نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الجهاد
والسير
باب الحث على الجهاد وفضل الشهادة والرباط
والحرس
1ـ عن أنس: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
لغدوة أو روحة في سبيل اللّه خير من الدنيا
وما فيها".
متفق عليه.
2ـ وعن أبي عبس الحارثي
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
ج / 7 ص -208-
من أغبرت قدماه في سبيل اللّه حرمه اللّه على
النار". رواه أحمد والبخاري والنسائي
والترمذي.
3ـ وعن أبي أيوب قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"غدوة أو روحة في سبيل اللّه خير مما طلعت
عليه الشمس وغربت".
رواه أحمد ومسلم والنسائي. وللبخاري من حديث
أبي هريرة مثله.
4ـ وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة وجبت له
الجنة".
رواه أحمد والترمذي.
5ـ وعن أبي موسى قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف".
رواه أحمد ومسلم والترمذي.
6ـ وعن ابن أبي أوفى:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
"إن الجنة تحت ظلال السيوف".
رواه أحمد والبخاري.
7ـ وعن سهل بن سعد
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما
عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا
وما عليها والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير
من الدنيا وما عليها". متفق عليه.
حديث أبي هريرة الآخر
قال الترمذي هو حديث حسن ولفظه عن أبي هريرة
قال: "مر رجل من أصحاب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم بشعب فيه عيينة من ماء
عذبة فأعجبته لطيبها فقال لو اعتزلت الناس
فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكر ذلك
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال:
"لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل اللّه أفضل
من صلاته في بيته سبعين عامًا ألا تحبون أن
يغفر اللّه لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل
اللّه من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة وجبت
له الجنة".
قوله: "كتاب الجهاد" قال في الفتح:
بكسر الجيم أصله لغة المشقة يقال جاهدت جهادًا
أي بلغت المشقة وشرعًا بذل الجهد في قتال
الكفار ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان
والفساق. فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور
الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها.
وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من
الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة
الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب وأما
الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب ثم قال
واختلف في جهاد الكفار هل كان أولا فرض عين أو
فرض كفاية ثم قال في باب وجوب النفير فيه
قولان مشهوران للعلماء وهما في مذهب
الشافعي. وقال الماوردي: كان عينًا على
المهاجرين دون غيرهم ويؤيده وجوب الهجرة قبل
الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر
الإسلام وقال السهيلي: كان عينًا على
الأنصاري
ج / 7 ص -209-
دون غيرهم ويؤيده مبايعتهم النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم ليلة العقبة على أن يؤوا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وينصروه فيخرج
من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين كفاية
في حق غيرهم ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على
التعميم بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة
طارق وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من
الكفار ابتداء.
وقيل كان عينًا في
الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم دون غيرها والتحقيق أنه كان عينًا
على من عينه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
في حقه وإن لم يخرج وأما بعده صلى اللّه عليه
وآله وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن
تدعو الحاجة كأن يدهم العدو ويتعين على من
عينه الإمام ويتأدى فرض الكفاية بفعله في
السنة مرة عند الجمهور ومن حججهم أن الجزية
تجب بدلا عنه ولا تجب في السنة أكثر من مرة
اتفاقًا فليكن بدلها كذلك وقيل يجب كلما أمر
وهو قوي قال: والتحقيق أن جنس جهاد الكفار
متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما
بماله وإما بقلبه انتهى. وأول ما شرع الجهاد
بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا.
قوله: "لغدوة أو
روحة" الغدوة بالفتح واللام للابتداء وهي
المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت
كان من أول النهار إلى انتصافه. والروحة
المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت
كان من زوال الشمس إلى غروبها.
قوله: "في سبيل
اللّه" أي الجهاد.
قوله: "خير من
الدنيا وما فيها" قال ابن دقيق العيد:
يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من باب تنزيل
الغائب منزلة المحسوس تحقيقًا له في النفس
لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في
الطباع ولذلك وقعت المفاضلة بها وإلا فمن
المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة
مما في الجنة والثاني إن المراد أن هذا القدر
من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو
حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة اللّه
تعالى ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك
في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: "بعث
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جيشًا
فيهم عبد اللّه بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة
مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم".
ـ والحاصل ـ
أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد
وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل
له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف لمن حصل
منها أعلى الدرجات. والنكتة في ذلك أن سبب
التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب
الدنيا.
قوله: "من اغبرت
قدماه" زاد أحمد من حديث أبي هريرة ساعة من
نهار وفيه دليل على عظم قدر الجهاد في سبيل
اللّه فإن مجرد مس الغبار للقدم إذا كان من
موجبات السلامة من النار فكيف بمن سعى وبذل
جهده واستفرغ وسعه.
قوله: "خير مما طلعت
عليه الشمس وغربت" هذا هو المراد بقوله في
الحديث الأول:
"خير من الدنيا وما فيها".
قوله: "فواق ناقة"
هو قدر ما بين الحلبتين من الاستراحة.
قوله: "تحت ظلال
السيوف" الظلال جمع ظل وإذا تدانى الخصمان
صار كل واحد منهم تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على
رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال
قال القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع
ج / 7 ص -210-
الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع
الوجازة وعذوبة اللفظ فإنه أفاد الحض على
الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على
مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين
الزحف حتى تصير السيوف تظل المقاتلين. وقال
ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل
بالجهاد.
قوله: "وموضع سوط
أحدكم" في رواية للبخاري: "وقاب قوس أحدكم" أي قدره.
8ـ وعن معاذ بن جبل:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من قاتل في سبيل اللّه من رجل مسلم فواق ناقة
وجبت له الجنة ومن جرح جرحًا في سبيل اللّه أو
نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما
كانت لونها الزعفران وريحها المسك". رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
9ـ وعن عثمان بن عفان
قال: "سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
رباط يوم في سبيل اللّه خير من ألف يوم فيما
سواه من المنازل".
رواه أحمد والترمذي والنسائي. ولابن ماجه
معناه.
10ـ وعن سلمان الفارسي
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم يقول:
رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن
مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه
رزقه وأمن الفتان".
رواه أحمد ومسلم والنسائي.
11ـ وعن عثمان بن عفان
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
حرس ليلة في سبيل اللّه أفضل من ألف ليلة
بقيام ليلها وصيام نهارها".
رواه أحمد.
12ـ وعن ابن عباس قال:
"سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشيت اللّه
وعين باتت تحرس في سبيل اللّه". رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
13ـ وعن أبي أيوب قال:
"إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار
لما نصر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وأظهر الإسلام قلنا هل نقيم في أموالنا
ونصلحها فأنزل اللّه تعالى {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ}
فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في
أموالنا ونصلحها وندع الجهاد". رواه أبو
داود.
14ـ وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
جاهدوا المشركين
ج / 7 ص -211-
بأموالكم وأيديكم وألسنتكم". رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
حديث معاذ أخرجه أيضًا
ابن ماجه وإسناد الترمذي وابن ماجه صحيح وأما
إسناد أبو داود ففيه بقية بن الوليد وهو متكلم
فيه ولفظه عند أبي داود:
"من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ومن سئل اللّه
القتل من نفسه صادقًا ثم مات أو قتل فإن له
أجر شهيد ومن جرح جرحًا في سبيل اللّه أو نكب
نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت
لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج
به خراج في سبيل اللّه عز وجل فإن عليه طابع
الشهداء"
وذكر المصنف رحمه اللّه أن الترمذي صحح حديث
معاذ المذكور ولم نجد ذلك في جامعه وإنما صحح
حديث أبي هريرة بمعناه ولكنه قد وافق المصنف
على حكاية تصحيح الترمذي لحديث معاذ جماعة
منهم المنذري في مختصر السنن والحافظ في الفتح
وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم وحديث عثمان قال
الترمذي بعد إخراجه إنه حديث حسن صحيح غريب.
وحديث سلمان الفارسي أخرجه أيضًا الترمذي.
وحديث عثمان الثاني أشار إليه الترمذي.
وحديث ابن عباس قال الترمذي بعد إخراجه حديث
حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن
زريق. وحديث أبي أيوب أخرجه أيضًا النسائي
والترمذي وقال حسن صحيح وصححه أيضًا ابن حبان
والحاكم ولفظ الحديث عند أبي داود عن أسلم بن
عمران قال: غزونا من المدينة نريد
القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد
بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة
فحمل رجل على العدو فقال الناس مه مه لا إله
إلا اللّه يلقي بيده إلى التهلكة فقال أبو
أيوب إنما أنزلت هذه الآية فذكره. وفي
الترمذي فضالة بن عبيد بدل عبد الرحمن بن خالد
بن الوليد.
وحديث أنس سكت عنه أبو
داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح وصححه
النسائي ـ والأحاديث ـ في فضل الجهاد كثيرة
جدًا لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل.
قوله: "من جرح
جرحًا" ظاهر هذا أنه لا يختص بالشهيد الذي
يموت من تلك الجراحة بل هو حاصل لكل من جرح
ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت
صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في
الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول ولا
ينفي ذلك كونه له فضل في الجملة قال في
الفتح: قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك أن
يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة
اللّه.
قوله: "أو نكب
نكبة" بضم النون من نكب وكسر الكاف قال في
القاموس: نكب عنه كنصر وفرح نكبًا ونكبًا
ونكوبًا عدل كنكب وتنكب ونكبه تنكبًا نحاه
لازم متعد وطريق منكوب على غير قصد ونكبه
الطريق ونكب به عنه عدل والنكب الطرح انتهى.
وقال في الفتح: النكبة أن يصيب العضو شيء
فيدميه انتهى.
قوله: "لونها
الزعفران" في حديث أبي هريرة عند الترمذي
وغيره اللون لون الدم والريح ريح المسك.
قوله: "رباط يوم في
سبيل اللّه" بكسر الراء وبعدها موحدة ثم طاء
مهملة قال في القاموس: المرابطة أن يربط كل
من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معد لصاحبه
فسمي
ج / 7 ص -212-
المقام
في الثغر رباطًا ومنه قوله تعالى {وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا}
انتهى.
قوله: "أمن الفتان" بفتح الفاء وتشديد
التاء الفوقية وبعد الألف نون قال في
القاموس: الفتان اللص والشيطان كالفاتن
والصانع والفتانان الدرهم والدينار ومنكر
ونكير قال في النهاية: وبالفتح هو الشيطان
لأنه يفتن الناس عن الدين انتهى. والمراد
ههنا الشيطان أو منكر ونكير.
قوله: "حرس" هو مصدر حرس والمراد هنا
حراسة الجيش يتولاها واحد منهم فيكون له الأجر
لما في ذلك من العناية بشأن المجاهدين والتعب
في مصالح الدين ولذلك قال في الحديث الآخر:
"عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية
اللّه وعين باتت تحرس في سبيل اللّه".
قوله: "فالإلقاء
بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا"
الخ هذا فرد من أفراد ما تصدق عليه الآية
لأنها متضمنة للنهي لكل أحد عن كل ما يصدق
عليه أنه من باب الإلقاء بالنفس إلى التهلكة
والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا
كانت تلك الصورة التي قال الناس إنها من باب
الإلقاء لما رأوا الرجل الذي حمل على العدو
كما سلف من صور الإلقاء لغة أو شرعًا فلا شك
أنها داخلة تحت عموم الآية ولا يمنع من الدخول
اعتراض أبي أيوب بالسبب الخاص وقد تقرر في
الأصول رجحان قول من قال إن الاعتبار بعموم
اللفظ ولا حرج في اندراج التهلكة باعتبار
الدين وباعتبار الدنيا تحت قوله:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ويكون ذلك من باب استعمال المشترك في جميع معانيه وهو أرجح
الأقوال الستة المعروفة في الأصول في استعمال
المشترك.
وفي البخاري في التفسير إن التهلكة هي ترك
النفقة في سبيل اللّه وذكر صاحب الفتح هنالك
أقوالًا أخر فليراجع.
وقد أخرج الحاكم من حديث أنس: "أن رجلا
قال: يا رسول اللّه أرأيت إن انغمست في
المشركين فقاتلتهم حتى قتلت أإلى الجنة قال: نعم
فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى
قتل". وفي الصحيحين عن جابر قال: "قال
رجل: أين أنا يا رسول اللّه إن قتلت قال:
في الجنة فألقى
تمرات كن بيده ثم قاتل حتى قتل" وروى ابن
إسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة
قال: "لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن
الحارث: يا رسول اللّه ما يضحك الرب من عبده
قال: أن يراه غمس
يده في القتال يقاتل حاسرًا فنزع درعه ثم تقدم
فقاتل حتى قتل".
قوله: "جاهدوا المشركين" الخ فيه دليل
على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي
والألسن. وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد
بالأنفس والأموال في مواضع.
وظاهر الأمر الوجوب وقد تقدم الكلام على ذلك
وسيأتي أيضًا.
باب أن الجهاد
فرض كفاية وأنه شرع مع كل بر وفاجر
1ـ عن عكرمة عن ابن عباس
قال: "{إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا وما كان لأهل المدينة} إلى قوله
{يعملون}
نسختها الآية التي تليها
{وما كان
المؤمنون}". رواه أبو داود.
ج / 7 ص -213-
2ـ وعن عروة بن الجعد البارقي: "عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"الخيل معقود في نواصيها الأجر والمغنم إلى
يوم القيامة".
متفق عليه. ولأحمد ومسلم والنسائي من حديث
جرير البجلي مثله وفيه مستدل بعمومه على
الإسهام لجميع أنواع الخيل وبمفهومه على عدم
الإسهام لبقية الدواب.
وعن أنس قال: "قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا
اللّه لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام
بعمل وجهاد ماض مذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل
أخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل
عادل والإيمان بالأقدار". رواه أبو داود وحكاه أحمد في رواية ابنه عبد اللّه.
حديث ابن عباس سكت عنه
أبو داود والمنذري وإسناده ثقات إلا علي بن
الحسين بن واقد وفيه مقال وهو صدوق وبوب عليه
أبو داود باب في نسخ نفير العامة بالخاصة
وحسنه الحافظ في الفتح. وأخرج أبو داود عن
ابن عباس أنه سأله نجدة بن نفيع عن هذه الآية
{إِلاَّ
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
قال: فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم. ونجدة
بن نفيع الحنفي مجهول كما قاله صاحب
الخلاصة.
وحديث أنس سكت عنه أبو
داود والمنذري وفي إسناده يزيد بن أبي نشبة
وهو مجهول. وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور وفيه
ضعف وله شواهد.
قوله: "نسختها الآية
التي تليها
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة}" قال الطبري: يجوز أن يكون
{إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا} خاصًا والمراد به من استنفره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فامتنع.
قال الحافظ:
والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد
وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن
البصري كما روى ذلك الطبري عنهما وزعم بعضهم
أن قوله تعالى {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ}
ناسخة لقوله تعالى {انْفِرُوا
خِفَافاً وَثِقَالاً}
وثبات جمع ثبة ومعناه جماعات متفرقة ويؤيده
قوله تعالى بعده أو انفروا جميعًا. قال
الحافظ: والتحقيق أنه لا نسخ بل المرجع في
الآيتين يعني هذه وقوله تعالى {إِلاّ تَنْفِرُوا}
مع قوله
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} إلى تعيين الإمام وإلى الحاجة.
قوله: "الخيل
معقود" الخ المراد بها المتخذة للغزو بأن
يقاتل عليها أو ترتبط لأجل ذلك وقد روى أحمد
من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "الخيل
في نواصيها الخير معقود أبدًا إلى يوم القيامة
فين ربطها عدة في سبيل اللّه وأنفق عليها
احتسابًا كان شبعها وجوعها وريها وظمأها
وأرواثها وأبوالها فلاحًا في موازينه يوم
القيامة".
قوله: "الأجر
والمغنم" بدل من قوله الخير أو هو خبر مبتدأ
محذوف أي هو الأجر والمغنم ووقع عند مسلم من
رواية جرير: "فقالوا لم ذاك يا رسول اللّه
قال
الأجر والمغنم"
قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير الذي فسر
بالأجر والمغنم استعارة لظهوره وملازمته وخص
الناصية
ج / 7 ص -214-
لرفعة قدرها فكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس
معقود على ما كان مرتفعًا فنسب الخير إلى لازم
المشبه به وذكر الناصية تجريد للاستعارة
والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على
الجبهة قال الخطابي وغيره: قالوا ويحتمل أن
يكون كنى بالناصية عن جميع ذات الفرس كما يقال
فلان مبارك الناصية ويبعده ما رواه مسلم من
حديث جرير قال: "رأيت رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يلوي ناصية فرسه بإصبعه
ويقول" فذكر الحديث فيحتمل أن تكون خصت بذلك
لكونها المقدم منها إشارة إلى أن الفضل في
الإقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من
الإشارة إلى الإدبار.
قوله: "والجهاد
ماض" الخ فيه دليل على أن الجهاد لا يزال ما
دام الإسلام والمسلمون إلى ظهور الدجال.
وأخرج أبو داود وأبو يعلى مرفوعًا وموقوفًا من
حديث أبي هريرة:
"الجهاد ماض مع البر والفاجر"
ولا بأس بإسناده إلا أنه من رواية مكحول عن
أبي هريرة ولم يسمع منه.
وأخرج أبو داود من حديث
عمران بن حصين قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق
ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح
الدجال".
قوله: "لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" فيه دليل على
أنه لا فرق في حصول فضيلة الجهاد بين أن يكون
الغزو مع الإمام العادل أو الجائر. وقد
استدل المصنف بما ذكره في الباب على أن الجهاد
فرض كفاية وقد تقدم الكلام على ذلك في أول
الكتاب.
وقد حكي في البحر عن
العترة والشافعية والحنفية أنه فرض كفاية وعن
ابن المسيب أنه فرض عين وعن قوم فرض عين في
زمن الصحابة.
باب ما جاء في
إخلاص النية في الجهاد وأخذ الأجرة عليه
والإعانة
1ـ عن أبي موسى قال:
"سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء
فأي ذلك في سبيل اللّه فقال
من قاتل لتكون كلمة اللّه العليا فهو في سبيل اللّه". رواه الجماعة.
2ـ وعن عبد اللّه بن
عمرو قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول:
ما من غازية تغزو في سبيل اللّه فيصيبون غنيمة
إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الآخرة ويبقى لهم
الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم".
رواه البخاري والترمذي.
3ـ وعن أبي أمامة قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال له: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر
والذكر ما له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا شيء له
ثم قال:
إن اللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه".
رواه أحمد والنسائي.
ج / 7 ص -215-
حديث
أبي أمامة جود الحافظ إسناده في فتح الباري
وقد أخرج أبو موسى المديني في الصحابة عن لاحق
بن ضميرة الباهلي قال وفدت على النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فسألته عن الرجل يلتمس
الأجر والذكر فقال لا شيء له وفي إسناده
ضعف. وأخرج أبو داود من حديث أبو هريرة:
"أن رجلا قال للنبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم: رجل يريد الجهاد في سبيل اللّه وهو
يبتغي عرضًا من عرض الدنيا فقال النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
لا أجر له فأعاد
ذلك مرة أخرى ثم ثالثة والنبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول
لا أجر له".
قوله: "يقاتل شجاعة" في رواية للبخاري
في الجهاد والرجل يقاتل للذكر أي ليذكر بين
الناس ويشتهر بالشجاعة.
قوله: "ويقاتل رياء" في رواية للبخاري
والرجل يقاتل ليري مكانه ومرجعه إلى الرياء
والمراد بالمقاتلة لأجل الحمية أن يقاتل لأجل
من يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب
ويحتمل أن تفسر الحمية بالقتال لدفع المضرة
والقتال غضبًا لجلب المنفعة. وفي رواية
للبخاري والرجل يقاتل للمغنم وفي أخرى له
والرجل يقاتل غضبًا والحاصل من الروايات أن
القتال يقع بسبب خمسة أشياء طلب المغنم وإظهار
الشجاعة والرياء والحمية والغضب وكل منها
يتناوله المدح والذم ولهذا لم يحصل الجواب
بالإثبات ولا بالنفي.
قوله: "من قاتل لتكون كلمة اللّه هي
العليا فهو في سبيل اللّه" المراد بكلمة
اللّه دعوة اللّه إلى الإسلام ويحتمل أن يكن
المراد به أن لا يكون في سبيل اللّه إلا من
كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة اللّه فقط بمعنى
أنه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب
المذكورة أخل به. وصرح الطبري بأنه لا يخل
إذا حصل ضمنًا لا أصلا ومقصودًا به قال
الجمهور كما حكاه صاحب الفتح ولكنه يعكر على
هذا ما في حديث أبي أمامة المذكور من أن اللّه
لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا ويمكن أن
يحمل على قصد الأمرين معًا على حد واحد فلا
يخالف ما قاله الجمهور
ـ فالحاصل ـ أنه إما أن يقصد
الشيئين معًا أو يقصد أحدهما فقط أو يقصد
أحدهما ويحصل الآخر ضمنًا والمحذور أن يقصد
غير الإعلاء سواء حصل الإعلاء ضمنًا أو لم
يحصل ودونه أن يقصدهما معًا فإنه محذور على ما
دل عليه حديث أبي أمامة والمطلوب أن يقصد
الإعلاء فقط سواء حصل غير الإعلاء ضمنًا أو لم
يحصل.
قال ابن أبي جمرة: ذهب
المحققون إلى أنه لو إذا كان الباعث الأول قصد
إعلاء كلمة اللّه لم يضره ما ينضاف إليه وعلى
هذا يحمل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه وأما
حديث عبد اللّه بن عمرو المذكور فليس فيه ما
يدل على جواز قصد غير الغزو في سبيل اللّه لأن
الغنيمة إنما حصلت بعد أن كان الغزو في سبيل
اللّه ولم يكن مقصوده في الابتداء ولهذا قال
في أول الحديث ما من غازية تغزو في سبيل اللّه
الخ.
قال في الفتح: والحاصل مما
ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة
الغضبية والقوة الشهوانية ولا يكون في سبيل
اللّه إلا الأول.
وقال ابن بطال: إنما عدل
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن لفظ جواب
السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان للّه فعدل
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك إلى
لفظ جامع فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام
وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية
الصالحة وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين يختص
بمن ذكر.
ج / 7 ص -216-
4ـ وعن أبي هريرة قال: "سمعت رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل
استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما
عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت
ولكن قاتلت أن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به
فسحب على وجهه حتى يلقى في النار ورجل تعلم
العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه
فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت العلم
وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت
العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد
قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في
النار ورجل وسع اللّه عليه وأعطاه من أصناف
المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما
عملت فيها قال ما تركت من سبيل تجب أن ينفق
فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت
ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على
وجهه فألقي في النار".
رواه أحمد ومسلم.
5ـ وعن أبي أيوب:
"أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
ستفتح عليكم الأمصار وستكونون جنودًا مجندة
يقطع عليكم بعوث فيكره الرجل منكم البعث فيها
فيتخلص من قومه ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه
عليهم يقول من أكفيه بعث كذا من أكفيه بعث كذا
ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه".
رواه أحمد وأبو داود.
6ـ وعن عبد اللّه بن
عمرو: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي".
رواه أبو داود.
7ـ وعن زيد بن خالد
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
من جهز غازيًا في سبيل اللّه فقد غزا ومن خلفه
في أهله بخير فقد غزا".
متفق عليه.
حديث أبي أيوب سكت عنه
أبو داود والمنذري وفي إسناده أبو سورة ابن
أخي أبي أيوب وفيه ضعف وكذلك حديث عبد اللّه
بن عمرو سكتا عنه ورجال إسناده ثقات.
قوله: "إن أول
الناس" الخ لفظ الترمذي
"أول ما يدعى به يوم القيامة رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل اللّه
ورجل كثير المال فيقول اللّه تعالى للقارئ ألم
أعلمك ما أنزلت على رسولي فيقول بلى يا رب قال
فما عملت فيما علمت فيقول كنت أقوم به آناء
الليل وآناء النهار فيقول اللّه تعالى
ج / 7 ص -217-
كذبت وتقول الملائكة كذبت إنما أردت أن يقال
فلان قارئ وقد قيل ذلك. وذكر نحو ذلك في
الذي قتل في سبيل اللّه والذي له مال كثير".
قوله: "نعمه" بكسر
النون وفتح العين المهملة جمع نعمة بسكون
العين وهذا الحديث فيه دليل على أن فعل
الطاعات العظيمة مع سوء النية من أعظم الوبال
على فاعله فإن الذي أوجب سحبه في النار على
وجهه هو فعل تلك الطاعة المصحوبة بتلك النية
الفاسدة وكفى بهذا رادعًا لمن كان له قلب أو
ألقى السمع وهو شهيد اللّهم إنا نسألك صلاح
النية وخلوص الطوية.
وقد أخرج مسلم من حديث
أبي هريرة قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"يقول اللّه تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك
من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" وأخرج الترمذي عن كعب بن مالك قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول:
من طلب العلم ليجاري به العلماء ويماري به
السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله اللّه
النار" وأخرج الترمذي أيضًا عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
تعوذوا باللّه من جب الحزن قالوا يا رسول اللّه وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة قيل يا رسول اللّه ومن يدخله قال
القراء المراؤون بأعمالهم"
وأخرج الترمذي أيضًا عن أبي هريرة وابن عمر
قالا: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين
يلبسون الناس جلود الضأن ألسنتهم أحلى من
العسل وقلوبهم قلوب الذئاب يقول اللّه تعالى
أبي تغترون أم علي تجترؤن فبي حلفت لأبعثن على
أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران"
وأخرج الشيخان عن أبي وائل قال: "سمعت
أسامة يقول قال النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار
فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار
بالرحى فتجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان
ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول
بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن
المنكر وآتيه" وأخرج الحاكم من حديث معاذ يرفعه قال:
"إن يسير الرياء شرك"
قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولا يحفظ له
علة.
وأخرج ابن حبان في صحيحه
والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعًا:
"الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" وفي الباب عن أبي سعيد رواه أحمد. وعن
أبي موسى وأبي بكر وحذيفة ومعقل بن يسار رواها
الهيثمي.
وأخرج أحمد من حديث عبد
اللّه بن عمرو مرفوعًا:
"من سمع بعلمه سمع اللّه به سامع خلقه وصغره وحقره".
قوله: "بعوث" جمع
بعث وهو طائفة من الجيش يبعثون في الغزو
كالسرية وفيه دليل على أنه يحرم على الرجل أن
يمتنع من الخروج إلى الغزو مع قومه ثم يذهب
يعرض نفسه على غير قومه ممن طلبوا إلى الغزو
ليكون عوضًا عن أحدهم بالأجرة فإن من فعل ذلك
كان خروجه للدنيا لا للدين ولهذا قال صلى
اللّه عليه وآله وسلم
"فهو الأجير إلى أخر قطرة من دمه أي لا يكون في
سبيل اللّه من دمه شيء بل في سبيل ما أخذه من
الأجرة".
قوله: "وللجاعل أجره
وأجر الغازي" فيه دليل على أنه لا يستحق أجر
الغزو من خرج بالأجرة بل يكون أجره للمستأجر
وهو الذي أعطاه الجعالة أي ما جعله له من
الأجرة ويكون ذلك أي أجر المجعول له منضمًا
إلى أجر الجاعل إذا كان غازيًا وإن لم يكن
غازيًا
ج / 7 ص -218-
فله أجر الذي دفعه من الأجرة وأجر المجعول
له.
قوله: "من جهز
غازيًا" أي هيأ له أسباب سفره وما يحتاج
إليه مما لا بد منه.
قوله: "فقد غزا"
قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر وإن
لم يغز حقيقة ثم أخرج الحديث من وجه آخر
بلفظ:
"كتب له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء" وأخرج ابن ماجه وابن حبان أيضًا من حديث ابن عمر بلفظ:
"من جهز غازيًا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع" وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بعث بعثًا وقال:
ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما" وفي رواية له ثم قال للقاعد:
"أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج"
ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه وقام
بكفاية من يخلفه بعده كان له الأجر مرتين.
وقال القرطبي:
لفظة نصف يحتمل أن تكون مقحمة من بعض الرواة
وقد احتج بها من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث
التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له
بغير تضعيف وإن التضعيف يختص بمن باشر العمل
قال: ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين:
أحدهما أنه لا يتناول محل النزاع لأن المطلوب
إنما هو أن الدال على الخير مثلًا هل له مثل
أجر فاعله مع التضعيف أو بغير تضعيف والحديث
المذكور إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة
فافترقا. ثانيهما ما تقدم من احتمال كون
لفظة نصف زائدة. قال الحافظ: لا حاجة
لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح والذي
يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع
الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير فإن
الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما
مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين وأما من
وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كان له
فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على
إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد وصرف الخبر عن
ظاهره يحتاج إلى مستند وكأن مستند القائل إن
العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه
لكن من يجهز الغازي بماله مثلًا وكذا من يخلفه
فيمن ترك بعده يباشر شيئًا من المشقة أيضًا
فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن
يكفى ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو
بخلاف من اقتصر على النية مثلًا انتهى.
قوله: "ومن خلفه في
أهله بخير" بفتح الخاء المعجمة واللام
الخفيفة أي قام بحال من يتركه.
باب استئذان
الأبوين في الجهاد
1- عن ابن مسعود قال:
"سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أي العمل أحب إلى اللّه قال:
الصلاة على وقتها قلت: ثم أي قال:
بر الوالدين قلت: ثم أي قال:
الجهاد في سبيل اللّه حدثني بهن ولو استزدته لزادني". متفق عليه.
2- وعن عبد اللّه بن
عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال
أحيٌّ والداك
قال نعم قال
ففيهما فجاهد".
رواه
ج / 7 ص -219-
البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي
وصححه.
3- وفي رواية: "أتى
رجل فقال: يا رسول اللّه إني جئت أريد
الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال:
فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
4- وعن أبي سعيد:
"أن رجلا هاجر إلى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم من اليمن فقال:
هل لك أحد باليمن فقال: أبواي فقال:
أذنا لك
فقال: لا فقال: ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما". رواه أبو داود.
5- وعن معاوية بن جاهمة
السلمي: "أن جاهمة أتى النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه أردت
الغزو وجئتك أستشيرك فقال: هل لك من أم
قال: نعم فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها". رواه أحمد والنسائي.
وهذا كله إن لم يتعين
عليه الجهاد فإذا تعين فتركه معصية ولا طاعة
لمخلوق في معصية اللّه عز وجل
الرواية الثانية من حديث
عبد اللّه بن عمرو أخرجها أيضًا النسائي وابن
حبان وأخرجها أيضًا مسلم وسعيد بن منصور من
وجه آخر في نحو هذه القصة قال ارجع إلى والدتك
فأحسن صحبتها.
وحديث أبي سعيد صححه ابن
حبان. وحديث معاوية بن جاهمة أخرجه أيضًا
البيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن طلحة ابن
ركانة عن معاوية وقد اختلف في إسناده على محمد
بن طلحة اختلافًا كثيرًا ورجال إسناد النسائي
ثقات إلا محمد بن طلحة وهو صدوق يخطئ.
قوله: "أي العمل أحب
إلى اللّه" في رواية للبخاري وغيره "أي
العمل أفضل" وظاهره أن الصلاة أحب الأعمال
وأفضلها.
قال في الفتح:
وحاصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث ونحوه
مما اختلف فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال إن
الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم
كل قوم بما يحتاجون إليه أو بمالهم فيه رغبة
أو بما هو لائق بهم أو كان الاختلاف باختلاف
الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه
في غيره فقد كان الجهاد في أول الإسلام أفضل
الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن
من أدائها وقد تظافرت النصوص على أن الصلاة
أفضل من الصدقة ومع ذلك ففي وقت مواساة
الفقراء المضطرين تكون الصدقة أفضل أو أن أفضل
ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق أو
المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة.
وقال ابن دقيق العيد:
الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية
وأريد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال
القلوب فلا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة
أفضل الأعمال إيمان
ج / 7 ص -220-
باللّه. الحديث. وقال غيره: المراد
بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لأنه يتوقف على
إذن الوالدين فيكون برهما مقدمًا عليه.
قوله: "الصلاة على
وقتها" قال ابن بطال: فيه أن البدار إلى
الصلاة في أول الوقت أفضل من التراخي فيها
لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا
أقيمت لوقتها المستحب. قال الحافظ: وفي
أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر.
قال ابن دقيق العيد:
ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولًا ولا آخرًا
وكان المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء
وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم ولفظ أحب
يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد
الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت وأجيب بأن
المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها
من الأعمال فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب
إلى اللّه من غيرها من الأعمال فوقع الاحتراز
عما إذا وقعت خارجة عن وقتها من معذور كالنائم
والناسي فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف
بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه
محبوبًا لكن إيقاعها في الوقت أحب.
وقد روى الحديث
الدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ الصلاة في
أول وقتها وهذا اللفظ مما تفرد به علي بن حفص
وهو شيخ صدوق من رجال مسلم.
قال الدارقطني:
ما أحسبه حفظه لأنه كبر وتغير حفظه. قال
الحافظ: ورواه الحسين المعمري في اليوم
والليلة عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر
عن شعبة كذلك قال الدارقطني تفرد به المعمري
فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ: "على
وقتها" ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن
أبي موسى كرواية الجماعة وكذا رواه أصحاب غندر
عنه والظاهر أن المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث
من حفظه وقد أطلق النووي في شرح المهذب أن
رواية في أول وقتها ضعيفة وتعقبه الحافظ بأن
لها طريقًا أخرى أخرجها ابن خزيمة في صحيحه
والحاكم وغيرهما من طريق عثمان بن عمر عن مالك
بن مغول عن الوليد وتفرد عثمان بذلك والمعروف
عن مالك بن مغول كرواية الجماعة وكان من رواها
كذلك ظن أن المعنى واحد ويمكن أن يكون أخذه من
لفظة على لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع
الوقت فتعين أوله والظاهر أن على بمعنى اللام
أي لوقتها.
قال القرطبي وغيره:
إن اللام في لوقتها للاستقبال مثل
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلات عدتهن وقيل للابتداء كقوله
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقيل بمعنى في أي في وقتها وقيل إنها لإرادة الاستعلاء على الوقت
وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه.
قوله: "ثم أي" قيل
الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في
الكلام والسائل ينتظر الجواب والتنوين لا يوقف
عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه
ثم يؤتى بما بعده.
قال الفاكهاني:
وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه
لأنه معرب غير مضاف وتعقب بأنه مضاف تقديرًا
والمضاف إليه محذوف لفظًا والتقدير ثم أي
العمل أحب فوقف عليه بلا تنوين.
قوله: "بر
الوالدين" كذا للأكثر وللمستملي ثم بر
الوالدين بزيادة ثم وفي الحديث فضل تعظيم
الوالدين وأن أعمال البدن يفضل بعضها على بعض
وفيه فوائد غير ذلك.
قوله: "ففيهما
فجاهد" أي خصصهما بجهاد النفس في رضائهما.
قال في الفتح: ويستفاد منه جواز التعبير عن
الشيء بضده إذا فهم المعنى لأن
ج / 7 ص -221-
صيغة الأمر في قوله فجاهد ظاهرها إيصال
الضرر الذي كان يحصل لغيرهما بهما وليس ذلك
مرادًا قطعًا وإنما المراد إيصال القدر
المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن وبذل
المال ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى
جهادًا اهـ ولا يخفى أن كون المفهوم من تلك
الصيغة إيصال الضرر بالأبوين إنما يصح قبل
دخول لفظ في عليها وأما بعد دخولها كما هو
الواقع في الحديث فليس ذلك المعنى هو المفهوم
منها فإنه لا يقال جاهد في الكفار بمعنى
جاهدهم كما يقال جاهد في اللّه فالجهاد الذي
يراد منه إيصال الضرر لمن وقعت المجاهدة له هو
جاهده لا جاهد فيه وله. وفي الحديث دليل على
أن بر الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد.
قوله: "فإن أذنا لك
فجاهد" فيه دليل على أنه يجب استئذان
الأبوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا
بتحريم الجهاد إذا منع منه الأبوان أو أحدهما
لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا
تعين الجهاد فلا أذن ويشهد له ما أخرجه ابن
حبان من حديث عبد اللّه بن عمرو قال: "جاء
رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فسأله عن أفضل الأعمال قال
الصلاة
قال ثم مه قال
الجهاد
قال فإن لي والدين فقال آمرك بوالديك خيرًا
فقال والذي بعثك نبيًا لأجاهدن ولأتركنهما قال
فأنت أعلم" وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقًا بين
الحديثين وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمين
وهل يلحق بهما الجد والجدة الأصح عند الشافعية
ذلك وظاهره عدم الفرق بين الأحرار والعبيد.
قال في الفتح:
واستدل بالحديث على تحريم السفر بغير إذنهما
لأن الجهاد إذا منع منه مع فضيلته فالسفر
المباح أولى نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين
حيث يتعين السفر طريقًا إليه فلا منع وإن كان
فرض كفاية ففيه خلاف.
باب لا يجاهد من
عليه دين إلا برضا غريمه
1- عن أبي قتادة:
"عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أنه قام فيهم فذكر لهم
أن الجهاد في سبيل اللّه والإيمان باللّه أفضل
الأعمال
فقام رجل فقال: يا رسول اللّه أرأيت إن قتلت
في سبيل اللّه تكفر عني خطاياي فقال له رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
نعم إن قتلت في سبيل اللّه وأنت صابر محتسب
مقبل غير مدبر
ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
كيف قلت قال: أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه تكفر عني خطاياي فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين
فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".
رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه. ولأحمد والنسائي من
حديث أبي هريرة مثله.
2- وعن عبد اللّه بن
عمرو: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
يغفر
ج / 7 ص -222-
اللّه للشهيد كل ذنب إلا الدين فإن جبريل عليه
السلام قال لي ذلك".
رواه أحمد ومسلم.
3- وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
القتل في سبيل اللّه يكفر كل خطيئة فقال جبريل
إلا الدين فقال النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم إلا الدين".رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
حديث أبي هريرة رجال
إسناده في سنن النسائي ثقات وقد أشار إليه
الترمذي فقال بعد إخراجه لحديث أبي قتادة:
وفي الباب عن أنس ومحمد بن جحش وأبي هريرة
اهـ.
قوله: "أفضل
الأعمال" فيه دليل على أن الجهاد في سبيل
اللّه والإيمان باللّه أفضل من غيرهما من
أعمال الخير وهو يعارض في الظاهر ما تقدم في
الباب الأول ويتوجه الجمع بما سلف.
قوله: "نعم" فيه
دليل على أن الجهاد بشرط أن يكون في سبيل
اللّه مع الاحتساب وعدم الانهزام من مكفرات
جميع الذنوب والخطايا فيكون الشهيد بالشهادة
مستحقًا للمغفرة العامة إلا ما كان من الديون
اللازمة للآدميين فإنها لا تغفر للشهيد ولا
تسقط عنه بمجرد الشهادة وذلك لكونه حقًا لآدمي
وسقوطه إنما يكون برضاه واختياره ولهذا امتنع
صلى اللّه عليه وآله وسلم من الصلاة على من
عليه دين كما تقدم في الضمانة ويلحق بالدين ما
كان حقًا لآدمي من دم أو عرض بجامع أن كل واحد
حق لآدمي يتوقف سقوطه على إسقاطه.
قوله: "فإن جبريل
قال لي ذلك" لعل الجواب منه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بقوله نعم من غير استثناء كان
بالاجتهاد ثم لما أخبره جبريل بما أخبر استعاد
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من السائل
سؤاله ثم أخبره بأن استثناء الدين ليس هو من
جهته وإنما هو بأمر اللّه له بذلك.
وقد استدل بأحاديث الباب
على أنه لا يجوز لمن عليه دين أن يخرج إلى
الجهاد إلا بإذن من له الدين لأنه حق لآدمي
والجهاد حق للّه تعالى وينبغي أن يلحق بذلك
سائر حقوق الآدميين كما تقدم لعدم الفرق بين
حق وحق. ووجه الاستدلال بأحاديث الباب على
عدم جواز خروج المديون إلى الجهاد بغير إذن
غريمه أن الدين يمنع من فائدة الشهادة وهي
المغفرة العامة وذلك يبطل ثمرة الجهاد وقد
أشار صاحب البحر إلى مثل ذلك فقال ومن عليه
دين حال لم يخرج إلا بإذن الغريم لقوله صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
"نعم إلا الدين"
الخبر فإذا منع الشهادة بطلت ثمرة الجهاد اهـ
ولا يخفى أن بقاء الدين في ذمة الشهيد لا يمنع
من الشهادة بل هو شهيد مغفور له كل ذنب إلا
الدين وغفران ذنب واحد يصح جعله ثمرة للجهاد
فكيف بمغفرة جميع الذنوب إلا واحدًا منها
فالقول بأن ثمرة الشهادة مغفرة جميع الذنوب
ممنوع كما أن القول بأن عدم غفران ذنب واحد
يمنع من الشهادة ويبطل ثمرة الجهاد ممنوع
أيضًا وغاية ما اشتملت عليه أحاديث الباب هو
أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه إلا ذنب الدين
وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد
إلا بإذن من له الدين بل إن أحب المجاهد أن
يكون جهاده سببًا لمغفرة كل ذنب استأذن صاحب
الدين في الخروج وإن رضي بأن يبقى عليه ذنب
واحد منها جاز له
ج / 7 ص -223-
الخروج بدون استئذان وهذا إذا كان الدين
حالا وأما إذا كان مؤجلا ففي ذلك وجهان.
قال الإمام يحيى:
أصحهما يعتبر الأذن أيضًا إذ الدين مانع
للشهادة وقيل لا كالخروج للتجارة قال في
البحر: ويصح الرجوع عن الأذن قبل التحام
القتال إذ الحق له لا بعده لما فيه من
الوهن.
باب ما جاء في
الاستعانة بالمشركين
1- عن عائشة قالت:
"خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل
بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان
تذكر منه جرأة ونجدة ففرح به أصحاب رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم حين رأوه فلما أدركه
قال: جئت لأتبعك فأصيب معك فقال له رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
تؤمن باللّه ورسوله
قال: لا قال:
فارجع فلن أستعين بمشرك قالت: ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال
أول مرة فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم كما قال أول مرة فقال لا قال
فارجع فلن أستعين بمشرك
قال فرجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول
مرة
تؤمن باللّه ورسوله قال نعم فقال
له فانطلق".
رواه أحمد ومسلم.
2- وعن خبيب بن عبد
الرحمن عن أبيه عن جده قال: "أتيت النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يريد غزوًا أنا
ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا إنا نستحي أن
يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم فقال: أسلمتما
فقلنا: لا فقال:
إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين فأسلمنا وشهدنا معه". رواه أحمد.
3- وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا على
خواتيمكم عربيًا".
رواه أحمد والنسائي.
4- وعن ذي مخبر قال:
"سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم عدوًا
من ورائكم".
رواه أحمد وأبو داود.
5- وعن الزهري:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم استعان
بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم".رواه أبو داود في مراسيله.
ج / 7 ص -224-
حديث خبيب بن عبد الرحمن أخرجه الشافعي
والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه
وقال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد والطبراني
ورجالهما ثقات.
وحديث أنس في إسناده عند
النسائي أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية رجال
إسناده ثقات.
وحديث ذي مخبر أخرجه
أيضًا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري
ورجال إسناد أبي داود رجال الصحيح.
وحديث الزهري أخرجه
أيضًا الترمذي مرسلا والزهري مراسيله ضعيفة.
ورواه الشافعي فقال أخبرنا يوسف حدثنا حسن بن
عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال
استعان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكر
مثله وقال ولم يسهم لهم.
قال البيهقي:
لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة وهو ضعيف
والصحيح ما أخبرنا الحافظ أبو عبد اللّه فساق
بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال: "خرج
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى إذا
خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال:
من هؤلاء
قالوا: بنو قينقاع رهط عبد اللّه بن سلام
قال:
أو تسلموا قالوا: لا فأمرهم أن يرجعوا وقال إنا لا نستعين بالمشركين فأسلموا".
وحديث عائشة فيه دليل على أنها لا تجوز الاستعانة بالكافر
وكذلك حديث خبيب بن عبد الرحمن ويعارضهما في
الظاهر حديث ذي مخبر وحديث الزهري المذكوران
وقد جمع بأوجه منها ما ذكره البيهقي عن نص
الشافعي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
تفرس الرغبة في الذين ردهم فردهم رجاء أن
يسلموا فصدق اللّه ظنه. وفيه نظر لأن قوله
لا أستعين بمشرك نكرة في سياق النفي تفيد
العموم.
ومنها أن الأمر في ذلك
إلى رأي الإمام وفيه النظر المذكور بعينه.
ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها
قال الحافظ في التلخيص:
وهذا أقربها وعليه نص الشافعي وإلى عدم جواز
الاستعانة بالمشركين ذهب جماعة من العلماء وهو
مروي عن الشافعي وحكي في البحر عن العترة وأبي
حنيفة وأصحابه أنها تجوز الاستعانة بالكفار
والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه
واستدلوا باستعانته صلى اللّه عليه وآله وسلم
بناس من اليهود كما تقدم وباستعانته صلى اللّه
عليه وآله وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين
وبإخباره صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنها ستقع
من المسلمين مصالحة الروم ويغزون جميعًا عدوًا
من وراء المسلمين.
قال في البحر:
وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعًا لاستعانته
صلى اللّه عليه وآله وسلم بابن أبي وأصحابه
وتجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعًا
وعلى البغاة عندنا لاستعانة علي عليه السلام
بالأشعث انتهى.
وقد روي عن الشافعي
المنع من الاستعانة بالكفار على المسلمين لأن
في ذلك جعل سبيل للكافر على المسلم وقد قال
تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} وأجيب بأن السبيل هو اليد وهي للإمام الذي
استعان بالكافر وشرط بعض أهل العلم ومنهم
الهادوية أنها لا يجوز الاستعانة بالكفار
والفساق إلا حيث مع الإمام جماعة من المسلمين
يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية على الذين
استعان بهم ليكونوا مغلوبين لا غالبين كما كان
عبد اللّه بن أبي ومن معه من المنافقين يخرجون
مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للقتال وهم
كذلك ومما يدل على جواز الاستعانة بالمشركين
أن قزمان خرج مع أصحاب النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني
عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى
اللّه عليه وآله وسلم وآله وسلم
إن اللّه ليأزر هذا
ج / 7 ص -225-
بالدين الرجل الفاجر" كما ثبت ذلك عند أهل السير وخرجت خزاعة مع النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم على قريش عام الفتح
ـ والحاصل ـ
أن الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن
كان مشركًا مطلقًا لما في قوله صلى اللّه عليه
وآله وسلم
"إنا لا نستعين بالمشركين" من العموم.
وكذلك قوله
"أنا لا أستعين بمشرك"
ولا يصلح مرسل الزهري لمعارضة ذلك لما تقدم من
أن مراسيل الزهري ضعيفة والمسند فيه الحسن بن
عمارة وهو ضعيف ويؤيد هذا قوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً}
وقد أخرج الشيخان عن البراء قال: "جاء رجل
مقنع بالحديد فقال: يا رسول اللّه أقاتل أو
أسلم قال:
أسلم ثم قاتل
فأسلم ثم قاتل فقتل فقال صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
عمل قليلا وأجر كثيرًا"
وأما استعانته صلى اللّه عليه وآله وسلم بابن
أبي فليس ذلك إلا لإظهاره الإسلام وأما مقاتلة
قزمان مع المسلمين فلم يثبت أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أذن له بذلك في ابتداء الأمر
وغاية ما فيه أنه يجوز للإمام السكوت عن كافر
قاتل مع المسلمين.
قوله: "بحرة
الوبرة" الحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد
الراء والوبرة بفتح الواو والباء الموحدة
بعدها راء وبسكون الموحدة أيضًا موضع على
أربعة أميال من المدينة.
قوله: "بالشجرة"
اسم موضع وكذلك البيداء.
قوله: "ولا تنقشوا
على خواتيمكم عربيًا" بفتح العين المهملة
والراء وبعدها موحدة.
قال في القاموس في مادة
عرب ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيًا أي لا
تنقشوا محمد رسول اللّه كأنه قال نبيًا عربيًا
يعني نفسه صلى اللّه عليه وآله وسلم انتهى.
نهى صلى اللّه عليه وآله
وسلم أن ينقشوا على خواتيمهم مثل ما كان ينقش
على خاتمه وهو محمد رسول اللّه لأنه كان علامة
له في ذلك الوقت يختم به كتبه.
باب ما جاء في
مشاورة الإمام الجيش ونصحه لهم ورفقه بهم
وأخذهم بما عليهم
1- عن أنس: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شاور حين بلغه
إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم
تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال:
إيانا تريد يا رسول اللّه والذي نفسي بيده لو
أمرتنا أن نخيضها البحر لاخضناها ولو أمرتنا
أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا قال:
فندب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
الناس فانطلقوا". رواه أحمد ومسلم.
2- وعن أبي هريرة قال:
"ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشورة لأصحابه
من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم".رواه أحمد والشافعي.
قوله: "حين بلغه
إقبال أبي سفيان" هذا الأمر كان في غزوة بدر
وقد اقتصر المصنف ههنا على أول الحديث لكونه
محل الحاجة وتمامه: "فانطلقوا حتى نزلوا
بدرًا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود
لبني الحجاج فكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه
فيقول لهم ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو
جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس فإذا
ج / 7 ص -226-
قال ذلك ضربوه ورسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قائم يصلي فلما رأى ذلك انصرف فقال
والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم
وتتركونه إذا كذبكم ثم قال هذا مصرع فلان ويضع
يده على الأرض ههنا ههنا
قال فواللّه ما ماط أحد منهم عن موضعه.
قوله: "أن نخيضها"
أي الخيل وهو بالخاء المعجمة بعدها مثناة
تحتية ثم ضاد معجمة قال في القاموس: خاض
الماء يخوضه خوضًا وخياضًا دخله كخوضه واختاضه
وبالفرس أو رده كاخاضه انتهى.
قوله: "برك" بكسر
الباء الموحدة وفتحها مع سكون الراء.
والغماد بغين معجمة مثلثة كما في القاموس وهو
موضع في ساحل البحر بينه وبين جدة عشرة أميال
وهو البندر القديم. وحكى صاحب القاموس عن
ابن عليم في الباهر أنه أقصى معمور الأرض.
قوله: "ما رأيت
أحدًا قط" الخ فيه دليل على أنه يشرع للإمام
أن يستكثر من استشارة أصحابه الموثوق بهم
دينًا وعقلًا وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب
استشارة الإمام لأهل الفضل واستدلوا بظاهر
قوله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}
وقيل إن الأمر في الآية للندب إيناسًا لهم
وتطييبًا لخواطرهم وأجيب بأن ذلك نوع من
التعظيم وهو واجب والاستدلال بالآية على
الوجوب إنما يتم بعد تسليم أنها غير خاصة
برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أو بعد
تسليم أن الخطاب الخاص به يعم الأمة أو الأئمة
وذلك مختلف فيه عند أهل الأصول.
3- وعن معقل بن يسار
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
ما من عبد يسترعيه اللّه رعية يموت يوم يموت
وهو غاش لرعيته إلا حرم اللّه عليه الجنة". متفق عليه.
وفي لفظ:
"ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد
لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" رواه مسلم.
4- وعن عائشة قالت:
"سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
اللّهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم
فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق
بهم فارفق به". رواه أحمد ومسلم.
5- وعن جابر قال: "كان
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخلف في
المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم".
رواه أبو داود.
6- وعن سهل بن معاذ عن
أبيه قال: "غزونا مع النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق
فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
مناديًا فنادى
من ضيق منزلا أو قطع طريقًا فلا جهاد له".
رواه أحمد وأبو داود.
حديث جابر سكت عنه أبو
داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا
الحسن بن شوكر وقد قيل إن البخاري روى له كما
ذكره صاحب التقريب وحديث سهل بن معاذ في
إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال قد تقدم
وسهل بن معاذ ضعيف كما قال المنذري. قوله:
ج / 7 ص -227-
"إلا حرم اللّه عليه الجنة"
وفي رواية للبخاري: "لم يجد رائحة الجنة"
زاد الطبراني:
"وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين
عامًا"
وأصل هذا الحديث أن عبيد اللّه بن زياد لما
أفرط في سفك الدماء وكان معقل بن يسار حينئذ
مريضًا مرضه الذي مات فيه فأتى عبيد اللّه
يعوده فقال له معقل إني محدثك حديثًا سمعته من
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكره.
وفي مسلم أنه لما حدثه
بذلك قال ألا كنت حدثتني قبل هذا اليوم قال لم
أكن لأحدثك قبل سبب ذلك والمراد بهذا السبب هو
ما كان يقع منه من سفك الدماء ووقع في رواية
الإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه مسلم لولا أني
ميت ما حدثتك فكأنه كان يخشى بطشه فلما نزل به
الموت أراد أن يكف بعض شره عن المسلمين.
وأخرج الطبراني في الكبير عن الحسن قال قدم
علينا عبيد اللّه بن زياد أميرًا أمره علينا
معاوية غلامًا سفيهًا يسفك الدماء سفكًا
شديدًا وفينا عبد اللّه بن معقل المزني فدخل
عليه ذات يوم فقال له انته عما أراك تصنع فقال
له وما أنت وذاك قال ثم خرج إلى المسجد فقلنا
له ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رؤوس
الناس فقال أنه كان عندي علم فأحببت أن لا
أموت حتى أقول به على رؤوس الناس ثم قام فما
لبث أن مرض مرضه الذي توفى فيه فأتاه عبيد
اللّه بن زياد يعوده فذكر نحو حديث الباب
فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين.
قوله: "ما من
أمير" في رواية للبخاري: ما من وال يلي
رعية من المسلمين.
قوله: "ثم لا
يجتهد" في رواية أبي المليح ثم لا يجد له
بجيم ودال مشددة من الجد بالكسر ضد الهزل.
قوله: "يلي" قال
ابن التين: يلي جاء على غير القياس لأن
ماضيه ولي بالكسر فمستقبله يولي بالفتح وهو
مثل ورث يرث
قال ابن بطال:
هذا وعيد شديد على أئمة الجور فمن ضيع من
استرعاه اللّه أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه
إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فكيف
يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة ومعنى حرم
اللّه عليه الجنة أي أنفذ عليه الوعيد ولم يرض
عنه المظلومين ونقل ابن التين عن الداودي نحوه
قال: ويحتمل أن يكون هذا في حق الكافر لأن
المؤمن لا بد له من نصحه.
قال الحافظ:
وهو احتمال بعيد جدًا والتعليل مردود والكافر
أيضًا قد يكون ناصحًا فيما تولاه ولا يمنعه
ذلك الكفر انتهى. ويمكن أن يجاب على هذا بأن
النصح من الكافر لا حكم له لعدم كونه مثابًا
عليه والأولى في الجواب أن يقال إن الواقع في
الحديث نكرة في سياق النفي وهي تعم الكافر
والمسلم فلا يقبل التخصيص إلا بدليل وقال
بعضهم يحمل على المستحل. قال الحافظ:
والأولى أنه محمول على غير المستحل وإنما أريد
به الزجر والتغليظ قال: وقد وقع في رواية
لمسلم بلفظ:
"لم يدخل معهم الجنة"
وهو يؤيد أن المراد أنه لا يدخل الجنة في وقت
دون وقت انتهى. ويجاب بأن الحمل على الزجر
والتغليظ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا لدليل
ورواية مسلم لا تدل على أن الدخول في بعض
الأوقات لأن النفي فيها مطلق وغاية ما فيه أنه
غير مؤكد كما في النفي بلن. قال الطيبي:
إن قوله وهو غاش قيد للفعل مقصود بالذكر يريد
أن اللّه تعالى إنما ولاه على عباده ليديم لهم
النصيحة لا ليغشهم حتى يموت على ذلك فمن قلب
القضية استحق أن يعاقب.
قوله: "فيزجي
الضعيف" بضم
ج / 7 ص -228-
التحتية وسكون الزاي بعدها جيم قال في
القاموس: زجاه ساقه ودفعه كزجاه وازجاه.
قوله: "ويردف" قال
في القاموس: الردف بالكسر الراكب خلف الراكب
انتهى والمراد أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان يردف خلفه من ليس له راحلة إذا كان يضعف
عن المشي وهذا من حسن خلقه الذي وصفه اللّه
تعالى به وذكر عظمه فقال: {وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} {بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
قوله: "فلا جهاد
له" فيه أنه لا يجوز لأحد تضييق الطريق التي
يمر بها الناس ونفي جهاد من فعل ذلك على طريق
المبالغة في الزجر والتنفير وكذلك لا يجوز
تضييق المنازل التي ينزل فيها المجاهدون لما
في ذلك الإضرار بهم.
باب لزوم طاعة
الجيش لأميرهم ما لم يأمر بمعصية
1- عن معاذ بن جبل:
"عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه اللّه وأطاع
الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب
الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله وأما من غزا
فخرًا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض
فإنه لن يرجع بالكفاف".
رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
2- وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى
اللّه ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص
الأمير فقد عصاني". متفق عليه.
3- وعن ابن عباس في قوله
تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ} قال: "نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سرية".
رواه أحمد والنسائي.
4- وعن علي رضي اللّه
عنه قال: "بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار
وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شيء
فقال اجمعوا لي حطبًا فجمعوا ثم قال: أوقدوا
نارًا فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تسمعوا
وتطيعوا قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر
بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من النار
فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما
رجعوا ذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال:
لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا
وقال:
لا طاعة في معصية اللّه إنما الطاعة في المعروف". متفق عليه.
ج / 7 ص -229-
حديث معاذ في إسناده بقية بن الوليد وفيه
مقال قال في التقريب: صدوق كثير التدليس عن
الضعفاء وقد صرح بالتحديث في سند هذا الحديث
عن يجير وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود قال
المنذري في مختصر السنن وأخرجه البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي.
قوله: "وأنفق
الكريمة" هي الفرس التي يغزى عليها قال في
القاموس: والكريمان الحج والجهاد ومنه خير
الناس مؤمن بين كريمين أو معناه بين فرسين
يغزو عليهما أو بعيرين يستقي عليهما اهـ
ويحتمل أن يكون المراد إنفاق الخصلة الكريمة
عند المنفق المحبوبة إليه من غير تعيين.
قوله: "وياسر
الشريك" أي سامحه وعامله باليسر ولم
يعاسره.
قوله: "ونبهه"
بفتح النون وسكون الموحدة أي انتباهه في سبيل
اللّه.
قوله: "لن يرجع
بالكفاف" أي لم يرجع لا عليه ولا له من ثواب
تلك الغزوة وعقابها بل يرجع وقد لزمه الإثم
لأن الطاعات إذا لم تقع بصلاح سريرة انقلبت
معاصي والعاصي آثم.
قوله: "من أطاعني
فقد أطاع اللّه" الخ هذا الحديث فيه دليل
على أن طاعة من كان أميرًا طاعة له صلى اللّه
عليه وآله وسلم وطاعته طاعة للّه وعصيانه
عصيان له وعصيانه عصيان للّه وقد قدمنا من
الأدلة الدالة على وجوب طاعة الأئمة والأمراء
في باب الصبر على جور الأئمة من آخر كتاب
الحدود ما فيه كفاية فليرجع إليه.
وقد نص القرآن على ذلك
فقال
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ} وهي نازلة في طاعة الأمراء كما في رواية ابن عباس المذكورة في
الباب.
وقد قيل إن أولي الأمر
هم العلماء كما وقع في الكشاف وغيره من كتب
التفسير.
قوله: "رجلا من
الأنصار" روى أحمد وابن ماجه وصححه ابن
خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد أن
الرجل المذكور هو علقمة بن مجزز وكذا ذكر ابن
إسحاق. وقيل إنه عبد اللّه بن حذافة السهمي
وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة ويجمع
بينهما بأن كل واحد منهما كان أميرًا على بعض
من تلك السرية ويدل على ذلك حديث أبي سعيد
الذي أشرنا إليه ولفظه: "بعث رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم علقمة بن مجزز على
بعث أنا فيهم حتى إذا انتهينا إلى رأس غزاتنا
إذ كنا ببعض الطريق إذ بطائفة من الجيش وأمر
عليهم عبد اللّه بن حذافة السهمي وكان من
أصحاب بدر وكان فيه دعابة" الحديث.
وقد بوب البخاري على هذا
الحديث فقال باب سرية عبد اللّه بن حذافة
السهمي وعلقمة بن مجزز المدلجي.
قوله: "أوقد
نارًا" الخ قيل إنه لم يقصد دخولهم النار
حقيقة وإنما أشار بذلك إلى أن طاعة الأمير
واجبة ومن ترك الواجب دخل النار فإذا شق عليكم
دخول هذه النار فكيف بالنار الكبرى وكان قصده
أنه لو رأى منهم الجد في ولوجها لمنعهم.
قوله: "لو دخلوها لم
يخرجوا منها" قال الداودي: يريد تلك النار
لأنهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء
قال: وليس المراد بالنار نار جهنم ولا أنهم
يخلدون فيها لأنه قد ثبت في حديث الشفاعة أنه
يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من
إيمان قال: وهذا من المعاريض التي فيها
مندوحة يريد أنه سيق مساق الزجر والتخويف
ليفهم السامع أن من فعل ذلك خلد في النار وليس
ذلك مرادًا وإنما أريد به الزجر والتخويف وقد
ذكر له صاحب الفتح توجيهات في كتاب المغازي.
قوله: "لا طاعة في
معصية اللّه" أي لا تجب بل
ج / 7 ص -230-
تحرم على من كان قادرًا على الامتناع. وفي
حديث معاذ عند أحمد لا طاعة لمن لم يطع
اللّه. وعند البزار في حديث عمران بن حصين
والحكم بن عمرو الغفاري لا طاعة في معصية
اللّه وسنده قوي.
وفي حديث عبادة بن
الصامت عند أحمد والطبراني لا طاعة لمن عصى
اللّه ولفظ البخاري في حديث الباب:
"فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"
وهذا تقييد لما أطلق في الأحاديث المطلقة
القاضية بطاعة أولي الأمر على العموم والقاضية
بالصبر على ما يقع من الأمير مما يكره والوعيد
على مفارقة الجماعة والمراد بقوله لا طاعة في
معصية اللّه نفي الحقيقة الشرعية لا الوجودية
وقوله "إنما الطاعة في المعروف" فيه بيان
ما يطاع فيه من كان من أولي الأمر وهو الآمر
المعروف لا ما كان منكرًا والمراد بالمعروف ما
كان من الأمور المعروفة في الشرع لا المعروف
في العقل أو العادة لأن الحقائق الشرعية مقدمة
على غيرها على ما تقرر في الأصول.
باب الدعوة قبل
القتال
1- عن ابن عباس قال: "ما
قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قومًا قط إلا دعاهم". رواه أحمد.
2- وعن سليمان بن بريدة
عن أبيه قال: "كان رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو
سرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه ومن معه من
المسلمين خيرًا ثم قال
"اغزوا بسم اللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر
باللّه اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا
ولا تقتلوا وليدًا وإذا لقيت عدوك من المشركين
فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما
أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام
فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى
التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم
أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم
ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها
فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري
عليهم الذي يجري على المسلمين ولا يكون لهم في
الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع
المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك
فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن باللّه
عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن
تجعل لهم ذمة اللّه وذمة نبيه فلا تجعل لهم
ذمة اللّه وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة
أصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم
أهون من أن تخفروا ذمة اللّه وذمة رسوله وإذا
حاصرت أهل حصن وأرادوك
ج / 7 ص -231-
أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم
اللّه ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري
أتصيب فيهم حكم اللّه أم لا". رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه. وهو حجة في أن قبول
الجزية لا يختص بأهل الكتاب وأن ليس كل مجتهد
مصيبًا بل الحق عند اللّه واحد وفيه المنع من
قتل الولدان ومن التمثيل.
حديث ابن عباس أخرجه
أيضًا الحاكم من طريق عبد اللّه بن أبي نجيح
عن أبيه عنه. قال في مجمع الزوائد: أخرجه
أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله رجال
الصحيح. وظاهر قوله إلا دعاهم يخالف حديث
نافع عن ابن عمر: "أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أغار على بني المصطلق وهم
غارون".
قوله: "أو سرية"
هي القطعة من الجيش تنفصل عنه ثم تعود إليه
وقيل هي قطعة من الخيل زهاء أربعمائة كذا قال
إبراهيم الحربي. وسميت سرية لأنها تسري
ليلًا على خفية.
قوله: "ولا تغلوا"
بضم الغين أي لا تخونوا إذا غنمتم شيئًا.
قوله: "ولا
تغدروا" بكسر الدال وضمها وهو ضد الوفاء.
قوله: "وليدًا" هو
الصبي.
قوله: "فادعهم"
وقع في نسخ مسلم ثم ادعهم. قال عياض:
الصواب إسقاط ثم وقد أسقطها أبو عبيد في كتابه
وأبو داود في سننه وغيرهما لأنه تفسير للخصال
الثلاث.
وقال المازري:
إن ثم دخلت لاستفتاح الكلام وفي هذا دليل على
أنه يشرع للإمام إذا أرسل قومه إلى قتال
الكفار ونحوهم أن يوصيهم بتقوى اللّه وينهاهم
عن المعاصي المتعلقة بالقتال كالغلول والغدر
والمثلة وقتل الصبيان وفيه دليل على وجوب
تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتلة
وفي المسألة ثلاثة مذاهب:
الأول
أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من
غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم
تبلغه وبه قال مالك والهادوية وغيرهم وظاهر
الحديث معهم.
والمذهب الثاني
أنه لا يجب مطلقًا وسيأتي في هذا الباب دليل
من قال به.
المذهب الثالث
أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن
بلغتهم لكن يستحب قال ابن المنذر وهو قول
جمهور أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة
على معناه وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من
الأحاديث وقد زعم الإمام المهدي أن وجوب تقديم
دعوة من لم تبلغه الدعوة مجمع عليه ويرد ذلك
ما ذكرنا من المذاهب الثلاثة وقد حكاها
المازري وأبو بكر ابن العربي.
قوله: "ثم ادعهم إلى
التحول" فيه ترغيب الكفار بعد إجابتهم
وإسلامهم إلى الهجرة إلى ديار المسلمين لأن
الوقوف بالبادية ربما كان سببًا لعدم معرفة
الشريعة لقلة من فيها من أهل العلم.
قوله: "ولا يكون لهم
في الفيء والغنيمة شيء" الخ ظاهر هذا أنه لا
يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبًا في
الفيء والغنيمة إذا لم يجاهد وبه قال الشافعي
وفرق بين مال الفيء والغنيمة وبين مال الزكاة
وقال: إن للأعراب حقًا في الثاني دون
الأول. وذهب مالك وأبو حنيفة والهادوية إلى
عدم الفرق بينهما وأنه يجوز صرف
ج / 7 ص -232-
كل
واحد منهما في مصرف الآخر. وزعم أبو عبيد أن
هذا الحكم منسوخ وإنما كان في أوائل الإسلام
وأجيب بمنع دعوى النسخ.
قوله: "فسلهم الجزية" ظاهره عدم الفرق
بين الكافر العجمي والعربي والكتابي وإلى ذلك
ذهب مالك والأوزاعي وجماعة من أهل العلم
وخالفهم الشافعي فقال لا تقبل الجزية إلا من
أهل الكتاب والمجوس عربًا كانوا أو عجمًا
واستدل بقوله تعالى {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ}
بعد ذكر أهل الكتاب وقوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وأما
سائر المشركين فهم داخلون تحت عموم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير
الكتابي وتقبل من الكتابي ومن العجمي ولعله
يأتي لهذا البحث مزيد بسط.
قوله: "ذمة اللّه" الذمة عقد الصلح
والمهادنة وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة
من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض من لا
تمييز له من الجيش فيكون ذلك أشد لأن نقض ذمة
اللّه ورسوله أشد من نقض ذمة أمير الجيش أو
ذمة جميع الجيش وإن كان نقض الكل محرمًا.
قوله: "إن تخفروا" بضم التاء الفوقية
وبعدها خاء معجمة ثم فاء مكسورة وراء يقال
أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته بمعنى أمنته
وحميته.
قوله: "فلا تنزلهم على حكم اللّه" الخ
هذا النهي محمول على التنزيه والاحتياط وكذلك
الذي قبله والوجه ما سلف ولهذا قال صلى اللّه
عليه وآله وسلم
"فإنك لا تدري
أتصيب فيهم حكم اللّه أم لا".
وفيه دليل لمن قال أن الحق مع واحد وأن ليس كل
مجتهد مصيبًا والخلاف في المسألة مشهور مبسوط
في مواضعه والحق أن كل مجتهد مصيب من الصواب
لا من الإصابة.
وقد قيل إن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به
على أن ليس كل مجتهد مصيبًا لأن ذلك كان في
زمن النبي والأحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال
تنزل وينسخ بعضها بعضًا ويخصص بعضها ببعض فلا
يؤمن أن ينزل على النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس.
3- وعن فروة بن مسيك قال: "قلت يا رسول
اللّه أقاتل بمقبل قومي مدبرهم قال
نعم
فلما وليت دعاني فقال لا تقاتلهم
حتى تدعوهم إلى الإسلام".
رواه أحمد.
4- وعن ابن عوف قال: "كتبت إلى نافع أسأله
عن الدعاء قبل القتال فكتب إليّ إنما كان ذلك
في أول الإسلام وقد أغار رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم على بني المصطلق وهم غارون
وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى
ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث حدثني
به عبد اللّه بن عمر وكان في ذلك الجيش".
متفق عليه. وهو دليل على استرقاق العرب.
ج / 7 ص -233-
5- وعن سهل بن سعد: "أنه سمع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم يوم خيبر فقال:
أين علي فقيل إنه يشتكي عينيه فأمر فدعا له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى
كأنه لم يكن به شيء فقال:
نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال:
على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى
الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فواللّه لأن
يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم".
متفق عليه.
6- وعن البراء بن عازب
قال: "بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عبد
اللّه بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم".
رواه أحمد والبخاري.
حديث فروة أخرجه أبو
داود والترمذي وحسنه وقد أورده الحافظ في
التلخيص وسكت عنه.
قوله: "على بني
المصطلق" بضم الميم وسكون المهملة وفتح
الطاء وكسر اللام بعدها قاف وهو بطن شهير من
خزاعة. والمصطلق أبوهم وهو المصطلق ابن سعد
بن عمرو بن ربيعة ويقال المصطلق لقبه واسمه
جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة.
قوله: "وهم غارون"
بغين معجمة تشديد الراء جمع غار بالتشديد أي
غافلون والمراد بذلك الأخذ على غرة أي غفلة.
قوله: "وسبى ذراريهم" فيه دليل على جواز
استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة
كما سلف وسيأتي الكلام على ذلك في باب جواز
استرقاق العرب.
قوله: "فبصق في
عينيه فبرأ مكانه" فيه معجزة ظاهرة للنبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وفيه منقبة لعلي
عليه سلام اللّه ورحمته وبركاته فإن هذه
الغزوة هي التي قال فيها صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"لأعطين الراية غدًا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله
فتطاول الناس لها فقال ادعوا لي عليًا فأتى به
أرمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ففتح
اللّه عليه"
هذا لفظ مسلم والترمذي.
قوله: "حتى يكونوا
مثلنا" المراد من المثلية المذكورة أن
يوصفوا بوصف الإسلام وذلك يكون في تلك الحال
بالتكلم بالشهادتين وليس المراد أنهم يكونون
مثلهم في القيام بأمور الإسلام كلها فإن ذلك
لا يمكن امتثاله حال المقاتلة.
قوله: "على رسلك"
بكسر الراء وسكون السين أي أمشي إليهم على
الرفق والتؤدة قال في القاموس: الرسل بالكسر
الرفق والتؤدة.
قوله: "بساحتهم"
قال في القاموس: الساحة الناحية وفضاء بين
دور الحي الجمع ساح وسوح وساحات انتهى.
قوله: "فواللّه لأن
يهتدي بك رجل" الخ فيه الترغيب في التسبب
لهداية من كان على ضلالة وأن ذلك خير للإنسان
من أجل النعم الواصلة إليه في الدنيا.
وفي حديث فروة وسهل بن
سعد دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى
الإسلام على الإطلاق وقد تقدم الخلاف في ذلك
والصواب الجمع بين الأحاديث المختلفة بما سلف
لحديث ابن عمر المذكور فإن فيه التصريح بأن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقدم
الدعوة لبني المصطلق.
قوله: "إلى أبي
رافع" هو عبد اللّه بن أبي الحقيق وهذا طرف
من الحديث أورده المصنف ههنا لأنه محل الحاجة
ج / 7 ص -234-
باعتبار ترجمة الباب لتضمنه وقوع القتل لأبي
رافع قبل تقديم الدعوة إليه وعدم أمره صلى
اللّه عليه وآله وسلم لمن بعثه لقتله بأن يقدم
الدعوة له إلى الإسلام والقصة مشهورة ساقها
البخاري بطولها في المغازي من صحيحه.
قوله: "رهطًا من
الأنصار" هم عبد اللّه بن عتيك وعبد اللّه
بن عتبة وعند ابن إسحاق ومسعود بن سنان وعبد
اللّه بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الأسود.
قوله: "ابن عتيك"
بفتح المهملة وكسر المثناة وهو ابن قيس بن
الأسود من بني سلمة بكسر اللام وكان سبب أمره
صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتله أنه كان يؤذي
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويعين
عليه كما في الصحيح.
باب ما يفعله
الإمام إذا أراد الغزو من كتمان حاله والتطلع
على حال عدوه
1- عن كعب بن مالك:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان
إذا أراد غزوة ورى بغيرها". متفق عليه وهو لأبي داود وزاد والحرب خدعة.
2- وعن جابر قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
الحرب خدعة".
3- وعن أبي هريرة قال:
"سمى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الحرب
خدعة".
4- وعن جابر قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب فقال الزبير: أنا ثم قال:
من يأتيني بخبر القوم
قال الزبير: أنا فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
لكل نبي حواري وحواري الزبير".
متفق عليهن.
5- وعن أنس قال:
"بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بسبسا عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء
فحدثه الحديث فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فتكلم فقال:
إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا
فجعل رجال يستأذنونه في ظهرهم في علو المدينة
فقال:
لا إلا من كان ظهره حاضرًا فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأصحابه حتى سبقوا ركب
المشركين إلى بدر". رواه أحمد ومسلم.
قوله: "ورى" أي
ستر ويستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره وأصله
من الورى بفتح الواو وسكون الراء هو ما يجعل
وراء الإنسان لأن من ورى بشيء كأنه جعله
وراءه. وقيل هو في الحرب أخذ العدو على غرة
وقيده السيرافي في شرح كتاب سيبويه بالهمزة
قال وأصحاب الحديث لم يضبطوا فيه الهمزة
فكأنهم سهلوها.
قوله: "خدعة" بفتح
الخاء المعجمة وضمها مع سكون الدال المهملة
وبضم أوله وفتح ثانيه قال النووي: اتفقوا
على أن الأولى أفصح وبذلك
ج / 7 ص -235-
جزم أبو ذر الهروي والقزاز والثانية ضبطت
كذلك في رواية الأصيلي ورجح ثعلب الأولى وقال
بلغنا بها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
أبو بكر ابن طلحة أراد ثعلب أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم كان يستعمل هذه البنية
كثيرًا لوجازة لفظها ولكونها تعطي معنى
البنيتين الآخرتين قال ويعطي معناهما أيضًا
الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرة قال
فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى. ومعنى خدعة
بالإسكان أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم
المصدر أو من وصف المفعول كما يقال هذا الدرهم
ضرب الأمير أي مضروبه.
وقال الخطابي:
معناها أنها مرة واحدة أي إذا خدع مرة واحدة
لم تقل عثرته وقيل الحكمة في الإتيان بالتاء
للدلالة على الوحدة فإن الخداع إن كان من
المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ولو مرة واحدة
وإن كان من الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم ولو
وقع مرة واحدة فلا ينبغي التهاون بهم لما ينشأ
عنه من المفسدة ولو قل وفي اللغة الثالثة صيغة
المبالغة كهمزة ولمزة. وحكى المنذري لغة
رابعة بالفتح فيهما قال: وهو جمع خادع أي أن
أهلها بهذه الصفة فكأنه قال أهل الحرب خدعة
وحكى مكي ومحمد بن عبد اللّه الواحد لغة خامسة
كسر أوله مع الإسكان وأصله إظهار أمر وإضمار
خلافه وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب
والندب إلى خداع الكفار وأن من لم يتيقظ لم
يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
قال النووي:
واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيف ما
أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا
يجوز.
قال ابن العربي:
الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو
ذلك.
وفي الحديث الإشارة إلى
استعمال الرأي في الحرب بل الاحتياج إليه آكد
من الشجاعة قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة
أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها
إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر
المواجهة ولحصول الظفر مع المخادعة بغير
خطر.
قوله: "بسبسا" بضم
الباء الموحدة الأولى وبعدها سين مهملة ساكنة
وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم سين مهملة وهو ابن
عمرو ويقال ابن بشر. وفي سنن أبي بسبسة
بزيادة تاء التأنيث وقيل فيه أيضًا بسيسة
بالباء الموحدة مضمومة في أوله وفتح السين
المهملة ثم ياء مثناة تحتية ساكنة.
قوله: "فقال إن لنا
طلبة" بكسر اللام كما في القاموس. وفي
النهاية الطلبة الحاجة هذا فيه إبهام للمقصود
وقد أورده المصنف للاستدلال به على أن الإمام
يكتم أمره كما وقع في الترجمة.
باب ترتيب
السرايا والجيوش واتخاذ الرايات وألوانها
1- عن ابن عباس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير
الجيوش أربعة آلاف ولا تغلب اثنا عسر ألفًا من
قلة".رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وذكر أنه في أكثر
الروايات عن الزهري عن النبي
ج / 7 ص -236-
صلى اللّه عليه وآله وسلم مرسلا. وتمسك به
من ذهب إلى أن الجيش إذا كان اثني عشر ألفًا
لم يجز أن يفر من أمثاله وأضعافه وإن كثروا.
2- وعن ابن عباس قال:
"كانت راية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض".
رواه الترمذي وابن ماجه. 3- وعن سماك عن رجل
من قومه عن آخر منهم قال: "رأيت راية
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صفراء".
رواه أبو داود.
4- وعن جابر:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دخل مكة
ولواؤه أبيض".
رواه الخمسة إلا أحمد.
5- وعن الحارث بن حسان
البكري قال: "قدمنا المدينة فإذا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على المنبر
وبلال قائم بين يديه متقلد بالسيف وإذا رايات
سود فسألت ما هذه الرايات فقالوا عمرو بن
العاص قدم من غزاة". رواه أحمد وابن
ماجه.
وفي لفظ: "قدمت
المدينة فدخلت المسجد فإذا هو غاص بالناس وإذا
رايات سود وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قلت ما شأن
الناس قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص
وجهًا" رواه الترمذي.
6- وعن البراء بن
عازب: "أنه سئل عن راية رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم ما كانت قال: كانت
سوداء مربعة من نمرة". رواه أحمد وأبو
داود والترمذي.
حديث ابن عباس سكت عنه
أبو داود واقتصر المنذري في مختصر السنن على
نقل كلام الترمذي. وأخرجه أيضًا الحاكم وقال
هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وحديث ابن عباس الثاني
أخرج نحوه أبو داود والنسائي وفي إسناد حديث
الباب يزيد بن حيان أخو مقاتل بن حيان قال
البخاري عنده غلط كثير وأخرج البخاري هذا
الحديث في تاريخه مقتصرًا على الراية.
وحديث سماك في إسناده
رجل مجهول وهو الذي روى عنه سماك ومجهول آخر
وهو الذي قال رأيت راية النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم ولكن جهالة الرجل الآخر غير قادحة
إن كان صحابيًا لما قررنا غير مرة أن مجهول
الصحابة مقبول وليس في هذا الحديث ما يدل على
أنه صحابي لأنه يمكن أنه رأى راية رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد موته ولم تثبت
رؤيته للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وحديث جابر أخرجه أيضًا
الحاكم وابن حبان وقال الترمذي هذا حديث غريب
لا نعرفه إلا من حديث
ج / 7 ص -237-
يحيى بن آدم عن شريك قال وسألت محمدًا يعني
البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث
يحيى بن آدم عن شريك.
وحديث الحارث بن حسان
رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي
بكر بن عياش عن عاصم عن الحارث بن حسان فذكره
وهؤلاء رجال الصحيح وهذا الحديث إنما أشار
إليه الترمذي في كتاب الجهاد إشارة لأنه قال
بعد إخراج حديث البراء المذكور ما لفظه: وفي
الباب عن علي والحارث بن حسان وابن عباس ولم
يذكر اللفظ الذي ذكره المصنف ونسبه إليه ولعله
ذكره في موضع آخر من جامعه.
وحديث البراء قال
الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن غريب لا
نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة انتهى. وفي
إسناده أبو يعقوب الثقفي واسمه إسحاق بن
إبراهيم قال ابن عدي الجرجاني روي عن الثقات
ما لا يتابع عليه. وقال أيضًا وأحاديثه غير
محفوظة انتهى.
وفي الباب عن سلمة في
الصحيحين: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
لأعطين الراية رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه
اللّه ورسوله فأعطاها عليًا" وعن يزيد بن جابر الغفري عند ابن السكن قال: عقد رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم رايات الأنصار وجعلهن
صفرًا" وعن أنس عند النسائي أن ابن أم مكتوم
كانت معه راية سوداء في بعض مشاهد النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال المنذري: وهو حديث
حسن وقال ابن القطان: صحيح. وعن أبي هريرة
عند ابن عدي وعن بريدة عند أبي يعلى. وعن
أنس حديث آخر عند أبي يعلى رفعه:
"إن اللّه أكرم أمتي بالألوية" وإسناده ضعيف. وعن ابن عباس غير ما تقدم عند أبي الشيخ بلفظ:
"كان مكتوبًا على راية النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم لا إله إلا اللّه محمد رسول
اللّه" وسنده ضعيف أيضًا.
قوله: "خير الصحابة
أربعة" فيه دليل على أن خير الصحابة أربعة
أنفار وظاهره أن ما دون الأربعة من الصحابة
موجود فيها أصل الخير من غير فرق بين السفر
والحضر ولكنه قد أخرج أهل السنن من حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "الراكب
شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب"
وصححه الحاكم وابن خزيمة. وأخرجه أيضًا
الحاكم من حديث أبي هريرة وصححه.
وظاهره أن ما دون
الثلاثة عصاة لأن معنى قوله شيطان أي عاص وقال
الطبري: هذا الزجر زجر أدب وإرشاد لما يخشى
على الواحد من الوحشة والوحدة وليس بحرام
فالسائر وحده في فلاة وكذا البائت في بيت وحده
لا يأمن من الاستيحاش لا سيما إذا كان ذا فكرة
رديئة وقلب ضعيف والحق أن الناس يتباينون في
ذلك فيحتمل أن يكون الزجر عنه لحسم المادة فلا
يتناول ما إذا وقعت الحاجة لذلك. وقيل في
تفسير قوله الراكب شيطان أي سفره وحده يحمله
عليه الشيطان أو أشبه الشيطان في فعله وقيل
إنما كره ذلك لأن الواحد لو مات في سفره ذلك
لم يجد من يقوم عليه وكذلك الاثنان إذا ماتا
أو أحدهما لم يجد الآخر من يعينه بخلاف
الثلاثة ففي الغالب تؤمن الوحشة والخشية.
وفي صحيح البخاري عن ابن
عمر:
"لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده" وقد ثبت في الصحيح أن الزبير انتدب وحده
ليأتي النبي بخبر بني قريظة. قال ابن
المنير: السير لمصلحة الحرب أخص من السفر
فيجوز السفر للمنفرد للضرورة والمصلحة التي لا
تنتظم إلا بالإفراد كإرسال
ج / 7 ص -238-
الجاسوس والطليعة والكراهة عدا ذلك ويحتمل
أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن
وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة وقد
وقع في كتب المغازي بعث جماعة منفردين منهم
حذيفة ونعيم بن مسعود وعبد اللّه بن أنيس
وخوات بن جبير وعمرو ابن أمية وسالم بن عمير
وبسبسة وغيرهم وعلى هذا فوجود أصل الخير في
سائر الأسفار غير سفر الحرب ونحوه إنما هو في
الثلاثة دون الواحد والاثنين والأربعة خير من
الثلاثة كما يدل على ذلك حديث الباب.
قوله: "وخير الجيوش
أربعة آلاف" ظاهر هذا أن هذا الجيش خير من
غيره من الجيوش سواء كان أقل منه أو أكثر ولكن
الأكثر إذا بلغ إلى اثني عشر ألفًا لم يغلب من
قلة وليس بخير من أربعة آلاف وإن كانت تغلب من
قلة كما يدل على ذلك مفهوم العدد.
قوله: "راية النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه
أبيض" اللواء بكسر اللام والمد وهو الراية
ويسمى أيضًا العلم وكان الأصل أن يمسكها رئيس
الجيش ثم صارت تحمل على رأسه كذا في الفتح.
وقال أبو بكر ابن
العربي: اللواء غير الراية فاللواء ما يعقد
في طرف الرمح ويلوى عليه والراية ما يعقد فيه
ويترك حتى تصفقه الرياح وقيل اللواء دون
الراية وقيل اللواء العلم الضخم والعلم علامة
لمحل الأمير يدور معه حيث دار والراية يتولاها
صاحب الحرب وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم
الألوية وأورد حديث جابر المتقدم ثم ترجم
الرايات وأورد حديث البراء المتقدم أيضًا.
قوله: "من نمرة"
هي ثوب حبرة قال في القاموس: النمرة بالضم
النكتة من أي لون كان والأنمر ما فيه نمرة
بيضاء وأخرى سوداء ثم قال والنمرة الحبرة
وشملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف
يلبسها الأعراب انتهى.
باب ما جاء في
تشييع الغازي واستقباله
1- عن سهل بن معاذ عن
أبيه: "عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم أنه قال:
لأن أشيع غازيًا فأكفيه في رحله غدوة أو روحة
أحب إلي من الدنيا وما فيها". رواه أحمد وابن ماجه.
2- وعن السائب بن يزيد
قال: "لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم من غزوة تبوك خرج الناس يتلقونه من
ثنية الوداع قال السائب فخرجت مع الناس وأنا
غلام". رواه أبو داود والترمذي وصححه.
وللبخاري نحوه.
3- وعن ابن عباس قال:
"مشى معهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال:
انطلقوا على اسم اللّه وقال اللّهم أعنهم يعني النفر الذين وجههم إلى
كعب بن الأشرف".
رواه أحمد.
حديث معاذ في إسناده أبو
بكر بن أبي مريم وهو ضعيف وفي إسناده أيضًا
رجل لم يسم
ج / 7 ص -239-
وقد أخرجه الطبراني. وحديث ابن عباس في
إسناده ابن إسحاق وهو مدلس وبقية إسناد رجاله
رجال الصحيح وقد أخرجه أيضًا البزار والطبراني
وفي الباب ما في الصحيحين أن ابن الزبير وابن
جعفر وابن عباس لقوا النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وهو قادم فحمل اثنين منهم وترك
الثالث. وأخرج البخاري عن ابن عباس قال:
لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
مكة استقبله أغيلمة لبني عبد المطلب فحمل
واحدًا بين يديه وآخر خلفه. وأخرج أحمد
والنسائي عن عبد اللّه بن جعفر أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم حمله خلفه وحمل قثم ابن
عباس بين يديه.
قوله: "أشيع
غازيًا" التشييع الخروج مع المسافر لتوديعه
يقال شيع فلانًا خرج معه ليودعه ويبلغه
منزله.
قوله: "أحب إلي من
الدنيا وما فيها" قد تقدم الكلام على مثل
هذه العبارة في أول كتاب الجهاد "وفي هذا
الحديث" الترغيب في تشييع الغازي وإعانته
على بعض ما يحتاج إلى القيام بمؤنته لأن
الجهاد من أفضل العبادات والمشاركة في مقدماته
من أفضل المشاركات.
قوله: "من ثنية
الوداع" قال في القاموس: الثنية العقبة أو
طريقها أو الجبل أو الطريق فيه أو إليه
انتهى. قال في القاموس أيضًا وثنية الوداع
بالمدينة سميت لأن من سافر إلى مكة كان يودع
ثم يشيع إليها انتهى.
قوله: "بقيع
الغرقد" قد تقدم ضبطه وتفسيره وفي الحديث
دليل على مشروعية تلقي الغازي إلى خارج البلد
لما في الاتصال به من البركة والتيمن بطلعته
فإنه في تلك الحال ممن حرمه اللّه على النار
كما تقدم ولما في ذلك من التأنيس له والتطييب
لخاطره والترغيب لمن كان قاعدًا في الغزو.
قوله: "وقال اللّهم
أعنهم" فيه استحباب الدعاء للغزاة وطلب
الإعانة من اللّه لهم فإن من كان ملحوظًا بعين
العناية الربانية ومحوطًا بالإعانة الإلهية
ظفر بمراده.
باب استصحاب
النساء لمصلحة المرضى والجرحى والخدمة
1- عن الربيع بنت معوذ
قالت: "كنا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد
القتلى والجرحى إلى المدينة". رواه أحمد
والبخاري.
2- وعن أم عطية
الأنصارية قالت: "غزوت مع رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم سبع غزوات أخلفهم في
رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم
على الزمنى". رواه أحمد ومسلم وابن
ماجه.
3- وعن أنس قال:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين
الماء ويداوين الجرحى". رواه مسلم
والترمذي وصححه.
4- وعن عائشة أنها
قالت: "يا رسول اللّه نرى الجهاد أفضل
العمل أفلا نجاهد قال
لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور". رواه أحمد والبخاري.
ج / 7 ص -240-
قوله: "عن الربيع" بالتشديد وأبوها
معوذ بالتشديد للواو وبعدها ذال معجمة.
قوله: "كنا نغزو"
الخ جعلت الإعانة للغزاة غزوًا ويمكن أن يقال
أنهن ما أتين لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا وهن
عازمات على المدافعة عن أنفسهن وقد وقع في
صحيح مسلم عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم
حنين فقالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين
بقرت بطنه ولهذا بوب البخاري باب غزو النساء
وقتالهن.
قوله: "وأداوي
الجرحى" فيه دليل على أنه يجوز للمرأة
الأجنبية معالجة الرجل الأجنبي للضرورة. قال
ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم وإن دعت
الضرورة فليكن بغير مباشرة ولا مس ويدل على
ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد
امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس
بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري
وفي قول الأكثر تيمم. وقال الأوزاعي: تدفن
كما هي.
قال ابن المنير:
الفرق بين حال المداواة وغسل الميت أن الغسل
عبادة والمداواة ضرورة والضرورات تبيح
المحظورات اهـ وهكذا يكون حال المرأة في رد
القتلى والجرحى فلا تباشر بالمس مع إمكان ما
هو دونه.
وحديث عائشة قد تقدم في
أول كتاب الحج. قال ابن بطال: دل حديث
عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء ولكن
ليس في قوله أفضل الجهاد حج مبرور وفي رواية
البخاري جهادكن الحج ما يدل على أنه ليس لهن
أن يتطوعن بالجهاد وإنما لم يكن واجبًا لما
فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة
الرجال فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد.
باب الأوقات
التي يستحب فيها الخروج إلى الغزو والنهوض إلى
القتال
1-عن كعب بن مالك:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج في
يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم
الخميس".
متفق عليه.
2- وعن صخر الغامدي
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
اللّهم بارك لأمتي في بكورها قال:
فكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول
النهار وكان صخر رجلا تاجرًا وكان يبعث تجارته
من أول النهار فأثرى وكثر مال".
رواه الخمسة إلا النسائي.
3- وعن النعمان ابن
مقرن:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا
لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول
الشمس وتهب الرياح وينزل النصر".
رواه أحمد وأبو داود وصححه والبخاري وقال:
"انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات".
4- وعن ابن أبي أوفى قال:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يحب أن ينهض إلى عدوه عند
زوال الشمس".
رواه أحمد.
ج / 7 ص -241-
حديث صخر حسنه الترمذي وقال لا نعرف له غير
هذا الحديث اهـ وفي إسناده عمارة بن حديد سئل
عنه أبو حاتم الرازي فقال مجهول وسئل عنه أبو
زرعة الرازي فقال لا يعرف. وقال أبو علي ابن
السكن إنه مجهول لم يرو عنه غير يعلى ابن عطاء
الطائفي وذكر أنه روى من حديث مالك مرسلًا.
وقال النمري هو مجهول لم يرو عنه غير يعلى
الطائفي. وقال أبو القاسم البغوي وابن عبد
البر: إنه ليس لصخر غير هذا الحديث.
وذكر بعضهم أنه قد روى
حديثًا آخر وهو قوله:
"لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء" وقد تقدم في الجنائز.
وأخرج حديث صخر ابن حبان
قال ابن طاهر في تخريج أحاديث الشهاب: هذا
الحديث رواه جماعة من الصحابة ولم يخرج شيئًا
منها في الصحيحين. وأقربها إلى الصحة
والشهرة هذا الحديث وذكره عبد القادر الرهاوي
في أربعينيته من حديث علي والعبادلة وابن
مسعود وجابر وعمران بن حصين وأبي هريرة وعبد
اللّه بن سلام وسهل بن سعد وأبي رافع وعبادة
بن وثيمة وأبي بكرة وبريدة بن الحصيب.
وحديث بريدة صححه ابن
السكن ورواه ابن منده في مستخرجه عن واثلة بن
الأسقع ونييط بن شريط وزاد ابن الجوزي في
العلل المتناهية عن أبي ذر وكعب بن مالك وأنس
والعريض بن عميرة وعائشة وقال لا يثبت منها
شيء وضعها كلها. وقد قال أبو حاتم: لا
أعلم في
"اللّهم بارك لأمتي في بكورها" حديثًا صحيحًا.
وحديث ابن أبي أوفى
المذكور في الباب أخرجه أيضًا سعيد بن منصور
الطبراني وضعف إسناده في مجمع الزوائد.
قوله: "كان يحب أن
يخرج يوم الخميس" قال في الفتح: لعل سببه
ما روي من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم بورك
لأمتي في بكورها يوم الخميس وهو حديث ضعيف
أخرجه الطبراني من حديث نبيط بنون وموحدة
مصغرًا ابن شريط بفتح الشين المعجمة قال وكونه
صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يحب الخروج يوم
الخميس لا يستلزم المواظبة عليه لقيام مانع
منه وقد ثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج
لحجة الوداع يوم السبت كما تقدم في الحج اهـ
وقد أخرج حديث نبيط المذكور البزار من حديث
ابن عباس وأنس.
وفي حديث ابن عباس عنبسة
بن عبد الرحمن وهو كذاب.
وفي حديث أنس عمرو بن
مساور وهو ضعيف وروي بلفظ اللّهم بارك لأمتي
في بكورها يوم سبتها ويوم خميسها. وسئل أبو
زرعة عن هذه الزيادة فقال هي مفتعلة. وحديث
صخر المذكور فيه مشروعية التبكير من غير تقييد
بيوم مخصوص سواء كان ذلك في سفر جهاد أو حج أو
تجارة أو في الخروج إلى عمل من الأعمال ولو في
الحضر.
قوله: "حتى تزول
الشمس وتهب الرياح وينزل النصر" ظاهر هذا أن
التأخير ليدخل وقت الصلاة لكونه مظنة الإجابة
وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب فصار
مظنة لذلك ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي من
حديث النعمان بن مقرن من وجه آخر غير الوجه
الذي روى منه حديثه المذكور في الباب ولفظه
قال: "غزوت مع النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم
فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قاتل فإذا انتصف
النهار أمسك حتى تزول الشمس فإذا زالت قاتل
فإذا دخل وقت العصر أمسك حتى يصليها ثم يقاتل
وكان يقال عند ذلك تهيج رياح النصر وتدعو
المؤمنين لجيوشهم في صلاتهم"
قال في الفتح: لكن فيه انقطاع.
ج / 7 ص -242-
باب ترتيب الصفوف وجعل سيما وشعار يعرف وكراهة
رفع الصوت
1- عن أبي أيوب قال:
"صففنا يوم بدر فبدرت منا بادرة أمام الصف
فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال
معي معي".
2- وعن عمار بن ياسر:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان يستحب للرجل أن يقاتل تحت راية قومه". رواهما أحمد.
3- وعن المهلب بن أبي
صفرة: "عمن سمع النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
إن بيتكم العدو فقولوا حم لا ينصرون".
رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
4- وعن البراء بن عازب
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
إنكم ستلقون العدو غدًا فإن شعاركم حم لا
ينصرون".
رواه أحمد.
5- عن سلمة بن الأكوع
قال: "غزونا مع أبي بكر زمن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فكان شعارنا أمت
أمت". رواه أحمد وأبو داود.
6- وعن الحسن عن قيس بن
عباد قال: "كان أصحاب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يكرهون الصوت عند
القتال".
7- وعن أبي بردة عن
أبيه:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بمثل
ذلك".
رواهما أبو داود.
حديث أبي أيوب قال في
مجمع الزوائد: في إسناده ابن لهيعة وفيه ضعف
والصحيح أن أبا أيوب لم يشهد بدرًا اهـ.
وحديث عمارة قال في مجمع
الزوائد: إسناده منقطع قال وأخرجه أبو يعلى
والبزار والطبراني وفي إسناده إسحاق بن أبي
إسحاق الشيباني ولم يضعفه أحد وبقية رجاله
ثقات اهـ.
وقد أخرج نحو حديث أبي
أيوب الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عوف
والبزار من طريق عكرمة عن ابن عباس عنه قال
عبانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وهو عند البخاري من حديث مروان والمسور في قصة
الفتح وقصة أبي سفيان قال ثم مرت كتيبة لم ير
مثلها فقال من هؤلاء قيل له الأنصار عليهم سعد
بن عبادة ومعه الراية وفيه وجاءت كتيبة النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ورايته مع الزبير.
الحديث بطوله وهو شاهد لحديث عمار بن ياسر
المذكور. وأخرج البخاري وأبو داود من حديث
حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين اصطففنا
يوم بدر
إذا أكثبوكم يعني إذا غشوكم فارموهم بالنبل
واستبقوا نبلكم".
وحديث المهلب ذكر الترمذي أنه روي عن المهلب
عن
ج / 7 ص -243-
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مرسلا
وأخرجه الحاكم موصولا وقال صحيح قال والرجل
الذي لم يسمه المهلب هو البراء. ورواه
النسائي من هذا الوجه بلفظ حدثني رجل من أصحاب
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وحديث
البراء أخرجه أيضًا النسائي والحاكم وحديث
سلمة بن الأكوع أخرجه النسائي وابن ماجه وسكت
عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص.
وأخرجه الحاكم من حديث
عائشة: "جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شعار المهاجرين يوم بدر عبد
الرحمن والخزرج عبد اللّه"
الحديث وأخرج أيضًا عن ابن عباس رفعه جعل
الشعار للأزد يا مبرور يا مبرور.
وفي الباب عن سمرة بن
جندب عند أبي داود قال: "كان شعار المهاجرين عبد اللّه وشعار الأنصار عبد الرحمن" وهو من رواية الحسن عنه وفي سماعه منه خلاف قد مر غير مرة وفي
إسناده الحجاج بن أرطأة ولا يحتج بحديثه.
وحديث قيس بن عباد وأبي بردة سكت عنهما أبو
داود والمنذري ورجالهما رجال الصحيح.
قوله: "صففنا يوم
بدر" الخ فيه دليل على مشروعية الاصطفاف حال
القتال لما في ذلك من الترهيب على العدو
والتقوية للجيش ولكونه محبوبًا للّه تعالى قال
عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً
كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
قوله: "أن يقاتل تحت
راية قومه" إنما كان ذلك مشروعًا لما يتكلفه
الإنسان من إظهاره القوة والجلادة إذا كان
بمرأى من قومه ومسمع بخلاف ما إذا كان في غير
قومه فإنه لا يفعل كفعله بين قومه لما جبلت
عليه النفوس من محبة ظهور المحاسن بين العشيرة
وكراهة ظهور المساوئ بينهم ولهذا أفرد صلى
اللّه عليه وآله وسلم كل قبيلة من القبائل
التي غزت معه غزوة الفتح بأميرها ورايتها كما
يحكي ذلك كتب الحديث والسير.
قوله: "حم لا
ينصرون" هذا اللفظ فيه التفاؤل بعدم انتصار
الخصم مع حصول الغرض بالشعار وهو العلامة في
الحرب يقال نادوا بشعارهم أو جعلوا لأنفسهم
شعارًا والمراد أنهم جعلوا العلامة بينهم
لمعرفة بعضهم بعضًا في ظلمة الليل هو التكلم
عند أن يهجم عليهم العدو بهذا اللفظ.
قوله: "أمت أمت"
أمر بالموت وفيه التفاؤل بموت الخصم. وفي
لفظ:
"يا منصور أمت أمت" وفي آخر:
"يا منص"
وهو ترخيم منصور محذوف الراء والواو.
قوله: "يكرهون الصوت
عند القتال" فيه دليل على أن رفع الصوت حال
القتال وكثرة اللغط والصراخ مكروهة ولعل وجه
كراهتهم لذلك أن التصويت في ذلك الوقت ربما
كان مشعرًا بالفزع والفشل بخلاف الصمت فإنه
دليل الثبات ورباط الجأش.
باب استحباب
الخيلاء في الحرب
1- عن جابر بن عتيك:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن من الغيرة ما يحب اللّه ومن الغيرة ما يبغض
اللّه وإن من الخيلاء ما يحب اللّه ومنها ما
يبغض اللّه فأما الغيرة التي يحبها اللّه
فالغيرة في الريبة وأما الغيرة التي يبغض
اللّه فالغيرة في غير الريبة والخيلاء التي
يحب اللّه فاختيال الرجل بنفسه عند القتال
واختياله عند الصدقة
ج / 7 ص -244-
والخيلاء التي يبغض اللّه فاختيال الرجل في
الفخر والبغي".
رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
الحديث سكت عنه أبو داود
والمنذري وفي إسناده عبد الرحمن بن جابر بن
عتيك وهو مجهول وقد صحح الحديث الحاكم.
قوله: "فالغيرة في
الريبة" نحو أن يغتار الرجل على محارمه إذا
رأى منهم فعلًا محرمًا فإن الغيرة في ذلك
ونحوه مما يحبه اللّه. وفي الحديث الصحيح:
"ما أحد أغير من اللّه من أجل ذلك حرم
الزنا"
وأما الغيرة في غير الريبة فنحو أن يغتار
الرجل على أمه أن ينكحها زوجها وكذلك سائر
محارمه فإن هذا مما يبغضه اللّه تعالى لأن ما
أحله اللّه تعالى فالواجب علينا الرضا به فإن
لم نرض به كان ذلك من إيثار حمية الجاهلية على
ما شرعه اللّه لنا واختيال الرجل بنفسه عند
القتال من الخيلاء الذي يحبه اللّه لما في ذلك
من الترهيب لأعداء اللّه والتنشيط لأوليائه
ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأبي
دجانة لما رآه يختال عند القتال:
"إن هذه مشية يبغضها اللّه ورسوله إلا في
هذا الموطن"
وكذلك الاختيال عند الصدقة فإنه ربما كان من
أسباب الاستكثار منها والرغوب فيها وأما
اختيال الرجل في الفخر فنحو أن يذكر ما له من
الحسب والنسب وكثرة المال والجاه والشجاعة
والكرم لمجرد الافتخار ثم يحصل منه الاختيال
عند ذلك فإن هذا الاختيال مما يبغضه اللّه
تعالى لأن الافتخار في الأصل مذموم والاختيال
مذموم فينضم قبيح إلى قبيح وكذلك الاختيال في
البغي نحو أن يذكر الرجل أنه قتل فلانًا وأخذ
ماله ظلمًا أو يصدر منه الاختيال حال البغي
على مال الرجل أو نفسه فإن هذا يبغضه اللّه
لأن فيه انضمام قبيح إلى قبيح كما سلف.
باب الكف وقت
الإغارة عمن عنده شعار الإسلام
1- عن أنس قال:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إذا غزا قومًا لم يغز حتى يصبح فإذا سمع
أذانًا أمسك وإذا لم يسمع أذانًا أغار بعد ما
يصبح". رواه أحمد والبخاري.
وفي رواية: "كان
يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع
أذانًا أمسك وإلا أغار وسمع رجلا يقول اللّه
أكبر اللّه أكبر فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
على الفطرة ثم قال أشهد أن لا إله إلا اللّه فقال:
خرجت من النار"
رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
2- وعن عصام المزني
قال: "كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إذا بعث السرية يقول:
إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مناديًا فلا تقتلوا
أحدًا".
رواه الخمسة إلا النسائي.
حديث عصام قال الترمذي
بعد إخراجه: هذا حديث حسن غريب وهو من رواية
ابن
ج / 7 ص -245-
عصام عن أبيه قيل اسمه عبد اللّه وقيل اسمه
عبد الرحمن قال في التقريب: لا يعرف.
قوله: "وإذا لم يسمع
أذانًا أغار" فيه دليل على جواز قتال من
بلغته الدعوة بغير دعوة ويجمع بينه وبين ما
تقدم في باب الدعوة قبل القتال بأن يقال
الدعوة مستحبة لا شرط هكذا في الفتح.
وقد قدمنا الخلاف في ذلك
وما ذكره الإمام المهدي من أن وجوب تقديم
الدعوة مجمع عليه والاعتراض عليه وفي هذا
الحديث والذي بعده دليل على جواز الحكم
بالدليل لكونه صلى اللّه عليه وآله وسلم كف عن
القتال بمجرد سماع الآذان وفيه الأخذ بالأحوط
في أمر الدماء لأنه كف عنهم في تلك الحال مع
احتمال أن لا يكون ذلك على الحقيقة.
قوله: "على
الفطرة" فيه أن التكبير من الأمور المختصة
بأهل الإسلام وأنه يصح الاستدلال به على إسلام
أهل قرية سمع منهم ذلك.
قوله: "خرجت من
النار" هو نحو الأدلة القاضية بأن من قال لا
إله إلا اللّه دخل الجنة وهي مطلقة مقيدة بعدم
المانع جمعًا بين الأدلة وللكلام على ذلك موضع
آخر.
قوله: "إذا رأيتم
مسجدًا" فيه دليل على أن مجرد وجود المسجد
في البلد كاف في الاستدلال به على إسلام أهله
وإن لم يسمع منهم الأذان لأن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم كان يأمر سراياه بالاكتفاء
بأحد الأمرين إما وجود مسجد أو سماع الأذان.
باب جواز تبييت
الكفار ورميهم بالمنجنيق وإن أدى إلى قتل
ذراريهم تبعًا
1- عن الصعب بن جثامة:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من
نسائهم وذراريهم ثم قال هم منهم".
رواه الجماعة إلا النسائي. وزاد أبو داود:
وقال الزهري:
"ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم عن قتل النساء والصبيان".
2- وعن ثور ين يزيد:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نصب
المنجنيق على أهل الطائف". أخرجه الترمذي هكذا مرسلا.
3- وعن سلمة بن الأكوع
قال: "بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان
أمره علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه أحمد.
الزيادة التي زادها أبو
داود عن الزهري أخرجها الإسماعيلي من طريق
جعفر الفريابي عن علي بن المديني عن سفيان
بلفظ: "وكان الزهري إذا حدث بهذا الحديث
قال: وأخبرني ابن كعب بن مالك عن عمه أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما بعث
إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء
والصبيان" وأخرجه أيضًا ابن حبان مرسلا كأبي
داود. قال في الفتح: وكأن الزهري أشار
بذلك إلى نسخ حديث الصعب.
وحديث ثور بن يزيد أخرجه
أيضًا أبو داود في المراسيل من طريق مكحول
عنه. وأخرجه أيضًا الواقدي في السيرة وزعم
أن الذي أشار به سلمان الفارسي وقد أنكر ذلك
يحيى بن أبي كثير وإنكاره ليس بقادح فإن من
علم حجة على من لم يعلم. وحديث
ج / 7 ص -246-
سلمة أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي وابن
ماجه وهو طرف من الحديث الذي تقدم في باب
ترتيب الصفوف.
قوله: "أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل" السائل
هو الصعب بن جثامة الراوي للحديث كما يدل على
ذلك ما في صحيح ابن حبان من طريق محمد بن عمرو
عن الزهري بسنده عن الصعب قال: "سألت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أولاد
المشركين أنقتلهم معهم قال نعم".
قوله: "عن أهل
الدار" أي المنزل هكذا في البخاري وغيره.
ووقع في بعض نسخ مسلم: "سئل عن الذراري"
قال عياض: الأول هو الصواب ووجه النووي
الثاني قوله "هم منهم" أي في الحكم في تلك
الحالة وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد
إليهم بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى
المشركين إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا
لاختلاطهم بهم جاز قتلهم وسيأتي الخلاف في ذلك
الباب الذي بعد هذا وقد تقدمت الإشارة إليه.
قوله: "ثم نهى رسول
اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم" الخ استدل
به من قال إنه لا يجوز قتلهم مطلقًا وسيأتي.
قوله: "بيتنا
هوازن" البيات هو الغارة بالليل.
ـ وفي الحديث ـ دليل على
أنه يجوز تبييت الكفار قال الترمذي: وقد رخص
قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا
وكرهه بعضهم قال أحمد وإسحاق: لا بأس أن
يبيت العدو ليلا.
باب الكف عن قصد
النساء والصبيان والرهبان والشيخ الفاني
بالقتل
1- عن ابن عمر قال:
"وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم
فنهى رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن
قتل النساء والصبيان". رواه الجماعة إلا النسائي.
2- وعن رياح بن ربيع:
"أنه خرج مع رسول اللّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن
الوليد فمر رياح وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم وآله على امرأة مقتولة مما
أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني وهم
يتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم على راحلته فأفرجوا عنها
فوقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال:
ما كانت هذه لتقاتل فقال لأحدهم:
الحق خالدًا فقل له لا تقتل ذرية وعسيفًا".
رواه أحمد وأبو داود.
3- وعن أنس: "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
انطلقوا باسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم لا تقتلوا شيخًا فانيًا
ولا طفلا صغيرًا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا
غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن اللّه يحب
المحسنين". رواه أبو داود.
4- وعن ابن عباس قال:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إذا بعث
ج / 7 ص -247-
جيوشه قال:
اخرجوا باسم اللّه تعالى تقاتلون في سبيل اللّه من كفر باللّه لا
تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا
الولدان ولا أصحاب الصوامع".
5- وعن ابن كعب بن مالك
عن عمه: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر
نهى عن قتل النساء والصبيان".
6- وعن الأسود بن سريع قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
لا تقتلوا الذرية في الحرب فقالوا يا رسول اللّه أو أليس هم أولاد المشركين قال
أو ليس خياركم أولاد المشركين". رواهن أحمد.
حديث رياح بكسر الراء
المهملة وبعدها تحتانية هكذا في الفتح. وقال
المنذري: بالباء الموحدة ويقال بالياء
التحتانية ورجح البخاري أنه بالموحدة أخرجه
أيضًا النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم
والبيهقي واختلف فيه على المرقع بن صيفي فقيل
عن جده رياح وقيل حنظلة بن الربيع وذكر
البخاري وأبو حاتم أن الأول أصح.
وحديث أنس في إسناده
خالد بن الفزر بكسر الفاء وسكون الزاي وبعدها
راء مهملة.
وحديث ابن عباس في
إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو
ضعيف ووثقه أحمد.
وحديث ابن كعب بن مالك
أخرجه أيضًا الإسماعيلي في مستخرجه وأخرجه أبو
داود وابن حبان من حديث الزهري مرسلا كما تقدم
وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال
الصحيح.
وحديث الأسود بن سريع
قال في مجمع الزوائد أيضًا ورجال أحمد رجال
الصحيح ـ وفي الباب ـ عن علي عند البيهقي بنحو
حديث ابن عباس المذكور. وعن جرير عند ابن
أبي حاتم في العلل وعن سمرة عند أحمد والترمذي
وصححه بلفظ:
"اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان وإلى ذلك
ذهب مالك والأوزاعي فلا يجوز ذلك عندهما بحال
من الأحوال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء
والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم
النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم.
وذهب الشافعي والكوفيون
إلى الجمع بين الأحاديث المذكورة فقالوا إذا
قاتلت المرأة جاز قتلها وقال ابن حبيب من
المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا
قاتلت إلا إن باشرت القتل أو قصدت إليه ويدل
على هذا ما رواه أبو داود في المراسيل عن
عكرمة: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال
من قتل هذه فقال رجل أنا يا رسول اللّه غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة
فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فلم
ينكر عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم" ووصله الطبراني في الكبير وفيه حجاج
بن أرطأة وأرسله ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن
بن يحيى الأنصاري ونقل ابن بطال أنه اتفق
الجميع على المنع من القصد على قتل النساء
والولدان أما النساء فلضعفهن وأما الولدان
فلقصورهم عن فعل الكفار
ج / 7 ص -248-
ولما في استبقائهم جميعًا من الانتفاع إما
بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادي به قال
في الفتح: وقد حكى الحازمي قولا بجواز قتل
النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب وزعم أنه
ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب.
قوله: "ولا
عسيفًا" بمهملتين وفاء كأجير وزنًا ومعنى
وفيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان مع
القوم أجيرًا ونحوه لأنه من المستضعفين.
قوله: "لا تقتلوا
شيخًا فانيًا" ظاهره أنه لا يجوز قتل شيوخ
المشركين ويعارضه حديث اقتلوا شيوخ المشركين
الذي ذكرناه وقد جمع بين الحديثين بأن الشيخ
المنهي عن قتله في الحديث الأول هو الفاني
الذي لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة على
المسلمين وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله
شيخًا فانيًا والشيخ المأمور بقتله في الحديث
الثاني هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي
كما في دريد بن الصمة فإن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر
على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة وقد كان نيف
على المائة وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله
أبو عامر ولم ينكر النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم ذلك عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين من
حديث أبي موسى والقصة معروفة.
قال أحمد بن حنبل في
تعليل أمره صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتل
الشيوخ إن الشيخ لا يكاد يسلم والصغير أقرب
إلى الإسلام.
قوله: "ولا تغلوا"
وسيأتي الكلام على تحريم الغلول والغدر
والمثلة.
قوله: "وضموا
غنائمكم" أي اجمعوها.
قوله: "ولا أصحاب
الصوامع" فيه دليل على أنه لا يجوز قتل من
كان متخليًا للعبادة من الكفار كالرهبان
لإعراضه عن ضر المسلمين والحديث وإن كان فيه
المقال المتقدم لكنه معتضد بالقياس على
الصبيان والنساء بجامع عدم النفع والضرر وهو
المناط ولهذا لم ينكر صلى اللّه عليه وآله
وسلم على قاتل المرأة التي أرادت قتله ويقاس
على المنصوص عليهم بذلك الجامع من كان مقعدًا
أو أعمى أو نحوهما ممن كان لا يرجى نفعه ولا
ضره على الدوام.
باب الكف عن
المثلة والتحريق وقطع الشجر وهدم العمران إلا
لحاجة ومصلحة
1- عن صفوان بن عسال
قال: "بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم في سرية فقال:
سيروا باسم اللّه وفي سبيل اللّه قاتلوا من
كفر باللّه ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا
وليدًا".
رواه أحمد وابن ماجه.
2- وعن أبي هريرة قال:
"بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
في بعث فقال:
إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين فأحرقوهما
بالنار ثم قال حين أردنا الخروج إني كنت
أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا وإن النار لا
يعذب بها إلا اللّه فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي
وصححه.
3- وعن يحيى بن سعيد:
"أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام
ج / 7 ص -249-
فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان يزيد
أمير ربع من تلك الأرباع فقال
إني موصيك بعشر خلال لا تقتل امرأة ولا صبيًا
ولا كبيرًا هرمًا ولا تقطع شجرًا مثمرًا ولا
تخرب عامرًا ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا
لمأكله ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه ولا تغلل ولا
تخبن" رواه مالك في الموطأ عنه.
حديث صفوان بن عسال قال
ابن ماجه: حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا
أبو أسامة قال حدثني عطية بن الحارث بن روق
الهمداني قال حدثني أبو العريف عبد اللّه بن
خليفة عن صفوان فذكره. وعطية صدوق وعبد
اللّه بن خليفة ثقة وأخرجه أيضًا النسائي.
وهذا الحديث هو مثل حديث ابن عباس المتقدم في
الباب الأول وجميع ما اشتمل عليه قد تقدم
أيضًا في حديث بريدة المتقدم في باب الدعوة
قبل القتال. وأثر يحيى بن سعيد المذكور مرسل
لأنه لم يدرك زمن أبي بكر ورواه البيهقي من
حديث يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب.
ورواه سيف في الفتوح عن الحسن بن أبي الحسن
مرسلا.
قوله: "ولا
تمثلوا" فيه دليل على تحريم المثلة وقد وردت
في ذلك أحاديث كثيرة قد سبق في هذا المشروح
وشرحه بعض منها.
قوله: "بعثنا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" الخ زاد
الترمذي: إن هذين الرجلين من قريش.
وفي رواية لأبي داود:
"إن وجدتم فلانًا فاحرقوه بالنار"
هكذا بالإفراد وروى في فوائد علي بن حرب عن
ابن عيينة عن ابن أبي نجيح أن اسمه هبار بن
الأسود. ووقع في رواية ابن إسحاق إن وجدتم
هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب
ما سبق فحرقوهما بالنار يعني زينب بنت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكان زوجها
أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم
أطلقه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من
المدينة شرط عليه أن يجهز إليه ابنته زينب
فجهزها فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا
بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك والقصة مشهورة عن
ابن إسحاق وغيره. وقال في روايته وكان نخسا
بزينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم حين خرجت من مكة. وقد أخرجه سعيد بن
منصور عن ابن عيينة عن أبي ابن نجيح إن هبار
بن الأسود أصاب زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بشيء في خدرها فأسقطت فبعث
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سرية
فقال
"إن وجدتموه فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أشعلوا
فيه النار ثم قال لا نستحي من اللّه لا ينبغي
لأحد أن يعذب بعذاب اللّه"
الحديث فكأن إفراد هبار بالذكر في الرواية
السابقة لكونه كان الأصل في ذلك والآخر كان
تبعًا له وسمى ابن السكن في روايته من طريق
ابن إسحاق الرجل الآخر نافع بن عبد قيس وبه
جزم ابن هشام في رواية السيرة عنه. وحكى
السهيلي عن مسند البزار أنه خالد بن عبد قيس
فلعله تصحف عليه وإنما هو نافع كذلك هو في
النسخ المعتمدة من مسند البزار وكذلك أورده
ابن السكن أولا من مسند البزار وأخرجه محمد بن
عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن
لهيعة كذلك. قال الحافظ: وقد أسلم
ج / 7 ص -250-
هبار هذا ففي رواية ابن أبي نجيح المذكور
فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر فذكر
قصة إسلامه وله حديث عند الطبراني وآخر عند
ابن منده وعاش إلى أيام معاوية وهو بفتح الهاء
وتشديد الباء الموحدة قال الحافظ أيضًا ولم
أقف لرفيقه على ذكر في الصحابة فلعله مات قبل
أن يسلم.
قوله: "وإن النار لا
يعذب بها إلا اللّه" هو خبر بمعنى النهي وقد
اختلف السلف في التحريق فكره ذلك عمر وابن
عباس وغيرهما مطلقًا سواء كان في سبب كفر أو
في حال مقاتلة أو في قصاص وأجازه علي وخالد بن
الوليد وغيرهما.
قال المهلب:
ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل
التواضع ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة
وقد سمل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعين
العرنيين بالحديد كما تقدم وقد أحرق أبو بكر
بالنار في حضرة الصحابة. وحرق خالد بن
الوليد ناس من أهل الردة وكذلك حرق علي كما
تقدم في كتاب الحدود.
قوله: "ولا تعقرن"
بالعين المهملة والقاف والراء في كثير من
النسخ وفي نسخ ولا تعزقن بالعين المهملة
والزاي المكسورة والقاف ونون التوكيد.
قال في النهاية:
هو القطع وظاهر النهي في حديث الباب التحريم
وهو نسخ للأمر المتقدم سواء كان بوحي إليه أو
اجتهاد وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص
بعينه.
4- وعن جرير بن عبد
اللّه قال: "قال لي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
ألا تريحني من ذي الخلصة قال فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل وكان ذو
الخلصة بيتًا في اليمن لخنعم وبجيلة فيه نصب
يعبد يقال له كعبة اليمانية قال فأتاها فحرقها
بالنار وكسرها ثم بعث رجلا من أحمس يكنى أبا
أرطاة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يبشره بذلك فلما أتاه قال يا رسول اللّه والذي
بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب
قال فبرك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على
خيل أحمس ورجالها خمس مرات". متفق عليه.
5- وعن ابن عمر: "أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قطع نخل بني النضير وحرق ولها يقول
حسان:
وهان على بني لؤي **
حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا}" الآية. متفق عليه ولم يذكر أحمد الشعر.
6- وعن أسامة بن زيد
قال: "بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم إلى قرية يقال لها أبني فقال
ائتها صباحًا ثم حرق".
رواه أحمد وأبو داود
ج / 7 ص -251-
وابن ماجه. وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر
قال البخاري هو لين.
حديث أسامة بن زيد سكت
عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده من ذكره
المصنف. وقال يحيى بن معين: هو ضعيف.
وقال أحمد: يعتبر به وقال العجلي: يكتب
حديثه وليس بالقوي. وقال في التقريب:
ضعيف.
قوله: "ذي الخلصة"
بفتح المعجمة واللام والمهملة وحكى بتسكين
اللام قال في القاموس: وذو الخلصة محركة
وبضمتين بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم
كان فيه صنم اسمه الخلصة أو لأنه كان منبت
الخلصة انتهى. وهي نبات له حب أحمر.
قوله: "من أحمس"
بالمهملتين على وزن أحمد قال في القاموس:
الحمس الأمكنة الصلبة جمع أحمس وبه لقب قريش
وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم
في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة
لأن حجرها أبيض إلى السواد والحماسة الشجاعة
والأحمس الشجاع كالحميس كذا في القاموس وفي
الفتح هم رهط ينسبون إلى أحمس بن الغوث بن
أنمار قال وفي العرب قبيلة أخرى يقال لها أحمس
ليست مرادة هنا ينسبون إلى أحمس بن ضبيعة بن
ربيعة بن نزار.
قوله: "نصب" بضم
النون والصاد أي صنم.
قوله: "كعبة
يمانية" أي كعبة الجهة اليمانية.
قوله: "فبرك" بفتح
الموحدة وتشديد الراء أي دعا لهم بالبركة.
قوله: "كأنها جمل
أجرب" بالجيم والموحدة وهو كناية عن نزع
زينتها وإذهاب بهجتها. وقال الحافظ: أحسب
المراد أنها صارت مثل الجمل المطلي بالقطران
من جربه أشار إلى أنها صارت سوداء لما وقع
فيها من التحريق.
قوله: "سراة" بفتح
المهملة وتخفيف الراء جمع سرى وهو الرئيس.
قوله: "بني لؤي"
بضم اللام وفتح الهمزة وهو أحد أجداد النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وبنوهم قريش وأراد
حسان تعيير مشركي قريش بما وقع في حلفائهم من
بني النضير.
قوله: "بالبويرة"
بالباء الموحدة تصغير بورة وهي الحفرة وهي هنا
مكان معروف بين الحديبية وتيماء وهي من جهة
قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب ويقال لها أيضًا
البويلة باللام بدل الراء.
قوله: "من لينة"
قال السهيلي في تخصيص اللينة بالذكر إيماء إلى
أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو هو ما لا يكون
معدًا للاقتيات لأنهم كانوا يقتاتون العجوة
والبرني دون اللينة وكذا ترجم البخاري في
التفسير فقال
{ما قطعتم من
لينة} نخلة ما لم تكن برنية أو عجوة. وقيل اللينة الدقل. وفي معالم
التنزيل اللينة فعلة من اللون وتجمع على ألوان
وقيل من اللين ومعناه النخلة الكريمة وجمعها
ليان.
وقال في القاموس: إنها
الدقل من النخل.
قوله: "يقال له
أبني" بضم الهمزة والقصر ذكره في النهاية
وحكى أبو داود أن أبا مسهر قيل له أبني فقال
نحن أعلم هي يبنا فلسطين والأحاديث المذكورة
فيها دليل على جواز التحريق في بلاد العدو.
قال في الفتح:
ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في
بلاد العدو وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور
واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا
شيئًا من ذلك وقد تقدمت في أول الباب. وأجاب
الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف
ما إذا أصابوا ذلك
ج / 7 ص -252-
في حال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على
الطائف وهو نحو مما أجاب به في النهي عن قتل
النساء والصبيان وبهذا قال أكثر أهل العلم
وقال غيره إنما نهى أبو بكر عن ذلك لأنه قد
علم أن تلك البلاد تفتح فأراد بقاءها على
المسلمين انتهى. ولا يخفى أن ما وقع من أبي
بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لما تقرر من عدم حجية
قول الصحابي.
باب تحريم
الفرار من الزحف إذا لم يزد العدو على ضعف
المسلمين إلا المتحيز إلى فئة وإن بعدت
1- عن أبي هريرة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول اللّه قال: الشرك باللّه والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق وأكل الربا
وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف
المحصنات الغافلات المؤمنات". متفق عليه.
2- وعن ابن عباس:
"لما نزلت
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية فكتب أن لا تفر مائة من مائتين". رواه البخاري وأبو
داود.
3- وعن ابن عمر قال:
"كنت في سرية من سرايا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص
فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا
بالغضب ثم قلنا لو دخلنا المدينة فبتنا ثم
قلنا لو عرضنا نفوسنا على رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا
ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال
من الفرارون فقلنا نحن الفرارون قال
بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة المسلمين
قال فأتيناه حتى قبلنا يده". رواه أحمد
وأبو داود.
حديث ابن عمر أخرجه
أيضًا الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن لا
نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد انتهى.
ويزيد بن أبي زياد تكلم فيه غير واحد من
الأئمة.
قوله: "الموبقات"
أي المهلكات قال في القاموس: وبق كوعد ووجل
وورث وبوقا هلك كاستوبق وكمجلس المهلك والموعد
والمجلس وواد في جهنم وكل شيء حال بين شيئين
وأوبقه حبسه وأهلكه اهـ.
ـ وفي الحديث ـ
دليل على أن هذه السبع المذكورة من كبائر
الذنوب والمقصود من إيراد الحديث ههنا هو قوله
فيه: "والتولي يوم الزحف" فإن ذلك يدل
على الفرار من الكبائر المحرمة وقد ذهب جماعة
من أهل العلم إلى أن الفرار من موجبات
الفسق.
قال في البحر:
مسألة
ج / 7 ص -253-
ومهما حرمت الهزيمة فسق المنهزم لقوله تعالى
{فَقَدْ
بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}
وقوله: "الكبائر سبع إلا متحرفًا لقتال"
وهو أن يرى القتال في غير موضعه أصلح وأنفع
فينتقل إليه قال ابن عباس: وكانت هزيمة
المسلمين في أوطاس انحرافًا من مكان إلى مكان
أو متحيزًا إلى فئة وإن بعدت إذ لم تفصل الآية
ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأهل غزوة
موتة أنا فئة كل مسلم. الخبر ونحوه انتهى.
ومن ذلك قوله في حديث الباب:
"أنا فئتكم وفئة المسلمين"
والأصل في جواز ذلك قوله تعالى {وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ
مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ} وقد جوزت الهادوية الفرار إلى منعة من جبل أو نحوه وإن بعدت ولخشية
استئصال المسلمين أو ضرر عام للإسلام وأما إذا
ظنوا أنهم يغلبون إذا لم يفروا ففي جواز
فرارهم وجهان.
قال الإمام يحيى:
أصحهما أنه يجب الهرب لقوله تعالى
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولا إذ قال له رجل يا رسول اللّه أرأيت لو انغمست في المشركين وقد
تقدم في أول الجهاد وتقدم تفسير الآية.
قوله: "لما نزلت إن
يكن منكم عشرون صابرون" الخ قال في البحر:
وكانت الهزيمة محرمة وإن كثر الكفار لقوله
تعالى
{فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} ثم خفف عنهم بقوله {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فأوجب على كل واحد مصابرة عشرة ثم خفف عنهم وأوجب على الواحد
مصابرة اثنين بقوله
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}
الآية واستقر الشرع على ذلك فحينئذ حرمت
الهزيمة لقول ابن عباس من فر من اثنين فقد فر
ومن فر من ثلاثة لم يفر انتهى.
قوله: "فحاص الناس
حيصة" بالمهملات. قال ابن الأثير: حصت
عن الشيء حدت عنه وملت عن جهته هكذا قال
الخطابي. قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
وقوله حاصوا أي حادوا حيدة ومنه قوله تعالى {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}
ويروى جاضوا جيضة بالجيم والضاد المعجمتين وهو
بمعنى حادوا انتهى.
قوله: "ثم قلنا لو
دخلنا المدينة" الخ لفظ أبي داود فقلنا ندخل
المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد
فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن كانت لنا توبة
أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل صلاة
الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون
فأقبل إلينا فقال لا أنتم العكارون فدنونا
فقبلنا يده فقال أنا فئة المسلمين.
قوله: "العكارون"
بفتح العين المهملة وتشديد الكاف قيل هم الذين
يعطفون إلى الحرب وقيل إذا حاد الإنسان عن
الحرب ثم عاد إليها يقال قد عكر وهو عاكر
وعكار. قال في القاموس: العكار الكرار
العطاف واعتكروا اختلطوا في الحرب والعكر رجع
بعضه فلم يقدر على عده انتهى.
باب من خشي
الأسر فله أن يستأسر وله أن يقاتل حتى يقتل
1- عن أبي هريرة قال:
"بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
عشرة رهطًا عينًا وأمر عليهم عاصم بن ثابت
الأنصاري فانطلقوا حتى إذا
ج / 7 ص -254-
كانوا بالهداة وهو بين عسفان ومكة ذكروا
لبني لحيان فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل
كلهم رام فاقتصوا أثرهم فلما رآهم عاصم
وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقال
لهم انزلوا وأعطوا بأيديكم ولكم العهد
والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا قال عاصم بن
ثابت أمير السرية أما أنا فواللّه لا أنزل
اليوم في ذمة كافر اللّهم خبر عنا نبيك فرموهم
بالنبل فقتلوا عاصم في سبعة فنزل إليهم ثلاثة
رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن
دئنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا
أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث هذا
أول الغدر واللّه لا أصحبكم إن لي في هؤلاء
لأسوة يريد القتلى فجروه وعالجوه على أن
يصحبهم فأبى فقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن دثنة
حتى باعوهم بمكة بعد وقعة بدر وذكر قصة قتل
خبيب إلى أن قال استجاب اللّه لعاصم بن ثابت
يوم أصيب فأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا". مختصر
لأحمد والبخاري وأبو داود.
تمام الحديث:
"فاشترى خبيب بنو الحارث بن عامر بن نوفل
وكان خبيب هو قتل يوم بدر الحارث فمكث عندهم
أسيرًا حتى أجمعوا على قتله فاستعار موسى من
بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته قالت
فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على
فخذه فلما رأيته فزعت فزعة حتى عرف ذلك مني
وفي يده الموسى فقال أتخشين أن أقتله ما كنت
لأفعل ذلك إن شاء اللّه تعالى وكانت تقول ما
رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب لقد رأيته يأكل
من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة وإنه لموثق
بالحديد وما كان إلا رزقًا رزقه اللّه خبيبًا
فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال دعوني أصلي
ركعتين ثم انصرف إليهم فقال لولا أن تروا أن
ما بي جزع من الموت لزدت فكان أول من صلى
الركعتين عند القتل وقال اللّهم أحصهم عددًا
وقال:
ولست أبالي حين أقتل
مسلمًا ** على أي شق كان في اللّه مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن
يشأ ** يبارك علي أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن
الحارث فقتله وبعث قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء
من جسده بعد موته وكان قتل عظيمًا من عظمائهم
يوم بدر فبعث اللّه عليه مثل الظلة من الدبر
فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء هكذا
في صحيح البخاري وسنن أبي داود.
قوله: "عينًا"
العين الجاسوس على ما في القاموس وغيره وفيه
مشروعية بعث الأعيان. وقد أخرج مسلم وأبو
داود من حديث
ج / 7 ص -255-
أنس: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم بعث بسبسة عينًا ينظر ما صنعت عير أبي
سفيان".
قوله: "بالهدأة"
بفتح الهاء وسكون الدال المهملة بعدها همزة
مفتوحة كذا للأكثر وللكشميهني بفتح الدال
وتسهيل الهمزة. وعند ابن إسحاق الهدة بتشديد
الدال بغير ألف قال وهي على سبعة أميال من
عسفان.
قوله: "لبني
لحيان" هم قبيلة معروفة اسم أبيهم لحيان
بكسر اللام وقيل بفتحها وسكون المهملة وهو ابن
هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر.
قوله: "فنفروا
لهم" أي أمروا جماعة منهم أن ينفروا إلى
الرهط المذكورين.
قوله: "الفدفد"
بفاءين ودالين مهملتين الموضع الغليظ
المرتفع. قال في مختصر النهاية: هو المكان
المرتفع.
قوله: "خبيب" بضم
الخاء المعجمة وفتح الموحدة وسكون التحتية
وآخره موحدة أيضًا وهو ابن عدي من الأنصار.
قوله: "دئنة" بفتح
الدال المهملة وكسر المثلثة بعدها نون واسمه
زيد.
قوله: "ورجل آخر"
هو عبد اللّه بن طارق وعالجوه أي مارسوه
والمراد أنهم خادعوه ليتبعهم فأبى.
والاستحداد حلق العانة. والقطف العنقود وهو
اسم لكل ما تقطفه. والشلو العضو من
الإنسان. والممزع بتشديد الزاي بعدها مهملة
المفرق والظلة الشيء المظل من فوق. والدبر
بتشديد الدال السكون الباء وبعدها راء مهملة
جماعة النحل.
وقد استدل المصنف رحمه
اللّه تعالى بهذا الحديث على أنه يجوز لمن لم
يقدر على المدافعة ولا أمكنه الهرب أن يستأسر
وهكذا ترجم البخاري على هذا الحديث باب هل
يستأسر الرجل ومن لم يستأسر أي هل يسلم نفسه
للأسر أم لا. ووجه الاستدلال بذلك أنه لم
ينقل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنكر
ما وقع من الثلاثة المذكورين من الدخول تحت
أسر الكفار ولا أنكر ما وقع من السبعة
المقتولين من الإصرار على الامتناع من الأسر
ولو كان ما وقع من إحدى الطائفتين غير جائز
لأخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أصحابه بعدم
جوازه وأنكره فدل ترك الإنكار على أنه يجوز
لمن لا طاقة له بعدوه أن يمتنع من الأسر وأن
يستأسر.
باب الكذب في
الحرب
1- عن جابر: "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى اللّه ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله يا رسول اللّه قال نعم
قال فأذن لي فأقول قال
قد فعلت
قال فأتاه فقال إن هذا يعني النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قد عنانا وسألنا الصدقة قال
وأيضًا واللّه قال فإنا قد اتبعناه فنكره أن
ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره قال فلم يزل
يكلمه حتى استمكن منه فقتله". متفق
عليه.
2- وعن أم كلثوم بنت
عقبة قالت:
"لم أسمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما
تقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس
وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
ج / 7 ص -256-
حديث جابر هو في بعض الروايات كما ساقه
المصنف مختصرًا وفي بعضها أنه قال له بعد قوله
حتى تنظر إلى ما يصير إليه أمره قد أردت أن
تسلفني سلفًا قال
"فما ترهنني ترهنني نساؤكم" قال أنت أجمل العرب أترهنك نساءنا قال
فترهنون أبناءكم قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن
في وسق أو وسقين من تمر ولكن نرهنك اللامة
يعني السلاح قال نعم وواعده أن يأتيه بالحارث
وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر قال فجاءوا
فدعوه ليلًا فنزل إليهم فقالت له امرأته إني
لأسمع صوتًا كأنه صوت الدم فقال إنما هو محمد
بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم إذا دعي
إلى طعنة ليلا أجاب قال محمد إذا جاء فسوف أمد
يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال
فنزل وهو متوشح فقالوا نجد منك ريح الطيب فقال
نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب فقال محمد
أفتأذن لي أن أشم منك قال نعم فشم ثم قال
أتأذن لي أن أعود قال نعم فاستمكن منه ثم قال
دونكم فقتلوه. أخرجه الشيخان وأبو داود.
وحديث أم كلثوم هو أيضًا
في صحيح البخاري في كتاب الصلح منه ولكنه
مختصر. وقد ورد في معنى حديث أم كلثوم
أحاديث أخر منها حديث أسماء بنت يزيد عند
الترمذي قالت: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
يا أيها الناس ما يحملكم أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار
الكذب كله على ابن آدم حرام إلا في ثلاث خصال
رجل كذب على امرأة ليرضيها ورجل كذب في الحرب
فإن الحرب خدعة ورجل كذب بين مسلمين ليصلح
بينهما" والتتابع التهافت في الأمر. والفراش الطائر الذي يتواقع في ضوء
السراج فيحترق.
وأخرج مالك في الموطأ عن
صفوان بن سليم الزرقي: "أن رجلا قال يا
رسول اللّه أكذب امرأتي فقال صلى اللّه عليه
وآله وسلم
لا خير في الكذب
قال فأعدها وأقول لها فقال صلى اللّه عليه
وآله وسلم
لا جناح عليك". وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم
وصححاه من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط في
استئذانه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن
يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من
أهل مكة وأذن له النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا
المسلمين.
وأخرج الطبراني في
الأوسط:
"الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دين" وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: "قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث
كذبات ثنتين في كتاب اللّه تعالى قوله
{إني سقيم}
وقوله
{بل فعله كبيرهم هذا}
وواحدة في شأن سارة" الحديث.
قوله: "فأذن لي
فأقول" أي أقول ما لا يحل في جانبك.
قوله: "عنانا"
بفتح العين المهملة وتشديد النون الأولى أي
كلفنا بالأوامر والنواهي.
وقوله: "سألنا
الصدقة" أي طلبها منا ليضعها مواضعها.
وقوله: "فنكره أن
ندعه" إلى آخره معناه نكره فراقه.
ـ والحديث ـ
المذكور قد استدل به على جواز الكذب في الحرب
وكذلك بوب عليه البخاري باب الكذب في الحرب.
قال ابن المنير:
الترجمة غير مطابقة لأن الذي وقع بينهم في قتل
كعب ابن الأشرف يمكن أن يكون تعريضًا ثم ذكر
أن الذي وقع في حديث الباب ليس فيه شيء من
الكذب وأن معنى ما في الحديث هو ما ذكرناه في
تفسير ألفاظه وهو صدق. قال الحافظ: والذي
ج / 7 ص -257-
يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه شيء من
الكذب أصلا وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق
لكن ترجم يعني البخاري لقول محمد بن مسلمة
أولا ائذن لي أن أقول قال قل فإنه يدخل فيه
الأذن في الكذب تصريحًا وتلويحًا.
قوله: "إلا في
الحرب" الخ قال الطبري: ذهبت طائفة إلى
جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا إن الثلاث
المذكورة كالمثال وقالوا إن الكذب المذموم
إنما هو فيما فيه مضرة وليس فيه مصلحة وقال
آخرون لا يجوز الكذب في شيء مطلقًا وحملوا
الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن
يقول للظالم دعوت لك أمس وهو يريد قوله اللّهم
اغفر للمسلمين ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن
قدر اللّه ذلك وأن يظهر من نفسه قوة قلب
وبالأول جزم الخطابي وبالثاني جزم المهلب
والأصيلي وغيرهما.
قال النووي:
الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة
لكن التعريض أولى.
وقال ابن العربي:
الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص
رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه
مجال ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب
حلالا انتهى. ويقوي ذلك حديث الحجاج بن علاط
المذكور ولا يعارض ما ورد في جواز الكذب في
الأمور المذكورة ما أخرجه النسائي من طريق
مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد اللّه ابن أبي
سرح وقول الأنصار للنبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم لما كف عن بيعته هلا أومأت إلينا بعينك
قال ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين
لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع
والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة.
وأما حالة المبايعة
فليست بحالة حرب كذا قيل وتعقب بأن قصة الحجاج
بن علاط أيضًا لم تكن في حال حرب. قال
الحافظ: والجواب المستقيم أن يقال المنع
مطلقًا من خصائص النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فلا يتعاطى شيئًا من ذلك وإن كان مباحًا
لغيره ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا
أراد غزوة ورى بغيرها فإن المراد أنه كان يريد
أمرًا فلا يظهره كأن يريد أن يغزو جهة الشرق
فيسأل عن أمر في جهة المغرب ويتجهز للسفر فيظن
من يراه ويسمعه أن يريد جهة المغرب وأما أنه
يصرح بإرادته المغرب ومراده المشرق فلا.
قال ابن بطال:
سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال الكذب
المباح في الحرب ما يكون في المعاريض لا
التصريح بالتأمين مثلًا وقال المهلب: لا
يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلًا قال
ومحال أن يأمر بالكذب من يقول من كذب علي
متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ويرده ما
تقدم.
قال الحافظ:
واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة
والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقًا عليه أو
عليها أو أخذ ما ليس له أو لها وكذا في الحرب
في غير التأمين واتفقوا على جواز الكذب عند
الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل هو مختف
عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا
يأثم انتهى.
وقال القاضي زكريا:
وضابط ما يباح من الكذب وما لا يباح أن الكلام
وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن
التوصل إليه بالصدق فالكذب فيه حرام وإن لم
يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود
مباحًا وواجب إن كان المقصود واجبًا انتهى.
والحق
ج / 7 ص -258-
أن الكذب حرام كله بنصوص القرآن والسنة من
غير فرق بين ما كان منه في مقصد محمود أو غير
محمود ولا يستثنى منه إلا ما خصه الدليل من
الأمور المذكورة في أحاديث الباب نعم إن صح ما
قدمنا عن الطبراني في الأوسط كان من جملة
المخصصات لعموم الأدلة القاضية بالتحريم على
العموم.
باب ما جاء في
المبارزة
1- عن أمير المؤمنين علي رضوان اللّه عليه قال:
"تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى
من يبارز فانتدب له شباب من الأنصار فقال من
أنتم فأخبروه فقال لا حاجة لنا فيكم إنا أردنا
بني عمنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم
قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث
فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلي شيبة واختلف
بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منا
صاحبه ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه واحتملنا
عبيدة". رواه أحمد وأبو داود.
2- وعن قيس بن عباد عن
علي قال: "أنا أول من يجثو للخصومة بين
يدي الرحمن يوم القيامة قال قيس فيهم نزلت هذه
الآية
{هذان خصمان اختصموا في ربهم}
قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة
وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن
ربيعة والوليد بن عتبة".
وفي رواية: "أن
عليًا قال: فينا نزلت هذه الآية وفي
مبارزتنا يوم بدر
{هذان خصمان اختصموا في ربهم}".
رواهما البخاري.
3- وعن سلمة بن الأكوع
قال: "بارز عمي يوم خيبر مرحب
اليهودي". رواه أحمد في قصة طويلة ومعناه
لمسلم.
حديث علي الأول سكت عنه
أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وفي
الباب عن أبي ذر عند الشيخين في ذكر المبارزة
المذكورة مختصرًا وأخرج ابن إسحاق في المغازي
أن عليًا بارز يوم الخندق عمرو بن عبدود"
ووصله الحاكم من حديث أنس بنحوه. وأخرج ابن
إسحاق أيضًا في المغازي عن جابر قال: "خرج
مرحب اليهودي من حصن خيبر قد جمع سلاحه وهو
يرتجز فذكر الشعر فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم
من لهذا فقال محمد بن مسلمة أنا يا رسول اللّه" فذكر الحديث والقصة ورواه
أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد والذي في صحيح
مسلم من حديث سلمة بن الأكوع مطولا أنه بارزه
علي وفيه: "فخرج مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
** شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي عليه السلام:
ج / 7 ص -259-
أنا الذي سمتن أمي حيدره ** كليث غابات كريه
المنظره
وضرب رأس مرحب فقتله.
قال الحافظ في التلخيص:
إن الأخبار متواترة أن عليًا هو الذي قتل
مرحبًا انتهى. ورواية سلمة التي ذكرها
المصنف في الباب تدل على أن الذي بارز مرحبا
هو عمه. ويمكن الجمع بأن يقال إن محمد بن
مسلمة وكذلك عم سلمة بن الأكوع بارزاه أولًا
ولم يقتلاه ثم بارزه علي آخرًا فقتله ومما
يرشد إلى ذلك ما أخرجه الحاكم بسند فيه
الواقدي أنه ضرب محمد بن مسلمة ساقي مرحب
فقطعهما ولم يجهز عليه فمر به علي فضرب عنقه
وأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
محمد بن مسلمة وروى الحاكم بسند منقطع فيه
الواقدي أيضًا أن أبا دجانة قتله وجزم ابن
إسحاق في السيرة أن محمد ين مسلمة هو الذي
قتله.
قال الحافظ في التلخيص
في باب قسمة الفيء والصحيح أن علي بن أبي طالب
هو الذي قتله كما ثبت في صحيح مسلم من حديث
سلمة بن الأكوع وفي مسند أحمد عن علي انتهى.
وفي الصحيحين من حديث
عبد الرحمن بن عوف أن عوفًا ومعوذًا ابني
عفراء خرجا يوم بدر إلى البراز فلم ينكر
عليهما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وروى
ابن إسحاق في المغازي أن عبد اللّه بن رواحة
خرج يوم بدر إلى البراز هو ومعوذ وعوف ابنا
عفراء وذكر القصة.
قوله: "فانتدب له
شباب من الأنصار" هم عبد اللّه بن رواحة
ومعوذ وعوف ابنا عفراء كما بين ذلك ابن إسحاق
في المغازي.
قوله: "قم يا عبيدة
بن الحارث" قال ابن إسحاق: إن عبيدة بن
الحارث وعتبة بن ربيعة كانا أسن القوم فبرز
عبيدة لعتبة وحمزة لشيبة وعلي للوليد وروى
موسى بن عقبة أنه برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة
وهو المناسب لحديث الباب فقتل علي وحمزة من
بارزاهما واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين
فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما
رجعوا بالصفراء ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز
عبيدة فأعاناه على قتله وفي الأحاديث التي
ذكرها المصنف وذكرناها دليل على أنها تجوز
المبارزة وإلى ذلك ذهب الجمهور والخلاف في ذلك
للحسن البصري. وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد
وإسحاق أذن الأمير كما في هذه الرواية فإن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن
للمذكورين.
قوله: "فأثخن كل
واحد منا صاحبه" لفظ أبي داود فأثخن كل واحد
منهما صاحبه أي كل واحد من المذكورين وهما
عبيدة والوليد ومعنى الرواية المذكورة في
الباب أنه أثخن حمزة من بارزه وهو عتبة وأثخن
علي من بارزه وهو شيبة ثم مالا إلى الوليد.
قال في القاموس: أثخن في العدو بالغ في
الجراحة فيهم وفلانًا أوهنه وحتى إذا
أثخنتموهم أي غلبتموهم وكثر فيهم الجراح
انتهى.
قوله: "ثم ملنا إلى
الوليد" فيه دليل على أنه يجوز أن تعين كل
طائفة من الطائفتين المتبارزتين بعضهم بعضًا.
باب من أحب
الإقامة بموضع النصر ثلاثًا
1- عن أنس عن أبي
طلحة: "عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان إذا
ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال".
متفق عليه. وفي لفظ لأحمد والترمذي:
ج / 7 ص -260-
"بعرصتهم" وفي رواية لأحمد: "لما فرغ
من أهل بدر أقام بالعرصة ثلاثًا".
قوله: "أقام
بالعرصة" بفتح العين المهملة وسكون الراء
بعدها صاد مهملة وهي البقعة الواسعة بغير بناء
من دار أو غيرها "وفي الحديث دليل" على
أنها تشرع الإقامة بالمكان الذي ظهر به حزب
الحق على حزب الباطل ثلاث ليال.
قال المهلب: حكمة
الإقامة لإراحة الظهر والأنفس وقال ابن
الجوزي: إنما كان ذلك لإظهار تأثير الغلبة
وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال بالعدو وكأنه
يقول من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا.
وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد أن
تقع ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي
بإيقاع الطاعة فيها بذكر اللّه تعالى وإظهار
شعار المسلمين وإذا كان ذلك في حكم الضيافة
ناسب أن يقيم عليها ثلاثًا لأن الضيافة ثلاث
قال الحافظ: ولا يخفى أن محله إذا كان في
أمن من عدو طارق.
باب أن أربعة
أخماس الغنيمة للغانمين وأنها لم تكن لرسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
1- عن عمرو بن عبسة
قال: "صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم إلى بعير من المغنم فلما أخذ وبرة
من جنب البعير ثم قال
ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم". رواه أبو داود والنسائي بمعناه.
2- وعن عبادة بن
الصامت: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم صلى بهم في غزوتهم إلى بعير من
المقسم فلما سلم قام إلى البعير من المقسم
فتناول وبرة بين أنملتيه فقال
إن هذا من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي
معكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا
الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر".
رواه أحمد في المسند. 3- وعن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده في قصة هوازن: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم دنا من بعير فأخذ
وبرة من سنامه ثم قال يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذه إلا الخمس والخمس
مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط".
رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولم يذكر وأدوا
الخيط والمخيط.
حديث عمرو بن عبسة سكت
عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات
وحديث عبادة بن الصامت أخرجه أيضًا النسائي
وابن ماجه وحسنه الحافظ في الفتح. قال
المنذري: وروي
ج / 7 ص -261-
أيضًا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن
سارية انتهى.
وحديث عمرو بن شعيب قد
قدمنا الكلام على الأسانيد المروية عنه عن
أبيه عن جده وقد أخرج هذا الحديث مالك
والشافعي ووصله النسائي من وجه آخر عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وحسنه الحافظ في الفتح.
قوله: "وبرة" بفتح
الواو والباء الموحدة بعدها راء قال في
القاموس الوبر محركة صوف الإبل والأرانب
وتحوها الجمع أوبار.
قوله: "والمخيط"
هو ما يخاط به كالإبرة ونحوها وفيه دليل على
التشديد في أمر الغنيمة وأنه لا يحل لأحد أن
يكتم منها شيئًا وإن كان حقيرًا وسيأتي الكلام
على ذلك في باب التشديد في الغلول.
ـ وأحاديث ـ الباب فيها
دليل على أنه لا يأخذ الإمام من الغنيمة إلا
الخمس ويقسم الباقي منها بين الغانمين والخمس
الذي يأخذه أيضًا ليس هو له وحده بل يجب عليه
أن يرده على المسلمين على حسب ما فصله اللّه
تعالى في كتابه بقوله
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ} وروى الطبراني في الأوسط وابن مردويه في التفسير من حديث ابن عباس
قال:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إذا بعث سرية قسم وخمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس
في خمسة ثم قرأ {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية فجعل سهم اللّه وسهم رسوله واحدًا وسهم ذوي القربى هو والذي
قبله في الخيل والسلاح وجعل سهم اليتامى وسهم
المساكين وسهم ابن السبيل لا يعطيه غيرهم ثم
جعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهمان
ولراكبه سهم وللراجل سهم" وروى أيضًا أبو عبيد في الأموال نحوه.
ـ وفي أحاديث ـ الباب
أيضًا دليل على أنه لا يستحق الإمام السهم
الذي يقال له الصفي. واحتج من قال بأنه
يستحقه بما أخرجه أبو داود عن الشعبي وابن
سيرين وقتادة أنهم قالوا كان لرسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي ولا يقوم
بمثل هذا المرسل حجة.
وأما اصطفاؤه صلى اللّه
عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار من غنائم بدر
فقد قيل إن الغنائم كانت له يومئذ خاصة فنسخ
الحكم بالتخميس كما حكى ذلك صاحب البحر عن
الإمام يحيى.
وأما صفية بنت حيي بن
أخطب فهي من خيبر ولم يقسم النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم للغانمين منها إلا البعض فكان
حكمها حكم ذلك البعض الذي لم يقسم على أنه قد
روي أنها وقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي
فاشتراها منه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بسبعة أرؤس.
وقد ذهب إلى أن الإمام
يستحق الصفي العترة وخالفهم الفقهاء وسيذكر
المصنف رحمه اللّه الأدلة القاضية باستحقاق
الإمام للصفي في باب مستقل سيأتي.
باب أن السلب
للقاتل وأنه غير مخموس
1- وعن أبي قتادة قال:
"خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يوم حنين فلما التقينا كانت للمسلمين
جولة قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا
من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه
فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة
وجدت منها ريح الموت ثم
ج / 7 ص -262-
أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب
فقال ما للناس فقلت أمر اللّه ثم إن الناس
رجعوا وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقال
"من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه"
قال فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل
ذلك قال فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال
ذلك الثالثة فقمت فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
ما لك يا أبا قتادة فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول
اللّه سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه فقال
أبو بكر الصديق لا ها اللّه إذا لا يعمد إلى
أسد من أسد اللّه يقاتل عن اللّه وعن رسوله
فيعطيك سلبه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
صدق فأعطه إياه فأعطاني قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة فإنه لأول مال
تأثلته في الإسلام". متفق عليه.
2- وعن أنس: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال يوم
حنين:
من قتل رجلا فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين
رجلًا وأخذ أسلابهم".
رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ: "من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه قال فجاء أبو
طلحة بسلب أحد وعشرين رجلا"
رواه أحمد.
3- وعن عوف بن مالك:
"أنه قال لخالد بن الوليد أما علمت أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قضي بالسلب للقاتل
قال بلى". رواه مسلم.
4- وعن عوف وخالد
أيضًا:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يخمس
السلب". رواه أحمد وأبو داود.
حديث أنس سكت عنه أبو
داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح
وتمامه: "ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها
خنجر فقال يا أم سليم ما هذا معك قالت أردت
واللّه إن دنا مني بعضهم أبعج به بطنه فأخبر
بذلك أبو طلحة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم" وأخرج قصة أم سليم مسلم أيضًا.
وحديث عوف وخالد أنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم لم يخمس السلب أخرجه
أيضًا ابن حبان والطبراني قال الحافظ بعد ذكره
في التلخيص ما لفظه وهو ثابت في صحيح مسلم في
حديث طويل فيه قصة لعوف بن مالك مع خالد بن
الوليد اهـ.
وفيه نظر فإن هذا اللفظ
الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم بل
الذي فيه هو ما سيأتي قريبًا وفي إسناد هذا
الحديث إسماعيل بن عياش وفيه كلام معروف قد
تقدم ذكره مرارًا.
قوله: "جولة" بفتح
الجيم وسكون الواو أي حركة فيها اختلاط وهذه
الجولة كانت قبل
ج / 7 ص -263-
الهزيمة.
قوله: "فرأيت رجلا
من المشركين قد علا رجلا من المسلمين" قال
الحافظ: لم أقف على اسميهما.
قوله: "على حبل
عاتقه" حبل العاتق عصبه والعاتق موضع الرداء
من المنكب.
قوله: "وجدت منها
ريح الموت" أي من شدتها وأشعر ذلك بأن هذا
المشرك كان شديد القوة جدًا.
قوله: "فأرسلني"
أي أطلقني.
قوله: "فلحقت عمر بن
الخطاب" الخ في السياق حذف تبينه الرواية
الأخرى من حديثه في البخاري وغيره بلفظ:
"ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم
فإذا بعمر بن الخطاب".
قوله: "أمر اللّه"
أي حكم اللّه وما قضى به.
قوله: "فله سلبه"
السلب بفتح المهملة واللام بعدها موحدة هو ما
يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور
وعن أحمد لا تدخل الدابة وعن الشافعي يختص
بأداة الحرب.
وقد ذهب الجمهور أيضًا
إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير
الجيش قبل ذلك من قتل قتيلًا فله سلبه أم
لا. وذهبت العترة والحنفية والمالكية إلى
أنه لا يستحقه القاتل إلا إن شرط له الإمام
ذلك وروي عن مالك أنه يخير الإمام بين أن يعطي
القاتل السلب أو يخمسه واختاره القاضي إسماعيل
وعن إسحاق إذا كثرت الأسلاب خمست. وعن مكحول
والثوري يخمس مطلقًا. وقد حكي عن الشافعي
أيضًا وحكاه في البحر عن ابن عمر وابن عباس
والقاسمية. وحكي أيضًا عن أبي حنيفة وأصحابه
والشافعي والإمام يحيى أنه لا يخمس. وحكي
أيضًا عن علي مثل قول إسحاق "واحتج"
القائلون بتخميس السلب بعموم قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} الآية فإنه لم يستثن شيئًا. واستدل من
قال أنه لا خمس فيه بحديث عوف بن مالك وخالد
المذكور في الباب وجعلوه مخصصًا لعموم
الآية.
قوله: "فقال رجل من
القوم" قال الواقدي اسمه أسود من خزاعة.
قال الحافظ: وفيه نظر لأن في الرواية
الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي.
قوله: "لاها
اللّه" قال الجوهري: ها للتنبيه وقد يقسم
بها يقال لاها اللّه ما فعلت كذا.
قال ابن مالك:
فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم
بحرف التنبيه قال ولا يكون ذلك إلا مع اللّه
أي لم يسمع لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن
قال وفي النطق بها أربعة أوجه. أحدها ها
اللّه باللام بعد الهاء بغير إظهار شيء من
الألفين. ثانيها مثله لكن بإظهار ألف واحدة
بغير همز كقولهم التقت حلقتا البطان. ثالثها
ثبوت الألفين بهمزة قطع. رابعها بحذف الألف
وثبوت همزة القطع اهـ.
قال الحافظ:
والمشهور في الرواية من هذه الأوجه الثالث ثم
الأول.
وقال أبو حاتم السجستاني:
العرب تقول لا ها اللّه ذا بالهمزة والقياس
ترك الهمزة. وحكى ابن التين عن الداودي أنه
رواه برفع اللّه قال والمعنى يأبى اللّه وقال
غيره إن ثبتت الرواية بالرفع فتكون ها للتنبيه
واللّه مبتدأ ولا يعمد خبره ولا يخفى تكلفه.
قال الحافظ:
وقد نقل الأئمة الاتفاق على الجر فلا يلتفت
إلى غيره قال وأما إذا فثبت في جميع الروايات
المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرهما
بكسر الألف ثم ذال معجمة منونة.
وقال الخطابي:
هكذا يروونه وإنما هو في كلامهم أي العرب لا
ها اللّه ذا والهاء فيه بمنزلة الواو والمعنى
لا واللّه يكون ذا ونقل عياض في المشارق عن
إسماعيل القاضي أن المازني قال قول الرواة لا
ها اللّه إذا خطأ والصواب لا ها اللّه ذا أي
ذا يميني وقسمي.
وقال أبو زيد:
ليس
ج / 7 ص -264-
في كلامهم لا ها اللّه إذا وإنما هو لا ها
اللّه ذا وذا صلة في الكلام والمعنى لا واللّه
هذا ما أقسم به ومنه أخذ الجوهري فقال قولهم
لا ها اللّه ذا معناه لا واللّه هذا ففرقوا
بين حرف التنبيه والصلة والتقدير لا واللّه ما
فعلت ذا وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث
على أن الذي وقع في الحديث بلفظ إذا خطأ وإنما
هو ذا تبعًا لأهل العربية ومن زعم أنه ورد في
شيء من الروايات خلاف ذلك فلم يصب بل يكون ذلك
من إصلاح من قلد أهل العربية.
وقد اختلف في كتابة إذا
هذه هل تكتب بألف أو بنون وهذا الخلاف مبني
على أنها اسم أو حرف فمن قال هي اسم قال الأصل
فيمن قيل له سأجيء إليك فأجاب إذا أكرمك أي
إذا جئتني أكرمك ثم حذف جئتني وعوض عنه
التنوين وأضمرت أن فعلى هذا تكتب بالنون ومن
قال هي حرف وهم الجمهور اختلف فمنهم من قال هي
بسيطة وهو الراجح ومنهم من قال مركبة من إذ
وأن فعلى الأول تكتب بالألف وهو الراجح وبه
وقع رسم المصاحف وعلى الثاني تكتب بنون واختلف
في معناها فقال سيبويه معناها الجواب والجزاء
وتبعه جماعة فقالوا هي حرف جواب يقتضي التعليل
وأفاد أبو علي الفارسي أنها قد تتمحض للتعليل
وأكثر ما تجيء جواب لو وأن ظاهرًا أو مقدارًا
قال في الفتح فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ
إذا لاختل نظم الكلام لأنه يصير هكذا لا
واللّه إذا لا يعمد إلى أسد الخ وكان حق
السياق أن يقول إذا يعمد أي لو أجابك إلى ما
طلبت لعمد إلى أسد الخ وقد ثبتت الرواية بلفظ
لا يعمد الخ فمن ثم ادعى من ادعى أنها تغيير
ولكن قال ابن مالك وقع في الرواية إذا بألف
وتنوين وليس ببعيد وقال أبو البقاء هو بعيد
ولكن يمكن أن يوجه بأن التقدير لا واللّه لا
يعطى إذا ويكون لا يعمد الخ تأكيدًا للنفي
المذكور وموضحًا للسبب فيه وقال الطيبي:
ثبتت في الرواية لا ها اللّه إذا فحمله بعض
النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة لأن
العرب لا تستعمل لا ها اللّه بدون ذا وإن سلم
استعماله بدون ذا فليس هذا موضع إذا لأنها حرف
جزاء ومقتضى الجزاء أن لا يذكر لا في قوله لا
يعمد بل كانوا يقولون إذا يعمد إلى أسد الخ
ليصح جوابًا لطالب السلب.
قال: والحديث صحيح
والمعنى صحيح وهو كقولك لمن قال لك افعل كذا
فقلت له واللّه إذا لا أفعل فالتقدير واللّه
إذا لا يعمد إلى أسد قال ويحتمل أن تكون إذا
زائدة كما قال أبو البقاء إنها زائدة في قول
حماسي. إذا لقام بنصري معشر خشن في جواب
قوله. لو كنت من مازن لم تستبح إبلي.
قال والعجب ممن يعتني
بشرح الحديث ويقدم نقل بعض الأدباء على أئمة
الحديث وجهابذته وينسبون إليهم الغلط والتصحيف
ولا أقول أن جهابذة المحدثين أعدل وأتقن في
النقل إذ يقتضي المشاركة بينهم بل أقول لا
يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم وقد سبقه
إلى مثل ذلك القرطبي في المفهم فإنه قال وقع
في رواية في مسلم لا ها اللّه ذا بغير ألف ولا
تنوين وهو الذي جزم به من ذكرناه يعني من قدم
النقل عنه من أئمة العرب قال والذي يظهر لي أن
الرواية المشهورة صواب وليست بخطأ وذلك أن هذا
الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى
والهاء
ج / 7 ص -265-
هي التي عوض بها عن واو القسم وذلك أن العرب
تقول في القسم اللّه لأفعلن بمد الهمزة
وبقصرها فكأنهم عوضوا عن الهمزة هاء فقالوا ها
اللّه لتقارب مخرجهما وكذلك قالوا ها بالمد
والقصر وتحقيقه أن الذي مد مع الهاء كأنه نطق
بهمزتين أبدل من إحداهما ألفًا استثقالا
لاجتماعهما كما يقول اللّه والذي قصر كأنه نطق
بهمزة واحدة كما يقول اللّه.
وأما إذا فهي بلا شك حرف
جواب وتعليل وهي مثل التي وقعت في قوله صلى
اللّه عليه وآله وسلم وقد سئل عن بيع الرطب
بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم
قال فلا إذا قال فلا واللّه إذا لكان مساويًا
لما وقع هنا وهو لا ها اللّه إذا من كل وجه
ولكنه لم يحتج هنا إلى القسم فتركه قال فقد
وضح تقرير الكلام ومناسبته واستقامته معنى
ووضعًا من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن
البلاغة ولا سيما من ارتكب أبعد وأفسد فجعل
الهاء للتنبيه وذا للإشارة وفصل بينهما بالقسم
به وقال وليس هذا قياسًا فيطرد ولا فصيحًا
فيحمل عليه الكلام النبوي ولا مرويًا برواية
ثابتة قال وما وجد للعذرى وغيره في مسلم
فإصلاح ممن اغتر بما حكي عن أهل العربية والحق
أحق أن يتبع.
قال في الفتح:
قال أبو جعفر الغرناطي في حاشية نسخته من
البخاري استرسل جماعة من القدماء في هذا
الإشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا
الأثبات بالتصحيف فقالوا والصواب لا ها اللّه
ذا باسم الإشارة قال ويا عجباه من قوم يقبلون
التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها
تأويلًا وجوابهم أن ها اللّه لا يستلزم اسم
إشارة كما قال أبو مالك وأما جعل لا يعمد جواب
فأرضه فهو سبب الغلط وليس بصحيح ممن زعمه
وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه قوله صدق
فأرضه فكأن أبا بكر قال إذا صدق في أنه صاحب
السلب إذ لا يعمد إلى السلب فيعطيك حقه
فالجزاء على هذا صحيح لأن صدقه سبب أن لا يفعل
ذلك قال وهذا لا تكلف فيه انتهى.
قال الحافظ في الفتح:
وهو توجيه حسن والذي قبله أقعد ويؤيد ما رجحه
من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع
هذه الجملة في كثير من الأحاديث منها ما وقع
في حديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها
يشترطون الولاء قالت فانتهرتها فقلت لا ها
اللّه إذا ومنها ما وقع في حديث جليبيب أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب عليه
امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال حتى أستأمر
أمها قال فنعم إذا قال فذهب إلى امرأته فذكر
لها ذلك فقالت لا ها اللّه إذا وقد منعناها
فلانًا الحديث صححه ابن حبان من حديث أنس
ومنها ما أخرجه أحمد في الزهد قال مالك بن
دينار للحسن يا أبا سعيد أو ليست مثل عباءتي
هذه قال لا ها اللّه إذا لا ألبس مثل عباءتك
هذه وغير ذلك من الأحاديث والراجح أن إذا
الواقعة في حديث الباب وما شابهه حرف جواب
وجزاء والتقدير لا واللّه حينئذ ثم أراد بيان
السبب في ذلك فقال لا يعمد إلى أسد الخ.
قوله: "لا يعمد"
الخ معناه لا يقصد رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة يقاتل
عن دين اللّه ورسوله فيأخذ حقه ويعطيك بغير
طيبة من نفسه هكذا ضبط للأكثر بالتحتانية في
يعمد وفي يعطيك وضبطه النووي بالنون فيهما.
قوله: "فيعطيك
سلبه" أي سلب قتيله وأضافه إليه باعتبار أنه
ج / 7 ص -266-
ملكه.
قوله: "فابتعت به" ذكر الواقدي أن الذي
اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة وأن الثمن كان
سبع أواق.
قوله: "مخرفًا" بفتح الميم والراء ويجوز
كسر الراء أي بستانًا سمي بذلك لأنه يخترف منه
التمر أي يجتني وإما بكسر الميم فهو اسم الآلة
التي يخترف بها.
قوله: "في بني سلمة" بكسر اللام وهم بطن
من الأنصار من قوم أبي قتادة.
قوله: "تأثلته" بمثناة ثم مثلثة أي
أصلته وأثلة كل شيء أصله.
قوله: "من تفرد بدم رجل" فيه دليل على
أنه لا يستحق السلب إلا من تفرد بقتل المسلوب
فإن شاركه في ذلك غيره كان السلب لهما.
قوله: "لم يخمس السلب" فيه دليل لمن قال
إنه لا يخمس السلب وقد تقدم الخلاف في ذلك.
5- وعن عوف بن مالك قال: "قتل رجل من حمير
رجلا من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد بن
الوليد وكان واليًا عليهم فأتى رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم عوف بن مالك فأخبره بذلك
فقال لخالد ما منعك أن تعطيه سلبه فقال
استكثرته يا رسول اللّه قال ادفعه إليه فمر خالد بعوف فجر بردائه ثم قال هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فسمعه رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاستغضب فقال
لا تعطه يا
خالد هل أنتم تاركون لي أمرائي إنما مثلكم
ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلا وغنمًا فرعاها ثم
تحين سقيها فأوردها حوضًا فشرعت فيه فشربت
صفوه وتركت كدره فصفوه لكم وكدره عليهم".رواه أحمد ومسلم.
وفي رواية قال: "خرجت مع زيد بن حارثة في
غزوة موتة ورافقني مددي من أهل اليمن ومضينا
فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر
عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يفري في
المسلمين فقعد له المددي خلف صخرة فمر به
الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه
وسلاحه فلما فتح اللّه عز وجل للمسلمين بعث
إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب قال عوف
فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل
قال بلى ولكن استكثرته قلت لتردنه إليه أو
لأعرفنكها عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فأبى أن يرد عليه قال عوف فاجتمعنا عند
رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقصصت
عليه قصة المددي وما فعل خالد وذكر بقية
الحديث بمعنى ما تقدم" رواه أحمد وأبو
داود.
وفيه حجة لمن جعل السلب المستكثر إلى الإمام
وأن الدابة من السلب.
ج / 7 ص -267-
6- وعن سلمة بن الأكوع قال: "غزونا مع
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هوازن
فبينا نحن نتضحى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ثم
انتزع طلقًا من جعبته فقيد به الجمل ثم تقدم
فتغدى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة من
الظهر وبعضنا مشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله
فأطلق قيده ثم أناخه فقعد عليه فأثاره فاشتد
به الجمل فأتبعه رجل على ناقة ورقاء قال سلمة
فخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى
كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام
الجمل فأنخته فلما وضع ركبتيه في الأرض اخترطت
سيفي فضربت رأس الرجل فندر ثم جئت بالجمل
أقوده عليه رحله وسلاحه فاستقبلني رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم والناس معه فقال
من قتل الرجل فقالوا سلمة بن الأكوع قال
له سلبه أجمع". متفق عليه.
قوله: "رجل من
حمير" هو المددي المذكور في الرواية
الثانية.
قوله: "لا تعطه يا
خالد" فيه دليل على أن للإمام أن يعطي السلب
غير القاتل لأمر يعرض فيه مصلحة من تأديب أو
غيره.
قوله: "هل أنتم
تاركون لي أمرائي" فيه الزجر عن معارضة
الأمراء ومغاضبتهم والشماتة بهم لما تقدم من
الأدلة الدالة على وجوب طاعتهم في غير معصية
اللّه.
قوله: "في غزوة
موتة" بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر
الرواة وبه جزم المبرد ومنهم من همزها وبه جزم
ثعلب والجوهري وابن فارس. وحكى صاحب الواعي
الوجهين.
وأما الموتة التي وردت
الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز.
قوله: "مددي" بفتح
الميم ودالين مهملتين قال في النهاية:
الإمداد جمع مدد وهم الأعوان والأنصار الذين
كانوا يمدون المسلمين في الجهاد ومددي منسوب
إليه اهـ.
قوله: "يفري" بفتح
أوله بعده فاء ثم راء والفرى شدة النكاية فيهم
يقال فلان يفري إذا كان يبالغ في الأمر وأصل
الفري القلع قال في القاموس: وهو يفري الفرى
كغني يأتي بالعجب في عمله اهـ.
قوله: "فعرقب
فرسه" أي قطع عرقوبها قال في القاموس:
عرقبه قطع عرقوبه اهـ.
قوله: "فبينا نحن
نتضحى" أي نأكل في وقت الضحى كما يقال نتغدى
ذكر معنى ذلك في النهاية.
قوله: "من جعبته"
بالجيم والعين المهملة قال في النهاية:
الجعبة التي يجعل فيها النشاب والطلق بفتح
اللام قيد من جلود.
قوله: "له سلبه
أجمع" فيه دليل على أن القاتل يستحق جميع
السلب وإن كان كثيرًا وعلى أن القاتل يستحق
السلب في كل حال حتى قال أبو ثور وابن المنذر
يستحقه ولو كان المقتول منهزمًا.
وقال أحمد: لا يستحقه
إلا بالمبارزة وعن الأوزاعي إذا التقى الزحفان
فلا سلب.
وقد
ج / 7 ص -268-
اختلف إذا كان المقتول امرأة هل يستحق سلبها
القاتل أم لا فذهب أبو ثور وابن المنذر إلى
الأول وقال الجمهور شرطه أن يكون المقتول من
المقاتلة واتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادعى
السلب إلا ببينة تشهد له بأنه قتله والحجة في
ذلك ما تقدم من قوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" فمفهومه أنه إذا لم يكن له بينة لا تقبل. وعن الأوزاعي يقبل
قوله بغير بينة لأن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أعطاه أبا قتادة بغير بينة وقد تقدم وفيه
نظر لأنه وقع في مغازي الواقدي أن أوس بن خولي
شهد لأبي قتادة وعلى تقدير أن لا يصح فيحمل
على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علم
بأنه القاتل بطريق من الطرق وأبعد من قال من
المالكية أن المراد بالبينة هنا الذي أقر له
أن السلب عنده فهو شاهد والشاهد الثاني وجود
المسلوب فإنه بمنزلة الشاهد على أنه قتله
ولذلك جعل لوثا في باب القسامة وقيل إنما
استحقه أبو قتادة بإقرار الذي هو بيده وهذا
ضعيف لأن الإقرار إنما يفيد إذا كان المال
منسوبًا لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره والمال
هنا لجميع الجيش. ونقل ابن عطية عن أكثر
الفقهاء أن البينة هنا يكفي فيها شاهد واحد
وقد اختلف في المرأة والصبي هل يستحقان سلب من
قتلاه في ذلك وجهان قال الإمام يحيى أصحهما
يستحقان لعموم من قتل قتيلًا فله سلبه.
قال في البحر:
وإنما يستحق السلب حيث قتله والحرب قائمة لا
لو قتله نائمًا أو فارًا قبل مبارزته أو
مشغولا بأكل ولا لو رماه بسهم إذ هو في مقابلة
المخاطرة بالنفس ولا مخاطرة هنا ولا لو قتل
أسيرًا أو عزيلا عن السلاح ولا لو قتل من لا
سطوة له كالمقعد والزمن فإن قطع يديه ورجليه
استحق سلبه إذ قد كفى شره ولو جرحه رجل ثم
قتله آخر فالسلب للآخر إذ لم يعط صلى اللّه
عليه وآله وسلم ابن مسعود سلب أبي جهل وقد
جرحه بل قاتليه من الأنصار قال فلو ضرب أحدهما
يده والآخر رقبته فالسلب لضارب الرقبة إن لم
تكن ضربة الآخر قاتلة وإلا اشتركا انتهى.
والمراد بالسلب هو ما أجلب به المقتول من
ملبوس ومركوب وسلاح لا ما كان باقيًا في بيته
قال الإمام يحيى ولا المنطقة والخاتم والسوار
والجنيب من الخيل فليس بسلب.
قال المهدي:
بل المذهب أن كل ما ظهر على القتيل أو معه فهو
سلب لا ما يخفي من جواهر أو دراهم أو نحوها
والظاهر من حديث الباب المؤكد بلفظ أجمع أنه
يقال لكل شيء وجد مع المقتول وقت القتل سلب
سواء كان مما يظهر أو يخفى واختلفوا هل يدخل
الإمام في العموم إذ قال من قتل قتيلًا فله
سلبه فذهب أبو حنيفة والهادوية إلى الأول
لعموم اللفظ إلا لقرينة مخصصة نحو أن يقول من
قتل منكم وذهب الشافعي والمؤيد باللّه في قول
له أنه لا يدخل ومرجع هذا إلى المسألة
المعروفة في الأصول وهي هل يدخل المخاطب في
خطاب نفسه أم لا وفي ذلك خلاف معروف.
7- وعن عبد الرحمن بن
عوف أنه قال: "بينا أنا واقف في الصف يوم
بدر نظرت عن يميني فإذا أنا بين غلامين من
الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع
منهما فغمزني أحدهما
ج / 7 ص -269-
فقال يا عم هل تعرف أبا جهل قال قلت نعم وما
حاجتك إليه يا ابن أخي قال أخبرت أنه يسب رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والذي نفسي
بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت
الأعجل منا قال فعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال
مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في
الناس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان
عنه قال فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه ثم
انصرفا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فأخبراه فقال أيكما قتله فقال كل واحد
منهما أنا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما قالا
لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله وقضى
بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان معاذ
بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء". متفق
عليه.
8- وعن ابن مسعود قال:
"نفلني
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم بدر
سيف أبي جهل كان قتله".
رواه أبو داود ولأحمد
معناه وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق
فأجهز عليه روى معنى ذلك أبو داود وغيره.
حديث ابن مسعود هو من
رواية ابنه أبي عبيدة عنه ولم يسمع منه كما
تقدم غير مرة. ولفظ مسند أحمد الذي أشار
إليه المصنف عن أبي عبيدة عن أبيه عبد اللّه
بن مسعود أنه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت
رجله وهو صريع يذب الناس عنه بسيف له فأخذه
عبد اللّه بن مسعود فقتله به فنفله رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم بسلبه.
قوله: "حديثة
أسنانهما" بالجر صفة لغلامين وأسنانهما
بالرفع.
قوله: "بين أضلع
منهما" من الضلاعة وهي القوة قال في
النهاية: معناه بين رجلين أقوى من اللذين
كنت بينهما وأشد. ووقع في رواية الحموي بين
أصلح منهما بالصاد والحاء المهملتين.
قوله: "لا يفارق
سوادي سواده" السواد بفتح السين المهملة وهو
الشخص.
قوله: "حتى يموت
الأعجل منا" أي الأقرب أجلًا وقيل إن لفظ
الأعجل تصحيف وإنما هو الأعجر وهو الذي يقع في
كلام العرب كثيرًا قال في الفتح: والصواب ما
وقع في الرواية لوضوح معناه.
قوله: "فنظر في
السيفين" قال المهلب: نظره صلى اللّه عليه
وآله وسلم في السيفين واستلاله لهما ليرى ما
بلغ الدم من سيفيهما ومقدار عمق دخولهما في
جسم المقتول ليحكم بالسلب لمن كان في ذلك أبلغ
ولذلك سألهما أولًا هل مسحتما سيفيكما أم لا
لأنهما لو مسحاهما لما تبين المراد من ذلك.
وقد استشكل ما وقع منه
صلى اللّه عليه وآله وسلم من القضاء بالسلب
لأحدهما بعد حكمه بأن كلًا منهما قتله حتى
استدل بذلك من قال إن إعطاء السلب مفوض إلى
رأي الإمام وقرره الطحاوي وغيره بأنه لو كان
يجب للقاتل لكان السلب مستحقًا بالقتل
ج / 7 ص -270-
ولجعله
بينهما لاشتراكهما في قتله فلما خص به أحدهما
دل على أنه لا يستحق بالقتل وإنما يستحق
بتعيين الإمام وأجاب الجمهور بأن في السياق
دلالة على أن السلب يستحقه من أثخن في الجرح
ولو شاركه غيره في الضرب أو الطعن قال
المهلب: وإنما قال كلاكما قتله وإن كان
أحدهما هو الذي أثخنه لتطييب نفس الآخر.
وقال الإسماعيلي: أقول إن
الأنصاريين ضرباه فأثخناه فبلغا به المبلغ
الذي يعلم معه أنه لا يجوز بقاؤه على تلك
الحال إلا قدر ما يطفأ وقد دل قوله كلاكما
قتله على أن كلا منهما وصل إلى قطع الحشوة
وإبانتها ولما لم يعلم أن عمل كل من سيفيهما
كعمل الآخر غير أن أحدهما سبق بالضرب فصار في
حكم المثبت بجراحته حتى وقعت به ضربة الثاني
فاشتركا في القتل إلا أن أحدهما قتله وهو
ممتنع والآخر قتله وهو مثبت فلذلك قضى بالسلب
للسابق إلى إثخانه.
وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق حدثني ثور
بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن إسحاق
وحدثني عبد اللّه بن أبي بكر بن حزم قال قال
معاذ بن عمرو بن الجموح سمعتهم يقولون أبو جهل
لا يخلص إليه فجعلته من شأني فعمدت نحوه فلما
أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه
وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي قال ثم
عاش معاذ إلى وقت عثمان قال ومر بأبي جهل معوذ
بن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق ثم قاتل
معوذ حتى قتل فمر عبد اللّه بن مسعود بأبي جهل
لعنه اللّه فوجده بآخر رمق فذكر ما تقدم.
قال في الفتح: فهذا الذي رواه ابن إسحاق
يجمع بين الأحاديث لكنه يخالف ما في الصحيح من
حديث عبد الرحمن ابن عوف فإنه رأى معاذًا
ومعوذًا شدا عليه جميعًا طرحاه وابن إسحاق
يقول إن ابن عفراء هو معوذ بتشديد الواو والذي
في الصحيح معاذ فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء
شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح وضربه
بعد ذلك معوذ حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود
فتجتمع الأقوال كلها وإطلاق كونهما قتلاه
يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود إنه وجده وبه
رمق وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه
بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبق له إلا مثل
حركة المذبوح وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود
فضرب عنقه.
وأما ما وقع عند موسى بن عقبة وكذا عند أبي
الأسود عن عروة أن ابن مسعود وجد أبا جهل
مصروعًا بينه وبين المعركة غير كثير متقنعًا
في الحديد واضعًا سيفه على فخذه لا يتحرك منه
عضو فظن عبد اللّه أنه مثبت جراحًا فأتاه من
ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع
بعضد أبي جهل عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين
يديه فيحمل على أن ذلك وقع له بعد أن خاطبه
بما تقدم.
قوله: "والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح
ومعاذ بن عفراء" وقع في البخاري في الخمس
أنهما ابنا عفراء فقيل إن عفراء أم معاذ واسم
أبيه الحارث وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس
اسم أمه عفراء وإنما أطلق عليه تغليبًا ويحتمل
أن تكون أم معاذ أيضًا تسمى عفراء وإنه لما
كان لمعوذ أخ يسمى معاذًا باسم الذي شركه في
قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه.
قوله: "نفلني رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يوم بدر سيف أبي جهل" يمكن الجمع
بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم نفل ابن مسعود
سيفه الذي قتله به فقط وعلى ذلك يحمل قوله في
رواية أحمد فنفلني رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بسلبه جمعًا بين الأحاديث .
ج / 7 ص -271-
باب التسوية بين القوي والضعيف ومن قاتل ومن
لم يقاتل
1- عن ابن عباس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يوم بدر
من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا
قال فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم
يبرحوا بها فلما فتح اللّه عليهم قال المشيخة
كنا ردءًا لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا فلا
تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان وقالوا
جعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لنا
فأنزل اللّه عز وجل:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ}
إلى قوله عز وجل {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}
يقول فكان ذلك خيرًا لهم وكذلك هذا أيضًا
فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم فقسمها
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بالسواء". رواه أبو داود.
2- وعن عبادة بن الصامت
قال: "خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فشهدت معه بدرًا فالتقى الناس فهزم
اللّه العدو فانطلقت طائفة في أثرهم يهزمون
ويقتلون وأكبت طائفة على الغنائم يحوونه
ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا
كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين
جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد
فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم
بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم
وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب
العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا
ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على فواق بين
المسلمين.
وفي لفظ مختصر فينا
أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت
فيه أخلاقنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقسمه
فينا على بواء يقول على السواء". رواه
أحمد.
3- وعن سعد بن مالك
قال: "قلت يا رسول اللّه الرجل يكون حامية
القوم أيكون سهمه وسهم غيره سواء قال
ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم". رواه أحمد.
ج / 7 ص -272-
4- وعن مصعب ابن سعد قال: "رأى سعدًا له
فضلا على من دونه فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم
هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم".
رواه البخاري والنسائي.
5- وعن أبي الدرداء
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
ابغوني ضعفاءكم فإنكم إنما ترزقون وتنصرون
بضعفائكم".
رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي
وصححه.
حديث ابن عباس سكت عنه
أبو داود والمنذري وأخرجه أيضًا الحاكم وصححه
أبو الفتح في الاقتراح على شرط البخاري.
وحديث عبادة قال في مجمع
الزوائد رجال أحمد ثقات انتهى. وأخرجه أيضًا
الطبراني وأخرج نحوه الحاكم عنه.
وحديث سعد بن مالك في
إسناده محمد بن راشد المكحولي قال في التقريب
صدوق يهم.
وحديث أبي الدرداء سكت
عنه أبو داود وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال
صحيح الإسناد ولم يخرجاه وللنسائي زيادة تبين
المراد من الحديث ولفظها قال نبي اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم إنما نصر هذه الأمة
بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم.
قوله: "من النفل"
بفتح النون والفاء زيادة يزادها الغازي على
نصيبه من الغنيمة ومته نفل الصلاة وهو ما عدا
الفرض وقال في القاموس: النفل محركة الغنيمة
والهبة والجمع أنفال ونفال اهـ.
قوله: "ولزم
المشيخة" بفتح الميم كما في شمس العلوم هو
جمع شيخ ويجمع أيضًا على شيوخ وأشياخ وشيخة
وشيخان ومشايخ.
قوله: "ردءًا"
بكسر الراء وسكون الدال بعد همزة هو العون
والمادة على ما في القاموس. والمراد بقوله
لفئتم أي رجعتم إلينا.
قوله: "فقسمها رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالسواء"
فيه دليل على أنها إذا انفردت منه قطعة فغنمت
شيئًا كانت الغنيمة للجميع.
قال ابن عبد البر:
لا يختلف الفقهاء في ذلك أي إذا خرج الجيش
جميعه ثم انفردت منه قطعة انتهى وليس المراد
الجيش القاعد في بلاد الإسلام فإنه لا يشارك
الجيش الخارج إلى بلاد العدو بل قال ابن دقيق
العيد: إن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي
فيه الإمام ينفرد بما يغنمه قال وإنما قالوا
هو بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبًا منهم
يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا انتهى.
قوله: "فقسمها رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على فواق"
أي قسمها بسرعة في قدر ما بين الحلبتين.
وقيل المراد فضل في القسمة فجعل بعضهم أفوق من
بعض على قدر عنايته.
قوله: "على بواء"
بفتح الموحدة والواو بعدها همزة ممدودة وهو
السواء كما فسره المصنف رحمه اللّه.
قوله: "حامية
القوم" بالحاء المهملة قال في القاموس:
والحامية الرجل يحمي أصحابه والجماعة أيضًا
حامية وهو على حامية القوم أي آخر من يحميهم
في مضيهم انتهى.
قوله: "رأى سعد"
أي ابن أبي وقاص وهو والد مصعب الراوي عنه.
قال في الفتح:
وصورة هذه السياق مرسلة لأن مصعبًا لم يدرك
زمان القول لكنه محمول على أنه سمع ذلك من
أبيه. وقد وقع التصريح عن مصعب بالرواية له
عن أبيه عند الإسماعيلي فأخرج من طريق معاذ بن
هانئ حديث محمد بن طلحة فقال فيه عن
ج / 7 ص -273-
مصعب بن سعد عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فذكر المرفوع دون ما في
أوله وكذا أخرجه هو والنسائي من طريق مسعر عن
طلحة بن مصرف عن مصعب عن أبيه ولفظه: "أنه
ظن أن له فضلا على من دونه" الحديث. ورواه
عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه مرفوعًا
أيضًا لكنه اختصره ولفظه:
"ينصر المسلمون بدعاء المستضعفين"
أخرجه أبو نعيم في ترجمته في الحلية من رواية
عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاتي عن
عمرو بن مرة وقال غريب من حديث عمرو تفرد به
عبد السلام والمراد بقوله: "رأى سعد" أي
ظن كما هو رواية النسائي.
قوله: "على من
دونه" أي من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم كما هو مصرح به في رواية
النسائي أيضًا وسبب ذلك ما له من الشجاعة
والإقدام في ذلك الموطن.
قوله: "هل ترزقون
وتنصرون إلا بضعفائكم"
قال ابن بطال:
تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصًا في
الدعاء وأكثر خشوعًا في العبادة لخلاء قلوبهم
عن التعلق بزخرف الدنيا.
وقال المهلب:
أراد صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك حض سعد
على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار
المسلم في كل حالة.
وقد روى عبد الرزاق من
طريق مكحول في قصة سعد هذه زيادة مع إرسالها
فقال: "قال سعد يا رسول اللّه أرأيت رجلا
يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه
كنصيب غيره" فذكر الحديث وعلى هذا فالمراد
بالفضل إرادة الزيادة من الغنيمة فأعلمه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن سهام المقاتلة سواء
فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف
يترجح بفضل دعائه وإخلاصه.
قوله: "ابغوني
ضعفاءكم" أي اطلبوا لي ضعفاءكم قال في
القاموس: بغيته أبغيه بغاء وبغى وبغية بضمهن
وبغية بالكسر طلبته كابتغيته وتبغيته
واستبغيته والبغية ما ابتغي كالبغية قال
وإبغاء الشيء طلبه له كبغاه إياه كرماه أو
أعانه على طلبه انتهى.
باب جواز تنفيل
بعض الجيش لبأسه وغنائه أو تحمله مكروهًا
دونهم
1- عن سلمة بن الأكوع
وذكر قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
واستنقاذه منه قال: "فلما أصبحنا قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة قال ثم أعطاني رسول اللّه سهم الفارس وسهم الراجل فجعلها لي
جميعًا". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
2- وعن سعد بن أبي وقاص
قال: "جئت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم يوم بدر بسيف فقلت يا رسول اللّه إن
اللّه قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا
السيف فقال
إن هذا السيف ليس لي ولا لك فذهبت وأنا أقول يعطاه اليوم من لم يبل
بلائي فبينا أنا إذ جاءني رسول اللّه فقال
ج / 7 ص -274-
أجب فظننت أنه نزل في شيء بكلامي فجئت فقال
لي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنك سألتني
هذا السيف وليس هو لي ولا لك وأن اللّه قد
جعله لي فهو لك ثم قرأ {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ}
إلى آخر الآية". رواه أحمد وأبو داود.
حديث سعد بن أبي وقاص
عزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم
والترمذي والنسائي وأخرجه الحاكم في المستدرك
وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قوله: "عبد الرحمن
الفزاري" هو ابن عيينة بن حصن. وعن ابن
إسحاق أن رأس القوم الذين أغاروا على السرح هو
عيينة بن حصن.
قوله: "سرح" بفتح
السين المهملة وسكون الراء بعدها حاء مهملة.
قال في القاموس: السرح المال السائم وسوم
المال كالسروح وإسامتها كالتسريح انتهى.
ولفظ البخاري: "كانت لقاح رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم ترعى" واللقاح بكسر
اللام وتخفيف القاف ثم مهملة ذوات الدر من
الإبل واحدتها لقحة بالكسر وبالفتح أيضًا
واللقوح الحلوب وذكر ابن سعد أنها كانت عشرين
لقحة قال وكان فيهم ابن أبي ذر وامرأته فأغار
المشركون عليهم فقتلوا الرجل وأسروا المرأة
والقصة مبسوطة في صحيح البخاري ومسلم
وغيرهما.
قوله: "واستنقاذه"
أي السرح منه أي من عبد الرحمن المذكور.
قوله: "ثم أعطاني
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" الخ
فيه دليل على أنه يجوز للإمام أن ينفل بعض
الجيش ببعض الغنيمة إذا كان له العناية
والمقاتلة ما لم يكن لغيره.
وقال عمرو بن شعيب ذلك
مختص بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دون من
بعده وكره مالك أن يكون بشرط من أمير الجيش
كأن يحرض على القتال ويعد بأن ينفل الربع أو
الثلث قبل القسمة أو نحو ذلك لأن القتال حينئذ
يكون للدنيا فلا يجوز قال في الفتح: وفي هذا
رد على من حكى الإجماع على مشروعيته وقد اختلف
العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو
من خمس الخمس أو مما عدا الخمس على أقوال.
واختلفت الرواية عن
الشافعي في ذلك فروي عنه أنه من أصل الغنيمة
وروي عنه أنه من الخمس وروي عنه أنه من خمس
الخمس والأصح عند الشافعية أنه من خمس الخمس
ونقله منذر بن سعيد عن مالك وهو شاذ عندهم
وسيأتي في الباب الذي بعد هذا ما يرد هذا
القول.
وقال الأوزاعي وأحمد
وأبو ثور وغيرهم النفل من أصل الغنيمة وإلى
ذلك ذهبت الهادوية وقال مالك وطائفة لا نفل
إلا من الخمس.
قال الخطابي:
أكثر ما روي من الأخبار يدل على أن النفل من
أصل الغنيمة. قال ابن عبد البر: إن أراد
الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من
الخمس لا من رأس الغنيمة وإن انفردت قطعة
فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك
من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث
وسيأتي بيان الخلاف في المقدار الذي يجوز
تنفيله.
ج / 7 ص -275-
باب تنفيل سرية الجيش عليه واشتراكهما في
الغنائم
1- عن حبيب بن مسلمة:
"أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نفل الربع بعد
الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في
رجعته".
رواه أحمد وأبو داود.
2- وعن عبادة بن
الصامت:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان
ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.
3- وفي رواية:
"كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع وإذا
أقبل راجعًا وكل الناس نفل الثلث وكان يكره
الأنفال ويقول ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم". رواه أحمد.
حديث حبيب أخرجه أيضًا
ابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم
وقد رواه أبو داود عنه من طرق ثلاث منها عن
مكحول بن عبد اللّه الشامي قال: "كنت
عبدًا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما
خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى
ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا
حويته فيما أرى ثم أتيت العراق فما خرجت منها
وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ثم أتيت
الشام فغربلتها كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد
أحدًا يخبرني فيه بشيء حتى لقيت شيخًا يقال له
زياد بن جارية التميمي فقلت له هل سمعت عن
النفل شيئًا قال نعم سمعت حبيب بن مسلم الفهري
يقول شهدت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
"نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة"
قال المنذري: وأنكر بعضهم أن يكون لحبيب هذا صحبة
وأثبتها له غير واحد وقد قال في حديثه شهدت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وكنيته أبو
عبد الرحمن فكان يسمى حبيبًا الرومي لكثرة
مجاهدته الروم انتهى. وولاه عمر بن الخطاب
أعمال الجزيرة وأذربيجان وكان فاضلًا مجاب
الدعوة وهو بالحاء المهملة المفتوحة بموحدتين
بينهما مثناة تحتية.
وحديث عبادة بن الصامت
صححه أيضًا ابن حبان ـ وفي الباب ـ عن معن
بن يزيد قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس"
رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي.
قوله: "نفل الربع
بعد الخمس في بدأته" الخ. قال الخطابي:
البدأة ابتداء السفر للغزو وإذا نهضت سرية من
جملة العسكر فإذا أوقعت بطائفة من العدو فما
غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر
في ثلاثة أرباعه فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا
فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث
لأن نهوضهم بعد القفل أشق لكون العدو على حذر
وحزم انتهى. ورواية أحمد المذكورة في حديث
عبادة تدل على أن تنفيل الثلث لأجل ما لحق
الجيش من الكلال وعدم الرغبة في القتال لا
لكون العدو أخذ حذره منهم.
قوله: "بعد الخمس"
فيه دليل على أنه يجب تخميس الغنيمة قبل
التنفيل وكذلك حديث معن الذي ذكرناه ـ وفي
الحديثين ـ أيضًا دليل على أنه يصح أن يكون
النفل زيادة على مقدار الخمس وفيه رد على من
قال أنه لا يصح التنفيل إلا من الخمس أو خمس
الخمس وقد تقدم بيان القائل بذلك وسيأتي تفصيل
الخلاف في المقدار الذي يجوز التنفيل إليه.
4- وعن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان ينفل بعض من يبعث
ج / 7 ص -276-
من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش
والخمس في ذلك كله واجب".
5- وعن ابن عمر:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث
سرية قبل نجد فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني
عشر بعيرًا ونفلنا رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بعيرًا بعيرًا". متفق عليهما.
وفي رواية قال:
"بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
سرية قبل نجد فأصبنا نعمًا كثيرًا فنفلنا
أميرنا بعيرًا بعيرًا لكل إنسان ثم قدمنا على
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقسم
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيننا
غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرًا بعد
الخمس وما حاسبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه
ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرًا
بنفله" رواه أبو داود.
6- وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم
ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد
مشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم".
رواه أبو داود وقال أحمد في رواية أبي طالب
قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"السرية ترد على العسكر والعسكر يرد على السرية".
حديث عمرو بن شعيب أخرجه
أيضًا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر مطولا.
ورواه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار
مختصرًا. ورواه الحاكم عن أبي هريرة مختصرًا
أيضًا. ورواه أبو داود والنسائي والحاكم من
حديث علي وقد تقدم في أول كتاب الدماء.
قوله: "والخمس في
ذلك كله واجب" فيه دليل على أنه يجب تخميس
النفل ويدل على ذلك أيضًا حديث حبيب بن مسلمة
المتقدم فإن فيه أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
نفل الربع بعد الخمس ونفل الثلث بعد الخمس
وكذلك حديث معن الذي تقدم قريبًا بلفظ: "لا
نفل إلا بعد خمس".
قوله: "قبل نجد"
بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها.
قوله: "فبلغت
سهماننا" أي أنصباؤنا والمراد أنه بلغ نصيب
كل واحد هذا القدر وتوهم بعضهم أن ذلك جميع
الأنصباء. قال النووي وهو غلط.
قوله: "اثني عشر
بعيرًا ونفلنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم بعيرًا بعيرًا" هكذا وقع في رواية.
وفي رواية أخرى للبخاري اثني عشر بعيرًا أو
أحد عشر بعيرًا وقد وقع بيان هذا الشك في غيره
من الروايات المذكور بعضها في الباب. وفي
رواية لأبي داود: "فكان سهمان الجيش اثني
عشر بعيرًا اثني عشر بعيرًا ونفل أهل السرية
بعيرًا بعيرًا فكان سهامهم ثلاثة عشر
بعيرًا" وأخرج ابن عبد البر من هذا الوجه أن
ذلك الجيش أربعة آلاف.
قوله: "ونفلنا
ج / 7 ص -277-
رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" الخ فيه
دليل على أن الذي نفلهم هو النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم وقد وقع الخلاف بين الرواة في
القسم والتنفيل هل كانا جميعًا من أمير ذلك
الجيش أو من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أو أحدهما من أحدهما فهذه الرواية صريحة أن
الذي نفلهم هو النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم. ورواية أبي داود المذكورة بعدها مصرحة
بأن الذي نفلهم هو الأمير. ورواية ابن إسحاق
مصرحة أن التنفيل كان من الأمير والقسم من
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. وظاهر
رواية مسلم من طريق الليث عن نافع أن ذلك صدر
من أمير الجيش وأن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم كان مقررًا لذلك ومجيزًا له لأنه قال فيه
ولم يغيره النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم
ويمكن الجمع بأن المراد بالرواية التي صرح
فيها بأن المنفل هو النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أنه وقع منه التقرير قال النووي: معناه
أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فجازت نسبته إلى كل منهما.
وفي هذا التنفيل دليل على أنه يصح أن يكون
التنفيل أكثر من خمس الخمس.
قال ابن بطال: وحديث الباب
يرد على هذا القول معنى قول من قال أن التنفيل
يكون من خمس الخمس لأنهم نفلوا نصف السدس وهو
أكثر من خمس الخمس وقد زاده ابن المنير
إيضاحًا فقال: لو فرضنا أنهم كانوا مائة
لكان قد حصل لهم ألف ومائتا بعير ثم بين مقدار
الخمس وخمسه وأنه لا يمكن أن يكون لكل إنسان
منه بعير.
قال ابن التين: قد انفصل من قال من الشافعية
بأن التنفيل من خمس الخمس بأوجه. منها أن
الغنيمة لم تكن كلها أبعرة بل كان فيها أصناف
أخر فيكون التنفيل وقع من بعض الأصناف دون
بعض. ثانيها أن يكون نفلهم من سهمه من هذه
الغزاة وغيرها فضم هذا إلى هذا فلذلك زادت
العدة. ثالثها أن يكون نفل بعض الجيش دون
بعض قال وظاهر السياق يرد هذه الاحتمالات قال
وقد جاء أنهم كانوا عشرة وأنهم غنموا مائة
وخمسين بعيرًا فخرج منها الخمس وهو ثلاثون
وقسم عليهم البقية فحصل لكل واحد اثنا عشر ثم
نفلوا بعيرًا بعيرًا فعلى هذا يكون نفلوا ثلث
الخمس وقد قدمنا عن ابن عبد البر أنه قال:
إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه
فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة وإن انفردت
قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش
فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث
انتهى.
قال الحافظ في الفتح: وهذا
الشرط قال به الجمهور وقال الشافعي لا يتحدد
بل هو راجع إلى ما يراه الإمام من المصلحة
ويدل له قوله تعالى {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ففوض إليه أمرها انتهى.
وقد حكى صاحب البحر هذا الذي قال به الشافعي
عن أبي حنيفة والهادي والمؤيد باللّه. وحكي
عن الأوزاعي أنه لا يجاوز الثلث. وعن ابن
عمر يكون بنصف السدس.
قال الأوزاعي: ولا ينفل من
أول الغنيمة ولا ينفل ذهبًا ولا فضة وخالفه
الجمهور ولم يأت في الأحاديث الصحيحة ما يقضي
بالاقتصار على مقدار معين ولا على نوع معين
فالظاهر تفويض ذلك إلى رأي الإمام في جميع
الأجناس.
قوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" هذا قد
سبق شرحه في كتاب الدماء إلى قوله وهم يد على
سواهم وقد ذكره المصنف هنالك من حديث علي.
قوله: "يرد مشدهم على مضعفهم" أي يرد من
كان له فضل قوة على من كان ضعيفًا والمراد
بالمتسري الذي يخرج في السرية وقد تقدم الكلام
على هذا.
ج / 7 ص -278-
باب بيان الصفي الذي كان لرسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وسهمه مع غيبته
1- عن يزيد بن عبد اللّه
قال: "كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة
أديم فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول اللّه
إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله
إلا اللّه وأن محمد رسول اللّه وأقمتم الصلاة
وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وسهم الصفي
أنتم آمنون بأمان اللّه ورسوله فقلنا من كتب
لك هذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه أبو داود والنسائي.
2- وعن عامر الشعبي
قال:
"كان للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سهم
يدعى الصفي إن شاء عبدًا وإن شاء أمة وإن شاء
فرسًا يختاره قبل الخمس".
3- وعن ابن عون قال:
"سألت محمدًا عن سهم النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم والصفي قال كان يضرب له سهم مع
المسلمين وإن لم يشهد والصفي يؤخذ له رأس من
الخمس قبل كل شيء". رواهما أبو داود وهما مرسلان.
4- وعن عائشة قالت: "كانت
صفية من الصفي".
رواه أبو داود.
5- وعن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تنفل
سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه
الرؤيا يوم أحد".
رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب.
حديث يزيد بن عبد اللّه
سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح
قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد
اللّه وسمى الرجل النمر بن تولب الشاعر صاحب
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويقال
إنه ما مدح أحدًا ولا هجا أحدًا وكان جوادًا
لا يكاد يمسك شيئًا وأدرك الإسلام وهو كبير
انتهى. ويزيد ابن عبد اللّه المذكور وهو ابن
الشخير وحديث عامر الشعبي سكت عنه أيضًا أبو
داود ورجاله ثقات وهو مرسل وأخرجه أيضًا
النسائي. وحديث ابن عون سكت أيضًا عنه أبو
داود ورجاله ثقات وهو مرسل كما قال المصنف لأن
الشعبي وابن سيرين لم يدركا النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم وأخرجه أيضًا النسائي. وحديث
عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال
الصحيح وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححه أيضًا
ويشهد له ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن
أبي عمرو عن أنس بن مالك قال:
"قدمنا خيبر فلما فتح اللّه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي وقد قتل
زوجها وكانت عروسًا فاصطفاها رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم لنفسه فخرج بها حتى بلغا
سد الصبهاء حلت فبنى بها" ويعارضه ما أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث
ج / 7 ص -279-
عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أيضًا
قال صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. وما أخرجه
أيضًا مسلم وأبو داود من طريق ثابت البناني
عنه قال وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسبعة
أرؤس ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها قال
حماد يعني ابن زيد وأحسبه قال وتعتد في بيتها
وهي صفية بنت حيي. وما أخرجه البخاري ومسلم
والنسائي عن أنس أيضًا من طريق عبد العزيز بن
صهيب قال جمع السبي يعني بخيبر فجاء دحية فقال
يا رسول اللّه أعطني جارية من السبي فقال اذهب
فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال يا نبي
اللّه أعطيت دحية بنت حيي سيدة قريظة والنضير
ما تصلح إلا لك قال أدعو بها فلما نظر إليها
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له خذ جارية من السبي غيرها وإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعتقها
وتزوجها. وبهذه الرواية يجمع بين الروايات
المختلفة.
وأما ما وقع من أنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم اشتراها بسبعة أرؤس فلعل
المراد أنه عوضه عنها بذلك المقدار وإطلاق
الشراء على العوض على سبيل المجاز ولعله عوضه
عنها جارية أخرى من قرابتها فلم تطب نفسه
فأعطاه زيادة على ذلك سبعة أرؤس من جملة
السبي.
قال السهيلي:
لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها من دحية
قبل القسمة والذي عوضه عنها ليس على سبيل
البيع.
وقد أشار الحافظ في
الفتح إلى مثل ما ذكرنا من الجمع والحكمة في
استرجاعها من دحية أنه لما قيل له أنها بنت
ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب
لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه
وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها فلو
خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم فكان من
المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاص النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم بها فإن في ذلك رضا
الجميع وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء
وحديث ابن عباس المذكور في الباب قال الترمذي
بعد إخراجه وتحسينه إنما نعرفه من هذا الوجه
من حديث أبي الزناد وأخرجه ابن ماجه والحاكم
وصححه.
قوله: "ذا الفقار"
بفتح الفاء قال في القاموس: وذو الفقار
بالفتح سيف العاص بن منبه قتل يوم بدر كافرًا
فصار إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم
إلى علي انتهى.
قوله: "وهو الذي رأى
فيه الرؤيا" أي رأى أن فيه فلولًا فعبره
بقتل واحد من أهله فقتل حمزة بن عبد المطلب
والقضية مشهورة والأحاديث المذكورة تدل على أن
للإمام أن يختص من الغنيمة بشيء لا يشاركه فيه
غيره وهو الذي يقال له الصفي وقد قدمنا الخلاف
في ذلك في باب أن أربعة أخماس الغنيمة
للغانمين.
باب من يرضخ له
من الغنيمة
1- عن ابن عباس: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يغزو
بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة
وأما بسهم فلم يضرب لهن".
2- وعنه أيضًا: "أنه
كتب إلى نجدة الحروري سألت عن المرأة والعبد
هل كانا لهما سهم معلوم إذا حضر الناس وأنه لم
يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم
القوم". رواهما أحمد ومسلم.
ج / 7 ص -280-
3- وعن ابن عباس قال:
"كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يعطي
المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب
الجيش".
رواه أحمد.
4- وعن عمير مولى آبي
اللحم قال: "شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأمر بي
فقلدت سيفًا فإذا أنا أجره فأخبر أني مملوك
فأمر لي بشيء من خرثي المتاع". رواه أحمد
وأبو داود والترمذي وصححه.
5- وعن حشرج بن زياد عن
جدته أم أبيه: "أنها خرجت مع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم غزوة خيبر سادس ست نسوة
فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال
مع من خرجتن وبإذن من خرجتن
فقلنا يا رسول اللّه خرجنا نغزل الشعر ونعين
في سبيل اللّه ومعنا دواء للجرحى ونناول
السهام ونسقي السويق قال
قمن فانصرفن حتى إذا فتح اللّه عليه خيبر أسهم
لنا كما أسهم للرجال
قال فقلت لها يا جدة وما كان ذلك قالت
تمرًا". رواه أحمد وأبو داود.
6- وعن الزهري:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أسهم
لقوم من اليهود قاتلوا معه". رواه الترمذي وأبو داود في مراسيله.
7- وعن الأوزاعي قال:
"أسهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
للصبيان بخيبر". رواه الترمذي ويحمل الإسهام فيه وفيما قبله على الرضخ.
حديث ابن عباس الأول
والثاني أخرجهما أيضًا أبو داود والترمذي
وصححهما وحديث ابن عمير أخرجه أيضًا ابن ماجه
وصححه وزاد الترمذي بعد قوله "فأمر لي بشيء
من خرثي المتاع" ما لفظه: "وعرضت عليه
رقية كنت أرقي بهاالمجانين فأمرني بطرح بعضها
وحبس بعضها".
وحديث حشرج أخرجه أيضًا
النسائي وسكت عنه أبو داود وفي إسناده رجل
مجهول وهو حشرج قاله الحافظ في التلخيص.
وقال الخطابي: إسناده ضعيف لا تقوم به
حجة.
وحديث الزهري رواه
الترمذي عن قتيبة بن سعيد قال حدثنا عبد
الوارث بن سعيد عن عروة بن ثابت عن الزهري قال
الترمذي هذا حديث حسن غريب انتهى وهذا مرسل.
وحديث الأوزاعي رواه
الترمذي عن علي بن خشرم قال أخبرنا عيسى بن
يونس عن الأوزاعي ولفظه: "أسهم
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للصبيان بخيبر
وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض
الحرب وأسهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
للنساء بخيبر وأخذ بذلك المسلمون بعده"
انتهى وهذا أيضًا مرسل.
قوله: "إلى نجدة
الحروري" بفتح النون وسكون الجيم وبعدها دال
مهملة وهو ابن عامر الحنفي الخارجي
ج / 7 ص -281-
وأصحابه يقال لهم النجدات محركة. والحروري
نسبة إلى حروراء وهي قرية بالكوفة.
قوله: "يحذين"
بالحاء المهملة والذال المعجمة أي يعطين قال
في القاموس الحذوة بالكسر العطية انتهى.
قوله: "آبي اللحم"
هو اسم فاعل من أبى يأبى فهو آبي قال أبو داود
قال أبو عبيدة كان حرم اللحم نفسه فسمي آبي
اللحم.
قوله: "من خرثى
المتاع" بالخاء المعجمة المضمومة وسكون
الراء المهملة بعدها مثلثة وهو سقطه.
قال في النهاية: هو
أثاث البيت وقال في القاموس الخرثي بالضم أثاث
البيت أو أردأ المتاع والغنائم.
قوله: "وعن حشرج"
بفتح الحاء المهملة وسكون الشين المعجمة
وبعدها راء مهملة مفتوحة وجيم.
قوله: "عن جدته"
هي أم زياد الأشجعية وليس لها سوى هذا
الحديث.
قوله: "ونسقي
السويق" هو شيء يعمل من الحنطة والشعير.
ـ وقد اختلف ـ أهل العلم
هل يسهم للنساء إذا حضرت فقال الترمذي أنه لا
يسهم لهن عند أكثر أهل العلم قال وهو قول
سليمان الثوري والشافعي قال وقال بعضهم يسهم
للمرأة والصبي وهو قول الأوزاعي.
وقال الخطابي:
إن الأوزاعي قال يسهم لهن قال وأحسبه ذهب إلى
هذا الحديث يعني حديث حشرج بن زياد وإسناده
ضعيف لا يقوم به حجة اهـ وقد حكي في البحر عن
العترة والشافعية والحنفية أنه لا يسهم للنساء
والصبيان والذميين وعن مالك أنه قال لا أعلم
العيد يعطى شيئًا. وعن الحسن بن صالح أنه
يسهم للعبد كالحر. وعن الزهري أنه يسهم
للذمي لا للعبد والنساء والصبيان فيرضخ لهم
وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث عمير مولى آبي
اللحم المذكور في الباب والعمل على هذا عند
بعض أهل العلم أنه لا يسهم للمملوك ولكن يرضخ
له بشيء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد
وإسحاق.
وقال أيضًا: إن العمل
عند بعض أهل العلم على أنه لا يسهم لأهل الذمة
وإن قاتلوا مع المسلمين العدو ورأى بعض أهل
العلم أنه يسهم لهم إذا شهدوا القتال مع
المسلمين انتهى. والظاهر أنه لا يسهم للنساء
والصبيان والعبيد والذميين وما ورد من
الأحاديث مما فيه إشعار بأن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أسهم لأحد من هؤلاء فينبغي
حمله على الرضخ وهو العطية القليلة جمعًا بين
الأحاديث وقد صرح حديث ابن عباس المذكور في
أول الباب بما يرشد إلى هذا الجمع فإنه نفى أن
يكون للنساء والعبيد سهم معلوم وأثبت الحذية
وهكذا حديثه الآخر فإنه صرح بأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم كان يعطي المرأة
والمملوك دون ما يصيب الجيش. وهكذا حديث
عمير المذكور فإن فيه أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم رضخ له بشيء من الأثاث ولم يسهم له
فيحمل ما وقع في حديث حشرج من أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أسهم للنساء بخيبر على
مجرد العطية من الغنيمة وهكذا يحمل ما وقع في
مرسل الزهري المذكور من الإسهام لقوم من
اليهود وما وقع في مرسل الأوزاعي المذكور
أيضًا من الإسهام للصبيان كما لمح إلى ذلك
المصنف رحمه اللّه تعالى.
باب الإسهام
للفارس والراجل
1- عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أسهم للرجل
ولفرسه ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه".
رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ:
"أسهم
ج / 7 ص -282-
للفرس سهمين وللرجل سهمًا" متفق عليه.
وفي لفظ: "أسهم
يوم حنين للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان
وللرجل سهم" رواه ابن ماجه.
وعن المنذر بن الزبير عن
أبيه:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعطى الزبير سهمًا وأمه سهمًا
وفرسه سهمين"
رواه أحمد. وفي لفظ:
"قال ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم
خيبر للزبير أربعة أسهم سهم للزبير وسهم لذي
القربى لصفية أم الزبير وسهمين للفرس"
رواه النسائي.
3- وعن أبي عمرة عن أبيه
قال:
"أتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعة نفر ومعنا فرس
فأعطى كل إنسان منا سهمًا وأعطى الفرس
سهمين". رواه أحمد وأبو داود. واسم هذا الصحابي عمرو بن محصن.
4- وعن أبي رهم قال:
"غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم أنا وأخي ومعنا فرسان فأعطانا ستة أسهم
أربعة أسهم لفرسينا وسهمين لنا".
5 - وعن أبي كبشة
الأنماري قال: "لما فتح رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم مكة كان الزبير على
المجنبة اليسرى وكان المقداد على المجنبة
اليمنى فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم مكة وهدأ الناس جاءا بفرسيهما فقام
رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يمسح
الغبار عنهما وقال
إني جعلت للفرس سهمين وللفارس سهمًا فمن نقصهما نقصه اللّه". رواهما الدارقطني.
6- وعن ابن عباس:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين".
7- وعن خالد الحذاء
قال: "لا يختلف فيه عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال
للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم".
رواهما الدارقطني.
8- وعن مجمع بن جارية
الأنصاري قال: "قسمت خيبر على أهل
الحديبية فقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم على ثمانية عشر سهمًا وكان الجيش
ألفًا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى
الفارس سهمين والراجل سهمًا". رواه أحمد
وأبو داود وذكر أن حديث ابن عمر أصح قال وأتى
الوهم في حديث مجمع أنه قال ثلاثمائة فارس
وإنما كانوا مائتي فارس.
حديث ابن عمر له ألفاظ
في الصحيحين وغيرهما غير ما ذكره المصنف وهو
في الصحيحين من
ج / 7 ص -283-
من حديثه. وحديث أنس وحديث عروة بن الجعد
البارقي وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي
والنسائي. وعن عتبة بن عبد عند أبي داود.
وعن جرير عند مسلم وأبي داود. وعن جابر
وأسماء بنت يزيد عند أحمد. وعن حذيفة عند
أحمد والبزار وله طرق أخرى جمعها الدمياطي في
كتاب الخيل.
قال الحافظ:
وقد لخصته وزدت عليه في جزء لطيف. وحديث
المنذر بن الزبير قال في مجمع الزوائد: رجال
أحمد ثقات وقد أخرج نحوه النسائي من طريق يحيى
بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن جده وروى
الشافعي من حديث مكحول أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أعطى الزبير خمسة أسهم لما حضر
خيبر بفرسين وهو مرسل وقد روى الشافعي أيضًا
عن ابن الزبير أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم لم يعط الزبير إلا لفرس واحد وقد حضر يوم
خيبر بفرسين وولد الرجل أعرف بحديثه ولكنه روى
الواقدي عن عبد الملك بن يحيى عن عيسى بن معمر
قال كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خمسة أسهم
وهذا المرسل يوافق مرسل مكحول لكن الشافعي كان
يكذب الواقدي.
وحديث أبي عمرة في
إسناده المسعودي وهو عبد الرحمن بن عبد اللّه
بن عتبة بن عبد اللّه بن مسعود وفيه مقال وقد
استشهد به البخاري. ورواه أبو داود أيضًا من
طريق أخرى عن رجل من آل أبي عمرة عن أبي عمرة
وزاد فكان للفارس ثلاثة أسهم.
وحديث أبي رهم أخرجه
أيضًا أبو يعلى والطبراني وفي إسناده إسحاق بن
أبي فروة وهو متروك.
وحديث أبي كبشة أخرجه
أيضًا الطبراني وفي إسناده عبد اللّه بن يسر
الحبراني وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور وبقية
أحاديث الباب القاضية بأنه يسهم للفرس وصاحبه
ثلاثة أسهم تشهد لها الأحاديث الصحيحة التي
ذكرها المصنف وذكرناها.
وأما حديث مجمع بن جارية
فقال أبو داود حديث أبي معاوية أصح والعمل
عليه ونعني به حديث ابن عمر المذكور في أول
الباب قال وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال
ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس وقال
الحافظ في الفتح: إن في إسناده ضعفًا ولكنه
يشهد له ما أخرجه الدارقطني من طريق أحمد بن
منصور الرمادي عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي
أسامة وابن نمير كلاهما عن عبيد اللّه ابن عمر
بلفظ أسهم للفارس سهمين قال الدارقطني عن شيخه
أبي بكر النيسابوري وهم فيه الرمادي أو شيخه
وعلى فرض صحته فيمكن تأويله بأن المراد أسهم
للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه المختص به
كما أشار إلى ذلك الحافظ. قال وقد رواه ابن
أبي شيبة في مصنفه ومسنده بهذا الإسناد فقال
للفرس وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب
الجهاد له عن ابن أبي شيبة قال فكأن الرمادي
رواه بالمعنى. وقد أخرجه أحمد عن أبي أسامة
وابن نمير معًا بلفظ أسهم للفرس قال وعلى هذا
التأويل يحمل ما رواه نعيم بن حماد عن ابن
المبارك عن عبيد اللّه مثل رواية الرمادي
أخرجه الدارقطني وقد رواه علي بن الحسن بن
شقيق وهو أثبت من نعيم عن ابن المبارك بلفظ
أسهم للفرس وقيل إن إطلاق الفرس على الفارس
مجاز مشهور ومنه قولهم يا خيل اللّه اركبي كما
ورد في الحديث ولا بد من المصير إلى تأويل
حديث مجمع وما ورد في معناه
ج / 7 ص -284-
لمعارضته للأحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة
من الصحابة في الصحيحين وغيرهما كما تقدم وقد
تمسك أبو حنيفة وأكثر العترة بحديث مجمع
المذكور وما ورد في معناه فجعلوا للفارس وفرسه
سهمين وقد حكى ذلك عن علي وعمر وأبي موسى.
وذهب الجمهور إلى أنه يعطي الفرس سهمين
والفارس سهمًا والراجل سهمًا.
قال الحافظ في الفتح:
والثابت عن عمر وعلي كالجمهور وحكى في البحر
عن علي وعمر والحسن البصري وابن سيرين وعمر بن
عبد العزيز وزيد بن علي والباقر والناصر
والإمام يحيى ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي
يوسف ومحمد وأهل المدينة وأهل الشام أنه يعطى
الفارس وفرسه ثلاثة سهام واحتج لهم ببعض
أحاديث الباب ثم أجاب عن ذلك فقال قلت يحتمل
أن الثالث في بعض الحالات تنفيل جمعًا بين
الأخبار انتهى. ولا يخفى ما في هذا الاحتمال
من التعسف وقد أمكن الجمع بين أحاديث الباب
بما أسلفنا وهو جمع نير دلت عليه الأدلة التي
قدمناها وقد تقرر في الأصول أن التأويل في
جانب المرجوح من الأدلة لا الراجح والأدلة
القاضية بأن للفارس وفرسه سهمين مرجوحة لا يشك
في ذلك من له أدنى إلمام بعلم السنة وقد نقل
عن أبي حنيفة أنه احتج لما ذهب إليه بأنه يكره
أن تفضل البهيمة على المسلم وهذه حجة ضعيفة
وشبهة ساقطة ونصبها في مقابلة السنة الصحيحة
المشهورة مما لا يليق بعالم وأيضًا السهام في
الحقيقة كلها للرجل لا للبهيمة وأيضًا قد فضلت
الحنفية الدابة على الإنسان في بعض الأحكام
فقالوا لو قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة
آلاف أداها فإن قتل عبدًا مسلمًا لم يؤد فيه
إلا دون عشرة آلاف درهم وقد استدل للجمهور في
مقابلة هذه الشبهة بأن الفرس تحتاج إلى مؤنة
لخدمتها وعلفها وبأنه يحصل بها من الغناء في
الحرب ما لا يخفى وقد اختلف فيمن حضر الوقعة
بفرسين فصاعدًا هل يسهم لكل فرس أم لفرس واحدة
فروي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لكل فرس
سهمان بالغًا ما بلغت.
قال القرطبي في المفهم:
ولم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين إلا ما
روي عن سليمان بن موسى وحكي في البحر عن
الشافعية والحنفية والهادوية أن من حضر بفرسين
أو أكثر أسهم لواحد فقط وعن زيد بن علي
والصادق والأوزاعي وأحمد بن حنبل وحكاه في
الفتح عن الليث وأبي يوسف وأحمد وإسحاق أنه
يسهم لفرسين لا أكثر
قال الحافظ في التلخيص:
فيه أحاديث منقطعة أحدها عن الأوزاعي أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يسهم
للخيل ولا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه
عشرة أفراس رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن
عياش وهو معضل ورواه سعيد بن طريق الزهري أن
عمر كتب إلى أبي عبيدة أنه يسهم للفرس سهمين
وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبه سهمًا فذلك خمسة
أسهم وما كان فوق الفرسين فهو جنائب.
وروى الحسن عن بعض
الصحابة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم لا يقسم إلا لفرسين.
وأخرج الدارقطني بإسناد
ضعيف عن أبي عمرة قال: أسهم لي رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لفرسي أربعة ولي
سهمًا فأخذت خمسة. وقد قدمنا اختلاف الرواية
في حضور الزبير يوم خيبر بفرسين هل أعطاه
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فرس واحدة أو
سهم فرسين والأسهام للدواب
ج / 7 ص -285-
خاص بالأفراس دون غيرها من الحيوانات قال في
البحر: مسألة ولا يسهم لغير الخيل من
البهائم إجماعًا إذ لا إرهاب في غيرها ويسهم
للبرذون والمقرف والهجين عند الأكثر وقال
الأوزاعي لا يسهم للبرذون.
باب الإسهام لمن
غيبه الأمير في مصلحة
1- عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قام يعني يوم
يدر فقال:
إن عثمان انطلق في حاجة اللّه وحاجة رسوله
وأنا أبايع له فضرب له رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب
غيره".
رواه أبو داود.
2- وعن ابن عمر قال:
"لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته بنت
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكانت
مريضة فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إن لك أجر رجل وسهمه". رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه.
حديث ابن عمر الأول سكت
عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده موثقون.
قوله: "وأنا أبايع
له" في رواية للبخاري: "فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيده اليمنى" أي أشار بها وقال: "هذه
يد عثمان" أي بدلها "فضرب بها على يده اليسرى فقال هذه - أي البيعة - لعثمان" أي عن عثمان.
قوله: "وكانت
مريضة" أخرج الحاكم في المستدرك من طريق
حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال:
"خلف النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عثمان
وأسامة بن زيد على رقية في مرضها لما خرج إلى
بدر فماتت رقية حين وصل زيد بن حارثة بالبشارة
وكان عمر رقية لما ماتت عشرين سنة.
قال ابن إسحاق:
ويقال إن ابنها عبد اللّه بن عثمان مات بعدها
سنة أربع من الهجرة وله ست سنين.
وقد استدل بقصة عثمان
المذكورة على أنه يسهم الإمام لمن كان غائبًا
في حاجة له بعثه لقضائها وأما من كان غائبًا
عن القتال لا لحاجة الإمام وجاء بعد الواقعة
فذهب أكثر العترة والشافعي ومالك والأوزاعي
والثوري والليث إلى أنه لا يسهم له وذهب أبو
حنيفة وأصحابه إلى أنه يسهم لمن حضر قبل
إحرازها إلى دار الإسلام وسيأتي في باب ما جاء
في المدد يلحق بعد تقضي الحرب ما استدل به أهل
القول الأول وأهل القول الثاني.
باب ما يذكر في
الإسهام لتجار العسكر وأجرائهم
1- عن خارجة بن زيد قال: "رأيت رجلا سأل أبي
عن الرجل يغزو ويشتري ويبيع ويتجر في غزوه
فقال له إنا كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بتبوك نشتري ونبيع وهو يرانا ولا
ينهانا". رواه ابن ماجه.
2- وعن يعلى بن منية
قال: "أذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم
فالتمست أجيرًا يكفيني وأجري له سهمه
ج / 7 ص -286-
فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل أتاني فقال ما
أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي فسم لي شيئًا
كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير
فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت
الدنانير فجئت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فذكرت أمره فقال
ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا
دنانيره التي سمى".
رواه أبو داود.
وقد صح أن سلمة ابن
الأكوع كان أجيرًا لطلحة حين أدركه عبد الرحمن
بن عيينة لما أغار على سرح رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فأعطاه النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم سهم الفارس والراجل وهذا
المعنى لأحمد ومسلم في حديث طويل. ويحمل هذا
على أجير يقصد مع الخدمة الجهاد والذي قبله
على من لا يقصده أصلا جمعًا بينهما.
الحديث الأول في إسناده
عند ابن ماجه سنيد بن داود المصيصي وهو ضعيف
ويشهد له ما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو
والمنذري عن عبيد اللّه بن سليمان أن رجلا من
أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حدثه
قال لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع
والسبي فجعل الناس يتبايعون غنائمهم فجاء رجل
فقال يا رسول اللّه لقد ربحت ربحًا ما ربح
اليوم مثله أحد من أهل هذا الوادي فقال ويحك
وما ربحت قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت
ثلاثمائة أوقية فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
"أنا أنبئك بخير رجل ربح قال ما هو يا رسول اللّه قال
ركعتين بعد الصلاة فهذا الحديث وحديث خارجة المذكور فيهما دليل على
جواز التجارة في الغزو وعلى أن الغازي مع ذلك
يستحق نصيبه من المغنم وله الثواب الكامل بلا
نقص ولو كانت التجارة في الغزو موجبة لنقصان
أجر الغازي لبينه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فلما لم يبين ذلك بل قرره دل على عدم النقصان
ويؤيد ذلك جواز الاتجار في سفر الحج لما ثبت
في الحديث الصحيح أنه لما تحرج جماعة من
التجارة في سفر الحج أنزل اللّه تعالى
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ
رَبِّكُمْ}.
والحديث الثاني سكت عنه
أيضًا أبو داود والمنذري وأخرجه الحاكم وصححه
وأخرجه البخاري بنحوه وبوب عليه باب الأجير
وقد اختلف العلماء في الإسهام للأجير إذا
استؤجر للخدمة فقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق لا
يسهم له وقال الأكثر يسهم له واحتجوا بحديث
سلمة الذي أشار إليه المصنف وفيه أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أسهم له وأما إذا استؤجر
الأجير ليقاتل فقالت الحنفية والمالكية لا سهم
له وقال الأكثر له سهمه وقال أحمد لو استأجر
الإمام قومًا على الغزو لم يسهم لهم سوى
الأجرة وقال الشافعي هذا فيمن لم يجب عليه
الجهاد أما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف
فإنه يتعين عليه الجهاد فيسهم له ولا يستحق
أجرة وقال الثوري: لا يسهم للأجير إلا إن
قاتل وقال الحسن وابن سيرين: يقسم للأجير من
المغنم هكذا رواه البخاري عنهما تعليقًا ووصله
عبد الرزاق عنهما
ج / 7 ص -287-
بلفظ يسهم للأجير ووصله ابن أبي شيبة عنهما
بلفظ العبد والأجير إذا شهدا القتال أعطوا من
الغنيمة والأولى المصير إلى الجمع الذي ذكره
المصنف رحمه اللّه فمن كان من الأجراء قاصدًا
للقتال استحق الإسهام من الغنيمة ومن لم يقصد
فلا يستحق إلا الأجرة المسماة.
قوله: "يعلى بن
منية" هو يعلى بن أمية المشهور ومنية أمه
وقد ينسب تارة إليها كما وقع في هذا الحديث.
وقصة سلمة بن الأكوع من مقاتلته للقوم الذين
أغاروا على سرح رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم واستنقاذه للسرح وقتل بعض القوم
وأخذ بعض أموالهم قد تقدمت الإشارة إليها
قريبًا وهي قصة مبسوطة في كتب الحديث والسير
فلا حاجة إلى إيرادها هنا بكمالها.
باب ما جاء في
المدد يلحق بعد تقضي الحرب
1- عن أبي موسى قال:
"بلغنا مخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا
وإخوان لي أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم إما
قال في بضعة وإما قال في ثلاثة وخمسين أو
اثنين وخمسين رجلا من قومي قال فركبنا سفينة
فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا
جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر إن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعثنا
ههنا وأمرنا بالإقامة قال فأقمنا معه حتى
قدمنا جميعًا فوافقنا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو
قال أعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر
منها شيئًا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب
سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم".
متفق عليه.
2- وعن أبي هريرة:
"أنه حدث سعيد بن العاص أن رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم بعث أبان بن سعيد بن
العاص على سرية من المدينة قبل نجد فقدم أبان
بن سعيد وأصحابه على رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بخيبر بعد أن فتحها وإن حزم
خيلهم ليف فقال أبان اقسم لنا يا رسول اللّه
قال أبو هريرة فقلت لا تقسم لهم يا رسول اللّه
قال أبان أنت بها يا وبر تحدر علينا من رأس
ضال فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
اجلس يا أبان ولم يقسم لهم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم". رواه أبو داود وأخرجه البخاري تعليقًا.
قوله: "بلغنا مخرج
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" ظاهره
أنه لم يبلغهم شأن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم إلا بعد الهجرة بمدة طويلة وهذا إذا أراد
بالمخرج البعثة وإن أراد الهجرة فيحتمل أن
يكون بلغتهم الدعوة فأسلموا وأقاموا ببلادهم
إلى أن عرفوا بالهجرة فعزموا عليها وإنما
تأخروا هذه المدة
ج / 7 ص -288-
لعدم بلوغ الخبر إليهم بذلك وإما لعلمهم بما
كان المسلمون فيه من المحاربة مع الكفار فلما
بلغتهم المهادنة أمنوا وطلبوا الوصول إليه.
وقد روى ابن منده من وجه
آخر عن أبي بردة عن أبيه: "خرجنا إلى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى جئنا إلى
مكة أنا وأخوك وأبو عامر بن قيس وأبو رهم
ومحمد بن قيس وأبو بردة وخمسون من الأشعريين
وستة من عك ثم خرجنا في البحر حتى أتينا
المدينة" وصححه ابن حبان من هذا الوجه ويجمع
بينه وبين ما في الصحيح أنهم مروا بمكة في حال
مجيئهم إلى المدينة ويجوز أن يكونوا دخلوا مكة
لأن ذلك كان حال الهدنة.
قوله: "أنا وإخوان
لي" زاد البخاري: "أنا أصغرهم" واسم
أبي بردة عامر وأبو رهم بضم الراء وسكون الهاء
اسمه مجدي بفتح الميم وسكون الجيم وكسر
المهملة وتشديد التحتانية قال ابن عبد البر:
وجزم ابن حبان في الصحابة بأن اسمه محمد.
وذكر ابن قانع أن جماعة
من الأشعريين أخبروه وحققوا وكتبوا خطوطهم أن
اسم أبي رهم مجيلة بكسر الجيم بعدها تحتانية
خفيفة ثم لام ثم هاء.
قوله: "أما قال في
بضعة" الخ قد بين في الرواية المتقدمة أنهم
كانوا خمسين من الأشعريين وهم قومه فلعل
الزائد على ذلك هو أبو موسى وأخوته فمن قال
اثنين أراد من ذكرهما في حديث الباب وهما أبو
بردة وأبو رهم ومن قال ثلاثة أو أكثر فعلى
الخلاف في عدد من كان معه من أخوته.
وأخرج البلاذري بسند له
عن ابن عباس أنهم كانوا أربعين والجمع بينه
وبين ما قبله بالحمل على الأصول والإتباع وقال
ابن إسحاق كانوا ستة عشر رجلا وقيل أقل.
قوله: "فوافقنا جعفر
بن أبي طالب" أي بأرض الحبشة. وقد سمى ابن
إسحاق من قدم مع جعفر فسرد أسماءهم وهم ستة
عشر رجلًا.
قوله: "وما قسم لأحد
غاب عن فتح خيبر" الخ فيه دليل على أنه يجوز
للإمام أن يجتهد في الغنيمة ويعطي بعض من حضر
من المدد دون بعض فإنه صلى اللّه عليه وآله
وسلم أعطى من قدم مع جعفر ولم يعط غيرهم.
وقد استدل به أبو حنيفة
على قوله المتقدم أنه يسهم للمدد وقال ابن
التين: يحتمل أن يكون أعطاهم برضا بقية
الجيش وبهذا جزم موسى بن عقبة في مغازيه
ويحتمل أن يكون إنما أعطاهم من الخمس. وبهذا
جزم أبو عبيد في كتاب الأموال ويحتمل أن يكون
أعطاهم من جميع الغنيمة لكونهم وصلوا قبل
القسمة وبعد حوزها وهو أحد الأقوال للشافعي.
وقد احتج أبو حنيفة
بإسهامه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعثمان يوم
بدر كما تقدم في باب الإسهام لمن غيبه الأمير
في مصلحة. وأجيب عن ذلك بأجوبة منها أن ذلك
خاص به وبمن كان مثله ومنها أن ذلك كان حيث
كانت الغنيمة كلها للنبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم عند نزول قوله تعالى
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} ومنها أنه أعطاه من الخمس على فرض أن يكون ذلك بعد فرض الخمس
ومنها التفرقة بين من كان في حاجة تتعلق
بمنفعة الجيش أو بإذن الإمام فيسهم له بخلاف
غيره وهذا مشهور مذهب مالك وقال ابن بطال:
لم يقسم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في
غير من شهد الواقعة إلا في خيبر فهي مستثناة
من ذلك فلا تجعل أصلًا يقاس عليه فإنه قسم
لأصحاب السفينة لشدة حاجتهم وكذلك أعطى
الأنصار عوض ما كانوا أعطوا المهاجرين عند
قدومهم عليهم. وقال
ج / 7 ص -289-
الطحاوي: يحتمل أن يكون استطاب أنفس أهل
الغنيمة بما أعطى الأشعريين وغيرهم ومما يؤيد
أنه لا نصيب لمن جاء بعد الفراغ من القتال ما
رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح وابن أبي شيبة أن
عمر قال الغنيمة لمن شهد الواقعة.
وأخرجه الطبراني
والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا وقال الصحيح
موقوف.
وأخرجه ابن عدي من طريق
أخرى عن على موقوفًا. ورواه الشافعي من قول
أبي بكر وفيه انقطاع.
قوله: "وإن حزم"
بمهملة وزاي مضمومتين.
وقوله: "ليف" بكسر
اللام وسكون التحتية بعدها فاء وهو معروف.
قوله: "يا وبر"
بفتح الواو وسكون الموحدة دابة صغيرة كالسنور
وحشية. ونقل أبو علي عن أبي حاتم أن بعض
العرب يسمي كل دابة من حشرات الجبال وبرًا.
قال الخطابي:
أراد أبان تحقير أبي هريرة وأنه ليس في قدر من
يشير بعطاء ولا بمنع وأنه قليل القدرة على
القتال ومعنى قوله وأنت بها أي وأنت بهذا
المكان والمنزلة من رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم مع كونك لست من أهله ولا من قومه
ولا من بلاده. ولفظ البخاري وأنت بهذا.
قوله: "تحدر"
بالحاء المهملة وتشديد الدال المهملة أيضًا.
وفي رواية للبخاري تدلى وهو بمعناه. وفي
رواية له أيضًا تدأدأ بمهملتين بينهما همزة
ساكنة قيل أصله تدهدء فأبدلت الهاء همزة وقيل
الدأدأة صوت الحجارة في المسيل.
قوله: "من رأس
ضال" فسر البخاري الضال بالسدر كما في رواية
المستملي وكذا قال أهل اللغة أنه السدر
البري. وفي رواية للبخاري من رأس ضأن بالنون
قيل هو رأس الجبل لأنه في الغالب موضع مرعى
الغنم وقيل هو جبل دوس وهم قوم أبي هريرة.
باب ما جاء في
إعطاء المؤلفة قلوبهم
1- عن أنس قال: "لما
فتحت مكة قسم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
تلك الغنائم في قريش فقالت الأنصار إن هذا لهو
العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا
ترد عليهم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فجمعهم فقال
ما الذي بلغني عنكم قالوا هو الذي بلغك وكانوا
لا يكذبون فقال أما ترضون أن ترجع الناس
بالدنيا إلى بيوتهم وترجعون برسول اللّه إلى
بيوتكم
فقالوا بلى فقال لو سلك الناس واديًا أو شعبًا
وسلكت الأنصار واديًا وشعبًا لسلكت وادي
الأنصار وشعب الأنصار".
وفي رواية قال: "قال
ناس من الأنصار حين أفاء اللّه على رسوله ما
أفاء من أموال هوازن فطفق يعطي رجالا المائة
من الإبل فقالوا يغفر اللّه لرسول اللّه يعطي
قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فحدث
بمقالتهم
ج / 7 ص -290-
فجمعهم وقال
إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أما ترضون أن يذهب الناس
بالأموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم فواللّه
لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا يا
رسول اللّه لقد رضينا".
2- وعن ابن مسعود قال:
"لما آثر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أناسًا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة
من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسًا من
أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة قال رجل
واللّه إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد
فيها وجه اللّه فقلت واللّه لأخبرن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم فأتيته فأخبرته فقال
فمن يعدل إذا لم يعدل اللّه ورسوله ثم قال رحم
اللّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
متفق عليهن.
3- وعن عمرو بن تغلب:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أتي بمال أو سبي فقسمه فأعطى قومًا ومنع آخرين
فكأنهم عتبوا عليه فقال إني أعطي قومًا أخاف ضلعهم وجزعهم وأكل أقوامًا إلى ما جعل اللّه في
قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب
فقال عمرو بن تغلب ما أحب أن لي بكلمة رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حمر
النعم". رواه أحمد والبخاري والظاهر أن
إعطائهم كان من سهم المصالح من الخمس ويحتمل
أن يكون نفلا من أربعة أخماس الغنيمة عند من
يجيز التنفيل منها.
قوله: "واديًا أو
شعبًا" الوادي هو المكان المنخفض وقيل الذي
فيه ماء والمراد هنا بلدهم والشعب بكسر الشين
المعجمة اسم لما انفرج بين جبلين.
وقيل الطريق في الجبل
وأراد صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذا وما بعده
التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة
والقناعة باللّه ورسوله عن الدنيا ومن هذا
وصفه فحقه أن يسلك طريقه ويتبع حاله.
قال الخطابي:
لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله
وارتحاله مع قومه وأرض الحجاز كثيرة الأودية
والشعاب فإذا تفرقت في السفر سلك كل قوم منهم
واديًا وشعبًا فأراد أنه مع الأنصار.
قال: ويحتمل أن يريد
بالوادي المذهب كما يقال فلان في واد وأنا في
واد انتهى.
وقد أثنى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم على الأنصار في هذه
الواقعة ومدحهم فمن جملة ما قاله لهم لولا
الهجرة لكنت امرًا من الأنصار وقال الأنصار
شعار والناس دثار كما في صحيح البخاري
وغيره.
قوله: "حين أفاء
اللّه على رسوله ما أفاء من أموال هوازن" أي
أعطاه غنائم الذين قاتلهم منهم يوم حنين.
وأصل الفيء الرد والرجوع ومنه سمى الظل بعد
الزوال فيئًا لأنه رجع من جانب إلى جانب فكأن
أموال الكفار سميت فيئًا لأنها كانت في الأصل
للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل
ج / 7 ص -291-
والكفر طارئ فإذا غلب الكفار على شيء من
المال فهو بطريق التعدي فإذا غنمه المسلمون
منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم.
قوله: "فطفق يعطي
رجالا" هم المؤلفة قلوبهم والمراد بهم ناس
من قريش أسلموا يوم الفتح إسلامًا ضعيفًا وقيل
كان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان بن أمية وقد
اختلف في المراد بالمؤلفة الذين هم أحد
المستحقين للزكاة فقيل كفار يعطون ترغيبًا في
الإسلام وقيل مسلمون لهم أتباع كفار يتألفونهم
وقيل مسلمون أول ما دخلوا في الإسلام ليتمكن
الإسلام من قلوبهم والمراد بالرجال الذين
أعطاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
ههنا هم جماعة قد سرد أبو الفضل بن طاهر في
المبهمات له أسماؤهم فقال هم أبو سفيان بن حرب
وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم بن
حزام وأبو السنابل بن بعكك وصفوان ابن أمية
وعبد الرحمن بن يربوع وهؤلاء من قريش.
وعيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس
التميمي وعمرو بن الأهتم التميمي وعباس بن
مرادس السلمي ومالك بن عوف النضري والعلاء بن
حارثة الثقفي.
قال الحافظ في الفتح:
وفي ذكر الأخيرين نظر وقيل إنما جاءا طائعين
من الطائف إلى الجعرانة وذكر الواقدي في
المؤلفة معاوية ويزيد بن أبي سفيان وأسيد بن
حارثة ومخرمة بن نوفل وسعيد بن يربوع وقيس بن
عدي وعمرو بن وهب وهشام بن عمرو زاد ابن إسحاق
النضر بن الحارث بن هشام وجبير بن مطعم وممن
ذكره أبو عمر سفيان بن عبد الأسد والسائب بن
أبي السائب ومطيع بن الأسود وأبو جهم بن حذيفة
وذكر ابن الجوزي فيهم زيد الخيل وعلقمة بن
علاثة وحكيم بن طليق بن سفيان بن أمية وخالد
بن قيس السهمي وعمير بن مرادس وذكر غيرهم فيهم
قيس بن مخرمة وأحيحة بن أمية بن خلف وأبي بن
شريق وحرملة بن هوذة وخالد بن هوذة وعكرمة بن
عامر العبدري وشيبة بن عثمان وعمرو بن ورقة
ولبيد بن ربيعة والمغيرة بن الحارث وهشام بن
الوليد المخزومي.
قوله: "أن يذهب
الناس بالأموال" في رواية للبخاري:
"بالشاة والبعير".
قوله: "إلى
رحالكم" بالحاء المهملة أي بيوتكم.
قوله: "لما آثر
النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أناسًا" هم
من تقدم ذكرهم.
قوله: "قال رجل"
في رواية الأعمش فقال رجل من الأنصار وفي
رواية الواقدي أن اسمه معتب بن قشير من بني
عمرو بن عوف وكان من المنافقين وفيه رد على
مغلطاي حيث قال لم أر أحدًا قال إنه من
الأنصار إلا ما وقع في رواية الأعمش وجزم بأنه
حرقوص بن زهير السعدي المتقدم ذكره في باب ذكر
الخوارج وتبعه ابن الملقن وأخطأ في ذلك فإن
قصة حرقوص غير هذه كما تقدم.
قوله: "ما أريد فيها
وجه اللّه" وفي رواية البخاري: "ما أراد
بهذا".
قوله: "رحم اللّه
موسى" الخ فيه الإعراض عن الجاهل والصفح عن
الأذى والتأسي بمن مضى من النظراء.
قوله: "ضلعهم"
بفتح الضاد المعجمة واللام وهو الاعوجاج ـ وفي
أحاديث الباب ـ دليل على أنه يجوز للإمام أن
يؤثر بالغنائم أو ببعضها من كان مائلًا من
أتباعه إلى الدنيا تأليفًا له واستجلابًا
بالطاعة وتقديمه على من كان من أجناده قوي
الإيمان مؤثرًا للآخرة على الدنيا
ج / 7 ص -292-
باب حكم أموال المسلمين إذا أخذها الكفار ثم
أخذت منهم
1- عن عمران بن الحصين
قال: "أسرت امرأة من الأنصار وأصيبت
العضباء فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم
يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات ليلة
من الوثائق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من
البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم
ترغ قال وهي ناقة منوقة".
وفي رواية: "مدربة
فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها
فأعجزتهم قال ونذرت للّه إن نجاها اللّه عليها
لتنحرنها فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا
العضباء ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقالت إنها نذرت للّه إن نجاها اللّه
عليها لتنحرنها فأتوا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فذكروا ذلك فقال
سبحان اللّه بئسما جزتها نذرت للّه إن نجاها
اللّه عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية
ولا فيما لا يملك العبد".
رواه أحمد ومسلم.
2- وعن ابن عمر:
"أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم
المسلمون فرد عليه في زمن رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض
الروم وظهر عليهم المسلمون فرده خالد بن
الوليد بعد النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه البخاري وأبو داود وابن
ماجه.
وفي رواية: "أن
غلامًا لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه
المسلمون فرده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم" رواه أبو
داود.
قوله: "العضباء"
بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة بعدها
موحدة وهي ناقة النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم.
قوله: "فانفلتت"
بالنون والفاء أي المرأة.
قوله: "منوقة"
بالنون والقاف أي مذللة.
قوله: "مدربة"
بالدال المهملة والراء المشددة المفتوحة بعدها
موحدة وهي المؤدبة المعدة للركوب والتدريب
مأخوذة من الدربة وهي المعرفة بالشيء.
قوله: "ونذروا
بها" بضم النون وكسر الذال المعجمة أي علموا
بها. وفي شرح النووي هو بفتح النون.
قوله: "لا وفاء لنذر
في معصية اللّه" سيأتي الكلام على هذا في
كتاب النذور إن شاء اللّه.
قوله: "ذهب فرس له
فأخذه" في رواية الكشميهني ذهبت فأخذها
والفرس اسم جنس يذكر ويؤنث.
قوله: "في زمن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" كذا وقع في
رواية ابن نمير أن قصة الفرس في زمن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وقصة العبد بعد النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وخالفه يحيى القطان
عن عبيد اللّه العمري فجعلهما بعد النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم كما في رواية للبخاري
وكذا وقع في رواية موسى ابن عقبة عن نافع وصرح
بأن قصة الفرس كانت في زمن أبي بكر.
وقد وافق ابن نمير
إسماعيل بن زكريا أخرجه الإسماعيلي من طريقه
وأخرجه من طريق ابن المبارك عن عبيد اللّه فلم
يعين الزمان لكن قال في روايته أنه افتدى
الغلام بروميتين وكأن هذا الاختلاف
ج / 7 ص -293-
هو السبب في ترك البخاري الجزم في الترجمة
على هذا الحديث فإنه قال باب إذا غنم المشركون
مال المسلم ثم وجده المسلم أي هل يكون أحق به
أو يدخل في الغنيمة ولكنه يمكن الاحتجاج بوقوع
ذلك في زمن أبي بكر والصحابة متوافرون من غير
نكير منهم.
وقد اختلف أهل العلم في
ذلك فقال الشافعي وجماعة لا يملك أهل الحرب
بالغلبة شيئًا من المسلمين ولصاحبه أخذه قبل
القسمة وبعدها. وعن علي والزهري وعمرو بن
دينار والحسن لا يرد أصلا ويختص به أهل
المغانم وقال عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء
والليث ومالك وأحمد وآخرون وهي رواية عن الحسن
أيضًا ونقلها ابن أبي الزناد عن أبيه عن
الفقهاء السبعة إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو
أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا
بالقيمة.
واحتجوا بحديث عن ابن
عباس مرفوع بهذا التفصيل أخرجه الدارقطني
وإسناده ضعيف جدًا. وإلى هذا التفصيل ذهبت
الهادوية وعن أبي حنيفة كقول مالك إلا في
الآبق فقال هو والثوري صاحبه أحق به مطلقًا.
باب ما يجوز
أخذه من نحو الطعام والعلف بغير قسمة
1- عن ابن عمر قال:
"كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله
ولا نرفعه". رواه البخاري.
2- وعن ابن عمر: "أن
جيشًا غنموا في زمان النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم طعامًا وعسلا فلم يؤخذ منهم
الخمس". رواه أبو داود.
3- وعن عبد اللّه بن
المغفل قال: "أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر
فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحدًا من هذا
شيئًا فالتفت فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم مبتسمًا". رواه أحمد ومسلم وأبو
داود والنسائي.
4- وعن ابن أبي أوفى
قال: "أصبنا طعامًا يوم خيبر وكان الرجل
يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق".
5- وعن القاسم مولى عبد
الرحمن عن بعض أصحاب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال: "كنا نأكل الجزر في
الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رجالنا
وأخرجتنا مملوءة منه". رواهما أبو داود.
حديث ابن عمر الأول زاد
فيه أبو داود فلم يؤخذ منهم الخمس وصحح هذه
الزيادة ابن حبان. وحديث ابن عمر الثاني
أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه البيهقي ورجح
الدارقطني وقفه. وحديث عبد اللّه بن المغفل
أخرجه أيضًا البخاري وزاد فيه الطيالسي في
مسنده بإسناد صحيح فقال هو لك.
وحديث ابن أبي أوفى
أخرجه الحاكم والبيهقي قال ابن الصلاح في
كلامه على الوسيط هذا
ج / 7 ص -294-
الحديث لم يذكر في كتب الأصول انتهى. وقد
صححه الحاكم وابن الجارود. وأخرجه أيضًا
الطبراني من حديثه بلفظ: لم يخمس الطعام يوم
خيبر.
وحديث القاسم مولى عبد
الرحمن سكت عنه أبو داود وقال المنذري: إنه
تكلم في القاسم غير واحد انتهى. وفي إسناده
أيضًا ابن حرشف وهو مجهول.
قوله: "كنا نصيب في
مغازينا" الخ زاد الإسماعيلي في رواية
والفواكه. وفي رواية له بلفظ: "كنا نصيب
السمن والعسل في المغازي فنأكله" وفي رواية
له من وجه آخر: "أصبنا طعامًا وأغنامًا
يوم اليرموك فلم تقسم"
قال في الفتح:
وهذا الموقوف لا يغاير الأول لاختلاف السياق
وللأول حكم الرفع للتصريح بكونه في زمن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وأما يوم اليرموك
فكان بعده فهو موقوف يوافق المرفوع انتهى.
ولا يخفى أنه ليس في روايات الحديث تصريح بأنه
في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإنما
فيه أن إطلاق المغازي من الصحابي ظاهر في أنها
مغازي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وليس
ذلك من التصريح في شيء.
قوله: "ولا نرفعه"
أي ولا نحمله على سبيل الادخار ويحتمل أن يريد
ولا نحمله إلى متولي أمر الغنيمة أو إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا نستأذنه في أكله
اكتفاء بما سبق منه من الأذن.
قوله: "عبد اللّه بن
المغفل" بالمعجمة والفاء بوزن محمد.
قوله: "جرابًا"
بكسر الجيم.
قوله: "فالتزمته"
في رواية للبخاري: فنزوت بالنون والزاي أي
وثبت مسرعًا وموضع الحجة من الحديث عدم إنكار
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا سيما مع
وقوع التبسم منه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن
ذلك يدل على الرضا وقد قدمنا أن أبا داود
الطيالسي زاد فيه فقال هو لك وكأنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم عرف شدة حاجته إليه فسوغ له
الاستئثار به. وفي الحديث جواز أكل الشحوم
التي توجد عند اليهود وكانت محرمة على اليهود
وكرهها مالك وروى عنه وعن أحمد تحريمها.
قوله: "الجزر"
بفتح الجيم جمع جزور وهي الشاة التي تجزر أي
تذبح كذا قيل.
وفي غريب الجامع الجزر
جمع جزور وهو الواحد من الإبل يقع على الذكر
والأنثى. وفي القاموس في مادة جزر ما
لفظه: والشاة السمينة ثم قال والجزور البعير
أو خاص بالناقة المجزورة ثم قال وما يذبح من
الشاة انتهى. وقد قيل إن الجزر في الحديث
بضم الجيم والزاي جمع جزور وهو ما تقدم
تفسيره.
ـ وأحاديث الباب ـ
تدل على أنه يجوز أخذ الطعام ويقاس عليه العلف
للدواب بغير قسمة ولكنه يقتصر من ذلك على
مقدار الكفاية كما في حديث ابن أبي أوفى وإلى
ذلك ذهب الجمهور سواء أذن الإمام أو لم
يأذن. والعلة في ذلك أن الطعام يقل في دار
الحرب وكذلك العلف فأبيح للضرورة والجمهور
أيضًا على جواز الأخذ ولو لم تكن ضرورة
وقال الزهري:
لا نأخذ شيئًا من الطعام ولا غيره إلا بإذن
الإمام.
وقال سليمان بن موسى:
يأخذ إلا إن نهى الإمام وقال ابن المنذر: قد
وردت الأحاديث الصحيحة في التشديد في الغلول
واتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام وجاء
الحديث بنحو ذلك فليقتصر عليه وقال الشافعي
ومالك يجوز ذبح الأنعام للأكل كما يجوز أخذ
الطعام ولكن قيده الشافعي بالضرورة إلى الأكل
حيث لا طعام.
ج / 7 ص -295-
باب أن الغنم تقسم بخلاف الطعام والعلف
1- عن رجل من الأنصار
قال: "خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد
وأصابوا غنمًا فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ
جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يمشي
على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل
اللحم بالتراب ثم قال:
إن النهبة ليست بأحل من الميتة وإن الميتة ليست بأحل من النهبة". رواه أبو داود.
2- وعن معاذ قال:
"غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم خيبر فأصبنا فيها غنمًا فقسم فينا رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم طائفة وجعل
بقيتها في المغنم". رواه أبو داود.
الحديث الأول
سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده
موثقون ولكن لفظه بالشك هكذا إن النهبة ليست
بأحل من الميتة أو إن الميتة ليست بأحل من
النهبة قال والشك من هناد وهو ابن السري.
وأخرجه أيضًا البيهقي.
والحديث الثاني
سكت عنه أيضًا أبو داود والمنذري وفي إسناده
أبو عبد العزيز شيخ من الأردن وهو مجهول ولفظه
عن عبد الرحمن بن غنم قال رابطنا مدينة قنسرين
مع شرحبيل بن السمط فلما فتحها أصاب فيها
غنمًا وبقرًا فقسم فينا طائفة منها وجعل
بقيتها في المغنم فلقيت معاذ بن جبل فحدثته
فقال معاذ غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم الحديث.
قوله: "ثم جعل يرمل
اللحم بالتراب" أي يضع التراب عليه. قال
في القاموس: وأرمل الطعام جعل في الرمل
والثوب لطخه بالدم انتهى.
والحديث الأول ليس فيه
دليل على ما ترجم له المصنف من أن الغنم تقسم
لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما منع
من أكلها لأجل النهبى كما وقع التصريح بذلك لا
لأجل كونها غنيمة مشتركة لا يجوز الانتفاع بها
قبل القسمة نعم الحديث الثاني فيه دليل على أن
الإمام يقسم بين المجاهدين من الغنم ونحوها من
الأنعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب ويترك
الباقي في جملة المغنم وهذا مناسب لمذهب
الجمهور المتقدم فإنهم يصرحون بأنه يجوز
للغانمين أخذ القوت وما يصلح به وكل طعام
يعتاد أكله على العموم من غير فرق بين أن يكون
حيوانًا أو غيره وقد استدل على أن المنع من
ذبح الحيوانات المغنومة بغير أذن الإمام بما
في الصحيح من حديث رافع بن خديج في ذبحهم
الإبل التي أصابوها لأجل الجوع وأمر النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بإكفاء
القدور
قال المهلب:
إنما أكفأ القدور ليعلم أن الغنيمة إنما
يستحقونها بعد القسمة ويمكن أن يحمل ذلك على
أنه وقع الذبح في غير الموضع الذي وقع فيه
القتال وقد ثبت في هذا الحديث أن القصة وقعت
في دار الإسلام لقوله فيها بذي الحليفة.
وقال القرطبي:
المأمور بإكفائه إنما هو المرق عقوبة للذين
تعجلوا وأما نفس اللحم فلم يتلف بل يحمل على
أنه جمع ورد إلى المغانم لأجل النهي عن إضاعة
المال.
ج / 7 ص -296-
باب النهي عن الانتفاع بما يغنمه الغانم قبل
أن يقسم إلا حالة الحرب
1- عن رويفع بن ثابت: "أن رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال يوم حنين:
لا يحل لامرئ
يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبتاع مغنمًا حتى
يقسم ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا
أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فيء
المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه".
رواه أحمد وأبو داود.
2- وعن ابن مسعود قال: "انتهيت إلى أبي
جهل يوم بدر وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف
له فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده
فنذر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته ثم أتيت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته
فنفلني بسلبه". رواه أحمد.
الحديث الأول في إسناده محمد
بن إسحاق وفيه مقال معروف قد تقدم التنبيه
عليه غير مرة وأخرجه أيضًا الدارمي والطحاوي
وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده.
وقال في بلوغ المرام: رجاله ثقات لا بأس
بهم.
والحديث الثاني أورده الحافظ
في التلخيص وسكت عنه وهو من رواية أبي عبيدة
عن أبيه ولم يسمع منه.
وقال في مجمع الزوائد: إن
رجاله رجال الصحيح غير محمد بن وهب بن أبي
كريمة وهو ثقة انتهى.
وأخرج نحوه أبو داود ولفظه: عن أبي عبيدة
وهو ابن عبد اللّه ابن مسعود عن أبيه أنه
قال: "مررت فإذا أبو جهل صريع قد ضربت
رجله فقلت يا عدو اللّه يا أبا جهل قد أخزى
اللّه الآخر قال ولا أهابه عند ذلك فقال أبعد
من رجل قتله قومه فضربته بسيف غير طائل فلم
يغن شيئًا حتى سقط سيفه من يده فضربته حتى
برد" وأخرج نحوه النسائي مختصرًا وقوله أبعد
من رجل الخ قال الخطابي في المعالم: هكذا
رواه أبو داود وهو غلط وإنما هو أعمد بالميم
بعد العين كلمة للعرب معناها هل زاد على رجل
قتله قومه يهون على نفسه ما حل بها انتهى.
والحديث الأول فيه دليل على أنه لا يحل لأحد
من المجاهدين أن يبيع شيئًا من الغنيمة قبل
قسمتها لأن ذلك من الغلول وقد وردت الأحاديث
الصحيحة بالنهي عنه ولا يحل أيضًا أن يأخذ
ثوبًا منها فيلبسه حتى يخلقه ثم يرده أو يركب
دابة منها حتى إذا أعجفها ردها لما في ذلك من
الأضرار بسائر الغانمين والاستبداد بما لهم
فيه نصيب بغير أذن منهم.
قال في الفتح: وقد اتفقوا
على جواز ركوب دوابهم يعني أهل الحرب وليس
ثيابهم واستعمال سلاحهم حال الحرب ورد ذلك بعد
انقضاء الحرب وشرط الأوزاعي فيه أذن الإمام
وعليه أن يرد كلما فرغت حاجته ولا يستعمله في
غير الحرب ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا
يعرضه للهلاك قال وحجته حديث رويفع المذكور
ونقل عن أبي يوسف أنه حمله على ما إذا كان
الآخذ غير محتاج يتقي به دابته أو ثوبه بخلاف
من ليس له ثوب ولا دابة. ووجه استدلال
المصنف رحمه اللّه تعالى بحديث ابن مسعود على
ما ترجمه في الباب أنه وقع من ابن مسعود الضرب
بسيف أبي جهل قبل أن يستأذن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم في ذلك ولم ينكره عليه فدل على
جواز استعمال السلاح المغنوم ما دامت الحرب
قائمة بغير أذن الإمام وقد تقدم الكلام على
قوله فنفلني يسلبه في باب أن السلب للقاتل.
ج / 7 ص -297-
باب ما يهدى للأمير والعامل أو يؤخذ من مباحات
دار الحرب
1- عن أبي حميد الساعدي
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
هدايا العمال غلول". رواه أحمد.
2- وعن أبي الجويرية
قال: "أصبت جرة حمراء فيها دنانير في
إمارة معاوية في أرض الروم قال وعلينا رجل من
أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من بني
سليم يقال له معن بن يزيد فأتيته بها فقسمها
بين المسلمين وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم
ثم قال لولا أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول
لا نفل إلا بعد الخمس لأعطيتك قال ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت". رواه أحمد وأبو
داود.
الحديث الأول
أخرجه أيضًا الطبراني وفي إسناده إسماعيل بن
عباس عن أهل الحجاز وهو ضعيف في الحجازيين
ويشهد له ما أخرجه الشيخان وأبو داود من حديث
أبي حميد المذكور قال: استعمل رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم رجلا على الأزد يقال
له ابن اللتبية فلما قدم قال هذا لكم وهذا
أهدي لي فقام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما
ولاني اللّه فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي
أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن
كان صادقًا. الحديث.
والحديث الثاني
في إسناده عاصم بن كليب قال علي بن المديني:
لا يحتج به إذا انفرد وقال الإمام أحمد: لا
بأس بحديثه وقال أبو حاتم الرازي: صالح وقال
النسائي: ثقة واحتج به مسلم وقد أخرجه
الطحاوي وصححه من حديث معن بن يزيد المذكور
قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس.
قوله: "غلول" بضم
المعجمة واللام أي خيانة.
قوله: "وعن أبي
الجويرية" اسمه حطان بن خفاف قال في
الخلاصة: وثقه أحمد.
قوله: "لا نفل إلا
بعد الخمس" قد تقدم الكلام على ذلك.
وقد استدل المصنف
بالحديث الأول على أنها لا تحل الهدية للعمال
وقد تقدم في الزكاة في باب العاملين عليها
حديث بريدة عن أبي داود عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال: من استعملناه على عمل
فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.
وظاهره المنع من الزيادة على المفروض للعامل
من غير فرق بين ما كان من الصدقات المأخوذة من
أرباب الأموال أو من أربابها على طريق الهدية
أو الرشوة.
والحديث الثاني بوب عليه
أبو داود باب النفل من الذهب والفضة ومن أول
مغنم أي هل يجوز أم لا واستدل به المصنف على
حكم ما يؤخذ من مباحات دار الحرب وأنها تكون
بين الغانمين لا يختص بها.
باب التشديد في
الغلول وتحريق رحل الغال
1- عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى خيبر ففتح اللّه
علينا فلم نغنم ذهبًا ولا ورقًا غنمنا المتاع
والطعام
ج / 7 ص -298-
والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عبد له وهبه
له رجل من جذام يسمى رفاعة بن يزيد من بني
الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم يحل رحله فرمى بسهم
فكان فيه حتفه فقلناهنيئًا له الشهادة فقال:
كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارًا أخذها من الغنائم
يوم خيبر لم تصبها المقاسم
قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال
يا رسول اللّه أصبت هذا يوم خيبر فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
شراك من نار أو شراكان من النار".
متفق عليه.
2- وعن عمر قال:
"لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالوا فلان شهيد
وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون". رواه أحمد
ومسلم.
3- وعن عبد اللّه بن عمر
قال: "كان على ثقل النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة
قد غلها".
رواه أحمد والبخاري.
قوله: "خرجنا مع
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" هكذا
وقع في رواية ثور بن يزيد وقد حكى الدارقطني
عن موسى بن هارون أنه قال وهم ثور في هذا
الحديث لأن أبا هريرة لم يخرج مع النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم إلى خيبر وإنما قدم بعد
خروجهم وقدم عليهم خيبر بعد أن فتحت قال أبو
مسعود ويؤيده حديث عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة
قال: أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بخيبر بعد ما افتتحوها قال
ولكن لا يشك أحد أن أبا هريرة حضر قسمة
الغنائم.
الغرض من هذه القصة المذكورة غلول الشملة.
قال الحافظ:
وكأن محمد بن إسحاق استشعر توهم ثور بن يزيد
في هذه اللفظة فرواه عنه في المغازي بدونها
وأخرجه ابن حبان والحاكم وابن منده من طريقه
بلفظ: "انصرفنا مع النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم إلى وادي القرى" وروى البيهقي في
الدلائل من وجه آخر عن أبي هريرة قال:
"خرجنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
من خيبر إلى وادي القرى" فلعل هذا أصل
الحديث.
وحديث قدوم أبي هريرة
المدينة والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بخيبر أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم من طريق خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه
عن أبي هريرة قال: "قدمت المدينة والنبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم بخيبر وقد استخلف
سباع بن عرفطة" فذكر الحديث
ج / 7 ص -299-
وفيه: "فزودنا شيئًا حتى أتينا خيبر وقد
افتتحها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فكلم
المسلمون فأشركونا في سهامهم".
قوله: "غنمنا المتاع
والطعام والثياب" رواية البخاري: "إنما
غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط" وهذه
المذكورة رواية مسلم ورواية الموطأ إلا
الأموال والثياب والمتاع.
قوله: "عبد له" هو
مدعم كما وقع في رواية البخاري بكسر الميم
وسكون المهملة وفتح العين المهملة أيضًا.
قوله: "رفاعة بن
زيد" قال الواقدي: كان رفاعة وفد على
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في ناس من
قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على
قومه.
قوله: "من بني
الضبيب" بضم الضاد المعجمة ثم موحدتين
بينهما تحتية بصيغة التصغير. وفي رواية
للبخاري: "أحد بني الضباب" بكسر الضاد
المعجمة وموحدتين بينهما ألف بصيغة جمع الضب
وهم بطن من جذام.
قوله: "يحل رحله"
رواية البخاري فبينما مدعم يحط رحل رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم زاد البيهقي في
الرواية المذكورة وقد استقبلتنا يهود بالرمي
ولم نكن على تعبية.
قوله: "لتلتهب عليه
نارًا" يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير
الشملة نفسها نارًا فيعذب بها ويحتمل أن يكون
المراد أنها سبب لعذاب النار وكذا القول في
الشراك المذكور.
قوله: "فجاء رجل"
قال الحافظ: لم أقف على اسمه.
قوله: "بشراك أو
شراكين" الشراك بكسر المعجمة وتخفيف الراء
سير النعل على ظهر القدم.
قوله: "على ثقل"
بمثلثة وقاف مفتوحتين العيال وما ثقل حمله من
الأمتعة.
قوله: "يقال له
كركرة" اختلف في ضبطه فذكر عياض أنه يقال
بفتح الكافين وبكسرهما وقال النووي: إنما
اختلف في كافه الأولى وأما الثانية فمكسورة
اتفاقًا قال عياض: هو للأكثر بالفتح في
رواية علي وبالكسر في رواية ابن سلام. وعند
الأصيلي بالكسر في الأول وقال القابسي: لم
يكن عند المروزي فيه ضبط إلا أني أعلم أن
الأول خلاف الثاني
قال الواقدي:
إنه كان أسود يمسك دابة رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم عند القتال.
وروى أبو سعيد
النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان ثوبيًا
أهداه له هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة
فأعتقه وذكر البلاذري أنه مات في الرق.
قوله: "هو في
النار" أي يعذب على معصيته أو المراد هو في
النار إن لم يعف اللّه عنه. وظاهر الروايتين
أن كركرة المذكور غير مدعم الذي قبله وكلام
القاضي عياض يشعر بأن قصتهما متحدة.
قال الحافظ:
والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهما قال نعم عند
مسلم من حديث عمر ثم ذكر الحديث المذكور في
الباب ثم قال فهذا يمكن تفسيره بكركرة بخلاف
قصة مدعم فإنها كانت بوادي القرى ومات بسهم
وغل شملة والذي أهدى كركرة هوذة والذي أهدى
مدعم رفاعة فافترقا ـ وأحاديث الباب ـ تدل
على تحريم الغلول من غير فرق بين القليل منه
والكثير ونقل النووي الإجماع على أنه من
الكبائر وقد صرح القرآن والسنة بأن الغال يأتي
يوم القيامة والشيء الذي غله معه فقال اللّه
تعالى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على
رقبته شاة".
الحديث وظاهر قوله شراك من نار الخ أن من أعاد
إلى الإمام ما غله بعد القسمة لم يسقط عنه
الإثم قال الثوري والأوزاعي والليث ومالك يدفع
إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي وكان
ج / 7 ص -300-
الشافعي لا يرى ذلك ويقول إن كان ملكه فليس
عليه أن يتصدق به وإن كان لم يملكه فليس له
الصدقة بمال غيره. قال: والواجب أن يدفع
إلى الإمام كالأموال الضائعة انتهى.
وأما قبل القسمة فقال
ابن المنذر أجمعوا على أن للغال أن يعيد ما غل
قبل القسمة.
4- وعن عبد اللّه بن
عمرو قال: "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في
الناس فيجيؤن بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل
بعد ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول اللّه هذا
فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال
أسمعت بلالا نادى ثلاثًا قال نعم قال
فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه
فقال
كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك". رواه أحمد وأبو داود.
قال البخاري:
قد روي في غير حديث عن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم في الغال ولم يأمر بحرق متاعه.
5- وعن صالح بن محمد بن
زائدة قال: "دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي
برجل قد غل فسأل سالمًا عنه فقال سمعت أبي
يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه
قال فوجد في متاعه مصحفًا فسأل سالمًا عنه
فقال بعه وتصدق بثمنه". رواه أحمد وأبو
داود.
6- وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: "أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع
الغال وضربوه". رواه أبو داود وزاد في
رواية ذكرها تعليقًا: "ومنعوه سهمه".
حديث عبد اللّه بن عمرو
سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه الحاكم
وصححه.
وحديث صالح بن محمد
أخرجه أيضًا الترمذي والحاكم والبيهقي قال
الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال
سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال إنما روى هذا
صالح بن محمد بن زائدة الذي يقال له أبو واكد
الليثي وهو منكر الحديث قال المنذري: وصالح
بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد من الأئمة
وقد قيل إنه تفرد به وقال البخاري: عامة
أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول وهو باطل ليس
بشيء وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على
صالح بن محمد قال وهذا حديث لم يتابع عليه ولا
أصل لهذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم والمحفوظ أن سالمًا أمر بذلك وصحح
أبو داود وقفه. ورواه من وجه آخر باللفظ
الذي ذكره المصنف وقال هذا أصح.
وحديث عمرو بن شعيب
أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي وفي إسناده زهير
بن محمد وهو الخراساني نزيل مكة وقال البيهقي
يقال هو غيره وأنه مجهول وقد رواه أبو داود من
وجه آخر عن زهير موقوفًا قال في الفتح: وهو
ج / 7 ص -301-
الراجح.
قوله: "ولم يأمر
بحرق متاعه" هذا لفظ رواية الترمذي عن
البخاري ولفظ البخاري في الجهاد في باب القليل
من الغلول ولم يذكر عبد اللّه بن عمر عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه حرق متاعه يعني
في حديثه الذي ساقه في ذلك الباب وهو الحديث
الذي تقدم في أول هذا الباب ثم قال البخاري
وهذا أصح.
قال في الفتح:
أشار إلى تضعيف عبد اللّه بن عمر في الأمر
بحرق رحل الغال والإشارة بقوله هذا إلى الحديث
الذي ساقه. والحرق بفتح الحاء المهملة
والراء وقد تسكن الراء كما في النهاية مصدر
حرق بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وقد ذهب
إلى الأخذ بظاهر حديث الإحراق أحمد في رواية
وهو قول مكحول والأوزاعي وعن الحسن يحرق متاعه
كله إلا الحيوان والمصحف.
وقال الطحاوي:
لو صح الحديث لاحتمل أن يكون حين كانت العقوبة
بالمال انتهى. وقد قدمنا الكلام على العقوبة
بالمال في كتاب الزكاة.
وفي حديث عبد اللّه بن
عمرو دليل على أنه لا يقبل الإمام من الغال ما
جاء به بعد وقوع القسمة ولو كان يسيرًا وقد
تقدم الخلاف في ذلك قريبًا.
قوله: "ومنعوه
سهمه" فيه دليل على أنه يجوز للإمام بعد
عقوبة الغال بتحريق متاعه أن يعاقبه عقوبة
أخرى بمنعه سهمه من الغنيمة وكذلك يعاقب عقوبة
ثالثة بضربه كما وقع في الحديث المذكور.
باب المنّ
والفداء في حق الأسارى
1- عن أنس: "أن
ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وأصحابه من حيال التنعيم
عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم سلمًا فأعتقهم فأنزل
اللّه عز وجل
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}
إلى آخر الآية". رواه أحمد ومسلم وأبو
داود والترمذي.
2- وعن جبير بن مطعم:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال في
أسارى بدر
لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء
النتني لتركتهم له".
رواه أحمد والبخاري وأبو داود.
3- وعن أبي هريرة قال:
"بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له
ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية
من سواري المسجد فخرج إليه رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقال
ماذا عندك يا ثمامة قال عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر
وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى كان
بعد الغد فقال
ما عندك
ج / 7 ص -302-
يا ثمامة
قال عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن
تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط
منه ما شئت فتركه رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم حتى كان الغد فقال ما عندك يا ثمامة
قال عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن
تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط
منه ما شئت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم
أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن
لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
يا محمد واللّه ما كان على الأرض أبغض إلي من
وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي
واللّه ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح
دينك أحب الدين كله إلي واللّه ما كان من بلد
أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها
إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا
ترى فبشره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل
صبوت فقال لا ولكني أسلمت مع رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم ولا واللّه لا تأتيكم من
يمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم". متفق عليه.
قوله: "سلمًا"
بفتح السين المهملة واللام عن بعضهم وعن
الأكثرين بسكون اللام يعني مع كسر السين
والأول أصوب والسلم الأسير لأنه أسلم والسلم
الصلح كذا في المشارق.
قوله: "لو كان
المطعم" الخ إنما قال صلى اللّه عليه وآله
وسلم كذلك لأنها كانت للمطعم عنده يد وهي أنه
دخل صلى اللّه عليه وآله وسلم في جواره لما
رجع من الطائف فأراد أن يكافئه بها والمطعم
المذكور هو والد جبير الراوي لهذا الحديث
والنتني جمع نتن بالنون والتاء المثناة من فوق
المراد بهم أسارى بدر وصفهم بالنتن لما هم
عليه من الشرك كما وصفوا بالنجس.
قوله: "لتركتهم
له" يعني بغير فداء وبين السبب في ذلك ابن
شاهين بنحو ما قدمنا.
وقد ذكر ابن إسحاق القصة
في ذلك مبسوطة وكذلك الفاكهي بإسناد حسن مرسل
وفيه أن المطعم أمر أولاده الأربعة فلبسوا
السلاح وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة
فبلغ ذلك قريشًا فقالوا له أنت الرجل لا تخفر
ذمتك وقيل أن اليد التي كانت له أنه كان من
أشد من سعى في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش
في قطيعة بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين
حصروهم في الشعب.
قوله: "بعث رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيلا" الخ
زعم سيف في كتاب الردة له أن الذي أخذ ثمامة
وأسره هو العباس بن عبد المطلب
قال في الفتح:
وفيه نظر لأن العباس إنما قدم على رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم في زمان فتح مكة
وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث
ج / 7 ص -303-
اعتمر ثمامة ثم رجع إلى بلاده ثم منعهم أن
يميروا أهل مكة ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ذلك ثم بعث يشفع فيهم
عند ثمامة.
قوله: "من بني
حنيفة" هو ابن لجيم بجيم ابن صهيب بن علي بن
بكر بن وائل وهي قبيلة كبيرة مشهورة ينزلون
اليمامة بين مكة واليمن.
قوله: "ثمامة" بضم
المثلثة وأثال بضم الهمزة وبمثلثة خفيفة وهو
ابن النعمان ابن مسيلمة الحنفي وهو من فضلاء
الصحابة.
قوله: "ماذا عندك"
أي: أي شيء عندك ويحتمل أن تكون ما
استفهامية وذا موصولة وعندك صلة أي ما الذي
استقر في ظنك أن أفعله بك فأجابه بأنه ظن
خيرًا فقال عندي يا محمد خير أي لأنك لست ممن
يظلم بل ممن يعفو ويحسن.
قوله: "تقتل ذا
دم" بمهملة وتخفيف الميم للأكثر وللكشميهني
ذم بمعجمة بعدها ميم مشددة.
قال النووي:
معنى رواية الأكثر إن تقتل تقتل ذا دم بمهملة
أي صاحب دم لدمه موقع يستشفي قاتله بقتله
ويدرك ثأره لرياسته وعظمته ويحتمل أن يكون
المعنى عليه دم وهو مطلوب به فلا لوم عليك في
قتله وأما الرواية بالمعجمة فمعناها ذا ذمة
وثبت ذلك في رواية أبي داود وضعفها عياض بأنه
ينقلب المعنى لأنه إذا كان ذا ذمة يمتنع قتله
وقال النووي: يمكن تصحيحها بأن يحمل على
الوجه الأول والمراد بالذمة الحرمة في قومه.
وأوجه الجميع الثاني لأنه مشاكل لقوله بعد ذلك
وإن تنعم تنعم على شاكر وجميع ذلك تفصيل لقوله
عندي خير وفعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على
فخامة الأمر.
قوله: "قال عندي ما
قلت لك إن تنعم" الخ قدم في اليوم الأول
القتل وفي اليومين الآخرين الإنعام وفي ذلك
نكتة وهي أنه قدم أول يوم أشق الأمرين عليه
وأشفاهما لصبر خصومه وهو القتل فلما لم يقع
قدم الإنعام استعطافًا وكأنه رأى في اليوم
الأول أمارات الغضب دون اليومين الآخرين.
قوله: "أطلقوا
ثمامة" في رواية ابن إسحاق قال قد عفوت عنك
يا ثمامة وأعتقتك وزاد أيضًا أنه لما كان في
الأسر جمعوا ما كان في أهل النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم من طعام ولبن فلم يقع ذلك من
ثمامة موقعه فلما أسلم جاؤوا بالطعام فلم يصب
منه إلا قليلا فتعجبوا فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل في
معي واحد".
قوله: "فبشره" أي
بخير الدنيا والآخرة أو بشره بالجنة أو بمحو
ذنوبه وتبعاته السابقة.
قوله: "صبوت" هذا
اللفظ كانوا يطلقونه على من أسلم وأصله يقال
لمن دخل في دين الصابئة وهم فرقة معروفة.
قوله "لا ولكن
أسلمت" الخ كأنه قال لا ما خرجت من الدين
لأن عبادة الأوثان ليست دينًا فإذا تركتها
أكون قد خرجت من دين بل استحدثت دين
الإسلام.
وقوله: "مع محمد"
أي وافقته على دينه فصرنا متصاحبين في
الإسلام. وفي رواية ابن هشام ولكني تبعت خير
الدين دين محمد.
قوله: "ولا
واللّه" فيه حذف تقديره واللّه لا أرجع إلى
دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من
اليمامة.
قوله: "حتى يأذن
فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم"
زاد ابن هشام ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن
يحملوا إلى مكة شيئًا فكتبوا إلى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم إنك تأمر بصلة الرحم
فكتب إلى ثمامة أن يخلي فيما بينهم وبين الحمل
إليهم وفي هذه القصة من الفوائد ربط الكافر في
المسجد والمن على الأسير الكافر وتعظيم أمر
العفو عن المسيء
ج / 7 ص -304-
لأن ثمامة أقسم أن بغضة القلب انقلبت حبًا
في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل
وفيه الاغتسال عند الإسلام وأن الإحسان يزيل
البغض ويثبت الحب وأن الكافر إذا أراد عمل خير
ثم أسلم له أن يستمر في عمل ذلك الخير وفيه
الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى إن كان
في ذلك مصلحة للإسلام ولا سيما من يتبعه على
إسلامه العدد الكثير من قومه وفيه بعث السرايا
إلى بلاد الكفار وأسر من وجد منهم والتخيير
بعد ذلك في قتله والإبقاء عليه.
4- وعن ابن عباس قال:
"لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأبي بكر
وعمر:
ما ترون في هؤلاء الأسارى
فقال أبو بكر: يا رسول اللّه هم بنو العم
والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة
على الكفار وعسى اللّه أن يهديهم للإسلام فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب فقال: واللّه ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب
أعناقهم فتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه
وتمكني من فلان نسبيًا لعمر فأضرب عنقه ومكن
فلانًا من فلان قرابته فإن هؤلاء أئمة الكفر
وصناديقها فهوى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت:
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان
قلت: يا رسول اللّه أخبرني من أي شيء تبكي
أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد
بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من
هذه الشجرة شجرة قريبة منه وأنزل اللّه عز وجل
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ} إلى قوله
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً}
فأحل اللّه الغنيمة لهم ". رواه أحمد مسلم.
5- وعن ابن عباس:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة".رواه أبو داود.
6- وعن عائشة قالت:
"لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب
في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت
لها عند
ج / 7 ص -305-
خديجة أدخلتها بها على أبي العاص قالت:
فلما رآها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم رق لها رقة شديدة فقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها قالوا نعم". رواه أحمد وأبو داود.
7- وعن عمران بن حصين:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من
بني عقيل". رواه أحمد والترمذي وصححه ولم يقل فيه
من بني عقيل.
8- وعن ابن عباس قال:
"كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء
فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة
قال: فجاء يومًا غلام يبكي إلى أبيه فقال:
ما شأنك قال: ضربني معلمي قال:
الخبيث يطلب بذحل بدر واللّه لا تأتيه
أبدًا".
رواه أحمد.
حديث عباس الثاني أخرجه
أيضًا النسائي والحاكم وسكت عنه أبو داود
والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله ثقات إلا
أبا العنبس وهو مقبول. وحديث عائشة أخرجه
أيضًا الحاكم وفي إسناده محمد بن إسحاق.
وحديث عمران بن حصين
أخرجه أيضًا مسلم مطولًا كما سيأتي وأخرجه ابن
حبان مختصرًا.
وحديث ابن عباس الثالث
في إسناده علي بن عاصم وهو كثير الغلط والخطأ
وقد وثقه أحمد.
وفي الباب عن أمير
المؤمنين علي رضي اللّه عنه عند الترمذي أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
إن جبريل هبط فقال خيرهم يعني أصحابك في أسارى
بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم قابل
مثلهم قالوا الفداء ويقتل منا قال الترمذي:
وفي الباب عن ابن مسعود وأنس وأبي برزة
الأسلمي وجبير بن مطعم قال هذا يعني حديث علي
حديث حسن غريب من حديث الثوري لا نعرفه إلا من
حديث ابن أبي زائدة. ورواه أبو أسامة عن
هشام عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم نحوه وروى ابن عون عن
ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم نحوه مرسلا.
وأخرج أبو داود والنسائي
والحاكم من حديث أنس أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم استشار الناس في أسارى بدر
فقال أبو بكر نرى أن تعفو عنهم وتقبل منهم
الفداء وأخرج البخاري عن أنس: "أن رجالا
من الأنصار استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقالوا أتأذن لنا فلنترك لابن
أختنا عباس فداءه فقال
لا تدعوا منه درهمًا" وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس أنه قال في قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ} إن ذلك كان يوم بدر والمسلمون كانوا في
قلة فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل اللّه
تعالى
ج / 7 ص -306-
{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فجعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم المؤمنين بالخيار فيهم إن
شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا
فادوهم وفي إسناده علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس وهو لم يسمع منه لكنه إنما أخذ التفسير
عن ثقات أصحابه كمجاهد وغيره وقد اعتمده
البخاري وأبو حاتم وغيرهما في التفسير.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس من وجه آخر قال
حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر
فأخذ يعني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
الفداء أنزل اللّه تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ} إلى
قوله
{عَذَابٌ عَظِيمٌ} ثم أحل لهم الغنائم.
قوله: "لما أسروا الأسارى" قد ساق ابن
إسحاق في المغازي تفصيل أمر فداء الأسارى فذكر
ما يشفي ويكفي.
قوله: "قاعدين يبكيان" إنما وقع البكاء
منه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن أبي بكر لما
أنزل اللّه من المعاتبة ولما وقع من عرض
العذاب على الذين أخذوا الفداء كما في الحديث
المذكور.
قوله: "من بني عقيل" بضم العين المهملة
كذا في المشارق.
قوله: "بذحل" بفتح الذال المعجمة وسكون
الحاء المهملة قال في مختصر النهاية: الذحل
الوتر وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه. وقال
في القاموس: الذحل الثأر أو طلب مكافأة
بجناية جنيت عليك أو عداوة أتت إليك أو
العداوة والحقد الجمع أذحال وذحول.
وقد استدل المصنف بالأحاديث التي ذكرها على ما
ترجم الباب به من المن والفداء في حق الأسارى
ومذهب الجمهور أن الأمر في الأسارى الكفرة من
الرجال إلى الإمام بفعل ما هو الأحظ للإسلام
والمسلمين.
وقال الزهري ومجاهد وطائفة لا
يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن
الحسن وعطاء لا تقتل الأسرى بل يتخير بين المن
والفداء وعن مالك لا يجوز المن بغير فداء وعن
الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا
بغيره.
قال الطحاوي: وظاهر الآية
يعني قوله تعالى
{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} حجة للجمهور وكذا حديث أبي هريرة في قصة ثمامة المذكور في أول
الباب وقال أبو بكر الرازي احتج أصحابنا
لكراهة فداء المشركين بالمال بقوله تعالى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية ولا حجة لهم في ذلك لأنه كان قبل حل الغنيمة كما قدمنا عن
ابن عباس والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما
ذهب إليه الجمهور فإنه قد وقع منه صلى اللّه
عليه وآله وسلم المن وأخذ الفداء كما في
أحاديث الباب ووقع منه القتل فإنه قتل النضر
بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ووقع منه
فداء رجلين من المسلمين برجل من المشركين كما
في حديث عمران بن حصين قال الترمذي بعد أن ساق
حديث عمران بن حصين المذكور والعمل على هذا
عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم وغيرهم أن للإمام أن بمن على
من شاء من الأسارى ويقتل من شاء منهم ويفدي من
شاء واختار بعض أهل العلم القتل على الفداء
قال: قال الأوزاعي: بلغني أن هذه الآية
منسوخة يعني قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} نسخها قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} حدثنا بذلك هناد أخبرنا ابن المبارك عن الأوزاعي قال إسحاق بن
منصور قلت لأحمد إذا أسر الأسير يقتل أو يفادي
أحب إليك قال إن قدر أن يفادي فليس به بأس وإن
قتل فما أعلم به بأسًا قال إسحاق بن
إبراهيم: الإثخان أحب إليّ إلا أن يكون
معروفًا طمع به الكثير انتهى.
وقد ذهب إلى جواز فك الأسير من الكفار بالأسير
من المسلمين جمهور أهل العلم لحديث عمران بن
حصين المذكور.
ج / 7 ص -307-
باب أن الأسير إذا أسلم لم يزل ملك المسلمين
عنه
1- عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف
حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأسر
أصحاب رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى
عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو
في الوثاق فقال يا محمد فأتاه فقال
ما شأنك فقال
بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج يعني العضباء
فقال
أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف
فناداه فقال يا محمد يا محمد فقال
ما شأنك قال إني مسلم قال
لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح
ثم انصرف فناداه يا محمد يا محمد فأتاه فقال
ما شأنك فقال إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال
هذه حاجتك
ففدي بعد بالرجلين". رواه
أحمد ومسلم.
قوله: "لبني عقيل" بضم العين المهملة
كما تقدم.
قوله: "العضباء" بفتح المهملة وسكون
الضاد المعجمة ثم باء موحدة وقد تقدم الكلام
في ضبطها في كتاب الحج.
قوله: "بجريرة حلفائك" الجريرة
الجناية. قال في النهاية: ومعنى ذلك أن
ثقيفًا لما نقضوا الموادعة التي بينهم وبين
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم ينكر
عليهم بنو عقيل صاروا مثلهم في نقض العهد.
ـ وفي الحديث ـ دليل على ما
ترجم المصنف الباب به من أنه لا يزول ملك
المسلمين عن الأسير بمجرد إسلامه لأن هذا
الرجل أخبر بأنه مسلم وهو في الأسر فلم يقبل
منه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يفكه من
أسره ولم يخرج بذلك عن ملك من أسره.
وفيه أيضًا دليل على أن للإمام أن يمتنع من
قبول إسلام من عرف منه أنه لم يرغب في الإسلام
وإنما دعته إلى ذلك الضرورة ولا سيما إذا كان
في عدم القبول مصلحة للمسلمين فإن هذا الرجل
استنقذ به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
رجلين مسلمين من أسر الكفار ولو قبل منه
الإسلام لم يحصل ذلك ويمكن أن يقال إن معنى
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لو
قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"
أي لو قلت كلمة الإسلام أو هذه الكلمة التي
أخبرت بها عن الإسلام قبل أن يقع عليك الأسر
لكنت آمنًا ولم يجر عليك ما جرى من الأسر وأخذ
المال ولم يرد بذلك رد إسلامه بل قبله منه
ولكنه لم يحصل بإسلامه الفكاك من الأسر وإرجاع
ما أخذ من ماله فلم يحصل له كل الفلاح لأنه لم
يعامل في تلك الحال معاملة المسلمين بل عومل
معاملة الكفار فبقي في وثاقه وتحت ملك من أسره
وعلى هذا يكون في الحديث دليل على ما أراد
المصنف لأن الرجل صار مسلمًا ولم يزل عنه ملك
المسلمين. وأما على تقدير أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لم يقبل منه الإسلام من
الأصل فلا يكون فيه دليل على ذلك لأن الرجل
باق على كفره.
ـ وفي الحديث ـ مشروعية إجابة
الأسير إذا دعا وإن كرر ذلك مرات والقيام بما
يحتاج إليه من طعام وشراب. ومعنى قوله:
"هذه حاجتك" أي حاضرة يؤتى إليك بها
الساعة . |