نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

كتاب الحدود
باب ما جاء في رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبها

1 - عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما قالا‏:‏ ‏"‏أن رجلاً من الأعراب أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه أنشدك اللّه إلا قضيت لي بكتاب اللّه وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه‏:‏ نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه وائذن لي فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
قل‏.‏ قال‏:‏ إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللّه الوليدة والغنم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قال‏:‏ فغدا عليها فاعترفت فأمر بها

 

ج / 7 ص -87-         رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرجمت‏"‏‏.‏ رواه الجماعة‏.‏
قال مالك‏:‏ العسيف الأجير ويحتج به من يثبت الزنا بالإقرار مرة ومن يقتصر على الرجم‏.‏
2 - وعن أبي هريرة‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه‏"‏‏.‏
3 - وعن الشعبي‏:‏ ‏"‏أن علياً رضي اللّه عنه حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال‏:‏ جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏"‏‏.‏ رواهما أحمد والبخاري‏.‏
4 - وعن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
"خذوا عني خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي‏.‏
5 - وعن جابر بن عبد اللّه‏:‏ ‏
"‏أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فأمر به فرجم‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
6 - وعن جابر بن سمرة‏:‏ ‏
"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رجم ماعز بن مالك ولم يذكر جلداً‏"‏‏.‏ رواه أحمد ‏
حديث جابر بن عبد اللّه سكت عنه أبو داود والمنذري وقد قدمنا في أول الكتاب أن ما سكتا عنه فهو صالح للاحتجاج به وقد أخرجه أبو داود عنه من طريقين ورجال إسناده رجال الصحيح‏.‏ وأخرجه أيضاً النسائي‏.‏
وحديث جابر بن سمرة أخرجه أيضاً البيهقي وأورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه‏.‏ وقد أخرجه أيضاً البزار قال في مجمع الزوائد‏:‏ في إسناده صفوان بن المغلس لم أعرفه وبقية إسناده ثقات‏.‏ وحديثه أصله في الصحيح وسيأتي‏.‏
قوله‏:‏ - كتاب الحدود - الحد لغة المنع ومنه سمي البواب حداداً وسميت عقوبات المعاصي حدوداً لأنها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها في الغالب‏.‏ وأصل الحد الشيء الحاجز بين الشيئين ويقال على ما ميز الشيء عن غيره ومنه حدود الدار والأرض ويطلق الحد أيضاً على نفس المعصية ومنه
‏{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا}‏‏.‏ وفي الشرع عقوبة مقدرة لأجل حق اللّه فيخرج التعزير لعدم تقديره والقصاص لأنه حق لآدمي‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أنشدك اللّه‏"‏ بفتح الهمزة وسكون النون وضم المعجمة أي أذكرك اللّه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا قضيت لي بكتاب اللّه‏"‏ أي لا أسألك إلا القضاء بكتاب اللّه فالفعل مؤول بالمصدر للضرورة أو بتقدير حرف المصدر فيكون الاستثناء مفرغاً‏.‏ والمراد بكتاب اللّه ما حكم اللّه على عباده سواء كان من القرآن أو على لسان

 

ج / 7 ص -88-         الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وقيل المراد به القرآن فقط‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وهو أفقه منه‏"‏ لعل الراوي عرف ذلك قبل الواقعة أو استدل بما وقع منه في هذه القضية على أنه أفقه من صاحبه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏قال إن ابني هذا‏"‏ الخ القائل هو الآخر الذي وصفه الراوي بأنه أفقه كما يشعر بذلك السياق‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ إن القائل هو الأول ويدل على ذلك ما وقع في كتاب الصلح من صحيح البخاري بلفظ‏:‏ ‏"‏فقال الأعرابي إن ابني‏"‏ بعد قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏جاء أعرابي‏"‏ قال الحافظ‏:‏ والمحفوظ ما في سائر الطرق‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عسيفاً على هذا‏"‏ بفتح العين المهملة وكسر السين المهملة أيضاً وتحتية وفاء كالأجير وزناً ومعنىً وقد وقع تفسير ذلك في صحيح البخاري مدرجاً كما أشار إليه المصنف ووقع في رواية للنسائي بلفظ‏:‏ ‏"‏كان ابني أجيراً لامرأته‏"‏ ويطلق العسيف على السائل والعبد والخادم‏.‏ والعسف في أصل اللغة الجور وسمي الأجير بذلك لأن المستأجر يعسفه على العمل أي يجور عليه‏.‏ ومعنى قوله على قوله هذا عند هذا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإني أخبرت‏"‏ على البناء للمجهول‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏جلد مائة‏"‏ بالإضافة في رواية الأكثرين وقرئ بتنوين جلد ونصب مائة‏.‏
قال الحافظ‏:‏ ولم يثبت رواية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والغنم رد‏"‏ أي مردود‏.‏ وقد استدل بذلك على عدم حل الأموال المأخوذة في الصلح مع عدم طيبة النفس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وعلى ابنك جلد مائة‏"‏ حكمه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالجلد من دون سؤال عن الإحصان يشعر بأنه عالم بذلك من قبل‏.‏ ووقع في رواية بلفظ‏:‏ ‏"‏وابني لم يحصن‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يا أنيس‏"‏ بضم الهمزة بعدها نون ثم تحتية ثم سين مهملة مصغراً‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ هو ابن الضحاك الأسلمي وقيل ابن مرشد‏.‏ وقال ابن السكن في كتاب الصحابة‏:‏ لم أدر من هو ولا ذكر إلا في هذا الحديث‏.‏ وغلط بعضهم فقال‏:‏ إنه أنس بن مالك وليس الأمر كذلك فإن أنس بن مالك أنصاري وهذا أسلمي كما وقع التصريح بذلك في حديث الباب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن اعترفت فارجمها‏"‏ فيه دليل لمن قال إنه يكفي الإقرار مرة واحدة وسيأتي الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق‏.‏ وقد استشكل بعثه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المرأة مع أمره لمن أتى الفاحشة بالستر وأجيب بأن بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إليها لم يكن لأجل إثبات الحد عليها بل لأنها لما قذفت بالزنا بعث إليها لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط حد القذف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرجمت‏"‏ في رواية الأكثرين‏:‏ ‏"‏فاعترفت فرجمها‏"‏‏.‏ وفي رواية مختصرة‏:‏ ‏"‏فغدا عليها فرجمها‏"‏ وفي رواية‏:‏
‏"‏وأما امرأة هذا فترجم‏"‏ والرواية المذكورة في الباب أتم من سائر الروايات لإشعارها بأن أنيساً أعاد جوابها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأمر بها فرجمها‏.‏
قال الحافظ‏:‏ والذي يظهر أن أنيساً لما اعترفت أعلم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مبالغة في الاستثبات مع كونه كان علق له رجمها على اعترافها ولكنه لا بد من أن يقال أن أنيساً أعلم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعه غيره ممن يصح أن يثبت بشهادة حد الزنا لكنه اختصر ذلك في الرواية وإن كان قد استدل به البعض بأنه يجوز للحاكم أن يحكم بإقرار الزاني من غير أن يشهد عليه غيره وأنيس قد فوض إليه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الحكم وقد يجاب عنه بأنها واقعة عين ويحتمل أن يكون أنيس قد أشهد قبل رجمها‏.‏
وقد حكى القاضي عياض عن الشافعي في قوله وأبي ثور أنه يجوز للحاكم

 

ج / 7 ص -89-         في الحدود أن بحكم بما أقر به الخصم عنده وأبى ذلك الجمهور‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بنفي عام‏"‏ في هذا الحديث وفي حديث أبي هريرة المذكور قبله وفي حديث عبادة بن الصامت المذكور بعده دليل على ثبوت التغريب ووجوبه على من كان غير محصن‏.‏
وقد ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ أقسم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قصة العسيف أنه يقضي بكتاب اللّه تعالى ثم قال إن عليه جلد مائة وتغريب عام وهو المبين لكتاب اللّه تعالى وخطب عمر بذلك على رؤوس المنابر وعمل به الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعاً‏.‏
وقد حكى القول بذلك صاحب البحر عن الخلفاء الأربعة وزيد بن علي والصادق وابن أبي ليلى والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والإمام يحيى وأحد قولي الناصر‏.‏ وحكى عن القاسمية وأبي حنيفة وحماد أن التغريب والحبس غير واجبين واستدل لهم بقوله إذ لم يذكرا في آية الجلد وبقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها‏"‏ الحديث‏.‏ وهذا الاستدلال من الغرائب فإن عدم ذكر التغريب في آية الجلد لا يدل على مطلق العدم وقد ذكر التغريب في الأحاديث الصحيحة الثابتة باتفاق أهل العلم بالحديث من طريق جماعة من الصحابة بعضها ذكره المصنف في الباب وبعضها لم يذكر وليس بين هذا الذكر وبين عدمه في الآية منافاة وما أشبه هذا الاستدلال بما استدل به الخوارج على عدم ثبوت رجم المحصن فقالوا لأنه لم يذكر في كتاب اللّه وأغرب من هذا استدلاله بعدم ذكر التغريب في قوله ‏"‏إذا زنت أمة أحدكم‏"‏‏.
والحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحنفية فيما ورد من السنة زائداً على القرآن فليس لهم معذرة عنها بذلك وقد عملوا بما هو دونها بمراحل كحديث نقض الوضوء بالقهقهة وحديث جواز الوضوء بالنبيذ وهما زيادة على ما في القرآن وليس هذه الزيادة مما يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون مجزئاً حتى تتجه دعوى النسخ‏.‏ وقد أجاب صاحب البحر عن أحاديث التغريب بأنه عقوبة لا حد ويجاب عن ذلك بالقول بموجبه فإن الحدود كلها عقوبات والنزاع في ثبوته لا في مجرد التسمية وأما الاستدلال بحديث سهل بن سعد عند أبي داود أن رجلاً من بكر بن ليث أقر للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه زنى بامرأة وكان بكراً فجلده النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مائة وسأله البينة على المرأة إذ كذبته فلم يأت بشيء فجلده حد الفرية ثمانين جلدة قالوا ولو كان التغريب واجباً لما أخل به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيجاب عنه باحتمال أن يكون ذلك قبل مشروعية التغريب غاية الأمر احتمال تقدمه وتأخره على أحاديث التغريب والمتوجه عند ذلك المصير إلى الزيادة التي لم تقع منافية للمزيد ولا يصلح ذلك للصرف عن الوجوب إلا على فرض تأخره ولم يعلم وهكذا يقال في حديث‏:‏
‏"‏إذا زنت أمة أحدكم‏"‏ المتقدم وبه يندفع ما قاله الطحاوي من أنه ناسخ للتغريب معللاً ذلك بأنه إذا سقط عن الأمة سقط عن الحرة لأنها في معناها قال‏:‏ ويتأكد ذلك بأحاديث‏:‏ ‏"‏لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم‏"‏ وقد تقدمت قال‏:‏ وإذا انتفى عن النساء انتفى عن الرجال قال‏:‏ وهو مبني على أن العموم إذا خص سقط الاستدلال به وهو مذهب ضعيف انتهى‏.‏ وغاية الأمر أنا لو سلمنا تأخر حديث الأمة عن أحاديث التغريب كان

 

ج / 7 ص -90-         معظم ما يستفاد منه أن التغريب في حق الإماء ليس بواجب ولا يلزم ثبوت مثل ذلك في حق غيرها أو يقال إن حديث الأمة المذكور مخصص لعموم أحاديث التغريب مطلقاً على ما هو الحق من أنه يبنى العام على الخاص تقدم أو تأخر أو قارن ولكن ذلك التخصيص باعتبار عدم الوجوب في الخاص لا باعتبار عدم الثبوت مطلقاً فإن مجرد الترك لا يفيد مثل ذلك وظاهر أحاديث التغريب أنه ثابت في الذكر والأنثى وإليه ذهب الشافعي وقال مالك والأوزاعي لا تغريب عن المرأة لأنها عورة وهو مروي عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه وظاهرها أيضاً أنه لا فرق بين الحر والعبد وإليه ذهب الثوري وداود والطبري والشافعي في قول له والإمام يحيى ويؤيده في قوله تعالى ‏{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}‏‏.‏
وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينصف في حق الأمة والعبد قياساً على الحد وهو قياس صحيح‏.‏ وفي قول للشافعي إنه لا ينصف فيهما‏.‏
وذهب مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق والشافعي في قول له وهو مروي عن الحسن إلى أنه لا تغريب للرق واستدلوا بحديث‏:‏
‏"‏إذا زنت أمة أحدكم‏"‏ المتقدم وقد تقدم الجواب عن ذلك وسيأتي الحديث أيضاً في باب السيد يقيم الحد على رقيقه‏.‏
وظاهر الأحاديث المذكورة في الباب أن التغريب هو نفي الزاني عن محله سنة وإليه ذهب مالك والشافعي وغيرهما ممن تقدم ذكره‏.‏ والتغريب يصدق بما يطلق عليه اسم الغربة شرعاً فلا بد من إخراج الزاني عن المحل الذي لا يصدق عليه اسم الغربة فيه قيل وأقله مسافة قصر‏.‏ وحكي في البحر عن علي وزيد بن علي والصادق والناصر في أحد قوليه إن التغريب هو حبس سنة وأجاب عنه بأنه خالف لوضع التغريب وتعقبه صاحب ضوء النهار بأن مخالفة الوضع لا تنافي التجوز وهما مشتركان في فقد الأنيس قال ومنه
‏"‏بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً‏"‏ وجعل قرينة المجاز حديث النهي عن سفر المرأة مع غير محرم ويجاب عن هذا التعقب بأن الواجب حمل الأحكام الشرعية على ما هي حقيقة فيه في لسان الشارع ولا يعدل عن ذلك إلى المجاز إلا لملجئ ولا ملجئ هنا فإن التغريب المذكور في الأحاديث شرعاً هو إخراج الزاني عن موضع إقامته بحيث يعد غريباً والمحبوس في وطنه لا يصدق عليه ذلك الاسم وهذا المعنى هو المعروف عند الصحابة الذين هم أعرف بمقاصد الشارع فقد غرَّب عمر من المدينة إلى الشام وغرَّب عثمان إلى مصر وغرَّب ابن عمر أمته إلى فدك‏.‏
وأما النهي عن سفر المرأة فلا يصلح جعله قرينة على أن المراد بالتغريب هو الحبس‏.‏ أما أولاً فلأن النهي مقيد بعدم المحرم وأما ثانياً فلأنه عام مخصوص بأحاديث التغريب وأما ثالثاً فلأن أمر التغريب إلى الإمام لا إلى المحدود ونهى المرأة عن السفر إذا كانت مختارة له وأما مع الإكراه من الإمام فلا نهي يتعلق بها قوله‏:‏ ‏"‏جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه‏"‏ في هذا الحديث وكذلك في حديث عبادة المذكور بعده‏.‏ وحديث جابر بن عبد اللّه دليل على أنه يجمع للمحصن بين الجلد والرجم‏.‏ أما الرجم فهو مجمع عليه وحكى في البحر عن الخوارج أنه غير واجب وكذلك حكاه عنهم أيضاً ابن العربي وحكاه أيضاً عن بعض المعتزلة كالنظام

 

ج / 7 ص -91-         وأصحابه ولا مستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن وهذا باطل فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع عليها‏.‏ وأيضاً هو ثابت بنص القرآن لحديث عمر عند الجماعة أنه قال كان مما أنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم آية الرجم فقرأناها ووعيناها ورجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ورجمنا بعده ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم كما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس‏.‏
وقد أخرج أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن فيما أنزل اللّه من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة‏.‏ وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أُبيّ بن كعب بلفظ‏:‏ ‏"‏كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها آية الرجم الشيخ والشيخة‏"‏ الحديث‏.‏
وأما الجلد فقد ذهب إلى إيجابه على المحصن مع الرجم جماعة من العلماء منهم العترة وأحمد وإسحاق وداود الظاهري وابن المنذر تمسكاً بما سلف وذهب مالك والحنفية والشافعية وجمهور العلماء إلى أنه لا يجلد المحصن بل يرجم فقط وهو مروي عن أحمد بن حنبل وتمسكوا بحديث سمرة في أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يجلد ماعزاً بل اقتصر على رجمه قالوا وهو متأخر عن أحاديث الجلد فيكون ناسخاً لحديث عبادة بن الصامت المذكور ويجاب بمنع التأخر المدعى فلا يصلح ترك جلد ماعز للنسخ لأنه فرع التأخر ولم يثبت ما يدل على ذلك ومع عدم ثبوت تأخره لا يكون ذلك الترك مقتضياً لإبطال الجلد الذي أثبته القرآن على كل من زنى ولا ريب أنه يصدق على المحصن أنه زان فكيف إذا انضم إلى ذلك من السنة ما هو صريح في الجمع بين الجلد والرجم للمحصن كحديث عبادة المذكور ولا سيما وهو صلى اللّه عليه وآله وسلم في مقام البيان والتعليم لأحكام الشرع على العموم بعد أن أمر الناس في ذلك المقام بأخذ ذلك الحكم عنه فقال خذوا عني خذوا عني فلا يصلح الاحتجاج بعد نص الكتاب والسنة بسكوته صلى اللّه عليه وآله وسلم في بعض المواطن أو عدم بيانه لذلك أو إهماله للأمر به وغاية ما في حديث سمرة أنه لم يتعرض لذكر جلده صلى اللّه عليه وآله وسلم لماعز ومجرد هذا لا ينتهض لمعارضة ما هو في رتبته فكيف بما بينه وبينه ما بين السماء والأرض وقد تقرر أن المثبت أولى من النافي ولا سيما كون المقام مما يجوز فيه أن الراوي ترك ذكر الجلد لكونه معلوماً من الكتاب والسنة وكيف يليق بعالم أن يدعي نسخ الحكم الثابت كتاباً وسنة بمجرد ترك الراوي لذلك الحكم في قضية عين لا عموم لها وهذا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي اللّه عنه يقول بعد موته صلى اللّه عليه وآله وسلم بعدة من السنين لما جمع لتلك المرأة بين الرجم والجلد جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه فكيف يخفى على مثله الناسخ وعلي من بحضرته من الصحابة الأكابر وبالجملة أنا لو فرضنا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بترك جلد ماعز وصح لنا ذلك لكان على فرض تقدمه منسوخاً وعلى فرض التباس المتقدم بالمتأخر مرجوحاً ويتعين تأويله بما يحتمله من وجوه التأويل وعلى فرض تأخره غاية ما فيه أنه يدل على أن الجلد لمن استحق الرجم غير واجب لا غير جائز ولكن أين الدليل على التأخر‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ عارض بعضهم الشافعي فقال الجلد ثابت على البكر بكتاب اللّه والرجم ثابت بسنة

 

ج / 7 ص -92-         رسول اللّه كما قال أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة وعمل به أمير المؤمنين علي ووافقه أُبيّ وليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه وكونه الأفضل انتهى‏.‏
وقد استدل الجمهور أيضاً بعدم ذكر الجلد في رجم الغامدية وغيرها قالوا وعدم ذكره يدل على عدم وقوعه وعدم وقوعه يدل على عدم وجوبه ويجاب بمنع كون عدم الذكر يدل على عدم الوقوع لم لا يقال أن عدم الذكر لقيام أدلة الكتاب والسنة القاضية بالجلد وأيضاً عدم الذكر لا يعارض صرائح الأدلة القاضية بالإثبات وعدم العلم ليس علماً بالعدم ومن علم حجة على من لم يعلم‏.

باب رجم المحصن من أهل الكتاب وأن الإسلام ليس بشرط في الإحصان
1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن اليهود أتوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال‏:‏
ما تجدون في كتابكم فقالوا‏:‏ تسخم وجوههما ويخزيان قال‏:‏ كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فجاؤوا بالتوراة وجاؤوا بقاريء لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه فقيل له‏:‏ ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح فقال‏:‏ أو قالوا يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرجما قال‏:‏ فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه‏"‏ وفي رواية أحمد‏:‏ ‏"‏بقار لهم أعور يقال له ابن صوريا‏"‏‏.‏
2 - وعن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ ‏
"‏رجم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وامرأة‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
 3- وعن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏"‏مر على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال‏:‏
أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم قالوا‏:‏ نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال‏:‏ أنشدك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال‏:‏ لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم

 

ج / 7 ص -93-         والجلد مكان الرجم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ اللّهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل اللّه عز وجل ‏{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا}‏ إلى قوله ‏{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}‏ يقولون ائتوا محمدًا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل اللّه تبارك وتعالى ‏{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}‏ ‏{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ قال هي في الكفار كلها‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تسخم‏"‏ بسين مهملة ثم خاء معجمة قال في القاموس‏:‏ السخم محركة السواد والأسخم الأسود ثم قال‏:‏ وقد تسخم عليه وسخم بصدره تسخيمًا أغضبه ووجهه سوده‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ويخزيان‏"‏ بالخاء والزاء المعجمتين أي يفضحان ويشهران‏.‏ قال في القاموس‏:‏ خزي كرضي خزيًا بالكسر وقع في بلية وشهرة فذل بذلك وأخزاه اللّه فضحه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإذا هي تلوح‏"‏ يعني آية الرجم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلقد رأيته يجنأ‏"‏ بفتح أوله وسكون الجيم وفتح النون بعدها همزة أي ينحني‏.‏ قال في القاموس‏:‏ جنأ عليه كجعل وفرح جنوأ وجنأ أكب كاجنأ وجانأ وتجانأ وكفرح أشرف كاهله على صدره فهو اجنأ والمجنأ بالضم الترس لا حديد فيه انتهى‏.‏ وفي هذه اللفظة روايات كثيرة هذه أصحها على ما ذكره صاحب المشارق‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏رجلا من أسلم‏"‏ هو ماعز بن مالك الأسلمي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وامرأة هي الجهنية‏"‏ ويقال لها الغامدية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏محمم‏"‏ بضم الميم الأولى وفتح الحاء المهملة وتشديد الميم الثانية مفتوحة اسم مفعول أي مسود الوجه والتحميم التسويد‏.‏
وأحاديث الباب تدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم‏.‏ وقد حكى صاحب البحر الإجماع على أنه يجلد الحربي‏.‏ وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسمية إلى أنه يرجم المحصن من الكفار‏.‏ وذهب أبو حنيفة ومحمد وزيد بن علي والناصر والإمام يحيى إلى أنه يجلد ولا يرجم قال الإمام يحيى‏:‏ والذمي كالحربي في الخلاف وقال مالك‏:‏ لا حد عليه‏.‏
وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا يحد وقد بالغ ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم هو الإسلام وتعقب بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك ومن جملة من قال بأن الإسلام شرط ربيعة شيخ مالك وبعض الشافعية‏.‏
وأحاديث الباب تدل على أنه يحد الذمي كما يحد المسلم‏.‏ والحربي والمستأمن يلحقان بالذمي بجامع الكفر وقد أجاب من اشترط الإسلام عن أحاديث الباب بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما أمضى حكم

 

ج / 7 ص -94-         التوراة على أهلها ولم يحكم عليهم بحكم الإسلام وقد كان ذلك عند مقدمه المدينة وكان إذ ذاك مأمورًا بإتباع حكم التوراة ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى ‏{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}‏ ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ونصب مثله في مقابلة أحاديث الباب من الغرائب وكونه صلى اللّه عليه وآله وسلم فعل ذلك عند مقدمه المدينة لا ينافي ثبوت الشرعية فإن هذا حكم شرعه اللّه لأهل الكتاب وقرره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا طريق لنا إلى ثبوت الأحكام التي توافق أحكام الإسلام إلا بمثل هذه الطريق ولم يتعقب ذلك في شرعنا ما يبطله ولا سيما وهو مأمور بأن يحكم بينهم بما أنزل اللّه ومنهي عن إتباع أهوائهم كما صرح بذلك القرآن وقد أتوه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسألونه عن الحكم ولم يأتوه ليعرفهم شرعهم فحكم بينهم بشرعه ونبههم على أن ذلك ثابت في شرعهم كثبوته في شرعه ولا يجوز أن يقال أنه حكم بينهم بشرعهم مع مخالفته لشرعه لأن الحكم منه عليهم بما هو منسوخ عنده لا يجوز على مثله وإنما أراد بقوله فإني أحكم بينكم بالتوراة‏.‏ كما وقع في رواية من حديث أبي هريرة إلزامهم الحجة‏.‏
وأما الاحتجاج بقوله تعالى ‏
{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}‏ فغاية ما فيه أن اللّه شرع هذا الحكم بالنسبة إلى نساء المسلمين وهو مخرج على الغالب كما في الخطابات الخاصة بالمؤمنين والمسلمين مع أن كثيرًا منها يستوي فيه الكافر والمسلم بالإجماع ولو سلمنا أن الآية تدل بمفهومها على أن نساء الكفار خارجات عن ذلك الحكم فهذا المفهوم قد عارضه منطوق حديث ابن عمر المذكور في الباب فإنه مصرح بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رجم اليهودية مع اليهودي ومن غرائب التعصبات ما روي عن مالك أنه قال إنما رجم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه وتعقب بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أقام الحد على من لا ذمة له فلأن يقيمه على من له ذمة بالأولى كذا قال الطحاوي‏.‏
وقال القرطبي معترضًا على قول مالك‏:‏ إن مجيء اليهود سائلين له صلى اللّه عليه وآله وسلم يوجب لهم عهدًا كما لو دخلوا للتجارة فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم‏.‏ وأجاب بعضهم بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أمر برجمهما من دون استفصال عن الإحصان كان دليلا على أنه حكم بينهم بشرعهم لأنه لا يرجم في شرعهم إلا المحصن وتعقب ذلك بأنه قد ثبت في طريق عند الطبراني أن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس وقد زنى رجل منهم بامرأة بعد إحصانهما‏.‏ وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏زنى رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا‏"‏ وفي إسناده رجل من مزينة لم يسم‏.‏
وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يهودي ويهودية قد أحصنا‏"‏ وأخرج البيهقي من حديث عبد اللّه بن الحارث الزبيدي أن اليهود أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا وقد أحصنا وإسناده ضعيف فهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد علم الإحصان بإخبارهم له لأنهم جاؤوا إليه سائلين يطلبون رخصة فيبعد أن يكتموا عنه مثل ذلك‏.‏
ومن جملة ما تمسك به من قال إن الإسلام شرط حديث ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا‏:‏ ‏
"‏من أشرك باللّه فليس بمحصن‏"‏ ورجح الدارقطني وغيره الوقف‏.‏ وأخرجه إسحاق ابن راهويه في مسنده على الوجهين ومنهم من أوَّل الإحصان في هذا الحديث بإحصان القذف‏.‏ ولأحاديث الباب فوائد ليس هذا موضع بسطها‏.‏

 

ج / 7 ص -95-         باب اعتبار تكرار الإقرار بالزنا أربعًا
1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو في المسجد فناداه فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏
أبك جنون قال‏:‏ لا قال‏:‏ أحصنت قال‏:‏ نعم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ اذهبوا به فارجموه قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني من سمع جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ وهو دليل على أن الإحصان يثبت بالإقرار مرة وأن الجواب بنعم إقرار‏.‏
2 - وعن جابر بن سمرة قال‏:‏ ‏"‏رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو رجل قصير أعضل ليس عليه رداء فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
فلعلك قال‏:‏ لا واللّه إنه قد زنى الأخر فرجمه‏"‏‏.‏ رواه مسلم وأبو داود‏.‏
ولأحمد‏:‏ ‏"‏أن ماعزًا جاء فأقر عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أربع مرات فأمر برجمه‏"‏‏.‏
3 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لماعز بن مالك‏:‏
أحق ما بلغني عنك قال‏:‏ وما بلغك عني قال‏:‏ بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان قال‏:‏ نعم فشهد أربع شهادات فأمر به فرجم‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
وفي رواية‏:‏ ‏"‏قال جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين فقال‏:‏
شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
4 - وعن أبي بكر الصديق قال‏:‏ ‏"‏كنت عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جالسا فجاء ماعز بن مالك فاعترف عنده مرة فرده ثم جاء فاعترف عنده الثانية فرده ثم جاء فاعترف عنده الثالثة فرده فقلت له إنك إن اعترفت رجمك قال فاعترف الرابعة فحبسه ثم سأل عنه فقالوا ما نعلم إلا خيرًا قال فأمر برجمه‏"‏‏.‏

 

ج / 7 ص -96-         5 - وعن بريدة قال‏:‏ ‏"‏كنا نتحدث أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يرجمه وإنما رجمه عند الرابعة‏"‏‏.‏ رواهما أحمد‏.‏
6 - وعن بريدة أيضًا قال‏:‏ ‏"‏كنا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما بعد الرابعة‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
قصة ماعز قد رواها جماعة من الصحابة منهم من ذكره المصنف ومنهم جماعة لم يذكرهم وقد اتفق عليها الشيخان من حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر من دون تسمية صاحب القصة وقد أطال أبو داود في سننه واستوفى طرقها‏.‏
وحديث أبي بكر أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وفي أسانيدهم كلهم جابر الجعفي وهو ضعيف‏.‏
وحديث بريدة الآخر أخرج نحوه النسائي وفي إسناده بشير بن مهاجر الكوفي الغنوي‏.‏ وقد أخرج له مسلم ووثقه يحيى بن معين‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ منكر الحديث يجيء بالعجائب مرجئ متهم وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ يكتب حديثه ولكنه يشهد لهذا الحديث حديثه الأول الذي ذكره المصنف‏.‏
وحديث أبي بكر الذي قبله وكذلك الرواية الأخرى من حديث ابن عباس التي عزاها المصنف إلى أبي داود لأن قوله فيها شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه يشعر بأن ذلك هو العلة في ثبوت الرجم وقد سكت أبو داود والمنذري عن هذه الرواية ورجالها رجال الصحيح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أبك جنون‏"‏ وقع في رواية من حديث بريدة فسأل أبه جنون فأخبر بأنه ليس بمجنون وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فأرسل إلى قومه فقالوا ما نعلم إلا أنه في العقل من صالحينا‏"‏ وفي حديث أبي سعيد‏:‏ ‏"‏ما نعلم به بأسًا‏"‏ ويجمع بين هذه الروايات بأنه سأله أولا ثم سأل عنه احتياطًا وفيه دليل على أنه يجب على الإمام الاستفصال والبحث عن حقيقة الحال ولا يعارض هذا عدم استفصاله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في قصة العسيف المتقدمة لأن عدم ذكر الاستفصال فيها لا يدل على العدم لاحتمال أن يقتصر الراوي على نقل بعض الواقع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فهل أحصنت‏"‏ بفتح الهمزة أي تزوجت وقد روي في هذه القصة زيادات في الاستفصال‏.‏ منها في حديث ابن عباس عند البخاري والنسائي وأبي داود بلفظ‏:‏
‏"‏لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت‏"‏ والمعنى أنك تجوزت بإطلاق لفظ الزنا على مقدماته‏.‏ وفي رواية لهم من حديث ابن عباس أيضًا‏:‏ ‏"‏أفنكتها قال نعم‏"‏ وسيأتي ذلك في باب استفسار المقر وفي رواية لمسلم وأبي داود من حديث بريدة‏:‏ ‏"‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له أشربت خمرًا قال لا‏"‏ وفيه‏:‏ ‏"‏فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحًا‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏اذهبوا به فارجموه‏"‏ فيه دليل على أنه لا يجب أن يكون الإمام أول من يرجم وسيأتي الكلام على ذلك في باب أن السنة بداءة الشاهد بالرجم وبداءة الإمام به‏.‏ وفيه أيضًا دليل

 

ج / 7 ص -97-         على أنه لا يحب الحفر للمرجوم لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يأمرهم بذلك وسيأتي بيان ذلك في باب ما جاء في الحفر للمرجوم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلما أذلقته الحجارة‏"‏ بالذال المعجمة والقاف أي بلغت منه الجهد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أعضل‏"‏ بالعين المهملة والضاد المعجمة أي ضخم عضلة الساق‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أنه قد زنى الأَخِر‏"‏ هو مقصور بوزن الكَبِد، أي الأبعد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأقر عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أربع مرات‏"‏ قد تطابقت الروايات التي ذكرها المصنف في هذا الباب على أن ماعزًا أقر أربع مرات‏.‏ ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم بلفظ‏:‏ ‏"‏فاعترف ثلاث مرات‏"‏ ووقع عند مسلم من طريق شعبة عن سماك قال فرده مرتين وفي أخرى مرتين أو ثلاثًا قال شعبة‏:‏ فذكرته لسعيد بن جبير فقال أنه رده أربع مرات وقد جمع بين الروايات بجعل رواية المرتين على أنه اعترف مرتين في يوم ومرتين في يوم آخر ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال جاء ماعز إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين كما في الرواية المذكورة في الباب فلعله اقتصر الراوي على ما وقع منه في أحد اليومين وأما رواية الثلاث فلعله اقتصر الراوي فيها على المرات التي رده فيها فإنه لم يرده في الرابعة بل استثبت وسأله عن عقله ثم أمر برجمه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لو رجعا بعد اعترافهما‏"‏ أي رجعا إلى رحالهما ويحتمل أنه أراد الرجوع عن الإقرار ولكن الظاهر الأول لقوله أو قال لو لم يرجعا فإن المراد به لم يرجعا إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيكون معنى الحديث لو رجعا إلى رحالهما ولم يرجعا إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد كمال الإقرار لم يرجمهما وقد استدل بأحاديث الباب القائلون بأنه يشرط في الإقرار بالزنا أن يكون أربع مرات فإن نقص عنها لم يثبت الحد وهم العترة وأبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وأحمد ابن حنبل وإسحاق والحسن بن صالح هكذا في البحر وفيه أيضًا عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي أنه يكفي وقوع الإقرار مرة واحدة وروي ذلك عن داود وأجابوا عن أحاديث الباب بما سلف من الاضطراب ويرد عليهم بما تقدم واستدلوا بحديث العسيف المتقدم فإن فيه أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لأنيس‏:‏
‏"‏واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏"‏‏.‏
وبما أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت‏:‏ ‏"‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة‏"‏ وسيأتي الحديث في باب تأخير الرجم عن الحبلى‏.‏ وكذلك حديث بريدة الذي سيأتي هنالك فإن فيه‏:‏ ‏"‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رجمها قبل أن تقر أربعًا‏"‏ ولما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه‏:‏ ‏"‏أنه كان قاعدًا يعمل في السوق فمرت امرأة تحمل صبيًا فثار الناس معها وثرت فيمن ثار فانتهيت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يقول من أبو هذا معك فسكتت فقال شاب خذوها أنا أبوه يا رسول اللّه فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا ما علمنا إلا خيرًا فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أحصنت قال نعم فأمر به فرجم‏"‏ وعن جابر بن عبد اللّه عند أبي داود‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أقر عنده رجل أنه زنى بامرأة فأمر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فجلد الحد ثم أخبر أنه

 

ج / 7 ص -98-         محصن فأمر به فرجم‏"‏ وقد تقدم‏.‏ ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنى بامرأة وأنكرت وسيأتي في باب من أقر أنه زنى بامرأة فجحدت‏.‏ ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل ففي رواية أنه رجمه وفي رواية أنه عفا عنه وهو في سنن النسائي والترمذي‏.‏ ومن ذلك حديث اليهوديين فإنه لم ينقل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كرر عليهما الإقرار قالوا ولو كان تربيع الإقرار شرطًا لما تركه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم‏.‏
وأجاب الأولون عن هذه الأدلة بأنها مطلقة قيدتها الأحاديث التي فيها أنه وقع الإقرار أربع مرات ورد بأن الإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ وجميع الأحاديث التي ذكر فيها تربيع الإقرار أفعال ولا ظاهر لها وغاية ما فيها جواز تأخير إقامة الحد بعد وقوع الإقرار مرة إلى أن ينتهي إلى أربع ثم لا يجوز التأخير بعد ذلك وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك في قصة ماعز لقصد التثبت كما يشعر بذلك قوله له‏:‏ ‏"‏أبك جنون‏"‏ ثم سؤاله بعد ذلك لقومه فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسًا في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفًا بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات‏.‏
وأما ما رواه بريدة من أن الصحابة كانوا يتحدثون أنه لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يرجمه فليس ذلك مما تقوم به الحجة لأن الصحابي لا يكون فهمه حجة إذا عارض الدليل الصحيح‏.‏ ومما يؤيد ما ذكرناه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما قالت له الغامدية أتريد أن تردني كما رددت ماعزًا لم ينكر ذلك عليها كما سيأتي في باب تأخير الرجم عن الحبلى ولو كان تربيع الإقرار شرطًا لقال لها إنما رددته لكونه لم يقر أربعًا وهذه الواقعة من أعظم الأدلة على أن تربيع الإقرار ليس بشرط للتصريح فيها بأنها متأخرة عن قضية ماعز وقد اكتفى فيها بدون أربع مرات كما سيأتي وأما قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث ابن عباس المذكور في الباب شهدت على نفسك أربع شهادات فليس في هذا ما يدل على الشرطية أصلًا وغاية ما فيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبره بأنه قد استحق الرجم لذلك وليس فيه ما ينفي الاستحقاق فيما دونه ولا سيما وقد وقع منه الرجم بدون حصول التربيع كما سلف وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فإنه لما اعتبر فيه أربعة شهود اعتبر في إقراره أن يكون أربع مرات ففي غاية الفساد لأنه يلزم من ذلك أن يعتبر في الإقرار بالأموال والحقوق أن يكون مرتين لأن الشهادة في ذلك لا بد أن تكون من رجلين ولا يكفي فيها الرجل الواحد واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزوم مثله وإذا تقرر لك عدم اشتراط الأربع عرفت عدم اشتراط ما ذهبت إليه الحنفية والقاسمية من أن الأربع لا تكفي أن تكون في مجلس واحد بل لا بد أن تكون في أربعة مجالس لأن تعدد الأمكنة فرع تعدد الإقرار الواقع فيها وإذا لم يشترط الأصل تبعه الفرع في ذلك وأيضًا لو فرضنا اشتراط كون الإقرار أربعًا لم يستلزم كون مواضعه متعددة أما عقلا فظاهر لأن

 

ج / 7 ص -99-         الإقرار أربع مرات وأكثر منها في موضع واحد من غير انتقال مما لا يخالف في إمكانه عاقل وأما شرعًا فليس في الشرع ما يدل على أن الإقرار الواقع بين يديه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقع من رجل في أربعة مواضع فضلًا عن وجود ما يدل على أن ذلك شرط وأكثر الألفاظ في حديث ماعز بلفظ أنه أقر أربع مرات أو شهد على نفسه أربع شهادات وأما الرد الواقع بعد كل مرة كما في حديث أبي بكر المذكور فليس في ذلك أنه رد المقر من ذلك الموضع إلى موضع آخر ولو سلم فليس الغرض في ذلك الرد هو تعدد المجالس بل الاستثبات كما يدل على ذلك ما وقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم من الألفاظ الدالة على أن ذلك الرد لأجله ومما يؤيد ذلك حديث ابن عباس المذكور في الباب فإن فيه أنه جاء اليوم الأول فأقر مرتين فطرده ثم جاء اليوم الثاني فأقر مرتين فأمر برجمه وهكذا يجاب عن الاستدلال بما روى نعيم ابن هزال أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أعرض عن ماعز في المرة الأولى والثانية والثالثة كما أخرجه أبو داود وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة والإعراض لا يستلزم أن تكون المواضع التي أقر فيها المقر أربعة بلا شك ولا ريب ولو سلم أنه يستلزم ذلك بقرينة ما روي أنه جاءه من جهة وجهه أولًا ثم من عن يمينه ثم من عن شماله ثم من ورائه وسيأتي قريبًا أنه كان يقر كل مرة في جهة غير الجهة الأولى فهذا ليس فيه أيضًا أن الإعراض لقصد تعدد الإقرار أو تعدد مجالسه بل لقصد الاستثبات كما سلف لما سلف‏.‏

باب استفسار المقر بالزنا واعتبار تصريحه بما لا تردد فيه
1 - عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له‏:‏
لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال‏:‏ لا يا رسول اللّه قال‏:‏ أفنكتها لا يكني قال‏:‏ نعم فعند ذلك أمر برجمه‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري وأبو داود‏.‏
2 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏جاء الأسلمي إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حرامًا أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال‏:‏
أنكتها قال‏:‏ نعم قال‏:‏ كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل تدري ما الزنا قال‏:‏ نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالا قال‏:‏ فما تريد بهذا القول قال‏:‏ أريد أن تطهرني فأمر به فرجم‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والدارقطني‏.‏
حديث أبي هريرة أخرجه أيضًا النسائي وفي إسناده ابن الهضهاض ذكره البخاري في تاريخه وحكى الخلاف فيه وذكر له هذا الحديث وقال حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا

 

ج / 7 ص -100-       الواحد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو غمزت‏"‏ بغين معجمة وزاي والمراد لعلك وقع منك هذه المقدمات فتجوزت بإطلاق لفظ الزنا عليها‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏
"‏هل ضاجعتها قال نعم قال فهل باشرتها قال نعم قال هل جامعتها قال نعم‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا يكني‏"‏ بفتح أوله وسكون الكاف من الكناية أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحًا ولم يكنِ عنه بلفظ آخر كالجماع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏المرود‏"‏ بكسر الميم الميل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والرشاء‏"‏ بكسر الراء قال في القاموس‏:‏ والرشاء ككساء الحبل وفي هذا من المبالغة في الاستثبات والاستفصال ما ليس بعده في تطلب بيان حقيقة الحال فلم يكتف بإقرار المقر بالزنا بل استفهمه بلفظ لا أصرح منه في المطلوب وهو لفظ النيك الذي كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يتحاشى عن التكلم به في جميع حالاته ولم يسمع منه إلا في هذا الموطن ثم لم يكتف بذلك بل صوره تصويرًا حسيًا ولا شك أن تصوير الشيء بأمر محسوس أبلغ في الاستفصال من تسميته بأصرح أسمائه وأدلها عليه‏.‏
وقد استدل بهذين الحديثين على مشروعية الاستفصال للمقر بالزنا وظاهر ذلك عدم الفرق بين من يجهل الحكم ومن يعلمه ومن كان منتهكًا للحرم ومن لم يكن كذلك لأن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال وذهبت المالكية إلى أنه لا يلقن من اشتهر بانتهاك الحرم‏.‏
وقال أبو ثور‏:‏ لا يلقن إلا من كان جاهلًا للحكم وإذا قصر الإمام في الاستفصال ثم انكشف بعد التنفيذ وجود مسقط للحد فقيل يضمن الدية من ماله إن تعمد التقصير وإلا فمن بيت المال‏.‏
وقيل على عاقلة الإمام قياسًا على جناية الخطأ قال في ضوء النهار‏:‏ والحق أنه إذا تعمد التقصير في البحث عن المسقط المجمع على إسقاطه اقتص منه وإلا فلا يضمن إلا الدية لما عرفت من كون الخلاف شبهة اهـ وهذا إنما يتم بعد تسليم أن استفصال المقر عن المسقطات المجمع عليها واجب على الإمام وشرط في إقامة الحد يستلزم عدمه العدم كما هو شأن سائر الشروط على ما عرف في الأصول والواجبات والشروط لا تثبت بمجرد فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم وليس في المقام إلا ذلك وغايته الندب وأما الاستدلال على الوجوب بأن الإمام حاكم والحاكم يجب عليه التثبت فيمكن مناقشته بمنع الصغرى والسند أن الحاكم هو من يفصل الخصومات بين العباد عند الترافع إليه ولا خصومة ههنا بل مجرد التنفيذ لما شرعه اللّه على من تعدى حدوده بشهادة لسانه عليه بذلك وكون المانع مجوزًا لا يستلزم القدح في صحة الحكم الواقع بعد كمال السبب وهو الإقرار لشروطه وإلا لزم ذلك في الإقرار بالأموال والحقوق فيجب على الحاكم مثلًا بعد أن يقر عنده رجل بأنه أخذ مال رجل أن يقول له لعلك أردت المجاز ولم يصدر منك الأخذ حقيقة لعلك كذا لعلك كذا واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وبيان الملازمة أن وجود المانع مجوز في الإقرار بالأموال والحقوق كما هو مجوز في الإقرار بالزنا فتقرر لك بهذا أن إيجاب الاستفصال على الإمام في مثل الإقرار بالزنا وجعله شرطًا لإقامة الحد بمجرد كونه حاكمًا غير منتهض فالأولى التعويل على أحاديث الباب القاضية بمطلق مشروعية الاستفصال في الإقرار بالزنا لا بالمشروعية المقيدة بالوجوب أو الشرطية‏.‏

 

 

ج / 7 ص -101-       باب أن من أقر بحد ولم يسمه لا يحد
1 - عن أنس قال‏:‏ ‏"‏كنت عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فجاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني أصبت حدًا فأقمه عليّ ولم يسأله قال‏:‏ وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما قضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قام إليه الرجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني أصبت حدًا فأقم فيَّ كتاب اللّه قال‏:‏
أليس قد صليت معنا قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فإن اللّه قد غفر لك ذنبك أو حدك‏"‏‏.‏ أخرجاه‏.‏ ولأحمد ومسلم من حديث أبي أمامة نحوه‏.‏
لفظ حديث أبي أمامة الذي أشار إليه المصنف قال‏:‏ ‏"‏بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المسجد ونحن معه إذ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ فسكت عنه ثم أعاد فسكت وأقيمت الصلاة فلما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تبعه الرجل واتبعته أنظر ماذا يرد عليه فقال له‏:‏
أرأيت حين خرجت من بيتك أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء قال‏:‏ بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ ثم شهدت الصلاة معنا قال‏:‏ نعم يا رسول اللّه قال‏:‏ فإن اللّه تعالى قد غفر لك حدك أو قال ذنبك‏"‏ وفي الباب عن ابن مسعود عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي قال‏:‏ ‏"‏إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فأقم عليَّ ما شئت فقال عمر‏:‏ لقد ستر اللّه عليك لو سترت على نفسك فلم يرد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئًا فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجلا فدعاه فتلا عليه ‏{أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ}‏ إلى آخر الآية فقال رجل من القوم‏:‏ أله خاصة أم للناس عامة فقال للناس كافة‏"‏ هذا لفظ أبي داود وهذا الرجل هو أبو اليسر كعب بن عمرو وقيل غيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إني أصبت حدًا‏"‏ قال في النهاية‏:‏ أي أصبت ذنبًا أوجب على حدًا أي عقوبة قال النووي في شرح مسلم‏:‏ هذا الحديث معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعذير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة ولو أنها كانت موجبة لحد أو غيره لم تسقط بالصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن المراد الحد المعروف قال‏:‏ وإنما لم يحده لأنه لم يفسر موجب الحد ولم يستفسره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إيثارًا للستر بل استحب تلقين الرجل صريحًا انتهى‏.‏ ومما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالحد المطلق في الأحاديث هو غير الزنا ونحوه من الأمور التي توجب الحد ما في حديث ابن مسعود الذي ذكرناه من قوله فأصبت منها ما دون أن أمسها فإن هذا يفسر ما أبهم في حديث أنس وأبي أمامة هذا إذا كانت القصة واحدة وأما إذا كانت متعددة فلا ينبغي تفسير ما أبهم في قصة بما فسر في قصة أخرى وتوجه العمل بالظاهر والحكم بأن الصلاة تكفر ما يصدق عليه أنه يوجب الحد ولا شك ولا ريب أن من أقر بحد من الحدود ولم يفسره لا يطالب بالتفسير ولا يقام عليه الحد إن لم يقع منه ذلك لأحاديث الباب ولما سيأتي من أنها تدرأ الحدود بالشبهات بعد ثبوتها وتعيينها فبالأولى قبل التفسير للقطع بأنها مختلفة المقادير فلا يتمكن الإمام من إقامتها مع الإبهام ويؤيد ذلك ما سلف من استفصاله صلى اللّه عليه وآله وسلم لماعز بعد أن صرح بأنه زنى‏.‏

 

ج / 7 ص -102-       باب ما يذكر في الرجوع عن الإقرار
1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏جاء ماعز الأسلمي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاءه من شقه الآخر فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاءه من شقه الآخر فقال يا رسول اللّه إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
هلا تركتموه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن‏.‏
2 - وعن جابر في قصة ماعز قال‏:‏ ‏"‏كنت فيمن رجم الرجل إنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا يا قوم ردوني إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأخبرناه قال
فهلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم منه فأما ترك حد فلا‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
الحديث الأول قال الترمذي بعد أن قال إنه حديث حسن وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة انتهى‏.‏ ورجال إسناده ثقات فإن الترمذي رواه من حديث عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة‏.‏
والحديث الثاني أخرجه أيضًا النسائي وأشار إليه الترمذي وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه خلاف قد تقدم الكلام عليه‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم والنسائي والترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر طرفًا منه‏.‏ ولفظ أبي داود‏:‏ قال ذكرت لعاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك فقال حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام قال حدثني ذلك من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا تركتموه من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم قال ولا أعرف الحديث قال فجئت جابر بن عبد اللّه فقلت إن رجالا من أسلم يحدثون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته
ألا تركتموه وما أعرف الحديث قال يا ابن أخي أنا أعلم الناس بهذا الحديث فذكره‏.‏
وفي الباب عن نعيم بن هزال عن أبيه عند أبي داود وفيه‏:‏ ‏"‏فلما رجم وجد مس الحجارة فخرج يشتد فلقيه عبد اللّه بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فقتله ثم أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال
هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب اللّه عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل

 

ج / 7 ص -103-       معه لحي جمل‏"‏ الخ ظاهره هذه الرواية ورواية نعيم بن هزال أنه وقع منه الفرار حتى ضربه الرجل الذي معه لحي الجمل‏.‏ وظاهر قوله في حديث جابر المذكور صرخ يا قوم الخ أنه لم يفر ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم والنسائي وأبي داود واللفظ له قال‏:‏ ‏"‏لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم برجم ماعز بن مالك خرجنا إلى البقيع فواللّه ما أوثقناه ولا حفرنا له ولكنه قام لنا قال أبو كامل فرميناه بالعظام والمدر والخزف فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لما فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت فظاهر هذه الرواية أنه إنما فر لأجل ما في ذلك المحل الذي فر إليه من الأحجار التي تقتل بلا تعذيب بخلاف المحل الذي كان فيه فإنه لم يكن فيه من الأحجار ما هو كذلك ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن يقال أنه فر أولًا من المكان الأول لأجل عدم الحجارة فيه إلى الحرة فلما وصل إليها ونصب نفسه ووجد مس الحجارة التي تفضي إلى الموت قال ذلك المقال وأمرهم أن يردوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما لم يفعلوا هرب فلقيه الرجل الذي معه لحي الجمل فضربه به فوقع ثم رجموه حتى مات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏هلا تركتموه‏"‏ استدل به على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار ويسقط عنه الحد وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعية والحنفية والعترة وهو مروي عن مالك في قول له‏.‏ وذهب ابن أبي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات‏.‏
قال الأولون‏:‏ ويترك إذا هرب لعله يرجع قال في البحر‏:‏ مسألة وإذا هرب المرجوم بالبينة اتبع الرجم حتى يموت لا بالإقرار لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في ماعز‏:‏
‏"‏هلا خليتموه‏"‏ ولصحة الرجوع عن الإقرار ولا ضمان إذ لم يضمنهم صلى اللّه عليه وآله وسلم لاحتمال كون هربه رجوعًا أو غيره انتهى‏.‏
وذهبت المالكية إلى أن المرجوم لا يترك إذا هرب وعن أشهب إن ذكر عذرًا فقيل يترك وإلا فلا ونقله العتبي عن مالك وحكى اللخمي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ليستثبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏"‏ الخ هذا من قول جابر يعني أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما قال كذلك لأجل الاستثبات والاستفصال فإن وجد شبهة يسقط بها الحد أسقطه لأجلها وإن لم يجد شبهة كذلك أقام عليه الحد وليس المراد أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمرهم أن يدعوه وأن هرب المحدود من الحد من جملة المسقطات ولهذا قال‏:‏ ‏
"‏فهلا تركتموه وجئتموني به‏"‏‏.‏

باب أن الحد لا يجب بالتهم وأنه يسقط الشبهات
1 - عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته فقال شداد بن الهاد هي المرأة التي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها قال لا تلك امرأة كانت قد أعلنت في الإسلام‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لو كنت راجمًا

 

ج / 7 ص -104-       أحدًا بغير بينة رجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
واحتج به من لم يحد المرأة بنكولها عن اللعان ‏.‏
حديث ابن عباس الثاني إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي قال حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد قال حدثني الليث بن سعد عن عبيد اللّه بن أبي جعفر عن أبي الأسود عن عروة عن ابن عباس فذكره والعباس صدوق وزيد بن يحيى ثقة وبقية رجال الإسناد رجال الصحيح وقد ورد بألفاظ منها ما ذكره المصنف ومنها ألفاظ أخر وفي بعضها أنها لما أتت بالولد على النعت المكروه قال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏لولا الأيمان لكان لي ولها شأن‏"‏ أخرجه أحمد وأبو داود من حديثه ولفظ البخاري‏:‏ ‏"‏لولا ما مضى من كتاب اللّه‏"‏ وقد تقدم في اللعان ما قاله صلى اللّه عليه وآله وسلم في شأن الولد الذي كان في بطن المرأة وقت اللعان فإنه قال‏:‏ ‏"‏إن أتت به على الصفة الفلانية فهو لشريك بن سحماء وإن أتت به على الصفة الفلانية فهو لزوجها هلال بن أمية‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فقال شداد بن الهاد‏"‏ في الفتح في كتاب اللعان أن السائل هو عبد اللّه بن شداد بن الهاد وهو ابن خالة ابن عباس قال سماه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في هذا الحديث كما في كتاب الحدود من صحيح البخاري‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كانت قد أعلنت في الإسلام‏"‏ في لفظ للبخاري‏:‏ ‏"‏كانت تظهر في الإسلام السوء‏"‏ أي كانت تعلن بالفاحشة ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة ولا اعتراف كما تقدم في اللعان‏.‏
قال الداودي‏:‏ فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء وتعقب بأن ابن عباس لم يسمها فإن أراد إظهار العيب على العموم فمحتمل وقد استدل المصنف رحمه اللّه بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها‏"‏ على أنه لا يجب الحد بالتهم ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به وهو قبيح عقلًا وشرعًا فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين لأن مجرد الحدس والتهمة والشك مظنة للخطأ والغلط وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف‏.‏
3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
"ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
4 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
"ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وذكر أنه قد روي موقوفًا وأن الوقف أصح‏.‏
قال وقد روي عن غير واحد من الصحابة رضي اللّه عنهم أنهم قالوا مثل ذلك ‏.‏

 

ج / 7 ص -105-       حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف لأنه من طريق إبراهيم بن الفضل وهو ضعيف‏.‏
وحديث عائشة أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي ولكن في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف كما قال الترمذي‏.‏ وقال البخاري فيه‏:‏ إنه منكر الحديث وقال النسائي‏:‏ متروك انتهى‏.‏ والصواب الموقوف كما في رواية وكيع قال البيهقي‏:‏ رواية وكيع أقرب إلى الصواب‏.‏ قال‏:‏ ورواه رشدين عن عقيل عن الزهري ورشدين ضعيف‏.‏
- وفي الباب - عن علي مرفوعًا‏:‏
"ادرؤوا الحدود بالشبهات" وفيه المختار بن نافع قال البخاري‏:‏ وهو منكر الحديث قال‏:‏ وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبي وائل عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ادرؤوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم‏"‏ وروي عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضًا موقوفًا وروي منقطعًا وموقوفًا على عمر‏.‏ ورواه ابن حزم في كتاب الاتصال عن عمر موقوفًا عليه‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وإسناده صحيح ورواه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي عن عمر بلفظ‏:‏ ‏
"‏لأن أخطئ في الحدود بالشبهات أحب إليّ من أن أقيمها بالشبهات‏"‏ وفي مسند أبي حنيفة للحارثي من طريق مقسم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏"‏ادرؤوا الحدود بالشبهات‏"‏ وما في الباب وإن كان فيه المقال المعروف فقد شذ من عضده ما ذكرناه فيصلح بعد ذلك للاحتجاج به على مشروعية درء الحدود بالشبهات المحتملة لا مطلق الشبهة وقد أخرج البيهقي وعبد الرزاق عن عمر أنه عذر رجلًا زنى في الشام وادعى الجهل بتحريم الزنا وكذا روي عنه وعن عثمان أنهما عذرا جارية زنت وهي أعجمية وادعت أنها لم تعلم التحريم‏.‏
5 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏قال عمر بن الخطاب‏:‏ كان فيما أنزل اللّه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل واللّه ما نجد الرجم في كتاب اللّه تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه تعالى والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا النسائي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏آية الرجم‏"‏ هي الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وقد قدمنا الكلام على ذلك في أول كتاب الحدود وهذه المقالة وقعت من عمر لما صدر من الحج وقدم المدينة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأخشى إن طال بالناس زمان‏"‏ الخ قد وقع ما خشيه رضي اللّه عنه حتى أفضى ذلك إلى أن الخوارج وبعض المعتزلة أنكروا ثبوت مشروعية الرجم كما سلف وقد أخرج عبد الرزاق والطبراني عن ابن عباس أن عمر قال‏:‏ سيجيء أقوام يكذبون بالرجم‏.‏ وفي رواية للنسائي وإن ناسًا يقولون ما بال الرجم فإن ما في كتاب اللّه تعالى الجلد وهذا من المواطن التي وافق حدس عمر فيها الصواب وقد وصفه صلى اللّه عليه وآله وسلم بارتفاع طبقته في ذلك الشأن كما قال إن يكن في هذه الأمة محدثون فمنهم عمر‏.‏

 

ج / 7 ص -106-       قوله‏:‏ ‏"‏إذا قامت البينة‏"‏ أي شهادة أربعة شهود ذكور بالإجماع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو كان الحبل‏"‏ بفتح المهملة والموحدة وفي رواية الحمل وقد استدل بذلك من قال المرأة تحد إذا وجدت حاملا ولا زوج لها ولا سيد ولم تذكر شبهة وهو مروي عن عمر ومالك وأصحابه قالوا إذا حملت ولم يعلم لها زوج ولا عرفنا إكراهها لزمها الحد إلا أن تكون غريبة وتدعي أنه من زوج أو سيد‏.‏ وذهب الجمهور أن مجرد الحبل لا يثبت به الحد بل لا بد من الاعتراف أو البينة واستدلوا بالأحاديث الواردة في درء الحدود بالشبهات
والحاصل أن هذا من قول عمر ومثل ذلك لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس وكونه قاله في مجمع من الصحابة ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعًا كما بينا ذلك في غير موضع من هذا الشرح لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم للمخالف ولا سيما والقائل بذلك عمر وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم اللّهم إلا أن يدعي أن قوله إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف من تمام ما يرويه عن كتاب اللّه تعالى ولكنه خلاف الظاهر لأن الذي كان في كتاب اللّه تعالى هو ما أسلفنا في أول كتاب الحدود وقد أجاب الطحاوي بتأويل ذلك على أن المراد أن الحبل إذا كان من زنا وجب فيه الرجم ولا بد من ثبوت كونه من زنا وتعقب بأنه يأبى ذلك جعل الحبل مقابلا للبينة والاعتراف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو الاعتراف‏"‏ قد تقدم الخلاف في مقداره وما هو الحق‏.

باب من أقر أنه زنى بامرأة فجحدت
1 - عن سهل بن سعد‏:‏ ‏"‏أن رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال أنه قد زنى بامرأة سماها فأرسل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عما قال فأنكرت فحد وتركها‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ الحديث في إسناده عبد السلام بن حفص أبو مصعب المدني قال ابن معين‏:‏ ثقة وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ ليس بمعروف وفي الباب عن ابن عباس عند أبي داود والنسائي‏:‏ ‏"‏أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات فجلد مائة وكان بكرًا ثم سأله البينة على المرأة فقالت‏:‏ كذب يا رسول اللّه فجلده حد الفرية ثمانين‏"‏ وفي إسناده القاسم بن فياض الصنعاني تكلم فيه غير واحد حتى قال ابن حبان‏:‏ إنه بطل الاحتجاج به وقال النسائي‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ وقد استدل بحديث سهل بن سعد مالك والشافعي فقالا‏:‏ يحد من أقر الزنا بامرأة معينة للزنا لا للقذف وقال الأوزاعي وأبو حنيفة‏:‏ يحد للقذف فقط قالا لأن إنكارها شبهة وأجيب بأنه لا يبطل به إقراره وذهبت الهادوية ومحمد وروي عن الشافعي إلى أنه يحد للزنا والقذف واستدلوا بحديث ابن عباس الذي ذكرناه وهذا هو الظاهر لوجهين الأول أن غاية ما في حديث سهل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط بخلاف حديث ابن عباس فإن فيه أنه أقام الحد عليه‏.‏ الوجه

 

ج / 7 ص -107-       الثاني أن ظاهر أدلة القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل وقد صدق على من كان كذلك أنه قاذف وقد تقدم طرف من الكلام في باب من أقر بالزنا بامرأة لا يكون قاذفًا من أبواب اللعان‏.‏

باب الحث على إقامة الحد إذا ثبت والنهي عن الشفاعة فيه
1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
"حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه والنسائي وقال ثلاثين وأحمد بالشك فيهما‏.‏
2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
"من حالت شفاعته دون حد من حدود اللّه فهو مضاد اللّه في أمره‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود ‏.‏
حديث أبي هريرة أخرج نحوه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏
"‏وحد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحًا‏"‏ قال في مجمع الزوائد‏:‏ وفي إسناده زريق بن السحب ولم أعرفه وفي إسناد حديث أبي هريرة المذكور في الباب عند ابن ماجه والنسائي جرير بن يزيد بن جرير بن عبد اللّه البجلي وهو ضعيف منكر الحديث‏.‏ وحديث ابن عمر أخرجه أيضًا الحاكم وصححه وأخرجه بن أبي شيبة عنه من وجه آخر صحيح موقوفًا عليه وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعًا وقال فيه فقد ضاد اللّه في ملكه‏.‏ وحديث أبي هريرة فيه الترغيب في إقامة الحدود وأن ذلك مما ينتفع به الناس لما فيه من تنفيذ أحكام اللّه تعالى وعدم الرأفة بالعصاة وردعهم عن هتك حرم المسلمين ولهذا ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من حديث عائشة في الصحيحين أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب فقال أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنه كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا الحد عليه فإذا كان ترك الحدود والمداهنة فيها وإسقاطها عن الأكابر من أسباب الهلاك كانت إقامتها على كل أحد من غير فرق بين شريف ووضيع من أسباب الحياة وتبين سر قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا‏"‏ الحديث‏.‏ وحديث ابن عمر المذكور فيه دليل على تحريم الشفاعة في الحدود والترهيب لفاعلها بما هو غاية في ذلك وهو وصفه بمضادة اللّه تعالى في أمره وقد ثبت النهي عن ذلك في الصحيحين كما في حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم له‏:‏ "أتشفع في حد من حدود اللّه" وفي لفظ‏:‏ "لا أراك تشفع في حد من حدود اللّه" وسيأتي في باب ما جاء في المختلس من كتاب القطع ولكنه ينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا كان بعد الرفع إلى الإمام لا إذا كان قبل ذلك لما في حديث صفوان بن أمية عند أحمد والأربعة وصححه الحاكم وابن الجارود‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع

 

ج / 7 ص -108-       فيه‏:‏ "هلا كان قبل أن تأتيني به‏"‏ وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه‏:‏ ‏"‏تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب‏"‏ وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال‏:‏ لقي الزبير سارقًا فشفع فيه فقيل له حتى يبلغ الإمام قال إذا بلغ الإمام فلعن اللّه الشافع والمشفع‏.‏
وأخرج ابن أبي شيبة قال الحافظ بسند حسن إن الزبير وعمارًا وابن عباس أخذوا سارقًا فخلوا سبيله فقال عكرمة‏:‏ فقلت بئس ما صنعتم حين خليتم سبيله فقالوا لا أم لك أما لو كنت أنت لسرك أن يخلى سبيلك‏.‏
وأخرج الدارقطني من حديث الزبير مرفوعًا
"اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا اللّه عنه"‏.‏ والموقوف أصح وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أنه يجب على السلطان الإقامة إذا بلغه الحد وهكذا حكى الإجماع في البحر‏.‏ وحكى الخطابي عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذية الناس وغيره فقال لا يشفع في الأول مطلقًا وفي الثاني تحسن الشفاعة قبل الرفع لا بعده والراجح عدم الفرق بين المحدودين وعلى التفصيل المذكور بين قبل الرفع وبعده تحمل الأحاديث الواردة في الترغيب في الستر على المسلم فيكون الستر هو الأفضل قبل الرفع إلى الإمام‏.‏

باب أن السنة بداءة الشاهد بالرجم وبداءة الإمام به إذا ثبت بالإقرار
1 - عن عامر الشعبي قال‏:‏ ‏"‏كان لشراحة زوج غائب بالشام وأنها حملت فجاء بها مولاها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال إن هذه زنت واعترفت فجلدها يوم الخميس مائة ورجمها يوم الجمعة وحفر لها إلى السرة وأنا شاهد ثم قال إن الرجم سنة سنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها فرماها بحجر ثم رمى الناس وأنا فيهم فكنت واللّه فيمن قتلها‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
الحديث أخرجه النسائي والحاكم وأصله في صحيح البخاري ولكن بدون ذكر الحفر وما بعده كما تقدم في أول كتاب الحدود من حديث الشعبي وسيأتي الكلام على الحفر قريبًا وأما كون الشاهد أول من يرمي الزاني المحصن حيث ثبت ذلك بالشهادة فقد ذهب أبو حنيفة والهادوية إلى أن ذلك واجب عليهم وأن الإمام يجبرهم على ذلك لما فيه من الزجر عن التساهل والترغيب في التثبيت وإذا كان ثبوت الزنا بالإقرار وجب أن يكون الإمام أول من يرجم أو مأموره لما عند أبي داود في رواية من حديث أبي بكرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجم امرأة وكان هو أول من رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال‏:‏ ارموها واتقوا الوجه ويجاب بأن مجرد هذا الفعل لا يدل على الوجوب‏.‏
وأما حديث العسيف المتقدم فلا يدل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم فيه
"واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" على وجوب البداءة بذلك منه بل غايته الأمر بنفس الرجم لا بالرجم

 

ج / 7 ص -109-       الخاص الذي هو محل النزاع وأما ما رواه المصنف في الباب عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه فإنما ينتهض للاحتجاج به على قول من يقول بالحجية لا على من يخالف في ذلك والمقام مقام اجتهاد ولهذا حكى صاحب البحر عن العترة والشافعي أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم وهو الحق لعدم دليل يدل على الوجوب ولما تقدم في حديث ماعز أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر برجم ماعز ولم يخرج معهم والزنا منه ثبت بإقراره كما سلف وكذلك لم يحضر في رجم الغامدية كما زعم البعض قال في التلخيص‏:‏ لم يقع في طرق الحديثين أنه حضر بل في بعض الطرق ما يدل على أنه لم يحضر وقد جزم بذلك الشافعي قال وأما الغامدية ففي سنن أبي داود وغيره ما يدل على ذلك وإذا تقرر هذا تبين عدم الوجوب على الشهود ولا على الإمام وأما الاستحباب فقد حكى ابن دقيق العيد أن الفقهاء استحبوا أن يبدأ الإمام بالرجم إذا ثبت الزنا بالإقرار وتبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة‏.‏

باب ما في الحفر للمرجوم
1 - عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏لما أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فواللّه ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكن قام لنا فرميناه بالعظام والخزف فاشتكى فخرج يشتد حتى انتصب لنا في عرض الحرة فرميناه بجلاميد الجندل حتى سكت‏"‏‏.‏
2 - وعن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏جاءت الغامدية فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان الغد قالت‏:‏ يا رسول اللّه لم ترددني لعلك ترددني كما رددت ماعزًا فواللّه إني لحبلى قال‏:‏
إما لا فاذهبي حتى تلدي فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت‏:‏ هذا قد ولدته قال‏:‏ اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت‏:‏ هذا يا نبي اللّه قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضخ الدم على وجه خالد فسبها فسمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سبه إياها فقال‏:‏ مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت‏"‏‏.‏ رواه أحمد مسلم وأبو داود‏.‏
3 - وعن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه‏:‏ ‏"‏أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني زنيت وإني أريد أن تطهرني فرده فلما كان الغد أتاه فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني قد زنيت فرده

 

ج / 7 ص -110-       الثانية فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى قومه هل تعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا قالوا‏:‏ ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم‏"‏‏.‏ رواه مسلم وأحمد وقال في آخره‏:‏ ‏"‏فأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره ثم أمر الناس برجمه‏"‏‏.‏
4 - وعن خالد بن اللجلاج أن أباه أخبره فذكر قصة رجل اعترف بالزنا فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أحصنت قال‏:‏ نعم‏.‏ فأمر برجمه فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏
حديث خالد بن اللجلاج في إسناده محمد بن عبد اللّه بن علاثة وهو مختلف فيه وقد أخرجه أيضًا النسائي ولأبيه صحبة وهو بفتح اللام وسكون الجيم وآخره جيم أيضًا وهو عامري كنيته أبو العلاء عاش مائة وعشرين سنة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والخزف‏"‏ بفتح الخاء المعجمة والزاي آخره فاء وهي أكسار الأواني المصنوعة من المدر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في عرض الحرة‏"‏ بضم العين المهملة وسكون الراء والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهو أرض ذات أحجار سود وقد سمي بذلك مواضع منها موضع وقعة حنين وموضع بتبوك وبنقدة وبين المدينة والعقيق وقبلى المدينة وببلاد عبس وببلاد فزارة وببلاد بني القين وبالدهناء وبعالية الحجاز وقرب فيد وبجبال طيء وبأرض بارق وبنجد وببني مرة وقرب خيبر وهي حرة النار وبظاهر المدينة تحت واقم وبها كانت وقعة الحرة أيام يزيد وبالبريك في طريق اليمن وحرة غلاس ولبن ولفلف وشوران والحمارة وجفل وميطان ومعشر وليلى وعباد والرجلاء وقمأة مواضع بالمدينة كذا في القاموس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بجلاميد‏"‏ الجلاميد جمع جلمد وهو الصخر كالجلمود والجندل كجعفر ما يقله الرجل من الحجارة وبكسر الدال وكعلبط الموضع يجتمع فيه الحجارة وأرض جندلة كعلبطة وقد تفتح كسرتها كذا في القاموس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إما لا فاذهبي‏"‏ قال النووي في شرح مسلم‏:‏ هو بكسر الهمزة من إما وتشديد الميم وبالإمالة ومعناه إذا أبيت أن تستري نفسك وتتوبي عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فنضخ‏"‏ بالخاء المعجمة وبالمهملة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏صاحب مكس‏"‏ بفتح الميم وسكون الكاف بعدها مهملة هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس بغير حق‏.‏ قال في القاموس‏:‏ مكس في البيع بمكس إذا جبى مالًا والمكس النقص والظلم ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية أو درهم كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فصلى عليها‏"‏ قال القاضي عياض‏:‏ هو بفتح الصاد واللام عند جمهور رواة مسلم ولكن في

 

ج / 7 ص -111-       رواية ابن أبي شيبة وأبي داود والطبراني فصلي بضم الصاد على البناء للمجهول ويؤيده ما وقع في رواية لأبي داود بلفظ‏:‏ ‏"‏ثم أمرهم فصلوا عليها‏"‏ ووقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم أنه قال عمر للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أيصلى عليها فقال‏:‏ لقد تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا وفي العقل‏"‏ بفتح الواو وكسر الفاء وتشديد الياء صفة مشبهة وهذه الأحاديث المذكورة في الباب قد قدمنا الكلام على فقهها وإنما ساقها المصنف ههنا للاستدلال بها على ما ترجم الباب به وهو الحفر للمرجوم وقد اختلفت الروايات في ذلك فحديث أبي سعيد المذكور فيه أنهم لم يحفروا لماعز وحديث عبد اللّه بن بريدة فيه أنهم حفروا له إلى صدره وقد جمع بين الروايتين بأن المنفي حفيرة لا يمكنه الوثوب منها والمثبت عكسه أو أنهم لم يحفروا له أول الأمر ثم لما فر فأدركوه حفروا له حفيرة فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه أو أنهم حفروا له في أول الأمر ثم لما وجد مس الحجارة خرج من الحفرة فتبعوه وعلى فرض عدم إمكان الجمع فالواجب تقديم رواية الإثبات على النفي ولو فرضنا أن ذلك غير مرجح توجه إسقاط الروايتين والرجوع إلى غيرهما كحديث خالد بن اللجلاج فإن فيه التصريح بالحفر بدون تسمية المرجوم وكذلك حديثه أيضًا في الحفر للغامدية وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يحفر للرجل وفي قول للشافعي أنه إذا حفر له فلا بأس وبه قال الإمام يحيى وفي وجه للشافعية أنه يخير الإمام وفي المرأة عندهم ثلاثة أوجه ثالثها يحفر إن ثبت زناها بالبينة لا بالإقرار والمروي عن أبي يوسف وأبي ثور أنه يحفر للرجل والمرأة والمشهور عن الأئمة الثلاثة أنه لا يحفر مطلقًا والظاهر مشروعية الحفر لما قدمنا‏.‏

باب تأخير الرجم عن الحبلى حتى تضع وتأخير الجلد عن ذي المرض المرجو زواله
1 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت‏:‏ يا رسول اللّه طهرني فقال‏:‏
ويحك ارجعي فاستغفري اللّه وتوبي إليه فقالت‏:‏ أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال‏:‏ وما ذاك قالت أنها حبلى من الزنا قال‏:‏ أنت قالت‏:‏ نعم فقال لها‏:‏ حتى تضعي ما في بطنك قال‏:‏ فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال‏:‏ فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال‏:‏ إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إليَّ رضاعه يا نبي اللّه قال فرجمها‏"‏‏.‏
رواه مسلم والدارقطني وقال هذا حديث صحيح‏.‏
2 - وعن عمران بن حصين‏:‏ ‏"‏أن امرأة من جهينة أتت رسول اللّه

 

ج / 7 ص -112-       صلى اللّه عليه وآله وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت‏:‏ يا رسول اللّه أصبت حدًا فأقمه عليّ فدعا نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني ففعل فأمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فشدت عليها ثيابها ثم مر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر‏:‏ نصلي عليها يا رسول اللّه وقد زنت قال‏:‏ لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها للّه‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وهو دليل على أن المحدود محترز تحفظ عورته من الكشف‏.‏
3 - وعن علي قال‏:‏ ‏"‏أن أمة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت أن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏
أحسنت اتركها حتى تماثل‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من غامد‏"‏ بغين معجمة ودال مهملة لقب رجل هو أبو قبيلة وهم بطن من جهينة ولهذا وقع في حديث عمران بن حصين المذكور امرأة من جهينة وهي هذه واسم غامد المذكور عمرو بن عبد اللّه ولقب غامدًا لإصلاحه أمرًا كان في قومه وهذه القصة قد رواها جماعة من الصحابة منهم بريدة وعمران بن حصين كما ذكره المصنف في هذا الباب وفي الباب الأول‏.‏ ومنهم أبو هريرة وأبو سعيد وجابر بن عبد اللّه وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم وفي سياق الأحاديث بعض اختلاف ففي حديث بريدة المتقدم في الباب الأول أنها جاءت بنفسها إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حال الحمل وعند الوضع وأخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك ورجمت‏.‏
وفي حديثه المذكور في هذا الباب أنه كفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ثم أتى فأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا فقام رجل من الأنصار فقال إليّ رضاعه فرجمت‏.‏
وفي حديث عمران بن حصين المذكور أنها لما أقرت دعا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وليها وأمره بالإحسان إليها حتى تضع ثم جاء بها عند الوضع فرجمت ولم يمهلها إلى الفطام ويمكن الجمع بأنها جاءت عند الولادة وجاء معها وليها وتكلمت وتكلم ولكن يبقى الإشكال في رواية أنه رجمها عند الولادة ولم يؤخرها ورواية أنه أخرها إلى الفطام وقد قيل إنهما روايتان صحيحتان والقصة واحدة ورواية التأخير رواية صحيحة صريحة لا يمكن تأويلها فيتعين تأويل الرواية القاضية بأنها رجمت عند الولادة بأن يقال فيها طي وحذف التقدير أن وليها جاء بها إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عند الولادة فأمر بتأخيرها إلى الفطام ثم أمر بها فرجمت ولا يخفى أن هذا وإن تم باعتبار حديث عمران المذكور في الباب فلا يتم باعتبار حديث بريدة المذكور فإن فيه أنه قام رجل من الأنصار فقال إليَّ رضاعه

 

ج / 7 ص -113-       يا نبي اللّه فرجمها ويبعد أن يقال أن هذا لا يدل على أنه قبل قوله وكفالته بل أخرها إلى الفطام ثم أمر برجمها بعد ذلك لأن السياق يأبى ذلك كل الإباء وما أكثر ما يقع مثل هذا الاختلاف بين الصحابة في القصة الواحدة التي مخرجها متحد بالاتفاق ثم ترتكب لأجل الجمع بين رواياتهم العظائم التي لا تخلو في الغالب من تعسفات وتكلفات كأن السهو والغلط والنسيان لا يجري عليهم وما هم إلا كسائر الناس في العوارض البشرية فإن أمكننا الجمع بوجه سليم عن التعسفات فذاك وإلا توجه علينا المصير إلى الترجيح وحمل الغلط أو النسيان على الرواية المرجوحة إما من الصحابي أو ممن هو دونه من الرواة وقد مر لنا في هذا الشرح عدة مواطن من هذا القبيل مشينا فيها على ما مشى عليه الناس من الجمع بوجوه ينفر عن قبولها كل طبع سليم ويأبى الرضا بها كل عقل مستقيم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أصبت حدًا فأقمه عليَّ‏"‏ هذا الإجمال قد وقع من المرأة تبيينه كما في سائر الروايات ولكنه وقع الاختصار في هذه الرواية كما يشعر بذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم عقب ذلك
‏"‏أحسن إليها فإذا وضعت فأتني‏"‏ وقد قدمنا أن مجرد الإقرار بالحد من دون تعيين لا يجوز للإمام أن يحد به‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أحسن إليها‏"‏ إنما أمره بذلك لأن سائر قرابتها ربما حملتهم الغيرة وحمية الجاهلية على أن يفعلوا بها ما يؤذيها فأمره بالإحسان تحذيرًا من ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فشدت‏"‏ في رواية ‏"‏فشكت‏"‏ ومعناهما واحد والغرض من ذلك أن لا تنكشف عند وقوع الرجم عليها لما جرت به العادة من الاضطراب عند نزول الموت وعدم المبالاة بما يبدو من الإنسان ولهذا ذهب الجمهور إلى أن المرأة ترجم قاعدة والرجل قائمًا لما في ظهور عورة المرأة من الشناعة وقد زعم النووي أنه اتفق العلماء على أن المرأة ترجم قاعدة وليس في الأحاديث ما يدل على ذلك ولا شك أنه أقرب إلى الستر ولم يحك ذلك في البحر إلا عن أبي حنيفة والهادوية وحكى عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف أنها تحد قائمة وذهب مالك إلى أن الرجل يحد قاعدًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ثم صلى عليها‏"‏ قد تقدم الخلاف في ذلك في كتاب الجنائز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لو قسمت بين سبعين‏"‏ الخ في رواية بريدة المتقدمة في الباب الأول لو تابها صاحب مكس ولا مانع من أن يكون ذلك قد وقع جميعه منه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفيه دليل على أن الحدود لا تسقط بالتوبة وإليه ذهب جماعة من العلماء منهم الحنفية والهادي وذهب جماعة منهم إلى سقوطها بها ومنهم الشافعي وقد استدل بقصة الغامدية على أنه يجب تأخير الحد على الحامل حتى تضع ثم حتى ترضع وتفطم وعند الهادوية أنها لا تؤخر إلى الفطام إلا إذا عدم مثلها للرضاع والحضانة فإن وجد من يقوم بذلك لم تؤخر وتمسكوا بحديث بريدة المذكور‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏اتركها حتى تماثل‏"‏ بالمثلثة قال في القاموس‏:‏ تماثل العليل قارب البرء وفي رواية لأبي داود‏:‏ ‏
"‏حتى ينقطع عنها الدم‏"‏ وسيأتي في باب حد الرقيق بلفظ‏:‏ ‏"‏إذا تعالت من نفاسها فاجلدها‏"‏ وفيه دليل على أن المريض يمهل حتى يبرأ أو يقارب البرء‏.‏ وقد حكى في البحر الإجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو فإن كان مأيوسًا فقال الهادي وأصحاب الشافعي أنه يضرب بعثكول إن احتمله‏.‏ وقال الناصر والمؤيد باللّه لا يحد في مرضه وإن كان مأيوسًا والظاهر الأول لحديث أبي أمامة بن سهل بن

 

ج / 7 ص -114-       حنيف الآتي قريبًا وأما المرجوم إذا كان مريضًا أو نحوه فذهبت العترة والشافعية والحنفية ومالك إلى أنه لا يمهل لمرض ولا لغيره إذ القصد إتلافه‏.‏
وقال المروزي‏:‏ يؤخر لشدة الحر أو البرد أو المرض سواء ثبت بإقراره أو بالبينة وقال الإسفرايني‏:‏ يؤخر للمرض فقط وفي الحر والبرد أوجه يرجم في الحال أو حيث يثبت بالبينة لا الإقرار أو العكس‏.‏

باب صفة صوت الجلد وكيف يجلد من به مرض لا يرجى برؤه
1 - عن زيد بن أسلم‏:‏ ‏"‏أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال‏:‏
فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال‏:‏ بين هذين فأتي بسوط قد لان وركب به فأمر به فجلد‏"‏‏.‏ رواه مالك في الموطأ عنه‏.‏
2 - وعن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال‏:‏ ‏"‏كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكان ذلك الرجل مسلمًا فقال‏:‏
اضربوه حده قالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال‏:‏ خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة قال ففعلوا‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه ولأبي داود معناه من رواية أبي أمامة بن سهل عن بعض الصحابة من الأنصار وفيه ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم‏.‏ حديث زيد بن أسلم هو مرسل وله شاهد عند عبد الرزاق عن معمر بن يحيى ابن أبي كثير نحوه وآخر عند ابن وهب عن طريق كريب مولى ابن عباس فهذه المراسيل الثلاثة يشد بعضها بعضًا‏.‏
وحديث أبي أمامة أخرجه أيضًا الشافعي والبيهقي وقال هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلًا‏.‏ ورواه الدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد وقال‏:‏ وهم فليح والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري وقال إن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله أخرى‏.‏ ورواه أبو داود من حديث الزهري عن أبي أمامة عن رجل من الأنصار ولفظه‏:‏ ‏"‏أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم

 

ج / 7 ص -115-       بذلك وقال استفتوا لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإني وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقالوا ما رأينا بالحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه به ضربة واحدة‏"‏ وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه باللفظ الذي ذكره أبو داود وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي قال المنذري‏:‏ لا يحتج به وهو كوفي وقال في التقريب‏:‏ صدوق يهم من السادسة‏.‏
وقال الحافظ في بلوغ المرام‏:‏ إن إسناد هذا الحديث حسن ولكنه اختلف في وصله وإرساله‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لم تقطع ثمرته‏"‏ أي عذبته وهي طرفه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وركب به‏"‏ بضم الراء وكسر الكاف على صيغة المجهول أي ركب به الراكب على الدابة وضربها به حتى لان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏رويجل‏"‏ تصغير رجل للتحقير‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مخدج‏"‏ بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة بعدها جيم وهو السقيم الناقص الخلق‏.‏ وفي رواية مقعد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يخبث بها‏"‏ بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وضم الموحدة وآخره مثلثة أي يزني بها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عثكالا‏"‏ بكسر المهملة وسكون المثلثة قال في القاموس‏:‏ كقرطاس العذق والشمراخ ويقال عثكول وعثكولة بضم العين انتهى‏.‏ وجاء في رواية أثكال وفي أخرى أثكول وهما لغتان في العثكال وهو الذي يكون فيه البسر‏.‏ والشمراخ بكسر الشين المعجمة وسكون الميم وآخره خاء معجمة وهو غصن دقيق‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ الشمراخ بالكسر العثكال عليه بسر أو عنب كالشمروخ انتهى‏.‏ والمراد ههنا بالعثكال العنقود من النخل الذي يكون فيه أغصان كثيرة وكل واحد من هذه الأغصان يسمى شمراخًا‏.‏ وحديث زيد بن أسلم فيه دليل على أنه ينبغي أن يكون السوط الذي يجلد به الزاني متوسطًا بين الجديد والعتيق وهكذا إذا كان الجلد بعود ينبغي أن يكون متوسطًا بين الكبير والصغير فلا يكون من الخشب التي تكسر العظم وتجرح اللحم ولا من الأعواد الرقيقة التي لا تؤثر في الألم وينبغي أن يكون متوسطًا بين الجديد والعتيق‏.‏ وقال في البحر‏:‏ وقدر عرضه بإصبع وطوله بذراع‏.‏ وحديث أبي أمامة فيه دليل على أن المريض إذا لم يحتمل الجلد ضرب بعثكول أو ما يشابهه مما يحتمله ويشترط أن تباشره جميع الشماريخ‏.‏ وقيل يكفي الاعتماد وهذا العمل من الحيل الجائزة شرعًا وقد جوز اللّه مثله في قوله ‏
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً}‏ الآية‏.‏

باب من وقع على ذات محرم أو عمل عمل قوم لوط أو أتى بهيمة‏.‏
1 - عن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏"‏لقيت خالي ومعه الراية فقلت‏:‏ أين تريد قال‏:‏ بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله‏"‏‏.‏ رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه والترمذي أخذ المال‏.‏

 

ج / 7 ص -116-       الحديث حسنه الترمذي وأخرجه أبو داود عن البراء أيضًا بلفظ‏:‏ ‏"‏بينما أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه‏"‏ قال المنذري‏:‏ وقد اختلف في هذا اختلافًا كثيرًا فروي عن البراء وروي عنه عن عمه وروي عنه قال مر بي خالي أبو بردة بن نيار ومعه لواء وهذا لفظ الترمذي‏.‏ وروي عنه عن خاله وسماه هشيم في حديثه الحارث بن عمرو وهذا لفظ ابن ماجه‏.‏ وروي عنه قال مر بنا أناس ينطلقون‏.‏
وروي عنه إني لأطوف على إبل ضلت في تلك الأحياء في عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءهم رهط معه لواء وهذا لفظ النسائي‏.‏ وللحديث أسانيد كثيرة منها ما رجاله رجال الصحيح – والحديث - فيه دليل على أنه يجوز للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعيًا من قطعيات الشريعة كهذه المسألة فإن اللّه تعالى يقول ‏
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}‏ ولكنه لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل الذي أمر صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلا وذلك من موجبات الكفر والمرتد يقتل للأدلة الآتية‏.‏ وفيه أيضًا متمسك لقول مالك أنه يجوز التعزير بالقتل‏.‏ وفيه دليل على أنه يجوز أخذ مال من ارتكب معصية مستحلا لها بعد إراقة دمه وقد قدمنا في كتاب الزكاة الكلام على التأديب بالمال‏.‏
2 - وعن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏
3 - وعن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏في البكر يوجد على اللوطية يرجم‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
الحديث الذي من طريق عكرمة أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي وقال الحافظ‏:‏ رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافًا‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ وإنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذا الوجه وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو فقال‏:‏
‏"‏ملعون من عمل عمل قوم لوط‏"‏ ولم يذكر القتل انتهى‏.‏
وقال يحيى بن معين‏:‏ عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
اقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏ ويجاب عن ذلك بأنه قد احتج الشيخان به وروى عنه مالك في الموطأ وقد استنكر النسائي هذا الحديث‏.‏ والأثر المروي عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير ومجاهد أخرجه أيضًا النسائي والبيهقي‏.‏
- وفي الباب - عن أبي هريرة عند ابن ماجه والحاكم‏:‏ ‏‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا‏"‏ وإسناده ضعيف قال ابن الطلاع في أحكامه‏:‏ لم يثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه‏.‏ وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏اقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏ رواه

 

ج / 7 ص -117-       عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وحديث أبي هريرة لا يصح وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري عن سهيل عن أبيه عنه وعاصم متروك وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ‏:‏
‏"‏فارجموا الأعلى والأسفل‏"‏ وأخرج البيهقي من حديث أبي موسى أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان‏"‏ وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه أبو حاتم وقال البيهقي‏:‏ لا أعرفه والحديث منكر بهذا الإسناد انتهى‏.‏ ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول‏.‏
وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه وأخرج البيهقي عن علي عليه السلام أنه رجم لوطيًا قال الشافعي‏:‏ وبهذا نأخذ يرجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن وأخرج البيهقي أيضًا عن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء فسأل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك فكان أشدهم يومئذ قولًا علي بن أبي طالب عليه السلام قال‏:‏ هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع اللّه بها ما قد علمتم نرى أن نحرقه بالنار فاجتمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار‏.‏
وفي إسناده إرسال وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي في هذه القصة قال يرجم ويحرق بالنار وأخرج البيهقي أيضًا عن ابن عباس أنه سئل عن حد اللوطي فقال ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسًا ثم يتبع الحجارة وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله فذهب من تقدم ذكره من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرًا سواء كان فاعلا أو مفعولا وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم واستدلوا بما ذكره المصنف وذكرناه في الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به وقد اختلفوا في كيفية قتل اللوطي فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب أبو بكر كما تقدم عنه وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد‏.‏
وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم وحكى ذلك الترمذي عن مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وروي عن النخعي أنه قال لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي‏.‏
وقال المنذري‏:‏ حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد اللّه بن الزبير وهشام بن عبد الملك وذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والحسن وقتادة والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو طالب والإمام يحيى والشافعي في قول له إلى أن حد اللوطي حد الزاني فيجلد البكر ويغرب ويرجم المحصن وحكاه في البحر عن القاسم بن إبراهيم وروي عنه المؤيد باللّه القتل مطلقًا كما سلف واحتجوا بأن التلوط نوع من أنواع الزنا لأنه إيلاج فرج في فرج فيكون اللائط والملوط به داخلين تحت عموم الأدلة الواردة في الزاني المحصن والبكر وقد تقدمت ويؤيد ذلك حديث‏:‏
‏"‏إذا

 

ج / 7 ص -118-       أتى الرجل الرجل فهما زانيان‏"‏ وقد تقدم وعلى فرض عدم الشمول الأدلة المذكورة لهما فهما لاحقان بالزاني بالقياس ويجاب عن ذلك بأن الأدلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقًا مخصصة لعموم أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها اللوطي ومبطلة للقياس المذكور على فرض عدم الشمول لأنه يصير فاسد الاعتبار كما تقرر في الأصول وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيبًا بكسر شهرة الفسقة المتمردين فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم وقد خسف اللّه تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في خصوص اللوطي والأدلة الواردة في الزاني على العموم‏.‏
وأما الاستدلال لهذا بحديث لأن أخطئ في العفو خير من أن أخطئ في رد العقوبة فمردود بأن ذلك إنما هو مع الالتباس والنزاع ليس هو في ذلك‏.‏
4 - وعن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو وروى الترمذي وأبو داود من حديث عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏"‏من أتى بهيمة فلا حد عليه‏"‏ وذكر أنه أصح‏.‏
الحديث الذي رواه عكرمة أخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه قال الترمذي‏:‏ هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏
وقد رواه سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال‏:‏
‏"‏من أتى بهيمة فلا حد عليه‏"‏ حدثنا بذلك محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان وهذا أصح من الحديث الأول والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق انتهى‏.‏
وقد روى هذا الحديث ابن ماجه في سننه من حديث إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن ابن عباس قال‏:‏ ‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من وقع على ذات محرم فاقتلوه ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة‏"‏ وإبراهيم المذكور قد وثقه أحمد وقال البخاري منكر الحديث وضعفه غير واحد من الحفاظ وأخرجه أبو يعلى الموصلي من حديث عبد الغفار بن عبد اللّه بن الزبير عن علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا وذكر ابن عدي عن أبي يعلى أنه قال بلغنا أن عبد الغفار رجع عنه وذكر ابن عدي أنهم كانوا لقنوه‏.‏
وأخرج هذا الحديث البيهقي بلفظ‏:‏ ‏
"‏ملعون من وقع على بهيمة وقال اقتلوه واقتلوها لا يقال هذه التي فعل بها كذا وكذا‏"‏ ومال

 

ج / 7 ص -119-       البيهقي إلى تصحيحه ورواه أيضًا من طريق عباد بن منصور عن عكرمة‏.‏ ورواه عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة وإبراهيم ضعيف وإن كان الشافعي يقوي أمره إذا عرفت هذا تبين لك أنه لم يتفرد برواية الحديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة كما قال الترمذي بل رواه عن عكرمة جماعة كما بينا وقد قال البيهقي رويناه عن عكرمة من أوجه مع أن تفرد عمرو بن أبي عمرو لا يقدح في الحديث فقد قدمنا أنه احتج به الشيخان ووثقه يحيى بن معين وقال البخاري عمرو صدوق ولكنه روى عن عكرمة مناكير‏.‏ والأثر الذي رواه أبو رزين عن ابن عباس أخرجه أيضًا النسائي ولا حكم لرأي ابن عباس إذا انفرد فكيف إذا عارض المروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من طريقه وقد اختلف أهل العلم فيمن وقع على بهيمة فأخرج البيهقي عن جابر بن زيد أنه قال‏:‏ "من أتى البهيمة أقيم عليه الحد"‏.‏
وأخرج أيضًا عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما أنه قال‏:‏ إن كان محصنًا رجم‏.‏ وروي أيضًا عن الحسن البصري أنه قال‏:‏ هو بمنزلة الزاني قال الحاكم‏:‏ أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد وهو مجمع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر وقد ذهب إلى أنه يوجب الحد كالزنا الشافعي في قول له والهادوية وأبو يوسف وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله والناصر والإمام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط إذ ليس بزنا ورد بأنه فرج محرم شرعًا مشتهى طبعًا فأوجب الحد كالقبل‏.‏ وذهب الشافعي في قول له إلى أنه يقتل أخذًا بحديث الباب‏.‏
وفي الحديث دليل على أنها تقتل البهيمة والعلة في ذلك ما روى أبو داود والنسائي أنه قيل لابن عباس ما شأن البهيمة قال ما أراه قال ذلك إلا أنه يكره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل وقد تقدم أن العلة أن يقال هذه التي فعل بها كذا وكذا‏.‏
وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها وإلى أنها تذبح علي عليه السلام والشافعي في قول له وذهبت القاسمية والشافعي في قول له وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها تنزيهًا فقط قال في البحر‏:‏ إنها تذبح البهيمة ولو كانت غير مأكولة لئلا تأتي بولد مشوه كما روي أن راعيًا أتى بهيمة فأتت بولد مشوه انتهى‏.‏
وأما حديث أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله فهو عموم مخصص لحديث الباب‏.‏

باب فيمن وطئ جارية امرأته
1 - عن النعمان بن بشير‏:‏ ‏"‏أنه رفع إليه رجل غشى جارية امرأته فقال لأقضين فيها بقضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وإن كانت لم تحلها لك رجمتك‏"‏‏.‏ رواه الخمسة‏.‏
وفي رواية عن النعمان عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
‏"‏أنه قال في الرجل يأتي جارية امرأته قال إن كانت أحلتها له جلدته مائة وإن لم تكن أحلتها له رجمته‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والنسائي‏.‏

 

ج / 7 ص -120-       الحديث قال الترمذي في إسناده اضطراب سمعت محمدًا يعني البخاري يقول‏:‏ لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث إنما رواه عن خالد بن عرفطة وأبو بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا الحديث أيضًا إنما رواه عن خالد بن عرفطة انتهى‏.‏ والذي في السنن أن أبا بشر رواه عن خالد عن عرفطة عن حبيب ولكن الترمذي رواه في سننه عن أبي بشر عن حبيب وخالد بن عرفطة قال أبو حاتم الرازي‏:‏ هو مجهول وقال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل عنه فقال أنا أتقي هذا الحديث وقال النسائي‏:‏ أحاديث النعمان هذه مضطربة‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ هذا الحديث غير متصل وليس العمل عليه انتهى‏.‏ وعرفطة بضم العين وسكون الراء المهملتين وضم الفاء وبعدها طاء مهملة مفتوحة وتاء تأنيث - وفي الباب - عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عند أبي داود والنسائي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها‏.‏
قال النسائي‏:‏ لا تصح هذه الأحاديث وقال البيهقي‏:‏ قبيصة بن حريث غير معروف وروينا عن أبي داود أنه قال‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يقول رواه عن سلمة بن المحبق شيخ لا يعرف لا يحدث عنه غير الحسن يعني قبيصة بن حريث وقال البخاري في التاريخ‏:‏ قبيصة بن حريث سمع سلمة بن المحبق في حديثه نظر‏.‏
وقال ابن المنذر‏:‏ لا يثبت خبر سلمة بن المحبق وقال الخطابي‏:‏ هذا حديث منكر وقبيصة بن حريث غير معروف والحجة لا تقوم بمثله وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع وقال بعضهم‏:‏ هذا كان قبل الحدود وقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق الحسن البصري عن سلمة بن المحبق نحو ذلك إلا أنه قال وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها‏.‏
وقد اختلف في هذا الحديث عن الحسن فقيل عنه عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق وقيل عنه عن سلمة من غير ذكر قبيصة وقيل عن جون بن قتادة عن سلمة وجون بن قتادة قال الإمام أحمد لا يعرف والمحبق بضم الميم وفتح الحاء المهملة وبعدها باء موحدة مشددة مفتوحة ومن أهل اللغة من يكسرها‏.‏ والمحبق لقب واسمه صخر بن عبيد وسلمة ابنه له صحبة سكن البصرة كنيته أبو سنان كنى بابنه سنان وذكر أبو عبد اللّه ابن منده‏:‏ أن لابنه سنان صحبة أيضًا‏.‏ وجون بفتح الجيم وسكون الواو وبعدها نون وقد اختلف أهل العلم في الرجل يقع على جارية امرأته فقال الترمذي روي عن غير واحد من الصحابة منهم أمير المؤمنين علي وابن عمر أن عليه الرجم‏.‏
وقال ابن مسعود‏:‏ ليس عليه حد ولكن يعزر‏.‏ وذهب أحمد وإسحاق إلى ما رواه النعمان بن بشير انتهى‏.‏ وهذا هو الراجح لأن الحديث وإن كان فيه المقال المتقدم فأقل أحواله أن يكون شبهة يدرأ بها الحد‏.‏
قال في البحر‏:‏ مسألة ولو أباحت الزوجة للزوج وطء أمتها أو وطئ امرأة يستحق دمها حد‏.‏ وقال أبو حنيفة لا إذ هما شبهة قلنا لا نسلم انتهى‏.‏ وهذا منع مجرد فإن مثل حديث النعمان إذا لم يكن شبهة فما الذي يكون شبهة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإن كانت لم تحلها لك رجمتك‏"‏ زاد أبو داود فوجدوه أحلتها له فجلده مائة‏.‏

 

ج / 7 ص -121-       باب حد زنا الرقيق خمسون جلدة
1 - عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏"‏أرسلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد قال‏:‏ فوجدتها في دمها فأتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك فقال لي‏:‏
إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين‏"‏‏.‏ رواه عبد اللّه بن أحمد في المسند‏.‏
2 - وعن عبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال‏:‏ ‏"‏أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا‏"‏‏.‏ رواه مالك في الموطأ‏.‏
حديث أمير المؤمنين علي قد تقدم الكلام عليه في باب تأخير الرجم عن الحبلى وسيأتي أيضاً في الباب الذي بعد هذا‏.‏
وأثر عمر مؤيد لحديث الباب لوقوع ذلك منه بمحضر جماعة من الصحابة وروى ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو ابن دينار أن فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت تجلد وليدتها إذا زنت خمسين‏.‏ ويشهد لذلك عموم قوله تعالى
‏{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}‏ ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر وروي عنابن عباس أنه قال‏:‏ لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكاً بقوله تعالى ‏{إِذَا أُحْصِنَّ}‏ فإنه تعالى علق حد الإماء بالإحصان وأجاب عنه في البحر بأن لفظ الإحصان محتمل لأنه بمعنى أسلمن وبلغن وتزوجن قال ولو سلم فخلاف ابن عباس منقوض والأولى الجواب بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الآتي في الباب الذي بعد هذا فإن فيه أنه سئل صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال إن زنت فاجلدوها وهذا نص في محل النزاع‏.‏ وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن أمير المؤمنين علياً رضي اللّه عنه خطب فقال‏:‏ يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن وقد وافق ابن عباس طاوس وعطاء وابن جريج وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إذا تعالت من نفاسها‏"‏ بالعين المهملة أي خرجت وفيه دليل على أنه يمهل من كان مريضاً حتى يصح من مرضه وقد تقدم الكلام على ذلك في باب تأخير الرجم عن الحبلى‏.‏

باب السيد يقيم الحد على رقيقه
1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
"إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
ورواه أحمد في رواية وأبو داود وذكرا فيه

 

ج / 7 ص -122-       في الرابعة الحد والبيع‏.‏ قال الخطابي‏:‏ معنى لا يثرب لا تقتصر على التثريب‏.‏
2 - وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا‏:‏ ‏"‏سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال‏:‏ "
إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" قال ابن شهاب‏:‏ لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
3 - وعن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه‏:‏ ‏"‏أن خادماً للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أحدثت فأمرني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أقيم عليها الحد فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته فقال‏:‏
"إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود ‏.‏
حديث علي أخرجه مسلم في صحيحه والبيهقي والحاكم ووهم فاستدركه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فتبين زناها‏"‏ الظاهر أن المراد تبينه بما يتبين في حق الحرة وذلك إما بشهادة أربعة أو بالإقرار على الخلاف المتقدم فيه وقيل إن المراد بالتبيين أن يعلم السيد بذلك وإن لم يقع إقرار ولا قامت شهادة وإليه ذهب بعضهم وحكى في البحر الإجماع على أنه يعتبر شهادة أربعة في العبد كالحر والأمة حكمها حكمه وقد ذهب الأكثر إلى أن الشهادة تكون إلى الإمام أو الحاكم وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنها تكون عند السيد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا يثرب عليها‏"‏ بمثناة تحتية مضمومة ومثلثة مفتوحة ثم راء مشددة مكسورة وبعدها موحدة وهو التعنيف وقد ثبت في رواية عند النسائي بلفظ‏:‏ ‏
"‏ولا يعنفها‏"‏ والمراد أن اللازم لها شرعاً هو الحد فقط فلا يضم إليه سيدها ما ليس بواجب شرعاً وهو التثريب وقيل إن المراد نهي السيد عن أن يقتصر على التثريب دون الحد وهو مخالف لما يفهمه السياق وفي ذلك كما قال ابن بطال دليل على أنه لا يعزر من أقيم عليه الحد بالتعنيف واللوم ولهذا لم يثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم سب أحداً ممن أقام عليه الحد بل نهى صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك كما سيأتي من حديث أبي هريرة في كتاب حد شارب الخمر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ثم إن زنت‏"‏ فيه دليل أنه لا يقام على الأمة الحد إلا إذا زنت بعد إقامة الحد عليها لا إذا تكرر منها الزنا قيل إقامة الحد كما يدل على ذلك لفظ ثم بعد ذكر الجلد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فليبعها‏"‏ ظاهر هذا أنها لا تحد إذا زنت بعد أن جلدها في المرة الثانية ولكن الرواية التي ذكرها المصنف عن أبي هريرة وزيد بن خالد مصرحة بالجلد في الثالثة وكذلك الرواية التي ذكرها عن أحمد وأبي داود أنهما ذكرا في الرابعة الحد والبيع نص في محل النزاع وبها يرد على النووي حيث قال إنه لما لم يحصل المقصود من الزجر عدل إلى الإخراج عن الملك دون الجلد مستدلاً على ذلك بقوله فليبعها وكذا وافقه على ذلك ابن دقيق العيد وهو مردود وأما الحافظ في الفتح فقال‏:‏ الأرجح أنه يجلدها قبل البيع ثم يبيعها وصرح بأن السكوت عن الجلد للعلم

 

ج / 7 ص -123-       به ولا يخفى أنه لم يسكت صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك كما سلف وظاهر الأمر بالبيع أنه واجب وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط وزعم بعض الشافعية أن الأمر بالبيع منسوخ كما حكاه ابن الرفعة في المطلب ولا أعرف له ناسخاً فإن كان هو النهي عن إضاعة المال كما زعم بعضهم فيجاب عنه أولاً بأن الإضاعة إنما تكون إذا لم يكن شيء في مقابل المبيع والمأمور به ههنا هو البيع لا الإضاعة وذكر الحبل من الشعر للمبالغة ولو سلم عدم إرادة المبالغة لما كان في البيع بحبل من شعر إضاعة وإلا لزم أن يكون بيع الشيء الكثير بالحقير إضاعة وهو ممنوع‏.‏ وقد ذهب داود وسائر أهل الظاهر إلى أن البيع واجب لأن ترك مخالطة الفسقة ومفارقتهم واجبان وبيع الكثير بالحقير جائز إذا كان البائع عالماً به بالإجماع‏.‏
قال ابن بطال‏:‏ حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا قال‏:‏ وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف له في الأمة فلا يشتغل به انتهى‏.‏ وظاهره أنه أجمع السلف على عدم وجوب البيع فإن صح ذلك كان هو القرينة الصارفة للأمر عن الوجوب وإلا كان الحق ما قاله أهل الظاهر ـ وأحاديث الباب ـ فيها دليل على أن السيد يقيم الحد على مملوكه وإلى ذلك ذهب جماعة من السلف والشافعي‏.‏ وذهبت العترة إلى أن حد المماليك إلى الإمام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى سيده وذهب مالك إلى أن الأمة إن كانت مزوجة كان أمر حدها إلى الإمام إلا أن يكون زوجها عبداً لسيدها فأمر حدها إلى السيد واستثنى مالك القطع في السرقة وهو وجه للشافعية وفي وجه لهم آخر يستثنى حد الشرب وروي عن الثوري والأوزاعي أنه لا يقيم السيد إلا حد الزنا وذهبت الحنفية إلى أنه لا يقيم الحدود على المماليك إلا الإمام مطلقاً وظاهر أحاديث الباب أنه يحد المملوك سيده من غير فرق بين أن يكون الإمام موجوداً أو معدوماً وبين أن يكون السيد صالحاً لإقامة الحد أم لا‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏ يقيمه السيد إلا إذا كان كافراً‏.‏
وقد أخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال‏:‏ أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت ورواه الشافعي عن ابن مسعود وأبي بردة وأخرجه أيضاً البيهقي عن خارجة بن زيد عن أبيه وأخرجه أيضاً عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهي إلى أقوالهم من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون لا ينبغي لأحد يقيمشيئاً من الحدود دون السلطان إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده وأمته وروى الشافعي عن ابن عمر أنه قطع يد عبده وجلد عبداً له زنى وأخرج مالك عن عائشة أنها قطعت يد عبد لها‏.‏
وأخرج أيضاً أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها وأخرج عبد الرزاق والشافعي أن فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حدت جارية لها زنت وتقدم في الباب الذي قبل هذا أنها جلدت وليدة لها خمسين وقد احتج من قال أنه لا يقيم الحدود مطلقاً إلا الإمام بما رواه الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال كان رجل من الصحابة يقول الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان‏.‏
قال الطحاوي‏:‏ لا نعلم له مخالفاً من الصحابة وتعقبه ابن حزم بأنه خالفه اثنا عشر صحابياً‏.‏ وظاهر أحاديث الباب أن الأمة والعبد يجلدان سواء كانا محصنين أم لا

 

ج / 7 ص -124-       وقد تقدم الخلاف في ذلك في الباب الذي قبل هذا وقد اختلف أهل العلم في المملوك إذا كان محصناً هل يرجم أم لا فذهب الأكثر إلى الثاني وذهب الزهري وأبو ثور إلى الأول‏.‏
ـ واحتج الأولون ـ بأن الرجم لا يتنصف واحتج الآخرون بعموم الأدلة وأما المكاتب فذهبت العترة إلى أنه لا رجم عليه ويجلد كالحر بقدر ما أدى وفي البقية كالعبد وذهبت الشافعية والحنفية إلى أنه يجلد كالعبد مطلقاً لحديث‏:‏
‏"‏المكاتب عبد ما بقي عليه درهم‏"‏ وقد تقدم وتقدم الكلام على التقسيط في المكاتب في باب الكتابة‏.‏