نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الدماء
باب إيجاب القصاص بالقتل العمد وأن مستحقه
بالخيار بينه وبين الدية
1 - عن ابن مسعود قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلا اللّه
وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني
والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق
للجماعة".
رواه الجماعة.
2 - وعن عائشة:
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا من ثلاثة إلا من
زنى بعد ما أحصن أو كفر بعد ما أسلم أو قتل
نفسا فقتل بها".
رواه أحمد والنسائي ومسلم بمعناه. وفي
لفظ:
"لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصالزان
محصن فيرجم ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا ورجل
يخرج من الإسلام فيحارب اللّه عز وجل ورسوله
فيقتل أو
ج / 7 ص -6-
يصلب أو ينفى من الأرض". رواه النسائي وهو حجة في أنه لا يؤخذ
مسلم بكافر.
حديث عائشة باللفظ الآخر
أخرجه أيضًا أبو داود والحاكم وصححه.
قوله: "امرئ مسلم"
فيه دليل على أن الكافر يحل دمه لغير الثلاث
المذكورة لأن التوصيف بالمسلم يشعر بأن الكافر
يخالفه في ذلك ولا يصح أن تكون المخالفة إلى
عدم حل دمه مطلقًا.
قوله: "يشهد أن لا
إله إلا اللّه" الخ هذا وصف كاشف لأن المسلم
لا يكون مسلمًا إلا إذا كان يشهد تلك
الشهادة.
قوله: "إلا بإحدى
ثلاث" مفهوم هذا يدل على أنه لا يحل بغير
هذه الثلاث وسيأتي ما يدل على أنه يحل بغيرها
فيكون عموم هذا المفهوم مخصصًا بما ورد من
الأدلة الدالة على أنه يحل دم المسلم بغير
الأمور المذكورة.
قوله: "الثيب
الزاني" هذا مجمع عليه على ما سيأتي بيانه
إن شاء اللّه.
قوله: "والنفس
بالنفس" المراد به القصاص وقد يستدل به من
قال إنه يقتل الحر بالعبد والرجل بالمرأة
والمسلم بالكافر لما فيه من العموم وسيأتي
تحقيق الخلاف وما هو الحق في هذه المواطن.
قوله: "والتارك
لدينه" ظاهره أن الرد من موجبات قتل المرتد
بأي نوع من أنواع الكفر كانت والمراد بمفارقة
الجماعة مفارقة جماعة الإسلام ولا يكون ذلك
إلا بالكفر لا بالبغي والابتداع ونحوهما فإنه
وإن كان في ذلك مخالفة للجماعة فليس فيه ترك
للدين إذ المراد الترك الكلي ولا يكون إلا
بالكفر لا مجرد ما يصدق عليه اسم الترك وإن
كان لخصلة من خصال الدين للإجماع على أنه لا
يجوز قتل العاصي بترك أي خصلة من خصال الإسلام
اللّهم إلا أن يراد أنه يجوز قتل الباغي ونحوه
دفعًا لا قصدًا ولكن ذلك ثابت في كل فرد من
الأفراد فيجوز لكل فرد من أفراد المسلمين أن
يقتل من بغى عليه مريدًا لقتله أو أخذ ماله
ولا يخفى أن هذا غير مراد من حديث الباب بل
المراد بالترك للدين والمفارقة للجماعة الكفر
فقط كما يدل على ذلك قوله في الحديث الآخر:
"أو كفر بعد ما أسلم"
وكذلك قوله:
"أو رجل يخرج من الإسلام".
قوله: "يخرج من الإسلام" هذا مستثنى من قوله مسلم
باعتبار ما كان عليه لا باعتبار الحال الذي
قتل فيه فإنه صار كافرًا فلا يصدق عليه أنه
امرؤ مسلم.
قوله: "فيقتل أو
يصلب أو ينفى" هذه الأفعال أوائلهامضمومة
مبنية للمجهول وفيه دليل على أنه يجوز أن يفعل
بمن كفر وحارب أي نوع من هذه الأنواع الثلاثة
ويمكن أن يراد بقوله ورجل يخرج من الإسلام
المحارب ووصفه بالخروج عن الإسلام لقصد
المبالغة ويدل على إرادة هذا المعنى تعقيب
الخروج عن الإسلام بقوله: "فيحارب
اللّه ورسوله"
لما تقرر من أن مجرد الكفر يوجب القتل وإن لم
ينضم إليه المحاربة ويدل على إرادة ذلك المعنى
أيضًا ذكر حد المحارب عقب ذلك بقوله فيقتل أو
يصلب أو ينفى من الأرض فإن هذا هو الذي أمر
اللّه به في حق المحاربين بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ}.
3 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
"من قتل له قتيل فهو
ج / 7 ص -7-
بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل".
رواه الجماعة لكن لفظ الترمذي:
"إما أن يعفو وإما أن يقتل".
4 - وعن أبي شريح
الخزاعي قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول:
"من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو
بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ
العقل أو يعفو فإن أراد رابعة فخذوا على
يديه".
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
5 - وعن ابن عباس قال:
"كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم
الدية فقال اللّه تعالى لهذه الأمة
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية والإتباع بالمعروف يتبع
الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ذلك
تخفيف من ربكم ورحمة فيما كتب على من كان
قبلكم". رواه البخاري والنسائي
والدارقطني.
حديث أبو شريح الخزاعي
في إسناده محمد بن إسحاق وقد أورده معنعنًا
وهو معروف بالتدليس فإذا عنعن ضعف حديثه كما
تقدم تحقيقه غير مرة وفي إسناده أيضًا سفيان
بن أبي العرجاء السلمي قال أبو حاتم الرازي:
ليس بالمشهور وقد أخرج الحديث المذكور النسائي
وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه
كما في حديثه المذكور وأبو شريح بضم الشين
المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية وبعدها حاء
مهملة اسمه خويلد بن عمرو ويقال كعب بن عمرو
ويقال هانئ ويقال عبد الرحمن بن عمرو وقيل غير
ذلكوالأول هو المشهور.
قوله: "بخير النظرين
إما أن يفتدي وإما أن يقتل" ظاهره أن الخيار
إلى الأهل الذين هم الوارثون للقتيل سواء
كانوا يرثونه بسبب أو نسب وهذا مذهب العترة
والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال الزهري ومالك:
يختص بالعصبة إذ شرع لنفي العار كولاية النكاح
فإن عفوا فالدية كالتركة.
وقال ابن سيرين: يختص
بالورثة من النسب إذ شرع للتشفي والزوجية
ترتفع بالموت فلا تشفي وأجيب بأنه شرع لحفظ
الدماء لقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وظاهر الحديث أن القصاص والدية واجبان على التخيير وإليه ذهبت
الهادوية والناصر وأبو حامد والشافعي في قول
له وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في
أحد قوليه والناصر والداعي والطبري إن الواجب
بالقتل هو القصاص لا الدية فليس للولي
اختيارها لقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ولم يذكر الدية ويجاب بأن عدم الذكر في الآية لا يستلزم عدم الذكر
مطلقًا فإن الدية قد ذكرت في حديثي الباب
وأيضًا تقدير الآية فمن اقتص فالحر بالحر ومن
عفي له من أخيه شيء فالدية ويدل على
ج / 7 ص -8-
ذلك تفسير ابن عباس المذكور.
وظاهر الحديث أيضًا أن
الولي إذا عفا عن القصاص لم تسقط الدية بل يجب
على القاتل تسليمها وروي عن مالك وأبي حنيفة
والشافعي في قول له والمؤيد باللّه في قول له
أيضًا أنها تتبع القصاص في السقوط ويؤيد عدم
السقوط قوله تعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وأجاب القائلون بالسقوط بأن المعروف والإحسان التفضل لا الوجوب كما
تقتضيه العبارة لأن الوجوب يقتضي العقاب على
الترك والمعروف والإحسان لا يقتضيان ذلك بدليل
قوله تعالى {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ورد بأن التخفيف المذكور هو بالتخيير بين القصاص والدية لهذه
الأمة بعد أن كان الواجب على بني إسرائيل هو
القصاص فقط ولم يكن فيهم الدية ولا شك أن
التخيير بين أمرين أوسع وأخف من تعيين واحد
كما في كلام ابن عباس المذكور في الباب ويدل
على عدم سقوط الدية بسقوط القصاص حديث أبي
هريرة وأبي شريح المذكوران وقد أخرج الترمذي
وابن ماجه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
بلفظ:
"من قتل متعمدًا أسلم إلى أولياء المقتول فإن احبوا قتلوا وإن أحبوا
أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين
خلفة في بطونها أولادها" وفي الكشاف في تفسيرالآية المذكورة ما لفظه فإتباع بالمعروف فليكن
إتباع أو فالأمر إتباع وهذه توصية للمعفو عنه
والعافي جميعًا فليتبع الولي القاتل بالمعروف
بأن لا يعنف عليه وأن لا يطالبه إلا مطالبة
جميلة وليؤد إليه القاتل بدل دم المقتول أداء
بإحسان بأن لا يمطله ولا يبخسه ذلك الحكم
المذكور من العفو والدية تخفيف من ربكم ورحمة
لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم
العفو وأخذ الدية وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم
القصاص والدية وخيرت هذه الأمة بين الثلاث
القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرًا
انتهى. والمراد بقوله في حديث أبي شريح فإن
أراد رابعة فخذوا على يديه أي إذا أراد زيادة
على القصاص أو الدية أو العفو ومن ذلك قوله
تعالى
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
باب ما جاء لا
يقتل مسلم بكافر والتشديد في قتل الذمي وما
جاء في الحر بالعبد
1 - عن أبي جحيفة قال:
"قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في
القرآن فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة إلا فهمًا يعطيه اللّه رجلا في القرآن
وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة
قال: "العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم
بكافر". رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو
داود والترمذي.
2 - وعن علي رضي اللّه
عنه: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم
ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن
ج / 7 ص -9-
بكافر ولا ذو عهد في عهده". رواه أحمد والنسائي وأبو داود وهو حجة
في أخذ الحر بالعبد.
3 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم
قضى أن لا يقتل مسلم بكافر". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.
وفي لفظ: أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده". رواه أحمد وأبو داود. حديث علي الآخر أخرجه أيضًا الحاكم
وصححه وحديث عمرو بن شعيب سكت عنه أبو داود
والمنذري وصاحب التلخيص ورجاله رجال الصحيح
إلى عمرو بنشعيب.
- وفي الباب - عن ابن
عمر عند ابن حبان في صحيحه وأشار إليه الترمذي
وحسنه. وعن ابن عباس عند ابن ماجه وروى
الشافعي من حديث عطاء وطاوس ومجاهد والحسن
مرسلاً: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال يوم الفتح:
"لا يقتل مؤمن بكافر" وروى البيهقي من حديث عمران بن حصين نحو ما في الباب وكذلك رواه
البزار من حديثه وروى أبو داود والنسائي
والبيهقي من حديث عائشة نحوه وقال الحافظ في
الفتح بعد أن ذكر حديث علي الآخر وحديث عمرو
بن شعيب وحديث عائشة وابن عباس: لأن طرقها
كلها ضعيفة إلا الطريق الأولى والثانية فإن
سند كل منهما حسن انتهى. وروى عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلمًا قتل
رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله
وغلظ عليه الدية.
قال ابن حزم:
هذا في غاية الصحة فلا يصح عن أحد من الصحابة
شيء غير هذا إلا ما رويناه عن عمر أنه كتب في
مثل ذلك أن يقاد به ثم ألحقه كتابًا فقال:
"لا تقتلوه ولكن اعتقلوه".
قوله: "هل عندكم"
الخطاب لعلي ولكنه غلبه على غيره من أهل البيت
لحضوره وغيبتهم أو للتعظيم قال الحافظ:
وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من
الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت لا سيما
علي اختصاصًا بشيء من الوحي لم يطلع عليه
غيرهم وقد سأل عليًا عن هذه المسألة قيس بن
عبادة والأشتر النخعي قال: والظاهر أن
المسؤول عنه هنا ما يتعلق بالأحكام الشرعية من
الوحي الشامل للكتاب والسنة فإن اللّه سبحانه
سماها وحيًا إذا فسر قوله تعالى
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
بما هو أعم من القرآن ويدل على ذلك قوله وما
في هذه الصحيفة فإن المذكور فيها ليس من
القرآن بل من أحكام السنة وقد أخرج أحمد
والبيهقي أن عليًا كان يأمر بالأمر فيقال قد
فعلناه فيقول صدق اللّه ورسوله فلا يلزم منه
نفي من ينسب إلى علي من علم الجفر ونحوه أو
يقال هو مندرج تحت قوله إلا فهمًا يعطيه اللّه
تعالى رجلا في القرآن فإنه ينسب إلى كثير ممن
فتح اللّه عليه بأنواع العلوم أنه يستنبط ذلك
من القرآن. ومما يدل على اختصاص علي بشيء من
الأسرار دون غيره حديث المخدج المقتول من
الخوارج يوم النهروان كما في صحيح مسلم وسنن
أبي داود فإنه قال يومئذ: التمسوا فيهم
المخدج.
ج / 7 ص -10-
يعني في القتلى فلم يجدوه فقام الإمام علي
بنفسه حتى أتى أناسًا قد قتل بعضهم على بعض
فقال: أخرجوهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر
وقال: صدق اللّه وبلغ رسوله فقام إليه عبيدة
السلماني فقال: يا أمير المؤمنين واللّه
الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"أي واللّه الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه
ثلاثًا وهو يحلف".
والمخدج المذكور هو ذو الثدية وكان في يده مثل
ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه
شعرات مثل سبالة السنور.
قوله: "إلا فهمًا"
هكذا في رواية بالنصب على الاستثناء وفي رواية
بالرفع على البدل والفهم بمعنى المفهوم من لفظ
القرآن أو معناه.
قوله: "وما في هذه
الصحيفة" أي الورقة المكتوبة والعقل الدية
وسميت بذلك لأنهم كانوا يعطون الإبل ويربطونها
بفناء دار المقتول بالعقال وهو الحبل وفي
رواية الديات أي تفصيل أحكامها.
قوله: "وفكاك
الأسير" بكسر الفاء وفتحها أي أحكام تخليص
الأسير من يد العدو والترغيب فيه.
قوله: "وأن لا يقتل
مسلم بكافر" دليل على أن المسلم لا يقاد
بالكافر أما الكافر الحربي فذلك إجماع كما
حكاه صاحب البحر وأما الذمي فذهب إليه الجمهور
لصدق اسم الكافر عليه وذهب الشعبي والنخعي
وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقتل المسلم
بالذمي واستدلوا بقوله في حديث علي وعمرو بن
شعيب:
"ولا ذو عهد في عهده"
ووجهه أنه معطوف على قوله مؤمن فيكون التقدير
ولا ذو عهد في عهده بكافر كما في المعطوف عليه
والمراد بالكافر المذكور في المعطوف هو الحربي
فقط بدليل جعله مقابلا للمعاهد لأن المعاهد
يقتل بمن كان معاهدًا مثله من الذميين إجماعًا
فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي
كما قيد في المعطوف لأن الصفة بعد متعدد ترجع
إلى الجميع اتفاقًا فيكون التقدير لا يقتل
مؤمن بكافر حربي ولا ذو عهد في عهده بكافر
حربي وهو يدل بمفهومه على أن المسلم يقتل
بالكافر الذمي ويجاب أولا بأن هذا مفهوم صفة
والخلاف في العمل به مشهور بين أئمة الأصول
ومن جملة القائلين بعدم العمل فيه الحنفية
فكيف يصح احتجاجهم به وثانيًا بأن الجملة
المعطوفة أعني قوله ولا ذو عهد في عهده لمجرد
النهي عن قتل المعاهد فلا تقدير فيها أصلا ورد
بأن الحديث مسوق لبيان القصاص لا للنهي عن
القتل فإن تحريم قتل المعاهد معلوم من ضرورة
أخلاق الجاهلية فضلًا عن الإسلام وأجيب عن هذا
الرد بأن الأحكام الشرعية إنما تعرف من كلام
الشارع وكون تحريم قتل المعاهد معلومًا من
أخلاق الجاهلية لا يستلزم معلوميته في شريعة
الإسلام كيف والأحكام الشرعية جاءت بخلاف
القواعد الجاهلية فلا بد من معرفة أن الشريعة
الإسلاميةقررته ويؤيد ذلك أن السبب في خطبته
صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الفتح بقوله:
"لا
يقتل مسلم بكافر" ما ذكره الشافعي في الأم حيث قال:
وخطبته يوم الفتح كانت سبب القتيل الذي قتلته
خزاعة وكان له عهد فخطب النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال:
"لو قتلت مسلمًا بكافر لقتلته به"
وقال:
"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" فأشار بقوله لا يقتل مسلم بكافر إلى تركه الاقتصاص من الخزاعي
بالمعاهد الذي قتله وبقوله ولا ذو عهد في عهده
إلى النهي عن
ج / 7 ص -11-
الإقدام على ما فعله القاتل المذكور فيكون
قوله ولا ذو عهد في عهده كلامًا تامًا لا
يحتاج إلى تقدير ولا سيما وقد تقرر أن التقدير
خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا
ضرورة كما قررناه ويجاب ثالثًا بأن الصحيح
المعلوم من كلام المحققين من النحاة وهو الذي
نص عليه الرضي أنه لا يلزم اشتراك المعطوف
والمعطوف عليه إلا في الحكم الذي لأجله وقع
العطف وهو هنا النهي عن القتل مطلقًا من غير
نظر إلى كونه قصاصًا أو غير قصاص فلا يستلزم
كون إحدى الجملتين في القصاص أن تكون الأخرى
مثلها حتى يثبت ذلك التقدير المدعى وأيضًا
تخصيص العموم بتقدير ما أضمر في المعطوف ممنوع
لو سلمنا صحة التقدير المتنازع فيه كما صرح
بذلك صاحب المنهاج وغيره من أهل الأصول.
- ومن جملة - ما احتج به
القائلون بأنه يقتل المسلم بالذمي عموم قوله
تعالى {النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ}
ويجاب بأنه مخصص بأحاديث الباب ومن أدلتهم ما
أخرجه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن
البيلماني: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قتل مسلمًا بمعاهد وقال
"أنا أكرم من وفى بذمته"
وأجيب عنه بأنه مرسل ولا تثبت بمثله حجة وبأن
ابن البيلماني المذكور ضعيف لا تقوم به حجة
إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله كما قال
الدارقطني قال أبو عبيد القاسم بن سلام هو
حديث ليس بمسند ولا يجعل مثله إمامًا تسفك به
دماء المسلمين وأما ما وقع في رواية عمار بن
مطر عن ابن البيلماني عن ابن عمر فقال البيهقي
هو خطأ من وجهين أحدهما وصله بذكر ابن عمر
والآخر أنه رواه عن إبراهيم عن ربيعة وإنما
رواه إبراهيم عن ابن المنكدر والحمل فيه على
عمار بن مطر الرهاوي فقد كان يقلب الأسانيد
ويسرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته وسقط
عن حد الاحتجاج به وروي عن البيهقي أنه قال:
لم يسنده غير ابن أبي يحيى يعني إبراهيم
المذكور وقدذكرناه في غير موضع من هذا الشرح
أنه لا يحتج بمثله لكونه ضعيفًا جدًا وقد قال
علي بن المديني: إن هذا الحديث إنما يدور
على إبراهيم ابن أبي يحيى وقيل إن كلام
المديني هذا غير مسلم فإن أبا داود قد أخرجه
في المراسيل وكذلك الطحاوي من طريق سليمان بن
بلال عن ربيعة عن أبي البيلماني فلم يكن
دائرًا على إبراهيم ويجاب بأن ابن المديني
إنما أراد أن الحديث المسند بذكر ابن عمر يدور
على إبراهيم بن أبي يحيى فقط ولم يرد أن
المسند والمرسل يدوران عليه فلا استدراك وقد
أجاب الشافعي في الأم عن حديث ابن البيلماني
المذكور بأنه كان في قصة المستأمن الذي قتله
عمرو بن أمية فلو ثبت لكان منسوخًا لأن حديث
لا يقتل مسلم بكافر خطب به النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو
بن شعيب وقصة عمرو بن أمية متقدمة على ذلك
بزمان واستدلوا بما أخرجه الطبراني: "أن
عليًا أتي برجل من المسلمين قتل رجلا من أهل
الذمة فقامت عليه البينة فأمر بقتله فجاء أخوه
فقال: إني قد عفوت قال: فلعلهم هددوك
وفرقوك وقرعوك قال: لا ولكن قتله لا يرد
عليّ أخي وعرضوا لي ورضيت قال: أنت أعلم من
كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا وهذا مع
كونه قول صحابي ففي إسناده أبو الجنوب الأسدي
وهو ضعيف الحديث كما قال الدارقطني. وقد روى
علي رضي اللّه عنه عن
ج / 7 ص -12-
رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه لا يقتل
مسلم بكافر كما في حديث الباب والحجة إنما هي
في روايته وروي عن الشافعي في هذه القضية أنه
قال: ما دليلكم أن عليًا يروي عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم شيئًا ويقول بخلافه
واستدلوا أيضًا بما رواه البيهقي عن عمر في
مسلم قتل معاهدًا فقال: إن كانت طيرة في غضب
فعلى القاتل أربعة آلاف وإن كان القاتل لصًا
عاديًا فيقتل ويجاب عن هذا أولا بأنه قول
صحابي ولا حجة فيه وثانيًا بأنه لا دلالة فيه
على محل النزاع لأنه رتب القتل على كون القاتل
لصًا عاديًا وذلك خارج عن محل النزاع وأسقط
القصاص عن القاتل في غضب وذلك غير مسقط لو كان
القصاص واجبًا وثالثًا بأنه قال الشافعي في
القصص المروية عن عمر في القتل بالمعاهد أنه
لا يعمل بحرف منها لأن جميعها منقطعات أو ضعاف
أو تجمع الانقطاع والضعف وقد تمسك بما روي عن
عمر مما ذكرنا مالك والليث فقالا يقتل المسلم
بالذمي إذا قتله غيلة قال والغيلة أن يضجعه
فيذبحه ولا متمسك لهما في ذلك لماعرفت إذا
تقرر هذا علم أن الحق ما ذهب إليه الجمهور
ويؤيده قوله تعالى
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم لكان في ذلك أعظم سبيل وقد نفى
اللّه تعالى أن يكون له عليه السبيل نفيًا
مؤكدًا وقوله تعالى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}.
ووجهه أن الفعل الواقع في سياق النفي يتضمن
النكرة فهو في قوة الاستواء فيعم كل أمر من
الأمور إلا ما خص ويؤيد ذلك أيضًا قصة اليهودي
الذي لطمه المسلم لما قال لا والذي اصطفى موسى
على البشر فلطمه المسلم فإن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم لم يثبت له الاقتصاص كما في
الصحيح وهو حجة على الكوفيين لأنهم يثبتون
القصاص باللطمة. ومن ذلك حديث الإسلام يعلو
ولا يعلى عليه وهو وإن كان فيه مقال لكنه قد
علقه البخاري في صحيحه.
قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" أي
تتساوى في القصاص والديات. والكفء النظير
والمساوي ومنه الكفاءة في النكاح أنه لا فرق
بين الشريف والوضيع في الدم بخلاف ما كان عليه
الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة.
قوله: "وهم يد على من سواهم" أي هم
مجتمعين على أعدائهم لا يسعهم التخاذل بل
يعاون بعضهم بعضًا.
قوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" يعني أنه
إذا أمن المسلم حربيًا كان أمانه أمانًا من
جميع المسلمين ولو كان ذلك المسلم امرأة بشرط
أن يكون مكلفًا فيحرم النكث من أحدهم بعد
أمانه.
4 - وعن عبد اللّه بن عمرو: "عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين
عامًا".
رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.
5 - وعن أبي هريرة: عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
"ألا من قتل نفسًا معاهدة لها ذمة اللّه وذمة رسوله فقد أخفر ذمة اللّه
ولا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة
أربعين خريفًا". رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
ج / 7 ص -13-
حديث أبي هريرة قال الترمذي بعد أن قال إنه
حسن: إنه قد روي عن أبي هريرة من غير وجه
مرفوعًا.
قوله: "معاهدًا"
المعاهد هو الرجل من أهل دار الحرب يدخل إلى
دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله
بلا خلاف بين أهل الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه
ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ}.
قوله: "لم يرح رائحة
الجنة" بفتح الأول من يرح وأصله راح الشيء
أي وجد ريحه ولم يرحه أي لم يجد ريحه ورائحة
الجنة نسميها الطيب وهذا كناية عن عدم دخول من
قتل معاهدًا الجنة لأنه إذا لم يشم نسيمها وهو
يوجد من مسيرة أربعين عامًا لم يدخلها.
قوله: "فقد أخفر ذمة
اللّه" بالخاء والفاء والراء أي نقض عهده
وغدر ـ والحديثان ـ اشتملا على تشديد الوعيد
على قاتل المعاهد لدلالتهما على تخليده في
النار وعدم خروجه عنها وتحريم الجنة عليه مع
أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم في قاتل
المسلم هل يخلد فيها أم يخرج عنها فمن قال إنه
يخلد تمسك بقوله تعالى {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية ومن قال بعدم تخليده على الدوام قال الخلود في اللغة اللبث
الطويل ولا يدل على الدوام وسيأتي الكلام عليه
وأما قاتل المعاهد فالحديثان مصرحان بأنه لا
يجد رائحة الجنة وذلك مستلزم لعدم دخولها
أبدًا وهذان الحديثان وأمثالهما ينبغي أن يخصص
بهما عموم الأحاديث القاضية بخروج الموحدين من
النار ودخولهم الجنة بعد ذلك.
وقال في الفتح:
إن المراد بهذا النفي وإن كان عامًا التخصيص
بزمان ما لتعاضد الأدلة العقلية والنقلية أن
من مات مسلمًا وكان من أهل الكبائر فهو محكوم
بإسلامه غير مخلد في النار ومآله إلى الجنة
ولو عذب قبل ذلك انتهى.
وقد ثبت في الترمذي من
حديث أبي هريرة بلفظ:
"سبعين خريفًا"
ومثله روى أحمد عن رجل من الصحابة وفي رواية
للطبراني من حديث أبي هريرة بلفظ: "مائة عام"
وفي أخرى له عن أبي بكرة بلفظ:
"خمسمائة عام" ومثله في الموطأ.
وفي رواية في مسند
الفردوس من حديث جابر بلفظ: "ألف عام"
وقد جمع صاحب الفتح بين هذه الأحاديث.
6 - وعن الحسن عن
سمرة: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
"من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه".
رواه الخمسة. وقال الترمذي: حديث حسن
غريب.
وفي رواية لأبي داود
والنسائي:
"ومن خصى عبده خصيناه" قال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح
وأخذ بحديثه من قتل عبده قتلناه وأكثر أهل
العلم على أنه لا يقتل السيد بعبده وتأولوا
الخبر على أنه أراد من كان عبده لئلا يتوهم
تقدم الملك مانعًا".
وقد روى الدارقطني
بإسناد عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلا
ج / 7 ص -14-
قتل عبده متعمدًا فجلده النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من
المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة"
وإسماعيل بن عياش فيه ضعف إلا أن أحمد قال:
ما روى عن الشاميين صحيح وما روى عن أهل
الحجاز فليس صحيح وكذلك قول البخاري فيه.
حديث سمرة قال الحافظ في
بلوغ المرام: إن الترمذي صححه والصواب ما
قاله المصنف هنا فإنا لم نجد في نسخ من
الترمذي إلا لفظ حسن غريب كما قال المصنف.
والزيادة التي ذكرها أبو داود والنسائي صححها
الحاكم وفي إسناد الحديث ضعف لأنه من رواية
الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف طويل فقال
يحيى بن معين: إنه لم يسمع منه شيئًا.
وقال علي بن المديني: إن سماعه منه صحيح كما
حكى ذلك المصنف عنه وعن بعض أهل العلم إنه لم
يسمع منه إلا حديث العقيقة المتقدم فقط وقد
قدمنا الخلاف في سماعه وعدمه بما هو أطول من
هذا.
وقد روى أبو داود عن
قتادة بإسناد شعبة أن الحسن نسي هذا الحديث
فكان يقول لا يقتل حر بعبد. - وحديث الباب -
مروي من طريق قتادة عنه. وحديث إسماعيل بن
عياش رواه عن الأوزاعي كما ذكره المصنف
والأوزاعي شامي دمشقي وإسماعيل قوي في
الشاميين لكن دونه محمد بن عبد العزيز الشامي
قال فيه أبو حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود
وعنده غرائب - وفي الباب - عن عمر عند البيهقي
وابن عدي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"لا يقاد مملوك من مالك ولا ولد من والده" وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر الحديث كما قال
البخاري. وعن ابن عباس عند الدارقطني
والبيهقي مرفوعًا:
"لا يقتل حر بعبد"
وفيه جويبر وغيره من المتروكين. وعن علي
قال:
"من السنة لا يقتل حر بعبد"
ذكره صاحب التلخيص وأخرجه البيهقي. وفي
إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف.
وأخرج البيهقي عن علي
قال: "أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم برجل قتل عبده متعمدًا فجلده رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم مائة ونفاه سنة ومحا
سهمه من المسلمين ولم يقده به" وهو شاهد
لحديث عمرو بن شعيب المذكور في الباب. وأخرج
البيهقي أيضًا من حديث عبد اللّه بن عمرو في
قصة زنباع لما جب عبده وجدع أنفه فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليهوآله وسلم:
"من مثل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر وهو مولى اللّه ورسوله فأعتقه
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يقتص
من سيده" وفي إسناده المثنى بن الصباح وهو ضعيف لا يحتج به وله طريق أخرى
فيها الحجاج بن أرطأة وهو أيضًا ضعيف. وله
أيضًا طريق ثالثة فيها سواد بن حمزة وليس
بالقوي.
وفي سنن أبي داود من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
"جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال: حادثة لي يا رسول اللّه
فقال:
ويحك ما لك فقال: شر أبصر لسيده جارية فغار فجب مذاكيره فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
عليّ بالرجل فطلب فلم يقدر عليه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: "اذهب فأنت حر
فقال: يا رسول اللّه على من نصرتي قال:
على كل مؤمن أو قال على كل مسلم" وأخرج
ج / 7 ص -15-
أحمد وابن أبي شيبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده: "أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان
الحر بالعبد" وأخرج البيهقي عن أبي جعفر عن
بكير أنه قال: "مضت
السنة بأن لا يقتل الحر المسلم بالعبد وإن
قتله عمدًا" وكذلك أخرج عن الحسن وعطاء والزهري من قولهم - وقد اختلف - أهل
العلم في قتل الحر بالعبد. وحكى صاحب البحر
الإجماع على أنه لا يقتل السيد بعبده إلا عن
النخعي وهكذا حكى الخلاف عن النخعي وبعض
التابعين الترمذي وأما قتل الحر بعبد غيره
فحكاه في البحر عن أبي حنيفة وأبي يوسف وحكاه
صاحب الكشاف عن سعيد بن المسيب والشعبي
والنخعي وقتادة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه.
وحكى الترمذي عن الحسن
البصري وعطاء بن أبي رباح وبعض أهل العلم أنه
ليس بين الحر والعبد قصاص لا في النفس ولا
فيما دون النفس. قال: وهو قول أحمد وإسحاق
وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز
والحسن وعطاء وعكرمة ومالك والشافعي. وحكاه
في البحر عن علي وعمر وزيد بن ثابت وابن
الزبير والعترة جميعًا والشافعي ومالك وأحمد
بن حنبل. وروى الترمذي في المسألة مذهبًا
ثالثًا فقال: وقال بعضهم: إذا قتل عبده لا
يقتل به وإذا قتل عبد غيره قتل به وهو قول
سفيان الثوري انتهى.
وقد احتج المثبتون
للقصاص بين الحر والعبد بحديث سمرة المذكور
وهو نص في قتل السيد بعبده ويدل بفحوى الخطاب
على أن غير السيد بالعبد بالأولى وأجاب عنه
النافون أولا بالمقال الذي تقدمفيه وثانيًا
بالأحاديث القاضية بأنه لا يقتل حر بعبد فإنها
قد رويت من طرق متعددة يقوى بعضها بعضًا فتصلح
للاحتجاج وثالثًا بأنه خارج مخرج التحذير
ورابعًا بأنه منسوخ ويؤيد دعوى النسخ فتوى
الحسن بخلافه وخامسًا بأن النهي أرجح من غيره
كما تقرر في الأصول – والأحاديث - المذكورة في
أنه لا يقتل حر بعبد مشتملة عليه وسادسًا بأنه
يفهم من دليل الخطاب في قوله تعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} أنه لا يقتل الحر بالعبد ولا يخفى أن هذه الأجوبة يمكن مناقشة
بعضها وقد عكس دعوى النسخ المثبتون فقالوا إن
الآية المذكورة منسوخة بقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
واستدلوا أيضًا بالحديث المتقدم في أول الباب
عن علي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" ويجاب عن الاحتجاج بالآية المذكورة أعني قوله {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
بأنها حكاية لشريعة بني إسرائيل لقوله تعالى
في أول الآية
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} بخلاف قوله تعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فإنها خطاب لأمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وشريعة من قبلنا
إنما تلزمنا إذا لم يثبت في شرعنا ما يخالفها
وقد ثبت ما هو كذلك على أنه قد اختلف في
التعبد بشرع من قبلنا من الأصل كما ذلك معروف
في كتب الأصول ثم إنّا لو فرضنا أن الآيتين
جميعًا تشريع لهذه الأمة لكانت آية البقرة
مفسرة لما أبهم في آية المائدة أو تكون آية
المائدة مطلقة وآية البقرة مقيدة والمطلق يحمل
على المقيد وقد أيد بعضهم عدم ثبوت القصاص
بأنه لا يقتص من الحر بأطراف العبد إجماعًا
فكذا النفس وأيد آخر ثبوت القصاص فقال: إن
العتق يقارن المثلة فيكون جناية على حر في
التحقيق حيث كان الجاني سيده ويجاب
ج / 7 ص -16-
عن هذا بأنه إنما يتم على فرض بقاء المجني
عليه بعد الجناية زمنًا يمكن فيه أن يتعقب
الجناية العتق ثم يتعقبه الموت لأنه لا بد من
تأخر المعلول عن العلة في الذهن وإن تقارنا في
الواقع وعلى فرض أن العبد يعتق بنفس المثلة لا
بالمرافعة وهو محل خلاف.
وقد أجاب صاحب المنحة عن
هذا الإشكال فقال: إنه يتم في صورة جدعه
وخصيه لا في صورة قتله انتهى. وهذا وهم لأن
المراد بالمثلة في كلام المورد للتأييد هي
المثلة بالعبد الموجبة لعتقه بالضرب واللطم
ونحوهما لا المثلة المخصوصة التي سرى ذهن صاحب
المنحة إليها وقد أورد على المستدلين بقوله
تعالى{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} إنه يلزم على مقتضى ذلك أن لا يقتل العبد بالحر وأجيب بأن قتل
العبد بالحر مجمع عليه فلا يلزم التساوي
بينهما في ذلك. وأورد أيضًا بأنه يلزم أن لا
يقتل الذكر بالأنثى ولا الأنثى بالذكر وسيأتي
الجواب عن ذلك.
باب قتل الرجل
بالمرأة والقتل بالمثقل وهل يمثل بالقاتل إذا
مثل أم لا
1 - عن أنس: "أن
يهوديًا رضَّ رأس جارية بين حجرين فقيل لها من
فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمى اليهودي
فأومأت برأسها فجيء به فاعترف
فأمر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فرض رأسه
بحجرين".
رواه الجماعة.
قوله: "رضّ رأس
جارية" في رواية لمسلم: "فقتلها بحجر
فجيء بها إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وبها رمق". وفي رواية أخرى: "قتل
جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في
قليب ورضخ رأسها بالحجارة
فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات"
والحديث يدل على أنه يقتل الرجل بالمرأة وإليه
ذهب الجمهور وحكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا
رواية عن علي وعن الحسن وعطاء ورواه البخاري
عن أهل العلم وروي في البحر عن عمر بن عبد
العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد
قولي الشافعي أنه لا يقتل الرجل بالمرأة وإنما
تجب الدية وقد رواه أيضًا عن الحسن البصري أبو
الوليد الباجي والخطابي وحكى هذا القول صاحب
الكشاف عن الجماعة الذين حكاه صاحب البحر عنهم
ولكنه قال وهو مذهب مالك والشافعي ولم يقل وهو
أحد قولي الشافعي كما قال صاحب البحر وقد أشار
السعد في حاشيته على الكشاف إلى أن الرواية
التي ذكرها الزمخشري وهم محض قال ولا يوجد في
كتب المذهبين يعني مذهب مالك والشافعي تردد في
قتل الذكر بالأنثى انتهى.
وأخرج البيهقي عن أبي
الزناد أنه قال: كان من أدركته من فقهائنا
الذين ينتهي إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب
وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن
عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد اللّه
بن عبد اللّه بن عتبة وسليمان بن يسار في
مشيخة جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل
إن المرأة تقاد من الرجل عينًا بعين وأذنًا
بأذن وكل شيء من الجراح
ج / 7 ص -17-
على ذلك وإن قتلها قتل بها ورويناه عن
الزهري وغيره وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد
العزيز قال البيهقي: وروينا عن الشعبي
وإبراهيم خلافه فيما دون النفس.
واختلف الجمهور هل يتوفى
ورثة الرجل من ورثة المرأة أم لا فذهب الهادي
والقاسم والناصر وأبو العباس وأبو طالب إلى
أنهم يتوفون نصف دية الرجل وحكاه البيهقي عن
عثمان البتي وحكاه أيضًا السعد في حاشية
الكشاف عن مالك وذهبت الشافعية والحنفية وزيد
بن علي والمؤيد باللّه والإمام يحيى إلى أنه
يقتل الرجل بالمرأة ولا توفية وقد احتج
القائلون بثبوت القصاص بقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
ويجاب عن ذلك بما قدمنا في الباب الأول من أن
هذه الآية حكاية عن بني إسرائيل كما يدل على
ذلك قوله تعالى {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا}
أي في التوراة.
وقد صرح صاحب الكشاف
بأنها واردة لحكاية ما كتب في التوراة على
أهلها فتكون هذه الآية مفسرة أو مقيدة أو
مخصصة بقوله تعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى
بِالأُنْثَى}
وهذه الآية تدل على اعتبار الموافقة ذكورة
وأنوثة وحرية.
وقد أجاب السعد عن هذا في حاشيته على الكشاف
بوجوه:
الأول
أن القول بالمفهوم إنما هو على تقدير أن لا
يظهر للقيد فائدة وههنا الفائدة أن الآية إنما
نزلت لذلك. والثاني أنه لو اعتبر ذلك لزم أن
لا تقتل الأنثى بالذكر نظرًا إلى مفهوم
بالأنثى قال: وهذا يرد على ما ذكرنا أيضًا
ويدفع بأنه يعلم بطريق الأولى. والثالث أنه
لا عبرة بالمفهوم في مقابلة المنطوق الدال على
قتل النفس بالنفس كيفما كانت - لا يقال - تلك
حكاية عما في التوراة لا بيان للحكم في
شريعتنا لأنا نقول شرائع من قبلنا لا سيما إذا
ذكرت في كتابنا حجة وكم مثلها في أدلة أحكامنا
حتى يظهر الناسخ وما ذكر هنا يعني في البقرة
يصلح مفسرًا فلا يجعل ناسخًا وأما أن تلك يعني
آية المائدة ليست ناسخة لهذه فلأنها مفسرة بها
فلا تكون هي منسوخة بها. ودليل آخر على عدم
النسخ أن تلك أعني النفس بالنفس حكاية لما في
التوراة وهذه أعني الحر بالحر الخ خطاب لنا
وحكم علينا فلا ترفعها تلك وإلى هذا أشار يعني
الزمخشري بقوله: ولأن تلك عطفًا على مضمون
قوله ويقولون هي مفسرة لكنهم يقولون إن المحكي
في كتابنا من شريعة من قبلنا بمنزلة المنصوص
المقرر فيصلح ناسخًا وما ذكرنا من كونه مفسرًا
إنما يتم لو كان قولنا النفس بالنفس مبهمًا
ولا إبهام بل هو عام والتنصيص على بعض الأفراد
لا يدفع العموم سيما والخصم يدعي تأخر العام
حيث يجعله ناسخًا لكن يرد عليه أنه ليس فيه
رفع شيء من الحكم السابق بل إثبات زيادة حكم
آخر اللّهم إلا أن يقال إن في قوله الحر بالحر
الآية دلالة على وجوب اعتبار المساواة في
الحرية والذكورة دون الرق والأنوثة انتهى كلام
السعد.
- والحاصل - إن
الاستدلال بالقرآن على قتل الحر بالعبد أو
عدمه أو قتل الذكر بالأنثى أو عدمه لا يخلو عن
إشكال يفت في عضد الظن الحاصل بالاستدلال
فالأولى التعويل على ما سلف من الأحاديث
القاضية بأنه لا يقتل الحر بالعبد وعلى ما ورد
من الأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر
بالأنثى منها حديث الباب وإن
ج / 7 ص -18-
كان لا يخلو عن إشكال لأن قتل الذكر الكافر
بالأنثى المسلمة لا يستلزم قتل الذكر المسلم
بها لما بينهما من التفاوت ولو لم يكن إلا ما
أسلفنا من الأدلة القاضية بأنه لا يقتل المسلم
بالكافر. ومنها ما أخرجه مالك والشافعي من
حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن
الذكر يقتل بالأنثى وهو عندهما عن عبد اللّه
بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن
في الكتاب الذي كتبه رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم أن الذكر يقتل
بالأنثى ووصله نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن
معمر عن عبد اللّه بن أبي بكر بن حزم عن أبيه
عن جده وجده محمد بن عمرو بن حزم ولد في عهد
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن لم يسمع
منه كما قال الحافظ. وكذا أخرجه عبد الرزاق
عن معمر ومن طريقه الدارقطني. ورواه أبو
داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن
الزهري مرسلًا. ورواه أبو داود في المراسيل
عن ابن شهاب قال: "قرأت في كتاب رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم
حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر
بن حزم" ورواه النسائي وابن حبان والحاكم
والبيهقي موصولا مطولا من حديث الحكم بن موسى
عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود حدثني
الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه عن جده وفرقه الدارمي في مسنده عن الحكم
مقطعًا.
قال الحافظ:
وقد اختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث فقال
أبو داود في المراسيل: قد أسند هذا الحديث
ولا يصح والذي في إسناد سليمان بن داود وهم
إنما هو سليمان بن أرقم وقال في موضع آخر:
لا أحدث به وقد وهم الحكم بن موسى في قوله
سليمان بن داود وقد حدثني محمد بن الوليد
الدمشقي أنه قرأ في أصل يحيى بن حمزة سليمان
بن أرقم وهكذا قال أبو زرعة الدمشقي أنه
الصواب وتبعه صالح بن محمد جزرة وأبو الحسن
الهروي وغيرهما وقال صالح جزرة حدثنا دحيم قال
قرأت في كتاب يحيى بن حمزة حديث عمرو بن حزم
فإذا هو عن سليمان بن أرقم قال صالح كتب عني
هذه الحكاية مسلم بن الحجاج.
قال الحافظ أيضًا:
ويؤيد هذه الحكاية ما رواه النسائي عن الهيثم
بن مروان عن محمد بن بكار عن يحيى بن حمزة عن
سليمان بن أرقم عن الزهري وقال هذا أشبه
بالصواب.
وقال ابن حزم في المحلى:
صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم بها حجة
وسليمان بن داود متفق على تركه. وقال عبد
الحق: سليمان بن داود الذي يروي هذه النسخة
عن الزهري ضعيف ويقال إنه سليمان بن أرقم
وتعقبه ابن عدي فقال: هذا خطأ إنما هو
سليمان بن داود وقد جوده الحكم بن موسى وقال
أبو زرعة: عرضت على أحمد فقال سليمان بن
داود اليمامي ضعيف وسليمان بن داود الخولاني
ثقة وكلاهما يروي عن الزهري والذي روى حديث
الصدقات هو الخولاني فمن ضعفه فإنما ظن أن
الراوي هو اليمامي وقد أثنى على سليمان بن
داود الخولاني هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان
بن سعيد وجماعة من الحفاظ. وحكى الحاكم عن
أبي حاتم أنه سئل عن عمرو بن حزم فقال سليمان
بن داود عندنا ممن لا بأس به وقد صحح هذا
الحديث ابن حبان والحاكم والبيهقي ونقل عن
أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحًا وصححه
أيضًا من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد جماعة
من الأئمة
ج / 7 ص -19-
منهم الشافعي فإنه قال في رسالته: لم
يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقال ابن عبد البر:
هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه
عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه
أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول
والمعرفة. قال: ويدل على شهرته ما روى ابن
وهب عن مالك عن الليث ابن سعد عن يحيى بن سعيد
عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم
يذكرون أنه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم.
وقال العقيلي:
هذا حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه كتاب غير
مسموع عمن فوق الزهري.
وقال يعقوب ابن أبي سفيان:
لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصح من
كتاب عمرو بن حزم هذا فإن أصحاب رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم والتابعين يرجعون
إليه ويدعون رأيهم.
قال الحاكم:
قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري
بالصحة لهذا الكتاب ثم ساق ذلك بسنده إليهما
وسيأتي لفظ هذا الحديث في أبواب الديات هذا
غاية ما يمكن الاستدلال به للجمهور. ومما
يقوي ما ذهبوا إليه قوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"وهم يقتلون قاتلها" وسيأتي في باب أن الدم حق لجميع الورثة من الرجال والنساء. ووجهه
ما فيه من العموم الشامل للرجل والمرأة.
ومما يقوي ما ذهبوا إليه أيضًا أنّا قد علمنا
أن الحكمة في شرعية القصاص هي حقن الدماء
وحياة النفوس كما يشير إلى ذلك قوله تعالى {وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
وترك الاقتصاص للأنثى من الذكر يفضي إلى إتلاف
نفوس الإناث لأمور كثيرة. منها كراهية
توريثهن. ومنها مخافة العار لا سيما عند
ظهور أدنى شيء منهن لما بقي في القلوب من حمية
الجاهلية التي نشأ عنها الوأد ومنها كونهن
مستضعفات لا يخشى من رام القتل لهن أن يناله
من المدافعة ما يناله من الرجال فلا شك ولا
ريب أن الترخيص في ذلك من أعظم الذرائع
المفضية إلى هلاك نفوسهن ولا سيما في مواطن
الأعراب المتصفين بغلط القلوب وشدة الغيرة
والأنفة اللاحقة بما كانت عليه
الجاهلية."لا يقال" يلزم مثل هذا في
الحر إذا قتل عبدًا لأن الترخيص في القود يفضي
إلى مثل ذلك الأمر لأنا نقول هذه المناسبة
إنما تعتبر مع عدم معارضتها لما هو مقدم عليها
من الأدلة فلا يعمل بها في الاقتياد للعبد من
الحر لما سلف من الأدلة القاضية بالمنع ويعمل
بها في الاقتياد للأنثى من الذكر لأنها لم
تعارض ما هو كذلك بل جاءت مظاهرة للأدلة
القاضية بالثبوت.
- وفي حديث الباب - دليل
على أنه يثبت القصاص في القتل بالمثقل وسيأتي
بيان الخلاف فيه. وفيه أيضًا دليل على أنه
يجوز القود بمثل ما قتل به المقتول وإليه ذهب
الجمهور ويؤيد ذلك عموم قوله تعالى
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله تعالى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وما أخرجه البيهقي والبزار عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من حديث
البراء وفيه: "ومن
حرق حرقناه ومن غرق غرقناه".
قال البيهقي: في إسناده بعض من يجهل وإنما
قاله زياد في خطبته وهذا إذا كان السبب الذي
وقع القتل به مما يجوز فعله لا إذا كان لا
يجوز كمن قتل غيره بإبجاره الخمر أو اللواط
به. وذهبت العترة والكوفيون ومنهم أبو حنيفة
وأصحابه إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا
بالسيف. واستدل بحديث النعمان بن بشير عند
ابن ماجه والبزار
ج / 7 ص -20-
والطحاوي والطبراني والبيهقي بألفاظ
مختلفة. منها
"لا قود إلا بالسيف" وأخرجه ابن ماجه أيضًا والبزار والبيهقي من
حديث أبي بكرة. وأخرجه الدارقطني والبيهقي
من حديث أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني من
حديث علي. وأخرجه البيهقي والطبراني من حديث
ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن
مرسلا وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من
ضعيف أو متروك حتى قال أبو حاتم: حديث
منكر. وقال عبد الحق وابن الجوزي: طرقه
كلها ضعيفة. وقال البيهقي: لم يثبت له
إسناد.
ويؤيد معنى هذا الحديث
الذي يقوي بعض طرقه بعضًا حديث شداد بن أوس
عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا
الذبحة"
وإحسان القتل لا يحصل بغير ضرب العنق بالسيف
كما يحصل به ولهذا كان صلى اللّه عليه وآله
وسلم يأمر بضرب عنق من أراد قتله حتى صار ذلك
هو المعروف في أصحابه فإذا رأوا رجلا يستحق
القتل قال قائلهم يا رسول اللّه دعني أضرب
عنقه حتى قيل إن القتل بغير ضرب العنق بالسيف
مثلة وقد ثبت النهي عنها كما سيأتي.
وأما حديث ابن عمر:
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"يقتل القاتل ويصبر الصابر" أخرجه البيهقي والدارقطني وصححه ابن القطان. فالأشهر فيه رواية
معمر عن إسماعيل بن أمية مرسلا. وقد قال
الدارقطني الإرسال فيه أكثر. وقال البيهقي
الموصول غير محفوظ.
وأما حديث أنس المذكور
في الباب فقد أجيب عنه بأنه فعل لا ظاهر له
فلا يعارض ما ثبت من الأقوال في الأمر بإحسان
القتلة والنهي عن المثلة وحصر القود في
السيف.
2 - وعن حمل بن مالك
قال: "كنت بين امرأتين فضربت إحداهما
الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها
فقضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في
جنينها بغرة وأن تقتل بها". رواه الخمسة إلا الترمذي.
3 - وعن أنس قال:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة". رواه النسائي.
4 - وعن عمران بن حصين
قال: "ما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطبة إلا أمرنا
بالصدقة ونهانا عن المثلة".
رواه أحمد. وله مثله من رواية سمرة.
الحديث الأول أصله في
الصحيحين من حديث أبي هريرة والمغيرة بن شعبة
ولكن بدون زيادة قوله: "وأن تقتل بها"
التي هي المقصود من ذكر الحديث ههنا وقد قال
المنذري: إن هذه الزيادة لم تذكر في غير هذه
الرواية. وحديث أنس رجال إسناده ثقات فإن
النسائي قال أخبرنا محمد بن المثنى حدثنا عبد
الصمد حدثنا هشام عن قتادة عن أنس فذكره.
وحديث عمران بن حصين في مجمع الزوائد رواه
الطبراني في الكبير وفيه من لم أعرفهم
انتهى. وأحاديث النهي عن المثلة
ج / 7 ص -21-
أيضًا أصلها في صحيح البخاري من حديث عبد
اللّه بن يزيد الأنصاري وفي غيره من حديث ابن
عباس قال الترمذي: وفي الباب يعني في النهي
عن المثلة عن عبد اللّه بن مسعود وشداد بن أوس
وسمرة والمغيرة ويعلى بن مرة وأبي أيوب
انتهى.
قوله: "بمسطح"
بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الطاء
المهملة أيضًا بعدها حاء مهملة. قال أبو
داود: قال النضر بن شميل: المسطح هو
الصولج انتهى. والصولج الذي يرقق به الخبز
وقال أبو عبيد: هو عود من أعواد الخباء.
وقد استدل المصنف رحمه
اللّه بحديث حمل بن مالك المذكور على أنه يثبت
القصاص في القتل بالمثقل وإليه ذهب الجمهور
ومن أدلتهم أيضًا حديث أنس المذكور أول
الباب. وحكي في البحر عن الحسن البصري
والشعبي والنخعي وأبي حنيفة أنه لا قصاص
بالمثقل واحتجوا بما أخرجه البيهقي من حديث
النعمان بن بشير قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"كل شيء خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش" وفي لفظ:
"كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش"
وهذا الحديث يدور على جابر الجعفي وقيس بن
الربيع ولا يحتج بهما وأيضًا هذا الدليل أخص
من الدعوى فإن أبا حنيفة يوجب القصاص بالمحدد
ولو كان حجرًا أو خشبًا ويوجبه أيضًا
بالمنجنيق لكونه معروفًا بقتل الناس وبالإلقاء
في النار فالراجح ما ذهب إليه الجمهور لأن
المقصود بالقصاص صيانة الدماء من الإهدار
والقتل بالمثقل كالقتل بالمحدد في إتلاف
النفوس فلو لم يجب به القصاص كان ذلك ذريعة
إلى إزهاق الأرواح والأدلة الكلية القاضية
بوجوب القصاص كتابًا وسنة وردت مطلقة غير
مقيدة بمحدد أو غيره وهذا إذا كانت الجناية
بشيء يقصد به القتل في العادة وكان الجاني
عامدًا لا لو كانت بمثل العصا والسوط والبندقة
ونحوها فلا قصاص فيها عند الجمهور وهي شبه
العمد على ما سيأتي تحقيقه وسيأتي أيضًا بقية
الكلام على حديث حمل بن مالك في باب دية
الجنين من أبواب الديات - وقد استدل -
بالأحاديث المذكورة في النهي عن المثلة
القائلون بأنه لا يجوز الاقتصاص بغير السيف
وقد قدمنا الخلاف في ذلك. قال الترمذي:
وكره أهل العلم المثلة.
باب ما جاء في
شبه العمد
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
"عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل
صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون
دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح".
رواه أحمد وأبو داود.
2 - وعن عبد اللّه بن
عمرو: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
"ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو
العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في
بطونها أولادها".
رواه الخمسة إلا الترمذي. ولهم من حديث عبد
اللّه بن عمر مثله.
ج / 7 ص -22-
حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد
الدمشقي المكحولي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه
غير واحد. والحديث الثاني أخرجه أيضًا
البخاري في التاريخ وساق اختلاف الرواة فيه
وأخرجه الدارقطني في سننه وساق أيضًا فيه
الاختلاف وقد صححه ابن حبان. وقال ابن
القطان: هو صحيح ولا يضره الاختلاف.
وحديث عبد اللّه بن عمر
الذي أشار إليه المصنف لفظه في سنن أبو داود
قال: "خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يوم الفتح على درجة البيت أو الكعبة"
وذكر مثل الحديث الذي قبله وذكر له طرقًا في
بعضها علي بن يزيد بن جدعان ولا يحتج بحديثه
وسيأتي في باب أجناس مال الدية حديث عقبة بن
أوس عن رجل من الصحابة وهو مثل حديث عبد اللّه
بن عمرو الثاني.
- وفي الباب - عن علي
عند أبي داود أنه قال في شبه العمد أثلاثًا
ثلاث وثلاثون حقة. وثلاث وثلاثون جذعة.
وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها كلها
خلفة. وفي إسناده عاصم بن ضمرة وقد تكلم فيه
غير واحد. وعن علي أيضًا عند أبي داود
قال: "في
الخطأ أرباعًا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون
جذعة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات
مخاض" وعن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت عند أبي داود قالا في المغلظة
أربعون جذعة خلفة وثلاثون حقة وثلاثون بنات
لبون وفي الخطأ ثلاثون حقة وثلاثون بنات لبون
وعشرون بني لبون ذكورًا وعشرون بنات مخاض.
وأخرج أبو داود عن علقمة
والأسود أنهما قالا قال عبد اللّه في شبه
العمد خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس
وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. -
وقد استدل - بأحاديث الباب من قال إن القتل
على ثلاثة أضرب: عمد. وخطأ. وشبه عمد.
وإليه ذهب زيد بن علي والشافعية والحنفية
والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور
وجماهير من العلماء من الصحابة والتابعين ومن
بعدهم فجعلوا في العمد القصاص. وفي الخطأ
الدية التي سيأتي تفصيلها. وفي شبه العمد
وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا
والسوط والإبرة مع كونه قاصدًا للقتل دية
مغلظة وهي مائة من الإبل أربعون منها في
بطونها أولادها.
وقال ابن أبي ليلى: إن
قتل بالحجر أو العصا فإن كرر ذلك فهو عمد وإلا
فخطأ.
وقال عطاء وطاوس: شرط
العمد أن يكون بسلاح. وقال الجصاص: القتل
ينقسم إلى عمد وخطأ وشبه العمد وجار مجرى
الخطأ وهو ما ليس إنهاء كفعل الصلحاء.
قال الإمام يحيى: ولا
ثمرة للخلاف إلا في شبه العمد. وقال مالك
والليث والهادي والناصر والمؤيد باللّه وأبو
طالب: إن القتل ضربان عمد وخطأ فالخطأ ما
وقع بسبب من الأسباب أو من غير مكلف أو غير
قاصد للمقتول أو للقتل بما مثله لا يقتل في
العادة والعمد ما عداه والأول لا قود فيه.
وقد حكى صاحب البحر
الإجماع على ذلك والثاني فيه القود. ولا
يخفى أن أحاديث الباب صالحة للاحتجاج بها على
إثبات قسم ثالث وهو شبه العمد وإيجاب دية
مغلظة على فاعله وسيأتي تفصيل الديات وذكر
أجناسها إن شاء اللّه تعالى .
ج / 7 ص -23-
باب من أمسك رجلا وقتله آخر.
1 - عن ابن عمر: عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك". رواه الدارقطني.
2 - وعن علي رضي اللّه
عنه: "أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدًا
وأمسكه آخر قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر في
السجن حتى يموت". رواه الشافعي.
حديث ابن عمر أخرجه
الدارقطني من طريق الثوري عن إسماعيل بن أمية
عن نافع عن ابن عمر ورواه معمر وغيره عن
إسماعيل. قال الدارقطني: والإرسال أكثر.
وأخرجه أيضًا البيهقي ورجح المرسل وقال: إنه
موصول غير محفوظ. قال الحافظ في بلوغ
المرام: ورجاله ثقات وصححه ابن القطان.
وقد روي أيضًا عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب
مرفوعًا والصواب عن إسماعيل قال: "قضى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم"
الحديث. ورواه ابن المبارك عن معمر عن سفيان
عن إسماعيل يرفعه قال: اقتلوا القاتل
وأصبروا الصابر يعني احبسوا الذي أمسك. وأثر
علي رضي اللّه عنه هو من طريق سفيان عن جابر
عن عامر عنه.
- والحديث - فيه دليل
على أن الممسك للمقتول حال قتل القاتل له لا
يلزمه القود ولا يعد فعله مشاركة حتى يكون ذلك
من باب قتل الجماعة بالواحد بل الواجب حبسه
فقط. وقد حكى صاحب البحر هذا القول عن
العترة والفريقين يعني الشافعية والحنفية.
- وقد استدل - لهم
بالحديث والأثر المذكورين وبقوله تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
وحكي في البحر أيضًا عن النخعي ومالك والليث
أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل لأنهما شريكان
إذ لولا الإمساك لما حصل القتل. أجيب بأن
ذلك تسبب مع مباشرة ولا حكم له معها والحق
العمل بمقتضى الحديث المذكور لأن إعلاله
بالإرسال غير قادح على ما ذهب إليه أئمة
الأصول وجماعة من أئمة الحديث وهو الراجح لأن
الإسناد زيادة مقبولة يتحتم الأخذ بها والحبس
المذكور جعله الجمهور موكولا إلى نظر الإمام
في طول المدة وقصرها لأن الغرض تأديبه وليس
بمقصود استمراره إلى الموت وقد أخذ بما روي عن
علي رضي اللّه عنه من الحبس إلى الموت
ربيعة.
باب القصاص في
كسر السن
1 - عن أنس: "أن
الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها
العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأبوا إلا
القصاص فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول
اللّه أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق
لا تكسر ثنيتها فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"يا أنس كتاب اللّه القصاص"
فرضي القوم فعفوا فقال رسول اللّه
ج / 7 ص -24-
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبره". رواه البخاري والخمسة إلا الترمذي.
قوله: "الربيع"
بضم الراء وهي بنت النضر.
قوله: "فطلبوا إليها
العفو" أي طلب أهل الجانية إلى المجني عليها
العفو فأبى أهل المجني عليها. وفي رواية
للبخاري فطلبوا إليهم العفو فأبوا أي إلى أهل
المجني عليها.
قوله: "فأمر رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" الخ فيه
دليل على وجوب القصاص في السن وقد حكى صاحب
البحر الإجماع على ذلك وهو نص القرآن وظاهر
الحديث وجوب القصاص ولو كان ذلك كسرًا لا
قلعًا ولكن بشرط أن يعرف مقدار المكسور ويمكن
أخذ مثله من سن الكاسر فيكون الاقتصاص بأن
تبرد سن الجاني إلى الحد الذاهب من سن المجني
عليه كما قال أحمد بن حنبل وقد حكى الإجماع
على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه
الهلاك وحكى عن الليث والشافعي والحنفية أنه
لا قصاص في العظم الذي ليس بسن لأن المماثلة
متعذرة لحيلولة اللحم والعصب والجلد. قال
الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم
الرأس فيلحق به سائر العظام وتعقب بأنه مخالف
لحديث الباب فيكون فاسد الاعتبار وقد تأول من
قال بعدم القصاص في العظم مطلقًا إذا كسر هذا
الحديث بأن المراد بقوله كسرت ثنية جارية أي
قلعتها وهو تعسف.
قوله: "لا والذي
بعثك بالحق" الخ قيل لم يرد بهذا القول رد
حكم الشرع وإنما أراد التعريض بطلب الشفاعة
وقيل إنه وقع منه ذلك قبل علمه بوجوب القصاص
إلا أن يختار المجني عليه أو ورثته الدية أو
العفو وقيل غير ذلك وجميع ما قيل لا يخلو من
بعد ولكنه يقربه ما وقع منه صلى اللّه عليه
وآله وسلم من الثناء عليه بأنه ممن أبر اللّه
قسمه ولو كان مريدًا بيمينه رد ما حكم اللّه
به لكان مستحقًا لأوجع القول وأفظعه.
قوله: "كتاب
اللّه" الأشهر فيه الرفع على أنه مبتدأ
والقصاص خبره ويجوز فيه النصب على المصدرية
لفعل محذوف كما في صبغة اللّه ووعد اللّه
ويكون القصاص مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف
وأشار صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك إلى قوله
تعالى
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
وقيل إلى قوله تعالى
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
وهو الظاهر.
باب من عض يد
رجل فانتزعها فسقطت ثنيته
1 - عن عمران بن حصين:
"أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت
ثنيتاه فاختصموا إلى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال:
"يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك". رواه الجماعة إلا أبا داود.
2 - وعن يعلى بن أمية
قال: "كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعض
أحدهما صاحبه فانتزع إصبعه فأندر ثنيته فسقطت
فانطلق إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فأهدر ثنيته وقال:
"أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل".
رواه الجماعة إلا الترمذي.
ج / 7 ص -25-
في رواية مسلم عن عمران بن حصين أنه قال:
"قاتل يعلى بن أمية رجلًا فعض أحدهما
صاحبه" ظاهره يخالف ما في حديث يعلى المذكور
من قوله: "كان لي أجير فقاتل إنسانًا"
وسيأتي الجمع.
قوله: "عض يد رجل"
في رواية لمسلم: "عض ذراع رجل" وفي
رواية للبخاري: "فعض إصبع صاحبه" وقد
جمع بتعدد القصة وقيل رواية الذراع أرجح من
رواية الإصبع لأنها من طريق جماعة كما حقق ذلك
صاحب الفتح.
قوله: "ثنيتاه"
هكذا في رواية البخاري عند الأكثر. وفي
رواية للكشميهني ثناياه بصيغة الجمع. وفي
رواية بصيغة الإفراد كما وقع في حديث يعلي
ويجمع بين ذلك بأنه أريد بصيغة الإفراد الجنس
وجعل صيغة الجمع مطابقة لصيغة التثنية عند من
يجيز إطلاق صيغة الجمع على المثنى ولكنه وقع
في رواية للبخاري إحدى ثنيتيه وهي مصرحة
بالإفراد والجمع بتعدد الواقعة بعيد.
قوله: "فاختصموا"
في رواية بصيغة التثنية.
قوله: "يعض أحدكم"
بفتح أوله وبفتح العين المهملة بعدها ضاد
معجمة مشددة لأن أصله عضض بكسر الضاد الأولى
يعضض بفتحها ثم أدغمت ونقلت الحركة التي عليها
إلى ما قبلها والمراد بالفحل الذكر من
الإبل.
قوله: "فعض أحدهما
صاحبه" لم يصرح بالفاعل وقد ورد في بعض
الروايات أن رجلًا من بني تميم قاتل رجلًا فعض
يده ويعلى هو من بني تميم ويدل على ذلك رواية
مسلم المتقدمة واستبعد القرطبي وقوع مثل ذلك
من مثل يعلى وأجيب باحتمال أن يكون ذلك في أول
الإسلام قال النووي: إن الرواية الأولى من
صحيح مسلم تدل على أن المعضوض يعلى.
وفي الرواية الثانية
والثالثة منه أن المعضوض أجير يعلى وقد رجح
الحافظ أن المعضوض أجير يعلى قال ويحتمل أنهما
قصتان وقعتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين
وقد تعقب الزين العراقي في شرح الترمذي ما
قاله النووي بأنه ليس في رواية مسلم ولا غيره
من الكتب الستة ولا غيرها ما يدل على أن يعلى
هو المعضوض لا صريحًا ولا إشارة قال فيتعين أن
يكون يعلى هو العاض انتهى. ولكنه يشكل على
ذلك ما في حديث يعلى المذكور في الباب من أن
المقاتلة وقعت بين أجيره وإنسان آخر فلا بد من
الجمع بتعدد القصة كما سلف.
قوله: "فأندر"
بالنون والدال المهملة والراء أي أزال
ثنيته.
قوله: "يقضمها"
بسكون القاف وفتح الضاد المعجمة على الأفصح
وهو الإمساك بأطراف الأسنان ـ والحديثان ـ
يدلان على أن الجناية إذا وقعت على المجني
عليه بسبب منه كالقصة المذكورة وما شابهها فلا
قصاص ولا أرش وإليه ذهب الجمهور ولكن بشرط أن
لا يتمكن المعضوض مثلًا من إطلاق يده أو نحوها
بما هو أيسر من ذلك وأن يكون ذلك العض مما
يتألم به المعضوض وظاهر الدليل عدم الاشتراط
وقد قيل إنه من باب التقييد بالقواعد الكلية
وفي وجه للشافعية أنه يهدر مطلقًا.
وروي عن مالك أنه يجب
الضمان في مثل ذلك وهو محجوج بالدليل الصحيح
وقد تأول أتباعه ذلك الدليل بتأويلات في غاية
السقوط وعارضوه بأقيسة باطلة. وما أحسن ما
قال بن يحيى بن يعمر: لو بلغ مالكًا هذا
الحديث لم يخالفه وكذا قال ابن بطال .
ج / 7 ص -26-
باب من اطلع في بيت قوم مغلق عليهم بغير
إذنهم.
1 - عن سهل بن سعد:
"أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم ومع رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم مدري برجل به رأسه فقال
له:
"لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عينك إنما جعل
الأذن من أجل البصر".
2 - وعن أنس: "أن رجلا اطلع في بعض حجر النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقام إليه النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم بمشقص أو بمشاقص فكأني أنظر
إليه يختل الرجل ليطعنه".
3 - وعن أبي هريرة:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"لو أن رجلا اطلع عليك بغير أذن فخذفته
بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح". متفق عليهن.
4 - وعن أبي هريرة:
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن
يفقؤا عينه".
رواه أحمد ومسلم.
وفي رواية:
"من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه
فلا دية له ولا قصاص". رواه أحمد والنسائي.
اللفظ الآخر من حديث أبي
هريرة الآخر أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه.
قوله: "مدرى"
المدرى بكسر الميم وسكون الدال المهملة عود
يشبه أحد أسنان المشط وقد يجعل من حديد.
قوله: "بمشقص"
بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح القاف
بعدها صاد. قال في القاموس: المشقص كمنبر
نصل عريض أو سهم فيه ذلك والنصل الطويل أو سهم
فيه ذلك يرمى به الوحش.
قوله: "يختل" بفتح
الياء التحتية وسكون الخاء المعجمة بعدها
مثناة مكسورة وهو الخدع والاختفاء على ما في
القاموس.
قوله: "ليطعنه"
بضم العين وقد تفتح.
قوله: "فخذفته"
الخذف بالخاء المعجمة الرمي بالحصاة وأما
بالحاء المهملة فهو بالعصا لا بالحصا.
- وقد استدل - بأحاديث
الباب من قال إن من قصد النظر إلى مكان لا
يجوز له الدخول إليه بغير إذن جاز للمنظور إلى
مكانه أن يفقأ عينه ولا قصاص ولا دية للتصريح
بذلك في الحديث الآخر ولقوله:
"فقد حلَّ لهم أن يفقؤا عينه"
ومقتضى الحل أنه لا يضمن ولا يقتص منه
ولقوله: "ما
كان عليك من جناح" وإيجاب القصاص أو الدية جناح ولأن قوله
صلى اللّه عليه وآله وسلم المذكور لو أعلم أنك
تنظر طعنت به في عينك يدل على الجواز.
وقد ذهب إلى مقتضى هذه
الأحاديث جماعة من العلماء منهم الشافعي.
وخالفت المالكية هذه الأحاديث فقالت إذا فعل
صاحب المكان بمن اطلع عليه ما أذن به النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وجب عليه القصاص أو
الدية وساعدهم على ذلك جماعة من العلماء وغاية
ما عولوا عليه قولهم إن المعاصي لا تدفع
بمثلها وهذا من الغرائب التي يتعجب المنصف من
الإقدام على التمسك بمثلها في مقابلة تلك
الأحاديث الصحيحة فإن كل عالم يعلم أن ما أذن
فيه الشارع ليس بمعصية فكيف يجعل فقء عين
ج / 7 ص -27-
المطلع من باب مقابلة المعاصي بمثلها ومن
جملة ما عولوا عليه قولهم إن الحديث وارد على
سبيل الغليظ والإرهاب ويجاب عنه بالمنع والسند
أن ظاهر ما بلغنا عنه صلى اللّه عليه وآله
وسلم محمول على التشريع إلا لقرينة تدل على
إرادة البالغة وقد تخلص بعضهم عن الحديث بأنه
مؤوّل بالإجماع على أن من قصد النظر على عورة
غيره لم يكن ذلك مبيحًا لفقء عينه ولا سقوط
ضمانها ويجاب أولا بمنع الإجماع وقد نازع
القرطبي في ثبوته وقال إن الحديث يتناول كل
مطلع قال لأن الحديث المذكور إنما هو لمظنة
الإطلاع على العورة فبالأولى نظرها المحقق ولو
سلم الإجماع المذكور لم يكن معارضًا لما ورد
به الدليل لأنه في أمر آخر فإن النظر إلى
البيت ربما كان مفضيًا إلى النظر إلى الحرم
وسائر ما يقصد صاحب البيت ستره عن أعين
الناس.
وفرق بعض الفقهاء بين من
كان من الناظرين في الشارع وفي خالص ملك
المنظور إليه وبعضهم فرق بين من رمى الناظر
قبل الإنذار وبعده وظاهر أحاديث الباب عدم
الفرق. - والحاصل - أن لأهل العلم في هذه
الأحاديث تفاصيل وشروطًا واعتبارات يطول
استيفاؤها وغالبها مخالف لظاهر الحديث وعاطل
عن دليل خارج عنه وما كان هذا سبيله فليس في
الاشتغال ببسطه ورده كثير فائدة وبعضها مأخوذ
من فهم المعنى المقصود بالأحاديث المذكورة ولا
بد أن يكون ظاهر الإرادة واضح الاستفادة
وبعضها مأخوذ من القياس وشرط تقييد الدليل به
أن يكون صحيحًا معتبرًا على سنن القواعد
المعتبرة في الأصول .
باب النهي عن
الاقتصاص في الطرف قبل الاندمال
1 - عن جابر: "أن
رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن يستقاد من الجارح حتى
يبرأ المجروح". رواه الدارقطني.
2 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن رجلا طعن رجلا بقرن في
ركبته فجاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال: أقدني فقال:
حتى تبرأ
ثم جاء إليه فقال: أقدني فأقاده ثم جاء إليه
فقال: يا رسول اللّه عرجت قال: قد نهيتك فعصيتني فأبعدك اللّه وبطل عرجك ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ
صاحبه".
رواه أحمد والدارقطني. حديث جابر أخرجه أيضًا أبو بكر ابن أبي
شيبة عن ابن علية عن أيوب عن عمرو بن دينار
عنه. وأخرجه أيضًا عثمان بن أبي شيبة بهذا
الإسناد وقال أبو الحسن الدارقطني أخطأ فيه
ابنا أبي شيبة وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره
فرووه عن ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلًا
وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار عنه وهو
المحفوظ يعني المرسل وأخرجه أيضًا البيهقي من
حديث جابر مرسلا بإسناد آخر. وقال: تفرد
به عبد اللّه الأموي عن ابن جريج وعنه يعقوب
بن حميد
ج / 7 ص -28-
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن جابر قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"تقاس الجراحات ثم يتأنى بها ثم يقضي فيها
بقدر ما انتهت إليه" وفي إسناده ابن لهيعة وكذا رواه جماعة من الضعفاء عن أبي الزبير من
وجهين آخرين عن جابر ولم يصح شيء من ذلك وحديث
عمرو بن شعيب قال الحافظ في بلوغ المرام:
وأعل بالإرسال وقد تقدم الخلاف في سماع عمرو
بن شعيب واتصال إسناده. وأخرجه أيضًا
الشافعي والبيهقي من طريق عمرو بن دينار عن
محمد بن طلحة.
- وقد استدل - بالحديثين
المذكورين من قال إنه يجب الانتظار إلى أن
يبرأ الجرح ويندمل ثم يقتص المجروح بعد ذلك
وإليه ذهبت العترة وأبو حنيفة ومالك وذهب
الشافعي إلى أنه يندب فقط وتمسك بتمكينه صلى
اللّه عليه وآله وسلم الرجل المطعون بالقرن
المذكور في حديث الباب من القصاص قبل البرء.
واستدل صاحب البحر على الوجوب بقوله صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"اصبروا حتى يسفر الجرح" وأصله: "أن رجلا طعن حسان بن ثابت فاجتمعت الأنصار ليأخذ لهم
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم القصاص
فقال:
انتظروا حتى يبرأ صاحبكم ثم أقتص لكم فبرئ حسان ثم عفا" وهذا الحديث إن صح فحديث عمرو بن شعيب قرينة
لصرفه من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي كما
أنه قرينة لصرف النهي المذكور في حديث جابر
إلى الكراهة.
وأما ما قيل من أن ظهور
مفسدة التعجيل للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قرينة أن أمره الأنصار بالانتظار للوجوب لأن
دفع المفاسد واجب كما قال في ضوء النهار فيجاب
عنه بأن محل الحجة هو أذنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بالاقتصاص قبل الاندمال وهو لا يأذن
إلا بما كان جائزًا وظهور المفسدة غير قادح في
الجواز المذكور وليس ظهورها بكلي ولا أكثري
حتى تكون معلومة عند الاقتصاص قبل الاندمال أو
مظنونة فلا يجب ترك الإذن دفعًا للمفسدة
الناشئة منه نادرًا نعم قوله: "ثم نهى أن
يقتص من جرح" الخ يدل على تحريم الاقتصاص
قبل الاندمال لأن لفظ ثم يقتضي الترتيب فيكون
النهي الواقع بعدها ناسخًا للإذن الواقع
قبلها.
باب في أن الدم
حق لجميع الورثة من الرجال والنساء
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا ولا
يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت
فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها".
رواه الخمسة إلا الترمذي.
2 - وعن عائشة: أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت
امرأة".
رواه أبو داود والنسائي. وأراد بالمقتتلين
أولياء المقتول الطالبين القود وينحجزوا أي
ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة.
وقوله: "الأول فالأول" أي الأقرب
فالأقرب.
ج / 7 ص -29-
حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد
الدمشقي المكحولي وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه
غير واحد وهو حديث طويل هذا طرف منه وقد بسطه
أبو داود في سننه.
وحديث عائشة في إسناده
حصن بن عبد الرحمن ويقال ابن محصن أبو حذيفة
الدمشقي. قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم
روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم أحدًا نسبه.
قوله: "أن يعقل"
العقل الدية والمراد ههنا بقوله أن يعقل أن
يدفع عن المرأة ما لزمها من الدية عصبتها
والعصبة محركة الذين يرثون الرجل عن كلالة من
غير والد ولا ولد فأما في الفرائض فكل من لم
تكن له فريضة مسماة فهو عصبة إن بقي بعد الفرض
أحد وقوم الرجل الذين يتعصبون له كذا في
القاموس.
قوله: "أن
ينحجزوا" بحاء مهملة ثم جيم ثم زاي وقد فسره
أبو داود بما ذكره المصنف وقد استدل المصنف
بالحديثين المذكورين على أن المستحق للدم جميع
ورثة القتيل من غير فرق بين الذكر والأنثى
والسبب والنسب فيكون القصاص إليهم جميعًا
وإليه ذهبت العترة والشافعي وأبو حنيفة
وأصحابه وذهب الزهري ومالك إلى أن ذلك يختص
بالعصبة قالا: لأنه مشروع لنفي العار كولاية
النكاح فإن وقع العفو من العصبة فالدية عندهما
كالتركة وقال ابن سيرين: إنه يختص بدم
المقتول الورثة من النسب إذ هو مشروع للتشفي
والزوجية ترتفع بالموت ورد بأنه شرع لحفظ
الدماء واستدل لذلك في البحر بقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وبقول عمر حين عفت أخت المقتول عتق عن القتل قال ولم يخالف وسيأتي
في باب ما تحمله العاقلة بيان كيفية العفو
واختلاف الأدلة في ثبوته إن شاء اللّه
تعالى.
باب فضل العفو
عن الاقتصاص والشفاعة في ذلك
1 - عن أبي هريرة: عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده اللّه بها عزًا". رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
2 - وعن أنس قال: "ما
رفع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو".
رواه الخمسة إلا الترمذي.
3 - وعن أبي الدرداء
قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
"ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا
رفعه اللّه به درجة وحط به عنه خطيئة". رواه ابن ماجه والترمذي.
4 - وعن عبد الرحمن بن
عوف: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفًا
عليهن لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ولا يعفو
عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه اللّه عز وجل إلا
زاده اللّه بها عزًا يوم القيامة ولا يفتح عبد
باب مسألة إلا فتح اللّه عليه باب فقر".
رواه أحمد.
ج / 7 ص -30-
حديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده
لا بأس به. وحديث أبي الدرداء هو من رواية
أبي السفر عن أبي الدرداء قال الترمذي: هذا
حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ولا أعرف
لأبي السفر سماعًا من أبي الدرداء وأبو السفر
اسمه سعيد بن أحمد ويقال ابن محمد الثوري
وحديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أيضًا أبو يعلى
والبزار وفي إسناده رجل لم يسم.
وأخرجه البزار من طريق
أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه
وقال: إن الرواية هذه أصح ويشهد لصحته ما
ورد من الأحاديث في الترغيب في الصدقة
والتنفير عن المسألة وقد تقدمت وأما فضل العفو
المذكور فيه فهو مثل حديث أبي هريرة المذكور
في الباب والترغيب في العفو ثابت بالأحاديث
الصحيحة ونصوص القرآن الكريم ولا خلاف في
مشروعية العفو في الجملة وإنما وقع الخلاف
فيما هو الأولى للمظلوم هل العفو عن ظالمه أو
الترك فمن رجح الأول قال إن اللّه سبحانه لا
يندب عباده إلى العفو إلا ولهم فيه مصلحة
راجحة على مصلحة الانتصاف من الظالم فالعافي
له من الأجر بعفوه عن ظالمه فوق ما يستحقه من
العوض عن تلك المظلمة من أخذ أجر أو وضع وزر
لو لم يعف عن ظالمه ومن رجح الثاني قال: إنا
لا نعلم هل عوض المظلمة أنفع للمظلوم أم أجر
العفو ومع التردد في ذلك ليس إلى القطع
بأولوية العفو طريق ويجاب بأن غاية هذا عدم
الجزم بأولوية العفو لا الجزم بأولوية الترك
الذي هو الدعوى ثم الدليل قائم على أولوية
العفو لأن الترغيب في الشيء يستلزم راجحيته
ولا سيما إذا نص الشارع على أنه من موجبات رفع
الدرجات وحط الخطيئات وزيادة العز كما وقع في
أحاديث الباب ونحن لا ننكر أن المظلوم الذي لم
يعف عن ظلامته عوضًا عنها فيأخذ من حسنات
ظالمه أو يضع عليه من سيئاته ولكنه لا يساوي
الأجر الذي يستحقه العافي لأن الندب إلى العفو
والإرشاد إليه والترغيب فيه يستلزم ذلك وإلا
لزم أن يكون ما هو بتلك الصفة مساويًا أو
مفضولا فلا يكون للدعاء إليه فائدة على فرض
المساواة أو يكون مضرًا بالعافي على فرض أن
العفو مفضول لأنه كان سببًا في نقصان ما
يستحقه من عوض المظلمة واللازم باطل فالملزوم
مثله.
باب ثبوت القصاص
بالإقرار
1 - عن وائل بن حجر
قال: "إني لقاعد مع النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال:
يا رسول اللّه هذا قتل أخي فقال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
أقتلته
فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة
قال: نعم قتلته قال:
كيف قتلته قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على
قرنه فقتلته فقال له النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
هل لك من شيء تؤديه عن نفسك
قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي قال:
فترى قومك يشترونك قال: أنا أهون على قومي من
ج / 7 ص -31-
ذاك فرمى إليه نسعته وقال:
دونك صاحبك
قال: فانطلق به الرجل فلما ولى قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
إن قتله فهو مثله
فرجع فقال: يا رسول اللّه بلغني أنك قلت إن
قتله فهو مثله وأخذته بأمرك فقال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك فقال: يا نبي اللّه لعله قال بلى قال:
فإن ذلك كذلك
فرمى بنسعته وخلى سبيله". رواه مسلم
والنسائي.
وفي رواية: "جاء رجل
إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بحبشي
فقال: إن هذا قتل أخي قال:
كيف قتلته قال: ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله قال:
وهل لك مال تؤدي ديته
قال: لا. قال:
أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته قال: لا. قال:
فمواليك يعطونك ديته قال: لا. قال للرجل:
خذه
فخرج به ليقتله فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
أما إنه إن قتله كان مثله فبلغ به الرجل حيث سمع قوله فقال: هو ذا
فمر فيه ما شئت فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
أرسله يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب النار" رواه أبو داود.
هذه الرواية الآخرة سكت
عنها أبو داود والمنذري وعزاها إلى مسلم
والنسائي ولعله باعتبار اتفاقها في المعنى هي
والرواية الأولى. وفي رواية أخرى من حديث
وائل بن حجر أخرجها أبو داود والنسائي.
قال: "كنت عند النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النسعة قال:
فدعا ولي المقتول فقال:
أتعفو
قال: لا. قال:
أفتأخذ الدية قال: لا. قال:
أفتقتل قال: نعم قال:
فاذهب به فلما كان في الرابعة قال:
أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمه وإثم
صاحبه
قال: فعفا عنه قال: فأنا رأيته يجر
النسعة".
قوله: "بنسعة"
بكسر النون وسكون السين بعدها عين مهملة.
قال في القاموس: النسع بالكسر سير ينسج
عريضًا على هيئة أعنة البغال تشد به الرحال
والقطعة منه نسعة وسمي نسعًا لطوله الجمع نسع
بالضم ونسع بالكسر كعنب وأنساع ونسوع.
قوله: "نحتطب" من
الاحتطاب. ووقع في نسخة نختبط من
الاختباط.
قوله: "إن قتله فهو
مثله" قد استشكل هذا بعد إذنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بالاقتصاص وإقرار القاتل
بالقتل على الصفة المذكورة والأولى حمل هذا
المطلق على المقيد بأنه لم يرد قتله بذلك
الفعل.
قال المصنف رحمة اللّه
تعالى: وقال ابن قتيبة في قوله إن قتله فهو
مثله لم يرد أنه مثله في المأثم وكيف يريده
والقصاص مباح ولكن أحب له العفو فعرّض تعريضًا
أوهمه به أنه إن قتله كان مثله في الإثم ليعفو
عنه وكان مراده أنه يقتل نفسًا كما أن الأول
قتل نفسًا وإن كان الأول ظالمًا والآخر
مقتصًا.
وقيل معناه كان مثله في
حكم البواء فصارا متساويين لا فضل للمقتص إذا
استوفى على المقتص منه.
وقيل أراد ردعه عن قتله
لأن القاتل ادعى أنه لم يقصد قتله فلو
ج / 7 ص -32-
قتله الولي كان في وجوب القود عليه مثله لو
ثبت منه قصد القتل يدل عليه ما روى أبو هريرة
قال: "قتل رجل في عهد رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فدفع القاتل إلى وليه
فقال القاتل: يا رسول اللّه واللّه ما أردت
قتله فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أما أنه إن كان صادقًا فقتلته دخلت النار فخلاه الرجل وكان مكتوفًا بنسعة فخرج يجر نسعته قال: فكان يسمى
ذا النسعة" رواه أبو داود وابن ماجه
والترمذي وصححه انتهى.
وأخرج هذا الحديث أيضًا
النسائي وهو مشتمل على زيادة وهي تقييد
الإقرار بأنه لم يرد القتل بذلك الفعل فيتعين
قبولها ويحمل المطلق على المقيد كما تقدم
فيكون عدم قصد القتل موجبًا لكون القتل خطأ
ولكنه يشكل على قول من قال إن عدم قصد القتل
إنما يصير القتل من جنس الخطأ إذا كان بما
مثله لا يقتل في العادة لا إذا كان مثله يقتل
في العادة فإنه يكون عمدًا وإن لم يقصد به
القتل وإلى هذا ذهبت الهادوية والحديث يرد
عليهم .
- لا يقال الحديث - مشكل
من جهة أخرى وهي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أذن لولي المجني عليه بالاقتصاص ولو كان القتل
خطأ لم يأذن له بذلك إذ لا قصاص في قتل الخطأ
إجماعًا كما حكاه صاحب البحر وهو صريح القرآن
والسنة لأنا نقول لم يمنعه صلى اللّه عليه
وآله وسلم من الاقتصاص بمجرد تلك الدعوى
لاحتمال أن يكون المدعي كاذبًا فيها بل حكم
على القاتل بما هو ظاهر الشرع ورهب ولي الدم
عن القود بما ذكره معلقًا لذلك على صدقه.
قوله: "أما تريد أن
يبوء بإثمك وإثم صاحبك" أما كون القاتل يبوء
بإثم المقتول فظاهر وأما كونه يبوء بإثم وليه
فلأنه لما قتل قريبه وفرق بينه وبينه كان
جانيًا عليه جناية شديدة لما جرت به عادة
البشر من التألم لفقد القريب والتأسف على فراق
الحبيب ولا سيما إذا كان ذلك بقتله ولا شك أن
ذلك ذنب شديد ينضم إلى ذنب القتل فإذا عفا ولي
الدم عن القاتل كانت ظلامته بقتل قريبه وإحراج
صدره باقية في عنق القاتل فينتصف منه يوم
القيامة بوضع ما يساويها من ذنوبه عليه فيبوء
بإثمه.
قوله: "قال يا نبي
اللّه لعله" أي لعله أن لا يبوء بإثمي وإثم
صاحبي فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم بلى يعني
يبوء بذلك. وأما قوله في الرواية الأخرى
بإثم صاحبه وإثمه فلا إشكال فيه وهو مثل ما
حكاه اللّه في القرآن عن ابن آدم حيث قال:
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ}. والمراد بالبواء الاحتمال. قال في القاموس: وبذنبه بوأ وبواء
احتمله أو اعترف به وذمه بدمه عدله وبفلان قتل
به فقاومه انتهى.
وقد استدل المصنف رحمه
اللّه بحديث وائل بن حجر على أنه يثبت القصاص
على الجاني بإقراره وهو مما لا أحفظ فيه
خلافًا إذا كان الإقرار صحيحًا متجردًا عن
الموانع.
باب ثبوت القتل
بشاهدين
1 - عن رافع بن خديج
قال: "أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولًا
فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فذكروا ذلك له فقال:
لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم فقالوا: يا رسول اللّه لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم يهود
قد يجترئون على أعظم من هذا قال:
ج / 7 ص -33-
فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فوداه النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم من عنده". رواه
أبو داود.
2 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن ابن محيصة الأصغر أصبح
قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته فقال: يا رسول اللّه ومن أين أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على
أبوابهم قال: فتحلف خمسين قسامة فقال: يا
رسول اللّه فكيف أحلف على ما لم أعلم فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
فاستحلف منهم خمسين قسامة فقال: يا رسول اللّه كيف نستحلفهم وهم
اليهود فقسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها". رواه
النسائي.
الحديث الأول سكت عنه
أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح إلا
الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. والحديث
الثاني في إسناده عمرو بن شعيب وقد تقدم
الكلام عليه والراوي عنه عبيد اللّه بن الأخنس
وقد حسن الحافظ في الفتح إسناد هذا الحديث
والكلام على ما اشتمل عليه الحديثان من أحكام
القسامة يأتي في بابها وأوردهما المصنف ههنا
للاستدلال بهما على أنه يثبت القتل بشهادة
شاهدين ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه يقول
باشتراط زيادة على شهادة شاهدين في القصاص
ولكنه وقع الخلاف في قبول شهادة النساء في
القصاص كالمرأتين مع الرجل فحكى صاحب البحر عن
الأوزاعي والزهري أن القصاص كالأموال فيكفي
فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وظاهر
اقتصاره على حكاية ذلك عنهما فقط أن من عداهما
يقول بخلافه والمعروف من مذهب الهادوية أنها
لا تقبل في القصاص إلا شهادة رجلين أصلين لا
فرعين والمعروف في مذهب الشافعية أنه يكفي في
الشهادة على المال والعقود المالية شهادة
رجلين أو رجل وامرأتين وفي عقوبة للّه تعالى
كحد الشرب وقطع الطريق أو لآدمي كالقصاص رجلان
قال النووي في المنهاج ما لفظه: ولمال وعقد
مالي كبيع وإقالة وحوالة وضمان وحق مالي كخيار
رجلان أو رجل وامرأتان ولغير ذلك من عقوبة
للّه تعالى أو لآدمي وما يطلع عليه رجال
غالبًا كنكاح وطلاق ورجعة وإسلام وردة وجرح
وتعديل وموت وإعسار ووكالة ووصاية وشهادة على
شهادة رجلان انتهى.
واستدل الشارح المحلى
للأول بقوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}
قال: وعموم الأشخاص مستلزم لعموم الأحوال
المخرج منه ما يشترط فيه الأربعة وما لا يكتفى
فيه بالرجل والمرأتين واستدل للثاني بما رواه
مالك عن الزهري قال: مضت السنة أنه لا يجوز
شهادة النساء في الحدود
ج / 7 ص -34-
ولا في النكاح والطلاق وقال: وقيس على
الثلاثة باقي المذكورات بجامع أنها ليست بمال
ولا يقصد منها مال والقصد من الوكالة والوصاية
الراجعتين إلى المال الولاية والخلافة لا
المال انتهى.
وقد أخرج قول الزهري
المذكور ابن أبي شيبة بإسناد فيه الحجاج ابن
أرطأة وهو ضعيف مع كون الحديث مرسلًا لا تقوم
بمثله الحجة فلا يصلح لتخصيص عموم القرآن
باعتبار ما دخل تحت نصه فضلًا عما لم يدخل
تحته بل ألحق به بطريق القياس وأما الحديثان
المذكوران في الباب فليس فيهما إلا مجرد
التنصيص على شهادة الشاهدين في القصاص وذلك لا
يدل على عدم قبول شهادة رجل وامرأتين وغاية
الأمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طلب
ما هو الأصل الذي لا يجزى عنه غيره إلا مع
عدمه كما يدل عليه قوله تعالى
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} والأصل مع إمكانه متعين لا يجوز العدول إلى بدله مع وجوده فذلك هو
النكتة في التنصيص في حديثي الباب على شهادة
الشاهدين.
قوله: "أن ابن
محيصة" بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر
التحتانية وتشديدها وفتح الصاد المهملة.
قوله: "برمته" بضم
الراء وتشديد الميم وهي الحبل الذي يقاد به.
قوله: "فقسم ديته
عليهم" هو مخالف لما في المتفق عليه الآتي
وسيأتي الكلام على ذلك.
باب ما جاء في
القسامة
1 - عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم من الأنصار: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه
في الجاهلية".
رواه أحمد ومسلم والنسائي.
2 - وعن سهل ابن أبي
حثمة قال: "انطلق عبد اللّه بن سهل ومحيصة
بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح فتفرقا فأتى
محيصة إلى عبد اللّه بن سهل وهو يتشحط في دمه
قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن
بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم فذهب عبد الرحمن
يتكلم فقال:
كبر كبر
وهو أحدث القوم فسكت فتكلما قال:
أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال:
فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا
فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من عنده".
رواه الجماعة.
3 - وفي رواية متفق
عليها: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
"يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته
فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف قال:
فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا: يا رسول اللّه
ج / 7 ص -35-
قوم كفار" وذكر الحديث بنحوه وهو حجة لمن
قال لا يقسمون على أكثر من واحد.
4 - وفي لفظ لأحمد:
"فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا ثم
نسلمه"
وفي رواية متفق عليها: "فقال لهم:
تأتون بالبينة على من قتله قالوا: ما لنا من بينة قال:
فيحلفون قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل
الصدقة.
قوله "ما جاء في
القسامة" بفتح القاف وتخفيف السين المهملة
وهي مصدر أقسم والمراد بها الأيمان واشتقاق
القسامة من القسم كاشتقاق الجماعة من الجمع
وقد حكى إمام الحرمين أن القسامة عند الفقهاء
اسم للأيمان وعند أهل اللغة اسم للحالفين وقد
صرح بذلك في القاموس وقال في الضياء أنها
الأيمان.
وقال في المحكم أنها في
اللغة الجماعة ثم أطلقت على الأيمان.
قوله: "أقر القسامة
على ما كانت عليه في الجاهلية" القسامة في
الجاهلية قد أخرج البخاري والنسائي صفتها عن
ابن عباس أن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا
بني هاشم كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من
قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله فمر به
رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه
فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا
تنفر الإبل فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه
فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرًا واحدًا فقال
الذي استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من
بين الإبل قال: ليس له عقال قال: فأين
عقاله فخذفه بعصا كان فيه أجله فمر به رجل من
أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم قال: ما
أشهده وربما شهدته قال: هل أنت مبلغ عني
رسالة مرة من الدهر قال: نعم فإذا شهدت فناد
يا قريش فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم فإن
أجابوك فسل عن أبي طالب فأخبره أن فلانًا
قتلني في عقال ومات المستأجر فلما قدم الذي
استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا
قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه
قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حينًا ثم إن
الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم
فقال: يا قريش قالوا: هذه قريش قال: يا
آل بني هاشم قالوا: هذه بنو هاشم قال: أين
أبو طالب قالوا: هذا أبو طالب قال: أمرني
فلان أن أبلغك رسالة أن فلانًا قتله في عقال
فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث إن
شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا
وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن
أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم فقالوا:
نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل
منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب
أحب أن تجير ابني هذا برجل من الخمسين ولا
تصير يمينه حيث تصير الأيمان ففعل فأتاه رجل
منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن
يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم
بعيران هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصير
يميني حيث تصير
ج / 7 ص -36-
الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال
الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف
انتهى.
وقد أخرج البيهقي من
طريق سليمان بن يسار عن أناس من أصحاب النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم أن القسامة كانت في
الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم على ما كانت عليه في
الجاهلية وقضى بها بين أناس من الأنصار من بني
حارثة ادعوا على اليهود.
قوله: "عن سهل بن
أبي حثمة قال انطلق" هكذا في كثير من روايات
البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: "عن رجال
من كبراء قومه" وفي أخرى: "عن رجل من
كبراء قومه".
قوله: "ومحيصة" قد
تقدم ضبطه في الباب الذي قبل هذا وهو ابن عم
عبد اللّه بن سهل.
قوله: "يتشحط في
دمه" بالشين المعجمة والحاء المهملة المشددة
بعدها طاء مهملة أيضًا وهو الاضطراب في
الدم. كما في القاموس.
قوله: "حويصة" بضم
الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد الياء مصغرًا
وقد روي التخفيف فيه وفي محيصة.
قوله: "كبر كبر"
أي دع من هو أكبر منك سنًا يتكلم هكذا في
رواية يحيى بن سعيد أن الذي تكلم هو عبد
الرحمن بن سهل وكان أصغرهم. وفي رواية أن
الذي تكلم هو محيصة وكان أصغر من حويصة.
قوله: "أتحلفون
وتستحقون صاحبكم" فيه دليل على مشروعية
القسامة وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين
والعلماء من الحجاز والكوفة والشام حكى ذلك
القاضي عياض ولم يختلف هؤلاء في الجملة إنما
اختلفوا في التفاصيل على ما سيأتي بيانه روى
القاضي عياض عن جماعة من السلف منهم أبو قلابة
وسالم بن عبد اللّه والحكم بن عتيبة وقتادة
وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن
خالد وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه أن
القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من
وجوه. منها أن البينة على المدعي واليمين
على المنكر في أصل الشرع. ومنها أن اليمين
لا يجوز إلا على ما علمه الإنسان قطعًا
بالمشاهدة الحسية أو ما يقوم مقامها وأيضًا لم
يكن في حديث الباب حكم بالقسامة وإنما كانت
القسامة من أحكام الجاهلية فتلطف لهم النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ليريهم كيف بطلانها
وإلى عدم ثبوت القسامة أيضًا ذهب الناصر كما
حكاه عنه صاحب البحر. وأجيب بأن القسامة أصل
من أصول الشريعة مستقل لورود الدليل بها فتخصص
بها الأدلة العامة وفيها حفظ للدماء وزجر
للمعتدين ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة
وعدم الحكم في حديث سهل ابن أبي حثمة لا
يستلزم عدم الحكم مطلقًا فإنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قد عرض على المتخاصمين اليمين وقال
إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب كما
في رواية متفق عليها وهو لا يعرض إلا ما كان
شرعًا وأما دعوى أنه قال ذلك للتلطف بهم
وإنزالهم من حكم الجاهلية فباطلة كيف وفي حديث
أبي سلمة المذكور في الباب أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه
في الجاهلية وقد قدمنا صفة الواقعة التي وقعت
لأبي طالب مع قاتل الهاشمي.
وقد أخرج أحمد والبيهقي
عن أبي سعيد قال: وجد رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذرع ما
بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى
ديته عليهم قال البيهقي: تفرد به أبو
إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال
العقيلي: هذا الحديث ليس له أصل.
وأخرج عبد الرزاق وابن
ج / 7 ص -37-
أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي أن قتيلا وجد
بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن
يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب
فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل ما قتلته ولا
علمت قاتلا ثم أغرمهم الدية فقالوا: يا أمير
المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا
أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر: كذلك
الحق.
وأخرج نحوه الدارقطني
والبيهقي عن سعيد بن المسيب وفيه أن عمر قال
إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال البيهقي: رفعه إلى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم منكر وفيه عمر بن صبيح
أجمعوا على تركه وقال الشافعي: ليس بتكذيب
إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور وقال
البيهقي: روي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق
عن عمر. وروي عن مطرف عن أبي إسحاق عن
الحارث بن الأزمع لكن لم يسمعه أبو إسحاق من
الحارث وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق
والبيهقي عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن
رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسًا فوطئ على
إصبع رجل من جهينة فمات فقال عمر للذين ادعى
عليهم: أتحلفون خمسين يمينًا ما مات منها
فأبوا فقال لآخرين: احلفوا أنتم فأبوا فقضى
عمر بشطر الدية على السعديين وسيأتي حكمه صلى
اللّه عليه وآله وسلم على اليهود بالدية.
قوله: "فيدفع
برمته" قد تقدم ضبط الرمة وتفسيرها في الباب
الأول وقد استدل بهذا من قال أنه يجب القود
بالقسامة وإليه ذهب الزهري وربيعة وأبو الزناد
ومالك والليث والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ومعظم الحجازيين
وحكاه مالك عن ابن الزبير واختلف في ذلك على
عمر بن عبد العزيز وحكي في البحر عن أمير
المؤمنين رضي اللّه عنه ومعاوية والمرتضى
والشافعي في أحد قوليه أنه لا يجب القود
بالقسامة وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسائر
الكوفيين وكثير من البصريين وبعض المدنيين
والثوري والأوزاعي والهادوية بل الواجب عندهم
جميعًا اليمين فيحلف خمسون رجلا من أهل القرية
خمسين يمينًا ما قتلناه ولا علمنا قاتله ولا
يمين على المدعي فإن حلفوا لزمتهم الدية عند
جمهورهم وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن
أبا بكر وعمر والجماعة الأولى لم يكونوا
يقتلون بالقسامة.
وأخرج عبد الرزاق وابن
أبي شيبة والبيهقي عن عمر أن القسامة إنما
توجب العقل ولا تشيط الدم وقال عبد الرزاق في
مصنفه: قلت لعبيد اللّه بن عمر العمري أعلمت
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أقاد
بالقسامة قال: لا قلت: فأبو بكر قال: لا
قلت: فعمر قال: لا قلت: فلم تجترؤن
عليها فسكت.
وقد استدل بقوله صلى
اللّه عليه وآله وسلم تقسم خمسون منكم على رجل
منهم فيدفع برمته أحمد ومالك في المشهور عنه
أن القسامة إنما تكون على رجل واحد وقال
الجمهور يشترط أن تكون على معين سواء كان واحد
أو أكثر واختلفوا هل يختص القتل بواحد من
الجماعة المعينين أو يقتل الكل وقال أشهب:
لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدًا
للقتل ويسجن الباقون عامًا ويضربون مائة مائة
قال الحافظ: وهو قول لم يسبق إليه.
وقال جماعة من أهل
العلم: إن شرط القسامة أن تكون على غير معين
واستدلوا على ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة
المذكور فإن الدعوى فيه وقعت على أهل خيبر من
غير تعيين. ويجاب عن هذا بأن غايته أن
القسامة تصح على غير معين وليس فيه ما يدل على
ج / 7 ص -38-
اشتراط كونها على غير معين ولا سيما وقد ثبت
أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرر القسامة على
ما كانت عليه في الجاهلية وقد قدمنا أن أول
قسامة كانت في الجاهلية قسامة أبي طالب وهي
دعوى على معين كما تقدم فإن قيل إذا كانت على
معين كان الواجب في العمد القود وفي الخطأ
الدية فما وجه إيجاب القسامة فيقال لما لم يكن
على ذلك المعين بينة ولم يحصل منه مصادقة كان
ذلك مجرد لوث فإن اللوث في الأصل هو ما يثمر
صدق الدعوى وله صور ذكرها صاحب البحر. منها
وجود القتيل في بلد يسكنه محصورون فإن كان
يدخله غيرهم اشترط عداوة المستوطنين للقتيل
كما في قصة أهل خيبر ومنها وجوده في صحراء
وبالقرب منه رجل في يده سلاح مخضوب بالدم ولم
يكن هناك غيره. ومنها وجوده بين صفي القتال
ومنها وجوده ميتًا بين مزدحمين في سوق أو نحوه
ومنها كون الشهاد على القتل نساء أو صبيانًا
لا يقدر تواطؤهم على الكذب هذا معنى كلام
البحر ومن صور اللوث أن يقول المقتول في حياته
دمي عند فلان أو هو قتلني أو نحو ذلك فإنها
تثبت القسامة بذلك عند مالك والليث وادعى مالك
أن ذلك مما أجمع عليه الأئمة قديمًا وحديثًا
واعترض هذه الدعوى ابن العربي وفي الفتح أنه
لم يقل بذلك غيرهما ومنها إذا كان الشهود غير
عدول أو كان الشاهد واحدًا فإنها تثبت القسامة
عند مالك والليث ولم يحك صاحب البحر اشتراط
اللوث إلا عن الشافعي وحكى عن القاسمية
والحنفية أنه لا يشترط ورد بأن عدم الاشتراط
غفلة عن أن الاختصاص بموضع الجناية نوع من
اللوث والقسامة لا تثبت بدونه.
قوله: "فتبرئكم يهود
بأيمان خمسين منهم" أي يخلصونكم عن الأيمان
بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب
عليهم شيء وخلصتم أنتم من الأيمان والجمع بين
هذه الرواية والرواية الأخرى التي فيها تقديم
طلب البينة على اليمين حيث قال يأتون بالبينة
على من قتله قالوا ما لنا بينة بأن يقال إن
الرواية الأخرى مشتملة على زيادة هي طلب
البينة أولا ثم اليمين ثانيًا ولا وجه لما
زعمه بعضهم من كون طلب البينة وهم في الرواية
المذكورة لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من
المسلمين.
قال الحافظ:
إن سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من المسلمين
في خيبر فقد ثبت في نفس القصة أن جماعة من
المسلمين خرجوا يمتارون تمرًا فيجوز أن يكون
طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك ثم قال وقد وجدنا
لطلب البينة في هذه القصة شاهدًا وذكر حديث
عمرو بن شعيب وحديث رافع بن خديج المتقدمين في
الباب الأول.
قوله: "أن يبطل
دمه" في رواية للبخاري: "أن يطل دمه"
بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام أي يهدر.
قوله: "فوداه بمائة
من إبل الصدقة" في الرواية الأولى:
"فعقله" أي أعطى ديته وفي رواية: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعطى عقله"
والعقل الدية كما تقدم وقد زعم بعضهم أن قوله
من إبل الصدقة غلط من سعيد بن عبيد لتصريح
يحيى بن سعيد بقوله فعقله النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم من عنده وجمع بعضهم بين
الروايتين باحتمال أن يكون النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم اشتراها من إبل الصدقة بمال
دفعه من عنده أو المراد بقوله من عنده أي من
بيت المال المرصد للمصالح وأطلق عليه صدقة
باعتبار الانتفاع به مجانًا وحمله بعضهم على
ظاهره وقد حكى القاضي عياض عن بعض العلماء
جواز صرف الزكاة
ج / 7 ص -39-
في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره
قال القاضي عياض: وذهب من قال بالدية إلى
تقديم المدعى عليهم في اليمين إلا الشافعي
وأحمد فقالا بقول الجمهور يبدأ بالمدعين وردها
إن أبوا على المدعى عليهم وقال بعكسه أهل
الكوفة وكثير من أهل البصرة وبعض أهل المدينة
وقال الأوزاعي: يستحلف من أهل القرية خمسون
رجلًا خمسين يمينًا ما قتلناه ولا علمنا من
قتله فإن حلفوا برئوا وإن نقصت قسامتهم عن عدد
أو نكول حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا
دمه فإن نقصت قسامتهم عادت دية وقال عثمان
البتي: يبدأ المدعى عليهم بالأيمان فإن
حلفوا فلا شيء عليهم وقال الكوفيون: إذا
حلفوا وجبت عليهم الدية قال في الفتح:
واتفقوا كلهم على أنها لا تجب القسامة بمجرد
دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب على
الظن الحكم بها واختلفوا بتصوير الشبهة على
سبعة أوجه ثم ذكرها وذكر الخلاف في كل واحدة
منها وهي ما أسلفناه في بيان صور اللوث.
قال في الفتح بعد أن ذكر
السابعة من تلك الصور وهي أن يوجد القتيل في
محلة أو قبيلة أنه لا يوجب القسامة عند الثوري
والأوزاعي وأبي حنيفة وأتباعهم إلا هذه الصورة
ولا يجب فيما سواها. وبهذا يتبين لك أن عدم
اشتراط اللوث مطلقًا بعد الاتفاق على تفسيره
بما سلف غير صحيح ومن شروط القسامة عند الجميع
إلا الحنفية أن يوجد بالقتيل أثر والحاصل أن
أحكام القسامة مضطربة غاية الاضطراب والأدلة
فيها واردة على أنحاء مختلفة ومذاهب العلماء
في تفاصيلها متنوعة إلى أنواع ومتشعبة إلى شعب
فمن رام الإحاطة بها فعليه بكتب الخلاف
ومطولات شروح الحديث.
5 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
"البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا
في القسامة". رواه الدارقطني.
6 - وعن أبي سلمة بن عبد
الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار:
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لليهود وبدأهم يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار استحقوا فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول
اللّه فجعلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم دية على اليهود لأنه وجد بين
أظهرهم". رواه أبو داود.
الحديث الأول أخرجه
أيضًا ابن عبد البر والبيهقي من حديث مسلم بن
خالد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب به
قال البخاري:
إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب وقد روي
عن عمرو مرسلا من طريق عبد الرزاق وهو أحفظ من
مسلم بن خالد وأوثق ورواه ابن عدي والدارقطني
من حديث عثمان بن محمد بن سالم عن ابن جريج عن
عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ الحديث
المذكور قال الحافظ في التلخيص: وهو ضعيف.
والحديث الثاني الراوي له عن أبي سلمة
ج / 7 ص -40-
وسليمان هو الزهري قال المنذري في مختصر
السنن بعد ذكره قال بعضهم وهذا ضعيف لا يلتفت
إليه.
وقد قيل للإمام الشافعي
ما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب يعني هذا فقال
مرسل والقتيل أنصاري والأنصاريون بالعناية
أولى بالعلم به من غيرهم إذ كان كل ثقة وكل
عندنا بنعمة اللّه ثقة قال البيهقي: وأظنه
أراد بحديث الزهري ما روي عنه معمر عن أبي
سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار وذكر
هذا الحديث وقد استدل بالحديث الأول على أن
أحكام القسامة مخالفة لما عليه سائر القضايا
من إيجاب البينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه فيندفع به ما أورده النافون
للقسامة من مخالفتها لما عليه سائر الأحكام
الشرعية وقد تقدم تفصيل ذلك. واستدل بالحديث
الثاني من قال بإيجاب الدية على من وجد القتيل
بين أظهرهم ويعارضه حديث عمرو بن شعيب المتقدم
في الباب الأول فإن فيه أنه أعانهم بنصف الدية
ويعارض الجميع ما في المتفق عليه من حديث سهل
بن أبي حثمة أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم عقله من عنده فإن أمكن حمل ذلك على قصص
متعددة فلا إشكال وإن لم يمكن وكان المخرج
متحدًا فالمصير إلى ما في الصحيحين هو المتعين
ولا سيما مع ما في حديث أبي سلمة المذكور في
الباب. وحديث عمرو بن شعيب المذكور في الباب
الأول من الحكم بالدية بدون أيمان.
قوله: "فقال للأنصار
استحقوا" فقال في القاموس: استحقه استوجبه
اهـ. والمراد ههنا أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أمر الأنصار بأن يستوجبوا الحق الذي
يدعونه على اليهود بأيمانهم فأجابوا بأنهم لا
يحلفون على الغيب.
باب هل يستوفي
القصاص والحدود في الحرم أم لا
1 - عن أنس: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل مكة عام
الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل
فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال:
اقتلوه".
2 - وعن أبي هريرة
قال: "لما فتح اللّه على رسوله مكة قام في
الناس فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:
"إن اللّه حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله
والمسلمين وأنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت
لي ساعة من نهار وإنها لا تحل لأحد بعدي".
3 - وعن أبي شريح الخزاعي: "أنه قال لعمرو بن سعيد وهو
يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير
أحدثك قولا قام به رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي
ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به حمد
اللّه وأثنى عليه ثم قال:
"إن مكة حرَّمها اللّه ولم يحرمها الناس فلا
يحل لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك
ج / 7 ص -41-
بها دمًا ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها
فقولوا له إن اللّه قد أذن لرسوله ولم يأذن
لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت
حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد
الغائب"
فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو قال:
قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم
لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم ولا فارًا
بخربة".
4 - وعن ابن عباس قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يوم فتح مكة:
"إن هذا البلد حرام حرَّمه اللّه يوم خلق
السماوات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم
القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم
يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه
إلى يوم القيامة".
متفق على أربعتهن.
5 - وعن عبد اللّه بن
عمر: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال: "أن أعدى الناس على اللّه عز وجل من قتل في
الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول
الجاهلية". رواه أحمد وله من حديث أبي شريح الخزاعي نحوه وقال ابن عمر:
"لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته" وقال
ابن عباس في الذي يصيب حدًا ثم يلجأ إلى الحرم
يقام عليه الحد إذا خرج من الحرم حكاهما أحمد
في رواية الأثرم.
حديث عبد اللّه بن عمر
أخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه وحديث أبي شريح
الآخر الذي أشار إليه المصنف أخرجه أيضًا
الدارقطني والطبراني والحاكم ورواه الحاكم
والبيهقي من حديث عائشة بمعناه.
وروى البخاري في صحيحه
عن ابن عباس مرفوعًا:
"أبغض الناس إلى اللّه ثلاثة ملحد في الحرم ومتبع في الإسلام سنة
جاهلية ومطلب دم بغير حق ليهريق دمه"
والملحد في الأصل هو الماثل عن الحق.
وأخرج عمر بن شبة عن
عطاء بن يزيد قال: قتل رجل بالمزدلفة يعني
في غزوة الفتح فذكر القصة وفيها أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال:
"وما أعلم أحدًا أعتي على اللّه من ثلاثة رجل قتل في الحرم أو قتل غير
قاتله أم قتل بذحل في الجاهلية".
قوله: "عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل
مكة" الخ قد تقدم هذا الحديث وشرحه في باب
دخول مكة من غير إحرام من أبواب الحج.
قوله: "إن اللّه حبس
عن مكة الفيل" هو الحيوان المشهور وأشار
بحبسه عن مكة إلى قضية الحبشة وهي مشهورة
ساقها ابن إسحاق مبسوطة. وحاصل ما ساقه أن
أبرهة الحبشي
ج / 7 ص -42-
لما غلب على اليمن وكان نصرانيًا بنى كنيسة
وألزم الناس بالحج إليها فعمد بعض العرب
فاستغفل الحجبة وتغوط وهرب فغضب أبرهة وعزم
على تخريب الكعبة فتجهز في جيش كثيف واستصحب
معه فيلًا عظيمًا فلما قرب من مكة خرج إليه
عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة فطلب منه
أن يرد عليه إبلا نهبت فاستقصر همته وقال:
لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت
فيه فقال: إن لهذا البيت ربًا سيحميه فأعاد
إليه إبله وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل
فأرسل اللّه عليهم طيرًا مع كل واحدة ثلاثة
أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره فألقتها
عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب.
وأخرج ابن مردويه بسند
حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب
الفيل حتى نزلوا الصفاح وهو بكسر المهملة ثم
فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن
فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت اللّه
لم يسلط عليه أحدًا فقالوا: لا نرجع حتى
نهدمه فكانوا لا يقدمون الفيل قبلهم إلا تأخر
فدعا اللّه الطير الأبابيل فأعطاها حجارة
سودًا فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا
أخذته الحكة فكان لا يحك أحدهم جلده إلا تساقط
لحمه.
قال ابن إسحاق: حدثني
يغوث بن عتبة قال حدثت أن أول ما وقعت الحصبة
والجدري بأرض العرب يومئذ. وعند الطبري بسند
صحيح عن عكرمة أنها كانت طيرًا خضرًا خرجت من
البحر لها رؤوس كرؤوس السباع. ولابن أبي
حاتم من طريق عبيد بن عمير بسند قوي بعث اللّه
عليهم طيرًا أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف
فذكر نحو ما تقدم.
قوله: "لعمرو بن
سعيد" هو المعروف بالأشدق وكان أميرًا على
دمشق من جهة عبد الملك بن مروان فقتله عبد
الملك وقصته مشهورة.
قوله: "ولا يعضد بها
شجرة" قد تقدم ضبطه وتفسيره في الحج.
قوله: "فإن أحد ترخص
بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فيها" أي استدل بقتاله صلى اللّه عليه وآله
وسلم فيها على أن القتال فيها لغيره مرخص
فيه.
قوله: "إن الحرم لا
يعيذ عاصيًا" هذا من عمرو المذكور معارضة
لحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
برأيه وهو مصادم للنص ولا جرم فالمذكور من
عتاة الأمة النابين عن الحق.
قوله: "ولا فارًا
بخربة" بضم الخاء المعجمة ويجوز فتحها وسكون
الراء بعدها باء موحدة وهي في الأصل سرقة
الإبل وفي البخاري أنها الخيانة. وقال
الترمذي: قد روي بخزية بالزاي والياء
التحتية أي بجريمة يستحي منها.
قوله: "إن أعدى
الناس" في رواية:
"إن أعتى الناس"
وهما تفضيل أي الزائد في التعدي أو العتو على
غيره والعتو التكبر والتجبر. وقد أخرج
البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه
قال: وجد في قائم سيف رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم كتاب إن أعدى الناس على اللّه
الحديث. وأخرج من حديث سليمان بلفظ: "إن أعتى الناس على اللّه" وأخرج أيضًا حديث أبي شريح بلفظ:
"إن أعتى الناس على اللّه" الحديث".
قوله: "بذحول
الجاهلية" جمع ذحل بفتح الذال المعجمة وسكون
الحاء المهملة وهو الثأر وطلب المكأفاة
والعداوة أيضًا والمراد هنا من كان له دم في
الجاهلية بعد دخوله في الإسلام والمراد أن
هؤلاء الثلاثة أعتى أهل المعاصي وأبغضهم إلى
اللّه وإلا فالشرك أبغض إليه من كل معصية كذا
قال المهلب وغيره.
وقد استدل بحديث أنس
المذكور على أن الحرم لا يعصم
ج / 7 ص -43-
من إقامة واجب ولا يؤخر لأجله عن وقته كذا
قال الخطابي وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي
وهو اختيار ابن المنذر ويؤيد ذلك عموم الأدلة
القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان.
وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
والحنفية وسائر أهل العراق وأحمد ومن وافقه من
أهل الحديث والعترة إلى أنه لا يحل لأحد أن
يسفك بالحرم دمًا ولا يقيم به حدًا حتى يخرج
عنه من لجأ إليه. واستدلوا على ذلك بعموم
حديث أبي هريرة وأبي شريح وابن عباس وعبد
اللّه بن عمر وعموم قوله تعالى
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وهو الحكم الثابت قبل الإسلام وبعده فإن الجاهلية كان يرى أحدهم
قاتل ابنه فلا يهيجه وكذلك في الإسلام كما
قاله ابن عمر في الأثر المذكور وكما روى
الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو
وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه
وهكذا روي عن ابن عباس أنه قال: لو وجدت
قاتل أبي في الحرم ما هجته.
وأما الاستدلال بحديث
أنس المذكور فوهم لأن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أمر بقتل ابن خطل في الساعة التي
أحل اللّه له القتال بمكة وقد أخبرنا بأنها لم
تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده وأخبرنا أن
حرمتها قد عادت بعد تلك الساعة كما كانت وأما
الاستدلال بعموم الأدلة القاضية باستيفاء
الحدود فيجاب أولًا بمنع عمومها لكل مكان وكل
زمان لعدم التصريح بهما وعلى تسليم العموم فهو
مخصص بأحاديث الباب لأنها قاضية بمنع ذلك في
مكان خاص وهي متأخرة فإنها في حجة الوداع بعد
شرعية الحدود هذا إذا ارتكب ما يوجب حدًا أو
قصاصًا في خارج الحرم ثم لجأ إليه وأما إذا
ارتكب ما يوجب حدًا أو قصاصًا في الحرم فذهب
بعض العترة إلى أنه يخرج من الحرم ويقام عليه
الحد. روى أحمد عن ابن عباس أنه قال: من
سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم.
ويؤيد ذلك قوله تعالى {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ} ويؤيده أيضًا أن الجاني في الحرم هاتك لحرمته بخلاف الملتجئ إليه
وأيضًا لو ترك الحد والقصاص على من فعل ما
يوجبه في الحرم لعظم الفساد في الحرم. وظاهر
أحاديث الباب المنع مطلقًا من غير فرق بين
اللاجئ إلى الحرم والمرتكب لما يوجب حدًا أو
قصاصًا في داخله وبين قتل النفس أو قطع العضو
والآية التي فيها الإذن بمقاتلة من قاتل عند
المسجد الحرام لا تدل إلا على جواز المدافعة
لمن قاتل حال المقاتلة كما يدل على ذلك
التقييد بالشرط وقد اختلف العلماء في كون هذه
الآية منسوخة أو محكمة حتى قال أبو جعفر في
كتاب الناسخ والمنسوخ: إنها من أصعب ما في
الناسخ والمنسوخ فمن قال بأنها محكمة مجاهد
وطاوس وأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم
تمسكًا بظاهر الآية وبأحاديث الباب.
وقال في جامع البيان:
إن هذا قول الأكثر ومن القائلين بالنسخ قتادة
قال: والناسخ لهما قوله تعالى
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقيل بآية التوبة كما ذكره النجري قال أبو جعفر: وهذا قول أكثر
أهل النظر وأن المشركين يقاتلون في الحرم
وغيره بالقرآن والسنة قال اللّه تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وبراءة نزلت بعد البقرة بسنتين وقال تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} وأما السنة فما روى أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
ج / 7 ص -44-
"دخل وعلى رأسه المغفر فقتل ابن خطل" وقد
اختار صاحب تيسير البيان القول الأول وقرره
ورد دعوى النسخ أما بالآية براءة فلأن قوله
تعالى في المائدة
{لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ}
موافق لآية البقرة والمائدة نزلت بعد براءة في
قول أكثر أهل العلم بالقرآن ثم إن كلمة حيث
تدل على المكان فهي عامة في إفراد الأمكنة
وآية البقرة نص في النهي عن القتال في مكان
مخصوص وهو المسجد الحرام فتكون مخصصة لآية
براءة ويكون التقدير فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم إلا أن يكونوا في المسجد الحرام فلا
تقتلوهم حتى يقاتلوكم فيه. وأما قوله تعالى
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ}
فهو مطلق في الأمكنة والأزمنة والأحوال وآية
البقرة مقيدة ببعض الأمكنة فيكون ذلك المطلق
مقيدًا بها وإذا أمكن الجمع فلا نسخ هذا معنى
كلامه وهو طويل ولكن في كون العام المتأخر
يخصص بالخاص المتقدم خلاف بين أهل الأصول
والراجح التخصيص وفي كون عموم الأشخاص لا
يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة خلاف
أيضًا معروف بين أهل الأصول .
باب ما جاء في
توبة القاتل والتشديد في القتل
1 - عن ابن مسعود: عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء".
رواه الجماعة إلا أبا داود.
2 - وعن ابن مسعود
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول
كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل". متفق عليه.
3 - وعن أبي هريرة
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي اللّه عز
وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه". رواه أحمد وابن ماجه.
4 - وعن معاوية قال:
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
"كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت
كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا". رواه أحمد والنسائي. ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كذلك.
حديث أبي هريرة أخرجه
أيضًا البيهقي وفي إسناده يزيد بن أبي زياد
وهو ضعيف وقد روي عن الزهري مرسلًا أخرجه
البيهقي من طريق فرح بن فضالة عن الضحاك عن
الزهري يرفعه وفرح ضعيف وقد قواه أحمد.
وبالغ ابن الجوزي فذكر الحديث في الموضوعات
وسبقه إلى ذلك أبو حاتم فإنه قال في العلل:
إنه باطل موضوع.
وقد رواه أبو نعيم في
الحلية من طريق حكيم بن نافع عن
ج / 7 ص -45-
خلف بن حوشب عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن
المسيب سمعت عمر فذكره وقال: تفرد به حكيم
عن خلف. ورواه الطبراني من حديث ابن عباس
نحوه وأورده ابن الجوزي من طريق أخرى عن أبي
سعيد الخدري بلفظ: "يجيء القاتل يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة اللّه" وأعله بعطية ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة
قال الحافظ: ومحمد لا يستحق أن يحكم على
أحاديثه بالوضع فأما عطية فضعيف لكن حديثه
يحسنه الترمذي إذا توبع. وحديث معاوية جميع
رجال إسناده ثقات ويشهد له ما في هذا الباب من
الأحاديث القاضية بعدم المغفرة للقاتل.
وحديث أبي الدرداء الذي أشار إليه المصنف لفظه
قال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا من مات مشركًا
أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدًا" وروى أبو داود أيضًا عن عبادة بن الصامت أنه روى عن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال:
"من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله لم يقبل اللّه
منه صرفًا ولا عدلا" قال الخطابي: فاغتبط أي فقتله بغير سبب وفسره يحيى بن يحيى
الغساني بأنه الذي يقتل صاحبه في الفتنة فيرى
أنه على هدى لا يستغفر اللّه من ذلك. وهذان
الحديثان سكت عنهما أبو داود والمنذري في
مختصر السنن ورجال إسناد كل واحد منهما
موثقون.
قوله: "أول ما يقضى
بين الناس" الخ فيه دليل على عظم ذنب القتل
لأن الابتداء إنما يكون بالأهم وعائد الموصول
محذوف والتقدير أول ما يقضى فيه ويجوز أن تكون
مصدرية ويكون تقديره أول قضاء في الدماء أو
يكون المصدر بمعنى اسم المفعول أي أول مقضي
فيه الدماء.
وقد استشكل الجمع بين
هذا الحديث وبين الحديث الذي أخرجه أصحاب
السنن عن أبي هريرة بلفظ:
"أول ما يحاسب العبد عليه صلاته"
وأجيب بأن الأول يتعلق بمعاملات العباد
والثاني بمعاملات اللّه.
قال الحافظ:
على أن النسائي أخرجهما في حديث واحد أورده من
طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه:
"أول ما يحاسب العبد به الصلاة وأول ما يقضى
بين الناس في الدماء" وقد استدل بحديث ابن مسعود الأول المذكور على أن القضاء يختص
بالناس ولا يكون بين البهائم وهو غلط لأن
مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس وليس
فيه نفي القضاء بين البهائم مثلا بعد القضاء
ين الناس.
قوله: "على ابن آدم
الأول" وهو قابيل عند الأكثر وعكس القاضي
جمال الدين بن واصل في تاريخه فقال اسم
المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه وقيل اسمه
قابن بنون بدل اللام بغير ياء وقيل قبن مثله
بغير ألف. وعن الحسن لم يكن ابن آدم المذكور
وأخوه المقتول من صلب آدم وإنما كانا من بني
إسرائيل أخرجه الطبري. وعن مجاهد أنهما كانا
ولدي آدم لصلبه وهذا هو المشهور وهو الظاهر من
حديث الباب لقوله الأول أي أول من ولد لآدم،
ويقال أنه لم يولد لآدم في الجنة غيره وغير
توأمته ومن ثم فخر على أخيه هابيل فقال نحن من
أولاد الجنة وأنتم من أولاد الأرض ذكر ذلك ابن
إسحاق في المبتدأ.
قوله: "كفل من
دمها" بكسر الكاف وسكون الفاء وهو النصيب
وأكثر ما يطلق على الأجر كقوله تعالى {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}
ويطلق على الاسم كقوله تعالى {مَنْ
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ
كِفْلٌ مِنْهَا}.
قوله: "لأنه أول من
سن القتل" فيه دليل على أن من سن شيئًا كتب
له أو عليه وهو
ج / 7 ص -46-
أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام وقد
أخرج مسلم من حديث جرير:
"من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها
وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في
الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل
بها إلى يوم القيامة" وهو محمول على من لم يتب من ذلك الذنب.
قوله: "بشطر كلمة"
قال الخطابي: قال ابن عيينة: مثل أن يقول
اق من قوله اقتل وفي هذا من الوعيد الشديد ما
لا يقادر قدره فإذا كان شطر الكلمة موجبًا
لكتب الإياس من الرحمة بين عيني قائلها فكيف
بمن أراق دم المسلم ظلمًا وعدوانًا بغير حجة
نيرة وقد استدل بهذا الحديث وبحديث معاوية
وأبي الدرداء المذكورين بعده على أنها لا تقبل
التوبة من قاتل العمد وسيأتي بيان ما هو الحق
إن شاء اللّه.
5 - وعن أبي بكرة قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما
صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقيل هذا
القاتل فما بال المقتول قال: قد أراد قتل
صاحبه".
متفق عليه.
6 - وعن جندب البجلي:
عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينًا فحز
بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال اللّه تعالى
بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة".
أخرجاه.
7 - وعن أبي هريرة
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها
في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا
ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار
جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تردى من
جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدًا
مخلدًا فيها أبدًا".
8 - وعن المقداد بن
الأسود أنه قال: "يا رسول اللّه أرأيت إن
لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي
بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت
للّه أفأقتله يا رسول اللّه بعد أن قالها
قال:
لا تقتله
قال: فقلت يا رسول اللّه إنه قطع يدي ثم قال
ذلك بعد أن قطعها أفأقتله قال:
لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن
يقول كلمته التي قال".
متفق عليه.
9 - وعن جابر قال:
"لما هاجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر
معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع
ج / 7 ص -47-
فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى
مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة
ورآه مغطيًا يديه فقال له: ما صنع بك ربك
قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك
قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها
الطفيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"وليديه فاغفر".
رواه أحمد ومسلم.
قوله: "فالقاتل
والمقتول في النار" قال في الفتح: قال
العلماء: معنى كونهما في النار أنهما
يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى اللّه إن شاء
عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين
وإن شاء اللّه عفا عنهما أصلا. وقيل هو
محمول على من استحل ذلك ولا حجة فيه للخوارج
ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون
في النار لأنه لا يلزم من قوله القاتل
والمقتول في النار استمرار بقائهما فيها واحتج
به من لم ير القتال في الفتنة وهم كل من ترك
القتال مع علي في حروبه كسعد ابن أبي وقاص
وعبد اللّه بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة
وغيرهم وقالوا يجب الكف حتى لو أراد قتله لم
يدفعه عن نفسه ومنهم من قال لا يدخل في الفتنة
فإن أحد أراد قتله دفع عن نفسه انتهى.
ويدل على القول الآخر
حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم وقد تقدم في
باب دفع الصائل من كتاب الغصب وفيه أرأيت إن
قاتلني قال: قاتله. ويدل على القول الأول
ما تقدم من الأحاديث في باب الدفع لا يلزم
المصول عليه من ذلك الكتاب.
قال في الفتح: وذهب
جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصرة الحق
وقتال الباغين وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في
ذلك على من ضعف عن القتال أو قصر نظره عن
معرفة صاحب الحق قال: واتفق أهل السنة على
وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما
وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم
يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا
اللّه عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر
أجرًا واحدًا وأن المصيب يؤجر أجرين قال
الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين
المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف
لما أقيم حق ولا أبطل باطل ولوجد أهل الفسوق
سبيلًا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال
وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ويكف
المسلمون أيديهم ويقولوا هذه فتنة وقد نهينا
عن القتال فيها وهذا مخالف للأمر بالأخذ على
أيدي السفهاء اهـ.
وقد أخرج البزار زيادة
في هذا الحديث تبين المراد وهي "إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار" ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ:
"لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا
يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل" فقيل كيف يكون ذلك قال:
"الهرج القاتل والمقتول في النار"
قال القرطبي: فبين هذا الحديث أن القتال إذا
كان على جهل من طلب دنيا أو إتباع هوى فهو
الذي أريد بقوله القاتل والمقتول في النار.
قال الحافظ:
ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل
وصفين أقل عددًا من الذين قاتلوا وكلهم متأول
مأجور إن شاء اللّه بخلاف من جاء
ج / 7 ص -48-
بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا اهـ. وهذا
يتوقف على صحة نيات جميع المقتتلين في الجمل
وصفين وإرادة كل واحد منهم الدين لا الدنيا
وصلاح أحوال الناس لا مجرد الملك ومناقشة
بعضهم لبعض مع علم بعضهم بأنه المبطل وخصمه
المحق ويبعد ذلك كل البعد ولا سيما في حق من
عرف منهم الحديث الصحيح أنها تقتل عمارًا
الفئة الباغية فإن إصراره بعد ذلك على مقاتلة
من كان معه عمار معاندة للحق وتماد في الباطل
كما لا يخفى على منصف وليس هذا منا محبة لفتح
باب المثالب على بعض الصحابة فإنا كما علم
اللّه من أشد الساعين في سد هذا الباب
والمنفرين للخاص والعام عن الدخول فيه حتى
كتبنا في ذلك رسائل وقعنا بسببها مع المتظهرين
بالرفض والمحبين له بدون تظهر في أمور يطول
شرحها حتى رمينا تارة بالنصب وتارة بالانحراف
عن مذاهب أهل البيت وتارة بالعداوة للشيعة
وجاءتنا الرسائل المشتملة على العتاب من كثير
من الأصحاب والسباب من جماعة من غير ذوي
الألباب. ومن رأي ما لأهل عصرنا من الجوابات
على رسالتنا التي سميناها إرشاد الغبي إلى
مذهب أهل البيت في صحب النبي وقف على بعض
أخلاق القوم وما جبلوا عليه من عداوة من سلك
مسلك الإنصاف وآثر نص الدليل على مذاهب
الأسلاف وعداوة الصحابة الأخيار وعدم التقييد
بمذاهب الآل الأطهار فإنا قد حكينا في تلك
الرسالة إجماعهم على تعظيم الصحابة رضي اللّه
عنهم وعلى برك السب لأحد منهم من ثلاث عشرة
طريقًا وأقمنا الحجة على من يزعم أنه من أتباع
أهل البيت ولا يتقيد بمذاهبهم في مثل هذا
الأمر الذي هو مزلة أقدام المقصرين فلم يقابل
ذلك بالقبول واللّه المستعان وأقول :
إني بليت بأهل الجهل في
زمن ** قاموا به ورجال العلم قد قعدوا اهـ.
ومما يؤيد ما تقدم من
التأويل للحديث المذكور ما أخرجه مسلم عن أبي
هريرة يرفعه: "من
قاتل تحت راية عمية فغضب لغضبه أو يدعو إلى
عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية" وقد قدمنا ما هو أبسط من هذا الكلام في باب دفع الصائل وباب أن
الدفع لا يلزم المصول عليه من كتاب الغضب
فراجعه.
قوله: "فقيل هذا
القاتل فما بال المقتول" القائل هو أبو بكرة
كما وقع مبينًا في رواية مسلم ومعنى ذلك أن
هذا القاتل قد استحق النار بذنبه وهو الإقدام
على قتل صاحبه فما بال المقتول أي فما ذنبه.
قوله: "قال قد أراد
قتل صاحبه" في لفظ للبخاري في كتاب
الإيمان: "إنه
كان حريصا على قتل صاحبه".
وقد استدل بذلك من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم
وإن لم يقع الفعل وأجاب من لم يقل بذلك أن في
ذلك فعلا وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال
ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن
يكونا في مرتبة واحدة فالقاتل يعذب على القتال
والقتل والمقتول يعذب على القتال فقط فلم يقع
التعذيب على العزم المجرد ويؤيد هذا حديث: "إن اللّه تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو
يعملوا".
قال في
الفتح: والحاصل أن المراتب ثلاث الهم المجرد وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به
واقتران الفعل بالهم أو بالعزم ولا نزاع في
المؤاخذة به والعزم وهو أقوى من الهم وفيه
النزاع.
قوله: "يتوجأ" أي
يضرب بها نفسه وحديث جندب البجلي
ج / 7 ص -49-
وأبي هريرة يدلان على أن من قتل نفسه من
المخلدين في النار فيكون عموم إخراج الموحدين
مخصصًا بمثل هذا وما ورد في معناه كما حققنا
ذلك مرارًا. وظاهر حديث جابر المذكور
يخالفهما فإن الرجل الذي قطع براجمه بالمشاقص
ومات من ذلك أخبر بعد موته الرجل الذي رآه في
المنام بأن اللّه تعالى غفر له ووقع منه صلى
اللّه عليه وآله وسلم التقرير لذلك بل دعا له
ويمكن الجمع بأنه لم يرد قتل نفسه بقطع
البراجم وإنما حمله الضجر وما حل به من المرض
على ذلك بخلاف الرجل المذكور في حديث جندب
فإنه قطع يده مريد القتل نفسه وعلى هذا فتكون
الأحاديث الواردة في تخليد من قتل نفسه في
النار وتحريم الجنة عليه مقيدة بأن يكون
مريدًا للقتل.
وقد أخرج الشيخان من
حديث أبي هريرة قال: "شهدنا مع رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال لرجل ممن يدعي
الإسلام:
"هذا من أهل النار"
فلما حضر القتال قاتل قتالا شديدًا فأصابه
جراح فقيل: يا رسول اللّه الذي قلت آنفًا
إنه من أهل النار قد قاتل قتالا شديدًا وقد
مات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
إلى النار
فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك
إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة
فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فأخذ
ذباب سيفه فتحامل عليه فقتل نفسه فأخبر بذلك
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال:
"اللّه أكبر أشهد أني عبد اللّه ورسوله" ثم أمر بلالا فنادى في الناس:
"إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن اللّه تعالى ليؤيد هذا الدين
بالرجل الفاجر".
وأخرج أبو داود من حديث جابر بن سمرة قال:
أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم برجل قتل
نفسه فقال:
"لا أصلي عليه".
قوله: "أرأيت إن
لقيت رجلا" في رواية للبخاري: "إني لقيت
كافرًا فاقتتلنا فضرب يدي فقطعها" وظاهرها
أن ذلك وقع والذي في نفس الأمر بخلافه وإنما
سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع كما في
حديث الباب. وفي لفظ للبخاري في غزوة بدر
بلفظ: "أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار"
الحديث.
قوله: "ثم لاذ مني
بشجرة" أي التجأ إليها. وفي رواية
للبخاري: "ثم لاذ بشجرة".
قوله: "فقال أسلمت
للّه" أي دخلت في الإسلام.
قوله: "فإن قتلته
فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" قال الكرماني:
القتل ليس سببًا لكون كل منهما بمنزلة الآخر
لكنه عند النحاة مؤول بالأخبار أي هو سبب
لإخباري لك بذلك وعند البيانيين المراد
لازمه.
قوله: "وأنت بمنزلته
قبل أن يقول كلمته" قال الخطابي: معناه أن
الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم فإذا
أسلم صار مصان الدم كالمسلم فإن قتله المسلم
بعد ذلك صار دمه مباحًا بحق القصاص كالكافر
بحق الدين وليس المراد إلحاقه به في الكفر كما
يقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة
وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ أي
إنه مثلك في صون الدم وإنك مثله في الهدر.
ونقل ابن التين عن الداودي أن معناه أنك صرت
قاتلا كما كان هو قاتلا وهذا من المعاريض لأنه
أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه وإنما
أراد أن كلا منهما قاتل ولم يرد أنه صار
كافرًا بقتله إياه ونقل ابن بطال عن المهلب أن
معناه أنك بقصدك لقتله عمدًا آثم كما كان هو
بقصده لقتلك آثمًا فأنتما في حالة واحدة من
العصيان. وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم
قبل
ج / 7 ص -50-
أن يسلم كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك
وقيل معناه أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما
أنك مغفور لك بشهادة بدر.
ونقل ابن بطال عن ابن
القصار أن معنى قوله وأنت بمنزلته أي في إباحة
الدم وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله لأن
الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله وتعقب بأن
الكافر مباح الدم والمسلم الذي قتله إن لم
يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله
متأولًا فلا يكون بمنزلته في إباحة الدم.
وقال القاضي عياض:
معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم
وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرًا والآخر
معصية واستدل بهذا الحديث على صحة إسلام من
قال أسلمت للّه ولم يزد على ذلك. وقد ورد في
بعض طرق الحديث أنه قال: "لا اله إلا
اللّه" كما في صحيح مسلم.
قوله: "فاجتووا
المدينة" أي استوخموها.
قوله: "فأخذ
مشاقص" جمع مشقص وقد تقدم تفسيره في باب من
اطلع في بيت قوم مغلق عليهم بغير إذنهم وقد
تقدم أيضًا في الحج.
قوله: "براجمه"
جمع برجمة بضم الموحدة وسكون الراء وضم
الجيم. قال في القاموس: وهي المفصل الظاهر
أو الباطن من الأصابع والإصبع الوسطى من كل
طائر أو هي مفاصل الأصابع كلها أو ظهور العصب
من الأصابع أو رؤوس السلاميات إذا قبضت كفك
نشزت وارتفعت اهـ.
قوله: "فشخبت"
بفتح الشين والخاء المعجمتين والباء الموحدة
أي انفجرت يداه دمًا.
قوله: "لن نصلح منك
ما أفسدت" فيه دليل على أن من أفسد عضوًا من
أعضائه لم يصلح يوم القيامة بل يبقى على الصفة
التي هي عليها عقوبة له.
10 - وعن عبادة بن
الصامت: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه:
"بايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئًا ولا
تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا
تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم ولا تعصوا في
معروف فمن وفى منكم فأجره على اللّه ومن أصاب
من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له
ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره اللّه فهو إلى
اللّه إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه
على ذلك" وفي لفظ: "فلا
تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق".
11 - وعن أبي سعيد: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأل
عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال:
إنه قد قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة
فقال: لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم
أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل
مائة نفس فهل له من توبة فقال: نعم من يحول
بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن
بها أناسًا يعبدون اللّه
ج / 7 ص -51-
فاعبد اللّه معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض
سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب
فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبًا مقبلا فقبله
اللّه وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل
خيرًا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه
بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى
أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى
الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة".
متفق عليهما.
12 - وعن واثلة بن
الأسقع قال: "أتينا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم في صاحب لنا أوجب يعني النار
بالقتل فقال:
"اعتقوا عنه يعتق اللّه بكل عضو منه عضوًا منه من النار". رواه أحمد وأبو داود. حديث واثلة أخرجه أيضًا النسائي وابن
حبان والحاكم.
قوله: "وحوله
عصابة" بفتح اللام على الظرفية. والعصابة
بكسر العين الجماعة من العشرة إلى الأربعين
ولا واحد لها من لفظها وقد جمعت على عصائب
وعصب.
قوله: "بايعوني"
المبايعة هنا عبارة عن المعاهدة سميت بذلك
تشبيهًا بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.
قوله: "ولا تقتلوا
أولادكم" قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره
خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم
فالعناية بالنهي عنه آكد ولأنه كان شائعًا
فيهم وهو وأد البنات أو قتل البنين خشية
الإملاق أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا
يدفعوا عن أنفسهم.
قوله: "ولا تأتوا
ببهتان" البهتان الكذب الذي يبهت سامعه وخص
الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال
يقع بهما إذا كانت هي العوامل والحوامل
للمباشرة والسعي ولذا يسمون الصنائع الأيادي
وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال هذا بما
كسبت يداك ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا
الناس كفاحًا وبعضكم شاهد بعضًا كما يقول قلت
كذا بين يدي فلان قاله الخطابي وقد تعقب بذكر
الأرجل وأجاب الكرماني بأن المراد الأيدي وذكر
الأرجل للتأكيد
"ومحصله"
أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيًا فليس بمانع
ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأرجل والأيدي
القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه فلذلك
نسب إليه الافتراء وقال أبو محمد بن أبي
جمرة: يحتمل أن يكون قوله بين أيديكم أي في
الحال. وقوله وأرجلكم أي في المستقبل لأن
السعي من أفعال الأرجل وقال غيره: أصل هذا
كان في بيعة النساء وكني به كما قال الهروي عن
نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلقطه إلى
زوجها ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال
احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا.
قوله: "ولا تعصوا في
معروف" هو ما عرف من الشارع حسنه نهيًا
وأمرًا
ج / 7 ص -52-
قال النووي: يحتمل أن يكون المراد ولا تعصوني ولا أحدًا ولي الأمر عليكم في
المعروف فيكون التقييد بالمعروف متعلقًا بشيء
بعده وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة
المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية للّه فهي
جديرة بالتوقي في معصية اللّه.
قوله: "فمن وفى
منكم" أي ثبت على العهد ولفظ وفي بالتخفيف
وفي رواية بالتشديد وهما بمعنى.
قوله: "فأجره على
اللّه" هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر
المبالغة المقتضية لوجود العوض أثبت ذكر الأجر
وقد وقع التصريح في رواية في الصحيحين بالعوض
فقال بالجنة.
قوله: "ومن أصاب من
ذلك شيئًا فعوقب به فهو" أي العقاب كفارة له
قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله
تعالى
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة. قال
الحافظ: وهذا بناء على أن قوله من ذلك شيئًا
يتناول جميع ما ذكر وهو ظاهر. وقد قيل يحتمل
أن يكون المراد ما ذكر بعد الشرك بقرينة أن
المخاطب بذلك المسلمون فلا يدخل حتى يحتاج إلى
إخراجه ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث
عن عبادة في هذا الحديث ومن أتى منكم حدًا إذ
القتل على الشرك لا يسمى حدًا ويجاب بأن خطاب
المسلمين لا يمنع التحذير لهم من الإشراك.
وأما كون القتل على
الشرك لا يسمى حدًا فإن أراد لغة أو شرعًا
فممنوع وإن أراد عرفًا فذلك غير نافع فالصواب
ما قاله النووي
وقال الطيبي:
الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو
الرياء ويدل عليه تنكير شيئًا أي شركًا أيا ما
كان. وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك
إنما يريد به ما يقابل التوحيد وقد تكرر هذا
اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا
ذلك.
وقال القاضي عياض:
ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات
واستدلوا بالحديث.
ومن العلماء من وقف لأجل
حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم في المستدرك
والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة: أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
"لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا"
قال الحافظ:
وهو صحيح على شرط الشيخين وقد أخرجه أحمد عن
عبد الرزاق عن معمر وذكر الدارقطني أن عبد
الرزاق تفرد بوصله وأن هشام بن يوسف رواه عن
معمر فأرسله. وقد وصله الحاكم من طريق آدم
بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب فقويت رواية معمر
قال القاضي عياض: لكن حديث عبادة أصح
إسنادًا.
ويمكن الجمع بينهما بأن
يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه
اللّه ثم أعلمه بعد ذلك وهذا جمع حسن لولا أن
القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة
المذكور كان بمكة ليلة العقبة لما بايع
الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
البيعة الأولى بمنى وأبو هريرة إنما أسلم بعد
ذلك بسبع سنين عام خيبر فكيف يكون حديثه
متقدمًا ويمكن أن يجاب بأن أبا هريرة لم يسمعه
من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإنما سمعه
من صحابي آخر كان سمعه من النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قديمًا ولم يسمع من النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة
كما سمع عبادة ولا يخفى ما في هذا من التعسف
على أنه يبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه من
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأن الحدود لم
تكن نزلت إذ ذاك ورجح الحافظ أن حديث عبادة
المذكور لم يقع ليلة العقبة وإنما وقع في ليلة
ج / 7 ص -53-
العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل
المغازي: أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال لمن حضر من الأنصار
"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" فبايعوه على ذلك وعلى
أن يرحل إليهم هو وأصحابه"
وقد ثبت في الصحيح من حديث عبادة أنه قال:
"بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر
والمنشط والمكره"
الحديث ساقه البخاري في كتاب الفتن من صحيحه
وأخرج أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة
أنها جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية
بالشام فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا
إذ
بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على السمع والطاعة والنشاط
والكسل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في اللّه لومة
لائم وعلى أن ننصر رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع
به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة" الحديث.
قال الحافظ: والذي
يقوي أن هذه البيعة المذكورة في حديث عبادة
وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في
الممتحنة وهو قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ
يُبَايِعْنَكَ}
ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا
خلاف والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب
الحدود في حديث عبادة هذا أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها
وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال قرأ
النساء. ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال
فتلا علينا آية النساء قال:
{أن لا يشركن باللّه شيئًا}
وللطبراني من هذا الحديث: "بايعنا
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ما
بايع عليه النساء يوم الفتح" ولمسلم:
"أخذ علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم كما أخذ على النساء" فهذه أدلة ظاهرة في هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية بل بعد
صدور البيعة بل بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام
أبي هريرة بمدة وقد أطال الحافظ في الفتح
الكلام في كتاب الإيمان على هذا فمن رام
الاستكمال فليراجعه.
واعلم أن عبادة بن
الصامت لم يتفرد برواية هذا المعنى بل روى ذلك
علي ابن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم
وفيه: "من أصاب ذنبًا فعوقب به في الدنيا فاللّه أكرم من أن يثني العقوبة
على عبده في الآخرة"
وهو عند الطبراني بإسناد حسن ولفظه:
"من أصاب ذنبًا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو
كفارة له".
وللطبراني عن ابن عمر
مرفوعًا: "ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله اللّه كفارة لما أصاب من ذلك الذنب"
قال ابن التين: يريد بقوله فعوقب به أي
بالقطع في السرقة والجلد أو الرجم في الزنا
وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة إلا أن
يريد قتل النفس فكني عنه.
وفي رواية الصنابحي عن
عبادة في هذا الحديث ولا تقتلوا النفس التي
حرم اللّه إلا بالحق ولكن قوله في حديث الباب
فعوقب به هو أعم من أن تكون العقوبة حدًا أو
تعزيرًا قال ابن التين وحكى عن القاضي إسماعيل
وغيره أن قتل القاتل إنما هو ارداع لغيره وأما
في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لأنه لم يصل
إليه حق.
قال الحافظ:
بل وصل إليه حق وأي حق فإن المقتول ظلمًا تكفر
عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه
ابن حبان أن السيف محاء للخطايا.
وروى الطبراني عن ابن
مسعود قال: إذا جاء القتل محا كل شيء
وللطبراني أيضًا عن الحسن بن علي نحوه.
وللبزار عن عائشة مرفوعًا:
"لا يمر القتل بذنب إلا محاه فلولا القتل ما كفرت ولو كان حد
ج / 7 ص -54-
القتل إنما شرع للارداع فقط لم يشرع العفو
عن القاتل ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد
كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود.
قال في الفتح:
وهو قول الجمهور وقيل لا بد من التوبة وبذلك
جزم بعض التابعين وهو قول المعتزلة ووافقهم
ابن حزم ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة.
قوله: "فهو إلى
اللّه"
قال المازري:
فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ورد
على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا
مات بلا توبة لأن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أخبرنا بأنه تحت المشيئة ولم يقل لا بد
أن يعذبه
وقال الطيبي:
فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد
أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه.
قوله: "إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه"
يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب وإلى ذلك ذهبت
طائفة وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى
عليه مؤاخذة ومع ذلك لا يأمن من مكر اللّه
لأنه لا إطلاع له هل قبلت توبته أم لا وقيل
يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب.
قوله: "انطلق إلى
أرض كذا وكذا" الخ قال العلماء: في هذا
استحباب مفارقة التائب للمواضع التي أصاب بها
الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك
ومقاطعتهم ما داموا على حالهم وأن يستبدل بهم
صحبة الخير والصلاح والمتعبدين الورعين.
قوله: "نصف
الطريق" هو بتخفيف الصاد أي بلغ نصفها كذا
قال النووي.
قوله: "فقال قيسوا
ما بين الأرضين" هذا محمول على أن اللّه
أمرهم عند اشتباه الأمر عليهم واختلافهم فيه
أن يحكموا رجلا يمر بهم فمر الملك في صورة رجل
فحكم بذلك. وقد استدل بهذا الحديث على قبول
توبة القاتل عمدًا.
قال النووي:
هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم ولم يخالف أحد
منهم إلا ابن عباس وأما ما نقل عن بعض السلف
من خلاف هذا فمراد قائله الزجر والتورية لا
أنه يعتقد بطلان توبته وهذا الحديث وإن كان
شرع من قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف فليس هذا
موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا
بموافقته وتقديره فإن ورد كان شرعًا لنا بلا
شك وهذا قد ورد شرعنا به وذلك قوله تعالى
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ}
إلى قوله {إِلاَّ مَنْ تَابَ}
الآية وأما قوله تعالى {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} فقال النووي في شرح مسلم: إن الصواب في معناها أن جزاءه جهنم
فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره وقد لا يجازى
بل يعفى عنه فإن قتل عمدًا مستحلا بغير حق ولا
تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع
وإن كان غير مستحل بل معتقدًا تحريمه فهو فاسق
عاص مرتكب كبيرة جزاؤها جهنم خالدًا فيها لكن
تفضل اللّه تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات
موحدًا فيها فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه
ولا يدخل النار أصلًا وقد لا يعفى عنه بل يعذب
كسائر عصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة
ولا يخلد في النار قال: فهذا هو الصواب في
معنى الآية ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى
بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء وليس في
الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم وإنما فيها
أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى بذلك وقيل وردت
الآية في رجل بعينه وقيل المراد بالخلود طول
المدة لا الدوام وقيل معناها هذا جزاؤه إن
جازاه وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة
ج / 7 ص -55-
لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ثم قال فالصواب
ما قدمناه اهـ كلام النووي. وينبغي أن نتكلم
أولًا في معنى الخلود ثم نبين ثانيًا الجمع
بين هذه الآية وبين ما خالفها فنقول معنى
الخلود الثبات الدائم قال في الكشاف عند
الكلام على قوله تعالى {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ما لفظه: والخلد الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع
قال اللّه تعالى {وَمَا
جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} وقال امرؤ القيس:
ألا أنعم صباحًا أيها
الطل البالي ** وهل ينعمن من كان في العصر
الخالي
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
** قليل الهموم لا يبيت على حال
اهـ. وقال في
القاموس: وخلد خلودًا دام اهـ وأما بيان
الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول لا نزاع
أن قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً}
من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب بل
للمسلم والكافر والاستثناء المذكور في آية
الفرقان أعني قوله تعالى
{إِلاَّ مَنْ تَابَ}
بعد قوله تعالى
{وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} مختص بالتائبين فيكون مخصصًا لعموم قوله تعالى
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً}
إما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام
على الخاص مطلقًا تقدم أو تأخر أو قارن فظاهر
وإما على مذهب من قال أن العام المتأخر ينسخ
الخاص المتقدم فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً}
على آية الفرقان فلا نسلم تأخرها عن العمومات
القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره
اللّه كقوله تعالى {يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً}
وقوله تعالى
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه" وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسال قال: قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه
أربعين أو سبعين سنة خلقه اللّه تعالى يوم خلق
السماوات والأرض مفتوح للتوبة لا يغلق حتى
تطلع الشمس من مغربها". وأخرج الترمذي أيضًا عن ابن عمر: أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
"إن اللّه عز وجل يقبل توبة العبد ما لم
يغرغر"
وأخرج مسلم من حديث أبي موسى: أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"إن اللّه عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده لا يقال إن هذه العمومات مخصصة
بقوله تعالى {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً}
الآية. لأنا نقول الآية أعم من وجه وهو
شمولها للتائب وغيره وأخص من وجه وهو كونها في
القاتل وهذه العمومات أعم من وجه وهو شمولها
لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل
وأخص من وجه وهو كونها في التائب وإذا تعارض
عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح ولا شك
أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقًا أرجح
لكثرتها وهكذا أيضًا يقال إن الأحاديث القاضية
بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى
كما يعرف ذلك من له إلمام
ج / 7 ص -56-
بكتب الحديث تدل على خروج كل موحد سواء كان
ذنبه القتل أو غيره والآية القاضية بخروج من
قتل نفسًا هي أعم من أن يكون القاتل موحدًا أو
غير موحد فيتعارض عمومان وكلاهما ظني الدلالة
ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته بخلاف
أحاديث خروج الموحدين فإنها إنما عورضت بما هو
أعم منها مطلقًا كآيات الوعيد للعصاة الدالة
على الخلود الشاملة للكافر والمسلم ولا حكم
لهذه المعارضة أو بما هو أخص منها مطلقًا
كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي نحو
من قتل نفسه وهو يبنى العام على الخاص وبما
قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة
القاتل إذا تاب وعدم خلوده في النار إذا لم
يتب ويتبين لك أيضًا أنه لا حجة فيما احتج به
ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله
تعالى
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية كما أخرج ذلك عنه البخاري ومسلم وغيرهما وكذلك لا حجة له
فيهما أخرجه النسائي والترمذي عنه: أنه سمع
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"يجيء المقتول متعلقًا بالقاتل يوم القيامة
ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دمًا يقول يا
رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش"
وفي رواية للنسائي:
"فيقول أي رب سل هذا فيما قتلني" لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي اللّه عز وجل وذلك لا يستلزم
أخذ التائب بذلك الذنب ولا تخليده في النار
على فرض عدم التوبة والتوبة النافعة ههنا هي
الاعتراف بالقتل عند الوارث إن كان له وارث أو
السلطان إن لم يكن له وارث والندم عن ذلك
الفعل والعزم على ترك العود إلى مثله لا مجرد
الندم والعزم بدون اعتراف وتسليم للنفس أو
الدية إن اختارها مستحقها لأن حق الآدمي لا بد
فيه من أمر زائد على حقوق اللّه وهو تسليمه أو
تسليم عوضه بعد الاعتراف به.
فإن قلت فعلام تحمل حديث
أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول
الباب فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين
على القتل يلقى اللّه مكتوبًا بين عينيه
الإياس من الرحمة والثاني يقضي بأن ذنب القتل
لا يغفره اللّه – قلت - هما محمولان على عدم
صدور التوبة من القاتل والدليل على هذا
التأويل ما في الباب من الأدلة القاضية
بالقبول عمومًا وخصوصًا ولو لم يكن من ذلك إلا
حديث الرجل القاتل للمائة التي تنازعت فيه
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وحديث عبادة
بن الصامت المذكور قبله فإنهما يلجئان إلى
المصير إلى ذلك التأويل ولا سيما مع ما قدمنا
من تأخر تاريخ حديث عبادة ومع كون الحديثين في
الصحيحين بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية وأيضًا
في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل
فإنه جعل الرجل القاتل عمدًا مقترنًا بالرجل
الذي يموت كافرًا ولا شك أن الذي يموت كافرًا
مصرًا على ذنبه غير تائب من المخلدين في النار
فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب
الكفر فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى
بقبولها.
وقد قال العلامة الزمخشري في الكشاف:
إن هذه الآية يعني قوله {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً}
فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد
أمر عظيم وخطب غليظ قال: ومن ثم روي عن ابن
عباس ما روي من أن توبة قاتل المؤمن عمدًا غير
مقبولة. وعن سفيان كان أهل العلم إذا
ج / 7 ص -57-
سئلوا قالوا لا توبة له وذلك محمول منهم على
الإقتداء بسنة اللّه في التغليظ والتشديد وإلا
فكل ذنب ممحو بالتوبة وناهيك بمحو الشرك
دليلًا ثم ذكر حديث: "لزوال
الدنيا أهون على اللّه من قتل رجل مسلم"
وهو عند النسائي من حديث بريدة. وعند ابن
ماجه من حديث البراء. وعند النسائي أيضًا من
حديث ابن عمر. وأخرجه أيضًا الترمذي.
وأما حديث واثلة بن
الأسقع الذي ذكره المصنف في الرجل الذي أوجب
على نفسه النار بالقتل فأمرهم صلى اللّه عليه
وآله وسلم بأن يعتقوا عنه فهو من أدلة قبول
توبة القاتل عمدًا ولا بد من حمله على التوبة
فإذا تاب القاتل عمدًا فإنه يشرع له التكفير
لهذا الحديث وهو دليل على ثبوت الكفارة في قتل
العمد كما ذهب إليه الشافعي وأصحابه. ومن
أهل البيت القاسم والهادي والمؤيد باللّه
والإمام يحيى وقد حكى في البحر عن الهادي عدم
الوجوب في العمد ولكنه نص في الأحكام والمنتخب
على الوجوب فيه وهذا إذا عفا عن القاتل أو رضي
الوارث بالدية وأما إذا اقتص منه فلا كفارة
عليه بل القتل كفارته لحديث عبادة المذكور في
الباب. ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة:
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"القتل كفارة"
وهو من حديث خزيمة بن ثابت وفي إسناده ابن
لهيعة
قال الحافظ:
لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنًا.
ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي
موقوفًا عليه.
وأما الكفارة في قتل
الخطأ فهي واجبة بالإجماع وهو نص القرآن
الكريم.
أبواب الديات
باب دية النفس وأعضائها ومنافعها
1 - عن أبي بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كتب إلى أهل
اليمن كتاباً وكان في كتابه
"أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضي أولياء
المقتول وأن في النفس الدية مائة من الإبل وأن
في الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان
الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية
وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين
الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي
المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي
المنقلة خمسة عشر من الإبل وفي كل إصبع من
أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس
من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل
يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار".
رواه النسائي. وقال: وقد روى هذا الحديث
يونس عن الزهري مرسلاً.
ج / 7 ص -58-
الحديث أخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان
وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولاً.
وأخرجه أيضاً أبو داود في المراسيل وقد صححه
جماعة من أئمة الحديث منهم أحمد والحاكم وابن
حبان والبيهقي وقد قدمنا بسط الكلام عليه
واختلاف الحفاظ فيه في باب قتل الرجل
بالمرأة.
قوله: "من اعتبط"
بعين مهملة فمثناة فوقية فموحدة فطاء مهملة
وهو القتل بغير سبب موجب وأصله من اعتبط
الناقة إذا ذبحها من غير مرض ولا داء فمن قتل
مؤمناً كذلك وقامت عليه البينة بالقتل وجب
عليه القود إلا أن يرضي أولياء المقتول بالدية
أو يقع منهم العفو.
قوله: "وأن في النفس
مائة من الإبل" الاقتصار على هذا النوع من
أنواع الدية يدل على أنه الأصل في الوجوب كما
ذهب إليه الشافعي ومن أهل البيت القاسم بن
إبراهيم قالا وبقية الأصناف كانت مصالحة لا
تقديراً شرعياً.
وقال أبو حنيفة وزفر
والشافعي قي قول له بل هي من الإبل للنص ومن
النقدين تقويماً إذ هما قيم المتلفات وما
سواهما صلح. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن
الدية من الإبل مائة ومن البقر مائتان ومن
الغنم ألفان ومن الذهب ألف مثقال واختلفوا في
الفضة فذهب الهادي والمؤيد باللّه إلى أنها
عشرة آلاف درهم وذهب مالك والشافعي في قول له
إلى أنها اثني عشر ألف درهم.
قال زيد بن علي والناصر:
أو مائتا حلة الحلة إزار ورداء أو قميص
وسراويل وستأتي أدلة هذه الأقوال في باب أجناس
الدية وسيأتي أيضاً الخلاف في صفة الإبل
وتنوعها.
قوله: "وأن في الأنف
إذا أوعب جدعه الدية" بضم الهمزة من أوعب
على البناء للمجهول أي قطع جميعه وفي هذا دليل
على أنه يجب في قطع الأنف جميعه الدية قال في
البحر: فصل والأنف مركبة من قصبة ومارن
وأرنبة وروثة وفيها الدية إذا استؤصلت من أصل
القصبة إجماعاً ثم قال: فرع قال الهادي:
وفي كل واحد من الأربع حكومة وقال الناصر
والفقهاء بل في المارن الدية وفي بعضه حصته
وأجاب عن ذلك بأن المارن وحده لا يسمى أنفاً
وإنما الدية في الأنف ورد بما رواه الشافعي عن
طاوس أنه قال عندنا في كتاب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وفي الأنف إذا قطع مارنه
مائة من الإبل.
وأخرج البيهقي من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
"قضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا جدعت ثندوة الأنف بنصف
العقل خمسون من الإبل وعدلها من الذهب
والورق".
قال في النهاية:
أراد بالثندوة هنا روثة الأنف وهي طرفه ومقدمه
اهـ. وإنما قال أراد بالثندوة هنا لأنها في
الأصل لحم الثدي أو أصله على ما في القاموس
وفي القاموس أيضاً أن المارن الأنف أو طرفه أو
ما لان منه وفيه أن الأرنبة طرف الأنف وفيه
أيضاً أن الروثة طرف الأرنبة قال في البحر:
فرع فإن قطع الأرنبة وهي الغضروف الذي يجمع
المنخرين ففيه الدية إذ هو زوج كالعينين وفي
الوترة حكومة وهي الحاجزة بين المنخرين وفي
إحداهما نصف الدية وفي الحاجز حكومة فإن قطع
المارن والقصبة أو المارن والجلدة التي تحته
لزمت دية وحكومة اهـ.
والوترة هي الوتيرة.
قال في القاموس: وهي حجاب ما بين
المنخرين.
قوله: "وفي اللسان
الدية" فيه دليل على أن الواجب في اللسان
إذا قطع جميعه الدية. وقد حكى صاحب البحر
الإجماع على ذلك قال: فإن جنى ما أبطل كلامه
فدية فإن
ج / 7 ص -59-
أبطل بعضه فحصته ويعتبر بعدد الحروف وقيل
بعدد حروف اللسان فقط وهي ثمانية عشر حرفاً لا
بما عداها واختلف في لسان الأخرس إذا قطعت
فذهب الأكثر إلى أنها يجب فيها حكومة فقط وذهب
النخعي إلى أنها يجب فيها دية.
قوله: "وفي الشفتين
الدية" إلى هذا ذهب جمهور أهل العلم وقيل
إنه مجمع عليه قال في البحر: وحدهما من تحت
المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه ولا
فضل لأحدهما على الأخرى عند أبي حنيفة
والشافعي والناصر والهادوية. وذهب زيد بن
ثابت إلى أن دية العليا ثلث والسفلى ثلثان
ومثله في المنتخب قال في البحر: إذ منافع
السفلى أكثر للجمال والإمساك يعني للطعام
والشراب وأجاب عنه بقوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"وفي الشفتين الدية"
ولم يفصل ولا يخفى أن غاية ما في هذا أنه يجب
في المجموع دية وليس ظاهراً في أن لكل واحدة
نصف دية حتى يكون ترك الفصل منه صلى اللّه
عليه وآله وسلم مشعراً بذلك ولا شك أن في
السفلى نفعاً زائداً على النفع الكائن في
العليا ولو لم يكن إلا الإمساك للطعام والشراب
على فرض الاستواء في الجمال.
قوله: "وفي البيضتين
الدية" وفي رواية: "وفي الأنثيين
الدية" ومعناهما ومعنى البيضتين واحد كما في
الصحاح والضياء والقاموس. وذكر في الغيث أن
الأنثيين هما الجلدتان المحيطتان بالبيضتين
فينظر في أصل ذلك فإن كتب اللغة على خلافه وقد
قيل أن وجوب الدية في البيضتين مجمع عليه وذهب
الجمهور إلى أن الواجب في كل واحدة نصف الدية
وحكى في البحر عن علي عليه السلام أن في
اليسرى ثلثي الدية إذ النسل منها وفي اليمنى
ثلثها وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب.
قوله: "وفي الذكر
الدية" هذا مما لا يعرف فيه خلاف بين أهل
العلم وظاهر الدليل عدم الفرق بين ذكر الشاب
والشيخ والصبي كما صرح به الشافعي والإمام
يحيى وأما ذكر العنين والخصي فذهب الجمهور إلى
أن فيه حكومة وذهب البعض إلى أن فيه الدية إذ
لم يفصل الدليل.
قوله: "وفي الصلب
الدية" قال في القاموس: الصلب بالضم
وبالتحريك عظم من لدن الكاهن إلى العجب اهـ.
ولا أعرف خلافاً في وجوب
الدية فيه وقد قيل إن المراد بالصلب هنا هو ما
في الجدول المنحدر من الدماغ لتفريق الرطوبة
في الأعضاء لا نفس المتن بدليل ما رواه ابن
المنذر عن علي عليه السلام أنه قال: في
الصلب الدية إذا منع من الجماع هكذا في ضوء
النهار والأولى حمل الصلب في كلام الشارع على
المعنى اللغوي وعلى فرض صلاحية قول علي لتقييد
ما ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فليس من
لازمه تفسير الصلب بغير المتن بل غايته أن
يعتبر مع كسر المتن زيادة وهي الإفضاء إلى منع
الجماع لا مجرد الكسر مع إمكان الجماع.
قوله: "وفي العينين
الدية" هذا مما لا أعرف فيه خلافاً بين أهل
العلم وكذلك لا يعرف الخلاف بينهم في أن
الواجب في كل عين نصف الدية وإنما اختلفوا في
عين الأعور فحكي في البحر عن الأوزاعي والنخعي
والعترة والحنفية والشافعية أن الواجب فيها
نصف الدية إذا لم يفصل الدليل. وحكي أيضاً
عن علي عليه السلام وعمر وابن عمر والزهري
ومالك والليث وأحمد وإسحاق أن الواجب فيها دية
كاملة لعماه بذهابها. وأجاب عنه بأن الدليل
لم يفصل وهو الظاهر ثم حكي أيضاً عن العترة
والشافعية والحنفية أنه يقتص من الأعور إذا
أذهب عين من له عينان
ج / 7 ص -60-
وخالف
في ذلك أحمد بن حنبل والظاهر ما قاله
الأولون.
قوله: "وفي الرجل الواحدة نصف الدية"
هذا أيضاً مما لا أعرف فيه خلافاً وهكذا لا
خلاف في أن في اليدين دية كاملة. قال في
البحر: وحد موجب الدية مفصل الساق واليدان
كالرجلين بلا خلاف والحد الموجب للدية من
الكوع كما حكاه صاحب البحر عن العترة وأبي
حنيفة والشافعي فإن قطعت اليد من المنكب أو
الرجل من الركبة ففي كل واحدة منهما نصف دية
وحكومة عند أبي حنيفة ومحمد والقاسمية والمؤيد
باللّه وعند أبي يوسف والشافعي في قول له أنه
يدخل الزائد على الكوع ومفصل الساق في دية
اليد والرجل فلا تجب حكومة لذلك.
قوله: "وفي المأمومة ثلث الدية" هي
الجناية البالغة أم الدماغ وهو الدماغ أو
الجلدة الرقيقة التي عليه كما حكاه صاحب
القاموس وإلى إيجاب ثلث الدية فقط في المأمومة
ذهب علي وعمر والعترة والحنفية والشافعية وذهب
بعض أصحاب الشافعي إلى أنه يجب مع ثلث الدية
حكومة لغشاوة الدماغ. وحكى ابن المنذر
الإجماع على أنه يجب في المأمومة ثلث الدية
إلا عن مكحول فإنه قال يجب الثلث مع الخطأ
والثلثان مع العمد.
قوله: "وفي الجائفة ثلث الدية" قال في
القاموس: الجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف
أو تنفذه ثم فسر الجوف بالبطن. وقال في
البحر: هي ما وصل جوف العضو من ظهر أو صدر
أو ورك أو عنق أو ساق أو عضد مما له جوف وهكذا
في الانتصار وفي الغيث أنها ما وصل الجوف وهو
من ثغرة النحر إلى المثانة اهـ. وهذا هو
المعروف عند أهل العلم والمذكور في كتب
اللغة. وإلى وجوب ثلث الدية في الجائفة ذهب
الجمهور وحكى في نهاية المجتهد الإجماع على
ذلك.
قوله: "وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل"
في رواية: "خمس عشرة" قال في القاموس:
هي الشجة التي ينقل منها فراش العظام وهي قشور
تكون على العظم دون اللحم وفي النهاية إنها
التي تخرج صغار العظام وتنتقل عن أماكنها وقيل
التي تنقل العظم أي تكسره وقد حكى صاحب البحر
القول بإيجاب خمس عشرة ناقة عن علي وزيد بن
ثابت والعترة والفريقين يعني الشافعية
والحنفية.
قوله: "وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل
عشر من الإبل" هذا مذهب الأكثرين وروي عن
عمر أنه كان يجعل في الخنصر ستاً من الإبل وفي
البنصر تسعاً وفي الوسطى عشراً وفي السبابة
اثنتي عشرة وفي الإبهام ثلاث عشرة ثم روي عنه
الرجوع عن ذلك وروي عن مجاهد أنه قال في
الإبهام خمس عشرة وفي التي تليها عشر وفي
الوسطى عشر وفي التي تليها ثمان وفي الخنصر
سبع وهو مردود بحديث الباب وبما سيأتي قريباً
من حديث أبي موسى وعمرو بن شعيب وذهبت
الشافعية والحنفية والقاسمية إلى أن في كل
أنملة ثلث دية الإصبع إلا أنملة الإبهام ففيها
النصف وقال مالك بل الثلث.
قوله: "وفي السن خمس من الإبل" ذهب إلى
هذا جمهور العلماء. وظاهر الحديث عدم الفرق
بين الثنايا والأنياب والضروس لأنه يصدق على
كل منها أنه سن.
وروي عن علي أنه يجب في الضرس عشر من الإبل
وروي عن عمر وابن عباس أنه يجب في كل ثنية
خمسون ديناراً وفي الناجذ أربعون وفي الناب
ثلاثون وفي كل ضرس خمسة وعشرون.
ج / 7 ص -61-
وروى مالك والشافعي عن عمر أن في كسر الضرس
جملاً قال الشافعي وبه أقول لأني لا أعلم له
مخالفاً من الصحابة وفي قول للشافعي في كل سن
خمس من الإبل ما لم يزد على دية النفس وإلا
كفت في جميعها دية وأجاب عنه في البحر بأنه
خلاف الإجماع ورد بأنه لا وجه للحكم بمخالفة
الإجماع لاختلاف الناس في دية الأسنان وسيأتي
قريباً ما يدل على أن جميع الأسنان مستوية.
قوله: "وفي الموضحة
خمس من الإبل" هي التي تكشف العظم بلا هشم
وقد ذهب إلى إيجاب الخمس في الموضحة الشافعية
والحنفية والعترة وجماعة من الصحابة وروي عن
مالك أن الموضحة إن كانت في الأنف أو اللحى
الأسفل فحكومة وإلا فخمس من الإبل. وذهب
سعيد بن المسيب إلى أنه يجب في الموضحة عشر
الدية وذلك عشر من الإبل وتقدير أرش الموضحة
المذكورة في الحديث إنما هو في موضحة الرأس
والوجه لا موضحة ما عداهما من البدن فإنها على
النصف من ذلك كما هو المختار لمذهب الهادوية
وكذلك الهاشمة والمنقلة والدامية وسائر
الجنايات وحكى في البحر عن الإمام يحيى أن
الموضحة والهاشمة والمنقلة إنما أرشها المقدر
في الرأس وفيها في غيره حكومة وقيل بل في جميع
البدن لحصول معناها حيث وقعت.
قال في البحر:
وهو الأقرب للمذهب لكن ينسب من دية ذلك العضو
قياساً على الرأس ففي الموضحة نصف عشر دية ما
هي فيه اهـ وحكى في البحر أيضاً في موضع آخر
عن الإمام يحيى والقاسمية وأحد قولي الشافعي
أن في الموضحة ونحوها في غير الرأس حكومة إذا
لم يقدر الشرع أرشها إلا فيه وحكى الشافعي في
قول له أن الحكم واحد قال الإمام يحيى وهو غير
بعيد إذ لم يفصل الخبر اهـ. وهو يستفاد
أيضاً من العموم المستفاد من تحلية الموضحة
بالألف واللام وأخرج البيهقي عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر قالا في
الموضحة في الوجه والرأس سواء. وأخرج
البيهقي أيضاً عن سليمان بن يسار نحو ذلك.
قوله: "وأن الرجل
يقتل بالمرأة" قد تقدم الكلام على هذا
مبسوطاً.
قوله: "وعلى أهل
الذهب ألف دينار" فيه دليل لمن جعل الذهب من
أنواع الدية الشرعية كما سلف.
2 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
"قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملاً وإذا
جدعت أرنبته فنصف العقل وقضى في العين نصف
العقل والرجل نصف العقل واليد نصف العقل
والمأمومة ثلث العقل والمنقلة خمسة عشر من
الإبل". رواه أحمد. ورواه أبو داود وابن ماجه ولم يذكرا فيه العين
ولا المنقلة.
3 - وعن ابن عباس:
عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"هذه وهذه سواء يعني الخنصر والبنصر والإبهام".
رواه الجماعة إلا مسلماً. وفي رواية:
"قال دية
ج / 7 ص -62-
أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكل
إصبع" رواه الترمذي وصححه.
4 - وعن ابن عباس:
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"الأسنان سواء الثنية والضرس سواء". رواه أبو داود وابن ماجه.
5 - وعن أبي موسى:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى في
الأصابع بعشر عشر من الإبل". رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
6 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"في كل إصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من
الإبل والأصابع سواء والأسنان سواء". رواه الخمسة إلا الترمذي.
7 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال في المواضح:
"خمس خمس من الإبل".
رواه الخمسة.
8 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى في العين العوراء السادة
لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء
إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا
نزعت بثلث ديتها".
رواه النسائي. ولأبي داود منه: "قضى
في العين القائمة السادة لمكانها بثلث
الدية".
9 - وعن عمر بن
الخطاب:
"أنه قضى في رجل ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره
ونكاحه وعقله بأربع ديات". ذكره أحمد بن حنبل في رواية أبي الحارث وابنه عبد اللّه.
حديث عمرو بن شعيب الأول
في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد
تكلم فيه جماعة من أهل العلم ووثقه جماعة ولفظ
أبي داود:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأنف إذا جدع الدية
كاملة وإن جدعت ثندوته فنصف العقل خمسون من
الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق أو مائة
بقرة أو ألف شاة وفي اليد إذا قطعت نصف العقل
وفي الرجل نصف العقل وفي المأمومة ثلث العقل
ثلاث وثلاثون وثلث أو قيمتها من الذهب أو
الورق أو البقر أو الشاة والجائفة مثل ذلك وفي
الأصابع في كل إصبع عشر من الإبل" وهو حديث طويل.
وحديث ابن عباس الثاني
أخرجه أيضاً البزار وابن حبان ورجال إسناده
رجال الصحيح.
وحديث أبي موسى أخرجه
أيضاً ابن حبان وابن ماجه وسكت عنه أبو داود
والمنذري
ج / 7 ص -63-
وإسناده لا بأس به.
وحديث عمرو بن شعيب
الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وصاحب
التلخيص ورجال إسناده إلى عمرو بن شعيب
ثقات. وحديثه الثالث أخرجه أيضاً ابن خزيمة
وابن الجارود وصححاه.
وحديثه الرابع سكت عنه
أبو داود والنسائي ورجال إسناده إلى عمرو بن
شعيب ثقات.
وأثر عمر أخرجه أيضاً
ابن شيبة عن خالد عن عوف سمعت شيخاً في زمن
الحاكم وهو ابن المهلب عم أبي قلابة قال:
رمى رجل رجلاً بحجر في رأسه في زمن عمر فذهب
سمعه وبصره وعقله وذكره فلم يقرب النساء فقضى
عمر فيه بأربع ديات وهو حي وقدمنا الكلام
المتعلق بفقه أكثر هذه الأحاديث في شرح حديث
عمرو بن حزم المذكور في أول الباب ونتكلم الآن
على ما لم يذكر هنالك.
قوله: "فنصف
العقل" أي الدية.
قوله: "هذه وهذه
سواء" الخ هذا نص صريح يرد القول بالتفاضل
بين الأصابع ولا أعرف مخالفاً من أهل العلم
لما يقتضيه إلا ما روي عن عمر ومجاهد وقد
قدمنا أنه روي عن عمر الرجوع.
قوله: "الأسنان
سواء" هذه جملة مستقلة لفظ الأسنان فيها
مبتدأ ولفظ سواء خبره.
وقوله: "الثنية"
مبتدأ والضرس مبتدأ آخر والخبر عنهما قوله
سواء وإنما تعرضنا لمثل هذا مع وضوحه لأنه
ربما ظن أن سواء الأولى بمعنى غير وأن الخبر
عن الأسنان هو سواء الثانية ويكون التقدير
الأسنان غير الثنية والضرس سواء ولا شك أن هذا
غير مراد بل المراد الحكم على جميع الأسنان
التي يدخل تحتها الثنية والضرس بالاستواء
والتنصيص على الثنية والضرس إنما هو لدفع توهم
عدم دخولهما تحت الأسنان ولهذا اقتصر في
الرواية الثانية على قوله الأسنان سواء وبهذا
يندفع قول من ذهب إلى تفضيل الثنية والضرس من
الصحابة وغيرهم وقول من حكم في الأسنان بأحكام
مختلفة كما سلف.
قوله: "قضى في العين
العوراء السادة لمكانها" أي التي هي باقية
لم يذهب إلا نورها والمراد بالطمس ذهاب جرمها
وإنما وجب فيها ثلث دية العين الصحيحة لأنها
كانت بعد ذهاب بصرها باقية الجمال فإذا قلعت
أو فقئت ذهب ذلك.
قوله: "وفي اليد
الشلاء" الخ هي التي لا نفع فيها وإنما وجب
فيها ثلث دية الصحيحة لذهاب الجمال أيضاً.
قوله: "وفي السن
السوداء" الخ نفع السن السوداء باق وإنما
ذهب منها مجرد الجمال فيكون على هذا التقدير
ذهاب النفع كذهاب الجمال وبقاؤه فقط كبقائه
وحده قال في البحر: مسألة وإذا اسود السن
وضعف ففيه الدية لذهاب الجمال والمنفعة ولقول
علي عليه السلام إذا اسودت فقد تم عقلها أي
ديتها فإن لم تضعف فحكومة وقال الناصر وزفر
وكذا لو اصفرت أو احمرت وقيل لا شيء في
الاصفرار إذ أكثر الأسنان كذلك قلنا إذا لم
يحصل بجناية اهـ. قوله: "بأربع ديات"
فيه دليل على أنه يجب في كل واحد من الأربعة
المذكورة دية عند من يجعل قول الصحابي حجة وقد
استدل بها صاحب البحر وزعم أنه لم ينكره أحد
من الصحابة فكان إجماعاً
وقد قال الحافظ ابن حجر في التلخيص:
إنه وجد في حديث معاذ في السمع الدية قال:
وقد رواه البيهقي من طريق قتادة عن ابن المسيب
عن علي رضي اللّه عنه وقد زعم الرافعي أنه ثبت
في حديث معاذ أنه في البصر الدية.
قال الحافظ:
لم أجده. وروى البيهقي من حديث معاذ في
العقل الدية وسنده
ج / 7 ص -64-
ضعيف. قال البيهقي: وروينا عن عمر وعن
زيد بن ثابت مثله. وقد زعم الرافعي أن ذلك
في حديث عمرو بن حزم وهو غلط. وأخرج البيهقي
عن زيد من أسلم بلفظ: "مضت السنة في أشياء
من الإنسان إلى أن قال وفي اللسان الدية وفي
الصوت إذا انقطع الدية".
والحاصل أنه قد ورد النص
بإيجاب الدية في بعض الحواس الخمس الظاهرة كما
عرفت ويقاس ما لم يرد فيه نص منها على ما ورد
فيه وقد قيل أنها تجب الدية في ذهاب القول
بغير قطع اللسان بالقياس على السمع بجامع فوات
القوة والأولى التعويل على النص المذكور في
حديث زيد بن مسلم وأما ذهاب النكاح فيمكن أن
يستدل لإيجاب الدية فيه بالقياس على سلس البول
فإنه قد روى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن
محمد عن أبيه عن جده عن علي أنه قضي بالدية
لمن ضرب حتى سلس بوله والجامع ذهاب القوة ولكن
هذا على القول بحجية قول علي عليه السلام قال
في البحر: وفي إبطال مني الرجل بحيث لا يقع
منه حمل دية كاملة إذ هو إبطال منفعة كاملة
كالشلل ويخالف مني المرأة ولبنها ففيهما حكومة
إذ قد يطرأ ويزول بخلافه من الرجل فيستمر وإذا
انقطع لم يرجع اهـ. وهذا إذا كان ذهاب
النكاح بغير قطع الذكر أو الأنثيين فإن كان
بذلك دخلت ديته في دية ذلك المقطوع وهكذا ذهاب
البصر إذا كان بغير قلع العينين أو فقئها وإلا
وجبت الدية للعينين ولا شيء لذهابه وهكذا
السمع لو ذهب بقطع الأذنين.
باب دية أهل
الذمة
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
"عقل الكافر نصف دية المسلم".
رواه أحمد والنسائي والترمذي. وفي لفظ:
"قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين
وهم اليهود والنصارى" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
وفي رواية: "كانت
قيمة الدية على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم
ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم
قال: وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام
خطيباً فقال: إن الإبل قد غلت قال: ففرضها
عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق
اثني عشر ألفاً وعلى أهل البقر مائتي بقرة
وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي
حلة قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما
رفع من الدية" رواه أبو داود.
2 - وعن سعيد بن المسيب
قال: "كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني
أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة".
رواه الشافعي والدارقطني
.
ج / 7 ص -65-
حديث عمرو بن شعيب حسنه الترمذي وصححه ابن
الجارود. وأثر عمر أخرجه أيضاً البيهقي
وأخرج ابن حزم في الإيصال من طريق ابن لهيعة
عن يزيد بن حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن
عامر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
"دية المجوسي ثمانمائة درهم" وأخرجه أيضاً الطحاوي وابن عدي والبيهقي
وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة وروى البيهقي
عن ابن مسعود وعلي عليه السلام أنهما كانا
يقولان في دية المجوسي ثمانمائة درهم. وفي
إسناده ابن لهيعة.
وأخرج البيهقي أيضاً عن
عقبة بن عامر نحوه وفيه أيضاً ابن لهيعة وروي
نحو ذلك ابن عدي والبيهقي والطحاوي عن عثمان
وفيه ابن لهيعة.
قوله: "عقل الكافر
نصف دية المسلم" أي دية الكافر نصف دية
المسلم فيه دليل على أن دية الكافر الذمي نصف
دية المسلم وإليه ذهب مالك وذهب الشافعي
والناصر إلى أن دية الكافر أربعة آلاف درهم
والذي في منهاج النووي أن دية اليهودي
والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا
عشر دية المسلم قال شارحه المحلى أنه قال
بالأول عمر وعثمان وبالثاني عمر وعثمان أيضاً
وابن مسعود. ثم قال النووي في المنهاج:
وكذا وثنى له أمان يعني أن ديته دية مجوسي ثم
قال والمذهب أن من لم يبلغه الإسلام إن تمسك
بدين لم يبدل فديته دية دينه وإلا فكمجوسي
وحكى في البحر عن زيد بن علي والقاسمية وأبي
حنيفة وأصحابه أن دية المجوسي كالذمي وعن
الناصر والإمام يحيى والشافعي ومالك أنها
ثمانمائة درهم. وذهب الثوري والزهري وزيد بن
علي وأبو حنيفة وأصحابه والقاسمية إلى أن دية
الذمي كدية المسلم وروي عن أحمد أن ديته مثل
دية المسلم إن قتل عمداً وإلا فنصف دية احتج
من قال إن ديته ثلث دية المسلم بفعل عمر
المذكور من عدم رفع دية أهل الذمة وإنها كانت
في عصره أربعة آلاف درهم ودية المسلم اثني عشر
ألف درهم. ويجاب عنه بأن فعل عمر ليس بحجة
على فرض عدم معارضته لما ثبت عنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فكيف وهو هنا معارض للثابت
قولاً وفعلاً وتمسكوا في جعل دية المجوسي ثلثي
عشر دية المسلم بفعل عمر المذكور في الباب
ويجاب عنه بما تقدم ويمكن الاحتجاج لهم بحديث
عقبة بن عامر الذي ذكرناه فإنه موافق لفعل عمر
لأن ذلك المقدار هو ثلثا عشر الدية إذ هي اثنا
عشر ألف درهم وعشرها اثنا عشر ومائة وثلثا
عشرها ثمانمائة ويجاب بأن إسناده ضعيف كما
أسلفنا فلا يقوم بمثله حجة لا يقال أن الرواية
الثانية من حديث الباب بلفظ:
"قضى أن عقل أهل الكتابين" الخ مقيدة باليهود والنصارى والرواية الأولى منه مطلقة فيحمل
المطلق على المقيد ويكون المراد بالحديث دية
اليهود والنصارى دون المجوس لأنا نقول لا نسلم
صلاحية الرواية الثانية للتقييد ولا للتخصيص
لأن ذلك من التنصيص على بعض أفراد المطلق أو
العام وما كان كذلك فلا يكون مقيداً لغيره ولا
مخصصاً له ويوضح ذلك أن غاية ما في قوله عقل
أهل الكتابين أن يكون من عداهم بخلافهم لمفهوم
اللقب وهو غير معمول به عند الجمهور وهو الحق
فلا يصلح لتخصيص قوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"عقل الكافر نصف دية المسلم" ولا لتقييده على فرض الإطلاق ولا سيما مخرج اللفظين واحد والراوي
واحد فإن ذلك يفيد
ج / 7 ص -66-
أن
أحدهما من تصرف الراوي واللازم الأخذ بما هو
مشتمل على زيادة فيكون المجوسي داخلاً تحت ذلك
العموم وكذلك كل من له ذمة من الكفار ولا يخرج
عنه إلا من لا ذمة له ولا أمان ولا عهد من
المسلمين لأنه مباح الدم ولو فرض عدم دخول
المجوسي تحت ذلك اللفظ كان حكمه حكم اليهود
والنصارى والجامع الذمة من المسلمين للجميع.
ويؤيد ذلك حديث: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" واحتج القائلون بأن دية الذمي كدية المسلم بعموم قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} قالوا: وإطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة وهي دية المسلم
ويجاب عنه أولاً بمنع كون المعهود ههنا هو دية
المسلم لم لا يجوز أن يكون المراد بالدية
الدية المتعارفة بين المسلمين لأهل الذمة
والمعاهدين وثانياً بأن هذا الإطلاق مقيد
بحديث الباب. واستدلوا ثانياً بما أخرجه
الترمذي عن ابن عباس وقال غريب أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ودى العامريين اللذين
قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكان لهما عهد من
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يشعر به
عمرو بدية المسلمين. وبما أخرجه البيهقي عن
الزهري أنها كانت دية اليهودي والنصراني في
زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مثل دية
المسلم وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان فلما كان
معاوية أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في
بيت المال قال ثم قضى عمر بن عبد العزيز
بالنصف وألغى ما كان جعل معاوية. وبما أخرجه
أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس قال: "جعل رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دية العامريين
دية الحر المسلم وكان لهما عهد". وأخرج أيضاً من وجه آخر "أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم جعل دية المعاهدين دية المسلم".
وأخرج أيضاً عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ودى ذمياً دية
مسلم" ويجاب عن حديث ابن عباس بأن في إسناده أبا سعيد البقال واسمه سعيد
بن المرزبان ولا يحتج بحديثه والراوي عنه أبو
بكر ابن عياش.
وحديث الزهري مرسل ومراسيله قبيحة لأنه حافظ
كبير لا يرسل إلا لعلة.
وحديث ابن عباس الآخر في إسناده أيضاً أبو
سعيد البقال المذكور وله طريق أخرى فيها الحسن
بن عمارة وهو متروك. وحديث ابن عمر في
إسناده أبو كرز وهو أيضاً متروك.
ومع هذه العلل فهذه الأحاديث معارضة بحديث
الباب وهو أرجح منها من جهة صحته وكونه قولاً
وهذه فعلاً والقول أرجح من الفعل ولو سلمنا
صلاحيتها للاحتجاج وجعلناها مخصصة لعموم حديث
الباب كان غاية ما فيها إخراج المعاهد ولا ضير
في ذلك فإن بين الذمي والمعاهد فرقاً لأن
الذمي ذل ورضي بما حكم به عليه من الذلة بخلاف
المعاهد فلم يرض بما حكم عليه به منها فوجب
ضمان دمه وماله الضمان الأصلي الذي كان بين
أهل الكفر وهو الدية الكاملة التي ورد الإسلام
بتقريرها ولكنه يعكر على هذا ما وقع في رواية
من حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود بلفظ: "دية المعاهد نصف دية الحر" وتخلص عن هذا بعض المتأخرين فقال: إن لفظ المعاهد يطلق على
الذمي فيحمل ما وقع في حديث عمرو بن شعيب عليه
ليحصل الجمع بين الأحاديث ولا يخفى ما في ذلك
من التكلف والراجح العمل بالحديث الصحيح وطرح
ما يقابله مما لا أصل له في الصحة وأما ما ذهب
إليه أحمد من التفصيل باعتبار العمد والخطأ
فليس عليه دليل.
ج / 7 ص -67-
باب دية المرأة في النفس وما دونها
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من
ديته".
رواه النسائي والدارقطني.
2 - وعن ربيعة ابن أبي
عبد الرحمن: "أنه قال لسعيد بن المسيب كم
في إصبع المرأة قال: عشر من الإبل قلت: في
إصبعين قال: عشرون من الإبل قلت: فكم في
ثلاث أصابع قال: ثلاثون من الإبل قلت: فكم
في أربع أصابع قال: عشرون من الإبل قلت:
حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال
سعيد: أعراقي أنت قلت: بل عالم متثبت أو
جاهل متعلم قال: هي السنة يا ابن أخي".
رواه مالك في الموطأ عنه.
حديث عمرو بن شعيب هو من
رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عنه وقد
صحح هذا الحديث ابن خزيمة كما حكى ذلك عنه في
بلوغ المرام. وحديث سعيد ابن المسيب أخرجه
أيضاً البيهقي وعلى تسليم أن قوله من السنة
يدل على الرفع فهو مرسل وقد قال الشافعي فيما
أخرجه عنه البيهقي أن قول سعيد من السنة يشبه
أن يكون عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أو
عن عامة من أصحابه ثم قال وقد كنا نقول إنه
على هذا المعنى ثم وقفت عنه واسأل اللّه الخير
لأنا قد نجد منهم من يقول السنة ثم لا نجد
لقوله السنة نفاذاً إنها عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم والقياس أولى بنا فيها.
وروى صاحب التلخيص عن
الشافعي أنه قال: كان مالك يذكر أنه السنة
وكنت أتابعه عليه وفي نفسي منه شيء ثم علمت
أنه يريد أنه سنة أهل المدينة فرجعت عنه. -
وفي الباب - عن معاذ بن جبل عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال:
"دية المرأة نصف دية الرجل" قال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله.
وأخرج البيهقي عن علي
عليه السلام أنه قال: دية المرأة على النصف
من دية الرجل في الكل وهو من رواية إبراهيم
النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي
شيبة من طريق الشعبي عنه.
وأخرجه أيضاً من وجه آخر
عنه. وعن عمر قوله: "عقل المرأة مثل عقل
الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته" فيه دليل على
أن أرش المرأة يساوي أرش الرجل في الجراحات
التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل وفيما
بلغ أرشه إلى مقدار الثلث من الجراحات يكون
أرشها فيه كنصف أرش الرجل لحديث سعيد بن
المسيب المذكور. وإلى هذا ذهب الجمهور من
أهل المدينة منهم مالك وأصحابه وهو مذهب سعيد
بن المسيب كما تقدم في رواية مالك عنه.
ورواه أيضاً عن عروة بن الزبير وهو مروي عن
عمر وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز وبه قال
أحمد وإسحاق والشافعي في قول وصفة التقدير أن
يكون
ج / 7 ص -68-
على الصفة المذكورة في حديث الباب عن سعيد
بن المسيب فإنه جعل أرش إصبعها وأرش الإصبعين
عشرين وأرش الثلاثة ثلاثين لأنها دون ثلث دية
الرجل فلما سأله السائل عن أرش الأربع الأصابع
جعلها عشرين من الإبل لأنها لما جاوزت ثلث دية
الرجل وكان أرش الأصابع الأربع من الرجل
أربعين من الإبل كان أرش الأربع من المرأة
عشرين وهذا كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن
إن المرأة حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص
عقلها والسبب في ذلك أن سعيداً جعل التصنيف
بعد بلوغ الثلث من دية الرجل راجعاً إلى جميع
الأرش ولو جعل التنصيف باعتبار المقدار الزائد
على الثلث لا باعتبار ما دونه فيكون مثلاً في
الإصبع الرابعة من المرأة خمس من الإبل لأنها
هي التي جاوزت الثلث ولا يحكم بالتنصيف في
الثلاث الأصابع فإذا قطعت من المرأة أربع
أصابع كان فيها خمس وثلاثون ناقة لم يكن في
ذلك إشكال ولم يدل حديث عمرو بن شعيب المذكور
إلا على أن أرشها في الثلث فما دون مثل أرش
الرجل وليس في ذلك دليل على أنها إذا حصلت
المجاوزة للثلث لزم تنصيف ما لم يجاوز الثلث
من الجنايات على فرض وقوعها متعددة كالأصابع
والأسنان وأما لو كانت جناية واحدة مجاوزة
للثلث من دية الرجل فيمكن أن يقال باستحقاق
نصف أرش الرجل في الكل فإن كان ما أفتى به
سعيد مفهوماً من مثل حديث عمرو بن شعيب فغير
مسلم وإن كان حفظ ذلك التفصيل من السنة التي
أشار إليها فإن أراد سنة أهل المدينة كما تقدم
عن الشافعي فليس في ذلك حجة وإن أراد السنة
الثابتة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فنعم
ولكن مع الاحتمال لا ينتهض إطلاق تلك السنة
للاحتجاج به ولا سيما بعد قول الشافعي أنه علم
أن سعيداً أراد سنة أهل المدينة ومع ذلك
فالمرسل لا تقوم به حجة فالأولى أن يحكم في
الجنايات المتعددة بمثل أرش الرجل في الثلث
فما دون وبعد المجاوزة يحكم بتنصيف الزائد على
الثلث فقط لئلا يقتحم الإنسان في مضيق مخالف
للعدل والعقل والقياس بلا حجة نيرة وحكى صاحب
البحر عن ابن مسعود وشريح أن أرش المرأة يساوي
أرش الرجل حتى يبلغ أرشها خمساً من الإبل ثم
ينصف.
قال في نهاية المجتهد:
إن الأشهر عن ابن مسعود وعثمان وشريح وجماعة
أن دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلا
الموضحة فإنها على النصف وحكي في البحر أيضاً
عن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار أنهما يستويان
حتى يبلغ أرشها خمس عشرة من الإبل. وعن
الحسن البصري يستويان إلى النصف ثم ينصف وهذه
الأقوال لا دليل عليها وذهب علي وابن أبي ليلى
وابن شبرمة والليث والثوري والعترة والشافعية
والحنفية كما حكى عنهم صاحب البحر إلى أن أرش
المرأة نصف أرش الرجل في القليل والكثير
واستدلوا بحديث معاذ الذي ذكرناه وهو مع كونه
لا يصلح للاحتجاج به لما سلف يمكن الجمع بينه
وبين حديث الباب إما بحمله على الدية الكاملة
كما هو ظاهر اللفظ. وذلك مجمع عليه كما حكاه
في البحر في موضعين. حكى في أحدهما بعد
حكاية الإجماع خلافاً للأصم وابن علية أن
ديتها مثل دية الرجل ويمكن الجمع بوجه آخر على
فرض أن لفظ الدية يصدق على دية النفس وما
دونها وهو أن يقال هذا العموم مخصوص بحديث
عمرو بن شعيب المذكور فتكون ديتها كنصف دية
الرجل فيما جاوز الثلث فقط.
ج / 7 ص -69-
باب دية الجنين
1 - عن أبي هريرة قال:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة
عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها
بالغرة توفيت فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن
العقل على عصبتها" وفي رواية: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر
فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية
المرأة على عاتقها".
متفق عليهما. وفيه دليل على أن دية شبه
العمد تحملها العاقلة.
2 - وعن المغيرة بن شعبة
عن عمر: "أنه استشارهم في أملاص المرأة
فقال المغيرة:
قضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيه
بالغرة عبد أو أمة
فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قضى به". متفق عليه.
3 - وعن المغيرة:
"أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها
وهي حبلى فأتي فيها النبي صلى اللَّه عليه
وآله وسلم فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية
في الجنين غرة فقال
"عصبتها أندى ما لا طعم ولا شراب ولا صاح ولا
استهل مثل ذلك يطل فقال: سجع مثل سجع
الأعراب".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وكذلك
الترمذي ولم يذكر اعتراض العصبة وجوابه.
4 - وعن ابن عباس في قصة
حمل بن مالك قال: "فأسقطت غلاماً قد نبت
شعره ميتاً وماتت المرأة فقضى على العاقلة
بالدية فقال عمها: إنها قد أسقطت يا نبي
اللّه غلاماً قد نبت شعره فقال أبو القاتلة:
إنه كاذب إنه واللّه ما استهل ولا شرب فمثله
يطل فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"أسجع الجاهلية وكهانتها أَدِّ في الصبي غرة". رواه أبو داود والنسائي وهو دليل على أن الأب من العاقلة.
حديث ابن عباس أخرجه
أيضاً ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه.
قوله: "في جنين
امرأة" الجنين بفتح الجيم وبعده نونان
بينهما ياء تحتية ساكنة بوزن عظيم وهو حمل
المرأة ما دام في بطنها سمي بذلك لاستتاره فإن
خرج حياً فهو ولد أو ميتاً فهو سقط. وقد
يطلق عليه جنين.
ج / 7 ص -70-
قال الباجي في شرح رجال الموطأ:
الجنين ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد سواء
كان ذكراً أم أنثى ما لم يستهل صارخاً.
قوله: "بغرة" بضم
الغين المعجمة وتشديد الراء وأصلها البياض في
وجه الفرس قال الجوهري: كأنه عبر الغرة عن
الجسم كله كما قالوا أعتق رقبة.
وقوله: "عبد أو
أمة" تفسير للغرة وقد اختلف هل لفظ غرة مضاف
إلى عبد أو منون قال الإسماعيلي: قرأه
العامة بالإضافة وغيرهم بالتنوين وحكى القاضي
عياض الاختلاف وقال: التنوين أوجه لأنه بيان
للغرة ما هي وتوجيه الإضافة أن الشيء قد يضاف
إلى نفسه لكنه نادر قال الباجي: يحتمل أن
تكون أو شكاً من الراوي في تلك الواقعة
المخصوصة ويحتمل أن تكون للتنويع وهو
الأظهر. قال في الفتح: قيل المرفوع من
الحديث قوله بغرة.
وأما قوله عبد أو أمة
فشك من الراوي في المراد بها وروي عن أبي عمرو
بن العلاء أنه قال: الغرة عبد أبيض أو أمة
بيضاء فلا يجزى عنده في دية الجنين الرقبة
السواد وذلك منه مراعاة لأصل الاشتقاق وقد شذ
بذلك فإن سائر أهل العلم يقولون بالجواز وقال
مالك: الحمران أولى من السودان قال في
الفتح: وفي رواية ابن أبي عاصم ما له عبد
ولا أمة قال: عشر من الإبل قالوا ما له شيء
إلا أن تعينه من صدقة بني لحيان فأعانه بها
وفي حديثه عند الحارث ابن أبي أسامة. وفي
الجنين غرة عبد أو أمة أو عشر من الإبل أو
مائة شاة. ووقع في حديث أبي هريرة:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة
أو فرس أو بغل"
وكذا وقع عند عبد الرزاق عن حمل بن النابغة:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بالدية في المرأة وفي الجنين غرة عبد أو أمة
أو فرس" وأشار البيهقي إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وهم وأن ذلك أدرج من
بعض رواته على سبيل التفسير للغرة وذكر أنه في
رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس
بلفظ:
"فقضى أن في الجنين غرة" قال طاوس: الفرس غرة وكذا أخرج
الإسماعيلي عن عروة قال: الفرس غرة وكأنهما
رأيا أن الفرس أحق بإطلاق الغرة من الآدمي.
ونقل ابن المنذر والخطابي عن طاوس ومجاهد
وعروة بن الزبير الغرة عبداً أو أمة أو فرس.
وتوسع داود ومن تبعه من أهل الظاهر فقالوا
يجزي كل ما وقع عليه اسم غرة. وحكى في الفتح
عن الجمهور أن أقل ما يجزى من العبد والأمة ما
سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع
لأن المعيب ليس من الخيار واستنبط الشافعي من
ذلك أن يكون منتفعاً به بشرط أن لا ينقص عن
سبع سبين لأن من لم يبلغها لا يستقل غالباً
بنفسه فيحتاج إلى التعهد بالتربية فلا يجبر
المستحق على أخذه ووافقه على ذلك القاسمية
وأخذ بعضهم من لفظ الغلام المذكور في رواية أن
لا يزيد على خمس عشرة ولا تزيد الجارية على
عشرين.
وقال ابن دقيق العيد:
إنه يجزي ولو بلغ الستين وأكثر منها ما لم يصل
إلى سن الهرم ورجحه الحافظ وذهب الباقر
والصادق والناصر في أحد قوليه إلى أن الغرة
عشر الدية وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا
الغرة ما ذكر في الحديث.
قال في الفتح:
وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدمياً كان أم
غيره ذكراً أم أنثى.
وقيل أطلق على الآدمي
غرة لأنه أشرف الحيوان فإن محل الغرة الوجه
وهو أشرف الأعضاء قال في البحر: واشتقاقها
من غرة الشيء أي
ج / 7 ص -71-
خياره وفي القاموس والغرة بالضم العبد
والأمة.
قوله: "ثم إن المرأة
التي قضى عليها بالغرة توفيت" في الرواية
الثانية: "فقتلتها وما في بطنها" وفي
رواية المغيرة المذكورة: "فقتلتها وهي
حبلى" وفي حديث ابن عباس المذكور:
"فأسقطت غلاماً قد نبت شعره ميتاً وماتت
المرأة" ويجمع بين هذه الروايات بأن موت
المرأة تأخر عن موت ما في بطنها فيكون قوله:
"فقتلتها وما في بطنها" إخباراً بنفس
القتل وسائر الروايات يدل على تأخر موت
المرأة.
قوله: "في أملاص
المرأة" وقع تفسير الأملاص في الاعتصام من
البخاري هو أن تضرب المرأة في بطنها فتلقي
جنينها وهذا التفسير أخص من قول أهل اللغة أن
الأملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة أي قبل
حين الولادة هكذا نقله أبو داود في السنن عن
ابن عبيد وهو كذلك في الغريب له وقال
الخليل: أملصت الناقة إذا رمت ولدها وقال
ابن القطاع: أملصت الحامل ألقت ولدها ووقع
في بعض الروايات ملاص بغير ألف كأنه اسم فعل
الولد فحذف وأقيم المضاف مقامه أو اسم لتلك
الولادة كالخداج وروى الإسماعيلي عن هشام أنه
قال الملاص الجنين.
وقال صاحب البارع:
الأملاص الإسقاط.
قوله: "فشهد محمد بن
مسلمة" زاد البخاري في رواية: "فقال عمر
من يشهد معك فقام محمد بن مسلمة فشهد له".
وفي رواية له: "أن
عمر قال للمغيرة لا تبرح حتى تجيء بالمخرج مما
قلت قال: فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به
فشهد معي أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قضى به.
قوله: "فسطاط" هو
الخيمة.
قوله: "فقضى فيها
على عصبة القاتلة" في حديث أبي هريرة
المذكور: "وقضى بدية المرأة على
عاقلتها" وفي حديث ابن عباس المذكور
أيضاً: "فقضى على العاقلة بالدية" وظاهر
هذه الروايات يخالف ما في الرواية الأولى من
حديث أبي هريرة حيث قال ثم إن المرأة التي قضى
عليها بالغرة ويمكن الجمع بأن نسبة القضاء إلى
كونه على المرأة باعتبار أنها هي المحكوم
عليها بالجنابة في الأصل فلا ينافي ذلك الحكم
على عصبتها بالدية والمراد بالعاقلة المذكورة
هي العصبة وهم من عدا الولد وذوي الأرحام ووقع
في رواية عن البيهقي: "فقال أبوها إنما
يعقلها بنوها فاختصموا إلى رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقال
الدية على العصبة" وفي حديث أبي هريرة المذكور:
"فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن ميراثها لزوجها
وبنيها وأن العقل على عصبتها"
وسيأتي الكلام على العاقلة وضمانها لدية الخطأ
في باب العاقلة وما تحمله وقد استدل المصنف
بحديث أبي هريرة المذكور على أن دية شبه العمد
تحملها العاقلة وسيأتي تكميل الكلام عليه.
قوله: "مثل ذلك
يطل" بضم أوله وفتح الطاء المهملة وتشديد
اللام أي يبطل ويهدر يقال طل القتل يطل فهو
مطلول وروى بالباء الموحدة وتخفيف اللام على
أنه فعل ماض من البطلان.
قوله: "فقال سجع مثل
سجع الأعراب" استدل بذلك على ذم السجع في
الكلام ومحل الكراهية إذا كان ظاهر التكلف
وكذا لو كان منسجماً لكنه في إبطال حق أو
تحقيق باطل فأما لو كان منسجماً وهو حق أو في
مباح فلا كراهية بل ربما كان في بعضه ما يستحب
مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة وعلى هذا
يحمل ما جاء عن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم وكذا عن غيره من السلف الصالح.
قال الحافظ:
والذي يظهر لي أن الذي جاء من
ج / 7 ص -72-
ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم
يكن عن قصد إلى التسجيع وإنما جاء اتفاقاً
لعظم بلاغته وأما من بعده فقد يكون ذلك وقد
يكون عن قصد وهو الغالب ومراتبهم في ذلك
متفاوتة جداً.
وفي قوله في حديث ابن
عباس المذكور:
"أسجع الجاهلية وكهانتها" دليل على أن المذموم من السجع إنما هو ما كان من ذلك القبيل الذي
يراد به إبطال شرع أو إثبات باطل أو كان
متكلفاً وقد حكى النووي عن العلماء أن المكروه
منه إنما هو ما كان كذلك لا غير.
قوله: "حمل بن
مالك" بفتح الحاء المهملة والميم وفي بعض
الروايات حمل بن النابغة وهو نسبة إلى جده
وإلا فهو حمل بن مالك بن النابغة.
قوله: "فقال أبو
القاتلة" في رواية لمسلم وأبي داود:
"فقال حمل بن النابغة وهو زوج القاتلة"
وفي رواية للبخاري: "فقال ولي المرأة"
وفي حديث أبي هريرة المذكور: "فقال
عصبتها" وفي رواية للطبراني: "فقال
أخوها العلاء بن مسروح" وفي رواية للبيهقي
من حديث أسامة بن عمير: "فقال أبوها"
ويجمع بين الروايات بأن كل واحد من أبيها
وأخيها وزوجها قال ذلك لأنهم كلهم من عصبتها
بخلاف المقتولة فإن في حديث أسامة بن عمير أن
المقتولة عامرية والقاتلة هذلية فيبعد أن تكون
عصبة إحدى المرأتين عصبة للأخرى مع اختلاف
القبيلة.
وقد استدل بأحاديث الباب
على أنه يجب في الجنين على قاتله الغرة إن خرج
ميتاً. وقد حكى في البحر الإجماع على أن
المرأة إذا ضربت فخرج جنينها بعد موتها ففيها
القود أو الدية. وأما الجنين فذهبت العترة
والشافعي إلى أن فيه الغرة وهو ظاهر أحاديث
الباب. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا
يضمن وأما إذا مات الجنين بقتل أمه ولم ينفصل
فذهبت العترة والحنفية والشافعية إلى أنه لا
شيء فيه وقال الزهري إن سكنت حركته ففيه الغرة
ورد بأنه يجوز بأن يكون غير آدمي فلا ضمان مع
الشك.
قال في الفتح:
وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين
ميتاً بسبب الجناية فلو انفصل حياً ثم مات وجب
فيه القود أو الدية كاملة انتهى. فإن أخرج
الجنين رأسه ومات ولم يخرج الباقي فذهبت
الحنفية والشافعية والهادوية إلى أن فيه الغرة
أيضاً وذهب مالك إلى أنه لا يجب فيه شيء.
قال ابن دقيق العيد:
ويحتاج من اشترط الانفصال إلى تأويل الرواية
وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما
يدل عليه وتعقب بما في حديث ابن عباس المذكور
أنها أسقطت غلاماً قد نبت شعره ميتاً فإنه
صريح في الانفصال وبما في حديث أبي هريرة
المذكور في الباب بلفظ: "سقط ميتاً" وفي
لفظ للبخاري: "فطرحت جنينها" وقيل هذا
الحكم مختص بولد الحرة لأن القصة وردت في ذلك
وما وقع في الأحاديث بلفظ أملاص المرأة ونحوه
فهو وإن كان فيه عموم لكن الراوي ذكر أنه شهد
واقعة مخصوصة. وقد ذهب الشافعي والهادوية
وغيرهم إلى أن في جنين الأمة عشر قيمة أمه كما
أن الواجب في جنين الحرة عشر ديتها.
ج / 7 ص -73-
باب من قتل في المعترك من يظنه كافراً فبان
مسلماً من أهل دار الإسلام
1 - عن محمود بن لبيد
قال: "اختلفت سيوف المسلمين على اليمان
أبي حذيفة يوم أحد ولا يعرفونه فقتلوه فأراد
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يديه
فتصدق أبو حذيفة بديته على المسلمين".
رواه أحمد.
2 - وعن عروة بن الزبير
قال: "كان أبو حذيفة اليمان شيخاً كبيراً
فرفع في الآطام مع النساء يوم أحد فخرج يتعرض
للشهادة فجاء من ناحية المشركين فابتدره
المسلمون فتوشقوه بأسيافهم وحذيفة يقول أبي
أبي فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه فقال
حذيفة: يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين
فقضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بديته". رواه الشافعي.
حديث محمود بن لبيد في
إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وبقية رجاله
رجال الصحيح. وأصل الحديثين في صحيح البخاري
وغيره عن عروة عن عائشة قالت: "لما كان
يوم أحد هزم المشركون فصاح إبليس أي عباد
اللّه أخراكم فرجعت أولادهم فاجتلدت هي
وأخراهم فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان
فقال: أي عباد اللّه أبي أبي قالت:
فواللّه ما احتجزوا حتى قتلوه قال حذيفة:
غفر اللّه لكم قال عروة: فما زالت في حذيفة
منه بقية خير حتى لحق باللّه" وقد أخرج أبو
إسحاق الفزاري في السيرة عن الأوزاعي عن
الزهري قال: أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم
أحد حتى قتلوه فقال حذيفة: يغفر اللّه لكم
وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فوداه من عنده.
وأخرج أبو العباس السراج
في تاريخه من طريق عكرمة أن والد حذيفة قتل
يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من
المشركين فوداه رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم. قال في الفتح: ورجاله ثقات مع
إرساله انتهى. وهذان المرسلان يقويان مرسل
عروة المذكور في الباب في دفع أصل الدية وإن
كان حديث عروة يدل على أنه لم يحصل منه صلى
اللّه عليه وآله وسلم إلا مجرد القضاء بالدية
ومرسل الزهري وعكرمة يدلان على أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم وداه من عنده. وحديث محمود
بن لبيد المذكور يدل على أن حذيفة تصدق بدية
أبيه على المسلمين ولا تعارض بينه وبين تلك
المرسلات لأن غاية ما فيها أنه وقع القضاء منه
صلى اللّه عليه وآله وسلم بالدية أو وقع منه
الدفع لها من بيت المال وليس فيها أن حذيفة
قبضها وصيرها من جملة ماله حتى ينافي ذلك
تصدقه بها عليهم. ويمكن الجمع أيضاً بين تلك
المرسلات بأنه وقع منه صلى اللّه عليه وآله
وسلم القضاء بالدية ثم الدفع لها من بيت المال
ثم تعقب ذلك التصدق بها من حذيفة.
وقد استدل المصنف رحمه
اللّه تعالى بما ذكره على الحكم فيمن قتله
قاتل في المعركة وهو يظنه كافراً ثم انكشف
مسلماً وقد ترجم البخاري على حديث عائشة الذي
ذكرناه فقال باب إذا مات من الزحام وترجم عليه
في باب آخر فقال باب العفو في الخطأ بعد
الموت.
قال ابن بطال:
اختلف على عمر وعلي عليه السلام هل تجب الدية
في بيت المال أو لا وبه قال إسحاق أي بالوجوب
وتوجيهه أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين
فوجبت ديته في بيت مال المسلمين.
وروى مسدد
ج / 7 ص -74-
في مسنده من طريق يزيد بن مذكور أن رجلاً
زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي رضي اللّه
تعالى عنه من بيت مال المسلمين.
وقال الحسن البصري:
إن ديته تجب على جميع من حضر وإلى ذلك ذهبت
الهادوية. وقال الشافعي ومن وافقه أنه يقال
لولي المقتول ادع على من شئت واحلف فإن حلفت
استحققت الدية وإن نكلت حلف المدعى عليه على
النفي وسقطت المطالبة وتوجيهه أن الدم لا يجب
إلا بالطلب ومنها قول مالك دمه هدر وتوجيهه
إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به
أحد.
قوله: "الآطام"
جمع أطم وهو بناء مرتفع كالحصن.
قوله: "توشقوه"
بالشين المعجمة وبعدها قاف أي قطعوه بأسيافهم
ومنه الوشيقة وهي اللحم يغلى ثم يقدد .
باب ما جاء في
مسألة الزبية والقتل بالسبب
1 - عن حنش بن المعتمر
عن علي رضوان اللّه عليه قال: "بعثني رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى اليمن
فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد فبينما
هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم
تعلق الرجل بآخر حتى صاروا فيها أربعة فجرحهم
الأسد فانتدب له رجل بحربة فقتله وماتوا من
جراحتهم كلهم فقام أولياء الأول إلى أولياء
الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا فأتاهم علي
رضوان اللّه عليه على تفئة ذلك فقال: تريدون
أن تقتتلوا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم حي إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم به فهو
القضاء وإلا حجر بعضكم على بعض حتى تأتوا
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيكون هو الذي
يقضي بينكم فمن عدا بعد ذلك فلا حق له اجمعوا
من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية وثلث
الدية ونصف الدية والدية كاملة فللأول ربع
الدية لأنه هلك من فوقه ثلاثة وللثاني ثلث
الدية وللثالث نصف الدية وللرابع الدية كاملة
فأبوا أن يرضوا فأتوا النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وهو عند مقام إبراهيم فقصوا عليه
القصة فأجازه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه أحمد ورواه بلفظ آخر نحو هذا
وفيه:
"وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا".
2 - وعن علي بن رياح
اللخمي: "أن أعمى كان ينشد في الموسم في
خلافة عمر بن الخطاب وهو يقول:
يا أيها الناس لقيت
منكراً ** هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا **
خرا معا كلاهما تكسرا
ج / 7 ص -75-
وذلك أن أعمى كان يقوده بصيراً فوقعا في بئر
فوقع الأعمى على البصير فمات البصير فقضى عمر
بعقل البصير على الأعمى".رواه
الدارقطني.
وفي الحديث: "أن
رجلاً أتى أهل أبيات فاستسقاهم فلم يسقوه حتى
مات فأغرمهم عمر الدية" حكاه أحمد في رواية
ابن المنصور وقال أقول به.
حديث حنش بن المعتمر
أخرجه أيضاً البيهقي والبزار قال: ولا نعلمه
يروى إلا عن علي ولا نعلم له إلا هذه الطريقة
وحنش ضعيف وقد وثقه أبو داود قال في مجمع
الزوائد وبقية رجاله رجال الصحيح. وأثر علي
بن رياح أخرجه أيضاً البيهقي وهو من رواية
موسى بن علي بن رياح عن أبيه قال الحافظ:
وفيه انقطاع ولفظه: "فقضى عمر بعقل البصير
على الأعمى فذكر أن الأعمى كان ينشد ثم ذكر
الأبيات".
قوله: "زبية
للأسد" بضم الزاي وسكون الموحدة بعدها تحتية
وهي حفرة الأسد وتطلق أيضاً على الرابية
بالراء قال في القاموس: والزبية بالضم
الرابية لا يعلوها ماء ثم قال: وحفرة للأسد
انتهى. والمقصود هنا الحفرة التي يحفرها
الناس ليقع فيها الأسد فيقتلونه ومن إطلاق
الزبية على المحل المرتفع قول عثمان بن عفان
يخاطب علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أيام
حصره في الدار: "قد بلغ السيل الزبى
ونالني ما حسبي به وكفى".
قوله: "على تفئة
ذلك" بالتاء الفوقية المفتوحة وكسر الفاء ثم
همزة مفتوحة. قال في القاموس: تفئة الشيء
حينه وزمانه.
وقد استدل بهذا القضاء
الذي قضى به أمير المؤمنين وقرره رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن دية
المتجاذبين في البئر تكون على الصفة المذكورة
فيؤخذ من قوم الجماعة الذين ازدحموا على البئر
وتدافعوا ذلك المقدار ثم يقسم على تلك الصفة
فيعطى الأول من المتردين ربع الدية ويهدر من
دمه ثلاثة أرباع لأنه هلك بفعل المزدحمين
وبفعل نفسه وهو جذبه لمن بجنبه فكأن موته وقع
بمجموع الازدحام ووقوع الثلاثة الأنفار عليه
ونزل الازدحام منزلة سبب واحد من الأسباب التي
كان بها موته ووقوع الثلاثة عليه منزلة ثلاثة
أسباب فهدر من ديته ثلاثة أرباع واستحق الثاني
ثلث الدية لأنه هلك بمجموع الجذب المتسبب عن
الازدحام ووقوع الاثنين عليه ونزل الازدحام
منزلة سبب واحد ووقوع الاثنين عليه منزلة
سببين فهدر من دمه الثلثان لأن وقوع الاثنين
عليه كان بسببه واستحق الثالث نصف الدية لأنه
هلك بمجموع الجذب ممن تحته المتسبب عن
الازدحام وبوقوع من فوقه عليه وهو واحد وسقط
نصف ديته ولزم نصفها والرابع كان هلاكه بمجرد
الجذب له فقط فكان مستحقاً للدية كاملة ولم
يجعل للجناية التي وقعت من الأسد عليهم حكم
جناية من تضمن جنايته حتى ينظر في مقدار ما
شاركها من الوقوع الذي كان هلاك الواقعين
بمجموعها والمعروف في كتب الفقه أنه إذا تجاذب
جماعة في بئر بأن سقط الأول ثم جذب من بجنبه
فوقع عليه ثم كذلك حتى صار الواقعون في البئر
مثلاً أربعة فإنه يهدر من الأول سقوط الثاني
عليه لأنه بسببه وهو ربع الدية ويضمن الحافر
ربع
ج / 7 ص -76-
ديته والثالث والرابع نصفها ويهدر من الثاني
سقوط الثالث عليه وحصته ثلث ديته ويضمن الأول
ثلث ديته والثالث ثلثها ويهدر من الثالث وقوع
الرابع عليه وحصته نصف الدية ويضمن الباقي
نصفها ويضمن الثالث جميع دية الرابع هذا إذا
هلكوا بمجموع الوقوع في البئر وصدم بعضهم لبعض
وأما إذا لم يتصادموا بل تجاذبوا ووقع كل واحد
منهم بجانب من البئر غير جانب صاحبه فإنها
تكون دية الأول على الحافر ودية الثاني على
الأول ودية الثالث على الثاني ودية الرابع على
الثالث.
وأما إذا تصادموا في
البئر ولم يتجاذبوا فربع دية الأول على الحافر
وعلى الثلاثة ثلاثة أرباع ونصف دية الثاني على
الثالث والنصف الآخر على الرابع ودية الثالث
على الرابع وبهدر الرابع وهذا إذا كان الموت
وقع بمجرد المصادمة من دون أن يكون للهوى
تأثير وإلا كان على الحافر من الضمان بقدر ذلك
ويكون الضمان في صورة التصادم والتجاذب على
عاقلة الحافر. وفي أموال المتجاذبين
المتصادمين وفي صورة التجاذب فقط كذلك. وأما
في صورة التصادم فقط فعلى عواقلهم فقط وأما
إذا لم يكن تجاذب ولا تصادم فالديات كلها على
عاقلة الحافر – والحاصل - أن من كان جانياً
على غيره خطأ فما لزم بالجناية على عاقلته ومن
كان جانياً عمداً فمن ماله وتحمل قصة الأعمى
المذكورة في الباب على أنه لم يقع على البصير
بجذبه له وإلا كان هدراً.
قوله: "فاستسقاهم
فلم يسقوه" الخ فيه دليل على أن من منع من
غيره ما يحتاج إليه من طعام أو شراب مع قدرته
على ذلك فمات ضمنه لأنه متسبب بذلك لموته وسد
الرمق واجب وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا
مات الشخص بسبب ومباشرة يكون الضمان على
المباشر فقط.
قال في البحر:
مسألة ومن سقط في بئر فجر آخر فماتا بالتصادم
والهوى ضمن الحافر نصف دية الأول فقط وهدر نصف
إذ مات بسببين منه ومن الحافر. وقيل لا شيء
على الحافر إذ هو فاعل سبب والجذب مباشرة وأما
المجذوب فعلى الجاذب قولاً واحداً إذ هو
المباشر انتهى .
باب أجناس مال
الدية وأسنان إبلها
1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من
الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون
وثلاثون حقة وعشرة بني لبون ذكور". رواه الخمسة إلا الترمذي.
2 - وعن الحجاج بن أرطأة
عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن ابن
مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
"في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون
وعشرون ابن مخاض ذكراً".
رواه الخمسة. وقال ابن
ج / 7 ص -77-
ماجه: في إسناده عن الحجاج حدثنا زيد بن
جبير قال أبو حاتم الرازي: الحجاج يدلس عن
الضعفاء فإذا قال حدثنا فلان فلا يرتاب به.
الحديث الأول سكت عنه
أبو داود وقال المنذري: في إسناده عمرو بن
شعيب وقد تقدم الكلام عليه ومن دون عمرو بن
شعيب ثقات إلا محمد بن راشد المكحولي وقد وثقه
أحمد وابن معين والنسائي وضعفه ابن حبان وأبو
زرعة. قال الخطابي: هذا الحديث لا أعرف
أحداً قال به من الفقهاء.
والحديث الثاني أخرجه
أيضاً البزار والبيهقي والدارقطني وقال عشرون
بنو لبون مكان قوله عشرون ابن مخاض. رواه
كذلك من طريق أبي عبيدة عن أبيه يعني عبد
اللّه بن مسعود موقوفاً وقال هذا إسناد حسن.
وضعف الأول من أوجه عديدة وتعقبه البيهقي بأن
الدارقطني وهم فيه والجواد قد يعثر. قال:
وقد رأيته في جامع سفيان الثوري عن منصور عن
إبراهيم عن عبد اللّه وعن ابن إسحاق عن علقمة
عن عبد اللّه وعن عبد الرحمن بن مهدي عن يزيد
بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي
عبيدة عن عبد اللّه وعند الجميع بنو مخاض.
قال الحافظ:
وقدره يعني البيهقي على نفسه بنفسه فقال:
وقد رأيته في كتاب ابن خزيمة وهو إمام من
رواية وكيع عن سفيان فقال بنو لبون كما قال
الدارقطني فانتفى أن يكون الدارقطني عثر وقد
تكلم الترمذي على حديث ابن مسعود المذكور
فقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه
وقد روي عن عبد اللّه موقوفاً وقال أبو بكر
البزار: وهذا الحديث لا نعلمه روي عن عبد
اللّه مرفوعاً إلا بهذا الإسناد. وذكر
الخطابي أن خشف بن مالك مجهول لا يعرف إلا
بهذا الحديث وعدل الشافعي عن القول به لهذه
العلة ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني المخاض
في شيء من أسنان الصدقات.
وقد روي عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم في قصة القسامة أنه ودى
قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان
الصدقة ابن مخاض وقال الدارقطني: هذا حديث
ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث وبسط
الكلام في ذلك. وقال: لا نعلمه رواه إلا
خفش بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم
يرو عنه إلا زيد بن جبير ثم قال: لا نعلم
أحداً رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطأة
وهو رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم
يلقه ولم يسمع منه ثم ذكر أنه قد اختلف فيه
على الحجاج بن أرطأة وقال البيهقي: خشف بن
مالك مجهول وقال الموصلي: خشف بن مالك ليس
بذاك وذكر له هذا الحديث.
قال المنذري بعد أن ذكر الخلاف فيه على
الحجاج:
والحجاج غير محتج به وكذا قال البيهقي والصحيح
أنه موقوف على عبد اللّه كما سلف - وقد اختلف
العلماء - في دية الخطأ من الإبل بعد الاتفاق
على أنها مائة فذهب الحسن البصري والشعبي
والهادي والمؤيد باللّه وأبو طالب إلى أنها
تكون أرباعاً ربعاً جذاعاً وربعاً
ج / 7 ص -78-
بنات لبون وربعاً بنات مخاض وقد قدمنا تفسير
هذه الأسنان في كتاب الزكاة. واستدلوا حقاقا
وربعا بحديث ذكره الأمير الحسين في الشفاء عن
السائب ابن يزيد عن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
"دية الإنسان خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون
وخمس وعشرون بنات مخاض".
وقد أخرجه أبو داود
موقوفاً على علي رضي اللّه عنه من طريق عاصم
بن ضمرة قال في الخطأ أرباعاً فذكره وأخرجه
أيضاً أبو داود عن ابن مسعود موقوفاً من طريق
علقمة والأسود قالا: قال عبد اللّه: في
الخطأ شبه العمد خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون
جذعة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات
مخاض ولم أجد هذا مرفوعاً إلى النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم في كتاب حديثي فلينظر فيما
ذكره صاحب الشفاء. وذهب ابن مسعود والزهري
وعكرمة والليث والثوري وعمر بن عبد العزيز
وسليمان بن يسار ومالك والحنفية والشافعية إلى
أن الدية تكون أخمساً خمساً جذاعاً وخمساً
حقاقاً وخمساً بنات لبون وخمساً بنات مخاض
وخمساً أبناء لبون. وحكى صاحب البحر عن أبي
حنيفة أن النوع الخامس يكون أبناء مخاض وهو
موافق لحديث الباب عن ابن مسعود مرفوعاً
والأول موافق للموقوف عن ابن مسعود كما ذكرنا
وذهب عثمان بن عفان وزيد بن ثابت إلى أنها
تكون ثلاثين جذعة وثلاثين حقة وعشرين ابن لبون
وعشرين بنت مخاض وهذا الخلاف في دية الخطأ
المحض وأما في دية العمد وشبهه فقد تقدم طرف
من الخلاف في ذلك وسيأتي الكلام عليه قريباً
إن شاء اللّه تعالى.
3 - وعن عطاء ابن أبي
رباح: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قضى" وفي رواية عن عطاء عن جابر قال:
"فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الدية على أهل الإبل
مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى
أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي
حلة".
رواه أبو داود.
4 - وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن من كان عقله في البقر
على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في
الشاء ألفي شاة". رواه الخمسة إلا الترمذي.
حديث عطاء رواه أبو داود
مسنداً بذكر جابر ومرسلاً وهو من رواية محمد
ابن إسحاق عنه وقد عنعن وهو ضعيف إذا عنعن لما
اشتهر عنه من التدليس فالمرسل فيه علتان
الإرسال وكونه من طريقه والمسند أيضاً فيه
علتان العلة الأولى كونه في إسناده محمد بن
إسحاق المذكور والعلة الثانية كونه قال فيه
ذكر عطاء عن جابر بن عبد اللّه ولم يسم من
حدثه عن عطاء فهي رواية عن مجهول. وحديث
عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد الدمشقي
المكحولي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه جماعة
وهذا الذي ذكره المصنف ههنا بعض من الحديث وهو
حديث
ج / 7 ص -79-
طويل ساقه يجميعه أبو داود في سننه وقد
استدل بحديثي الباب من قال أن الدية من الإبل
مائة ومن البقر مائتان ومن الشاة ألفان ومن
الحلل مائتان كل حلة إزار ورداء وقميص وسراويل
وفيهما رد على من قال إن الأصل في الدية الإبل
وبقية الأصناف مصالحة لا تقدير شرعي وقد قدمنا
تفصيل الخلاف في ذلك في أول أبواب الديات ويدل
على أن الدية من الذهب ألف دينار ما تقدم في
حديث عمرو بن حزم بلفظ: "على
أهل الذهب ألف دينار" ويدل على أنها من الفضة اثنا عشر ألف درهم
ما سيأتي قريباً وهو ما أخرجه أبو داود عن
عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً من بني عدي قتل
فجعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ديته
اثني عشر ألفاً قال أبو داود رواه ابن عيينة
عن عمرو عن عكرمة عن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم لم يذكر عن ابن عباس.
وأخرجه الترمذي مرفوعاً
ومرسلاً وأرسله النسائي ورواه ابن ماجه
مرفوعاً قال الترمذي: ولا نعلم أحداً يذكر
في هذا الحديث عن ابن عباس غير محمد ابن مسلم
انتهى. ومحمد بن مسلم هذا هو الطائفي. وقد
أخرج له البخاري في المتابعات ومسلم في
الاستشهاد ووثقه يحيى بن معين. وقال مرة:
إذا حدث من حفظه يخطئ وإذا حدث من كتابه فليس
به بأس وضعفه الإمام أحمد وقد أخرجه النسائي
عن محمد بن ميمون عن ابن عيينة وقال فيه:
سمعناه مرة يقول عن ابن عباس وأخرجه الدارقطني
في سننه عن أبي محمد بن صاعد وقال فيه عن ابن
عباس.
وقال الدارقطني:
قال ابن ميمون وإنما قال لنا فيه عن ابن عباس
مرة واحدة وأكثر ذلك كان يقول عن عكرمة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذكره البيهقي
من حديث الطائفي موصولاً وقال رواه أيضاً
سفيان عن عمرو بن دينار موصولاً ومحمد بن
ميمون المذكور هو أبو عبد اللّه المكي الخياط
روى عن ابن عيينة وغيره قال النسائي:
صالح. وقال أبو حاتم الرازي: كان أمياً
مغفلاً ذكر لي منه أنه روى عن أبي سعيد مولى
بني هاشم عن شعبة حديثاً باطلاً وما يبعد أن
يكون وضع للشيخ فإنه كان أمياً.
وقال في الخلاصة:
وثقه ابن حبان ويعارض هذا الحديث ما أخرجه أبو
داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمانمائة دينار أو
ثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب على النصف
من دية المسلمين قال: فكان ذلك كذلك حتى
استخلف عمر فقام خطيباً فقال: إلا أن الإبل
قد غلت قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف
دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً وعلى أهل
البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة
وعلى أهل الحلل مائتي حلة وترك دية أهل الذمة
لم يرفعها فيما رفع من الدية. ولا يخفى أن
حديث ابن عباس فيه إثبات أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فرضها اثني عشر ألفاً وهو مثبت
فيقدم على النافي كما تقرر في الأصول وكثرة
طرقه تشهد لصحته والرفع زيادة إذا وقعت من
طريق ثقة تعين الأخذ بها.
5 - وعن عقبة بن أوس:
"عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم خطب
ج / 7 ص -80-
يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن قتيل خطأ
العمد بالسوط والعصا والحجر دية مغلظة مائة من
الإبل منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها
كلهن خلفة".
رواه الخمسة إلا
الترمذي.
6 - وعن عكرمة عن ابن
عباس:
"أن رجلاً قتل فجعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ديته اثني عشر
ألفاً".
رواه الخمسة إلا أحمد وروي ذلك عن عكرمة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مرسلاً وهو
أصح وأشهر.
الحديث الأول أخرجه
أيضاً البخاري في تاريخه الكبير وساق اختلاف
الرواة فيه وأخرجه أيضاً الدارقطني وساق أيضاً
الاختلاف ويشهد له ما أخرجه أبو داود عقبه من
حديث ابن عمر بنحوه وقد قدمنا ما يشهد لذلك
أيضاً في باب ما جاء في شبه العمد.
والحديث الثاني قد تقدم
الكلام عليه وعلى فقهه في شرح الحديث الذي قبل
حديث عقبة بن أوس المذكور وتقدم أيضاً الخلاف
في شبه العمد وأن القتل ينقسم إلى عمد وشبه
عمد وخطأ في باب ما جاء في شبه العمد
مستوفى.
قوله: "خلفة" بفتح
الخاء المعجمة وكسر اللام بعدها فاء وهي
الحامل وتجمع على خلفات وخلائف.
وقد ذهب الشافعي إلى
تغليظ الدية أيضاً على من قتل في الحرم أو قتل
محرماً أو في الأشهر الحرم قال: لأن الصحابة
رضي اللّه عنهم غلظوا في هذه الأحوال وإن
اختلفوا في كيفية التغليظ ولم ينكر ذلك أحد من
الصحابة فكان إجماعاً ومن جملة من ذهب إلى
التغليظ من السلف على ما حكاه في البحر عمر
وعثمان وابن عباس والزهري وقتادة وداود وابن
المسيب وعطاء وجابر بن زيد ومجاهد وسليمان بن
يسار والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق
وغيرهم.
وقد أخرج البيهقي من
طريق مجاهد عن عمر أنه قضى فيمن قتل في الحرم
أو في الشهر الحرام أو وهو محرم بالدية وثلث
الدية وهو منقطع وفي إسناده ليث بن أبي سليم
وهو ضعيف.
قال البيهقي:
وروي عن عكرمة عن عمر بن الخطاب ما يدل على
التغليظ في الشهر الحرام.
وقال ابن المنذر:
روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال من قتل في
الحرم أو قتل محرماً أو قتل في الشهر الحرام
فعليه الدية وثلث الدية وروى الشافعي والبيهقي
عن عمر أيضاً من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه أن
رجلاً أوطأ امرأة بمكة فقتلها فقضى فيها
بثمانية آلاف درهم دية وثلث.
وروى البيهقي وابن حزم
عن ابن عباس من طريق نافع بن جبير عنه قال
يزاد في دية المقتول في الأشهر الحرم أربعة
آلاف وفي دية المقتول في الحرم أربعة آلاف.
وروى ابن حزم عنه:
"أن رجلاً قتل في البلد الحرام في الشهر
الحرام فقال ابن عباس: "ديته اثنا عشر ألفاً
وللشهر الحرام والبلد الحرام أربعة آلاف"
وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى عدم التغليظ في
جميع ما سلف إلا في شبه العمد فإن أبا حنيفة
يغلظ فيه.
ج / 7 ص -81-
باب العاقلة وما تحمله
1 - صح عنه عليه
السلام:
"أنه قضى بدية المرأة المقتولة ودية جنينها
على عصبة القاتلة" وروى جابر قال:
"كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
على كل بطن عقولة ثم كتب أنه لا يحل أن يتوالى
مولي رجل مسلم بغير إذنه".
رواه أحمد ومسلم والنسائي.
2 - وعن عبادة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى في
الجنين المقتول بغرة عبد أو أمة قال: فورثها بعلها وبنوها قال: وكان من امرأتيه كلتيهما ولد
فقال أبو القاتلة المقضي عليه: يا رسول
اللّه كيف أغرم من لا صاح ولا استهل ولا شرب
ولا أكل فمثل ذلك بطل فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
هذا من الكهان".
رواه عبد اللّه بن أحمد
في المسند.
3 - وعن جابر: "أن
امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل
واحدة منهما زوج وولد
فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دية
المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"لا ميراثها لزوجها وولدها".
رواه أبو داود وهو حجة في أن ابن المرأة ليس
من عاقلتها.
الحديث الأول الذي أشار
إليه المصنف بقوله صح عنه أنه قضى الخ قد تقدم
في باب دية الجنين.
وحديث عبادة قد تقدم ما
يشهد له في باب دية الجنين أيضاً.
وحديث جابر أخرجه أيضاً
ابن ماجه وصححه النووي في الروضة وفي إسناده
مجالد وهو ضعيف لا يحتج بما انفرد به ففي
تصحيحه ما فيه.
وقد تكلم جماعة من
الأئمة في مجالد بن سعيد وقد اختلفت الأحاديث
ففي بعضها ما يدل على أن لكل واحدة من
المرأتين المقتتلتين زوجاً غير زوج الأخرى كما
في حديث جابر المذكور في الباب وكما في حديث
أبي هريرة عند الشيخين بلفظ: "أن امرأتين
من هذيل اقتتلتا ولكل واحدة منهما زوج فبرأ
الزوج والولد ثم ماتت القاتلة
فجعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ميراثها
لبنيها والعقل على العصبة".
وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن المرأتين المقتتلتين زوجهما
واحد كما في حديث الباب وكما أخرجه الطبراني
من طريق أبي المليح عن أسامة بن عمر الهذلي عن
أبيه قال: كان فينا رجل يقال له حمل بن مالك
له امرأتان إحداهما هذلية والأخرى عامرية
فضربت الهذلية بطن العامرية وأخرجه الحارث من
طريق أبي المليح فأرسله لم يقل عن أبيه
ولفظه: "أن حمل بن النابغة كان له امرأتان
مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح
تحت حمل بن النابغة فضربت أم عفيف مليكة"
وفي رواية لابن عباس عند أبي داود
ج / 7 ص -82-
إحداهما مليكة والأخرى أم عطيف.
قوله: "باب العاقلة" بكسر القاف جمع
عاقل وهو دافع الدية وسميت الدية عقلاً تسمية
بالمصدر لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي
المقتول ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على
الدية ولو لم تكن إبلاً وعاقلة الرجل قراباته
من قبل الأب وهم عصبته وهم الذين كانوا يعقلون
الإبل على باب ولي المقتول وتحميل العاقلة
الدية ثابت بالسنة وهو إجماع أهل العلم كما
حكاه في الفتح وتضمين العاقلة مخالف لظاهر
قوله تعالى
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
فتكون الأحاديث بتضمين العاقلة مخصصة لعموم
الآية لما في ذلك من المصلحة لأن القاتل لو
أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله لأن
تتابع الخطأ لا يؤمن ولو ترك بغير تغريم لأهدر
دم المقتول. وعاقلة الرجل عشيرته فيبدأ
بفخذه الأدنى فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب
فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب ثم
من بيت المال.
وقال الناصر: إنها تجب على
العصبة ثم السبب ثم أهل الديوان يعني جند
السلطان وقال أبو حنيفة: إنها تجب على أهل
الديوان ولا شيء على الورثة لأن عمر جعلها على
أهل الديوان دون أهل الميراث ولم ينكر هكذا في
البحر ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة
للأحاديث الصحيحة.
وقد حكي عن الأعصم وابن علية وأكثر الخوارج أن
الدية الخطأ في مال القاتل ولا تلزم
العاقلة. وحكي عن علقمة وابن أبي ليلى وابن
شبرمة والبتي وأبي ثور أن الذي يلزم العاقلة
هو الخطأ المحض وعمد الخطأ في مال القاتل.
قوله: "على كل بطن عقولة" بضم العين
المهملة والقياس في مصدر عقل أن يأتي على
العقل أو العقول وإنما دخلت الهاء لإفادة
المرة الواحدة.
قوله: "لا يحل أن يتوالى مولى رجل" الخ
فيه تحريم أن يتولى موالي رجل مولى رجل آخر
وليس المراد بقوله بغير إذنه أنه يجوز ذلك مع
الإذن بل المراد التأكيد كقوله تعالى
{لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً
مُضَاعَفَةً}.
قوله: "قضى في الجنين المقتول بغرة" الخ
قد تقدم تفسير الجنين والغرة وما يتعلق بهما
في باب دية الجنين.
قوله: "وبرأ زوجها وولدها" فيه دليل على
أن الزوج والولد ليسا من العاقلة وإليه ذهب
مالك والشافعي وذهبت العترة إلى أن الولد من
جملة العاقلة وقد تقدم كلام في ذلك.
4 - وعن عمران بن حصين: "أن غلاماً لأناس
فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله
إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالوا يا
نبي اللّه إنّا أناس فقراء فلم يجعل عليه
شيئاً". رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وفقهه أن ما تحمله العاقلة يسقط عنهم بفقرهم
ولا يرجع على القاتل.
الحديث أخرجه أيضاً ابن ماجه وصحح الحافظ
إسناده وهو عند أبي داود من رواية أحمد بن
حنبل عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي
نضرة عن عمران بن حصين وهذا إسناد صحيح - وفي
الحديث - دليل على أن الفقير لا يضمن أرش ما
جناه ولا يضمن عاقلته أيضاً ذلك.
ج / 7 ص -83-
قال البيهقي: إن كان المراد فيه الغلام المملوك فإجماع أهل العلم على أن جناية
العبد في رقبته وقد حمله الخطابي على أن
الجاني كان حراً وكانت الجناية خطأ وكانت
عاقلته فقراء فلم يجعل عليهم شيئاً إما لفقرهم
وإما لأنهم لا يعقلون الجناية الواقعة من
العبد على العبد على فرض أن الجاني كان عبداً
وقد يكون الجاني غلاماً حراً وكانت الجناية
عمداً فلم يجعل أرشها على عاقلته وكان فقيراً
فلم يجعل في الحال عليه شيئاً أو رآه على
عاقلته فوجدهم فقراء فلم يجعل عليهم شيئاً
لفقرهم ولا عليه لكون جنايته في حكم الخطأ هذا
معنى كلام الخطابي وقد ذهب أكثر العترة إلى أن
جناية الخطأ تلزم العاقلة وإن كانوا فقراء
قالوا إذا شرعت لحقن دم الخاطئ فعم الوجوب
وقال الشافعي لا تلزم الفقير وقال أبو حنيفة
إذا كان له حرفة وعمل وقد ذهب الشافعي في أحد
قوليه إلى أن عمد الصغير تلزم الفقير في ماله
وكذلك المجنون ولا يلزم العاقلة. وذهبت
العترة وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه إلى
أن عمد الصبي والمجنون على عاقلتهما واستدل
لهم في البحر بما روي عن علي عليه السلام أنه
قال لا عمد للصبيان والمجانين قال وهو توقيف
أو اجتهاد اشتهر ولم ينكر ولا بد من تأويل لفظ
الغلام بما سلف لما تقدم من الإجماع وسيأتي
أيضاً حديث أن العاقلة لا تعقل جناية العبد.
5 - وعن عمرو بن
الأحوص: "أنه شهد حجة الوداع مع رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على
والده". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
6 - وعن الخشخاش العنبري
قال: "أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم ومعي ابن لي فقال:
ابنك هذا فقلت: نعم قال:
"لا يجني عليك ولا تجني عليه".
رواه أحمد وابن ماجه.
7 - وعن أبي رمثة قال:
"خرجت مع أبي حتى أتيت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فرأيت برأسه ردع حناء وقال
لأبي:
هذا ابنك
قال: نعم قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه وقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}" رواه أحمد وأبو داود.
8 - وعن ابن مسعود
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة
أخيه".
رواه النسائي.
9 - وعن رجل من بني
يربوع قال: "أتينا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم وهو يكلم الناس فقام إليه
الناس فقالوا: يا رسول اللّه هؤلاء بنو فلان
ج / 7 ص -84-
الذين قتلوا فلاناً فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"لا تجن نفس على نفس". رواه أحمد والنسائي.
حديث عمرو بن الأحوص
أخرجه أيضاً أبو داود كما روى ذلك عنه صاحب
التلخيص ورجال إسناده ثقات إلا سليمان بن عمرو
بن الأحوص وهو مقبول.
وحديث الخشخاش أورده في
التلخيص وسكت عنه وله طرق رجال أسانيدها ثقات
وروى نحوه الطبراني مرسلاً بإسناد رجاله
ثقات.
وحديث أبي رمثة أخرجه
أيضاً النسائي والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة
وابن الجارود والحاكم. قال الحافظ: وأخرج
نحوه أحمد والنسائي من رواية ثعلبة بن زهدم.
وللنسائي وابن ماجه وابن حبان من رواية طارق
المحاربي. ولابن ماجه من رواية أسامة بن
شريك انتهى. وحديث ابن مسعود أخرجه أيضاً
البزار ورجاله رجال الصحيح.
وحديث الرجل من بني
يربوع رجال أحمد رجال الصحيح.
وأحاديث الباب يشهد
بعضها لبعض ويقوي بعضها بعضاً والثلاثة
الأحاديث الأولى تدل على أنه لا يضمن الولد من
جناية أبيه شيئاً ولا يضمن الوالد من جناية
ابنه شيئاً أما عدم ضمان الولد فهو مخصوص من
ضمان العاقلة بما سلف من حديث جابر.
وأما الأب فقد استدل
بهذه الأحاديث على أنه لا يضمن جناية ابنه كما
أن الابن لا يضمن جناية الأب وإلى ذلك ذهب
مالك والشافعي في الابن والأب كما تقدم وجعلا
هذه الأحاديث مخصصة لعموم الأحاديث القاضية
بضمان العاقلة على العموم فلا يكون الأب
والابن من العاقلة التي تضمن الجناية الواقعة
على جهة الخطأ وخالفتهما في ذلك العترة كما
سلف ويمكن الاستدلال لهم بأن هذه الأحاديث
قاضية بعدم ضمان الابن لجناية الأب والأب
لجناية الابن سواء كانت عمداً أو خطأ فتكون
مخصصة بالأحاديث القاضية بضمان العاقلة وهذا
وإن سلم فلا يتم باعتبار الابن لأنه خرج من
عموم العاقلة بما تقدم من حديث جابر من أنه
صلى اللّه عليه وآله وسلم جعل دية المقتول على
عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها
– والحاصل -
أنه قد تعارض ههنا عمومان لأن الأحاديث
القاضية بضمان العاقلة هي أعم من الأب وغيره
من الأقارب كما سلف والأحاديث المذكورة هي أعم
من جناية العمد والخطأ وقد قيل إن ما تحمله
العاقلة في جناية الخطأ والقسامة ليس من تحمل
عقوبة الجناية وإنما هو من باب النصرة
والمعاضدة فيما بين الأقارب فلا معارضة بين
هذه الأحاديث وأحاديث ضمان العاقلة وقد تقدم
في باب دية الجنين من حديث ابن عباس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لأبي القاتلة أَدِّ في الصبي
غرة"
وجعله المصنف دليلاً على أن الأب من العاقلة
كما سلف.
وأما حديث ابن مسعود
وحديث الرجل الذي من بني يربوع فهما يدلان على
أنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد في عقوبة ولا ضمان
ولكنهما مخصصان بأحاديث ضمان العاقلة المتقدمة
لأنهما أعم مطلقاً كما خصص بها العموم قوله
تعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقد قدمنا أن ضمان العاقلة لجناية الخطأ مجمع عليه على ما حكاه
ج / 7 ص -85-
صاحب الفتح وقد حمل المصنف رحمه اللّه هذه
العمومات على جناية العمد كما سيأتي.
قوله: "وعن
الخشخاش" بخاءين معجمتين مفتوحتين وشينين
معجمتين الأولى ساكنة.
قوله: "عن أبي
رمثة" بكسر الراء المهملة وبعدها ميم ساكنة
وثاء مثلثة وتاء تأنيث واسمه رفاعة بن يثربي
بفتح التحتية بعدها مثلثة ساكنة ثم راء مكسورة
ثم باء موحدة ثم ياء النسبة وفي اسمه اختلاف
كثير.
قوله: "ردع" بفتح
الراء وسكون الدال المهملة بعدها عين مهملة
وهو لطخ من زعفران أو دم أو حناء أو طيب أو
غير ذلك وهو هنا من حناء كما وقع مبيناً في
الرواية.
قوله: "بجريرة
أبيه" بجيم فراء فتحتية فراء فهاء تأنيث قال
في القاموس: والجريرة الذنب والجناية.
10 - وعن عمر قال:
"العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله
العاقلة". رواه الدارقطني وحكى أحمد عن
ابن عباس مثله.
وقال الزهري:
مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية
العمد إلا أن يشاؤوا رواه عنه مالك في
الموطأ. وعلى هذا وأمثاله تحمل العمومات
المذكورة.
أثر عمر أخرجه أيضاً
البيهقي قال الحافظ: وهو منقطع وفي إسناده
عبد الملك بن حسين وهو ضعيف قال البيهقي:
والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله.
وأثر ابن عباس أخرجه
أيضاً البيهقي ولفظه: "لا تحمل العاقلة
عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولا ما جنى
الملوك".
وقول الزهري روى معناه
البيهقي عن أبي الزناد عن الفقهاء من أهل
المدينة.
وفي الباب عن عبادة بن
الصامت عند الدارقطني والطبراني: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: لا تجعلوا على
العاقلة من دية المعترف شيئاً"
وفي إسناده محمد بن سعيد المصلوب وهو كذاب.
وفيه أيضاً الحارث بن نبهان وهو منكر
الحديث.
وقد تمسك بما في الباب
من قال إن العاقلة لا تعقل العمد ولا العبد
ولا الصلح ولا الاعتراف وقد اختلف في المجني
عليه إذا كان عبداً فذهب الحكم وحماد والعترة
وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه إلى أن
العاقلة تحمل العبد كالحر. وذهب مالك والليث
وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنها لا تحمله وقد
أجيب عن قول عمر مع كونه مما لا يحتج به لكون
أقوال الصحابة لا تكون حجة إلا إذا أجمعوا أن
المراد أن العاقلة لا تعقل الجناية الواقعة من
العبد على غيره كما يدل على ذلك قول ابن عباس
الذي ذكرناه بلفظ: "ولا
ما جنى المملوك".
والحاصل
أنه لم يكن في الباب ما ينبغي إثبات الأحكام
الشرعية بمثله فالمتوجه الرجوع إلى الأحاديث
القاضية بضمان العاقلة مطلقاً لجناية الخطأ
ولا يخرج عن ذلك إلا ما كان عمداً وظاهره عدم
الفرق بين كون الجناية الواقعة على جهة العمد
من الرجل على غيره أو على نفسه وإليه ذهبت
العترة والحنفية والشافعية وذهب الأوزاعي
وأحمد وإسحاق إلى أن جناية العمد على نفس
الجاني مضمونة على عاقلته واعلم أنه قد وقع
الإجماع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة
ولكن اختلفوا في مقدار الأجل فذهب الأكثر إلى
ج / 7 ص -86-
أن الأجل ثلاث سنين. وقال ربيعة إلى خمس
وحكى في البحر عن بعض الناس بعد حكايته
للإجماع السابق أنها تكون حالة إذ لم يرو عنه
صلى اللّه عليه وآله وسلم تأجيلها. قال في
البحر قلنا روي عن علي رضي اللّه عنه أنه قضى
بالدية على العاقلة في ثلاث سنين وقاله عمر
وابن عباس ولم ينكرا انتهى.
قال الشافعي في المختصر:
لا أعلم مخالفاً أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث
سنين قال الرافعي: تكلم أصحابنا في ورود
الخبر بذلك فمنهم من قال ورد ونسبه إلى رواية
علي عليه السلام ومنهم من قال ورد أنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة
وأما التأجيل فلم يرد به الخبر وأخذ ذلك من
إجماع الصحابة.
وقال ابن المنذر:
ما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلاً من كتاب ولا
سنة وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال لا نعرف
فيه شيئاً فقيل أن أبا عبد اللّه يعني الشافعي
رواه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
لعله سمعه من ذلك المدني فإنه كان حسن الظن به
يعني إبراهيم بن أبي يحيى وتعقبه ابن الرفعة
بأن من عرف حجة على من لم يعرف.
وروى البيهقي من طريق
ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب
قال: من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين
وقد وافق الشافعي على نقل الإجماع الترمذي في
جامعه وابن المنذر فحكى كل واحد منهما
الإجماع. وقد روى التأجيل ثلاث سنين ابن أبي
شيبة وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر وهو منقطع
لأنه من رواية الشعبي عنه. ورواه عبد الرزاق
أيضاً عن ابن جريج عن أبي وائل قال: إن عمر
بن الخطاب جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين
وجعل نصف الدية في سنتين وما دون النصف في سنة
وروى البيهقي التأجيل المذكور عن أمير
المؤمنين علي رضوان اللّه تعالى عليه وهو
منقطع وفي إسناده ابن لهيعة . |