نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية ج / 7 ص -138-
كتاب حد شارب الخمر
1 - عن أنس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي
برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين
قال وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس
فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به
عمر".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.
2 - وعن أنس: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر
بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين".
متفق عليه.
3 - وعن عقبة بن الحارث
قال:
"جيء بالنعمان أو ابن النعمان شاربًا فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت
فيمن ضربه فضربناه بالنعال والجريد".
4 - وعن السائب بن يزيد
قال: "كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي إمرة أبي بكر
وصدرًا من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا
ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرًا من إمرة عمر
فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا
جلد ثمانين". رواهما أحمد والبخاري.
5 - وعن أبي هريرة
قال: "أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
برجل قد شرب فقال:
اضربوه فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه
فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللّه
قال:
لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان". رواه أحمد والبخاري وأبو داود.
6 - وعن حضين بن المنذر
قال: "شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد
صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم فشهد عليه
رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر
أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان: أنه لم يتقيأها
حتى شربها فقال: يا علي قم فاجلده فقال
علي: قم يا حسن فاجلده فقال الحسن: ولِ
حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال:
يا عبد اللّه بن جعفر قم فاجلده فجلده
ج / 7 ص -139-
وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك ثم
قال: جلد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة
وهذا أحب إلي". رواه مسلم وفيه من الفقه
أن للوكيل أن يوكل وأن الشهادتين على شيئين
إذا آل معناهما إلى شيء واحد جمعتا جائزة
كالشهادة على البيع والإقرار به أو على القتل
والإقرار به.
قوله: "قد شرب
الخمر" اعلم أن الخمر يطلق على عصير العنب
المشتد إطلاقًا حقيقيًا إجماعًا واختلفوا هل
يطلق على غيره حقيقة أو مجازًا وعلى الثاني هل
مجاز لغة كما جزم به صاحب المحكم.
قال صاحب الهداية من
الحنفية: الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب
إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل
العلم انتهى. أو من باب القياس على الخمر
الحقيقية عند من يثبت التسمية بالقياس وقد صرح
في الراغب أن الخمر عند البعض اسم لكل مسكر
وعند بعض للمتخذ من العنب والتمر وعند بعضهم
لغير المطبوخ ورجح أن كل شيء بستر العقل يسمى
خمرًا لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل وسترها
له وكذا قال جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري
وأبو نصر القشيري والدينوري وصاحب القاموس
ويؤيد ذلك أنها حرمت بالمدينة وما كان شرابهم
يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر ويؤيده أيضًا أن
الخمر في الأصل الستر ومنه خمار المرأة لأنه
يستر وجهها والتغطية ومنه خمروا آنيتكم أي
غطوها والمخالطة ومنه خامره داء أي خالطه
والإدراك ومنه اختمر العجين أي بلغ وقت إدراكه
قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في
الخمر لأنها تركت حتى أدركت وسكنت فإذا شربت
خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه ونقل عن ابن
الأعرابي أنه قال: سميت الخمر خمرًا لأنها
تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها قال
الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر
إلا من العنب فيقال لهم إن الصحابة الذين سموا
غير المتخذ من العنب خمرًا عرب فصحاء فلو لم
يكن هذا الاسم صحيحًا لما أطلقوه انتهى.
ويجاب بإمكان أن يكون
ذلك الإطلاق الواقع منهم شرعيًا لا لغويًا
وأما الاستدلال على اختصاص الخمر بعصير العنب
بقوله تعالى
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} ففاسد لأن الصيغة لا دليل فيها على الحصر المدعي وذكر شيء بحكم لا
ينفي ما عداه وقد روى ابن عبد البر عن أهل
المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم أن
كل مسكر خمر.
وقال القرطبي:
الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها
وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن
الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره
لا يسمى خمرًا ولا يتناوله اسم الخمر وهو قول
مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة
لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر
بالاجتناب تحريم كل ما يسكر ولم يفرقوا بين ما
يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا
بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا
ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل
بادروا إلى إتلاف
ج / 7 ص -140-
ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان
وبلغتهم نزل القرآن فلو كان عندهم تردد
لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا
التحريم وقد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من الحنطة خمر ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ومن
الزبيب خمر ومن العسل خمر".
وروي أيضًا أنه خطب عمر
على المنبر وقال: ألا إن الخمر قد حرمت وهي
من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة
والشعير والخمر ما خامر العقل. وهو في
الصحيحين وغيرهما وهو من أهل اللغة وتعقب بأن
ذلك يمكن أن يكون إطلاقًا للاسم الشرعي لا
اللغوي فيكون حقيقة شرعية قال ابن المنذر:
القائل بأن الخمر من العنب وغيره عمر وعلي
وسعد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس
وعائشة ومن غيرهم ابن المسيب والشافعي وأحمد
وإسحاق وعامة أهل الحديث وحكاه في البحر عن
الجماعة المذكورين من الصحابة إلا أبا موسى
وعائشة وعن المذكورين من غيرهم إلا ابن المسيب
وزاد العترة ومالكًا والأوزاعي وقال: إنه
يكفر مستحل خمر الشجرتين ويفسق مستحل ما
عداهما ولا يكفر لهذا الخلاف ثم قال: فرع
وتحريم سائر المسكرات بالسنة والقياس فقط إذ
لا يسمى خمرًا إلا مجازًا وقيل بهما وبالقرآن
لتسميتها خمرًا في حديث:
"إن من التمر خمرًا" الخبر وقول أبي موسى وابن عمر الخمر ما خامر العقل قلنا مجاز
انتهى.
وقد ثبت في الصحيحين
وغيرهما أحاديث منها ما هو بلفظ:
"كل مسكر خمر كل مسكر حرام" ومنها ما هو بلفظ: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" ومنها ما هو
بلفظ:
"كل شراب أسكر فهو حرام" وهذا لا يفيد المطلوب وهو كونها حقيقة في
غير عصير العنب أو مجازًا لأن هذه الأحاديث
غاية ما يثبت بها أن المسكر على عمومه يقال له
خمر ويحكم بتحريمه وهذه حقيقة شرعية لا لغوية
وقد صرح الخطابي بمثل هذا وقال: إن مسمى
الخمر كان مجهولًا عند المخاطبين حتى بينه
الشارع بأنه ما أسكر فصار ذلك كلفظ الصلاة
والزكاة وغيرهما من الحقائق الشرعية وقد عرفت
ما سلف عن أهل اللغة من الخلاف.
قوله: "فجلد
بجريدتين نحو أربعين" الجريد سعف النخل وفي
ذلك دليل على مشروعية أن يكون الجلد بالجريد
وإليه ذهب بعض الشافعية وقد صرح القاضي أبو
الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط وصرح
القاضي حسين بتعين السوط واحتج بأنه إجماع
الصحابة وخالفه النووي في شرح مسلم فقال:
أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف
الثياب ثم قال: والأصح جوازه بالسوط وحكى
الحافظ عن بعض المتأخرين أنه يتعين السوط
للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن
عداهم بحسب ما يليق بهم وهذه الرواية مصرحة
بأن الأربعين كانت بجريدتين وفي رواية للنسائي
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضربه
بالنعال نحوًا من أربعين.
وفي رواية لأحمد
والبيهقي فأمر نحوًا من عشرين رجلًا فجلده كل
واحد جلدتين بالجريد والنعال فيجمع بأن جملة
الضربات كانت نحو أربعين إلا أن كل جلدة
بجريدتين وهذا الجمع باعتبار مجرد الضرب
بالجريد وهو مبين لما أجمل في الرواية
المذكورة في حديث أنس بلفظ:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في
الخمر بالجريد والنعال" وكذلك ما في سائر الروايات المجملة ولكن الجمع بين الضرب
ج / 7 ص -141-
بالجريد والنعال في روايات الباب يدل على أن
الضرب بهما غير مقدر بحد لأنها إذا كانت
الضربات بالجريد مقدرة بذلك المقدار فلم يأت
ما يدل على تقدير الضربات بالنعال إلا رواية
النسائي المتقدمة فإنها مصرحة أن الضرب كان
بالنعال فقط نحوًا من أربعين وورد أيضًا الضرب
بالأردية كما في رواية السائب بن يزيد
المذكورة وفي حديث علي المذكور في جلد الوليد
تصريح بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد
أربعين وهو يخالف ما سيأتي من حديثه أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يسن في ذلك سنة
ويمكن الجمع بأن المراد بالسنة المذكورة في
الحديث الآتي هي الطريقة المستمرة وفعل
الأربعين في مرة واحدة لا يستلزم أن يكون ذلك
سنة مع عدم الاستمرار كما في سائر الروايات
وقيل تحمل رواية الأربعين على التقريب دون
التحديد ويمكن الجمع أيضًا بما سيأتي أنه جلد
الوليد بسوط له طرفان فكان الضرب باعتبار
المجموع أربعين وبالنظر إلى الحاصل من كل واحد
من الطرفين ثمانين وقد ضعف الطحاوي هذه
الرواية التي فيها التصريح بأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم جلد أربعين لعبد اللّه
بن فيروز أو يجاب بأنه قوى الحديث البخاري كما
روى ذلك الترمذي عنه. ووثق عبد اللّه
المذكور أبو زرعة والنسائي وإخراج مسلم له
دليل على أنه من المقبولين وقال ابن عبد
البر: إن هذا الحديث أثبت شيء في هذا الباب
واستدل الطحاوي على ضعف الحديث بقوله فيه وكل
سنة الخ قال: لأن عليًا لا يرجح فعل عمر على
فعل النبي بناء منه على أن قول علي وهذا أحب
إليَّ إشارة إلى الثمانين التي فعلها عمر وليس
الأمر كذلك بل المشار إليه هو الجلد الواقع
بين يديه في تلك الحال وهو أربعون كما يشعر
بذلك الظاهر ولكنه يشكل من وجه آخر وهو أن
الكل من فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وعمر لا يكون سنة بل السنة فعل النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقط وقد قيل إن المراد
أن ذلك جائز قد وقع لا محذور فيه
ويمكن أن يقال إن إطلاق
السنة على فعل الخلفاء لا بأس به لما في حديث
العرباض بن سارية عند أهل السنن بلفظ:
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ"
الحديث يمكن أن يقال المراد بالسنة الطريقة
المألوفة وقد ألف الناس ذلك في زمن عمر كما
ألفوا الأربعين في زمن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وزمن أبي بكر.
قوله: "أخف الحدود
ثمانين" هكذا ثبت بالياء قال ابن دقيق
العيد: حذف عامل النصب والتقدير اجعله
ثمانين وقيل التقدير أجده ثمانين. وقيل
التقدير أرى أن نجعله ثمانين.
قوله: "النعمان أو
ابن النعمان" هكذا في نسخ هذا الكتاب مكبرًا
وفي صحيح البخاري النعيمان أو ابن النعيمان
بالتصغير.
قوله: "وعن حضين"
بفتح الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة.
قوله: "لا تعينوا
عليه الشيطان" في ذلك دليل على أنه لا يجوز
الدعاء على من أقيم عليه الحد لما في ذلك من
إعانة الشيطان عليه وقد تقدم في حديث جلد
الأمة النهي للسيد عن التثريب عليها وتقدم
أيضًا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر
السارق بالتوبة فلما تاب قال تاب اللّه عليك
وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في سائر
المحدودين.
قوله: "إنه لم
يتقيأها حتى شربها" فيه دليل على أنه يكفي
في ثبوت حد الشرب شاهدان أحدهما يشهد على
الشرب والآخر على القيء ووجه الاستدلال بذلك
أنه وقع بمجمع من الصحابة ولم ينكر وإليه ذهب
مالك والناصر والقاسمية. وذهبت الشافعية
والحنفية
ج / 7 ص -142-
إلى أنه لا يكفي ذلك للاحتمال لإمكان أن
يكون المتقيء لها مكرهًا على شربها أو نحو
ذلك.
قوله: "ول حارها"
بحاء مهملة وبعد الألف راء مشددة قال في
القاموس: والحار من العمل شاقه وشديده.
اهـ
وقارها بالقاف وبعد
الألف راء مشددة أي ما لا مشقة فيه من الأعمال
والمراد ول الأعمال الشاقة من تولى الأعمال
التي لا مشقة فيها استعار للمشقة الحر ولما لا
مشقة فيه البرد.
قوله: "جمعتا" بضم
الجيم وفتح الميم والعين لفظ تأكيد للشهادتين
كما يقال جمع لتأكيد ما فوق الاثنتين وفي بعض
النسخ جميعًا وهو الصواب.
والأحاديث المذكورة في
الباب فيها دليل على مشروعية حد الشرب وقد
ادعى القاضي عياض الإجماع على ذلك. وقال في
البحر: مسألة ولا ينقص حده عن الأربعين
إجماعًا وذكر أن الخلاف إنما هو في الزيادة
على الأربعين وحكى ابن المنذر والطبري وغيرهما
عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها
وإنما فيها التعزير واستدلوا بالأحاديث
المروية عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن
الصحابة من الضرب بالجريد والنعال والأردية
وبما أخرجه عبد الرزاق عن الزهري أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لم يفرض في الخمر حدًا
وإنما كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم
ونعالهم حتى يقول لهم ارفعوا.
وأخرج أبو داود والنسائي
بسند قوي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم لم يوقت في الخمر حدًا وبما سيأتي
في باب من وجد منه سكر أو ريح وأجيب بأنه قد
انعقد إجماع الصحابة على جلد الشارب واختلافهم
في العدد إنما هو بعد الاتفاق على ثبوت مطلق
الجلد وسيأتي في الباب المشار إليه الجواب عن
بعض ما تمسكوا به وقد ذهبت العترة ومالك
والليث وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في قول له
إلى أن حد السكران ثمانون جلدة. وذهب أحمد
وداود وأبو ثور والشافعي في المشهور عنه إلى
أنه أربعون لأنها هي التي كانت في زمنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وزمن أبي بكر وفعلها علي
في زمن عثمان كما سلف واستدل الأولون بأن عمر
جلد ثمانين بعد ما استشار الصحابة كما سلف
وبما سيأتي عن علي أنه أفتى بأنه يجلد ثمانين
وبما في حديث أنس المذكور أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم جلد في الخمر نحو أربعين
بجريدتين.
والحاصل
أن دعوى إجماع الصحابة غير مسلمة فإن اختلافهم
في ذلك قبل إمارة عمر وبعدها وردت به الروايات
الصحيحة ولم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم الاقتصار على مقدار معين بل جلد
تارة بالجريد وتارة بالنعال وتارة بهما فقط
وتارة بهما مع الثياب وتارة بالأيدي والنعال
والمنقول من المقادير في ذلك إنما هو بطريق
التخمين ولهذا قال أنس نحو أربعين والجزم
المذكور في رواية علي بالأربعين يعارضه ما
سيأتي من أنه ليس في ذلك عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم سنة فالأولى الاقتصار على ما
ورد عن الشارع من الأفعال وتكون جميعها جائزة
فأيها وقع فقد حصل به الجلد المشروع الذي
أرشدنا إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالفعل
والقول كما في حديث من شرب الخمر فاجلدوه
وسيأتي فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع
منه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن الصحابة بين
يديه ولا دليل يقتضي تحتم مقدار معين لا يجوز
غيره لا يقال الزيادة مقبولة فيتعين المصير
إليها وهي رواية الثمانين لأنا نقول هي زيادة
شاذة لم يذكرها إلا ابن دحية فإنه قال في كتاب
وهج الجمر في تحريم الخمر صح عن عمر أنه
قال: لقد هممت أن أكتب في المصحف أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر
ثمانين
ج / 7 ص -143-
وقد
قال الحافظ في التلخيص أنه لم يسبق ابن دحية
إلى تصحيحه. وحكى ابن الطلاع أن في مصنف عبد
الرزاق أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في
الخمر أربعين وورد من طريق لا تصح أنه جلد
ثمانين انتهى. وهكذا ما رواه أبو داود من
حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم أمر بجلد الشارب أربعين فإنه قال
ابن أبي حاتم في العلل سأل أبي عنه فقال لم
يسمعه الزهري عن عبد الرحمن بل عن عقيل بن
خالد عنه ولو صح لكان من جملة الأنواع التي
يجوز فعلها لا أنه هو المتعين لمعارضة غيره له
على أنه قد رواه الشافعي عن عبد الرحمن
المذكور بلفظ: "أتي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بشارب فقال:
اضربوه فضربوه بالأيدي والنعال"
ومن ذلك حديث أبي سعيد عند الترمذي وقال حسن
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرب
في الخمر بنعلين أربعين وسيأتي ومما يؤيد عدم
ثبوت مقدار معين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
طلب عمر للمشورة من الصحابة فأشاروا عليه
بآرائهم ولو كان قد ثبت تقديره عنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لما جهله جميع أكابر
الصحابة.
1 - وعن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي
اللّه عنه قال:
"ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئًا إلا صاحب
الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يسنه".
متفق عليه وهو لأبي داود وابن ماجه وقالا فيه
لم يسن فيه شيئًا إنما قلناه نحن قلت ومعنى لم
يسنه يعني لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه.
2 - وعن أبي سعيد قال: "جلد على عهد رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الخمر
بنعلين أربعين فلما كان زمن عمر جعل بدل كل
نعل سوطًا". رواه أحمد.
3 - وعن عبيد اللّه عدي بن الخيار أنه قال
لعثمان: "قد أكثر الناس في الوليد فقال
سنأخذ منه بالحق إن شاء اللّه تعالى ثم دعا
أمير المؤمنين عليًا فأمره أن يجلده فجلده
ثمانين". مختصرًا من البخاري وفي رواية له
أربعين ويتوجه الجمع بينهما بما رواه أبو جعفر
محمد بن علي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام جلد الوليد بسوط له طرفان رواه
الشافعي في مسنده.
4 - وعن أبي سعيد قال: "أتي رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم برجل نشوان فقال:
إني لم أشرب خمرًا إنما شربت زبيبًا وتمرًا في
دباءة قال:
فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال ونهى عن الدباء ونهى عن الزبيب
والتمر يعني أن يخلطا".
رواه أحمد.
ج / 7 ص -144-
5 - وعن السائب بن يزيد: "أن عمر خرج
عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم
أنه شرب الطلاء وإني سائل عما شرب فإن كان
مسكرًا جلدته فجلده عمر الحد تامًا". رواه
النسائي والدارقطني.
6 - وعن أمير المؤمنين
علي رضي اللّه عنه في شرب الخمر قال: "إنه
إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى
المفتري ثمانون جلدة". رواه الدارقطني
ومالك بمعناه.
7 - وعن ابن شهاب أنه
سئل عن حد العبد في الخمر فقال: "بلغني أن
عليه نصف حد الحر وإن عمر وعثمان وعبد اللّه
بن عمر جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر".
رواه مالك في الموطأ.
حديث أبي سعيد الأول
أخرجه الترمذي وحسنه قال وفي الباب عن علي
وعبد الرحمن بن أزهر وأبي هريرة والسائب وابن
عباس وعقبة بن الحارث انتهى. وأثر أبي جعفر
محمد بن علي فيه انقطاع.
وحديث أبي سعيد الثاني
أصله في صحيح مسلم وأخرج الشيخان عن جابر: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى
أن ينبذ التمر والزبيب جميعًا وأن ينبذ الرطب
والبسر جميعًا" وأخرج نحوه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس واتفقا عليه من
حديث أبي قتادة بلفظ:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب
ولينبذ كل منهما على حدة والنهي عن الانتباه
في الدباء"
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير" وأخرج نحوه الشيخان من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس ولهما
أيضًا عن أنس:
"نهى عن الدباء والمزفت"
وللبخاري عن ابن أبي أوفى:
"نهى عن المزفت والحنتم والنقير"
ولهما عن علي في النهي عن الدباء والمزفت.
ولعائشة عند مسلم:
"نهى وفد عبد القيس أن ينتبذوا في الدباء
والنقير والمزفت والحنتم" انتهى. والدباء هو القرع والحنتم هو الجرار الخضر والنقير هو أصل
الجذع ينقر ويتخذ منه الإناء والمزفت هو
المطلي بالزفت والمقير هو المطلي بالقار.
وأثر عمر رواه النسائي
من طريق الحارث بن مسكين وهو ثقة عن ابن
القاسم يعني عبد الرحمن صاحب مالك وهو ثقة
أيضًا عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد
عن عمر والسائب له صحبة.
وأثر علي الآخر أخرجه
أيضًا الشافعي وهو من طريق ثور بن زبد الديلي
ولكنه منقطع لأن ثورًا لم يلحق عمر بلا خلاف
ووصله النسائي والحاكم فروياه عن ثور عن عكرمة
عن ابن عباس ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
عن عكرمة ولم يذكر ابن عباس وقد أعل هذا بما
تقدم في أول الباب أن عمر استشار الناس
ج / 7 ص -145-
فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فأمر به
عمر قال في التلخيص: ولا يقال يحتمل أن يكون
علي وعبد الرحمن أشارا بذلك جميعًا لما ثبت في
صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه
جلده أربعين وقال: جلد رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر
ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي فلو كان هو
المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر ولم يعمل
لكن يمكن أن يقال أنه قال لعمر باجتهاد ثم
تغير اجتهاده ولهذا الأثر طرق منها ما تقدم
ومنها ما أخرجه الطبري والطحاوي والبيهقي وفيه
أن رجلا من بني كلب يقال له ابن وبرة أخبره أن
خالد بن الوليد بعثه إلى عمر وقال له إن الناس
قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة فقال
عمر لمن حوله ما ترون فقال علي فذكر مثل
تقدم.
وأخرج نحوه عبد الرزاق
عن عكرمة وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد
الرحمن السلمي عن علي قال: شرب نفر من أهل
الشام الخمر وتأولوا الآية الكريمة فاستشار
فيهم فقلت أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم
ثمانين وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما
حرم فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين.
وأثر ابن شهاب فيه
انقطاع لأنه لم يدرك عمر ولا عثمان.
قوله: "فإنه لو مات
وديته" في هذا الحديث دليل على أنه إذا مات
رجل بحد من الحدود لم يلزم الإمام ولا نائبه
الأرش ولا القصاص إلا حد الشرب.
وقد اختلف أهل العلم في
ذلك فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل والهادي
والقاسم والناصر وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا
شيء فيمن مات بحد أو قصاص مطلقًا من غير فرق
بين حد الشرب وغيره وقد حكى النووي الإجماع
على ذلك وفيه نظر فإنه قد قال أبو حنيفة وابن
أبي ليلى أنها تجب الدية على العاقلة كما حكاه
في البحر وأجابا بأن عليًا لم يرفع هذه
المقالة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بل أخرجها مخرج الاجتهاد وكذلك يجاب عن رواية
عبيد بن عمير أن عليًا وعمر قالا: من مات من
حد أو قصاص فلا دية له الحق قتله ورواه بنحوه
ابن المنذر عن أبي بكر واحتجا بأن اجتهاد بعض
الصحابة لا يجوز به إهدار دم امرئ مسلم مجمع
على أنه لا يهدر وقد أجيب عن هذا بأن الهدر ما
ذهب بلا مقابل له ودم المحدود مقابل للذنب ورد
بأن المقابل للذنب عقوبة لا تفضي إلى القتل
وتعقب هذا الرد بأنه تسبب بالذنب إلى ما يفضي
إلى القتل في بعض الأحوال فلا ضمان وأما من
مات بتعزيز فذهب الجمهور إلى أنه يضمنه الإمام
وذهبت الهادوية إلى أنه لا شيء فيه كالحد.
وحكى النووي عن الجمهور من العلماء أنه لا
ضمان فيمن مات بتعزيز لا على الإمام ولا على
عاقلته ولا في بيت المال وحكى عن الشافعي أنه
يضمنه الإمام ويكون على عاقلته.
قوله: "لم يسنه"
قد قدمنا الجمع بين هذا وبين روايته السابقة
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد
أربعين.
قوله: "فجلده
ثمانين" هذا يخالف ما تقدم في أول الباب أن
عليًا أمر بجلده أربعين وظاهر هذه الرواية أنه
جلده بنفسه وأن جملة الجلد ثمانون وقد جمع
المصنف بين الروايتين بما ذكره من رواية أبي
جعفر ولا بد من الجمع بمثل ذلك لأن حمل ذلك
على تعدد الواقعة بعيد جدًا فإن المحدود في
القصتين واحد وهو الوليد بن عقبة وكان ذلك
ج / 7 ص -146-
بين يدي عثمان في حضرة علي.
قوله: "نشوان"
بفتح النون وسكون الشين قال في القاموس: رجل
نشوان ونشيان سكران بين النشوة انتهى.
قوله: "في دباءة"
بضم الدال وتشديد الباء الموحدة واحدة الدباء
وهي الآنية التي تتخذ منه.
قوله: "نهز" بضم
النون وكسر الهاء بعدها زاي وهو الدفع باليد
قال في القاموس: نهزه كمنعه ضربه ودفعه.
قوله: "ونهى عن
الزبيب والتمر" يعني أن يخلطا فيه دليل على
أنه لا يجوز الجمع بين الزبيب والتمر وجعلهما
نبيذًا وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأشربة
إن شاء اللّه تعالى قوله فزعم أنه شرب الطلاء
هي الخمرة اللذيذة على ما في القاموس.
قوله: "إذا شرب
سكر" الخ اعلم أن معنى هذا الأثر لا يتم إلا
بعد تسليم أن كل شارب خمر يهذي بما هو افتراء
وأن كل مفتر يجلد ثمانين جلدة والكل ممنوع فإن
الهذيان إذا كان ملازمًا للسكر فلا يلازمه
الافتراء لأنه نوع خاص من أنواع ما يهذو به
الإنسان والجلد إنما يلزم من افترى افتراء
خاصًا وهو القذف لا كل مفتر وهذا مما لا خلاف
فيه فكيف صح مثل هذا القياس فإن قال قائل أنه
من باب الإخراج للكلام على الغالب فذلك أيضًا
ممنوع فإن أنواع الهذيان بالنسبة إلى الافتراء
وأنواع الافتراء بالنسبة إلى القذف هي الغالبة
بلا ريب وقد تقرر في علم المعاني أن أصل إذا
الجزم بوقوع الشرط ومثل هذا الأمر النادر مما
يبعد الجزم بوقوعه باعتبار كثرة الأفراد
المشاركة له في ذلك الاسم وغلبتها وللقياس
شروط مدونة في الأصول لا تنطبق على مثل هذا
الكلام ولكن مثل أمير المؤمنين رضي اللّه عنه
ومن بحضرته من الصحابة الأكابر هم أصل الخبرة
بالأحكام الشرعية ومداركها.
قوله: "بلغني أن
عليه نصف حد الحر" قد ذهب إلى التنصيف للعبد
في حد الزنا والقذف والشرب الأكثر من أهل
العلم وذهب ابن مسعود والليث والزهري وعمر بن
عبد العزيز إلى أنه يستوي الحر والعبد في ذلك
لعموم الأدلة ويجاب بأن القرآن مصرح في حد
الزنا بالتنصيف قال اللّه تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ويلحق بالإماء العبيد ويلحق بحد الزنا سائر الحدود وهذا قياس صحيح
لا يختلف في صحته من أثبت العمل بالقياس.
باب ما ورد في
قتل الشارب في الرابعة وبيان نسخه
1 - عن عبد اللّه بن
عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
"من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن
عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه قال عبد اللّه:
ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي
أن أقتله".
رواه أحمد.
2 - وعن معاوية: أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم
إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم".
رواه الخمسة إلا النسائي قال الترمذي: إنما كان هذا في أول الأمر
ثم نسخ بعد
ج / 7 ص -147-
هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد ين المنكدر
عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه" قال ثم أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في
الرابعة فضربه ولم يقتله".
3 - وعن الزهري عن قبيصة
بن ذؤيب: أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
"من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن
عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه فأتي برجل
قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده
ثم أتي به فجلده ورفع القتل وكانت رخصة".
رواه أبو داود وذكره الترمذي بمعناه.
4 - وعن أبي هريرة
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في
الرابعة فاضربوا عنقه".
رواه الخمسة إلا الترمذي وزاد أحمد: "قال الزهري: فأتي رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسكران في
الرابعة فخلى سبيله".
حديث ابن عمرو أخرجه
أيضًاالحارث بن أبي أسامة في مسنده من طريق
الحسن البصري ورواه من طريقه ابن حزم والحسن
لم يسمع من عبد اللّه بن عمرو فهو منقطع وقد
جزم بعدم سماعه منه ابن المديني وغيره ووقع في
نسخة من هذا الكتاب عبد اللّه بن عمر بدون واو
والصواب إثباتها. وحديث معاوية قال البخاري
هو أصح ما في هذا الباب وأخرجه أيضًاالشافعي
والدارمي وابن المنذر وابن حبان وصححه من حديث
أبي هريرة وأخرج ابن أبي شيبة من رواية أبي
سعيد والمحفوظ أنه عن معاوية وأخرجه أبو داود
من رواية أبان العطار وفيه فإن شربوا يعني بعد
الرابعة فاقتلوهم. ورواه أيضًاأبو داود من
حديث ابن عمر قال: وأحسبه قال في الخامسة ثم
إن شربها فاقتلوه قال وكذا في حديث غطيف في
الخامسة. وحديث جابر أخرجه أيضًاالنسائي.
وحديث قبيصة بن ذؤيب أخرجه أيضًاالشافعي وعبد
الرزاق وعلقه الترمذي.
وأخرجه أيضًاالخطيب عن
ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة قال سفيان بن
عيينة حدث الزهري بهذا وعنده منصور بن المعتمر
ومخول بن راشد فقال لهما كونا وافدي أهل
العراق بهذا الحديث وقبيصة بن ذؤيب من أولاد
الصحابة ولد عام الفتح وقيل إنه ولد أول سنة
من الهجرة ولم يذكر له سماع من رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وعده الأئمة من التابعين
وذكروا أنه سمع الصحابة قال المنذري: وإذا
ثبت أن مولده أول سنة من الهجرة أمكن أن يكون
سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وقد قيل أنه أتى به النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم وهو غلام يدعو له وذكر عن الزهري أنه كان
إذا ذكر قبيصة بن ذؤيب قال كان من علماء هذه
الأمة وأما أبوه ذؤيب بن حلحلة فله صحبة انتهى
ورجال
ج / 7 ص -148-
الحديث مع إرساله ثقات وأعله الطحاوي بما
أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري راويه قال
بلغني عن قبيصة ولم يذكر أنه سمع منه وعورض
بأنه رواه ابن وهب عن يونس قال أخبرني الزهري
أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم ويونس أحفظ لحديث الزهري من
الأوزاعي وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر
مثله.
وأما حديث أبي هريرة فقد
قدمنا من أخرجه ومن صححه وفي الباب عن الشريد
بن أوس الثقفي عند أحمد والأربعة والدارمي
والطبراني وصححه الحاكم وعن شرحبيل الكندي عند
أحمد والطبراني وابن منده ورجاله ثقات وعن أبي
الرمداء براء مهملة مفتوحة وميم ساكنة ودال
مهملة وبالمد عند الطبراني وابن منده وفي
إسناده ابن لهيعة وفيه أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أمر بضرب عنقه وأنه ضرب عنقه
فإن ثبت هذا كان فيه رد على من يقول إن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يعمل به.
وقد اختلف العلماء هل
يقتل الشارب بعد الرابعة أو لا فذهب بعض أهل
الظاهر إلى أنه يقتل ونصره ابن حزم واحتج له
ودفع دعوى الإجماع على عدم القتل وهذا هو طاهر
ما في الباب عن ابن عمرو وذهب الجمهور إلى أنه
لا يقتل الشارب وأن القتل منسوخ قال
الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره
يعني حديث قبيصة ابن ذؤيب ثم ذكر أنه لا خلاف
في ذلك بين أهل العلم.
وقال الخطابي: قد يرد
الأمر بالوعيد ولا يراد به الفعل وإنما يقصد
به الردع والتحذير وقد يحتمل أن يكون القتل في
الخامسة واجبًا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة
على أنه لا يقتل انتهى. وحكى المنذري عن بعض
أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب
الحد في الخمر وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا
تكرر منه إلا طائفة شاذة قالت يقتل بعد حده
أربع مرات للحديث وهو عند الكافة منسوخ
انتهى.
وقال الترمذي: إنه لا
يعلم في ذلك اختلافًا بين أهل العلم في القديم
والحديث وذكر أيضًافي آخر كتابه الجامع في
العلل أن جميع ما فيه معمول به عند البعض من
أهل العلم إلا حديث إذا سكر فاجلدوه المذكور
في الباب. وحديث الجمع بين الصلاتين وقد
احتج من أثبت القتل بأن حديث معاوية المذكور
متأخر عن الأحاديث القاضية بعدم القتل لأن
إسلام معاوية متأخر وأجيب عن ذلك بأن تأخر
إسلام الراوي لا يستلزم تأخر المروي لجواز أن
يروي ذلك عن غيره من الصحابة المتقدم إسلامهم
على إسلامه وأيضًاقد أخرج الخطيب في المبهمات
عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة أنه قال في
حديثه السابق فأتي برجل من الأنصار يقال له
نعيمان فضربه أربع مرات فرأى المسلمون أن
القتل قد أخر.
وأخرج عبد الرزاق عن
معمر عن سهيل وفيه قال فحدثت به ابن المنكدر
فقال قد ترك ذلك وقد أتي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بابن النعيمان فجلده ثلاثًا ثم
أتي به الرابعة فجلده ولم يزده وقصة النعيمان
أو ابن النعيمان كانت بعد الفتح لأن عقبة بن
الحارث حضرها فهي إما بحنين وإما بالمدينة
ومعاوية أسلم قبل الفتح أو في الفتح على
الخلاف وحضور عقبة كان بعد الفتح.
باب من وجد منه
سكر أو ريح خمر ولم يعترف
1 - عن ابن عباس:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم
يقت في الخمر حدًا وقال ابن عباس شرب رجل فسكر
فلقي يميل في الفج فانطلق به إلى
ج / 7 ص -149-
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما حاذى
بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه
فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فضحك
وقال أفعلها ولم يأمر فيه بشيء". رواه
أحمد وأبو داود وقال: هذا مما تفرد به أهل
المدينة.
2 - وعن علقمة قال:
"كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال
رجل: ما هكذا أنزلت فقال عبد اللّه: والله
لقرأتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال: أحسنت فبينما هو يكلمه إذ وجد
منه ريح الخمر فقال: أتشرب الخمر وتكذب
بالكتاب فضربه الحد". متفق عليه.
حديث ابن عباس أخرجه
أيضًا النسائي وقوى الحافظ إسناده.
قوله: "لم يقت" من
التوقيت أي لم يقدره بقدر ولا حده بحد وقد
استدل بهذا الحديث من قال إن حد السكر غير
واجب وأنه غير مقدر وإنما هو تعزير فقط كما
تقدم وأجيب عن هذا بأنه قد وقع الإجماع من
الصحابة على وجوبه. وحديث ابن عباس المذكور
قد قيل إنه كان قبل أن يشرع الجلد ثم شرع
الجلد والأولى أن يقال إن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم إنما لم يقم على ذلك الرجل
الحد لكونه لم يقر لديه ولا قامت عليه بذلك
الشهادة عنده وعلى هذا بوب المصنف فيكون في
ذلك دليل على أنه لا يجب على الإمام أن يقيم
الحد على شخص بمجرد إخبار الناس له أنه فعل ما
يوجبه ولا يلزمه البحث بعد ذلك لما قدمنا من
مشروعية الستر وأولوية ما يدرأ الحد على ما
يوجبه وأثر ابن مسعود المذكور فيه متمسك لمن
يجوز للإمام والحاكم ومن صلح أن يقيم الحدود
إذا علم بذلك وإن لم يقع من فاعل ما يوجبها
إقرار ولا قامت عليه البينة به وقد خالف في
أصل حكم الحاكم بما علم مطلقًا شريح والشعبي
وابن أبي ليلى والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق
والشافعي في قول له فقالوا لا يجوز له أن يقضي
بما علم مطلقًا.
وقال الناصر والمؤيد
باللّه في قول له والشافعي في قول له أيضًا
أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في كل شيء من
غير فرق بين الحد وغيره وذهبت العترة إلى أنه
يحكم بعلمه في الأموال دون الحدود إلا في حد
القذف فإنه يحكم فيه بعلمه ويدل على ذلك ما
أخرجه البخاري تعليقًا أن عمر قال لعبد الرحمن
لو رأيت رجلًا على حد فقال أرى شهادتك شهادة
رجل من المسلمين قال أصبت وصله البيهقي ويؤيده
حديث: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها"
في قصة الملاعنة وقد تقدم فإن ذلك يدل على أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد علم
زناها.
باب ما جاء في
قدر التعزير والحبس في التهم
1 - عن أبي بردة بن نيار: "أنه سمع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود
اللّه تعالى". رواه الجماعة إلا النسائي.
ج / 7 ص -150-
2 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه". رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
حديث أبي بردة مع كونه
متفقًا عليه قد تكلم في إسناده ابن المنذر
والأصيلي من جهة الاختلاف فيه وقال البيهقي:
قد أقام عمرو بن الحارث إسناده فلا يضره تقصير
من قصر فيه وقال الغزالي: صححه بعض الأئمة
وتعقبه الرافعي في التذنيب فقال: أراد بقوله
بعض الأئمة صاحب التقريب ولكن الحديث أظهر من
أن تضاف صحته إلى فرد من الأئمة فقد صححه
البخاري ومسلم.
وحديث بهز بن حكيم حسنه
الترمذي وقال الحاكم صحيح الإسناد ثم أخرج له
شاهدًا من حديث أبي هريرة وفيه أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم حبس في تهمة يومًا وليلة
وقد تقدم الاختلاف في حديث بهز بن حكيم عن
أبيه عن جده.
قوله: "لا يجلد"
روي بفتح الياء في أوله وكسر اللام وروي
أيضًابضم الياء وفتح اللام وروي بصيغة النهي
مجزومًا وبصيغة النفي مرفوعًا.
قوله: "فوق عشرة
أسواط" في رواية فوق عشرة ضربات.
قوله: "إلا في حد"
المراد به ما ورد عن الشارع مقدرًا بعدد مخصوص
كحد الزنا والقذف ونحوهما وقيل المراد بالحد
هنا عقوبة المعصية مطلقًا لا الأشياء
المخصوصة. فإن ذلك التخصيص إنما هو من
اصطلاح الفقهاء وعرف الشرع إطلاق الحد على كل
عقوبة لمعصية من المعاصي كبيرة أو صغيرة ونسب
ابن دقيق العيد هذه المقالة إلى بعض المعاصرين
له وإليها ذهب ابن القيم وقال المراد بالنهي
المذكور في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه
الصغير واعترض على ذلك بأنه قد ظهر أن الشارع
يطلق الحدود على العقوبات المخصوصة ويؤيد ذلك
قول عبد الرحمن بن عوف أن أخف الحدود ثمانون
كما تقدم في كتاب حد شارب الخمر وقد ذهب إلى
العمل بحديث الباب جماعة من أهل العلم منهم
الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض
الشافعية وذهب أبو حنيفة والشافعي وزيد بن علي
والمؤيد باللّه والإمام يحيى إلى جواز الزيادة
على عشرة أسواط ولكن لا يبلغ إلى أدنى
الحدود. وذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو
طالب إلى أنه يكون في كل موجب للتعزير دون حد
جنسه وإلى مثل ذلك ذهب الأوزاعي وهو مروي عن
محمد بن الحسن الشيباني وقال أبو يوسف إنه ما
يراه الحاكم بالغًا ما بلغ وقال مالك وابن أبي
ليلى أكثره خمسة وسبعون هكذا حكى صاحب البحر
والذي حكاه النووي عن مالك وأصحابه وأبي ثور
وأبي يوسف ومحمد إنه إلى رأي الإمام بالغًا ما
بلغ.
وقال الرافعي: الأظهر
أنها تجوز الزيادة على العشرة وإنما المراعى
النقصان عن الحد قال وأما الحديث المذكور
فمنسوخ على ما ذكره بعضهم واحتج بعمل الصحابة
بخلافه من غير إنكار انتهى.
وقال البيهقي: عن
الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير وأحسن
ما يصار إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ثم ذكر حديث أبي بردة
المذكور في الباب.
قال الحافظ: فتبين بما
نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل
في ذلك فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى
ما يخالفه من غير برهان وسبق إلى دعوى عمل
الصحابة بخلافه الأصيلي وجماعة وعمدتهم كون
عمر جلد في الخمر ثمانين
ج / 7 ص -151-
وأن الحد الأصلي أربعون والباقية ضربها
تعزيرًا لكن حديث علي السابق يدل على أن عمر
إنما ضرب ثمانين معتقدًا أنه الحد وأما النسخ
فلا يثبت إلا بدليل وذكر بعض المتأخرين أن
الحديث محمول على التأديب الصادر من غير
الولاة كالسيد يضرب عبده والزوج يضرب زوجته
والأب ولده والحق العمل بما دل عليه الحديث
الصحيح المذكور في الباب وليس لمن خالفه متمسك
يصلح المعارضة وقد نقل القرطبي عن الجمهور
أنهم قالوا بما دل عليه وخالفه النووي فنقل عن
الجمهور عدم القول به ولكن إذا جاء نهر اللّه
بطل نهر معقل فلا ينبغي لمنصف التعويل على قول
أحد عند قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم.
دعوا كل قول عند قول
محمد * فما آمن في دينه كمخاطر
قوله: "في تهمة"
بضم التاء وسكون الهاء وقد تفتح في لغة وهي
فعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته
إذا ظننت فيه ما نسب إليه وفيه دليل على أن
الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار في
غير حق بل لينكشف به بعض ما وراءه وقد بوب أبو
داود على هذا الحديث فقال باب في الحبس في
الدين وغيره وذكر معه حديث عمرو بن الشريد:
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" وقد تقدم وذكر أيضًاحديث الهرماس ابن حبيب عن أبيه عن جده قال:
"أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بغريم
لي فقال لي
الزمه
ثم قال يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك" وأخرجه أيضًاابن ماجه قال في البحر: مسألة وندب اتخاذ سجن
للتأديب واستيفاء الحقوق لفعل أمير المؤمنين
علي رضي اللّه عنه وعمر وعثمان ولم ينكر وكذلك
الدرة والسوط لفعل عمر وعثمان.
فرع ويجب حبس من عليه
الحق للإيفاء إجماعًا أن طلب لحبسه صلى اللّه
عليه وآله وسلم من أعتق شقصًا في عبد حتى غرم
لشريك قيمته وكذلك التقييد انتهى. والحديث
الذي ذكره أخرجه البيهقي وهو منقطع.
باب المحاربين
وقطاع الطريق
1 - عن قتادة عن أنس:
"أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا على النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وتكلموا بالإسلام
فاستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا
فليشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا حتى
إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم
وقتلوا راعي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
واستاقوا الذود فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم
فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية
الحرة حتى ماتوا على حالهم". رواه
الجماعة. وزاد البخاري قال قتادة:
"بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهي عن
المثلة" وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود
قال قتادة فحدثني ابن سيرين: "أن
ج / 7 ص -152-
ذلك كان قبل أن تنزل الحدود" وللبخاري
وأبو داود في هذا الحديث:
"فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم
وأرجلهم وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون
فما سقوا حتى ماتوا"
وفي رواية النسائي
"فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم".
2 - وعن سليمان التيمي عن أنس قال: "إنما سمل النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا
أعين الرعاة". رواه مسلم والنسائي
والترمذي.
3 - وعن أبي الزناد:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار
عاتبه اللّه في ذلك فأنزل
{إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا}
الآية". رواه أبو داود والنسائي.
4 - وعن ابن عباس في
قطاع الطريق: "إذا قتلوا وأخذوا المال
قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال
قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا
قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا
السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض".
رواه الشافعي في مسنده.
حديث أبي الزناد مرسل
وقد سكت عنه أبو داود ولم يذكر المنذري له علة
غير إرساله ورجال هذا المرسل رجال الصحيح وقد
وصله أبو الزناد من طريق عبد اللّه بن عبيد
اللّه بن عمر عن عمر كما في سنن أبي داود في
الحدود ويؤيده ما أخرجه أبو داود والنسائي من
حديث ابن عباس: "إن ناسًا أغاروا على إبل
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وارتدوا
عن الإسلام وقتلوا راعي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم مؤمنًا فبعث في آثارهم فأخذوا
فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم قال فنزلت
فيهم آية المحاربة" وعند البخاري وأبي داود
عن أبي قلابة أنه قال في العرنيين فهؤلاء قوم
سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا
اللّه ورسوله وهو يشير إلى أنهم سبب الآية.
وأخرج أبو داود والنسائي
عن ابن عمر أن الآية نزلت في العرنيين وأثر
ابن عباس في إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي
يحيى وهو ضعيف عن صالح مولى التوأمة عن ابن
عباس وأخرجه البيهقي من طريق محمد بن سعيد
العوفي عن آبائه إلى ابن عباس في قوله إنما
جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله قال إذا حارب
فقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته فإذا
حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب وإن لم يقتل
فعليه قطع اليد والرجل من خلاف وإذا حارب
وأخاف السبيل
ج / 7 ص -153-
فإنما فعليه النفي ورواه أحمد بن حنبل في
تفسيره عن أبي معاوية عن عطية به نحوه.
وأخرج أبو داود والنسائي
بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}
إلى
{غَفُورٌ رَحِيمٌ}
نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل
أن يقدروا عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد
الذي أصابه وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد
وفيه مقال.
قوله: "من عكل
وعرينة" في رواية للبخاري من عكل أو عرينة
بالشك ورواية الكتاب هي الصواب كما قال الحافظ
ويؤيدها ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق
سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: "كانوا
أربعة من عرينة وثلاثة من عكل" وزعم الداودي
وابن التين أن عرين هم عكل وهو غلط بل هما
قبيلتان متغايرتان فعكل من عدنان وعرينة من
قحطان. وعكل بضم العين المهملة وإسكان الكاف
قبيلة من تيم الرباب وعرينة بالعين والراء
المهملتين والنون مصغرًا حي من قضاعة وحي من
بجيلة والمراد هنا الثاني كذا ذكره موسى بن
عقبة في المغازي وكذا رواه الطبري من وجه آخر
عن أنس ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة
بإسناد ساقط أنهم من بني فزارة وهو غلط لأن
بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع
عرينة أصلا وذكر ابن إسحاق في المغازي أن
قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد وكانت في جمادى
الآخرة سنة ست وذكر الواقدي أنها كانت في شوال
منها وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما.
قوله: "فاستوخموا
المدينة" في رواية: "اجتووا المدينة"
قال ابن فارس: اجتويت المدينة إذا كرهت
المقام فيها وإن كنت في نعمة وقيده الخطابي
بما إذا تضرر بالإقامة وهو المناسب لهذه
القصة. وقال القزاز: اجتووا أي لم يوافقهم
طعامها.
وقال ابن العربي:
الجوى داء يأخذ من الوباء ورواية استوخموا
بمعنى هذه الرواية. وللبخاري في الطب من
رواية ثابت عن أنس: "أن ناسًا كان بهم سقم
قالوا يا رسول اللّه آونا وأطعمنا فلما صحوا
قالوا إن المدينة وخمة" والظاهر أنهم قدموا
سقامًا فلما صحوا من السقم كرهوا الإقامة
بالمدينة لوخمها فأما السقم الذي كان بهم فهو
الهزال الشديد والجهد من الجوع كما رواه أبو
عوانة عن أنس أنه كان بهم هزال شديد وعنده من
رواية أبي سعيد مصفرة ألوانهم وأما الوخم الذي
شكوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حمى
المدينة كما رواه أحمد عن أنس وذكر البخاري في
الطب عن عائشة: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم دعا اللّه أن ينقلها إلى
الجحفة".
قوله: "فأمر لهم
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بذود وراع"
قد تقدم تفسير الذود في الزكاة. وفي رواية
للبخاري وغيره فأمرهم بلقاح أي أمرهم أن
يلحقوا بها وفي أخرى له فأمر لهم بلقاح
واللقاح بكسر اللام وبعدها قاف وآخره مهملة
النوق ذوات الألبان واحدتها لقحة بكسر اللام
وإسكان القاف.
قوله: "فليشربوا من
أبوالها" استدل به من قال بطهارة أبوال
الإبل وقاس سائر المأكولات عليها وقد تقدم
الكلام على ذلك في أوائل الكتاب.
قوله: "بناحية
الحرة" هي أرض ذات حجارة سود معروفة
بالمدينة.
قوله: "وقتلوا راعي
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم" اسمه يسار
بياء تحتانية ثم مهملة خفيفة كما ذكره
ج / 7 ص -154-
الطبراني وابن إسحاق في السيرة.
وفي لفظ لمسلم أنهم
قتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد جزع فقال قد
قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. قال الحافظ:
ولم أقف على اسم الراعي الآتي بالخبر والظاهر
أنه راعي إبل الصدقة ولم تختلف روايات البخاري
في أن المقتول راعي النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فبعث الطلب في آثارهم ذكر ابن إسحاق عن
سلمة بن الأكوع أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم بعث خيلا من المسلمين أميرهم كرز بن جابر
الفهري وكرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي
وفي رواية للنسائي: "فبعث في طلبهم
قافة" أي جمع قايف ولمسلم أنهم شباب من
الأنصار قريب من عشرين رجلا وبعث معهم قائفًا
يقتص آثارهم.
وفي مغازي موسى بن عقبة
أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد وذكر غيره أنه
سعد بن زيد الأشهلي والأول أنصاري ويمكن الجمع
بأن كل واحد منهما أمير قومه وكرز أمير
الجميع.
وفي رواية للطبراني
وغيره من حديث جرير بن عبد اللّه البجلي أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعثه في
آثارهم وإسناده ضعيف والمعروف أن جريرًا تأخر
إسلامه عن هذا الوقت بمدة.
قوله: "فأمر بهم"
فيه حذف تقديره فأدركوا فأخذوا فجيء بهم فأمر
بهم. وفي رواية للبخاري فلما ارتفع النهار
جيء بهم.
قوله: "فسمروا
أعينهم" بالسين المهملة وتشديد الميم. وفي
رواية للبخاري وسمرت أعينهم. وفي رواية
لمسلم وسمل أعينهم بتخفيف الميم واللام قال
الخطابي: السمر لغة في السمل ومخرجهما
متقارب قال: وقد يكون من المسمار يريد أنهم
كحلوا بأميال قد أحميت قال والسمل فقء العين
بأي شيء كان قال أبو ذؤيب الهذلي:
والعين بعدهم كأن حداقها
* سملت بشوك فهي عورا تدمع
وقد وقع التصريح بمعنى
السمر في الرواية المذكورة في الباب بلفظ فأمر
بمسامير الخ.
قوله: "وما حسمهم"
أي لم يكوي ما قطع منهم بالنار لينقطع الدم بل
تركه ينزف.
قوله: "يستسقون فما
سقوا" في رواية للبخاري: "ثم نبذهم في
الشمس حتى ماتوا" وفي أخرى له: "يعضون
الحجارة" وفي أخرى له في الطب قال أنس فرأيت
الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت. وفي
رواية لأبي عوانة من هذا الوجه يعض الأرض ليجد
بردها مما يجد من الحر والشدة.
قوله: "وصلبهم"
حكى في الفتح عن الواقدي أنهم صلبوا قال:
والروايات الصحيحة ترده لكن عند أبي عوانة عن
أنس فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين وهذا
يدل على أنهم ستة فقط وقد تقدم ما يدل على
أنهم سبعة وفي البخاري في الجهاد عن أنس:
"أن رهطًا من عكل ثمانية".
قوله: "لأنهم سملوا
أعين الرعاة" فيه دليل على أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك بهم
اقتصاصًا لما فعلوه بالرعاة وإلى ذلك مال
جماعة منهم ابن الجوزي وتعقبه ابن دقيق العيد
بأن المثلة وقعت في حقهم من جهات وليس في
الحديث إلا السمل فيحتاج إلى ثبوت البقية وقد
نقل أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي وذهب
آخرون إلى أن ذلك منسوخ.
قال ابن شاهين عقب حديث
عمران بن حصين في النهي عن المثلة هذا الحديث
ينسخ كل مثلة وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء
النسخ يحتاج إلى تاريخ ويجاب عن هذا التعقب
بحديث أبي الزناد المذكور فإن معاتبة اللّه
لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم تدل على أن
ذلك الفعل
ج / 7 ص -155-
غير جائز ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد
في حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار
بعد الإذن فيه. وقصة العرنيين قبل إسلام أبي
هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي عنه ويؤيده
أيضًاما في الباب عن ابن سيرين أن قصتهم كانت
قبل أن تنزل الحدود وأصرح من الجميع ما في
الباب عن قتادة أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم بعد ذلك نهى عن المثلة وإلى هذا مال
البخاري وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن
الشافعي واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء
للإجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا
يمنع وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ولا وقع منه نهي عن
سقيهم انتهى. وتعقب بأن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وسكت والسكوت كاف
في ثبوت الحكم وأجاب النووي بأن المحارب
المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره وبدل
عليه أن من معه ماء لطهارته فقط لا يسقي
المرتد ويتيمم بل يستعمله ولو مات المرتد
عطشًا.
وقال الخطابي: إنما
فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بهم ذلك
لأنه أراد بهم الموت بذلك وقيل إن الحكمة في
تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل
التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم.
قوله: "وعن ابن عباس
في قطاع الطريق" أي الحكم فيهم هو المذكور
وقد حكى في البحر عن ابن عباس والمؤيد باللّه
وأبي طالب والحنفية والشافعية أن الآية أعني
قوله تعالى
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نزلت في قطاع الطريق المحاربين وعن ابن عمر والهادي أنها نزلت في
العرنيين ويدل على ذلك حديث أبي الزناد
المذكور في الباب وحكى المؤيد باللّه وأبو
طالب عن قوم إنها نزلت في المشركين ورد ذلك
بالإجماع على أنه لا يفعل بالمشركين كذلك
ويدفع هذا الرد بما أخرجه أبو داود والنسائي
عن ابن عباس إنها نزلت في المشركين وقد دعا له
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعلم
التأويل.
وقد ذهب أكثر العترة
والفقهاء إلى أن المحارب هو من أخاف السبيل في
غير المصر لأخذ المال وسواء أخاف المسلمين أو
الذميين قال الهادي وأبو حنيفة إن قاطع الطريق
في المصر أو القرية ليس محاربًا للحوق الغوث
بل مختلسًا أو منتهبًا وفي رواية عن مالك إذا
كانوا على ثلاثة أميال من المصر أو القرية
فمحاربون لا دون ذلك إذ يلحقه الغوث وفي رواية
أخرى عن مالك لا فرق بين المصر وغيره لأن
الآية لم تفصل وبه قال الأوزاعي وأبو ثور وأبو
يوسف ومحمد والشافعي والناصر والإمام يحيى
وإذا لم يكن قد أحدث المحارب غير الإخافة عزره
الإمام فقط قال أبو طالب وأصحاب الشافعي ولا
نفي مع التعزير وأثبته المؤيد باللّه فإن وقع
منه القتل فقط فذهبت العترة والشافعي إلى أنه
يقتل فقط. وعن أبي حنيفة ليس بمحارب إن قتل
بمثقل فإن قتل وأخذ المال فذهب الشافعي وأبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد والهادي والمؤيد باللّه
وأبو طالب إلى أنه يقتل ويصلب ولا قطع لدخوله
في القتل وقال الناصر وأبو العباس بل يخير
الإمام بين أن يصلب ويقتل أو يقتل ثم يصلب أو
يقطع ثم يقتل أو يقطع ويقتل ويصلب لأن أو
للتخيير وقال مالك إذا شهروا السلاح وأخافوا
لزمهم ما في الآية.
وقال الحسن البصري وابن
المسيب ومجاهد إذا أخافوا خير الإمام بين أن
يقتل فقط أو يقتل ويصلب أو يقطع الرجل واليد
فقط أو يحبس فقط لأجل التخيير.
وقال أبو الطيب بن سلمة
ج / 7 ص -156-
من الشافعية وحصله صاحب الوافي للهادي أنهم
إذا أخذوا المال وقتلوا قطعوا للمال ثم قتلوا
للقتل ثم صلبوا للجمع بين الأخذ والقتل قال
أبو حنيفة والهادوية فإن قتل وجرح قتل فقط
لدخول الجرح في القتل وقال الشافعي بل يجرح ثم
يقتل إذ هما جنايتان والنفي المذكور في الآية
هو طرد سنة عند الهادي والشافعي وأحمد والمؤيد
باللّه وأبي طالب وقال الناصر وأبو حنيفة
وأصحابه بل الحبس فقط إذ القصد دفع أذاه وإذا
كان المحاربون جماعة واختلفت جناياتهم فذهبت
العترة والشافعي إلى أنه يحد كل واحد منهم
بقدر جنايته.
وقال أبو حنيفة بل
يستوون إذ المعين كالقاتل واختلفوا هل يقدم
الصلب على القتل أو العكس فذهب الشافعي
والناصر والإمام يحيى إلى أنه يقدم الصلب على
القتل إذ المعنى يقتلون بالسيف أو بالصلب.
وقال الهادي وأبو حنيفة
وهو مروي عن الشافعي رحمه اللّه أنه لا صلب
قبل القتل لأنه مثلة وجعل الهادي أو بمعنى
الواو ولذلك قال بتقدم القتل على الصلب وقال
بعض أصحاب الشافعي يصلب قبل القتل ثلاثًا ثم
ينزل فيقتل.
وقال بعض أصحاب الشافعي
أيضًايصلب حتى يموت جوعًا وعطشًا وقال أبو
يوسف والكرخي يصلب قبل القتل ويطعن في لبته
وتحت ثديه الأيسر ويخضخض حتى يموت وروى الرازي
عن أبي بكر الكرخي أنه لا معنى للصلب بعد
القتل واختلفوا في مقدار الصلب فقال الهادي
حتى تنتثر عظامه وقال ابن أبي هريرة حتى يسيل
صديده. وقال بعض أصحاب الشافعي ثلاثًا في
البلاد الباردة وفي الحارة ينزل قبل الثلاث
وقال الناصر والشافعي ينزل بعد الثلاث ثم يقتل
إن لم يمت ويغسل ويصلى عليه إن تاب وقد رجح
صاحب البحر أن الآية للتخيير وتكون العقوبة
بحسب الجنايات وأن التقدير أن يقتلوا إذا
قتلوا ويصلبوا بعد القتل إذا قتلوا وأخذوا
المال وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا
فقط أو ينفوا من الأرض إذا أخافوا فقط إذ
محاربة اللّه ورسوله بالفساد في الأرض متنوعة
كذلك وهو مثل تفسير ابن عباس المذكور في
الباب. وقال صاحب المنار إن الآية تحتمل
التخيير احتمالًا مرجوحًا قال: والظاهر أن
المراد حصر أنواع عقوبة المحاربة مثل:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}
الآية. قال: وهو مثل ما قاله صاحب البحر
يعني في كلامه الذي ذكرناه قبل هذا ورجح صاحب
ضوء النهار اختصاص أحكام المحارب بالكافر لتتم
فوائد وتندفع مفاسد ثم ذكر ذلك وهو كلام رصين
لولا أنه قصر للعام على السبب المختلف في كونه
هو السبب وللعلماء في تفصيل أحكام المحاربين
أقوال منتشرة مبسوطة في كتب الخلاف وقد أوردنا
منها في هذا الشرح طرفًا مفيدًا.
باب قتال الخوارج وأهل البغي
1 - "عن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول:
"سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول
خير البرية لا يجاوز
ج / 7 ص -157-
إيمانهم
حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم
من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في
قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة".
متفق عليه.
2 - "وعن زيد بن وهب رضي الله
عنه: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع أمير
المؤمنين علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال
علي: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
"يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم
إلى قراءتهم ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا
صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون
أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم
يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على
لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن
العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له
ذراع على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات
بيض". قال: فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في
ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكونوا
هم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس
فسيروا على اسم الله. قال سلمة بن كهيل:
فنزلني زيد بن وهب منزلا منزلا حتى قال:
مررنا على قنطرة فلما التقينا وعلى الخوارج
يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم:
ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها فإني
أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء
فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وشجرهم
الناس برماحهم قال: وقتل بعضهم على بعض وما
أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم
المخدج فالتمسوه فلم يجدوه فقام علي رضي الله
عنه بنفسه حتى أتى ناسًا قد قتل بعضهم على بعض
قال: أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم
قال: صدق الله وبلغ رسوله قال: فقام
إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير
المؤمنين آلله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا
الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: إي والله الذي لا إله إلا هو حتى
استحلفه ثلاثًا وهو يحلف له" رواه أحمد
ومسلم.
ج / 7 ص -158-
قوله: "باب قتال الخوارج" هم جمع
خارجة: أي طائفة سموا بذلك لخروجهم عن
الدين وابتداعهم أو خروجهم عن خيار
المسلمين. وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في
الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه
حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم
ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته كذا قال
وهو خلاف ما قاله أهل الأخبار فإنه لا نزاع
عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل
كانوا ينكرون عليه شيئًا ويتبرءون منه وأصل
ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب
عثمان فطعنوا على عثمان بذلك وكان يقال لهم
القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة إلا
أنهم يتأولون القرآن على غير المراد منه
ويستبدون بآرائهم ويبالغون في الزهد والخشوع
فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر
عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من
قاتله الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير
فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليًافلقيا
عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب
قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى
ذلك فبلغ عليًافخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة
الجمل المشهورة وانتصر على وقتل طلحة في
المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من
الوقعة.
فهذه الطائفة هي التي
كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق ثم قام معاوية
بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك.
وكان علي أرسل إليه أن يبايع له أهل الشام
فاعتل بأن عثمان قتل مظلومًا وأنها تجب
المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى
الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه
منهم ثم يبايع له بعد ذلك وعلي يقول: ادخل
فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم
بالحق.
فلما طال الأمر خرج علي
في أهل العراق طالبًا قتال أهل الشام فخرج
معاوية في أهل الشام قاصدًا لقتاله فالتقيا
بصفين فدامت الحرب بينهم أشهرًا وكاد معاوية
وأهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على
الرماح ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى
وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية
فترك القتال جمع كثير ممن كان مع علي خصوصًا
القراء بسبب ذلك تدينًا. واحتجوا بقوله
تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ} الآية فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا: ابعثوا حكمًا منكم
وحكمًا منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال
فمن رأوا الحق معه أطاعوه فأجاب علي ومن معه
إلى ذلك وأنكرت ذلك الطائفة التي صارت خوارج
وفارقوا عليًاوهم ثمانية آلاف.
وقيل: كانوا أكثر من
عشرة آلاف وقيل ستة آلاف ونزلوا مكانًا يقال
له حروراء بفتح الحاء المهملة وراءين مهملتين
الأولى مضمومة ومن ثم قيل لهم: الحرورية
وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء بفتح الكاف
وتشديد الواو مع المد اليشكري وشبث بفتح الشين
المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل
إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم
معه ثم خرج إليهم علي فأطاعوه ودخلوا معه
الكوفة ومعهم رئيساهم المذكوران ثم أشاعوا أن
عليًاتاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه فبلغ ذلك
عليًافخطب وأنكر ذلك فتنادوا من جانب
المسجد: لا حكم إلا لله فقال: كلمة حق
يراد بها باطل فقال لهم: لكم
ج / 7 ص -159-
علينا ثلاث أن نمنعكم من المساجد ومن رزقكم
من الفيء ولا نبدأكم بقتال ما لم تحدثوا
فسادًا وخرجوا شيئًا بعد شيء إلى أن اجتمعوا
بالمدائن فراسلهم علي في الرجوع فأصروا على
الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه
بالتحكيم ويتوب ثم راسلهم أيضًافأرادوا قتل
رسوله ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم
يكفر ويباح دمه وماله وأهله واستعرضوا الناس
فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين ومر بهم عبد
الله بن خباب بن الأرت واليًا لعلي على بعض
تلك البلاد ومعه سريته وهي حامل فقتلوه وبقروا
بطن سريته عن ولد فبلغ عليًا فخرج إليهم في
الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام فأوقع
بهم في النهروان ولم ينجُ منه إلا دون العشرة
ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة فهذا ملخص أول
أمرهم ثم انضم إلى من بقي منهم ممن مال إلى
رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان
منهم ابن ملجم لعنه الله الذي قتل عليًا رضي
الله عنه بعد أن دخل في صلاة الصبح.
ثم لما وقع صلح الحسن
ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام
بمكان يقال له النخيلة وكانوا منقمعين في
إمارة زياد وابنه طول مدة ولاية معاوية وابنه
يزيد لعنهم الله وظفر زياد وابنه بجماعة منهم
فأبادهم بين قتل وحبس طويل فلما مات يزيد ووقع
الافتراق وولي الخلافة عبد الله بن الزبير
وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام وثار
مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام ثم
مصر فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن
الأزرق باليمامة ومع نجدة بن عامر وزاد نجدة
على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب
المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم وعظم
البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا
رجم المحصن وقطعوا السارق من الإبط وأوجبوا
الصلاة على الحائض في حيضها وكفروا من ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان
قادرًا وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة
وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر وكفوا عن
أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقًا وفتكوا
في المنتسبين إلى الإسلام بالقتل والسبي
والنهب فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة
ومنهم من يدعو أولاً ثم يفتك ولم يزل البلاء
بهم إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم
فطاولهم حتى ظفر بهم وتفلل جمعهم ثم لم يزل
منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة
العباسية ودخلت طائفة منهم المغرب.
وقد صنف في أخبارهم أبو
مخنف بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون
بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى كتابًا لخصه
الطبري في تاريخه. وصنف في أخبارهم
أيضًاالهيثم بن عدي كتابًا ومحمد بن قدامة
الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح كتابًا
كبيرًاوجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في
كتابه الكامل لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين
من قبله هذا خلاصة معتقد الخوارج والسبب الذي
لأجله خرجوا وهو مجمع عليه عند علماء الأخبار
وبه يتبين بطلان ما حكاه الرافعي في كلامه
السالف. وقد وردت بما ذكرنا من أصل حال
الخوارج أخبار جياد: منها ما أخرجه عبد
الرزاق عن معمر عن الزهري. وأخرج نحوه
الطبري عن يونس عن الزهري. وأخرج
ج / 7 ص -160-
نحو ذلك ابن أبي شيبة عن أبي رزين.
قال القاضي أبو بكر بن العربي:
الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان
وعليًا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي
بالتحكيم كفار.
والآخر يزعم أن كل من
أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدًا.
وقال غيره: بل الصنف الأول متفرع عن الصنف
الثاني لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما
فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نجدة بن
عامر الحروري من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة
عذب بغير النار ومن أدمن على صغيرة فهو كمن
ارتكب الكبيرة في التخليد في النار.
وذكر أن منهم من غلا في
معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس.
وقال: الواجب صلاة
بالغداة وصلاة بالعشي ومنهم من جوز نكاح بنت
الابن وبنت الأخ والأخت ومنهم من أنكر أن تكون
سورة يوسف من القرآن وأن من قال لا إله إلا
الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر
بقلبه. وقال أبو منصور البغدادي في
المقالات: عدة فرق والخوارج عشرون فرقة.
وقال ابن حزم: أسوءهم حالا الغلاة
المذكورون وأقربهم إلى قول الحق الإباضية وقد
بقيت منهم بقية بالمغرب. قال الغزالي في
الوسيط تبعًا لغيره: في حكم الخوارج
وجهان: أحدهما: أن حكمهم حكم أهل الردة
والثاني أنه كحكم أهل البغي ورجح الرافعي
الأول. قال في الفتح: وليس الذي قاله
مطردا في كل خارجي فإنهم على قسمين:
أحدهما: من تقدم ذكره والثاني: من خرج
في طلب الملك لا للادعاء إلى معتقده وهم على
قسمين أيضا: قسم خرجوا غضب للدين من أجل
جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية
فهؤلاء أهل حق ومنهم: الحسين بن علي رضي
الله عنه وأهل المدينة في وقعة الحرة والقراء
الذين خرجوا على الحجاج. وقسم خرجوا لطلب
الملك فقط سواء كانت لهم فيه شبهة أو لا وهم
البغاة وسيأتي بيان حكمهم قوله: "في
آخر الزمان" ظاهر هذا يخالف ما بعده من
أحاديث الباب من خروجهم في خلافة علي. وأجاب
ابن التين بأن المراد زمان الصحابة قال
الحافظ: وفيه نظر لأن آخر زمان الصحابة كان
على رأس المائة وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من
ستين سنة. ويمكن الجمع بأن المراد بآخر
الزمان زمان خلافة النبوة لما في حديث سفينة
عند أهل السنن وابن حبان في صحيحه مرفوعا:
"الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا"
وكانت قصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في آخر
خلافة علي سنة ثماني وثلاثين من الهجرة وبعد
موت النبي صلى الله عليه وسلم بدون ثلاثين
سنة.
قوله: "حداث
الأسنان" بحاء مهملة ثم دال مهملة أيضًاثم
بعد الألف مثلثة جمع حدث بفتحتين والحدث:
هو الصغير السن هكذا في أكثر الروايات وفي
رواية السرخسي حداث بضم أوله وتشديد الدال قال
في المطالع معناه شباب وقال ابن التين:حداث
جمع حديث مثل كرام جمع كريم وكبار جمع كبير
والحديث: الجديد من كل شيء ويطلق على
الصغير بهذا الاعتبار.
قوله: "سفهاء
الأحلام" جمع حلم بكسر أوله والمراد به
العقل والمعنى أن عقولهم رديئة.
قال النووي: يستفاد
منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال
السن وكثرة التجارب وقوة العقل.
قوله: "يقولون من
قول خير البرية" قيل: هو القرآن ويحتمل
أن يكون على ظاهره: أي القول
ج / 7 ص -161-
الحسن في الظاهر والباطن على خلافه كقولهم
.
قوله: "لا يجاوز
إيمانهم حناجرهم" الحناجر بالحاء المهملة
والنون ثم الجيم جمع حنجرة بوزن قسورة وهي
الحلقوم والبلعوم وكله يطلق على مجرى النفس
وهو طرف المريء مما يلي الفم والمراد أنهم
يؤمنون بالنطق لا بالقلب.
وفي حديث زيد بن وهب
المذكور
"لا تجاوز صلاتهم تراقيهم" فكأنه أطلق الإيمان على الصلاة.
وفي رواية أبي سعيد
الآتية يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم وفي
رواية مسلم :
"يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم
وأشار إلى حلقه".
قوله: "يمرقون من الدين" في رواية للنسائي
والطبري: "يمرقون
من الإسلام"
وكذا المذكور "يمرقون من الإسلام"
وفي رواية للنسائي "يمرقون من الحق" وفيها رد على من فسر الدين هنا بالطاعة.
قوله: "كما يمرق
السهم من الرمية" بفتح الراء وكسر الميم
وتشديد التحتانية: أي الشيء الذي يرمى
به. وقيل المراد بالرمية الغزالة المرمية.
قوله: "فأينما
لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن
قتلهم يوم القيامة" في مذكورة "لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم. . . إلخ".
قوله: "لنكلوا عن العمل" أي تركوا الطاعات واكتفوا
بثواب قتلهم.
قوله: "وآية
ذلك" أي علامته كما وقع في رواية الطبري.
قوله: "على
عضده" في حديث أبي سعيد الآتي "آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة"
وسيأتي تفسير ذلك.
والشعيرات بالتصغير جمع
شعرة. واسم ذي الثدية هذا نافع كما أخرجه
أبو داود من طريق أبي مريم. قال: إن كان
ذلك المخدج لمعنا في المسجد كان فقيرًا وقد
كسوته برنسًا ورأيته شهد طعام علي كان يسمى
نافعًا ذا الثدية وكان يده مثل ثدي المرأة على
رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعيرات مثل
سبال السنور.
وفي رواية لأبي الوضيء
بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة عند أبي داود
"إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة عليه شعيرات مثل
شعيرات تكون على ذنب اليربوع" وسيأتي عن
بعضهم أن اسم المخدج حرقوص.
قوله: "في سرح
الناس" بفتح السين المهملة وسكون الراء
بعدها حاء مهملة: وهو المال السائم.
قوله: "فنزلني
زيد بن وهب منزلا منزلا" بفتح النون من
نزلني وتشديد الزاي: أي حكى لي سيرهم منزلا
منزلا.
قوله: "فوحشوا
برماحهم" بالحاء المهملة والشين
المعجمة: أي رموها بعيدًا قال في
القاموس: وحش بثوبه كوعد: رمى به مخافة
.
قوله: "وشجرهم
الناس" بفتح الشين المعجمة والجيم
والراء. قال في القاموس: اشتجروا تخالفوا
كتشاجروا ثم قال: وبالرمح طعنه ثم قال:
والشجر: الأمر المختلف. اهـ .
والرماح
الشواجر:المختلف بعضها في بعض والمراد هنا
أن الناس اختلفوا برماحهم وطعنوهم بها .
قوله: "وما أصيب
من الناس يومئذ إلا رجلان" هذا يخالف ما
قدمنا عن أهل التاريخ أنه قتل من أصحاب أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه نحو العشرة.
قوله:
"المخدج" بخاء معجمة وجيم وهو
الناقص.
قوله: "فقال يا
أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا
هو.إلخ". قال النووي: إنما استحلفه
ليؤكد الأمر عند السامعين وليظهر معجزة النبي
صلى الله عليه وسلم وأن
ج / 7 ص -162-
عليًا ومن معه على الحق. قال الحافظ:
وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار
إليه علي أن الحرب خدعة فخشي أن يكون لم يسمع
في ذلك شيئًا منصوصًا وإلى ذلك يشير قول عائشة
لعبد الله بن شداد لما سألته ما قال علي ؟
فقال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله
قالت: يرحم الله عليًا إنه كان لا يرى شيئا
يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله فيذهب أهل
العراق فيكذبون عليه ويزيدون فمن هذا أراد
عبيدة التثبت في هذه القصة بخصوصها.
3 - "وعن أبي
سعيد قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو
رجل من بني تميم قال: يا رسول الله اعدل
فقال:
ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم
أكن أعدل
فقال عمر يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب
عنقه ؟ فقال:
"دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم
يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله
فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد
فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه -
فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد
فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود
إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة
تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس"
قال أبوسعيد فأشهد أني سمعت هذا الحديث من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه فأمر
بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على
نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته
.
4 - "وعن أبي
سعيد قال: بعث علي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة: الأقرع بن
حابس الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن بدر
الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة
بن علاثة العامري ثم أحد والأنصار قالوا:
يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ؟ قال:
إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين مشرف
الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق
فقال: اتق الله يا محمد فقال:
من يطع الله إذا عصيت ؟ أيأمنني على أهل
الأرض فلا تأمنوني
ج / 7 ص -163-
فسأله رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد فمنعه
فلما ولى قال:
"إن من ضئضئ هذا - أو في عقب هذا -
قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون
من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل
الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن هم قتل عاد" . متفق عليهما , "وفيه دليل على أن من توجه عليه
تعزير لحق الله جاز للإمام تركه وأن قوما لو
أظهروا رأي الخوارج لم يحل قتلهم بذلك وإنما
يحل إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرض
5 - "وعن أبي
سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"تكون أمتي فرقتين فيخرج من بينهما مارقة
يلي قتلهم أولاهما بالحق
وفي لفظ:
"تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق".
رواهما أحمد ومسلم.
قوله: "بينا نحن
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقسم" بفتح الأول من يقسم ولم يذكر
المقسوم. وقد ذكره في الرواية الثانية من
طريق عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد أن
المقسوم ذهيبة بعثه علي بن أبي طالب رضي الله
عنه من اليمن فقسمه النبي بين الأربعة
المذكورين.
قوله: "ذو
الخويصرة" بضم الخاء المعجمة وفتح الواو
وسكون التحتية وكسر الصاد المهملة بعدها راء
واسمه حرقوص بن زهير التميمي. وقد ذكر
حرقوصا في الصحابة أبو جعفر الطبري وذكر أن له
في فتوح العراق أثر وأنه الذي افتتح سوق
الأهواز ثم كان مع علي في حروبه ثم صار مع
الخوارج فقتل معهم وزعم بعضهم أنه ذو الثدية
ووقع نحو ذلك في رواية للطبري عن أبي مريم قال
الحافظ: وليس بذلك.
قوله: "اعدل"
في الرواية الثانية المذكورة فقال: "اتق
الله يا محمد" وفي حديث ابن عمرو عند
البزار والحاكم فقال: "يا محمد والله لئن
كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل" وفي
لفظ آخر له "اعدل يا محمد".
وفي حديث أبي بكرة
"والله يا محمد ما تعدل"
وفي لفظ: " ما
أراك عدلت" ونحوه في حديث أبي برزة.
قوله: "ويلك"
في لفظ للبخاري :" ويحك" وهي رواية
الكشميهني والرواية الأولى رواية شعيب
والأوزاعي.
قوله: "فمن يعدل
إذا لم أعدل" في رواية للبخاري
"من يطع الله إذا عصيته" ولمسلم:
"أولست أحق أهل الأرض أن أطيع الله ؟"
وفي حديث ابن عمر:
"وممن يلتمس العدل بعدي ؟" وفي رواية له "العدل
إذا لم يكن عندي فعند من يكون ؟"
وفي حديث أبي بكرة "فغضب حتى احمرت
وجنتاه".
وفي حديث أبي برزة
"فغضب غضبًا شديدًا وقال: والله لا تجدون
بعدي رجلا هو أعدل عليكم مني"
. قوله:
"فقال عمر: أتأذن لي فيه فأضرب
عنقه" في حديث أبي سعيد الآخر المذكور
فسأله رجل " أحسبه خالد بن الوليد" وفي
ج / 7 ص -164-
رواية لمسلم "فقال خالد بن الوليد"
بالجزم ويجمع بينهما بأن كل واحد منهما سأله
ويؤيد ذلك ما وقع في مسلم بلفظ: "فقام
عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب
عنقه ؟ قال: لا".
قوله: "دعه"
في رواية للبخاري "لا" وفي أخرى "ما أنا
بالذي أقتل أصحابي".
قوله: "فإن له
أصحابا" ظاهر هذا أن ترك الأمر بقتله بسبب
أن له أصحابا على الصفة المذكورة وهذا لا
يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي
صلى الله عليه وسلم بما واجهه فيحتمل أن يكون
لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري فإنه بوب على
هذا الحديث: باب من ترك قتال الخوارج
للتأليف ولئلا ينفر الناس عنه لأنه وصفهم
بالمبالغة في العبادة من إظهار الإسلام فلو
أذن في قتلهم لكان في ذلك تنفير عن دخول غيرهم
في الإسلام.
قوله: "يحقر
أحدكم صلاته مع صلاتهم" في رواية بصيغة
الإفراد ويحقر بفتح أوله: أي يستقل.
قوله: "لا يجاوز
تراقيهم" بمثناة فوقية وقاف جمع ترقوة بفتح
أوله وسكون الراء وضم القاف وهي العظم الذي
بين ثغرة النحر والعاتق والمعنى أن قراءتهم لا
يرفعها الله ولا يقبلها. وقيل: لا يعملون
بالقرآن فلا يثابون على قراءتهم فلا يحصل لهم
إلا سرده. وقال النووي: المراد أنهم ليس
لهم فيه حظ إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى
حلوقهم فضلا عن قلوبهم لأن المطلوب تعقله
وتدبره بوقوعه في القلب.
قوله: "يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية تقدم
تفسيره في أول الباب.
قوله: "ينظر إلى
نصله" أي نصل السهم وهو الحديدة المركبة
فيه والمراد أنه ينظر إلى ذلك ليعرف هل أصاب
أم أخطأ فإنه إذا لم يره علق به شيء من الدم
ولا غيره ظن أنه لم يصبه والفرض أنه أصابه
وإلى ذلك أشار بقوله: قد سبق الفرث
والدم: أي جاوزهما ولم يتعلق به منهما شيء
بل خرجا بعده.
قوله: "ثم ينظر
إلى رصافه" الرصاف اسم للعقب الذي يلوى فوق
الرغظ من السهم يقال: رصف السهم شد على
رغظه عقبه كذا في القاموس.
قوله: "ثم ينظر
إلى نضيه" بفتح النون وكسر الضاد المعجمة
وتشديد الياء. قال في القاموس هو سهم فسد من
كثرة ما رمي به قال: والنضي كغني: السهم
بلا نصل ولا ريش.
قوله: "ثم ينظر
إلى قذذه" جمع قذة بضم القاف وتشديد الذال
المعجمة: وهي ريش السهم والمراد أن الرامي
إذا أراد أن يعرف هل أصاب أم لا ؟ نظر إلى
السهم والنصل هل بهما شيء من الدم فإن لم يجد
قال: إن كنت أصبت فإن بالنضي أو الريش شيئا
من الدم فإذا نظر فلم يجد شيئا عرف أنه لم يصب
وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم
للخوارج أبان به أنهم يخرجون من الإسلام لا
يعلق بهم منه شيء كما أنه لم يعلق بالسهم من
الدم والفرث شيء.
قوله: "أو مثل
البضعة" بفتح الموحدة وسكون المعجمة القطعة
من اللحم.
قوله: "تدردر"
بفتح أوله ودالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء
ساكنة وآخره راء وهو على حذف إحدى التاءين
وأصله تتدردر ومعناه تتحرك وتذهب وتجيء وأصله
حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع .
قوله: "يخرجون
على حين فرقة من الناس" في كثير من
الروايات " حين فرقة" بكسر الحاء المهملة
وآخره نون ويؤيد هذه الرواية الرواية المذكورة
في الباب عن أبي سعيد بلفظ: "عند فرقة من
الناس" و في رواية لأحمد وغيره "حين فترة
من الناس" بفتح الفاء وسكون المثناة
الفوقية ووقع للكشميهني " خير
ج / 7 ص -165-
فرقة" بفتح الخاء المعجمة وآخره راء
وفرقة بكسر الفاء والرواية الأولى هي
المعتمدة.
قوله: " فأشهد
أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه قاتلهم" في رواية للبخاري: "وأشهد
أن عليًا قتلهم" نسب القتل إلى علي لكونه
كان القائم في ذلك
. قوله :بذهيبة
بضم الذال المعجمة وفتح الهاء تصغير ذهبة .
قوله: "وعلقمة
بن علاثة العامري" بضم العين المهملة
وبالمثلثة.
قوله: "صناديد
أهل نجد" جمع صنديد: وهو الشجاع أو
الحليم أو الجواد أو الشريف على ما في
القاموس.
قوله: "غائر
العينين" بالغين المعجمة والمراد أن عينيه
منحدرتان عن الموضع المعتاد ووجنتيه
مشرفتان: أي مرتفعتان عن المكان المعتاد
وجبينه ناتئ أي بارز.
قوله: "محلوق"
أي رأسه جميعه محلوق. وقد ورد ما يدل على أن
حلق الرءوس من علامات الخوارج كما في حديث أبي
سعيد عند أبي داود والطبراني بلفظ: "
قيل: يا رسول الله ما سيماهم ؟ قال: التحليق".
وفي رواية أخرى من
حديثه بلفظ: " فقام رجل فقال: يا نبي
الله هل في هؤلاء القوم علامة ؟ قال:
يحلقون رؤوسهم".
قوله: "من ضئضئ" بضادين معجمتين مكسورتين بينهما
همزة ساكنة وآخره همزة قال في القاموس:
الضئضئ كجرجر وجرجير والضؤضؤ كهدهد وسرسور:
الأصل والمعدن أو كثرة النسل وبركته انتهى
.
قوله: "أولاهما
بالحق" فيه دليل على أن علي ومن معه هم
المحقون ومعاوية ومن معهم هم المبطلون وهذا
أمر لا يمتري فيه منصف ولا يأباه إلا مكابر
متعسف وكفى دليلا على ذلك الحديث. وحديث
"يقتل عمارًا الفئة الباغية" وهو في الصحيح.
وقد وردت في الخوارج
أحاديث. منها: ما أخرجه الطبري عن أبي
بكرة يرفعه:
"إن في أمتي أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز
تراقيهم فإذا لقيتموهم فأنيموهم" أي اقتلوهم.
وأخرج الطبري وأبو يعلى
أيضًامن رواية مسروق قال: "قالت لي
عائشة: من قتل المخدج ؟ قلت: علي
قالت: فأين ؟ قلت: على نهر يقال
لأسفله النهروان قالت: ائتني على هذا ببينة
فأتيتها بخمسين نفسا فشهدوا أن عليًا قتله
بالنهروان ".
وأخرج الطبراني في
الأوسط من طريق عامر بن سعيد قال عمار
لسعد: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول:
"يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم علي
بن أبي طالب ؟ قال: إي والله".
وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عمران بن حدير عن أبي مجلز
قال: "كان أهل النهروان أربعة آلاف
فقتلهم المسلمون ولم يقتل من المسلمين سوى
تسعة فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فسله فإنه
شهد ذلك". وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده
من طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا
وائل فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين
قتلهم علي فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم ؟
قال: لما كان بصفين استحر القتل في أهل
الشام فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحكيم فقال
الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء فأرسل إليهم
علي فرجعوا ثم قالوا: نكون في ناحية فإن
قبل القضية قاتلناه وإن نقضها قاتلنا معه ثم
افترقت منهم فرقة يقتلون الناس فحدث علي عن
النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم. وأخرج
أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن
شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق ليالي
قتل علي فقالت له عائشة: تحدثني عن أمر
هؤلاء القوم الذين
ج / 7 ص -166-
قتلهم علي قال: إن عليًا لما كاتب معاوية
وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء
الناس فنزلوا بأرض يقال لها: حروراء من
جانب الكوفة وعتبوا عليه فقالوا: انسلخت من
قميص ألبسكه الله ومن اسم سماك الله به ثم
حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله فبلغ
ذلك عليًا فجمع الناس فدعا بمصحف عظيم فجعل
يضربه بيده ويقول أيها المصحف حدث الناس
فقالوا :ماذا تسأل إنما هو مداد وورق ونحن
نتكلم بما روينا منه فقال: كتاب الله بيني
وبين هؤلاء يقول الله في امرأة ورجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا} الآية. وأمة محمد أعظم من امرأة ورجل ونقموا على أن كاتبت
معاوية وقد كاتب رسول الله صلى الله عليه سهيل
ابن عمرو ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
ثم بعث إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم
أربعة آلاف منهم عبد الله بن الكواء فبعث علي
إلى الآخرين أن يرجعوا فأبوا فأرسل إليهم:
كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا
دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا
فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب. قال عبد الله
بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل
وسفكوا الدم الحرام" الحديث. وأخرج
النسائي في الخصائص صفة مناظرة ابن عباس لهم
بطولها .
وفي الأوسط للطبراني عن
جندب بن عبد الله البجلي قال: " لما
فارقت الخوارج عليًا خرج في طلبهم فانتهينا
إلى عسكرهم فإذا له دوي كدوي النحل من قراءة
القرآن وإذا فيهم أصحاب البرانس: يعني
الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة قال
فدخلني من ذلك شدة فنزلت عن فرسي وقمت أصلي
وقلت: اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك
طاعة فأذن لي فيه فمر بي علي فقال لما
حاذاني: نعوذ بالله من الشك يا جندب فلما
جئته أقبل رجل على برذون يقول: إن كان لك
بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا النهر قال: ما
قطعوه ثم جاء آخر كذلك ثم جاء آخر كذلك
قال: لا ما قطعوه ولا يقطعونه وليقتلن من
دونه عهد من الله ورسوله قلت: الله أكبر ثم
ركبنا فسايرته فقال لي: سأبعث إليهم رجلا
يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم
فلا يقبل علينا بوجهه حتى يرشقوه بالنبل ولا
يقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة. قال:
فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلا فرماه
إنسان فأقبل علينا بوجهه فقعد. وقال علي:
دونكم القوم فما قتل منا عشرة ولا نجا منهم
عشرة".
وأخرج يعقوب بن سفيان
بسند صحيح عن حميد بن هلال قال: حدثنا رجل
من عبد القيس قال: لحقت بأهل النهروان مع
طائفة منهم أسيرًا إذ أتينا على قرية بيننا
نهر فخرج رجل من القرية مروعا فقالوا له:
لا روع عليك وقطعوا إليه النهر فقال أنت ابن
خباب بن الأرت صاحب النبي صلى الله عليه وسلم
؟ قال: نعم قالوا: فحدثنا عن أبيك
فحدثهم بحديث "تكون
فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول
فكن"
فقدموه فضربوا عنقه ثم دعوا سريته وهي حبلى
فبقروا عما في بطنها .
ولابن أبي شيبة من طريق
أبي مجلز قال: قال علي لأصحابه: لا
تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حدثا قال: فمر
بهم عبد الله بن خباب فذكر قتلهم له ولجاريته
وأنهم بقروا بطنها وكانوا مروا على ساقية فأخذ
واحد منها تمرة فوضعها في فيه فقالوا: له
تمرة معاهد فبم استحللتا فقال لهم عبد الله بن
خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة
ج / 7 ص -167-
فأخذوه فذبحوه فبلغ عليًا فأرسل إليهم:
أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب فقالوا:
كلنا قتله فأذن حينئذ في قتالهم.
وأخرج الطبري من طريق
أبي مريم قال: أخبرني أخي أبو عبد الله أن
عليًا سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط
النهروان أرسل يناشدهم فلم تزل رسله تختلف
إليهم حتى قتلوا رسوله فلما رأى ذلك نهض إليهم
فقاتلهم حتى فرغ منهم كلهم.
وقد روي عن أبي سعيد
الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف
ما أسلفنا في أول الباب أخرج أحمد بسند جيد عن
أبي سعيد قال "جاء أبو بكر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني
مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع
يصلي فيه فقال: اذهب إليه فاقتله قال:
فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله
فرجع فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:
اذهب فاقتله فرآه يصلي على تلك الحالة فرجع
فقال: يا علي اذهب فاقتله فذهب علي فلم يره
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه فاقتلوهم
هم شر البرية ".
قال الحافظ:
بعد أن قال إن إسناده جيد: له شاهد من حديث
جابر أخرجه أبو يعلى. قال: ويمكن الجمع
بأن يكون هذا الرجل هو الأول وكانت قصة هذه
الثانية متراخية عن الأولى وأذن صلى الله عليه
وسلم في قتله بعد أن منع لزوال علة المنع وهي
التآلف وكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام
كما نهي عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد
أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك وكأن
أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل
المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن يكون لا
يصلي فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو
غلبا جانب النهي.
وفي أحاديث الباب دليل
على مشروعية الكف عن قتل من يعتقد الخروج على
الإمام ما لم ينصب لذلك حربا أو يستعد له
لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خرجوا فاقتلوهم".
وقد حكى الطبري الإجماع
على ذلك في حق من لا يكفر باعتقاده. وقد
اختلف أهل العلم في تكفير الخوارج وقد صرح
بالكفر القاضي أبو بكر بن العربي في شرح
الترمذي فقال: الصحيح أنهم كفار لقوله صلى
الله عليه وسلم:
" يمرقون من الدين"ولقوله:
"لأقتلنهم قتل عاد"
وفي لفظ
"ثمود"
وكل إنما هلك بالكفر ولقوله هم شر الخلق ولا
يوصف بذلك إلا الكفار ولقوله:
"إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى" ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا
هم أحق بالاسم منهم وممن جنح إلى ذلك من
المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في
فتاويه: احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض
بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي
صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة
قال: وهو عندي احتجاج صحيح. قال:
واحتج من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي
تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علما قطعيا وفيه
نظر لأنا نعلم تزكية من كفروه علما قطعيا إلى
حين موته وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم
ويؤيده حديث: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما".
وفي لفظ لمسلم:
"من رمى مسلما بالكفر أو قال: يا عدو
الله إلا حار عليه" قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل
عندنا القطع بإيمانهم
ج / 7 ص -168-
فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع وهو
نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممن لا
تصريح فيه بالجحود بعد أن فسروا الكفر بالجحود
فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك
قلنا وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي
كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علمًا
قطعيًا ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا
والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي
الساجد للصنم ذلك.
قال الحافظ:
وممن جنح إلى بعض هذا المحب الطبري في تهذيبه
فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الرد على
قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل
القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه
عالمًا فإنه مبطل لقوله في الحديث
"يقولون الحق ويقرؤون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء" ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء
المسلمين وأموالهم إلا لخطأ منهم فيما تأولوه
من آي القرآن على غير المراد منه ويؤيد القول
بالكفر ما تقدم من الأمر بقتالهم وقتلهم مع ما
ثبت من حديث ابن مسعود أنه
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وفيه التارك
لدينه المفارق للجماعة"
كما تقدم.
وقال القرطبي في المفهم:
يؤيد القول بتكفيرهم ما في الأحاديث من أنهم
خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما
خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث
لم يتعلق من الرمية بشيء وقد أشار إلى ذلك
بقوله
"سبق الفرث والدم".
وحكي في الفتح عن صاحب الشفاء أنه قال فيه
وكذا القطع بكفر من قال قولا يتوصل به إلى
تضليل الأمة أو تكفير الصحابة وحكاه صاحب
الروضة في كتاب الردة عنه وأقره وذهب أكثر أهل
الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن
حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين
ومواظبتهم على أركان الإسلام وإنما فسقوا
بتكفير المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد وجرهم
ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم
والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
وقال الخطابي:
أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالته
فرقة من فرق المسلمين وأجازوا مناكحاتهم وأكل
ذبائحهم وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين
بأصل الإسلام.
وقال عياض:
كادت هذه المسألة أن تكون أشد إشكالا عند
المتكلمين من غيرها حتى سأل الفقيه عبد الحق
الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال
كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين
قال: وقد توقف القاضي أبو بكر البلاقاني
قال: ولم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا
أقوالا تؤدي إلى الكفر.
وقال الغزالي في كتاب التفرقة من الإيمان
والزندقة:
الذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه
سبيلا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين
بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في
الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد.
قال ابن بطال:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين
من جملة المسلمين قال وقد سئل علي عن أهل
النهروان هل كفروا فقال من الكفر فروا.
قال الحافظ:
وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع
على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم.
قال القرطبي في المفهم:
والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث قال فعلى
القول بتكفيرهم يقاتلون ويقتلون وتغنم أموالهم
وهو قول
ج / 7 ص -169-
طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج وعلى
القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي
إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب قال وباب التكفير
باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئًا.
6 - وعن مروان بن الحكم
قال: "صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن
مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن
ومن ألقى السلاح فهو آمن". رواه سعيد بن
منصور.
7 - وعن الزهري قال:
"هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد
أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد
بعينه". ذكره أحمد في رواية الأثرم واحتج
به.
أثر مروان أخرج نحوه
أيضًا ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق
عبد خير عن علي بلفظ: "نادى منادي علي يوم
الجمل إلا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على
جريحهم" وأخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عمر
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لابن
مسعود:
"يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي
قال: اللّه ورسوله أعلم فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم" وفي لفظ:
"ولا يذفف على جريحهم وزاد: ولا يغنم فيئهم"
سكت عنه الحاكم وقال ابن عدي: هذا الحديث
غير محفوظ. وقال البيهقي: ضعيف. قال
الحافظ في بلوغ المرام: وصححه الحاكم فوهم
لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك قال:
وصح عن علي من طرق نحوه موقوفًا أخرجه ابن أبي
شيبة والحاكم اهـ وكوثر المذكور قد صرح بتركه
البخاري وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال شهدت
صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون
موليًا ولا يسلبون قتيلا وأخرج أيضًا عن أبي
فاختة أن عليًا أتي بأسير يوم صفين فقال لا
تقتلني صبرًا فقال علي رضي اللّه عنه: لا
أقتلك صبرًا إني أخاف اللّه رب العالمين ثم
خلى سبيله ثم قال أفيك خير تبايع وأخرج أيضًا
أن عليًا لم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس
ثلاثًا حتى إذا كان يوم الثالث دخل عليه الحسن
والحسين وعبد اللّه بن جعفر فقالوا قد أكثروا
فينا الجراح فقال ما جهلت من أمرهم شيئًا ثم
توضأ وصلى ركعتين حتى إذا فرغ رفع يديه ودعا
ربه وقال لهم أن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا
مدبرًا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما
حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك
فهو لورثتهم قال البيهقي: هذا منقطع والصحيح
أنه لم يأخذ شيئًا ولم يسلب قتيلا وأخرج أيضًا
عن علي أنه كان لا يأخذ سلبًا وأخرج أيضًا عن
عرفجة عن أبيه قال لما قتل علي أهل النهروان
جال في عسكرهم فمن كان يعرف شيئًا أخذه حتى
بقيت قدر ثم رأيتها أخذت بعد.
وأثر الزهري أخرجه أيضًا
البيهقي بلفظ هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني
الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرًا
وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام
فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن
قتل ولا حد في سباء امرأة سبيت ولا يرى عليها
حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن
يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى
زوجهاطائفةمن أهل الحديث في أموال الخوارج
وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل
البغي إذا
ج / 7 ص -170-
الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر
ويرى أن يرثها زوجها الأول.
قوله: "ولا يذفف"
بالذال المعجمة المفتوحة بعده فاء مشددة ثم
فاء مخففة على صيغة البناء للمجهول وهو في
معنى يجهز قال في القاموس: ذف على الجريح
ذفًا وذفافًا ككتاب وذففًا محركة أجهز والاسم
الذفاف كسحاب قال أيضًافي مادة جهاز وجهز على
الجريح كمنع وأجهز أثبت قتله وأسرعه وتمم عليه
وموت مجهز وجهيز سريع انتهى. وفي الآثر
المذكور دليل على أنه لا يجوز قتل من كان
مدبرًا من البغاة وكذلك يدل على ذلك الحديث
المرفوع الذي ذكرناه وعلى أنه لا يجهز على
جريحهم بل يترك على ما هو عليه إلا إذا كان
المدبر أو الجريح ممن له فئة جاز قتله عند
الهادوية وأبي حنيفة والمروزي من الشافعية.
وقال الشافعي:
لا يجوز إذ القصد دفعهم في تلك الحال وقد وقع
وهو الظاهر من إطلاق النهي في الحديث ولكنه
يدل على جواز القتل إذا كان للبغي المذكور فئة
قوله تعالى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}
والهارب والجريح لم يحصل منهما ذلك وأجيب بأن
المراد بالفيئة إلى أمر اللّه ترك الصولة
والاستطالة وقد حصل ذلك من الهارب والجريح
الذي لا يقدر على القتال وأما ما روي عن زيد
بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال: لا
تتبعوا موليًا ليس بمنحاز إلى فئة فقد أجيب عن
الاستدلال بمفهومه على جواز قتل من له فئة
وإتباعه بأن إمامة علي قطعية وإمامة غيره ظنية
فلا يكون الحكم متحدًا بل المتوجه الوقوف على
ظاهر النهي المرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وهو وإن كان فيه المقال السابق
ولكنه يؤيده أن الأصل في دم المسلم تحريم سفكه
والآية المذكورة فيها الأذن بالمقاتلة إلى
حصول تلك الغاية وربما كان ذلك الهرب من
مقدماتها إن لم يكن منها.
قوله: "ومن أغلق
بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن"
استدل به على عدم جواز مقاتلة البغاة إذا
كانوا في بيوتهم أو طلبوا منا الأمان لأنهم
إذا أغلقوا على أنفسهم فليسوا ببغاة في ذلك
الوقت واتصافهم بذلك الوصف شرط جواز مقاتلتهم
كما في الآية وإذا طلبوا الأمان فقد فاؤوا إلى
أمر اللّه تعالى وهي الغاية التي أذن اللّه
بالقتال إلى حصولها وقد حصلت.
قوله: "فأجمعوا على
أن لا يقاد أحد" ظاهره وقوع الإجماع منهم
على عدم جواز الاقتصاص ممن وقع منه القتل
لغيره في الفتنة سواء كان باغيًا أو مبغيًا
عليه وقد ذهبت الشافعية والحنفية والإمام يحيى
إلى أنهم لا يضمنون ما أتلفوا أي البغاة وحكى
أبو جعفر عن الهادوية أنهم يضمنون.
قوله: "لا يؤخذ مال
على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه" فيه
دليل على أنه لا يجوز أخذ أموال البغاة إلا ما
كان منها موجودًا عند القتال. قال في البحر:
ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به
إجماعًا لبقائهم على الملة. وحكي عن أكثر
العترة أنه يجوز اغتنام ما أجلبوا به من مال
وآلة حرب وحكي عن النفس الزكية والحنفية
والشافعية أنه لا يغنم منهم شيء ويدل على ذلك
ما تقدم في الحديث المرفوع بلفظ:
"ولا يغنم منهم".
واعلم أن قتال البغاة جائز إجماعًا كما حكي
ذلك في البحر ولا يبعد أن يكون واجبًا لقوله
تعالى
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}
وقد حكي في البحر أيضًا عن
ج / 7 ص -171-
العترة جميعًا أن جهادهم أفضل من جهاد
الكفار إلى ديارهم إذ فعلهم في دار الإسلام
كفعل الفاحشة في المسجد. قال في البحر:
أيضًاوالبغي فسق إجماعًا.
باب الصبر على
جور الأئمة وترك قتالهم والكف عن إقامة السيف
1 - عن ابن عباس قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من
فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية".
وفي لفظ: "من
كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد
من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا
مات ميتة جاهلية".
2 - وعن أبي هريرة: عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي
خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء
فيكثرون قالوا: فما تأمرنا قال:
فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن
اللّه سائلهم عما استرعاهم".
متفق عليهن.
قوله: "فليصبر" في
رواية للبخاري: "فليصبر عليه".
قوله: "من فارق
الجماعة شبراً" بكسر الشين المعجمة وسكون
الموحدة كناية عن معصية السلطان ومحاربته قال
ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعي في حل
عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى
شيء فكنى عنها بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك
يؤل إلى سفك الدماء بغير حق.
قوله: "فميتته
جاهلية" في رواية للبخاري:
"مات ميتة جاهلية".
وفي رواية له أخرى:
"فمات إلا مات ميتة جاهلية". وفي رواية لمسلم:
"فميتته ميتة جاهلية"
وفي أخرى له من حديث ابن عمر: "من خلع يداً من طاعة لقي اللّه ولا حجة له
ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس المذكور:
"فمات عليه إلا مات جاهلية". قال الكرماني: الاستفهام هنا بمعنى الاستفهام الإنكاري أي ما
فارق الجماعة أحد إلا جرى له كذا أو حذف ما
فهي مقدرة أو إلا زائدة أو عاطفة على رأي
الكوفيين والمراد بالميتة الجاهلية وهي بكسر
الميم أن يكون حاله في الموت كموت أهل
الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع لأنهم
كانوا لا يعرفون ذلك وليس المراد أنه يموت
كافراً بل يموت عاصياً ويحتمل أن يكون التشبيه
على ظاهره ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي
وإنلم يكن جاهلياً أو أن ذلك ورد مورد الزجر
والتنفير فظاهره غير مراد ويؤيد أن المراد
بالجاهلية التشبيه ما أخرجه الترمذي وابن
خزيمة وابن حبان وصححه من حديث الحارث بن
الحارث الأشعري من حديث طويل وفيه: "من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه" وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس وفي سنده
جليد بن دعلج وفيه مقال وقال من رأسه يدل من
عنقه.
قوله: "فوا ببيعة
الأول فالأول" فيه دليل على أنه يجب على
الرعية الوفاء ببيعة الإمام الأول ثم الأول
ج / 7 ص -172-
ولا يجوز لهم المبايعة للإمام الآخر قبل موت
الأول.
قوله: "ثم أعطوهم
حقهم" أي ادفعوا إلى الأمراء حقهم الذي لهم
المطالبة به وقبضه سواء كان يختص بهم أو يعم
وذلك من الحقوق الواجبة في المال كالزكاة وفي
الأنفس كالخروج إلى الجهاد وظاهر الحديث
العموم في المخاطبين ونقل ابن التين عن
الداودي أنه خاص بالأنصار وكأنه أخذه من كون
المخاطب بذلك الأنصار كما في حديث عبد اللّه
بن زيد ولا يلزم من مخاطبتهم بذلك أن يختص بهم
فإنه يختص بهم بالنسبة إلى المهاجرين ويختص
ببعض المهاجرين دون بعض فالمستأثر من يلي
الأمر ومن عداه هو الذي يستأثر عليه ولما كان
الأمر يختص بقريش ولا حظ للأنصار فيه خوطب
الأنصار في بعض الأوقات وهو خطاب للجميع
بالنسبة إلى من لا يلي الأمر وقد ورد ما يدل
على التعميم ففي حديث يزيد بن سلمة الجعفي عند
الطبراني أنه قال: يا رسول اللّه إن كان
علينا أمراء يأخذونا بالحق ويمنعونا الحق الذي
لنا أنقاتلهم قال
"لا عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم".
وأخرج مسلم من حديث أم
سلمة مرفوعاً:
"سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي
وبايع قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا" ونحوه حديث عوف بن مالك الآتي وفي مسند الإسماعيلي من طريق أبي
مسلم الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر
رفعه: قال: "أتاني جبريل فقال إن أمتك مفتتنة من بعدك فقلت من أين قال من قبل
أمرائهم وقرائهم يمنع الأمراء الناس الحقوق
فيطلبون حقوقهم فيفتنون ويتبع القراء الأمراء
فيفتنون قلت فكيف يسلم من سلم منهم قال بالكف
والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه
تركوه".
3 - وعن عوف بن مالك
الأشجعي قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول:
"خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون
عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين
تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم"
قال قلنا يا رسول اللّه أفلا ننابذهم عند ذلك
قال
"لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولى عليه
وال فرآه يأتي شيئاً من معصية اللّه فليكره ما
يأتي من معصية اللّه ولا ينزعن يداً من
طاعة".
4 - وعن حذيفة بن
اليمان: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون
بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين
في جثمان أنس" قال: قلت كيف أصنع يا رسول اللّه إن
أدركت ذلك قال:
"تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع
وأطع".
ج / 7 ص -173-
5 - وعن عرفجة الأشجعي قال: "سمعت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن
يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".
رواهن أحمد ومسلم.
6 - وعن عبادة بن الصامت
قال:
"بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في
منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن
لا تنازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً
عندكم فيه من اللّه برهان".
متفق عليه.
7 - وعن أبي ذر: "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك
بهذا الفيء"
قال: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي
وأضرب حتى ألحقك قال:
"أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى
تلحقني".
رواه أحمد.
حديث أبي ذر في إسناده
خالد بن وهبان قال في التقريب: مجهول من
الثالثة وقال في التهذيب: ذكره ابن حبان في
الثقات. وقال أبو حاتم: مجهول.
وفي الباب أحاديث غير
هذه بعضها تقدم في باب براءة رب المال بالدفع
إلى السلطان الجائر في كتاب الزكاة وبعضها
مذكور في غير هذا الكتاب من ذلك حديث ابن عمر
عند الحاكم بلفظ:
"من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من
عنقه حتى يراجعه ومن مات وليس عليه إمام جماعة
فإن ميتته ميتة جاهلية"
وقد قدمنا نحوه قريباً عن الحارث بن الحارث
الأشعري ورواه الحاكم من حديث معاوية أيضاً
والبزار من حديث ابن عباس. وأخرج مسلم من
حديث أبي هريرة بلفظ:
"من خرج من الطاعة وفارقالجماعة فميتته جاهلية" وأخرج أيضاً مسلم نحوه عن ابن عمر وفيه قصة وأخرج الشيخان من حديث
أبي موسى الأشعري بلفظ:
"من حمل علينا السلاح فليس منا"
وأخرجاه أيضاً من حديث ابن عمر وأخرجه مسلم من
حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع وأخرج أحمد
وأبو داود والحاكم من حديث أبي ذر:
"من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة
الإسلام من عنقه"
وأخرج البخاري من حديث أنس:
"اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عبد حبشي رأسه
زبيبة ما أقام فيكم كتاب اللّه تعالى" وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة:
"من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن يطع الأمير
فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر:
"على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية
فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"
وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر: "ألا
أخبركم بخير أمرائكم وشرارهم خيارهم الذين
تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم وشرار
أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم
ويلعنونكم" وأخرج
ج / 7 ص -174-
الترمذي من حديث أبي بكرة: "من أهان سلطان اللّه في الأرض أهانه اللّه تعالى" والأحاديث في هذا الباب كثيرة وهذا طرف منها.
قوله: "خيار
أئمتكم" الخ فيه دليل على مشروعية محبة
الأئمة والدعاء لهم وإن من كان من الأئمة
محباً للرعية ومحبوباً لديهم وداعياً لهم
ومدعواً له منهم فهو من خيار الأئمة ومن كان
باغضاً لرعيته مبغوضاً عندهم يسبهم ويسبونه
فهو من شرارهم وذلك لأنه إذا عدل فيهم وأحسن
القول لهم أطاعوه وانقادوا له وأثنوا عليه
فلما كان هو الذي يتسبب بالعدل وحسن القول إلى
المحبة والطاعة والثناء منهم كان من خيار
الأئمة ولما كان هو الذي يتسبب أيضاً بالجور
والشتم للرعية إلى معصيتهم له وسوء القالة
منهم فيه كان من شرار الأئمة.
قوله: "لا ما أقاموا
فيكم الصلاة" فيه دليل على أنه لا يجوز
منابذة الأئمة بالسيف مهما كانوا مقيمين
للصلاة ويدل ذلك بمفهومه على جواز المنابذة
عند تركهم للصلاة. وحديث عبادة بن الصامت
المذكور فيه دليل على أنها لا تجوز المنابذة
إلا عند ظهور الكفر البواح وهو بموحدة
فمهملة.
قال الخطابي:
معنى قوله بواحاً يريد ظاهراً بادياً من قولهم
باح بالشيء يبوح به بوحاً وبواحاً إذا ادعاه
وأظهره قال ويجوز بوحاً بسكون الواو ويجوز بضم
أوله ثم همزة ممدودة قال ومن رواه بالراء
فهوقريب من هذا المعنى. وأصل البراح الأرض
القفر التي لا أنيس فيها ولا بناء وقيل البراح
البيان يقال برح الخفاء إذا ظهر. قال
النووي: هي في معظم النسخ من مسلم بالواو
وفي بعضها بالراء.
قال الحافظ:
ووقع عند الطبراني كفراً صراحاً بصاد مهملة
مضمومة ثم راء ووقع في رواية
"إلا أن تكون معصية للّه بواحاً". وفي رواية لأحمد
"ما لم يأمرك بإثم بواحاً"
وفي رواية له وللطبراني عن عبادة:
"سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما
تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن
عصى اللّه" وعند ابن أبي شيبة من حديث عبادة: "سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون فليس
لأولئك عليكم طاعة".
قوله: "فليكره ما
يأتي من معصية اللّه ولا ينزعن يداً من
طاعة" فيه دليل على أن من كره بقلبه ما
يفعله السلطان من المعاصي كفاه ذلك ولا يجب
عليه زيادة عليه.
وفي الصحيح:
"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم
يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه" ويمكن حمل حديث الباب وما ورد في معناه على عدم القدرة على
التغيير باليد واللسان ويمكن أن يجعل مختصاً
بالأمراء إذا فعلوا منكراً لما في الأحاديث
الصحيحة من تحريم معصيتهم ومنابذتهم فكفى في
الإنكار عليهم مجرد الكراهة بالقلب لأن في
إنكار المنكر عليهم باليد واللسان تظهرا
بالعصيان وربما كان ذلك وسيلة إلى المنابذة
بالسيف.
قوله: "في جثمان
أنس" بضم الجيم وسكون المثلثة أي لهم قلوب
كقلوب الشياطين وأجسام كأجسام الأنس.
قوله: "وإن ضرب ظهرك
وأخذ مالك فاسمع وأطع" فيه دليل على وجوب
طاعة الأمراء وإن بلغوا في العسف والجور إلى
ضرب الرعية وأخذ أموالهم فيكون هذا مخصصاً
لعموم قوله تعالى
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
وقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
قوله: "وعن عرفجة"
بفتح العين المهملة وسكون
ج / 7 ص -175-
الراء وفتح الفاء بعدها جيم هو ابن شريح بضم
المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها حاء
وقيل ابن ضريح بضم الضاد المعجمة وقيل ذريح
بفتح الذال المعجمة وكسر الراء وقيل صريح بضم
الصاد المهملة وقيل شراحيل وقيل سريج بضم
السين المهملة وآخره جيم ويقال له الأشجعي
ويقال الكندي ويقال الأسلمي.
قوله: "بايعنا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" بفتح العين
ورسول فاعله.
قوله: "في منشطنا"
بفتح الميم والمعجمة وسكون النون التي بينهما
أي في حالنشاطنا وحال كراهتنا وعجزنا عن العمل
بما نؤمر به ونقل ابن التين عن الداودي أن
المراد الأشياء التي يكرهونها. قال ابن
التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل
والمشقة في الخروج ليطابق معنى منشطنا ويؤيده
ما عند أحمد في حديث عبادة بلفظ في النشاط
والكسل.
قوله: "وأثرة
علينا" بفتح الهمزة والمثلثة والمراد أن
طاعتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم
حقوقهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقهم.
قوله: "وأن لا ننازع
الأمر أهله" أي الملك والإمارة زاد أحمد في
رواية: وإن رأيت أن لك في الأمر حقاً فلا
تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليكم
بغير خروج عن الطاعة.
قوله: "إلا أن تروا
كفراً بواحاً" قد تقدم ضبطه وتفسيره.
قوله: "عندكم فيه من
اللّه برهان" أي نص آية أو خبر صريح لا
يحتمل التأويل ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج
عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل.
قال النووي:
المراد بالكفر هنا المعصية ومعنى الحديث لا
تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا
عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه
من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروا
عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم اهـ قال في
الفتح. وقال غيره: إذا كانت المنازعة في
الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا
إذا ارتكب الكفر وحمل رواية المعصية على ما
إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية فإذا لم
يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر
عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف
ومحل ذلك إذا كان قادراً ونقل ابن التين عن
الداودي قال الذي عليه العلماء في أمراء الجور
أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب
وإلا فالواجب الصبر وعن بعضهم لا يجوز عقد
الولاية لفاسق ابتداء فإن أحدث جوراً بعد أن
كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه
والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج
عليه.
قال ابن بطال:
إن حديث ابن عباس المذكور في أول الباب حجة في
ترك الخروج على السلطان ولو جار قال في
الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة
السلطان المتغلب والجهاد معه وإن طاعته خير من
الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين
الدهماء ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من
السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك
بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث
اهـ.
وقد استدل القائلون
بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف
ومكافحتهم بالقتال بعمومات من الكتاب والسنة
في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا
شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في
هذا الباب وذكرناها أخص من تلك العمومات
مطلقاً وهي متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له
أنسة بعلم السنة ولكنه
ج / 7 ص -176-
لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السيف
الصالح من العترة وغيرهم على أئمة الجور فإنهم
فعلوا ذلك باجتهاد منهم وهم أتقى للّه وأطوع
لسنة رسول اللّه من جماعة ممن جاء بعدهم من
أهل العلم ولقد أفرط بعض أهل العلم كالكرامية
ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب حتى
حكموا بأن الحسين السبط رضي اللّه عنه وأرضاه
باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة
المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم اللّه فياللّه
العجب من مقالات تقشعر منها الجلود ويتصدع من
سماعها كل جلمود.
باب ما جاء في
حد الساحر وذم السحر والكهانة
1 - عن جندب قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
حد الساحر ضربه بالسيف". رواه الترمذي والدارقطني وضعف الترمذي إسناده وقال الصحيح عن
جندب موقوف.
2 - وعن بجالة بن عبدة
قال: "كنت كاتبًا لجزء ابن معاوية عم
الأحنف بن قيس فأتى كتاب عمر قبل موته بشهر أن
اقتلوا كل ساحر وساحرة وفرقوا بين كل ذي رحم
محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة فقتلنا
ثلاث سواحر وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في
كتاب اللّه تعالى". رواه أحمد وأبو
داود. وللبخاري منه التفريق بين ذوي
المحارم.
3 - وعن محمد بن عبد
الرحمن ابن سعد بن زرارة: "أنه بلغه أن
حفصة زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قتلت
جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها
فقتلت". رواه مالك في الموطأ عنه.
4 - وعن ابن شهاب:
"أنه سئل علي من سحر من أهل العهد قتل
قال: بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه
وكان من أهل الكتاب". أخرجه البخاري.
حديث جندب في إسناده
إسماعيل بن مسلم المكي. قال الترمذي بعد
ذكره: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا
الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث
من قبل حفظه وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري
قال: وكيع هو ثقة ويروى عن الحسن أيضًا
والصحيح عن جندب موقوف قال والعمل على هذا عند
بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وغيرهم وهو قول مالك ابن أنس وقال
الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في
سحره ما يبلغ الكفر فإذا عمل عملًا دون الكفر
فلم نر عليه قتلا. اهـ
وأخرج هذا الحديث الحاكم
والبيهقي. وأثر عمر
ج / 7 ص -177-
أخرجه أيضًا البيهقي وعبد الرزاق.
وأثر حفصة أخرجه أيضًا
عبد الرزاق وقد استدل بحديث جندب من قال إنه
يقتل الساحر قال النووي في شرح مسلم: عمل
السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع قال:
وقد يكون كفرًا وقد لا يكون كفرًا بل معصية
كبيرة فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر
وإلا فلا وأما تعلمه وتعليمه فحرام قال ولا
يقتل عندنا يعني الساحر فإن تاب قبلت توبته.
وقال مالك:
الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل
توبته بل يتحتم قتله والمسألة مبنية على
الخلاف في قبول توبة الزنديق لأن الساحر عنده
كافر كما ذكرنا وعندنا ليس بكافر وعندنا تقبل
توبة المنافق والزنديق.
قال القاضي عياض:
وبقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروي عن
جماعة من الصحابة والتابعين قال أصحابنا إذا
قتل الساحر بسحره إنسانًا أو اعترف أنه مات
بسحره وأنه يقتل غالبًا لزمه القصاص وإن مات
به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب
الدية والكفارة وتكون الدية في ماله لا على
عاقلته لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف
الجاني قال أصحابنا ولا يتصور القتل بالسحر
بالبينة وإنما يتصور باعتراف الساحر واللّه
أعلم اهـ كلام النووي. وحكي في البحر عن
العترة وأبي حنيفة وأصحابه أن السحر كفر وحكي
أيضًا عن العترة وأكثر الفقهاء أنه لا حقيقة
له ولا تأثير لقوله تعالى {وَمَا
هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ} وعن أبي جعفر الاسترأباذي والمغربي من الشافعية أن له حقيقة
وتأثيرًا إذ قد يقتل السموم وقد يغير العقل
وقد يكون بالقول فيفرق بين المرء وزوجه لقوله
تعالى
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي
الْعُقَدِ}
أراد الساحرات فلولا تأثيره لما استعاذ منه
وقد يحصل به إبدال الحقائق من الحيوانات قلنا
سماه اللّه خيالًا والخيال لا حقيقة له فقال
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} قالوا روت عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سحر حتى كان
لا يدري ما يقول قلنا رواية ضعيفة اهـ كلام
البحر. ويجاب عنه بأن الحديث صحيح كما سيأتي
ويأتي أيضًا أن مذهب جمهور العلماء أن للسحر
تأثيرًا وهو الحق كما يأتي بيانه انتهى.
قوله: "عن
الزمزمة" بزايين معجمتين مفتوحتين بينهما
ميم ساكنة قال في القاموس: الزمزمة الصوت
البعيد له دوي وتتابع صوت الرعد وهو أحسنه
صوتًا وأثبته مطرًا وتراطن العلوج على أكلهم
وهو صموت لا يستعملون لسانًا ولا شفة لكنه صوت
تديره في خياشيمها وحلوقها فيفهم بعضها عن بعض
اهـ.
قوله: "فلم يقتل من
صنعه" الخ استدل به من قال إنه لا يقتل
الساحر ويجاب عنه بما سيأتي قريبا وأيضًا ليس
في ذلك دليل لأن غايته جواز الترك لا عدم جواز
الفعل فيمكن الجمع على فرض عدم علم التاريخ
بأن القتل للساحر جائز لا واجب.
5 - وعن عائشة قالت:
"سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله
حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا اللّه ودعا
ثم قال:
أشعرت يا عائشة أن اللّه قد أفتاني فيما استفتيته
ج / 7 ص -178-
قلت: وما ذاك يا رسول اللّه قال: "جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ثم
قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل قال:
مطبوب قال: ومن طبه قال: لبيد بن الأعصم
اليهودي من بني زريق قال: فبماذا قال: في
مشط ومشاط وجف طلعة ذكر قال: فأين هو قال:
في بئر ذروان"
فذهب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أناس
من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثم
رجع إلى عائشة فقال:
"لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس
الشياطين"
قلت: يا رسول اللّه أفأخرجته قال:
"لا أما أنا فقد عافاني اللّه وشفاني وخشيت أن
أثور على الناس منه شرًا فأمر بها فدفنت". متفق عليه.
وفي رواية لمسلم:
"قالت فقلت يا رسول اللّه أفلا أخرجته قال
لا".
قوله: "حتى إنه
ليخيل إليه" الخ قال الإمام المازري: مذهب
أهل السنة وجمهور علماء الأمة إثبات السحر وأن
له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء خلافًا لمن
أنكر ذلك وأنكر حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى
خيالات باطلة لا حقائق لها وقد ذكره اللّه
تعالى في كتابه وذكر أنه مما يتعلم وذكر ما
فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به وأن يفرق بين
المرء وزوجه وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة
له وهذا الحديث أيضًا مصرح بإثباته وأنه أشياء
دفنت وأخرجت وهذا كله يبطل ما قالوه فإحالة
كونه من الحقائق محال ولا يستنكر في العقل أن
اللّه سبحانه يخرق العادة عند النطق بكلام أو
تركيب أجسام أو المزج بين قوي على ترتيب لا
يعرفه إلا الساحر وإذا شاهد الإنسان بعض
الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة
كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة
للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم
قوي قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة
قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب
آخر فزعم أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها وأن
تجويزه يمنع الثقة بالشرع قال وهذا الذي ادعاه
هؤلاء المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد
قامت على صدقه وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ
والمعجزة شاهدة بذلك وتجويز ما قام الدليل
بخلافه باطل فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا
التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلًا من أجلها
وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه
أنه وطئ زوجاته وليس بواطىء وقد يتخيل الإنسان
مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة
ولا حقيقة له وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما
فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون
اعتقاداته على السداد.
قال القاضي عياض:
وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر
إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله
وقلبه واعتقاده ويكون معنى قوله حتى يظن
ج / 7 ص -179-
أنه يأتي أهله ولا يأتيهم ويروى أنه يخيل
إليه أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة
عليهن فإذا دنا منهم أخذه السحر فلم يأتهن ولم
يتمكن من ذلك وكل ما جاء في الروايات من أنه
يخيل إليه أنه فعل شيئًا ولم يفعله ونحوه
فمحمول على التخيل بالبصر لا بخلل تطرق إلى
العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسًا على الرسالة
ولا طعنًا لأهل الضلالة انتهى.
قال المازري:
واختلف الناس في القدر الذي يقع به السحر ولهم
فيه اضطراب فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على
قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن اللّه تبارك
وتعالى إنما ذكر ذلك تعظيمًا لما يكون عنده
وتهويلا له فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن
المثل لا يضرب عند المبالغة إلا بأعلى أحوال
المذكور قال: ومذهب الأشعرية أنه يجوز أن
يقع به أكثر من ذلك قال: وهذا هو الصحيح
عقلا لأنه لا فاعل إلا اللّه تبارك وتعالى وما
يقع من ذلك فهو عادة أجراها اللّه تعالى ولا
تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض
ولو ورد الشرع بقصره على مرتبة لوجب المصير
إليه ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على
ما قاله القائل الأول وذكر التفرقة بين
الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة
وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا قال فإن قيل
إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر
فبماذا يتميز عن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فالجواب إن العادة تنخرق على يد النبي
والولي والساحر ولكن النبي يتحدى بها الخلق
ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن اللّه تعالى بخرق
العادة له لتصديقه فلو كان كاذبًا لم تنخرق
العادة على يديه والولي والساحر لا يتحديان
الخلق ولا يستدلان على نبوة ولو ادعيا شيئًا
من ذلك لم تنخرق العادة لهما.
وأما الفرق بين الولي
والساحر فمن وجهين أحدهما وهو المشهور إجماع
المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق
والكرامة لا تظهر على فاسق فإنما تظهر على ولي
وبهذا جزم إمام الحرمين وأبو سعيد المتولي
وغيرهما والثاني أن السحر قد يكون ناشئًا
بفعلها وبمزجها ومعاناة وعلاج والكرامة لا
تفتقر إلى ذلك وفي كثير من الأوقات يقع مثل
ذلك من غير أن يستدعيه أو يشعر به واللّه أعلم
هكذا في شرح مسلم للنووي.
قوله: "دعا اللّه
ودعا" في رواية مسلم: "دعا اللّه ثم دعا ثم دعا" وفي ذلك دليل على استحباب الدعاء عند حصول الأمر المكروه وتكريره
وحسن الالتجاء إلى اللّه سبحانه.
قوله: "ما وجع الرجل
قال مطبوب" بالطاء المهملة وبموحدتين اسم
مفعول. قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد
يقال لعلاج الداء طب وللسحر طب وهو من أعظم
الأدواء ورجل طبيب أي حاذق سمي طبيبًا لحذقه
وفطنته. قال النووي: كنوا بالطب عن السحر
كما كنوا بالسليم عن اللديغ.
قوله: "من بني
زريق" بتقديم الزاي.
قوله: "في مشط
ومشاطة" المشط بضم الميم والشين وبضم الميم
وإسكان الشين وبكسر الميم وإسكان الشين وهو
الآلة المعروفة التي يسرح بها الشعر والمشاطة
بضم الميم وهي الشعر الذي يسقط من الرأس أو
اللحية عند تسريحه بالمشط ووقع في رواية
للبخاري ومشاقة بالقاف وهي المشاطة وقيل مشاقة
الكتان.
قوله: "وجف طلعة"
بالجيم والفاء وهو وعاء طلع النخل أي الغشاء
الذي يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا
ج / 7 ص -180-
قيده في الحديث. وفي رواية لمسلم وجب طلعة
بضم الجيم وبالباء الموحدة. قال النووي:
هو في أكثر نسخ بلادنا كذلك والطلعة النخلة
وهو بإضافة طلعة إلى ذكر.
قوله: "في بئر
ذروان" وهكذا في معظم نسخ البخاري. وفي
جميع روايات مسلم في بئر ذي أروان قال
النووي: وكلاهما صحيح مشهور قال والذي في
مسلم أجود وأصح وادعى ابن قتيبة أنه الصواب
وهو قول الأصمعي وهي بئر بالمدينة في بستان
بني زريق.
قوله: "نقاعة
الحناء" بضم النون من نقاعة وهو الماء الذي
تنقع فيه الحناء والحناء ممدود.
قوله: "أفأخرجته"
في الرواية الثانية: "أفلا أخرجته" وفي
رواية: "أفلا أحرقته" قال النووي:
كلاهما صحيح وذلك بأن يقال طلبت منه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أن يخرجه ثم يحرقه وأخبر أن
اللّه قد عافاه وأنه يخاف من إحراقه وإخراجه
وإشاعة هذا ضررًا وشرًا على المسلمين كتذكر
السحر أو فعله والحديث فيه أو إيذاء فاعله
فيحمله ذلك أو يحمل بعض أهله ومحبيه من
المنافقين وغيرهم على سحر الناس وآذاهم
وانتصابهم لمنابذة المسلمين بذلك وهذا من باب
ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها وذلك من أهم
قواعد الإسلام وبمثل هذا يجاب عن استدلال من
استدل على عدم جواز قتل الساحر بأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لم يقتل من سحره فإن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا ترك إخراج
ما سحر فيه من البئر لمخافة الفتنة فبالأولى
تركه القتل للساحر فإن الفتنة في ذلك أعظم
وأشد.
6 - وعن أبي موسى:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع رحم
ومصدق بالسحر".
7 - وعن أبي هريرة: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد
كفر بما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواهما أحمد ومسلم.
8 - وعن صفية بنت أبي
عبيد: "عن بعض أزواج النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال: من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل اللّه له صلاة أربعين ليلة". رواه أحمد ومسلم.
قوله: "لا يدخلون
الجنة" فيه دليل على أن بعض أهل التوحيد لا
يدخلون الجنة وهم من أقدم على معصية صرح
الشارع بأن فاعلها لا يدخل الجنة كهؤلاء
الثلاثة ومن قتل نفسه ومن قتل معاهدًا وغيرهم
من العصاة الفاعلين لمعصية ورد النص بأنها
مانعة من دخول الجنة فيكون حديث أبي موسى
المذكور وما ورد في معناه مخصصًا لعموم
الأحاديث القاضية بخروج الموحدين من النار
ودخولهم الجنة.
قوله: "من أتى
كاهنًا" قال القاضي عياض: كانت الكهانة في
العرب ثلاثة أضرب أحدها يكون للإنسان ولي من
الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء
وهذا القسم بطل من حين بعث اللّه تعالى نبينا
صلى اللّه عليه وآله وسلم. الثاني أن يخبره
بما يطرأ أو يكون في
ج / 7 ص -181-
أقطار
الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد وهذا لا
يبعد وجوده ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين
الضربين وأحالوهما ولا استحالة في ذلك ولا بعد
في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون والنهي عن
تصديقهم والسماع منهم عام. الثالث المنجمون
وهذا الضرب يخلق اللّه فيه لبعض الناس قوة ما
لكن الكذب فيه أغلب ومن هذا الفن العرافة
وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور
بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها وقد يعتضد
بعض هذا الفن ببعض في ذلك كالزجر والطرق
والنجوم وأسباب معتادة وهذه الأضرب كلها تسمى
كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم
وإتيانهم.
قال الخطابي: العراف هو
الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة
ونحوهما قال في النهاية: الكاهن يشمل العراف
والمنجم.
قوله: "فصدقه بما يقول" زاد الطبراني من
رواية أنس: "ومن أتاه غير مصدق له لم يقبل
اللّه له صلاة أربعين ليلة" وظاهر هذا
التصديق شرط في ثبوت كفر من أتى الكاهن
والعراف.
قوله: "فقد كفر" ظاهره أنه الكفر
الحقيقي وقيل هو الكفر المجازي وقيل من اعتقد
أن الكاهن والعراف يعرفان الغيب ويطلعان على
الأسرار الإلهية كان كافرًا كفرًا حقيقيًا كمن
اعتقد تأثير الكواكب وإلا فلا.
قوله: "لم يقبل اللّه منه صلاة أربعين
ليلة" قال النووي: معناه أنه لا ثواب له
فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا
يحتاج معها إلى إعادة ونظير هذه الصلاة في
الأرض المغصوبة فإنها مجزئة مسقطة للقضاء ولكن
لا ثواب فيها كذا قاله جمهور أصحابنا قالوا
فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها
على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض
عنه وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبة
حصل الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل
في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا
يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة
فوجب تأويله واللّه أعلم اهـ.
9 - وعن عائشة قالت: "سأل رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم ناس عن الكهانة فقال:
ليسوا
بشيء فقالوا يا رسول اللّه إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء فيكون حقًا فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه يخلطون معها مائة
كذبة". متفق
عليه.
10 - وعن عائشة قالت: "كان لأبي بكر غلام
يأكل من خراجه فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو
بكر فقال له الغلام: تدري مما هذا قال:
وما هو قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية
وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني
فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه فأدخل أبو
بكر يده فقاء كل شيء في بطنه". أخرجه
البخاري.
ج / 7 ص -182-
11 - وعن ابن عباس قال: "قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر
زاد ما زاد".
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. حديث ابن
عباس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده
ثقات.
قوله: "ليسوا
بشيء" معناه بطلان قولهم وأنه لا حقيقة له
قال النووي: وفيه جواز إطلاق هذا اللفظ على
ما كان باطلا انتهى وذلك لأنه لعدم نفقه
كالمعدوم الذي لا وجود له.
قوله: "تلك الكلمة
من الحق يخطفها" بفتح الطاء المهملة على
المشهور وبه جاء القرآن وفي لغة قليلة كسرها
ومعناه استرقه وأخذه بسرعة.
قوله: "فيقرها"
بفتح الياء التحتية وضم القاف وتشديد الراء
قال أهل اللغة: والغريب القر ترديدك الكلام
في أذن المخاطب حتى يفهمه تقول قررته فيه أقره
قرًا.
قال الخطابي وغيره:
معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن
فتسمعها الشياطين. وفي رواية للبخاري يقرها
في أذنه كما تقر القارورة. وفي رواية لمسلم
فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة بفتح القاف من
قر والدجاجة بالدال هي الحيوان المعروف أي
صوتها عند مجاوبتها لصواحبها.
قال الخطابي:
وفيه وجه آخر وهو أن تكون الرواية قر الزجاجة
بالزاي يدل عليه رواية البخاري المتقدمة بلفظ
كما تقر القارورة فإن ذكر القارورة يدل على أن
الرواية الزجاجة بالزاي. قال القاضي عياض:
أما مسلم فلم تختلف الرواية عنه أنها الدجاجة
بالدال لكن رواية القارورة تصحح الزجاجة قال
القابسي: معناه يكون لما يلقيه إلى وليه حس
كحس القارورة عند تحريكها على اليد أو على
صفا.
قوله: "يخلطون" في
رواية لمسلم: "يقرفون"
بالراء قال النووي: هذه اللفظة ضبطوها على
وجهين أحدهما بالراء والثاني بالذال ووقع في
رواية الأوزاعي وابن معقل بالراء باتفاق النسخ
ومعناه يخلطون فيه الكذب وهو بمعنى يقذفون وفي
رواية يونس يرقون قال القاضي عياض: ضبطناه
عن شيوخنا بضم الياء وفتح الراء وتشديد القاف
قال ورواه بعضهم بفتح الياء وإسكان الراء قال
في المشارق: قال بعضهم صوابه بفتح الياء
وإسكان الراء وفتح القاف وكذا ذكره الخطابي
قال ومعناه يزيدون يقال رقى فلان إلى الباطل
بكسر القاف أي رفعه وأصله من الصعود أي يدعون
فيها فوق ما سمعوا قال القاضي عياض: وقد تصح
الرواية الأولى على تضعيف هذا الفعل
وتكثيره.
قوله: "فقاء كل شيء
في بطنه" فيه متمسك لتحريم ما أخذه الكهان
ممن يتكهنون له وإن دفع ذلك بطيبة من نفسه.
قوله: "من اقتبس"
أي تعلم يقال قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته
والقبس الشعلة من النار واقتباسها الأخذ
منها.
قوله: "اقتبس شعبة
من السحر" أي قطعة فكما أن تعلم السحر
والعمل به حرام فكذا تعلم علم النجوم والكلام
فيه حرام.
قال ابن رسلان في شرح السنن:
والمنهي عنه ما يدعيه أهل التنجيم من علم
الحوادث والكوائن التي لم تقع وستقع في مستقبل
الزمان ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير
الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها وهذا
تعاط لعلم استأثر اللّه بعلمه قال: وأما علم
النجوم الذي يعرف
ج / 7 ص -183-
به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي فغير
داخل فيما نهى عنه ومن المنهي عنه التحدث
بمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الرياح وتغير
الأسعار.
قوله: "زاد ما
زاد" أي زاد من علم النجوم كمثل ما زاد من
السحر والمراد أنه إذا ازداد من علم النجوم
فكأنه ازداد من علم السحر.
وقد علم أن أصل علم
السحر حرام والازدياد منه أشد تحريمًا فكذا
الازدياد من علم التنجيم.
12 - وعن معاوية بن
الحكم السلمي قال: "قلت يا رسول اللّه إني
حديث عهد بجاهلية وقد جاء اللّه بالإسلام فإن
منا رجالا يأتون الكهان قال: فلا تأتهم
قال: ومنا رجال يطيرون قال:
ذلك بشيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم قال: قلت ومنا رجال يخطون قال:
كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك". رواه أحمد ومسلم.
هذا الحديث هو طويل حذف
المصنف رحمه اللّه ما لا تعلق له بالمقام وقد
تقدم في الصلاة طرف منه وفي العتق طرف آخر.
قوله: "فلا تأتهم"
فيه النهي عن إتيان الكهان وقد تقدم الكلام
على ذلك.
قوله: "يطيرون"
بفتح التحتية في أوله وتشديد الطاء المهملة
وأصله يتطيرون أدغمت التاء الفوقية في الطاء
والتطير التشؤم وأصله الشيء المكروه من قول أو
فعل أو مرئي وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح
فينفرون الظباء والطيور فإن أخذت ذات اليمين
تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم وإن أخذت
ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا
فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم
فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس
له تأثير ينفع ولا يضر. وقد أخرج أبو داود
والترمذي وصححه ابن ماجه من حديث ابن مسعود عن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"الطيرة شرك ثلاث مرات وما منا إلا ولكن
اللّه يذهبه بالتوكل" قال الخطابي: قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري كان سليمان بن
حرب ينكر هذا ويقول هذا الحرف ليس قول رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكأنه قول ابن
مسعود. وحكى الترمذي عن البخاري عن سليمان
بن حرب نحو هذا وأن الذي أنكره هو وما منا.
قال المنذري: الصواب ما قاله البخاري وغيره
أن قوله وما منا الخ من كلام ابن مسعود.
قال الحافظ أبو القاسم
الأصبهاني والمنذري وغيرهما في الحديث إضمار
أي وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك
يعني قلوب أمته وقيل معناه ما منا إلا من
يعتريه التطير وتسبق إلى قلبه الكراهة فحذف
اختصارًا واعتمادًا على فهم السامع وهذا هو
معنى ما وقع في حديث الباب قال ذلك بشيء
يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم.
قال النووي في شرح مسلم:
معناه أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة
ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم
عزمتم عليه قبل هذا انتهى. وإنما جعل الطيرة
من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب
لهم نفعًا أو يدفع عنهم ضررًا إذا عملوا
بموجبه فكأنهم أشركوه
ج / 7 ص -184-
مع اللّه تعالى ومعنى إذهابه بالتوكل أن ابن
آدم إذا تطير وعرض له خاطر من التطير أذهبه
اللّه بالتوكل والتفويض إليه وعدم العمل بما
خطر من ذلك فمن توكل سلم ولم يؤاخذه اللّه بما
عرض له من التطير.
وأخرج الشيخان وأبو داود
من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" فقال أعرابي: ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها
البعير الأجرب فيجربها قال: فمن أعدى الأول
قال معمر قال الزهري فحدثني رجل عن أبي هريرة
أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
"لا يوردن ممرض على مصح"
قال: فراجعه الرجل فقال: أليس قد حدثتنا
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"لا عدوى ولا صفر ولا هامة" قال:
"لم أحدثكموه" قال الزهري: قال أبو سلمة قد حدث به وما سمعت أبا هريرة بشيء
حدثنا قط غيره هذا لفظ أبي داود. وقد أخرج
حديث:
"لا عدوى"
الخ مسلم وأبو داود من طريق العلاء بن عبد
الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه أيضًا أبو
داود من طريق أبي صالح عن أبي هريرة وأخرج
مسلم من طريق جابر قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لا عدوى ولا طيرة ولا
غول"
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن
ماجه عن أنس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح" والفأل الصالح الكلمة الحسنة.
وأخرج أبو داود عن رجل
عن أبي هريرة: "أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال
"أخذنا فالك من فيك"
وأخرج أبو داود عن عروة بن عامر القرشي قال:
"ذكرت الطيرة عند النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال:
أحسنها الفال ولا ترد مسلمًا فإن رأى أحدكم ما
يكره فليقل اللّهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت
ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا
بك"
قال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة لعروة
القرشي تصح. وذكر البخاري وغيره أنه سمع من
ابن عباس فعلى هذا يكون حديثه مرسلًا وقال
النووي في شرح مسلم: وقد صح عن عروة بن عامر
الصحابي رضي اللّه عنه ثم ذكر الحديث وقال في
آخره رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وأخرج أبو داود والنسائي
عن بريدة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان لا يتطير من شيء وكان إذا
بعث غلامًا سأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فرح
به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي
كراهة ذلك في وجهه فإذا دخل قرية سأل عن اسمها
فإن أعجبه اسمها فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه
وإن كره اسمها رؤي كراهة ذلك في وجهه" وأخرج أبو داود عن سعد بن مالك:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يقول: لا هامة ولا
عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي
الفرس والمرأة والدار" وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر
قال: "قال النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم: الشؤم في الدار والمرأة والفرس" وفي رواية لمسلم: "إنما
الشؤم في ثلاث المرأة والفرس والدار"
وفي رواية له: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة"
وفي رواية له أيضًا:
"إن كان الشؤم في شيء ففي الربع والخادم والفرس" وأخرج أبو داود وصححه الحاكم عن أنس قال: "قال رجل يا رسول
اللّه إنا كنا في دار كثير فيها عددنا كثير
فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى
ج / 7 ص -185-
فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
ذروها ذميمة" وأخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد:
"جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقالت دار سكناها والعدد كثير
والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال:
دعوها فإنها ذميمة"
وله شاهد من حديث عبد اللّه بن شداد بن الهاد
أحد كبار التابعين أخرجه عبد الرزاق بإسناد
صحيح.
قال النووي:
اختلف العلماء في حديث الشؤم في ثلاث فقال
مالك رحمه اللّه هو على ظاهره وإن الدار قد
يجعل اللّه تبارك وتعالى سكناها سببًا للضرر
أو الهلاك وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس
أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء اللّه
تعالى. وقال الخطابي: قال كثيرون هو في
معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها
إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره
صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع
ونحوه وطلاق المرأة.
وقال آخرون: شؤم الدار
ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم وشؤم المرأة عدم
ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب وشؤم
الفرس أن لا يغزى عليها وقيل حرانها وغلاء
ثمنها. وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما
فوض إليه وقيل المراد بالشؤم هنا عدم
الموافقة.
قال القاضي عياض:
قال بعض العلماء لهذه الفصول السابقة في
الأحاديث ثلاثة أقسام: أحدها ما لم يقع
الضرر به ولا اطردت به عادة خاصة ولا عامة
فهذا لا يلتفت إليه وأنكر الشرع الالتفات إليه
وهو الطيرة والثاني ما يقع عنده الضرر عمومًا
لا يخصه ونادرًا لا يتكرر كالوباء فلا يقدم
عليه ولا يخرج منه والثالث يخص ولا يعم كالدار
والفرس والمرأة فهذا يباح الفرار منه اهـ
والراجح ما قاله مالك وهو الذي يدل عليه حديث
أنس الذي ذكرنا فيكون حديث الشؤم مخصصًا لعموم
حديث لا طيرة فهو في قوة لا طيرة إلا في هذه
الثلاث وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على
الخاص مع جهل التاريخ وادعى بعضهم أنه إجماع
والتاريخ في أحاديث الطيرة والشؤم مجهول وما
حكاه القاضي عياض في كلامه السابق أن الوباء
لا يخرج منه ولا يقدم عليه فلعله يتمسك بحديث
النهي عن الخروج من الأرض التي ظهر فيها
الطاعون والنهي عن دخولها كما في حديث أسامة
بن زيد عند البخاري ومسلم ومالك في الموطأ
والترمذي قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع
بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها".
وقد أخرج أبو داود عن يحيى بن عبد اللّه بن بحير قال:
"أخبرني من سمع فروة بن مسيك رضي اللّه عنه
قال قلت يا رسول اللّه أرض عندنا يقال لها أرض
أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبئة أو قال
وباؤها شديد فقال النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
دعها عنك فإن من القرف التلف"
اهـ والقرف بفتح القاف والراء بعده فاء وهو
ملابسة الداء ومقاربة الوباء ومداناة المرضى
وكل شيء قاربته فقد قارفته والتلف الهلاك يعني
من قارب متلفًا يتلف إذا لم يكن هواء تلك
الأرض موافقًا له فيتركها.
قال ابن رسلان:
وليس هذا من باب العدوى بل هو من باب الطب فإن
استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة
الأبدان وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى
الأسقام قال: واعلم أن في المنع من الدخول
إلى الأرض الوبئة حكمًا أحدهما تجنب الأسباب
ج / 7 ص -186-
المؤذية والبعد منها. الثاني الأخذ
بالعافية التي هي مادة مصالح المعاش
والمعاد. الثالث أن لا يستنشقوا الهواء الذي
قد عفن وفسد فيكون سببًا للتلف. الرابع أن
لا يجاور المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل له
بمجاورتهم من جنس أمراضهم والحديث يدل على هذا
اهـ.
قال المنذري في مختصر السنن
بعد أن ذكر حديث فروة المذكور ما لفظه: في
إسناده رجل مجهول قال ورواه عبد اللّه بن معاذ
الصنعاني عن معمر بن راشد عن يحيى بن عبد
اللّه بن بحير عن فروة وأسقط المجهول وعبد
اللّه بن معاذ وثقه يحيى بن معين وغيره وكان
عبد الرزاق يكذبه اهـ ورجال إسناد هذا الحديث
ثقات لأنه رواه أبو داود عن مخلد بن خالد شيخ
مسلم وعباس العنبري شيخ البخاري تعليقًا ومسلم
قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر وهما من رجال
الصحيحين عن يحيى بن عبد اللّه ابن بحير ذكره
ابن حبان في الثقات ومما ينبغي أن يجعل مخصصًا
لعموم حديث: "لا عدوى ولا طيرة"
ما أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه في
سننهما من حديث الشريد بن سويد الثقفي قال:
"كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إنا قد بايعناك فارجع".
وأخرج البخاري في صحيحه
تعليقًا من حديث سعيد بن ميناء قال: "سمعت
أبا هريرة يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
لا عدوى ولا طيرة ولا هام ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" ومن ذلك حديث:
"لا يورد ممرض على مصح" الذي قدمناه قال القاضي عياض: قد اختلفت الآثار عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم في قصة المجذوم فثبت عنه
الحديثان المذكوران. وعن جابر أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أكل مع مجذوم وقال له كل
ثقة باللّه تبارك وتعالى وتوكلًا عليه. وعن
عائشة قالت: كان لنا مولى مجذوم يأكل في
صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي.
قال: وقد ذهب عمر
وغيره من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر
باجتنابه منسوخ والصحيح الذي قاله الأكثرون
ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ بل يجب الجمع
بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه
على الاستحباب والاحتياط وأما الأكل معه ففعله
لبيان الجواز واللّه أعلم كذا في شرح مسلم
للنووي. والحديث الذي فيه أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أكل مع المجذوم أخرجه أبو داود
والترمذي وابن ماجه قال الترمذي غريب لا نعرفه
إلا من حديث يوسف بن محمد عن المفضل بن فضالة
وهذا شيخ بصري والمفضل بن فضالة شيخ مصري أوثق
من هذا وأشهر.
وروى شعبة هذا الحديث عن
حبيب بن الشهيد عن أبي بريدة أن عمر أخذ بيد
مجذوم وحديث شعبة أشبه عندي وأصح قال
الدارقطني تفرد به مفضل بن فضالة البصري أخو
مبارك عن حبيب بن الشهيد عنه يعني عن ابن
المنكدر. وقال ابن عدي الجرجاني: لا أعلم
يرويه عن حبيب بن الشهيد غير مفضل بن فضالة
وقالوا تفرد بالرواية عنه يونس بن محمد اهـ.
والمفضل بن فضالة البصري كنيته أبو مالك قال
يحيى بن معين ليس بذاك. وقال النسائي ليس
بالقوي. وقال أبو حاتم يكتب حديثه وذكره ابن
حبان في الثقات.
قال القاضي عياض:
قال بعض العلماء في هذا الحديث وما في معناه
يعني حديث الفرار من المجذوم دليل على أنه
يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا وجدت
زوجها
ج / 7 ص -187-
مجذومًا أو حدث به جذام.
قال النووي: واختلف أصحابنا
وأصحاب مالك في أن أمته هل لها منع نفسها من
استمتاعه إذا أرادها
قال القاضي: قالوا ويمنع من
المسجد والاختلاط بالناس قال وكذلك اختلفوا في
أنهم إذا كثروا هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم
موضعًا منفردًا خارجًا عن الناس ولا يمنعون من
التصرف في منافعهم وعليه أكثر الناس أم لا
يلزمهم التنحي قال ولم يختلفوا في القليل منهم
يعني في أنهم لا يمنعون قال ولا يمنعون من
صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها قال:
ولو استضر أهل قرية فيهم جذمي بمخالطتهم في
الماء فإن قدروا على استنباط ماء بلا ضرر
أمروا به وإلا استنبطه لهم الآخرون أو أقاموا
من يستقي لهم وإلا فلا يمنعون.
قال النووي في شرح مسلم: في
حديث
"لا يورد ممرض
على مصح" قال العلماء الممرض صاحب الإبل المراض والمصح صاحب الإبل الصحاح
فمعنى الحديث لا يورد صاحب الإبل المراض إبله
على إبل صاحب الإبل الصحاح لأنه ربما أصابها
المرض بفعل اللّه تعالى وقدره الذي أجرى به
العادة لا بطبعها فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها
وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوى
بطبعها فيكفر واللّه أعلم انتهى. وأشار إلى
نحو هذا الكلام ابن بطال. وقيل النهي ليس
للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة ونحوها
حكاه ابن رسلان في شرح السنن وقال ابن
الصلاح: ووجه الجمع أن هذه الأمراض لا تعدي
بطبعها لكن اللّه سبحانه جعل مخالطة المريض
للصحيح سببًا لإعدائه مرضه ثم قد يتخلف ذلك عن
سببه كما في غيره من الأسباب.
قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة
والأولى في الجمع أن يقال إن نفيه صلى اللّه
عليه وآله وسلم للعدوى باق على عمومه وقد صح
قوله لا يعدي شيء شيئًا.
وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن عارضه
"بأن البعير الأجرب يكون بين الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب حيث رد
عليه" بقوله
"فمن أعدى الأول"
يعني أن اللّه سبحانه ابتدأ ذلك في الثاني كما
ابتدأه في الأول قال وأما الأمر بالفرار من
المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص
الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير اللّه تعالى
ابتداء لا بالعدوى المنفية فيظن أن ذلك بسبب
مخالطته فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج فأمر
بتجنبه حسمًا للمادة انتهى. والمناسب للعمل
الأصولي في هذه الأحاديث المذكورة في الباب هو
أن يبني عموم لا عدوى ولا طيرة على الخاص وهو
ما قدمنا من حديث الشؤم في ثلاث. وحديث فر
من المجذوم. وحديث لا يورد ممرض على مصح وما
في معناها وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة
في جواب سؤال سميناه إتحاف المهرة بالكلام على
حديث لا عدوى ولا طيرة1 قوله: "ومنا رجال
يخطون" قال ابن عباس في تفسير هذا الخط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 [قال العلامة ابن القيم في حديث فر من
المجذوم وحديث لا عدوى ولا طيرة فالحديثان
صحيحان ولا نسخ ولا تعارض بينهما بحمد اللّه
بل كل منهما له وجه. وقد طعن أعداء السنة في
أهل الحديث وقالوا يروون الأحاديث التي ينقض
بعضها بعضًا ثم يصححونها والأحاديث التي تخالف
العقل فانتدب أنصار السنة للرد عليهم ونفي
التعارض عن الأحاديث الصحيحة وبيان موافقتها
للعقل. قال الإمام أبو محمد ابن قتيبة في
كتابه تأويل مختلف الحديث: قالوا حديثان
متناقضان قالوا رويتم عن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أنه قال
"لا عدوى ولا طيرة" وأنه قيل
له النقبة تضع بمشفر البعير فتجرب لذلك فقال
فمن أعدى الأول هذا أو معناه ثم رويتم في خلاف
ذلك لا يورد ذو عاهة على مصح. وفر من
المجذوم فرارك من الأسد. وأتاه رجل مجذوم
ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه البيعة وأمره
بالانصراف ولم يأذن له وقال الشؤم في المرأة
والدار والدابة قالوا وهذا كله مختلف لا يشبه
بعضه بعضًا. قال أبو محمد: ونحن نقول إنه
ليس في هذا اختلاف ولكل واحد معنى في وقت
وموضع فإذا وضع موضعه زال الاختلاف واللّه
أعلم].
ج / 7 ص -188-
هو الخط الذي يخطه الحازي. والحازي بالحاء
المهملة والزاي هو الحزاء وهو الذي ينظر في
المغيبات بظنه فيأتي صاحب الحاجة إلى الحازي
فيعطيه حلوانًا فيقول له اقعد حتى أخط لك وبين
يدي الحازي غلام له معه مثل ثم يأتي إلى أرض
رخوة فيخط فيها خطوطًا كثيرة في أربعة أسطر
عجلا ثم يمحو منها على مهل خطين خطين فإن بقي
خطان فهو علامة النجح وإن بقي خط واحد فهو
علامة الخيبة هكذا في شرح السنن لابن رسلان.
قال وهذا علم معروف فيه
للناس تصانيف كثيرة وهو معمول به إلى الآن
ويستخرجون به الضمير. وقال الحربي: الخط
في الحديث هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن
ويقول يكون كذا وكذا وهو ضرب من الكهانة.
قوله: "كان نبي من
الأنبياء يخط" قيل هو إدريس عليه السلام حكى
مكي في تفسيره أن هذا النبي كان يخط بإصبعيه
السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر.
قوله: "فمن وافق خطه
فذاك" بنصب الطاء على المفعولية والفاعل
ضمير يعود إلى لفظ من.
قال الخطابي:
هذا يحتمل الزجر عنه إذا كان علمًا لنبوته وقد
انقطعت فنهينا عن التعاطي لذلك قال القاضي
عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا وتصويب خط
من يوافق خطه لكن من أين تعلم الموافقة والشرع
منع من ادعاء الغيب جملة وإنما معناه من وافق
خطه فذاك الذي تجدون إصابته لا أنه لا يريد
إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم اهـ.
ولو قيل إن قوله فذاك يدل على الجواز لكان
جوازه مشروطًا بالموافقة ولا طريق إليها متصلة
بذلك النبي فلا يجوز التعاطي.
باب قتل من
صَرَّحَ بسب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
دون من عَرَّضَ
1 - عن الشعبي عن أمير
المؤمنين علي رضي اللّه عنه: "أن يهودية
كانت تشتم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذمتها".
رواه أبو داود.
2 - وعن ابن عباس:
"أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وتقع فيه فينهاها فلا
تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة
جعلت تقع في النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وتشتمه فأخذ المعول فجعله في بطنها واتكأ عليه
فقتلها فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فجمع الناس
ج / 7 ص -189-
فقال
أنشد اللّه رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا
قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل حتى
قعد بين يدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال يا رسول اللّه أنا صاحبها كانت تشتمك
وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر
ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة
فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت
المعول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى
قتلتها فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
ألا أشهدوا أن دمها هدر". رواه أبو داود والنسائي واحتج به أحمد في رواية أبيه عبد
اللّه.
3 - وعن أنس قال: "مر يهودي برسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال السام عليك
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
وعليك فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
أتدرون ما يقول قال السام عليك قالوا يا
رسول اللّه ألا نقتله قال
لا إذا سلم عليكم أهل
الكتاب فقولوا وعليكم". رواه
أحمد والبخاري. وقد سبق أن ذا الخويصرة قال
يا رسول اللّه اعدل وأنه منع من قتله.
حديث الشعبي عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه
عنه سكت عنه أبو داود وقال المنذري: ذكر أن
الشعبي سمع من أمير المؤمنين علي رضي اللّه
عنه وقال غيره أنه رآه ورجال إسناد الحديث
رجال الصحيح. وحديث ابن عباس سكت عنه أيضًا
أبو داود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ
المرام: إن رواته ثقات.
والحديث الذي أشار إليه المصنف أعني قوله قال
رسول اللّه اعدل قد تقدم في باب قتال
الخوارج.
- وفي الباب - عن أبي برزة عند أبي داود
والنسائي "قال: كنت عند أبي بكر فتغيظ
عليّ رجل فاشتد غضبه فقلت أتأذن لي يا خليفة
رسول اللّه أضرب عنقه قال فأذهبت كلمتي غضبه
فقام فدخل فأرسل إلي فقال ما الذي قلت آنفًا
قلت ائذن لي أضرب عنقه قال أكنت فاعلا لو
أمرتك قلت نعم قال لا واللّه ما كان لبشر بعد
محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم" وفي حديث
ابن عباس وحديث الشعبي دليل على أنه يقتل من
شتم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد نقل
ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم صريحًا وجب قتله ونقل
أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب
الإجماع أن من سب النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو
تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد
القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال كفر
بالسب فسقط القتل بالإسلام وقال الصيدلاني
يزول القتل ويجب حد القذف.
قال الخطابي: لا أعلم
خلافًا في وجوب قتله إذا كان مسلمًا وقال ابن
بطال: اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فأما أهل العهد والذمة
كاليهود فقال ابن القاسم
ج / 7 ص -190-
عن مالك يقتل من سبه صلى اللّه عليه وآله
وسلم منهم إلا أن يسلم وأما المسلم فيقتل بغير
استتابة ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي
وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه.
وروي عن الأوزاعي ومالك
في المسلم أنها ردة بستتاب منها وعن الكوفيين
إن كان ذميًا عزر وإن كان مسلمًا فهي ردة وحكى
عياض خلافًا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم
التصريح أو لمصلحة التأليف ونقل عن بعض
المالكية أنه لم يقتل اليهود الذين كانوا
يقولون له السام عليك لأنهم لم تقم عليهم
البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه
وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك
قتلهم وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل
على الدعاء بالموت الذي لا بد منه ولذلك قال
في الرد عليهم وعليكم أي الموت نازل علينا
وعليكم فلا معنى للدعاء به أشار إلى ذلك
القاضي عياض وكذا من قال السأم بالهمز بمعنى
السآمة هو دعاء بأن يملوا الدين وليس بصريح في
السب وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من
ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض
بذلك عهده محل تأمل واحتج الطحاوي لأصحابه
بحديث أنس المذكور في الباب وأيده بأن هذا
الكلام لو صدر من مسلم لكانت ردة وأما صدوره
من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد فلذلك
لم يقتلهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في
العهد أنهم يسبون النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فمن سبه منهم تعدى العهد فينتقض فيصير
كافرًا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده
أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به
لكانوا لو قتلوا مسلمًا لم يقتلوا لأن من
معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم
أحد مسلمًا قتل فإن قيل إنما يقتل بالمسلم
قصاصًا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم ولو سب ثم
أسلم لم يقتل قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم
يتعلق بحق آدمي فلا يهدر وأما السب فإن وجوب
القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام
والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة
التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أو لهما
جميعًا وهو أولى كما قال الحافظ.
أبواب أحكام
الردة والإسلام
باب قتل المرتد
1ـ عن عكرمة قال:
"أتي أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه
بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو
كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
لا تعذبوا بعذاب اللّه ولقتلتهم
ج / 7 ص -191-
لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه." رواه الجماعة إلا مسلمًا وليس لابن ماجه فيه سوى:
"من بدل دينه فاقتلوه".
وفي حديث أبي موسى أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له:
اذهب إلى اليمن
ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له
وسادة وقال انزل وإذا رجل عنده موثق قال: ما
هذا قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود قال:
لا أجلس حتى يقتل قضاء اللّه ورسوله".
متفق عليه. وفي رواية لأحمد:
"قضى اللّه ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه".
ولأبي داود في هذه القصة: "فأتي أبو موسى برجل قد ارتد عن
الإسلام فدعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها فجاء
معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه".
2ـ وعن محمد بن عبد
اللّه بن عبد القاري قال: "قدم على عمر بن
الخطاب رجل من قبل أبي موسى فسأله عن الناس
فأخبره ثم قال: هل من مغربة خبر قال: نعم
كفر رجل بعد إسلامه قال: فما فعلتم به
قال: قربناه فضربنا عنقه فقال عمر: هلا
حبستموه ثلاثًاوأطعمتموه كل يوم رغيفًا
واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر اللّه اللّهم
لم أحضر ولم أرض إذ بلغني". رواه
الشافعي.
ـ أثر عمر أخرجه أيضًا
مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد
اللّه ابن عبد القاري عن أبيه قال الشافعي من
لا يتأنى بالمرتد زعموا أن هذا الأثر عن عمر
ليس بمتصل ورواه البيهقي من حديث أنس قال لما
نزلنا على تستر فذكر الحديث وفيه فقدمت على
عمر رضي اللّه عنه فقال يا أنس ما فعل الستة
الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام
فلحقوا بالمشركين قال يا أمير المؤمنين قتلوا
بالمعركة فاسترجع عمر قلت وهل كان سبيلهم إلا
القتل قال نعم قال كنت أعرض عليهم الإسلام فإن
أبوا أودعتهم السجن ـ وفي الباب ـ عن جابر:
ـ أن امرأة أم رومان ـ وفي
ج / 7 ص -192-
التلخيص أن الصواب أم مروان ارتدت فأمر
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن يعرض
عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت. أخرجه
الدارقطني والبيهقي من طريقين وزاد في أحدهما
فأبت أن تسلم فقتلت قال الحافظ: وإسنادهما
ضعيفان وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن
عائشة أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت". وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر أنه صلى اللّه عليه وآله
وسلم استتاب رجلا أربع مرات وفي إسناده العلاء
بن هلال وهو متروك عن عبد اللّه بن محمد بن
عقيل عن جابر. ورواه البيهقي من وجه آخر من
حديث عبد اللّه بن وهب عن الثوري عن رجل عن
عبد اللّه بن عبيد بن عمير مرسلا وسمى الرجل
نبهان.
وأخرج الدارقطني
والبيهقي أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم
قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها. قال
الحافظ: وفي السير أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قتل أم قرفة يوم قريظة وهي غير
تلك.
وفي الدلائل عن أبي نعيم
أن زيد بن ثابت قتل أم قرفة في سريته إلى بني
فزازة.
قوله: "بزنادقة"
بزاي ونون قاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون
ثانيه. قال أبو حاتم السجستاني وغيره:
الزنديق فارسي معرب أصله زنده كرد أي يقول
بدوام الدهر لأن زنده الحياة وكرد العمل ويطلق
على من يكون دقيق النظر في الأمور وقال
ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق وإنما يقال
زندقي لمن يكون شديد التحيل وإذا أرادوا ما
تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي
يقول بدوام الدهر وإذا قالوها بالضم أرادوا
كبر السن وقال الجوهري: الزنديق من الثنوية
وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي مع اللّه
إلهًا آخر وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل
مشرك
قال الحافظ:
والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل والنحل أن
أصل الزندقة إتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك
الأول بفتح الدال المهملة وسكون التحتية بعدها
صاد مهملة والثاني بتشديد النون وقد تخفف
والياء خفيفة والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة
مفتوحة ثم كاف ـ وحاصل ـ مقالتهم أن النور
والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله
منهما فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن
كان من أهل الخير فهو من النور وأنه يجب أن
يسعى في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل
نفس وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر
عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل
أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور
وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك
وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل فهذا أصل
الزندقة.
وأطلق جماعة من الشافعية
الزندقة على من يظهر الإسلام ويخفي الكفر
مطلقًا وقال النووي في الروضة: الزنديق الذي
لا ينتحل دينًا.
وقد اختلف الناس في
الذين وقع لهم مع أمير المؤمنين علي رضي اللّه
عنه ما وقع وسيأتي.
قوله: "لنهي رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
"لا تعذبوا بعذاب اللّه" أي لنهيه عن القتل بالنار بقوله
"لا تعذبوا بعذاب اللّه"
وهذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويحتمل أن
يكون سمعه من بعض الصحابة. وقد أخرج البخاري
من حديث أبي هريرة حديثًا وفيه:
"وإن
ج / 7 ص -193-
النار لا يعذب بها إلا اللّه" ذكره البخاري في الجهاد. وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود في
قصة بلفظ:
"وإنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب
النار".
قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" هذا ظاهره العموم في كل من
وقع منه التبديل ولكنه عام يخص منه من بدله في
الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري
عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في
الظاهر ولكن مع الإكراه هكذا في الفتح قال
فيه: واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد
وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهي عن
قتل النساء وحمل الجمهور النهي على الكافرة
الأصلية إذا لم تباشر القتال لقوله في بعض طرق
حديث النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة
مقتولة ما كانت هذه لتقاتل ثم نهى عن قتل
النساء واحتجوا بأن من الشرطية لا تعم المؤنث
وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر وقد قال بقتل
المرتدة وقتل أبو بكر الصديق في خلافته امرأة
ارتدت كما تقدم والصحابة متوافرون فلم ينكر
عليه أحد ذلك واستدلوا أيضًا بما وقع في حديث
معاذ: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له أيما
رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب
عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن
عادت وإلا فاضرب عنقها" قال الحافظ: وسنده حسن وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه
ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها
الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف ومن صور
الزنا رجم المحصن حتى يموت فإن ذلك مستثنى من
النهي عن قتل النساء فيستثنى قتل المرتدة
مثله.
ـ واستدل ـ بالحديث بعض
الشافعية على أنه يقتل من انتقل من ملة من ملل
الكفر إلى ملة أخرى وأجيب بأن الحديث متروك
الظاهر فيمن كان كافرًا ثم أسلم اتفاقًا مع
دخوله في عموم الخبر فيكون المراد من بدل دينه
الذي هو دين الإسلام لأن الدين في الحقيقة هو
دين الإسلام قال اللّه تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} ويؤيده أن الكفر ملة واحدة فإذا انتقل الكافر من ملة كفرية إلى
أخرى مثلها لم يخرج عن دين الكفر ويؤيده أيضًا
قوله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
وقد ورد في بعض طرق
الحديث ما يدل على ذلك فأخرج الطبراني من وجه
آخر عن ابن عباس رفعه:
"من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه"
واستدل بالحديث المذكور في الباب على أنه يقتل
الزنديق من غير استتابة وتعقب بأنه وقع في بعض
طرق الحديث أن أمير المؤمنين عليًا رضي اللّه
عنه كما في الفتح من طريق عبد اللّه بن شريك
العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا قومًا
على باب المسجد يزعمون أنك ربهم فدعاهم فقال
لهم ويلكم ما تقولون قالوا أنت ربنا وخالقنا
ورازقنا قال ويلكم إنما أنا عبد مثلكم أكل
الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعت
اللّه أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني
فاتقوا اللّه وارجعوا فأبوا فلما كان الغد
غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد واللّه رجعوا
يقولون ذلك الكلام فقال أدخلهم فقالوا كذلك
فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم
بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك فأمر علي أن يخد لهم
ج / 7 ص -194-
أخدود بين باب المسجد والقصر وأمر بالحطب أن
يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم إني
طارحكم فيها أو ترجعوا فأبوا أن يرجعوا فقذف
بهم حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرًا
منكرًا ** أوقدت ناري ودعوت قنبرا
قال الحافظ:
إن إسناد هذا صحيح وزعم أبو مظفر الإسفرايني
في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي رضي
اللّه عنه طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية
وهم السبئية وكان كبيرهم عبد اللّه بن سبأ
يهوديًا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة
وأما ما رواه ابن أبي شيبة أنهم أناس كانوا
يعبدون الأصنام في السر فسنده منقطع فإن ثبت
حمل على قصة أخرى وقد ذهب الشافعي إلى أنه
يستتاب الزنديق كما يستتاب غيره. وعن أحمد
وأبي حنيفة روايتان إحداهما لا يستتاب والأخرى
إن تكرر منه لم تقبل توبته وهو قول الليث
وإسحاق. وحكي عن أبي إسحاق المروزي من أئمة
الشافعية قال الحافظ: ولا يثبت عنه بل قيل
إنه تحريف من إسحاق بن راهويه والأول هو
المشهور عن المالكية. وحكي عن مالك أنه إن
جاء تائبًا قبل وإلا فلا وبه قال أبو يوسف
واختاره أبو إسحاق الإسفرايني وأبو منصور
البغدادي وعن جماعة من الشافعية إن كان داعية
لم يقبل وإلا قبل وحكي في البحر عن العترة
وأبي حنيفة والشافعي ومحمد أنها تقبل توبة
الزنديق لعموم
{إِنْ يَنْتَهُوا}.
وعن مالك وأبي يوسف
والجصاص لا تقبل إذ يعرف منهم التظهر تقية
بخلاف ما ينطقون به قال المهدي فيرتفع الخلاف
حينئذ فيرجع إلى القرائن لكن الأقرب العمل
بالظاهر وإن التبس الباطن لقوله صلى اللّه
عليه وآله وسلم لمن يستأذنه في قتل منافق:
"أليس يشهد أن لا إله إلا اللّه"
الخبر ونحوه اهـ.
قال في الفتح:
واستدل من منع من قبول توبة الزنديق بقوله
تعالى {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} فقال: الزنديق لا يطلع على إصلاحه لأن الفساد إنما أتى مما أسره
فإذا أطلع عليه وأظهر الإقلاع عنه لم يرد على
ما كان عليه ولقوله تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وأجيب بأن المراد من مات منهم على ذلك كما فسره ابن عباس أخرجه
عنه ابن أبي حاتم وغيره. واستدل لمن قال
بالقبول بقوله تعالى
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فدل على أن إظهار الإيمان يحصن من القتل قال الحافظ: وكلهم
أجمعوا على أن أحكام الدنياعلى الظاهر واللّه
يتولى السرائر وقد قال صلى اللّه عليه وآله
وسلم لأسامة:
"هلا شققت عن قلبه" وقال للذي ساره في قتل رجل: "أليس يصلي
قال نعم قال أولئك الذين نهيت عن قتلهم"
وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لخالد لما
استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة:
"إني لم أؤمر بأن أنقب عن قلوب الناس" وهذه الأحاديث في الصحيح والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قوله: "ثم أتبعه"
بهمزة ثم مثناة ساكنة.
قوله: "معاذ بن
جبل" بالنصب أي بعثه بعده ظاهره أنه ألحقه
به بعد أن توجه ووقع في بعض النسخ واتبعه
بهمزة وصل وتشديد المثناة ومعاذ بالرفع.
قوله: "فلما قدم
عليه" في البخاري في كتاب المغازي أن كلا
منهما كان على عمل مستقل وأن كلا منهما كان
إذا سار في أرضه بالقرب من صاحبه أحدث به
عهدًا وفي أخرى
ج / 7 ص -195-
له فجعلا يتزاوران.
قوله: "وسادة" هي
ما تجعل تحت رأس النائم كذا قال النووي قال
وكان من عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا
الوسادة تحته مبالغة في إكرامه.
قوله: "وإذا رجل
عنده" الخ هي جملة حالية بين الأمر والجواب
قال الحافظ: ولم أقف على اسمه.
قوله: "قضاء
اللّه" خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب.
قوله: "فضرب عنقه"
في رواية للطبراني فأتى بحطب فألهب فيه النار
فكتفه وطرحه فيها ويمكن الجمع بأنه ضرب عنقه
ثم ألقاه في النار.
قوله: "هل من مغربة
خبر" بضم الميم وسكون الغين المعجمة وكسر
الراء وفتحها مع الإضافة فيهما معناه هل من
خبر جديد من بلاد بعيدة قال الرافعي: شيوخ
الموطأ فتحوا الغين وكسروا الراء وشددوها.
قوله: "هلا
حبستموه" الخ وكذلك قوله في الحديث الأول
فدعاه عشرين ليلة الخ استدل بذلك من أوجب
الاستتابة للمرتد قبل قتله وقد قدمنا في أول
الباب ما في ذلك من الأدلة قال ابن بطال:
اختلفوا في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن
تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور وقيل يجب قتله
في الحال وإليه ذهب الحسن وطاوس وبه قال أهل
الظاهر ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن
عمير وعليه يدل تصرف البخاري فإنه استظهر
بالآيات التي لا ذكر فيها للاستتابة التي فيها
أن التوبة لا تنفع وبعموم قوله "من
بدل دينه فاقتلوه"
وبقصة معاذ المذكورة ولم يذكر غير ذلك.
قال الطحاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام
حكم الحربي الذي بلغته الدعوى فإنه يقاتل من
قبل أن يدعى قالوا وإنما تشرع الاستتابة لمن
خرج عن الإسلام لا عن بصيرة فأما من خرج عن
بصيرة فلا ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن إن
جاء مبادرًا بالتوبة خلي سبيله ووكل أمره إلى
اللّه.
وعن ابن عباس إن كان
أصله مسلمًا لم يستتب وإلا استتيب واستدل ابن
القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي
لأن عمر كتب في أمر المرتد هلا حبستموه ثلاثة
أيام ثم ذكر الأثر المذكور في الباب ثم قال
ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم من بدل دينه
فاقتلوه أي إن لم يرجع وقد قال تعالى {فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.
واختلف القائلون
بالاستتابة هل يكتفي بالمرة أم لا بد من ثلاث
وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة
أيام ونقل ابن بطال عن أمير المؤمنين علي رضي
اللّه عنه أنه يستتاب شهرًا وعن النخعي يستتاب
أبدًا.
باب ما يصير به
الكافر مسلمًا
1ـ عن ابن مسعود قال:
"إن اللّه عز وجل ابتعث نبيه لإدخال رجل
الجنة فدخل الكنيسة فإذا يهود وإذا يهودي يقرأ
عليهم التوراة فلما أتوا على صفة النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أمسكوا وفي ناحيتها رجل
مريض فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
ما لكم أمسكتم فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي
ج / 7 ص -196-
فأمسكوا ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة
فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وأمته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك
أشهد أن لا اله إلا اللّه وأنك رسول اللّه
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
لأصحابه:
لوا أخاكم". رواه أحمد.
2ـ وعن أبي صخر العقيلي
قال: "حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت
جلوبة إلى المدينة في حياة رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فلما فرغت من بيعتي قلت
لألقين هذا الرجل ولأسمعن منه قال: فتلقاني
بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم في أقفائهم
حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة
يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت
كأحسن الفتيان وأجمله فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك
هذا صفتي ومخرجي"
فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه أي واللّه
الذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك
ومخرجك أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول
اللّه فقال:
"أقيموا اليهودي عن أخيكم ثم ولى دفنه وجننه والصلاة عليه". رواه أحمد.
3ـ وعن أنس: "أن
يهوديًا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم: أشهد أنك رسول اللّه ثم مات فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"صلوا على صاحبكم".
رواه أحمد في رواية مهنا محتجًا به.
4ـ وعن ابن عمر قال:
"بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى
الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا
يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع
إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا أصبح أمر خالد
أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت واللّه لا أقتل
أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا
على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
"اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين".
رواه أحمد والبخاري وهو
دليل على أن الكناية مع النية كصريح لفظ
الإسلام.
ـ حديث ابن مسعود أخرجه
أيضًا الطبراني قال في مجمع الزوائد: في
إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط.
وحديث أبي صخر العقيلي
قال في مجمع الزوائد: أبو صخر لم أعرفه
وبقية رجاله
ج / 7 ص -197-
رجال الصحيح. وقال ابن حجر في المنفعة:
قلت اسمه عبد اللّه بن قدامة وهو مختلف في
صحبته وجزم البخاري ومسلم وابن حبان وغيرهم
بأن له صحبة ثم ذكر ابن حجر في المنفعة
الاضطراب في إسناده.
وحديث أنس قال في مجمع
الزوائد: أخرجه أبو يعلى بإسناد رجاله رجال
الصحيح والأحاديث المذكورة في الباب بعضها
يشهد لبعض وقد ورد في معناها أحاديث. منها
ما أخرجه في الموطأ عن رجل من الأنصار:
"أنه جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم بجارية له فقال: يا رسول اللّه علي
رقبة مؤمنة أفأعتق هذه فقال لها رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
أتشهدين أن لا إله إلا اللّه
قالت: نعم قال: أتشهدين أن محمدًا رسول اللّه قالت: نعم قال:
أتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت: نعم قال:
أعتقها"
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث الشريد بن
سويد الثقفي: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال لجارية:
من ربك قالت: اللّه قال:
فمن أنا قالت: رسول اللّه قال:
أعتقها فإنها مؤمنة" وأخرج مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود
والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
لجارية أراد معاوية بن الحكم أن يعتقها عن
كفارة:
أين اللّه
فقالت: في السماء فقال:
من أنا
قالت: أنت رسول اللّه فقال:
أعتقها" وأخرج نحوه أبو داود من حديث أبي هريرة ومثل ذلك أحاديث
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه" كما في الأمهات عن جماعة من الصحابة.
قوله: "ابتعث اللّه
نبيه" أي بعثه اللّه من بيته ليحصل بذلك
إدخال رجل الجنة وهو الرجل المريض في الكنيسة
فإن دخوله صلى اللّه عليه وآله وسلم إليها كان
سبب إسلامه الذي صار سببًا في دخوله الجنة.
قوله: "لوا أخاكم"
فيه الأمر لمن كان من المسلمين في حضرته صلى
اللّه عليه وآله وسلم بأن يلوا أمر ذلك الرجل
المريض لأنه قد صار بسبب تكلمه بالشهادتين أخا
لهم.
قوله: "وجننه"
الجنن بالجيم ونونين القبر ذكره في النهاية.
قوله: "صبأنا
صبأنا" أي دخلنا في دين الصابئة وكان أهل
الجاهلية يسمون من أسلم صابئًا وكأنهم قالوا
أسلمنا أسلمنا والصابئ في الأصل الخارج من دين
إلى دين قال في القاموس: صبأ كمنع وكرم صبأ
وصبوأ خرج من دين إلى دين اهـ.
قوله: "مما صنع
خالد" تبرأ صلى اللّه عليه وآله وسلم من صنع
خالد ولم يتبرأ منه وهكذا ينبغي أن يقال لمن
فعل ما يخالف الشرع ولا سيما إذا كان خطأ وقد
استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير
الكافر مسلمًا بالتكلم بالشهادتين ولو كان ذلك
على طريق الكناية بدون تصريح كما وقع في
الحديث الآخر.
وقد وردت أحاديث صحيحة
قاضية بأن الإسلام مجموع خصال. أحدها التلفظ
بالشهادتين منها حديث ابن عمر عند مسلم وأبي
داود والترمذي والنسائي قال حدثني عمر بن
الخطاب قال: "بينما نحن جلوس عند رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم إذ
طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد
الشعر" وفيه: "فقال: يا محمد أخبرني
عن الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم
الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول
اللّه وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان
وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" ومنها ما أخرجه الشيخان وأبو داود
والنسائي من حديث أبي هريرة وفيه: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: الإسلام أن تعبد اللّه لا تشرك به شيئًا وتقيم
الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم
رمضان" ومنها ما أخرجه
ج / 7 ص -198-
الشيخان والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا عبده ورسوله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم
رمضان" ومنها ما أخرجه الشيخان ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي من
حديث طلحة ابن عبد اللّه: "أنه جاء إلى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رجل
فسأله عن الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام رمضان" وذكر له الزكاة. وأخرج النسائي عن بهز بن حكيم: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن آيات الإسلام
فقال أن تقول أسلمت وجهي وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة" وأخرج النسائي عن أنس بن مالك قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن
من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن العاص: "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وأخرج مسلم من حديث جابر والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث
أبي موسى نحو ذلك. وأخرج الشيخان من حديث
عبد اللّه بن عمر قال: "قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول
اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا
فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم إلا بحق الإسلام
وحسابهم على اللّه تعالى"
وأخرج البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي من
حديث أنس: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا
اللّه وأن محمدًا رسول اللّه فإذا شهدوا أن لا
إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه
واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا
حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها"
ولفظ البخاري: "من شهد أن لا إله إلا اللّه واستقبل قبلتنا
وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما
للمسلم وعليه ما على المسلم".
فهذه الأحاديث ونحوها
تدل على أن الرجل لا يكون مسلمًا إلا إذا فعل
جميع الأمور المذكورة فيها. والأحاديث
الأولى تدل على أن الإنسان يصير مسلمًا بمجرد
النطق بالشهادتين. قال الحافظ في الفتح عند
الكلام على حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه" في باب قتل من أبى من قبول الفرائض من كتاب استتابة المرتدين
والمعاندين ما لفظه: وفيه منع قتل من قال لا
إله إلا اللّه ولو لم يزد عليها وهو كذلك لكن
هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا الراجح لا بل يجب
الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة
والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه وإلى ذلك
الإشارة بالاستثناء بقوله إلا بحق الإسلام.
قال البغوي:
الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يقر
بالوحدانية فإذا قال لا إله إلا اللّه حكم
بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع الأحكام ويبرأ
من كل دين خالف الإسلام وأما من كان مقرًا
بالوحدانية منكرًا للنبوة فإنه لا يحكم
بإسلامه حتى يقول محمد رسول اللّه فإن كان
يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا
بد أن يقول إلى جميع الخلق فإن كان كفره بجحود
واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن
اعتقاده.
قال الحافظ:
ومقتضى قوله يجبر أنه إذا لم يلتزم يجري عليه
حكم المرتد وبه صرح القفال واستدل بحديث
ج / 7 ص -199-
الباب وادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول
اللّه"
وهي غفلة عظيمة فإن ذلك ثابت في الصحيحين في
كتاب الإيمان منهما كما قدمنا الإشارة إلى ذلك
انتهى.
باب صحة الإسلام
مع الشرط الفاسد
1ـ عن نصر بن عاصم
الليثي عن رجل منهم: "أنه أتى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فأسلم على أن يصلي
صلاتين فقبل منه". رواه أحمد.
وفي لفظ آخر له:
"على أن لا يصلي إلا صلاة فقبل منه".
2ـ وعن وهب قال:
"سألت جابرًا عن شأن ثقيف إذا بايعت فقال
اشترطت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن
لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك يقول سيتصدقون ويجاهدون".
رواه أبو داود.
3ـ وعن أنس: "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل
أسلم قال:
أجدني كارهًا قال:
أسلم وإن كنت كارهًا". رواه أحمد.
ـ هذه الأحاديث فيها
دليل على أنه يجوز مبايعة الكافر وقبول
الإسلام منه وإن شرط شرطًا باطلا وأنه يصح
إسلام من كان كارهًا. وقد سكت أبو داود
والمنذري عن حديث وهب المذكور وهو وهب بن منبه
وإسناده لا بأس به وأخرج أبو داود أيضًا من
حديث الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص أن
وفد ثقيف لما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق
لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لا يحشروا ولا
يعشروا ولا يجبوا فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين
ليس فيه ركوع".
قال المنذري: قد قيل إن الحسن البصري لم
يسمع من عثمان بن أبي العاص والمراد بالحشر
جمعهم إلى الجهاد والنفير إليه وبقوله يعشروا
أخذ العشور من أموالهم صدقة وبقوله ولا يجبوا
بفتح الجيم وضم الباء الموحدة المشددة وأصل
التجبية أن يقوم الإنسان مقام الراكع وأردوا
أنهم لا يصلون.
قال الخطابي:
ويشبه أن يكون إنما سمح لهم بالجهاد والصدقة
لأنهما لم يكونا بعد واجبتين في العاجل لأن
الصدقة إنما تجب بانقطاع الحول والجهاد إنما
يجب بحضوره وأما الصلاة فهي راتبة فلم يجز أن
يشترطوا تركها انتهى. ويعكر على ذلك حديث
نصر بن عاصم المذكور في الباب فإن فيه أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل من الرجل
أن يصلي صلاتين فقط أو صلاة واحدة على اختلاف
الروايتين ويبقى الإشكال في قوله في الحديث
الذي ذكرناه:
"لا خير في دين ليس فيه ركوع"
فإن ظاهره يدل على أنه لا خير في إسلام من
أسلم بشرط أن لا يصلي ويمكن أن يقال إن نفي
الخيرية لا يستلزم عدم جواز قبول من أسلم بشرط
أن لا يصلي وعدم قبوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم لذلك الشرط من ثقيف لا يستلزم عدم جواز
القبول مطلقًا
ج / 7 ص -200-
باب تبع الطفل لأبويه في الكفر ولمن أسلم
منهما في الإسلام وصحة إسلام المميز
1ـ عن أبي هريرة:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج
البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة اللّه التي فطر اللّه عليها" الآية.
متفق عليه. وفي رواية متفق عليها أيضًا
قالوا: "يا رسول اللّه أفرأيت من يموت
منهم وهو صغير قال
اللّه أعلم مما كانوا عاملين".
2ـ وعن ابن مسعود:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما
أراد قتل عقبة بن أبي معيض قال
من للصبية قال
النار". رواه أبو داود والدارقطني في الأفراد وقال فيه: "النار لهم ولأبيهم".
3ـ وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم
يبلغوا الحنث إلا أدخله اللّه الجنة بفضل
رحمته إياهم". رواه البخاري وأحمد وقال فيه:
"ما من رجل مسلم"
وهو عام فيما إذا كانوا من مسلمة أو كافرة قال
البخاري: فكان ابن عباس مع أنه من
المستضعفين ولم يكن مع أبيه على دين قومه.
ـ حديث ابن مسعود سكت
عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا
علي بن الحسين الرقي وهو صدوق كما قال في
التقريب وأخرج نحوه البيهقي من طريق محمد بن
يحيى بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه عن جده أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أقبل
بالأسارى فكان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت
فضرب عنق عقبة بن أبي معيد صبرًا فقال من
للصبية يا محمد قال النار لهم ولأبيهم.
قوله: "على
الفطرة" للفطرة معان منها الخلقة ومنها
الدين قال في القاموس: والفطرة صدقة الفطر
والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه
والدين انتهى. والمناسب ههنا هو المعنى
الآخر أعني الدين أي كل مولود يولد على الدين
الحق فإذا لزم غيره فذلك لأجل ما يعرض له بعد
الولادة من التغييرات من جهة أبويه أو سائر من
يربيه.
قوله: "جمعاء"
بفتح الجيم وسكون الميم بعدها عين مهملة قال
في القاموس: والجمعاء الناقة المهزولة ومن
البهائم التي لم يذهب من بدنها شيء. والمراد
ههنا المعنى الآخر لقوله هل تحسون فيها من
جدعاء والجدع قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو
الشفة كما في القاموس قال: والجدعة محركة ما
بقي بعد القطع انتهى.
والمعنى أن البهائم كما
أنها تولد سليمة من الجدع كاملة الخلقة وإنما
يحدث لها نقصان الخلقة بعد الولادة بالجدع
ج / 7 ص -201-
ونحوه
كذلك أولاد الكفار يولدون على الدين الحق
الكامل وما يعرض لهم من التلبس بالأديان
المخالفة له فإنما هو حادث له بعد الولادة
بسبب الأبوين ومن يقوم مقامهما. وحديث أبي
هريرة فيه دليل على أن أولاد الكفار يحكم لهم
عند الولادة بالإسلام وأنه إذا وجد الصبي في
دار الإسلام دون أبويه كان مسلمًا لأنه إنما
صار يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا بسبب
أبويه فإذا عدما فهو باق على ما ولد عليه وهو
الإسلام.
قوله: "اللّه أعلم بما كانوا عاملين"
فيه دليل على أن أحكام أولاد الكفار عند اللّه
إذا ماتوا صغارًا غير متعينة بل منوطة بعمله
الذي كان يعمله لو عاش.
وفي حديث ابن مسعود المذكور دليل على أنهم من
أهل النار لقوله فيه النار لهم ولأبيهم ويشكل
ذلك على مذهب العدلية لعدم وقوع موجب التعذيب
منهم.
ـ والحاصل ـ أن مسألة أطفال
الكفار باعتبار أمر الآخرة من المعارك الشديدة
لاختلاف الأحاديث فيها ولها ذيول مطولة لا
يتسع لها المقام وفي الوقف عن الجزم بأحد
الأمرين سلامة من الوقوع في مضيق لم تدع إليه
حاجة ولا ألجأت إليه ضرورة وأما باعتبار أحكام
الدنيا فقد ثبت في صحيح البخاري في باب أهل
الدار من كتاب الجهاد أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم سئل عن أولاد المشركين هو يقتلون مع
آبائهم فقال هم منهم.
قال في الفتح: أي في الحكم
في تلك الحالة وليس المراد إباحة قتلهم بطريق
القصد إليهم بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى
الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم
بهم جاز قتلهم انتهى.
وأخرج أبو داود أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل
النساء والصبيان ويحمل هذا على أنه لا يجوز
قتلهم بطريق القصد.
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر
قال: لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم مكة أتي بامرأة مقتولة فقال:
"ما كانت هذه تقاتل ونهى عن قتل النساءوالصبيان".
وأخرج نحوه أبو داود في المراسيل من حديث
عكرمة وقد ذهب مالك والأوزاعي إلى أنه لا يجوز
قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل
الحرب بالنساء والصبيان لم يجز رميهم ولا
تحريقهم. وذهب الشافعي والكوفيون وغيرهم إلى
الجمع بما تقدم وقالوا إذا قاتلت المرأة جاز
قتلها ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي
وأبو حبان من حديث رباح بن الربيع التميمي قال
كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة
فقال:
"ما كانت هذه لتقاتل". فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت وقد نقل ابن بطال وغيره الاتفاق
على منع القصد إلى قتل النساء والولدان.
وأما حديث أنس المذكور في الباب فمحله كتاب
الجنائز وإنما ذكره المصنف ههنا للاستدلال به
على أن الولد يكون مسلمًا بإسلام أحد أبويه
لما في قوله: "ما
من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد" فإنه يقتضي أن من كان له ذلك المقدار من الأولاد دخل الجنة وإن
كانوا من امرأة غير مسلمة ونفعهم لأبيهم في
ذلك الأمر إنما يصح بعد الحكم بإسلامهم لأجل
إسلام أبيهم.
4ـ وعن جابر قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم
كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما
شاكرا وإما كفورًا".
رواه أحمد.
ج / 7 ص -202-
5ـ وقد صح عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه
عرض الإسلام على ابن صياد صغيرًا فروى ابن
عمر: "أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في رهط من
أصحابه قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان
عند أطم بني مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ
الحلم فلم يشعر حتى ضرب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم ظهره بيده ثم قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لابن صياد:
"أتشهد أني رسول اللّه فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
أتشهد أني رسول اللّه فرفضه رسول اللّه
وقال:
آمنت باللّه وبرسله" وذكر الحديث. متفق عليه.
6ـ وعن عروة قال:
"أسلم علي وهو ابن ثمان سنين". أخرجه
البخاري في تاريخه. وأخرج أيضًا عن جعفر بن
محمد عن أبيه قال: قتل علي رضي اللّه عنه
وهو ابن ثمان وخمسين سنة قلت وهذا يبين إسلامه
لأنه أسلم في أوائل المبعث".
7ـ وروي عن ابن عباس
قال: "كان علي رضي اللّه عنه أول من أسلم
من الناس بعد خديجة". رواه أحمد. وفي
لفظ: "أول من صلى علي رضي اللّه عنه"
رواه الترمذي.
8ـ عن عمرو بن مرة عن
أبي حمزة عن رجل من الأنصار قال: "سمعت
زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم علي رضي
اللّه عنه قال عمرو بن مرة فذكرت ذلك لإبراهيم
النخعي قال: أول من أسلم أبو بكر
الصديق". رواه أحمد والترمذي وصححه.
وقد صح أن من مبعث النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى وفاته نحو ثلاث
وعشرين سنة وأن عليًا رضي اللّه عنه عاش بعده
نحو ثلاثين سنة فيكون قد عمر بعد إسلامه فوق
الخمسين وقد مات ولم يبلغ الستين فعلم أنه
أسلم صغيرًا.
ـ حديث جابر أصله في
الصحيحين وحديث ابن عمر الذي ذكره المصنف في
شأن ابن صياد لم يذكر من أخرجه ولم تجري له
عادة بذلك وهو في الصحيحين وسنن أبي داود
والترمذي والموطأ وفي بعض النسخ قال متفق عليه
"ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"ماذا ترى قال: يأتيني صادق وكاذب فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم:
خلط عليك الأمر
ثم قال له صلى اللّه عليه وآله وسلم:
إني قد خبأت لك خبيئًا فقال
ج / 7 ص -203-
ابن صياد: هو الدخ فقال صلى اللّه عليه
وآله وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر: ذرني يا رسول اللّه أضرب عنقه فقال صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
إن يكن هو فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فلا
خير لك في قتله"
زاد الترمذي بعد قوله:
"خبأت لك خبيئًا وخبأ له يوم تأتي السماء
بدخان مبين".وحديث
عروة مرسل وكذلك حديث جعفر بن محمد عن أبيه.
وحديث ابن عباس قال
الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب من هذا
الوجه لا نعرفه من حديث شعبة عن أبي بلج إلا
من حديث محمد بن حميد وأبو بلج اسمه يحيى بن
أبي سليم. وقال بعض أهل العلم: أول من
أسلم من الرجال أبو بكر وأسلم علي وهو غلام
ابن ثمان سنين وأول من أسلم من النساء خديجة
انتهى.
وحديث زيد بن أرقم قال
الترمذي بعد إخراجه هذا حديث حسن صحيح
انتهى.
وفي إسناده ذلك الرجل
المجهول ولم يقع التصريح بأنه من الصحابة حتى
تغتفر جهالته كما قررنا ذلك غير مرة بل روايته
بواسطة تدل على أنه ليس من الصحابة فلا يكون
حديثه حينئذ صحيحًا ولا حسنًا. وأما قول
إبراهيم النخعي فهو مرسل فلا يصلح لمعارضة زيد
بن أرقم وابن عباس.
وقد أخرج الترمذي أيضًا
عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلى علي رضي
اللّه عنه يوم الثلاثاء قال الترمذي هذا حديث
غريب لا نعرفه إلا من حديث مسلم الأعور ومسلم
الأعور ليس عندهم بذاك القوي. وقد روي هذا
عن مسلم عن حية عن علي نحو هذا اهـ والأولى
الجمع بين ما ورد مما يقتضي أن عليًا أول
الناس إسلاما وأن أبا بكر أولهم إسلامًا بأن
يقال علي كان أول من أسلم من الصبيان وأبو بكر
أول من أسلم من الرجال وخديجة أول من أسلم من
النساء.
قوله: "حتى يعرب عن
لسانه" فيه دليل على أنه لا يحكم للصبي ما
دام غير مميز إلا بدين الإسلام فإذا أعرب عنه
لسانه بعد تمييزه حكم عليه بالملة التي
يختارها.
قوله: "قبل ابن
صياد" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهته.
وابن صياد اسمه صاف وأصله من اليهود وقد اختلف
الناس في أمر ابن صياد اختلافًا شديدًا وأشكل
أمره حتى قيل فيه كل قول. وظاهر الحديث
المذكور أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان مترددًا في كونه هو الدجال أم لا ومما يدل
على أنه هو الدجال ما أخرجه الشيخان وأبو داود
عن محمد بن المنكدر قال كان جابر بن عبد اللّه
يحلف للّه أن ابن صياد الدجال فقلت أتحلف
باللّه فقال إني سمعت عمر بن الخطاب يحلف على
ذلك عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فلا ينكره وقد أجيب عن التردد منه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بجوابين الأول أنه تردد صلى
اللّه عليه وآله وسلم قبل أن يعلمه اللّه بأنه
هو الدجال فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه
والثاني أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك
وإن لم يكن في الخبر شك ومما يدل على أنه هو
الدجال ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن
ابن عمر قال: "لقيت ابن صياد يومًا ومعه
رجل من اليهود فإذا عينه قد طفت وهي خارجة مثل
عين الحمار فلما رأيتها قلت أنشدك اللّه يا
ابن صياد متى طفت عينك قال: لا أدري والرحمن
قلت: كذبت وهي في رأسك قال: فمسحها ونخر
ثلاثًا فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره وقلت
اخسأ فلم تعدو قدرك فذكرت ذلك لحفصة فقالت
حفصة:
ج / 7 ص -204-
اجتنب هذا الرجل فإنا نتحدث أن الدجال يخرج
عند غضبة يغضبها" وأخرج مسلم هذا الحديث
بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه:
"لقيته مرتين فذكر الأولى ثم قال ثم لقيته
لقية أخرى وقد نفرت عينه فقلت متى فعلت عينك
ما أرى فقال لا أدري فقلت لا تدري وهي في رأسك
قال إن شاء اللّه فعلها في عصاك هذه ونخر كأشد
نخير حمار سمعت فزعم أصحابي أني ضربته بعصا
كانت معي حتى تكسرت وأنا واللّه ما شعرت قال
وجاء حتى دخل على حفصة فحدثها فقالت ما تريد
إليه ألم تسمع أنه قد قال صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه" ثم قال ابن بطال: فإن قيل هذا أيضًا يدل على التردد في أمره
فالجواب أنه قد وقع الشك في أنه الدجال الذي
يقتله عيسى بن مريم ولم يقع الشك في أنه أحد
الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم في قوله: "إن بين يدي الساعة دجالين كذابين"
وهو في الصحيحين وتعقبه الحافظ بأن الظاهر أن
حفصة وابن عمر أرادا الدجال الأكبر واللام في
القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس وكذلك حلف
عمر وجابر السابق على أن ابن الصياد هو
الدجال.
وقد أخرج أبو داود بسند
صحيح أن ابن عمر كان يقول واللّه لا أشك أن
المسيح الدجال هو ابن صياد.
وأخرج مسلم عن أبي سعيد
قال: صحبني ابن صياد إلى مكة فقال: ماذا
لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ألست سمعت
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: إنه لا يولد له قلت: بلى قال:
فإنه قد ولد لي قال: أولست سمعته يقول
لا يدخل المدينة ولا مكة قلت: بلى قال: فقد ولدت في المدينة وأنا أريد
مكة. وأخرج مسلم أيضًا عن أبي سعيد أنه قال
له ابن صياد هذا عذرت الناس ما لي وأنتم يا
أصحاب رسول اللّه ألم يقل نبي اللّه أن الدجال
يهودي وقد أسلمت فذكر نحو الأول. وفي مسلم
أيضًا عن أبي سعيد أنه قال له ابن صياد: لقد
هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق به
مما يقول الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث
رسول اللّه
"ما خفي عليكم يا معشر الأنصار" ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد قال أبو سعيد حتى كدت أعذره. وفي آخر كل
من الطرق أنه قال إني لأعرفه وأعرف مولده وأين
هو الآن قال أبو سعيد فقلت له تبًا لك سائر
اليوم.
وأجاب البيهقي بأن سكوت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على حلف عمر
يحتمل أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان متوقفًا في أمره ثم جاءه التثبت من اللّه
تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم
الداري وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن
صياد وطريقه أصح وتكون الصفة التي في ابن صياد
وافقت ما في الدجال وقد أخرج قصة تميم مسلم من
حديث فاطمة بنت قيس قال البيهقي: وفيها أن
الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير
ابن صياد وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين
الذين أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بخروجهم وقد خرج أكثرهم وكان الذين يجزمون بأن
ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا قصة تميم وقد
خطب بها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذكر
أن تميمًا أخبره أنه لقي هو وجماعة معه في دير
في جزيرة لعب بهم الموج شهرًا حتى وصلوا إليها
رجلا كأعظم إنسان رأوه قط خلقًا وأشده وثاقًا
مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد فقالوا له ويلك
ما أنت فذكر الحديث وفيه أنه سألهم
ج / 7 ص -205-
عن نبي الأميين هل بعث وأنه قال إن تطيعوه
فهو خير لكم وفيه أنه قال إني مخبركم عني أنا
المسيح الدجال وإني أوشك أن يؤذن لي بالخروج
فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها
في أربعين ليلة غير مكة وطيبة.
وفي بعض طرقه أنه شيخ
قال الحافظ: وسندها صحيح. وهذا الحديث
ينافي ما استدل به على أن ابن صياد هو الدجال
ولا يمكن الجمع أصلًا إذ لا يلتئم أن يكون من
كان في الحياة النبوية شبه المحتلم ويجتمع به
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويسأله أن
يكون شيخًا في آخرها مسجونًا في جزيرة من
جزائر البحر موثوقًا بالحديد يستفهم عن خبر
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هل خرج أم لا
فينبغي أن يحمل حلف عمر وجابر على أنه وقع قبل
علمهما بقصة تميم قال ابن دقيق العيد في أوائل
شرح الإلمام ما ملخصه: إذا أخبر شخص بحضرة
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أمر ليس
فيه حكم شرعي فهل يكون سكوته صلى اللّه عليه
وآله وسلم دليلًا على مطابقته ما في الواقع
كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد أنه الدجال
كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى
حلف عمر أو لا يدل فيه نظر قال: والأقرب
عندي أنه لا يدل لأن مأخذ المسألة ومناطها هو
العصمة من التقرير على باطل وذلك يتوقف على
تحقق البطلان ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة قال
الخطابي: اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد
كبره فروى أن تاب من ذلك القول ومات بالمدينة
وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى
يراه الناس وقيل لهم اشهدوا.
وقال النووي:
قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة وأمره مشتبه
ولكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة والظاهر أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يوح إليه
في أمره بشيء وإنما أوحي إليه بصفات الدجال
وكان في ابن صياد قرائن محتملة فلذلك كان صلى
اللّه عليه وآله وسلم لا يقطع في أمره بشيء
انتهى.
وقد أخرج أبو نعيم
الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن
صياد هو الدجال عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه
قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا
وبين اليهود فرسخ فكنا نأتيها فنمتار منها
فأتينا يومًا فإذا اليهود يزفنون فسألت صديقًا
لي منهم فقال هذا ملكنا الذي استفتح به العرب
فدخلت فبت على سطح فصليت الغداة فلما طلعت
الشمس إذ الوهج من قبل العسكر فنظرت فإذا هو
ابن صياد فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة.
قال الحافظ في الفتح
بعد أن ساق هذه القصة: وعبد الرحمن بن حسان
ما عرفته والباقون ثقات وقد أخرج أبو داود
بسند صحيح عن جابر قال فقدنا ابن صياد يوم
الحرة وفتح أصبهان كان في خلافة عمر كما أخرجه
أبو نعيم في تاريخها وقد أخرج الطبراني في
الأوسط من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعًا أن
الدجال يخرج من أصبهان وأخرجه أيضًا من حديث
عمران بن حصين وأخرجه أيضًا بسند صحيح كما قال
الحافظ من حديث أنس لكن عنده من يهودية أصبهان
قال أبو نعيم: وإنما سميت يهودية أصبهان
لأنها كانت تختص بسكنى اليهود قال الحافظ في
الفتح: وأقرب ما يجمع بين ما تضمنه حديث
تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه
هو الذي شاهده تميم موثقًا وأن ابن صياد هو
سلطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى
أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن
تجيء المدة التي قدر اللّه تعالى خروجه
فيها. وقصة تميم السابقة قد
ج / 7 ص -206-
توهم بعضهم من عدم إخراج البخاري لها أنها
غريبة وهو وهم فاسد وهي ثابتة عند أبي داود من
حديث أبي هريرة وعند ابن ماجه عن فاطمة بنت
قيس.
وأخرجها أبو يعلى عن أبي
هريرة من وجه آخر. وأخرجها أبو داود بسند
حسن من حديث جابر وغير ذلك وفي هذا المقدار
كفاية وإنما تكلمنا عن قصة ابن صياد مع كون
المقام ليس مقام الكلام عليها لأنها من
المشكلات المعضلات التي لا يزال أهل العلم
يسألون عنها فأردنا أن نذكر ههنا ما فيه تحليل
ذلك الإشكال وحسم مادة ذلك الإعضال.
قوله: "عند أطم"
بضم الهمزة والطاء المهملة وهو البناء
المرتفع.
قوله: "أتشهد أني
رسول اللّه" استدل به المصنف رحمه اللّه
تعالى على صحة إسلام المميز كما ذكر ذلك في
ترجمة الباب وكذلك يدل على ذلك بقية الأحاديث
المذكورة في الباب في إسلام أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب وقد اختلف في مقدار سنه عند الموت
على أقوال مذكورة في كتب التاريخ.
باب حكم أموال
المرتدين وجناياتهم
1ـ عن طارق بن شهاب قال: "جاء وفد بزاخة من
أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم
بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا هذه
المجلية قد عرفناها فما المخزية قال: تنزع
منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم
وتردون علينا ما أصبتم منا وتدون قتلانا وتكون
قتلاكم في النار وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب
الإبل حتى يرى اللّه خليفة رسوله والمهاجرين
والأنصار أمرًا يعذرونكم له فعرض أبو بكر ما
قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال قد
رأيت رأيًا وسنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب
المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت وأما ما
ذكرت إن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم
منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت تدون قتلانا
وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت
على أمر اللّه أجورها على اللّه ليس لها ديات
فتبايع القوم على ما قال عمر". رواه
البرقاني على شرط البخاري. هذا الأثر أخرج
بعضه البخاري في صحيحه وأخرج بقيته البرقاني
في مستخرجه بطوله كما ذكره المصنف وأخرجه
أيضًا البيهقي من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن
حمزة.
قوله: "بزاخة" بضم
الباء الموحدة ثم زاي وبعد الألف خاء معجمة هو
موضع قيل بالبحرين وقيل ماء لبني أسد كذا في
التلخيص. وفي القاموس وبزاخة بالضم موضع به
وقعة أبو بكر رضي اللّه عنه انتهى.
قوله: "المجلية"
يحتمل أن يكون بالخاء المعجمة أي المهلكة قال
في القاموس: خلا مكانه مات وقال أيضًا
ج / 7 ص -207-
خلا المكان خلوا وخلاء وأخلى واستخلى فرغ
وكان خلاء ما فيه أحد وأخلاه جعله أو وجده
خاليًا وخلا وقع في موضع خال لا تزاحم فيه
انتهى. ويحتمل أن يكون بالجيم قال في
القاموس: جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا
وجلاه وأجلوا تفرقوا أو جلا من الخوف وأجلى من
الجدب انتهى. والمراد الحرب المفرقة لأهلها
لشدة وقعها وتأثيرها.
وقال في الفتح:
المجلية بضم الميم وسكون الجيم بعدها لام
مكسورة ثم تحتانية من الجلاء بفتح الجيم
وتخفيف اللام مع المد ومعناه الخروج عن جميع
المال.
قوله: "والسلم
المخزية" بالخاء المعجمة والزاي أي المذلة
قال في القاموس: خزي كرضي خزيًا بالكسر وخزي
وقع في شهرة فذل بذلك كأخزوزي وأخزاه اللّه
فضحه ومن كلامهم لمن أتى بمستهجن ماله أخزاه
اللّه. قال: وخزي بالكسر خزي وخزاية
بالقصر استحيا انتهى.
قوله: "الحلقة"
بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها قاف قال
في القاموس: الحلقة الدرع والخيل انتهى.
وقال في النهاية: والحلقة بسكون اللام
السلاح عامًا وقيل الدروع خاصة والمراد
بالكراع الخيل. قال في القاموس: هو اسم
لجميع الخيل فعلى هذا يكون المراد بالحلقة
الدروع أو هي وسائر السلاح الذي يحارب به.
قوله: "يتبعون أذناب
الإبل" أي يمتهنون بخدمة الإبل ورعيها
والعمل بها لما في ذلك من الذلة والصغار.
وقد استدل بالأثر المذكور على أنه يجوز مصالحة
الكفار المرتدين على أخذ أسلحتهم وخيلهم ورد
ما أصابوه من المسلمين وقد اختلف هل يملك
الكفار ما أخذوه على المسلمين فذهب الهادي
وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أنهم يملكون
علينا ما استولوا عليه قهرًا وإذا استولينا
عليه فصاحبه أحق بعينه ما لم يقسم فإن قسم لم
يستحقه إلا بدفع القيمة لمن صار في يده وذهب
أبو بكر الصديق وعمر وعبادة بن الصامت وعكرمة
والشافعي والمؤيد باللّه إلى أنهم لا يملكون
علينا ولو أدخلوه قهرًا فصاحبه أحق به قبل
القسمة وبعدها بلا شيء وأما ما أخذوه من أموال
أهل الإسلام في دارهم قهرًا كالعبد الآبق فذهب
الهادي والنفس الزكية وأبو حنيفة إلى أنهم لا
يملكونه علينا إذ دار الحرب دار إباحة فالملك
فيها غير حقيقي وذهب مالك والأوزاعي والزهري
وعمرو بن دينار وأبو يوسف ومحمد إلى أنهم
يملكونه علينا وهو مروي عن أبي طالب ولعله
يأتي تحقيق هذا البحث إن شاء اللّه تعالى. |