رسول اللّه قال:
امرأتك ممن تعول تقول أطعمني وإلا فارقني.
جاريتك تقول أطعمني واستعملني. ولدك يقول
إلى من تتركني". رواه أحمد والدارقطني بإسناد صحيح وأخرجه الشيخان في الصحيحين
وأحمد من طريق آخر وجعلوا الزيادة المفسرة فيه
من قول أبي هريرة.
2 - وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في
الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال:
يفرق بينهما".
رواه الدارقطني.
حديث أبي هريرة الأول
حسن إسناده الحافظ وهو من رواية عاصم عن أبي
صالح عن أبي هريرة وفي حفظ عاصم مقال. ولفظ
الحديث الذي أشار إليه المصنف في البخاري عن
أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"فضل الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً واليد العليا خير من اليد السفلى
وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني
وإما أن تطلقني.
ويقول العبد أطعمني واستعملني. ويقول الابن
أطعمني وإلى من تدعني. قالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال: لا هذا من كيس أبي هريرة.
وحديث أبي هريرة الآخر
أخرجه أيضاً البيهقي من طريق عاصم القاري عن
أبي صالح عن أبي هريرة وأعله أبو حاتم.
وفي الباب عن سعيد بن
المسيب عند سعيد بن منصور والشافعي وعبد
الرزاق في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله
قال: يفرق بينهما قال أبو الزناد: قلت
لسعيد سنة قال: سنة وهذا مرسل قوي. وعن
عمر عند الشافعي وعبد الرزاق وابن المنذر أنه
كتب إلىأمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم
إما أن ينفقوا وإما أن يطلقوا ويبعثوا نفقة ما
حبسوا.
قوله: "ما كان عن
ظهر غنى" فيه دليل على أن صدقة من كان غير
محتاج لنفسه إلى ما تصدق به بل مستغنياً عنه
أفضل من صدقة المحتاج إلى ما تصدق به ويعارضه
حديث أبو هريرة عند أبو داود والحاكم يرفعه:
"أفضل الصدقة جهد من مقل". وقد فسره في النهاية بقدر ما يحتمله حال قليل المال. وحديث أبو
هريرة أيضاً عند النسائي وابن خزيمة وابن حبان
في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال على شرط مسلم
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"سبق درهم مائة ألف درهم
فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول اللّه قال:
رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم
فتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما
فتصدق بها فهذا
ج / 6 ص -325-
تصدق بنصف ماله" الحديث. ويؤيد هذا
المعنى قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} ويؤيد الأول قوله تعالى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا
كُلَّ الْبَسْطِ}
ويمكن الجمع بأن الأفضل لمن كان يتكفف الناس
إذا تصدق بجميع ماله أن يتصدق عن ظهر غِنىً
والأفضل لمن يصبر على الفاقة أن يكون متصدقاً
بما يبلغ إليه جهده وإن لم يكن مستغنياً عنه
ويمكن أن يكون المراد بالغنى غنى النفس كما في
حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما:
"ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس".
قوله: اليد العليا هي
يد المتصدق واليد السفلى يد المتصدق عليه هكذا
في النهاية. وسيأتي في باب النفقة على
الأقارب ما يدل على هذا التفسير.
قوله: "وابدأ بمن
تعول" أي بمن تجب عليك نفقته. قال في
الفتح: يقال عال الرجل أهله إذا مانهم أي
قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة. وفيه
دليل على وجوب نفقة الأولاد مطلقاً. وقد
تقدم الخلاف في ذلك على وجوب نفقة الأرقاء
وسيأتي.
قوله: "تقول أطعمني
وإلا فارقني" استدل به وبحديث أبي هريرة
الآخر على أن الزوج إذا أعسر عن نفقة امرأته
واختارت فراقه فرق بينهما وإليه ذهب جمهور
العلماء كما حكاه في فتح الباري وحكاه صاحب
البحر عن الإمام علي رضي اللّه عنه وعمر وأبي
هريرة والحسن البصري وسعيد بن المسيب وحماد
وربيعة ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي والإمام
يحيى.
وحكى صاحب الفتح عن
الكوفيين أنه يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة
بذمة الزوج وحكاه في البحر عن عطاء والزهري
والثوري والقاسمية وأبي حنيفة وأصحابه وأحد
قولي الشافعي ومن جملة ما احتج به الأولون
قوله تعالى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} وأجاب الآخرون عن الأحاديث المذكورة بما سلف من إعلالها وأما ما
في الصحيحين فهو من قول أبي هريرة كما وقع
التصريح به منه حيث قال إنه من كيسه بكسر
الكاف أي من استنباطه من المرفوع وقد وقع في
رواية الأصيلي بفتح الكاف أي من فطنته وأما
قول عمر فليس مما يحتج به وأجابوا عن الآية
بأن ابن عباس وجماعة من التابعين قالوا نزلت
فيمن كان يطلق فإذا كادت العدة تنقضي راجع
ويجاب عن ذلك بأن الأحاديث المذكورة يقوي
بعضها بعضاً مع أنه لم يكن فيها قدح يوجب
الضعف فضلاً عن السقوط والآية المذكورة وإن
كان سببها خاصاً كما قيل فالاعتبار بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب وأما استدلال الآخرين
بقوله تعالى
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا
آتَاهَا}
قالوا وإذا أعسر ولم يجد سبباً يمكنه به تحصيل
النفقة فلا تكليف عليه بدلالة الآية فيجاب عنه
بأنا لم نكلفه النفقة حال إعساره بل دفعنا
الضرر عن امرأته وخلصناها من حباله لتكتسب
لنفسها أو يتزوجها رجل آخر واحتجوا أيضاً بما
في صحيح مسلم من حديث جابر أنه دخل أبو بكر
وعمر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فوجداه حول نساؤه واجماً ساكتاً وهن يسألنه
النفقة فقام كل واحد منهما إلى ابنته أبو بكر
إلى عائشة وعمر إلى حفصة فوجا أعناقهما
فاعتزلهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بعد ذلك شهراً فضربهما لابنتيهما
ج / 6 ص -326-
في حضرته صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل
مطالبتهما بالنفقة التي لا يجدها يدل على عدم
التفرقة لمجرد الإعسار عنها قالوا ولم يزل
الصحابة فيهم الموسر والمعسر ومعسروهم أكثر
ويجاب عن الحديث المذكور بأن زجرهما عن
المطالبة بما ليس عند رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لا يدل على عدم جواز الفسخ
لأجل الإعسار ولم يرو أنهن طلبنه ولم يجبن
إليه كيف وقد خيرهن صلى اللّه عليه وآله وسلم
بعد ذلك فاخترنه وليس محل النزاع جواز
المطالبة للمعسر بما ليس عنده وعدمها بل محله
هل يجوز الفسخ عند التعذر أم لا وقد أجيب عن
هذا الحديث بأن أزواج النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم لم يعد من النفقة بالكلية لأن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قد استعاذ من الفقر
المدقع ولعل ذلك إنما كان فيما زاد على قوام
البدن مما يعتاد الناسالنزاع في مثله وهكذا
يجاب عن الاحتجاج بما كان عليه الصحابة من ضيق
العيش. وظاهر الأدلة أنه يثبت الفسخ للمرأة
بمجرد عدم وجدان الزوج لنفقتها بحيث يحصل
عليها ضرر من ذلك وقيل إنه يؤجل الزوج مدة
فروي عن مالك أنه يؤجل شهراً وعن الشافعية
ثلاثة أيام ولها الفسخ في أول اليوم الرابع.
وروي عن حماد أن الزوج
يؤجل سنة ثم يفسخ قياساً على العنين وهل تحتاج
المرأة إلى الرفع إلى الحاكم روي عن المالكية
في وجه لهم أنها ترافعه إلى الحاكم ليجبره على
الإنفاق أو يطلق عنه وفي وجه لهم آخر أنه
ينفسخ النكاح بالإعسار لكن بشرط أن بثبت
إعساره عند الحاكم والفسخ بعد ذلك إليها.
وروي عن أحمد أنها إذا
اختارت الفسخ رافعته إلى الحاكم والخيار إليه
بين أن يجبره على الفسخ أو الطلاق وروي عن عبد
اللّه بن الحسن العنبري أن الزوج إذا أعسر عن
النفقة حبسه الحاكم حتى يجدها وهو في غاية
الضعف لأن تحصيل الرزق غير مقدور له إذا كان
من الذين أعوزته المطالب وأكدت عليه جميع
المكاسب اللّهم إلا أن يتقاعد عن طلب أسباب
الرزق والسعي له مع تمكنه من ذلك فلهذا القول
وجه وذهب ابن حزم إلى أنه يجب على المرأة
الموسرة إنفاق زوجها المعسر ولا ترجع عليه إذا
أيسر. وذهب ابن القيم إلى التفصيل وهو أنها
إذا تزوجت به عالمة بإعساره أو كان حال الزوج
موسراً ثم أعسر فلا فسخ لها وإن كان هو الذي
غرّها عند الزواج بأنه موسر ثم تبين لها
إعساره كان لها الفسخ.
- واعلم - أنه لا فسخ
لأجل الإعسار بالمهر على ما ذهب إليه
الجمهور. وذهب بعض الشافعية وهو مروي عن
أحمد إلى أنه يثبت الفسخ لأجل ذلك والظاهر
الأول لعدم الدليل الدال على ذلك وقد ثبت عنه
صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن النساء عوان في
يد الأزواج كما تقدم أي حكمهن حكم الأسراء لأن
العاني الأسير والأسير لا يملك لنفسه خلاصاً
من دون رضا الذي هو في أسره فهكذا النساء
ويؤيد هذا حديث:
"الطلاق لمن أمسك بالساق" فليس للزوجة تخليص نفسها من تحت زوجها إلا إذا دل الدليل على جواز
ذلك كما في الإعسار عن النفقة ووجود العيب
المسوغ للفسخ وهكذا إذا كانت المرأة تكره
الزوج كراهة شديدة وقد قدمنا الخلاف في ذلك.
ج / 6 ص -327-
باب النفقة على الأقارب ومن يقدم منهم
1 - عن أبي هريرة قال:
"قال رجل: يا رسول اللّه أي الناس أحق مني
بحسن الصحبة. قال:
أمك. قال: ثم من. قال:
أمك. قال: ثم من. قال:
أمك. قال: ثم من قال:
أبوك". متفق عليه. ولمسلم في رواية: "من أبر قال: أمك".
2 - وعن بهز بن حكيم عن
أبيه عن جده قال: "قلت يا رسول اللّه من
أبر. قال:
أمك. قال: قلت ثم من. قال:
أمك: قال: قلت يا رسول اللّه ثم من. قال:
أمك.
قال: قلت ثم من. قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
3 - وعن طارق المحاربي
قال: "قدمت المدينة فإذا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قائم على المنبر يخطب
الناس وهو يقول: يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك
أدناك". رواه النسائي.
4 - وعن كليب بن منفعة
عن جده: "أنه أتى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه من أبر.
قال:
أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة".
رواه أبو داود.
حديث بهز بن حكيم أخرجه
أيضاً الحاكم وحسنه أبو داود.
وحديث طارق المحاربي
أخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني وصححاه.
وحديث كليب بن منفعة
أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه وقد أخرجه
البغوي وابن قانع والطبراني في الكبير
والبيهقي ورجال إسناد أبي داود لا بأس بهم.
- وفي الباب - عن
المقدام ابن معد يكرب عند البيهقي بإسناد
حسن: "سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
"إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم بالأقرب فالأقرب"
وأخرج البخاري في الأدب المفرد وأحمد وابن
حبان والحاكم وصححاه بلفظ:
"إن اللّه يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم
بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم
بالأقرب فالأقرب"
وأخرج الحاكم من حديث أبي رمثة بلفظ:
"أمك أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك
أدناك".
قوله: "أمك" فيه
دليل على أن الأم أحق بحسن الصحبة من الأب
وأولى منه بالبر حيث لا يتسع مال الابن إلا
لنفقة واحد منهما وإليه ذهب الجمهور كما حكاه
القاضي عياض فإنه قال ذهب الجمهور إلى أن الأم
تفضل في البر على الأبوقيل إنهما سواء وهو
مروي عن مالك وبعض الشافعية. وقد حكى الحارث
المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم على الأب.
قوله: "ثم الأقرب
فالأقرب" فيه دليل على وجوب نفقة الأقارب
على الأقارب سواء كانوا وارثين أم لا وقد
قدمنا تفصيل الخلاف في ذلك. واستدل من اعتبر
الميراث بقوله تعالى
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.
قوله: "يد المعطي
العليا" هو
ج / 6 ص -328-
تفسير للحديث المتقدم بلفظ
"اليد العليا خير من اليد السفلى".
قوله: "وابدأ بمن
تعول" قد تقدم تفسيره.
قوله: "ثم أدناك
أدناك" هو مثل قوله "ثم الأقرب فالأقرب"
وفي ذلك دليل على أن القريب الأقرب أحق بالبر
والإنفاق من القريب الأبعد وإن كانا جميعاً
فقيرين حيث لم يكن في مال المنفق إلا بمقدار
ما يكفي أحدهما فقط بعد كفايته.
قوله: "ومولاك الذي
يلي ذاك" قيل أراد بالمولى هنا القريب ولعل
وجه ذلك أنه جعله والياً للأم والأب والأخت
والأخ ولا بد أن يكون الوالي لهم من جنسهم في
قرابة النسب. والظاهر أن المراد بالمولى هو
المولى لغة وشرعاً وجعله والياً لمن ذكر لا
يستلزم أن يكون من جنسهم في القرابة بل المراد
أنه يليهم في استحقاق النفقة حيث لم يوجد معهم
من هو مقدم عليه ولا يلزم من قوله بعد ذلك
ورحم موصولة أن تكون الرحامة موجودة في جميع
المذكورين بل يكفي وجودها في البعض كالأم
والأب والأخت والأخ.
باب من أحق
بكفالة الطفل
1 - عن البراء بن
عازب: "أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر
وزيد فقال علي: أنا أحق بها هي ابنة عمي
وقال جعفر: بنت عمي وخالتها تحتي وقال
زيد: ابنة أخي فقضى بها رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم لخالتها وقال:
"الخالة بمنزلة الأم". متفق عليه. ورواه أحمد أيضاً من حديث علي وفيه: "والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة".
حديث علي رضي اللّه عنه
أخرجه أيضاً أبو داود والحاكم والبيهقي
بمعناه.
قوله: "وخالتها
تحتي" الخالة المذكورة هي أسماء بنت عميس.
قوله: "وقال زيد
ابنة أخي" إنما سمى حمزة أخاه لأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم آخى بينه وبينه.
قوله: "الخالة
بمنزلة الأم" فيه دليل على أن الخالة في
الحضانة بمنزلة الأم وقد ثبت بالإجماع أن الأم
أقدم الحواضن فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة
أقدم من غيرها من أمهات الأم وأقدم من الأب
والعمات. وذهبت الشافعية والهادي إلى تقديم
الأب على الخالة. وذهب الشافعي والهادوية
إلى تقدم أم الأم وأم الأب على الخالة
أيضاً. وذهب الناصر والمؤيد باللّه وأكثر
أصحاب الشافعي وهو رواية عن أبي حنيفة إلى أن
الأخوات أقدم من الخالة. والأولى تقديم
الخالة بعد الأم على سائر الحواضن لنص الحديث
وفاء بحق التشبيه المذكور وإلا كان لغواً.
وقد قيل إن الأب أقدم من
الخالة بالإجماع وفيه نظر فإن صاحب البحر قد
حكى عن الأصطخري أن الخالة أولى منه ولم يُحكَ
القول بتقديم الأب عليها إلا عن الهادي
والشافعي وأصحابه.
وقد طعن ابن حزم في حديث
البراء المذكور بأن في إسناده إسرائيل وقد
ضعفه علي بن المديني ورد عليه بأنه قد وثقه
سائر أهل الحديث وتعجب أحمد من حفظه وقال
ثقة. وقال أبو حاتم: هو أتقن أصحاب أبي
إسحاق وكفى باتفاق الشيخين على إخراج هذا
الحديث دليلاً.
ج / 6 ص -329-
واستشكل كثير من الفقهاء وقوع القضاء منه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لجعفر وقالوا إن كان
القضاء له فليس بمحرم لها وهو وعلي سواء في
قرابتها وإن كان القضاء للخالة فهي مزوجة
وسيأتي أن زواج الأم مسقط لحقها من الحضانة
فسقوط حق الخالة بالزواج أولى.
وأجيب عن ذلك بأن القضاء
للخالة والزواج لا يسقط حقها من الحضانة مع
رضا الزوج كما ذهب إليه أحمد والحسن البصري
والإمام يحيى وابن حزم وقيل إن النكاح إنما
يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها
الأب ولا يسقط حق غيرها ولا حق الأم حيث كان
المنازع لها غير الأب وبهذا يجمع بين حديث
الباب وحديث:
"أنت أحق به ما لم تنكحي" الآتي وإليه ذهب ابن جريج.
2 - وعن عبد اللّه بن
عمرو بن العاص: "أن امرأة قالت: يا رسول
اللّه إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له
حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني
فقال:
أنت أحق به ما لم تنكحي".
رواه أحمد وأبو داود لكن في لفظه: "وإن
أباه طلقني وزعم أن ينتزعه مني".
الحديث أخرجه أيضاً
البيهقي وصححه وهو من حديث عمرو بنشعيب عن
أبيه عن جده.
قوله: "وعاء" بفتح
الواو والمد وقد يضم وهو الظرف وقرأ السبعة
{قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ}
بالكسر. والحواء بكسر الحاء والمد اسم لكل
شيء يحوي غيره أي يجمعه. والسقاء بكسر السين
أي يسقي منه اللبن. ومراد الأم بذلك أنها
أحق به لاختصاصها بهذه الأوصاف دون الأب.
قوله: "أنت أحق
به" فيه دليل على أن الأم أولى بالولد من
الأب ما لم يحصل مانع من ذلك كالنكاح لتقييده
صلى اللّه عليه وآله وسلم للأحقية بقوله:
"ما لم تنكحي" وهو مجمع على ذلك كما حكاه صاحب البحر فإن حصل منها النكاح بطلت
حضانتها وبه قال مالك والشافعية والحنفية
والعترة. وقد حكى ابن المنذر الإجماع
عليه. وروي عن عثمان أنها لا تبطل بالنكاح
وإليه ذهب الحسن البصري وابن حزم واحتجوا بما
روي أن أم سلمة تزوجت بالنبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وبقي ولدها في كفالتها وبما تقدم في
حديث ابنة حمزة. ويجاب عن الأول بأن مجرد
البقاء مع عدم المنازع لا يصلح للاحتجاج به
على محل النزاع لاحتمال أنه لم يبق له قريب
غيرها. وعن الثاني بأن ذلك في الخالة ولا
يلزم في الأم مثله.
وقد ذهب أبو حنيفة
والهادوية إلى أن النكاح إذا كان بذي رحم محرم
للمحضون لم يبطل به حق حضانتها. وقال
الشافعي يبطل مطلقاً لأن الدليل لم يفصل وهو
الظاهر وحديث ابنة حمزة لا يصلح للتمسك به لأن
جعفراً ليس بذي رحم محرم لابنة حمزة. وأما
دعوى دلالة القياس على ذلك كما زعمه صاحب
البحر فغير ظاهر.
وقد أجاب ابن حزم عن
حديث الباب بأن في إسناده عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده ولم يسمع أبوه من جده وإنما هو
صحيفة كما سبق تحقيقه ورد بأن حديث عمرو بن
شعيب قبله الأئمة وعملوا به. - وقد استدل -
لمن قال بأن النكاح إذا كان بذي رحم للمحضون
لم يبطل حق المرأة من الحضانة بما رواه عبد
الرزاق عن
ج / 6 ص -330-
أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أنها جاءت
امرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقالت: إن أبي أنكحني رجلاً لا أريده وترك
عم ولدي فأخذ مني ولدي فدعا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أباها ثم قال لها:
اذهبي فانكحي عم ولدك" وهذا مع كونه مرسلاً في إسناده رجل مجهول
ولم يقع التصريح فيه بأنه أرجع الولد إليها
عند أن زوجها بذي رحم له.
3 - وعن أبي هريرة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خير غلاماً
بين أبيه وأمه" رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وفي رواية: "أن امرأة
جاءت فقالت: يا رسول اللّه إن زوجي يريد أن
يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد
نفعني فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
استهما عليه
فقال زوجها: من يحاقني في ولدي فقال النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به".
رواه أبو داود وكذلك
النسائي ولم يذكر: "فقال استهما عليه"
ولأحمد معناه لكنه قال فيه: "جاءت امرأة
قد طلقها زوجها" ولم يذكر فيه قولها:
"قد سقاني ونفعني".
4 - وعن عبد الحميد بن
جعفر الأنصاري عن جده: "أن جده أسلم وأبت
امرأته أن تسلم فجاء بابن له صغير لم يبلغ
قال: فأجلس النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
الأب ههنا والأم ههنا ثم خيره وقال: اللّهم اهده فذهب إلى أبيه".
رواه أحمد والنسائي. وفي رواية عن عبد
الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع
بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت:
ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال رافع: ابنتي
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
اقعد ناحية وقال لها:
اقعدي ناحية فأقعد الصبية بينهما ثم قال:
ادعوها فمالت إلى أمها فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
اللّهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها". رواه أحمد وأبو داود وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن
عبد اللّه بن رافع بن سنان الأنصاري.
حديث أبي هريرة رواه
باللفظ الأول أيضاً أبو داود ورواه بنحو اللفظ
الثاني بقية أهل السنن وابن أبي شيبة وصححه
الترمذي وابن حبان وابن القطان. وحديث عبد
الحميد باللفظ الآخر أخرجه أيضاً النسائي وابن
ماجه والدارقطني وفي إسناده اختلاف كثير
وألفاظه مختلفة ورجح ابن القطان رواية عبد
الحميد بن جعفر وقال ابن المنذر: لا يثبته
أهل النقل وفي إسناده
ج / 6 ص -331-
مقال ولكنه قد صححه الحاكم وذكر الدارقطني
أن البنت المخيرة اسمها عميرة
وقال ابن الجوزي:
رواية من روى أنه كان غلاماً أصح.
وقال ابن القطان:
لو صح رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما
قصتان لاختلاف المخرجين.
قوله: "خير
غلاماً" الخ فيه دليل على أنه إذا تنازع
الأب والأم في ابن لهما كان الواجب هو تخييره
فمن اختاره ذهب به. وقد أخرج البيهقي عن عمر
أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه.
وأخرج أيضاً عن علي أنه
خير عمارة الجذامي بين أمه وعمته وكان ابن سبع
أو ثمان سنين. وقد ذهب إلى هذا الشافعي
وأصحابه وإسحاق بن راهويه وقال: أحب أن يكون
مع الأم إلى سبع سنين ثم يخير وقيل إلى خمس.
وذهب أحمد إلى أن الصغير دون سبع سنين أمه
أولى به وإن بلغ سبع سنين فالذكر فيه ثلاث
روايات:
يخير وهو المشهور عن
أصحابه وإن لم يختر أقرع بينهما. والثانية
أن الأب أحق به. والثالثة أن الأب أحق
بالذكر والأم أحق بالأنثى إلى تسع ثم يكون
الأب أحق بها.
والظاهر من أحاديث الباب
أن التخيير في حق من بلغ من الأولاد إلى سن
التمييز هو الواجب من غير فرق بين الذكر
والأنثى. وحكى في البحر عن مذهب الهادوية
وأبي طالب وأبي حنيفة وأصحابه ومالك أنه لا
تخيير بل متى استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر
والأم بالأنثى. وعن مالك الأنثى للأم حتى
تزوج وتدخل والأب للذكر حتى يبلغ. وحد
الاستغناء عند أبي حنيفة وأصحابه وأبي العباس
وأبي طالب أن يأكل ويشرب ويلبس. وعند
الشافعي والمؤيد باللّه والإمام يحيى هو بلوغ
السبع. وتمسك النافون للتخيير بحديث:
"أنت أحق به ما لم تنكحي"
ويجاب عنه بأن الجمع ممكن وهو أن يقال المراد
بكونها أحق به فيما قبل السن التي يخير فيها
لا فيما بعدها بقرينة أحاديث الباب.
قوله: "استهما
عليه" فيه دليل على أن القرعة طريق شرعية
عند تساوي الأمرين وأنه يجوز الرجوع إليها كما
يجوز الرجوع إلى التخيير. وقد قيل إنه يقدم
التخيير عليها وليس في حديث أبي هريرة المذكور
ما يدل على ذلك بل ربما دلَّ على عكسه لأن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمرهما أولاً
بالاستهام ثم لما لم يفعلا خير الولد.
وقد قيل إن التخيير أولى
لاتفاق ألفاظ الحديث عليه وعمل الخلفاء
الراشدين به.
قوله: "من يحاقني"
الحقاق والاحتقاق الخصام والاختصام كما في
القاموس أي من يخاصمني في ولدي.
قوله: "فمالت إلى
أمها فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
"اللّهم اهدها" استدل بذلك على جواز نقل الصبي إلى من اختار ثانياً وقد نسبه صاحب
البحر إلى القائلين بالتخيير واستدل بحديث عبد
الحميد المذكور على ثبوت الحضانة للأم الكافرة
لأن التخيير دليل ثبوت الحق وإليه ذهب أبو
حنيفة وأصحابه وأبو ثور. وذهب الجمهور إلى
أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم
وأجابوا عن الحديث بماتقدم من المقال وبما فيه
من الاضطراب ويجاب بأن الحديث صالح للاحتجاج
به والاضطراب ممنوع باعتبار محل الحجة.
وأما احتجاجهم بمثل قوله
تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} وبنحو حديث:
"الإسلام يعلو"
فغير نافع لأنه عام وحديث الباب خاص. واعلم
أنه ينبغي قبل
ج / 6 ص -332-
التخيير والاستهام ملاحظة ما فيه مصلحة
للصبي فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من
الآخر قدم عليه من غير قرعة ولا تخيير هكذا
قال ابن القيم واستدل على ذلك بأدلة عامة نحو
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً} وزعم أن قول من قال بتقديم التخيير أو
القرعة مقيد بهذا وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه
قال تنازع أبوان صبياً عند الحاكم فخيّر الولد
بينهما فاختار أباه فقالت أمه سله لأي شيء
يختاره فسأله فقال أمي تبعثني كل يوم للكاتب
والفقيه يضرباني وأبي يتركني ألعب مع الصبيان
فقضى به للأم ورجح هذا ابن تيمية. واستدل له
بنوع من أنواع المناسب ولا يخفى أن الأدلة
المذكورة في خصوص الحضانة خالية عن مثل هذا
الاعتبار مفوضة حكم الأحقية إلى محض الاختيار
فمن جعل المناسب صالحاً لتخصيص الأدلة أو
تقييدها فذاك ومن أبى ووقف على مقتضاها كان في
تمسكه وموافقته له أسعد من غيره. |