نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية ج / 8 ص -2-
باب الأسير يدعي الإسلام قبل الأسر وله شاهد
1- عن ابن مسعود قال:
"لما كان يوم بدر وجيء بالأسارى قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
لا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق
قال عبد اللّه بن مسعود فقلت يا رسول اللّه
إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام
قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فما رأيتنا في يوم أخوف أن يقع علي حجارة من
السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم
إلا سهيل بن بيضاء
قال ونزل القرآن {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى آخر الآيات". رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن.
الحديث هو من رواية أبي
عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود عن أبيه وقد
قدمنا أنه لم يسمع منه. قال الترمذي بعد
إخراج هذا الحديث: هذا حديث حسن وأبو عبيدة
لم يسمع من أبيه.
قوله: "لا ينفلتن"
أي لا يخرج من الأسر أحد إلا بأحد الأمرين إما
الفداء أو القتل وفيه متمسك لمن قال إنه لا
يجوز المن بغير فداء وهو مالك كما سلف ولكن
غاية ما فيه أنه يدل بمفهوم الحصر على عدم
جواز ذلك وقوله تعالى {فَإِمَّا
مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
يدل بمنطوقه على الجواز ويؤيده ما تقدم من منه
صلى اللّه عليه وآله وسلم على ثمامة بن أثال
وعلى الثمانين الرجل الذين هبطوا عليه من جبال
التنعيم كما سلف وعلى أهل مكة حيث قال لهم
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
قوله: "ونزل القرآن
ما كان لنبي" الخ لفظ الترمذي: "ونزل
القرآن بقول عمر ما كان لنبي" الخ.
ـ والحديث ـ
يدل على ما ترجم به المصنف الباب من أنه يجوز
فك الأسير من الأسر بغير فداء إذا ادعى
الإسلام قبل الأسر ثم شهد له بذلك شاهد وكذلك
إذا لم تقع منه دعوى وشهد له شاهد أنه كان قد
أسلم قبل الأسر كما وقع في حديث الباب فإنه لم
يذكر فيه أن سهيل بن بيضاء ادعى الإسلام أولا
ثم شهد له بعد ذلك ابن مسعود بل ليس فيه إلا
مجرد صدور الشهادة من ابن مسعود بذكره للإسلام
قبل الأسر.
باب جواز
استرقاق العرب
1- عن أبي هريرة قال:
"لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقولها
فيهم سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول
ج / 8 ص -3-
"هم أشد أمتي على الدجال"
قال وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم
"هذه صدقات قومنا" قال وكان سبية منهم عند عائشة فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
"أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل".
متفق عليه.
2- وفي رواية: "ثلاث
خصال سمعتهن من رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم في بني تميم لا أزال أحبهم بعده كان
على عائشة محرر فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم
"أعتقي من هؤلاء" وجاءت صدقاتهم فقال
"هذه صدقات قومي"
قال
"وهم أشد الناس قتالا في الملاحم". رواه مسلم.
3- وعن مروان بن الحكم
ومسور بن مخرمة: "أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم حين جاءه وفد هوازن مسلمين
فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال له
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
"أحب الحديث إليَّ أصدقه"
فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال
وقد كنت استأنيت بكم وقد كان رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة
حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غير راد إليهم
إلا إحدى الطائفتين قالوا فإنا نختار سبينا
فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في
المسلمين فأثنى على اللّه بما هو أهله ثم
قال:
أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين
وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب
ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى
نعطيه إياه من أول ما يفيء اللّه علينا فليفعل فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول اللّه لهم فقال لهم رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن
فارجعوا حتى ترفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فهذا
الذي بلغنا عن سبي هوازن".
رواه أحمد والبخاري وأبو
داود.
4- وعن عائشة قالت:
"لما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت
الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس أو لابن
عم له فكاتبته عن نفسها وكانت امرأة حلوة
ملاحة
ج / 8 ص -4-
فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقالت يا رسول اللّه إني جويرية بنت الحارث بن
أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم
يخف عليك فجئتك أستعينك على كتابتي قال فهل لك من خير من ذلك
قالت وما هو يا رسول اللّه قال
أقضي كتابتك وأتزوجك قالت نعم يا رسول اللّه قال
قد فعلت قال وخرج الخبر إلى الناس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس أصهار رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأرسلوا ما
بأيديهم قالت فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة
أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت
أعظم بركة على قومها منها". رواه أحمد
واحتج به في رواية محمد بن الحكم وقال لا أذهب
إلى قول عمر ليس على عربي ملك قد سبي النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم العرب في غير حديث
وأبو بكر على حين سبي بني ناجية.
حديث عائشة في قصة بني
المصطلق أخرجه أيضًا الحاكم وأبو داود
والبيهقي وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر
كما تقدم في باب الدعوة قبل القتال.
قوله: "أحب بني
تميم" هم القبيلة الشهيرة ينسبون إلى تميم
بن مر بضم الميم بلا هاء ابن أد بضم أوله
وتشديد الدال المهملة ابن طابخة بموحدة مكسورة
ومعجمة بن إلياس بن مضر.
قوله: "بعد ثلاث"
زاد أحمد من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي
هريرة: "وما كان قوم من الأحياء أبغض إلي
منهم فأحببتهم" انتهى. وإنما كان يبغضهم
لما كان بينهم وبين قومه في الجاهلية من
العداوة.
قوله: "هم أشد أمتي
على الدجال" في الرواية الثانية: "وهم
أشد الناس قتالا في الملاحم" وهي أعم من
الرواية الأولى ويمكن أن يحمل العام في ذلك
على الخاص فيكون المراد بالملاحم أكثرها وهي
قتال الدجال ليدخل غيره بطريق الأولى.
قوله: "هذه صدقات
قومي" وأما نسبهم إليه لاجتماع نسبه بنسبهم
في إلياس بن مضر قال وكانت سبية منهم أي من
تميم وهي بوزن فعيلة مفتوح الأول من السبي أو
السباء في رواية الإسماعيلي نسمة بفتح النون
المهملة أي نفس.
قوله: "محرر"
بمهملات اسم مفعول وقد بين ذلك الطبراني أن
الذي كان على عائشة نذر ولفظه: "نذرت
عائشة أن تعتق محررًا من بني إسماعيل" وله
في الكبير: "أن عائشة قالت يا نبي اللّه
إني نذرت عتيقًا من ولد إسماعيل فقال لها
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
اصبري حتى يجيء فيء بني العنبر غدًا
فجاء فيء بني العنبر فقال
خذي منهم أربعة" الحديث.
قوله: "وقد كنت
استأنيت بكم" أي أخرت قسم السبي لتحضروا
فأبطأتم وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد ترك
السبي بغير قسمة وتوجه إلى الطائف فحاصرها ثم
رجع عنها إلى الجعرانة ثم قسم الغنائم هناك
فجاءه وفد هوازن بعد ذلك فبين لهم أنه انتظرهم
وقوله: "بضع عشر ليلة" بيان لمدة
الانتظار.
قوله: "قفل" بفتح
القاف والفاء أي رجع وذكر الواقدي أن وفد
هوازن
ج / 8 ص -5-
كانوا أربعة وعشرين بيتًا فيهم الزبرقان
السعدي فقال يا رسول اللّه إن في هذه الحظائر
إلا أمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فأمنن
علينا منّ اللّه عليك.
قوله: "أن يطيب"
بفتح الطاء المهملة وتشديد الياء التحتانية أي
يعطي ذلك على طيبة من نفسه من غير عوض.
قوله: "على حظه"
أي يرد السبي بشرط أن يعطى عوضه.
قوله: "يفيء اللّه
علينا" بضم أوله ثم فاء مكسورة وهمزة بعد
التحتانية الساكنة أي يرجع إلينا من مال
الكفار من خراج أو غنيمة أو غير ذلك ولم يرد
الفيء الاصطلاحي وحده.
قوله: "عرفاؤكم"
بضم العين المهملة جمع عريف بوزن عظيم وهو
القائم بأمر طائفة من الناس من عرفت بالضم
وبالفتح على القوم عرافة فأنا عارف وعريف وليت
أمر سياستهم وحفظ أمورهم وسمي بذلك لكونه
يتعرف أمورهم.
قوله: "فأخبروه أنهم
قد طيبوا وأذنوا" نسبة التطييب والإذن إلى
الجميع حقيقة لكن سبب ذلك مختلف فالأغلب
الأكثر منهم طابت أنفسهم أن يردوا السبي لأهله
بغير عوض وبعضهم رده بشرط التعويض ومعنى طيبوا
حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك
يقال طيبت نفسي بكذا إذا حملتها على السماح به
من غير إكراه فطابت بذلك ويقال طيبت نفس فلان
إذا كلمته بما يوافقه وإنما قلنا أن بعضهم رده
بشرط العوض مع أن ظاهر الحديث يدل على أنه لم
يشترط العوض أحد منهم لما في رواية موسى بن
عقبة بلفظ: "فأعطى الناس ما بأيديهم إلا
قليلا من الناس سألوا الفداء" وفي رواية
عمرو بن شعيب: "فقال المهاجرون ما كان لنا
فهو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وقالت الأنصار كذلك وقال الأقرع بن حابس أما
أنا وبنو تميم فلا وقال عيينة أما أنا وبنو
فزارة فلا وقال العباس ابن مرداس أما أنا وبنو
سليم فلا فقالت بنو سليم بلى ما كان لنا فهو
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه فردوا إلى
الناس نساءهم وأبناءهم".
قال ابن
بطال: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر
جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه
ليكفيه ما يقيمه فيه قال والأمر والنهي إذا
توجه إلى الجميع يقع التواكل فيه من بعضهم
فربما وقع التفريط فإذا أقام على كل قوم
عريفًا لم يسع كل أحد إلا الانقياد بما أمر به
وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنع
إقامة العرفاء لأنه محمول إن ثبت على أن
الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد
وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية
والحديث في ذم العرفاء أخرجه أبو داود من طريق
المقدام بن معد يكرب رفعه:
"العرافة حق ولا بد للناس من عريف والعرفاء في النار" ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن علي عن أبي حازم عن أبي
هريرة رفعه: "ويل
للأمراء ويل للعرفاء"
قال الطيبي: قوله والعرفاء في النار ظاهر
أقيم مقام الضمير يشعر أن العرافة على خطر ومن
باشرها غير آمن الوقوع في المحظور المفضي إلى
العذاب فهو كقوله تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً
إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَاراً} فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى
النار.
قال الحافظ:
ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد
الأمراء بما توعد به
ج / 8 ص -6-
العرفاء فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى
أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم فإن الكل على
خطر والاستثناء مقدر في الجميع. ومعنى
العرافة حق أن أصل نصبهم حق فإن المصلحة
مقتضية لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على
ما لا يتعاطاه بنفسه ويكفي في الاستدلال لذلك
وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث
الباب.
قوله: "بني المصطلق" قد تقدم ضبطه
وتفسيره في باب الدعوة قبل القتال.
قوله: "وقعت جويرية" بالجيم مصغرًا بنت
الحارث ابن أبي ضرار بن الحارث بن مالك بن
المصطلق وكان أبوها سيد قومه وقد أسلم بعد
ذلك.
قوله: "ملاحة" بضم الميم وتشديد اللام
بعدها حاء مهملة أي مليحة وقيل شديدة الملاحة
وجمعه ملاح وإملاح وملاحون بتخفيف اللام
وملاحون بتشديدها ذكر معنى ذلك في القاموس.
وقد استدل المصنف رحمه اللّه تعالى بأحاديث
الباب على جواز استرقاق العرب وإلى ذلك ذهب
الجمهور كما حكاه الحافظ في كتاب العتق من فتح
الباري. وحكى في البحر عن العترة وأبي حنيفة
أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو
السيف واستدل لهم بقوله تعالى {فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} الآية قال والمراد مشركو العرب إجماعًا إذ كان العهد لهم يومئذ دون
العجم اهـ. ثم قال في موضع آخر من البحر
فأما الاسترقاق فإن كان أعجميًا أو كتابيًا
جاز لقول ابن عباس في تفسير {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} خير اللّه نبيه في الأسرى بين القتلى والفداء والاسترقاق وإن كان
عربيًا غير كتابي لم يجز الشافعي يجوز لنا
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لو كان
الاسترقاق ثابتًا على العرب الخبر اهـ. وهو
يشير إلى حديث معاذ الذي أخرجه الشافعي
والبيهقي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال يوم حنين لو كان الاسترقاق جائزًا على
العرب لكان اليوم إنما هو أسرى وفي إسناده
الواقدي وهو ضعيف جدًا ورواه الطبراني من طريق
أخرى فيها يزيد ابن عياض وهو أشد ضعفًا من
الواقدي ومثل هذا لا تقوم به حجة.
وظاهر الآية عدم الفرق بين العربي والعجمي وقد
خصت الهادوية عدم جواز الاسترقاق بذكور العرب
دون إناثهم ومن أدلتهم على عدم جواز استرقاق
الذكور من العرب أنه لو ثبت الاسترقاق لهم
لوقع ولم يرد في وقوعه شيء على كثرة أسر العرب
في زمانه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن
المكروه أيضًا لا بد أن يقع ولو لبيان الجواز
ولا يجوز أن يخل النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم بتبليغ حكم اللّه.
قال في المنار مستدلا على ما ذهب إليه الجمهور
وقد استفتحت الصحابة أرض الشام وهم عرب وكذلك
في أطراف بلاد العرب المتصلة بالعجم ولم
يفتشوا العربي من العجمي والكتابي من الأمي بل
سووا بينهم لم يرو عن أحد خلاف ذلك ثم ذكر قول
أحمد ابن حنبل الذي ذكره المصنف ـ والحاصل ـ
أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل
والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى أن بعض هذه
الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه
ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات والمجوز
قائم في مقام المنع وقول علي وفعله عند بعض
المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة وقد استرق
بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور
في كتب السير والتواريخ وبنو ناجية من قريش
فكيف ساغت لهم مخالفته.
ج / 8 ص -7-
باب قتل الجاسوس إذا كان مستأمنًا أو ذميًا
1- عن سلمة بن الأكوع
قال: "أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم
انسل فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
اطلبوه فاقتلوه فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني
سلبه".
رواه أحمد والبخاري وأبو
داود.
2- وعن فرات بن حيان:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر
بقتله وكان ذميًا وكان عينًا لأبي سفيان
وحليفًا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار
فقال إني مسلم فقال رجل من الأنصار يا رسول
اللّه إنه يقول أنه مسلم فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم
إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن
حيان".
رواه أحمد وأبو داود
وترجمه بحكم الجاسوس الذمي.
3- وعن علي رضي اللّه
عنه قال: "بعثني رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد بن
الأسود قال
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن
بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من
كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب
فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي
بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم
ببعض أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يا حاطب ما هذا
قال يا رسول اللّه لا تعجل علي إني كنت امرأ
ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك
من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها
أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب
فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي وما
فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر
بعد الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم لقد صدقكم
فقال عمر يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا
المنافق فقال
إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل اللّه أن يكون
قد
ج / 8 ص -8-
اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم".
متفق عليه.
حديث فرات بن حيان في
إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج
بحديثه وهو يرويه عن سفيان الثوري ولكنه قد
روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري
البصري وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على
الاحتجاج بحديثه. ورواه عن الثوري أيضًا
عباد بن موسى الأزرق العباداني وكان ثقة.
قوله: "أتى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم عين" في رواية
لمسلم أن ذلك كان في غزوة هوازن وسمي الجاسوس
عينًا لأن عمله بعينه أو لشدة اهتمامه بالرؤية
واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينًا.
قوله: "فنفلني" في
رواية البخاري فنفله بالالتفات من ضمير
المتكلم إلى الغيبة. وسبب قتله أنه اطلع على
عورة المسلمين كما وقع عند مسلم من رواية
عكرمة بلفظ: فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع
القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر إذ
خرج يشتد. وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج
من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس أدركوه
فإنه عين.
وفي الحديث
دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس قال النووي:
فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق
وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي
ينتقض عهده بذلك وعند الشافعية خلاف أما لو
شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقًا. وحديث
فرات المذكور في الباب يدل على جواز قتل
الجاسوس الذمي وذهبت الهادوية إلى أنه يقتل
جاسوس الكفار والبغاة إذا كان قد قتل أو حصل
القتل بسببه وكانت الحرب قائمة وإذا اختل شيء
من ذلك حبس فقط.
قوله: "وعن فرات"
بضم الفاء وراء مهملة وبعد الألف تاء مثناة
فوقية وهو عجلي سكن الكوفة وهاجر إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يزل يغزو معه
إلى أن قبض فنزل الكوفة.
قوله: "روضة خاخ"
بخاءين معجمتين منقوطتين من فوق.
قوله: "ظعينة"
بالظاء المعجمة بعدها عين مهملة وهي المرأة.
قوله: "من عقاصها"
جمع عقيصة وهي الضفيرة من شعر الرأس وتجمع
أيضًا على عقص.
قوله: "من حاطب"
بحاء مهملة وبلتعة بفتح الموحدة وسكون اللام
وفتح التاء المثناة من فوق بعدها عين مهملة.
قوله: "إنه قد شهد
بدرًا" ظاهر هذا أن العلة في ترك قتله كونه
ممن شهد بدرًا ولولا ذلك لكان مستحقًا للقتل
ففيه متمسك لمن قال أنه يقتل الجاسوس ولو كان
من المسلمين وقد روى ابن إسحاق عن محمد بن
جعفر بن الزبير عن عروة قال لما أجمع رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المسير إلى
مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم ثم
أعطاه امرأة من مزينة وذكر ابن إسحاق أن اسمها
سارة وذكر الواقدي أن اسمها كنود وفي رواية له
أخرى سارة وفي أخرى له أيضًا أم سارة. وذكر
الواقدي أن حاطبًا جعل لها عشرة دنانير على
ذلك وقيل دينارًا واحدًا.
وقيل إنها كانت مولاة
العباس قال السهيلي: كان حاطب حليفًا لعبد
اللّه بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى
واسم أبي بلتعة عمرو وقيل كان أيضًا حليفًا
لقريش وذكر يحيى بن سلام في تفسيره أن لفظ
الكتاب أما بعد يا معشر قريش فإن رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم جاءكم بجيش كالليل
يسير كالسيل
ج / 8 ص -9-
فواللّه لو جاءكم وحده لنصره اللّه وأنجز له
وعده فانظروا لأنفسكم والسلام. كذا حكاه
السهيلي وروى الواقدي بسند له مرسل إن حاطبًا
كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن
في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد
أحببت أن تكون لي عندكم يد.
قوله "وما يدريك لعل
اللّه" الخ هذه بشارة عظيمة لأهل بدر رضوان
اللّه عليهم لم تقع لغيرهم والترجي المذكور قد
صرح العلماء بأنه في كلام اللّه وكلام رسوله
للوقوع وقد وقع عند أحمد وأبي داود وابن أبي
شيبة من حديث أبي هريرة بالجزم ولفظه:
"إن اللّه اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم" وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم من حديث جابر مرفوعًا: "لن يدخل النار أحد شهد بدرًا" وقد استشكل قوله اعملوا ما شئتم فإن ظاهره أنه للإباحة وهو خلاف
عقد الشرع وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أي كل
عمل كان لكم فهو مغفور ويؤيده أنه لو كان لما
يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ولقال
فسأغفره لكم وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن
الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم خاطب به عمر منكرًا عليه ما قال في
أمر حاطب وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين
فدل على أن المراد ما سيأتي وأورده بلفظ
الماضي مبالغة في تحققه وقيل إن صيغة الأمر في
قوله اعملوا للتشريف والتكريم فالمراد عدم
المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك وأنهم خصوا
بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت
محو ذنوبهم السالفة وتأهلوا لأن يغفر اللّه
لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت أي كل ما عملتموه
بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور وقيل
إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة وقيل
هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم وفيه نظر ظاهر
لما وقع في البخاري وغيره في قصة قدامة بن
مظعون من شربه الخمر في أيام عمر وأن عمر حده
ويؤيد القول بأن المراد بالحديث أن ذنوبهم إذا
وقعت تكون مغفورة ما ذكره البخاري في باب
استتابة المرتدين عن أبي عبد الرحمن السلمي
التابعي الكبير أنه قال لحبان بن عطية قد علمت
الذي جرأ صاحبك على الدماء يعني عليًا كرم
اللّه وجهه.
قال في الفتح:
واتفقوا أن البشارة المذكورة فيما يتعلق
بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة
الحدود وغيرها اهـ.
باب أن عبد
الكافر إذا خرج إلينا مسلمًا فهو حر
1- عن ابن عباس قال:
"أعتق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين".رواه
أحمد.
2- وعن الشعبي عن رجل من
ثقيف قال: "سألنا رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان
مملوكنا فأسلم قبلنا فقال لا هو طليق اللّه ثم طليق رسوله". رواه أبو داود.
ج / 8 ص -10-
3- وعن علي قال: "خرج عبدان إلى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعني يوم
الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا
واللّه يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك
وإنما خرجوا هربًا من الرق فقال ناس صدقوا يا
رسول اللّه ردهم إليهم فغضب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث اللّه عليكم من يضرب رقابكم
على هذا وأبى أن يردهم وقال هم عتقاء اللّه عز
وجل". رواه أبو داود.
حديث ابن عباس أخرجه
أيضًا ابن أبي شيبة وأخرجه أيضًا ابن سعد من
وجه آخر مرسلا وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن
الطائف مذكورة في صحيح البخاري في غزوة الطائف
وحديث علي أخرجه أيضًا الترمذي وقال هذا حديث
حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من
حديث ربعي عن علي وقال أبو بكر البزار: لا
نعلمه يروى عن علي بن أبي طالب إلا من حديث
ربعي.
قوله: "من عبيد
المشركين" منهم أبو بكرة والمنبعث وكان
عبدًا لعثمان بن عامر بن معتب ومنهم مرزوق زوج
سمية والدة زياد والأزرق وكان لكلدة الثقفي.
وورد أن وكان لعبيد اللّه بن ربيعة ويحنس وكان
لابن مالك الثقفي وإبراهيم بن جارية وكان
لخرشة الثقفي ويقال كان معهم زياد بن سمية
والصحيح أنه لم يخرج حينئذ لصغره.
وقد روي أنهم ثلاثة
وعشرون عبدًا من الطائف من جملتهم أبو بكرة
كما ذكره البخاري في المغازي وفيه رد على من
زعم أن أبا بكرة لم ينزل من سور الطائف غيره
وهو شيء قاله موسى بن عقبة في مغازيه وتبعه
الحاكم وجمع بعضهم بين القولين أن أبا بكرة
نزل وحده أولًا ثم نزل الباقون بعده وهو جمع
حسن.
قوله: "إن يرد إلينا
أبا بكرة" اسمه نفيع بن الحارث وكان مولى
الحارث بن كلدة الثقفي فتدلى من حصن الطائف
ببكرة فكني أبا بكرة لذلك أخرج ذلك الطبراني
بإسناد لا بأس به من حديث أبي بكرة.
قوله: "عبدان" جمع
عبد وفي أحاديث الباب دليل على أن من هرب من
عبيد الكفار إلى المسلمين صار حرًا لقوله صلى
اللّه عليه وآله وسلم
"هم عتقاء اللّه" ولكن ينبغي للإمام أن ينجز عتقتهم كما وقع منه صلى اللّه عليه وآله
وسلم في عبيد الطائف كما في حديث ابن عباس
المذكور في الباب.
باب أن الحربي
إذا أسلم قبل القدرة عليه أحرز أمواله
1- قد سبق قوله عليه
السلام: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
2- وعن صخر بن عيلة:
"أن قومًا من بني سليم فروا عن أرضهم حين
جاء الإسلام فأخذتها فأسلموا فخاصموني فيها
إلى النبي
ج / 8 ص -11-
صلى اللّه عليه وآله وسلم فردها عليهم وقال
إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله". رواه أحمد وأبو داود بمعناه وقال فيه فقال
"يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم".
3- وعن أبي سعيد الأعشم
قال:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في العبد إذا جاء فأسلم ثم
جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم
جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به".
رواه أحمد في رواية أبي طالب وقال اذهب إليه
قلت وهو مرسل.
الحديث الذي أشار إليه
المصنف بقوله قد سبق الخ تقدم في أول كتاب
الصلاة. وحديث صخر بن عيلة قال الحافظ في
بلوغ المرام: رجاله موثقون اهـ وعيلة بفتح
العين المهملة وسكون التحتانية وهي أم صخر.
وفي الباب عن أبي هريرة
عند أبي يعلى مرفوعًا: "من أسلم على شيء فهو له" وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي عن أبي هريرة قال البيهقي:
وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا
وفي الباب أيضًا عن عروة مرسلا عند سعيد بن
منصور برجال ثقات أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد
بن سعية فأحرز لهما إسلامهما أموالهما
وأولادهما الصغار.
وأخرج ابن إسحاق في
المغازي عن شيخ من بني قريظة أنه قال له هل
تدري كيف كان إسلام ثعلبة وأسيد ونفر من هذيل
لم يكونوا من بني قريظة والنضير كانوا فوق ذلك
أنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له
ابن الهيبان فأقام عندنا فواللّه ما رأينا
رجلا قط لا يصلي الخمس خيرًا منه فقدم علينا
قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بسنين وكان يقول أنه يتوقع خروج نبي قد أظل
زمانه فذكر الحديث فلما كانت الليلة التي
افتتح فيه قريظة قال أولئك الفتية الثلاثة يا
معشر يهود واللّه إنه للرجل الذي كان ذكر لكم
ابن الهيبان قالوا ما هو إياه قال بلى واللّه
إنه لهو قال فنزلوا وأسلموا وكانوا شبابًا
فخلوا أموالهم وأولادهم وأهليهم في الحصن عند
المشركين فلما فتح رد ذلك عليهم وأخرجه أيضًا
البيهقي وأسيد المذكور بفتح الهمزة وكسر السين
وسعية بفتح السين المهملة وإسكان العين
المهملة أيضًا وفتح التحتية. وقيل بالنون
بدل الياء قال النووي: وهو تصحيف من بعض
الفقهاء والهيبان بفتح الهاء والياء المثناة
من تحت والباء الموحدة كذا ضبطه المطرزي في
المغرب. وفي القاموس الهيبان بالتشديد وقد
يخفف صحابي أسلم.
قوله: "دماءهم
وأموالهم" الظاهر أن الأموال تشمل المنقول
وغير المنقول فيكون المسلم طوعًا أحق بجميع
أمواله وقد صرح بدخول الأرض في حديث صخر
المذكور في الباب لقوله فيه "بأرضه وماله"
وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعًا
كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين أن يكون
إسلامه في دار الإسلام أو دار الكفر على ظاهر
الدليل.
وقال بعض الحنفية: إن
ج / 8 ص -12-
الحربي إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى
غلب المسلمون عليها فهو أحق بجميع ماله إلا
أرضه وعقاره فإنها تكون فيئًا للمسلمين وقد
خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور وذهبت
الهادوية إلى مثل ما ذهب إليه بعض الحنفية إذا
كان إسلامه في دار الحرب قالوا وإن كان إسلامه
في دار الإسلام كانت أمواله جميعها فيئًا من
غير فرق بين المنقول وغيره إلا أطفاله فإنه لا
يجوز سبيهم ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أنه
صلى اللّه عليه وآله وسلم أقر عقيلا على تصرفه
فيما كان لأخويه علي وجعفر وللنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم من الدور والرباع بالبيع وغيره
ولم يغير ذلك ولا انتزعها ممن هي في يده لما
ظفر فكان ذلك دليلا على تقرير من بيده دار أو
أرض إذا أسلم وهي في يده بطريق الأولى وقد بوب
البخاري على قصة عقيل هذه فقال باب إذا أسلم
قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم.
قال القرطبي: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم منَّ على أهل
مكة بأموالهم ودورهم قبل أن يسلموا فتقرير من
أسلم يكون بطريق الأولى.
قوله: "فأخذتها"
الآخذ هو صخر المذكور.
قوله: "قضى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في العبد"
الخ فيه دليل على أن من أسلم من عبيد الكفار
قبل إسلامهم صار حرًا بمجرد إسلامه لما تقدم
في الباب الأول أن العبيد الذين يفرون من دار
الحرب إلى دار الإسلام عتقاء اللّه ومن أسلم
بعد إسلام سيده كان مملوكًا لسيده لأن إسلام
السيد قد أحرز ماله ودمه والعبد من جملة
أمواله.
ـ والحديث ـ
المذكور وإن كان مرسلا إلا أنه يدل على معناه
الحديث المتفق عليه الذي أشار إليه المصنف
لقوله فيه
"فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"
فلو حكم بحرية عبد الرجل المسلم إذا أسلم لكان
بعض ماله خارجًا عن العصمة وهكذا يدل على هذا
المعنى حديث صخر المذكور وأحاديث الباب الأول
تدل على ما دل عليه حديث أبي سعيد المذكور من
أن عبد الحربي إذا أسلم صار حرًا بإسلامه فقد
دل على جميع ما اشتمل عليه من التفصيل غيره من
الأحاديث فلا يضر إرساله.
باب حكم الأرضين
المغنومة
1- عن أبي هريرة: "أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها
وأيما قرية عصت اللّه ورسوله فإن خمسها للّه
ورسوله ثم هي لكم".
رواه أحمد ومسلم.
2- وعن أسلم مولى عمر
قال: "قال عمر: أما والذي نفسي بيده
لولا أن أترك آخر الناس بيانًا ليس لهم من شيء
ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيبر ولكن
أتركها خزانة لهم يقتسمونها". رواه
البخاري.
ج / 8 ص -13-
3- وفي لفظ: "قال لئن عشت إلى هذا العام
المقبل لا تفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم
كما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
خيبر". رواه أحمد.
4- وعن بشير بن يسار:
"عن رجال من أصحاب النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أدركهم يذكرون أن رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم حين ظهر على خيبر قسمها
على ستة وثلاثين سهمًا جمع كل سهم مائة سهم
فجعل نصف ذلك كله للمسلمين فكان في ذلك النصف
سهام المسلمين وسهم رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم معها وجعل النصف الآخر لمن ينزل به
من الوفود والأمور ونوائب الناس". رواه
أحمد وأبو داود.
5- وعن بشير بن يسار:
"عن سهل بن أبي حثمة قال: قسم رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم خيبر نصفين نصفًا
لنوائبه وحوائجه ونصفًا بين المسلمين قسمها
على ثمانية عشر سهمًا". رواه أبو داود.
6- وعن سعيد بن
المسيب: "أن رسول اللّه صلى اللَّه عليه
وآله وسلم افتتح بعض خيبر عنوة". رواه أبو
داود.
7- وعن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مديها
ودينارها ومنعت مصر أردبها ودينارها وعدتم من
حيث بدأتم وعدتم من حيث بدأتم وعدتم من حيث
بدأتم شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
حديث بشير بن يسار سكت
عنه أبو داود والمنذري وأخرجه أيضًا أبو داود
عنه من طريق أخرى أنه سمع نفرًا من أصحاب
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قالوا فذكر
هذا الحديث قال فكان النصف سهام المسلمين وسهم
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعزل
النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب
وأخرجه أبو داود أيضًا من طريق ثالثة عنه عن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلا
واسطة بأطول من اللفظين المذكورين سابقًا وهو
مرسل فإنه لم يدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم ولا أدرك فتح خيبر.
وحديث بشير أيضًا الذي
رواه من طريق سهل سكت عنه أبو داود
والمنذري.
قوله: "أيما قرية"
الخ فيه التصريح بأن الأرض المغنومة تكون
للغانمين قال الخطابي: فيه دليل على أن أرض
العنوة حكمها حكم سائر الأموال التي تغنم وأن
خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين.
قوله: "ببانًا"
بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة وبعد الألف
نون كذا للأكثر قال أبو عبيد بعد أن أخرجه عن
ابن مهدي قال ابن مهدي يعني شيئًا واحدًا قال
الخطابي: ولا أحسب
ج / 8 ص -14-
هذه اللفظة عربية ولم أسمعها في غير هذا
الحديث.
وقال الأزهري:
بل هي لغة صحيحة لكنها غير فاشية هي لغة معد
وقد صححها صاحب العين وقال ضوعفت حروفه يقال
هم على ببان واحد وقال الطبري: الببان
المعدم الذي لا شيء له فالمعنى لولا أني
أتركهم فقراء معدمين لا شيء لهم أي متساوين في
الفقر وقال أبو سعيد الضرير فيما تعقبه على
أبي عبيد صوابه بيانًا بالموحدة ثم تحتانية
بدل الموحدة الثانية أي شيئًا واحدًا فإنهم
قالوا لمن لا يعرف هو هيان بن بيان اهـ.
وقد وقع من عمر ذكر هذه
الكلمة في قصة أخرى وهو أنه كان يفضل في
القسمة فقال لئن عشت لأجعلن للناس ببانًا
واحدًا ذكره الجوهري وهو مما يؤيد تفسيره
بالتسوية.
قوله: "يقتسمونها"
أي يقتسمون خراجها.
قوله: "كما قسم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيبر" فيه
تصريح بما وقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إلا أنه عارض ذلك عنده حسن النظر لآخر
المسلمين فيما يتعلق بالأرض خاصة فوقفها على
المسلمين وفرض عليها الخراج الذي يجمع
مصلحتهم.
وروى أبو عبيد في كتاب
الأموال من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب
عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد فشاور في ذلك
فقال لعلي رضي اللّه عنه دعه يكون مادة
للمسلمين فتركه وأخرج أيضًا من طريق عبد اللّه
بن أبي قيس أن عمر أراد قسمة الأرض فقال له
معاذ إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي
القوم يبيدون فيصير إلى الرجل الواحد أو
المرأة ويأتي قوم يسدون من الإسلام مسدًا ولا
يجدون شيئًا فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم
فاقتضى رأي عمر تأخير قسم الأرض وضرب الخراج
عليها للغانمين ولمن يجيء بعدهم وقد اختلف في
الأرض التي يفتتحها المسلمون عنوة.
قال ابن المنذر:
ذهب الشافعي إلى أن عمر استطاب أنفس الغانمين
الذين افتتحوا أرض السواد وإن الحكم في أرض
العنوة أن تقسم كما قسم النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم خيبر وتعقب بأنه مخالف لتعليل عمر
بقوله لولا أن أترك آخر الناس الخ لكن يمكن أن
يقال معناه لولا أن أترك آخر الناس ما استطبت
أنفس الغانمين وأما قول عمر كما قسم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيبر فإنه
يريد بعض خيبر لا جميعها كذا قال الطحاوي
وأشار بذلك إلى ما في ذلك حديث بشير بن يسار
المذكور في الباب أن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم عزل نصف خيبر لنوائبه وما بنزل به
وقسم النصف الباقي بين المسلمين والمراد بالذي
عزله ما افتتح صلحًا وبالذي قسمه ما افتتح
عنوة وقد اختلف في الأرض الذي أبقاها عمر بغير
قسمة فذهب الجمهور إلى أنه وقفها لنوائب
المسلمين وأجرى فيها الخراج ومنع بيعها وقال
بعض الكوفيين: أبقاها ملكًا لمن كان بها من
الكفرة وضرب عليهم الخراج قال في الفتح: وقد
اشتد نكير كثير من فقهاء أهل الحديث لهذه
المقالة انتهى.
وقد ذهب مالك
إلى أن الأرض المغنومة لا تقسم بل تكون وقفًا
يقسم خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق
المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من
سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من
الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فإن له أن
يقسم الأرض وحكى هذا القول ابن القيم عن جمهور
الصحابة ورجحه وقال إنه الذي كان عليه سيرة
الخلفاء الراشدين قال ونازع في
ج / 8 ص -15-
ذلك بلال وأصحابه وطلبوا أن يقسم بينهم
الأرض التي فتحوها فقال عمر هذا غير المال
ولكن أحسبه فيئًا يجري عليكم وعلى المسلمين
فقال بلال وأصحابه اقسمها بيننا فقال عمر
اللّهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول ومنهم
عين تطرف ثم وافق سائر الصحابة عمر قال ولا
يصح أن يقال أنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم
فإنهم قد نازعوه فيها وهو بأبى عليهم ثم قال
ووافق عمر جمهور الأئمة وإن اختلفوا في كيفية
إبقائها بلا قسمة فظاهر مذهب أحمد وأكثر نصوصه
على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير
شهوة فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها
وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها
وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله
فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فعل
الأقسام الثلاثة فإنه قسم أرض قريظة والنضير
وترك قسمة مكة وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما
ينوبه من مصالح المسلمين وفي رواية لأحمد أن
الأرض تصير وقفًا بنفس الظهور والاستيلاء من
غير وقف من الإمام وله رواية ثالثة أن الإمام
يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول
إلى أن يتركوا حقهم منها قال وهو مذهب الشافعي
بناء من الشافعي على أن آية الأنفال وآية
الحشر متواردتان وأن الجميع يسمى فيئًا وغنيمة
ولكنه يرد عليه أن ظاهر سوق آية الحشر أن
الفيء غير الغنيمة وأن له مصرفًا عامًا ولذلك
قال عمر إنها عمت الناس بقوله
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ولا يتأتى حصة لمن جاء من بعدهم إلا إذا بقيت الأرض محبسة
للمسلمين إذ لو استحقها المباشرون للقتال
وقسمت بينهم توارثها ورثة أولئك فكانت القرية
والبلد تصير إلى امرأة واحدة أو صبي صغير
وذهبت الحنفية إلى أن الإمام مخير بين القسمة
بين الغانمين وأن يقرها لأربابها على خراج أو
ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين وعند الهادوية
الإمام مخير بين وجوه أربعة معروفة في
كتبهم.
قوله: "افتتح بعض
خيبر عنوة" العنوة بفتح العين المهملة وسكون
النون القهر.
قوله: "وقفيزها"
القفيز مكيال ثمانية مكاكيك.
قوله: "ومنعت العراق
مديها" المدي مائة مد واثنان وتسعون مدًا
وهو صاع أهل العراق.
قوله: "ومنعت مصر
أردبها" بالراء والدال المهملتين بعدهما
موحدة قال في القاموس: الأردب كقرشب مكيال
ضخم بمصر ويضم أربعة وعشرون صاعًا انتهى.
قوله: "وعدتم من حيث
بدأتم" أي رجعتم إلى الكفر بعد الإسلام وهذا
الحديث من أعلام النبوة لإخباره صلى اللّه
عليه وآله وسلم بما سيكون من ملك المسلمين هذه
الأقاليم ووضعهم الجزية والخراج ثم بطلان ذلك
إما بتغلبهم وهو أصح التأويلين وفي البخاري ما
يدل عليه. ولفظ المنع في الحديث يرشد إلى
ذلك وإما بإسلامهم ووجه استدلال المصنف بهذا
الحديث على ما ترجم الباب به من حكم الأرضين
المغنومة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قد علم أن الصحابة يضعون الخراج على الأرض ولم
يرشدهم إلى خلاف ذلك بل قرره وحكاه لهم.
ج / 8 ص -16-
باب ما جاء في فتح مكة هل هو عنوة أو صلح
1- عن أبي هريرة أنه ذكر
فتح مكة فقال: "أقبل رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فدخل مكة فبعث الزبير على إحدى
المجنبتين وبعث خالدًا على المجنبة الأخرى
وبعث أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي
ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في
كتيبته قال وقد وبشت قريش أوباشها وقالوا نقدم
هؤلاء فإن كان لهم شيء لنا معهم وإن أصيبوا
أعطينا الذي سألنا قال أبو هريرة ففطن فقال لي يا أبا هريرة
قلت لبيك يا رسول اللّه قال
اهتف لي بالأنصار ولا يأتيني إلا أنصاري فهتف بهم فجاؤوا فطافوا برسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقال
ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ثم قال
بيديه إحداهما على الأخرى احصدوهم حصدًا حتى
توافوني بالصفا
قال أبو هريرة فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن
يقتل منهم ما شاء إلا قتله وما أحد منهم يوجه
إلينا شيئًا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول
اللّه أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فأغلق الناس أبوابهم فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس
وهو آخذ بسية القوس فأتى في طوافه على صنم إلى
جنب البيت يعبدونه فجعل يطعن به في عينه ويقول
جاء الحق وزهق الباطل
ثم أتى الصفا فعلا حيث ينظر إلى البيت فرفع
يده فجعل يذكر اللّه بما شاء أن يذكره ويدعوه
والأنصار تحته قال يقول بعضهم لبعض أما الرجل
فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قال أبو
هريرة وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا
فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى يقضي فلما قضي
الوحي رفع رأسه ثم قال يا معشر الأنصار أقلتم
أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة
بعشيرته قالوا قلنا ذلك يا رسول اللّه قال فما
اسمي إذن كلا إني عبد اللّه ورسوله هاجرت إلى
اللّه وإليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم
فأقبلوا إليه يبكون ويقولون واللّه ما قلنا
الذي قلنا إلا الضن برسول اللّه فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: فإن اللّه ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم". رواه أحمد ومسلم. 2- وعن أم هانئ قالت: "ذهبت إلى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عام الفتح
ج / 8 ص -17-
فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب فسلمت
عليه فقال
من هذه فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال
مرحبا يا أم هانئ
فلما فرغ من غسله قام يصلي ثمان ركعات ملتحفًا
في ثوب واحد فلما انصرف قلت يا رسول اللّه زعم
ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا قد
أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ
قالت وذلك ضحى".
متفق عليه.
وفي لفظ لأحمد:
"قالت لما كان يوم فتح مكة أجرت رجلين من
أحمائي فأدخلتهمابيتًا وأغلقت عليهما بابًا
فجاء ابن أمي علي فتفلت عليهما بالسيف"
وذكرت حديث أمانهما.
قوله: "على إحدى
المجنبتين" بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون
المشددة قال في القاموس: والمجنبة بفتح
النون المقدمة والمجنبتان بالكسر الميمنة
والميسرة انتهى. فالمراد هنا أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بعث الزبير إما على الميسرة أو
على الميمنة وخالدًا على الأخرى.
قوله: "على الحسر"
بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة ثم
راء جمع حاسر وهو من لا سلاح معه.
قوله: "في كتيبته"
هي الجيش.
قوله: "وبشت قريش
أوباشها" الأوباش بموحدة ومعجمة الأخلاط
والسفلة كما في القاموس والمراد أن قريشًا
جمعت السفلة منها.
قوله: "اهتف لي
بالأنصار" أي اصرخ بهم قال في القاموس:
هتفت الحمامة تهتف صاتت وبه هتافا بالضم
صاح.
قوله: "ثم قال بيديه
إحداهما على الأخرى" فيه استعارة القول
للفعل والمراد أنه أشار بيديه إشارة تدل على
الأمر منه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتل من
يعرض لهم من أوباش قريش. وقوله "احصدوهم
حصدًا" تفسير منه صلى اللّه عليه وآله وسلم
لما دلت عليه الإشارة بالقول هكذا وقع عند
المصنف فيما رأيناه من النسخ بدون لفظ أي
المشعرة بأن ما بعدها تفسير للإشارة من الراوي
ولفظ مسلم أي احصدوهم حصدًا.
قوله: "أبيدت خضراء
قريش" في رواية: "أبيحت" وخضراء قريش
بالخاء والضاد المعجمتين بعدهما راء قال في
القاموس: والخضراء سواد القوم ومعظمهم.
قوله: "لا قريش بعد
اليوم" يجوز في قريش الفتح لكنه يحتاج إلى
تأويل أي لا أحد من قريش لأنه لا يفتح بعد لا
إلا النكرة والرفع أيضًا على أنها بمعنى ليس
وهو شاذ حتى قيل أنه لم يرد إلا في الشعر.
قوله: "بسية قوسه"
سية القوس ما انعطف من الطرفين لأنهما مستويان
وهي بكسر السين المهملة وفتح الياء التحتية
مخففة.
قوله: "على صنم إلى
جنب البيت" في رواية البخاري أن الأصنام
كانت ثلاثمائة وستين.
قوله: "يطعن" بضم
العين وبفتحها والأول أشهر.
قوله: "ويقول جاء
الحق" زاد في حديث ابن عمر عند الفاكهي
وصححه ابن حبان فيسقط الصنم ولا يمسه وللفاكهي
والطبراني من حديث ابن عباس فلم يبق وثن
استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة
في
ج / 8 ص -18-
الأرض وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص
وإنما فعل ذلك صلى اللّه عليه وآله وسلم لها
إذلالا لها ولعابديها وإظهارًا لعدم نفعها
لأنها إذا عجزت أن تدفع عن نفسها فهي عن الدفع
عن غيرها أعجز.
قوله: "الضن" بكسر
الضاد المعجمة مشددة بعدها نون أي الشح والبخل
أن يشاركهم أحد في رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم.
قوله: "يصدقانكم
ويعذرانكم" فيه جواز الجمع بين ضمير اللّه
ورسوله وكذلك وقع الجمع بينهما في حديث النهي
عن لحوم الحمر الأهلية بلفظ:
"إن اللّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر
الأهلية"
فلا بد من حمل النهي الواقع في حديث الخطيب
الذي خطب بحضرته صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال:
"من يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد
غوى"
الحديث وقد تقدم على من اعتقد التسوية كما
قدمنا ذلك في موضعه.
قوله: "وعن أم
هانئ" قد تقدم الكلام على أطراف من هذا
الحديث في صلاة الضحى.
قوله: "زعم ابن
أمي" في رواية للبخاري في أول كتاب الصلاة
زعم ابن أبي والكل صحيح فإنه شقيقها وزعم هنا
بمعنى ادعى.
قوله: "أنه قاتل
رجلا" فيه إطلاق اسم الفاعل على من عزم على
التلبس بالفعل.
قوله: "فلان بن
هبيرة" بالنصب على البدل أو الرفع على
الحذف. وفي رواية أحمد المذكورة رجلين من
أحمائي وقد أخرجها الطبراني قال أبو العباس بن
سريج هما جعدة بن هبيرة ورجل آخر من بني مخزوم
وكانا فيمن قاتل خالد بن الوليد ولم يقبلا
الأمان فأجارتهما أم هانئ وكانا من أحمائها
وقال ابن الجوزي: إن كان ابن هبيرة منهما
فهو جعدة انتهى.
قال الحافظ:
وجعدة معدود فيمن له رواية ولم يصح له صحبة
وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين البخاري
وابن حبان وغيرهما فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله
في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلا يحتاج
إلى الأمان انتهى. وهبيرة المذكور هو زوج أم
هانئ فلو كان الذي أمنته أم هانئ هو ابنها منه
لم يهم علي بقتله لأنها كانت قد أسلمت وهرب
زوجها وترك ولدها عندها وجوز ابن عبد البر أن
يكون ابنًا لهبيرة من غيرها مع نقله عن أهل
النسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولدًا من غير أم
هانئ. وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن
اللذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام
وزهير بن أبي أمية المخزوميان وروى الأزرقي
بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما
الحارث بن هشام وعبد اللّه بن أبي ربيعة وحكى
بعضهم أنهما الحارث بن هشام وهبيرة بن أبي وهب
وليس بشيء لأن هبيرة هرب بعد فتح مكة إلى
نجران فلم يزل بها مشركًا حتى مات كذا جزم به
ابن إسحاق وغيره فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم
هانئ وقال الكرماني قال الزبير بن بكار فلان
بن هبيرة هو الحارث بن هشام وقد تصرف في كلام
الزبير والواقع عند الزبير في هذه القصة موضع
فلان ابن هبيرة الحارث بن هشام.
قال الحافظ:
والذي يظهر لي أن في رواية الحديث حرفًا كان
فيه فلان ابن عم ابن هبيرة فسقط لفظ عم أو كان
فيه فلان قريب ابن هبيرة فتغير لفظ قريب إلى
لفظ ابن وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أبي
أمية وعبد اللّه بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه
ابن عم هبيرة وقريبه لكون الجميع من بني
مخزوم.
وقد تمسك بحديث أبي
هريرة وحديث أم هانئ من قال أن مكة فتحت عنوة
ومحل الحجة من الأول أمره صلى اللّه عليه وآله
وسلم للأنصار بالقتل لأوباش قريش
ج / 8 ص -19-
ووقوع القتل منهم ومحل الحجة من الثاني ما
وقع من علي من إرادة قتل من أجارته أم هانئ
ولو كانت مكة مفتوحة صلحًا لم يقع منه ذلك
وسيأتي ذكر الخلاف وما هو الحق في ذلك.
3- وعن هشام بن عروة عن
أبيه قال: "لما سار رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشًا خرج
أبو سفيان بن حرب وحكيم ابن حزام وبديل بن
ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم حتى أتوا مر الظهران فرآهم ناس
من حرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فأخذوهم وأتوا بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فأسلم أبو سفيان فلما سار قال
للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى
ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل
تمر كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان حتى أقبلت
كتيبة لم ير مثلها قال: يا عباس من هذه
قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة ومعه
الراية فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان
اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال
أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار ثم جاءت
كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وراية النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم مع الزبير بن العوام فلما مر
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أبي
سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة
قال: ما قال قال: قال كذا وكذا فقال:
كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم اللّه فيه الكعبة
ويوم تكسى فيه الكعبة وأمر رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن تركز رايته بالحجون
قال عروة: فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم
قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام:
يا أبا عبد اللّه ههنا أمرك رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن تركز الراية قال:
نعم قال: وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من
أعلى مكة من كداء ودخل النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم من كدى". رواه البخاري.
قوله: "عن هشام بن
عروة عن أبيه قال لما سار" الخ هكذا أورده
البخاري مرسلا قال في الفتح: ولم أره في شيء
من الطرق موصولا عن عروة ولكن آخر الحديث
موصول لقول عروة فيه فأخبرني نافع بن جبير بن
مطعم قال سمعت العباس الخ.
قوله: "فبلغ ذلك
قريشًا" يحتمل أن يكون ذلك بطريق الظن لا أن
مبلغًا بلغهم حقيقة ذلك.
قوله: "حتى أتوا مر
الظهران" بفتح الميم وتشديد الراء مكان
معروف والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو
والظهران بفتح المعجمة وسكون الهاء بلفظ تثنية
ظهر.
قوله: "فرآهم ناس من
حرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فأخذوهم"
ج / 8 ص -20-
الخ في رواية ابن إسحاق فلما نزل رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم مر الظهران قال
العباس واللّه لئن دخل رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه
فيستأمنوه إنه لهلاك قريش قال فجلست على بغلة
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى جئت
الأراك فقلت لعلي أجد بعض الحطابة أو ذا حاجة
يأتي مكة فيخبرهم إذ سمعت كلام أبا سفيان
وبديل بن ورقاء قال فعرفت صوته فقلت يا أبا
حنظلة قال فعرف صوتي فقال أبو الفضل قلت نعم
قال ما الحيلة قلت فأركب في عجز هذه البغلة
حتى آتي بك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فأستأمنه لك قال فركب خلفه ورجع صاحباه
وهذا مخالف لما في حديث الباب أنهم أخذوهم.
وفي رواية ابن عائذ:
فدخل بديل وحكيم على رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فأسلما.
قال في الفتح:
فيحمل قوله ورجع صاحباه أي بعد أن أسلما
واستمر أبو سفيان عند العباس لأمر رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم له أن يحبسه حتى يرى
العساكر ويحتمل أن يكونا رجعا لما التقى
العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضًا وفي
مغازي موسى بن عقبة فلقيهم العباس فأجارهم
وأدخلهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فأسلم بديل وحكيم وتأخر أبو سفيان
بإسلامه إلى الصبح ويجمع بين الروايات أن
الحرس أخذوهم فلما رأوا أبا سفيان مع العباس
تركوه معه.
قوله: "احبس أبا
سفيان" في رواية موسى بن عقبة أن العباس قال
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إني لا
آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر فاحبسه حتى يرى
جنود اللّه ففعل فقال أبو سفيان أغدرًا يا بني
هاشم قال له العباس لا ولكن لي إليك حاجة
فتصبح فتنظر جنود اللّه وما أعد اللّه
للمشركين فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى
أصبحوا.
قوله: "عند خطم
الجبل" في رواية النسفي والقابسي بفتح الخاء
المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة أي
أنف الجبل وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل
المغازي وفي رواية الأكثر بفتح المهملة من
اللفظة الأولى وبالخاء المعجمة وسكون
التحتانية من الثانية أي ازدحامها وإنما حبسه
هناك لكونه كان مضيقًا ليرى الجميع ولا تفوته
رؤية أحد منهم.
قوله: "كتيبة"
بوزن عظيمة وهي القطعة من الجيش من الكتب وهو
الجمع.
قوله: "ومعه
الراية" أي راية الأنصار وكانت راية
المهاجرين مع الزبير كما هو مذكور في آخر
الحديث.
قوله: "يوم
الملحمة" بالحاء المهملة أي يوم حرب لا يوجد
منه مخلص أو يوم القتل يقال لحم فلان فلانًا
إذا قتله.
قوله: "يوم
الذمار" بكسر المعجمة وتخفيف الميم أي
الهلاك قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون
له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم وقيل المراد هذا
يوم الغضب للحريم والأهل وقيل المراد هذا يوم
يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني فيه
مكروه.
قوله: "وهي أقل
الكتائب" أي أقلها عددًا لأن عدد المهاجرين
كان أقل من عدد غيرهم من القبائل. وقال
القاضي عياض: وقع للجميع بالقاف ووقع في
الجمع للحميدي أجل بالجيم.
قوله: "كذب سعد"
فيه إطلاق الكذب على الأخبار بغير ما سيقع ولو
قاله القائل بناء على ظنه وقوة القرينة
والخلاف في ماهية الكذب معروف.
قوله: "يعظم اللّه
فيه الكعبة" وهذا إشارة إلى ما وقع من إظهار
الإسلام وأذان بلال على ظهر الكعبة وإزالة
الأصنام عنها ومحو ما فيها من الصور وغير
ذلك.
قوله: "ويوم تكسى
فيه
ج / 8 ص -21-
الكعبة" قيل إن قريشًا كانت تكسوا الكعبة
في رمضان فصادف ذلك اليوم أو المراد باليوم
الزمان أو أشار صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى
أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام.
قوله: "بالحجون"
بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة وهو مكان
معروف بالقرب من مقبرة مكة.
قوله: "فأخبرني نافع
بن جبير" لم يدرك نافع يوم الفتح ولعله سمع
العباس يقول للزبير ذلك في حجة اجتمعوا فيها
بعد أيام النبوة فإن نافعًا لا صحبة له.
قوله: "قال وأمر
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" الخ
القائل هو عروة وهو من بقية الخبر المرسل وليس
فيه من المرفوع إلا ما صرح بسماعه من نافع
وأما باقيه فيحتمل أن يكون عروة تلقاه عن أبيه
أو عن العباس فإنه أدركه وهو صغير أو جمعه من
نقل جماعة له بأسانيد مختلفة قال الحافظ:
وهو الراجح.
قوله: "من كداء"
بالمد مع فتح الكاف والآخر بضم الكاف والقصر
والأول يسمى المعلى والثاني الثنية السفلى
وهذا يخالف ما وقع في سائر الأحاديث في
البخاري وغيره أن خالدًا دخل من أسفل مكة
والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من أعلاها
وأمر الزبير أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح
حتى يأتيه وبعث خالدًا في قبائل قضاعة وسليم
وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز
رايته عند أدنى البيوت وتمام الحديث المذكور
في الباب فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان كما في
صحيح البخاري وكان على المصنف أن يذكر ذلك
لأنه يدل على ما ترجم الباب به وفي مغازي موسى
بن عقبة أنه قتل من المشركين يومئذ نحو عشرين
رجلا قتلهم أصحاب خالد وذكر ابن سعد أن عدة من
أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا.
وروى الطبراني من حديث
ابن عباس قال: "خطب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقال:
إن اللّه حرم مكة" الحديث. "فقيل له هذا خالد بن الوليد
يقتل فقال قم يا فلان فقل له فليرفع القتل
فأتاه الرجل فقال له إن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول لك
اقتل من قدرت عليه فقتل سبعين ثم اعتذر الرجل إليه فسكت" قال وقد
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر
الأمراء أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم غير أنه
كان أهدر دم نفر سماهم انتهى.
4- وعن سعد قال:
"لما كان يوم فتح مكة أمن رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر
وامرأتين وسماهم".
رواه النسائي وأبو داود.
5- وعن أبي بن كعب
قال: "لما كان يوم أحد قتل من الأنصار
ستون رجلا ومن المهاجرين ستة فقال أصحاب رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لئن كان لنا
يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم فلما
كان يوم الفتح قال رجل لا يعرف لا قريش بعد
اليوم فنادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم أمن الأسود والأبيض إلا فلانًا
وفلانًا ناس سماهم فأنزل اللّه عز وجل
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ} فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
نصبر ولا نعاقب".
ج / 8 ص -22-
رواه عبد اللّه بن أحمد في المسند وقد سبق
حديث أبي هريرة وأبي شريح إلا أن فيهما: "وإنما
أحلت لي ساعة من نهار"
وأكثر هذه الأحاديث تدل على أن الفتح عنوة.
6- وعن عائشة قالت:
"قلنا يا رسول اللّه ألا تبني بيتًا بمنى
يظلك قال:
لا منى مناخ لمن سبق". رواه الخمسة إلا النسائي. وقال الترمذي حديث حسن.
7- وعن علقمة بن نضلة
قال: "توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة
إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى
أسكن". رواه ابن ماجه.
حديث سعد أورده الحافظ
في التلخيص وسكت عنه وتمامه اقتلوهم وإن
وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي
جهل وعبد اللّه بن خطل من بني غنم ومقيس بن
صبابة وعبد اللّه بن سعد بن أبي السرح فأما
عبد اللّه بن خطل فأدرك وهو معلق بأستار
الكعبة فاستبق سعيد بن الحارث وعمار بن ياسر
فسبق سعيد عمارًا وكان أشب الرجلين فقتله
الحديث بطوله من طريق عمر بن عثمان بن عبد
الرحمن بن سعيد المخزومي عن جده عن أبيه وفيه
فأما ابن خطل فقتله الزبير بن العوام وجزم أبو
نعيم في المعرفة بأن الذي قتله هو أبو برزة
وذكر ابن هشام أن عبد اللّه بن خطل قتله سعيد
بن حريث وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه وذكر
ابن حبيب أنه أمر بقتل هند بنت عتبة وقريبة
بالقاف والموحدة وسارة فقتلتا وأسلمت هند وذكر
ابن إسحاق أن سارة أمنها النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم بعد أن استؤمن لها ومنهم الحويرث بن
نقيد بنون وقاف مصغرًا وهبار بن الأسود وفرتنا
بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء
المثناة الفوقية والنون وذكر أبو معشر فيمن
أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي وذكر الحاكم
ممن أهدر دمه كعب بن زهير ووحشي بن حرب وأرنب
مولاة ابن خطل وقد ذكر الحافظ في الفتح جملة
من لم يؤمنهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بأسمائهم فكانوا ثمانية رجال وست نسوة منهم من
أسلم ومنهم من قتل ومنهم من هرب.
وحديث أبي أخرجه أيضًا
الترمذي وقال حسن غريب من حديث أبي وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة في الفوائد
وابن حبان والطبراني وابن مردويه والحاكم
والبيهقي في الدلائل.
وحديث أبي هريرة وأبي
شريح تقدما في باب هل يستوفى القصاص والحدود
في الحرم أم لا من كتاب الدماء.
وحديث عائشة سكت عنه أبو
داود والمنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أم
مسيكية وذكر غيرهما أنها مكية.
وحديث علقمة بن نضلة
رجال إسناده ثقات فإن ابن ماجه قال حدثنا أبو
بكر ابن أبي شيبة قال حدثنا عيسى بن يونس عن
عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي
سليمان
ج / 8 ص -23-
عن علقمة بن نضلة فذكره وعمر بن سعيد وعثمان
بن أبي سليمان ثقتان وأما أبو بكر وعيسى فمن
رجال الصحيح.
قوله: "لنربين" أي
لنزيدن عليهم وفي حديث سعد وحديث أبي بن كعب
دليل على أن مكة فتحت صلحًا وقد اختلف أهل
العلم في ذلك فذهب الأكثر إلى أنها فتحت عنوة
وعن الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحًا
لما ذكر في حديث الباب من التأمين ولأنها لم
تقسم ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز
إخراج أهل الدور منها وحجة الأولين ما وقع من
التصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن
الوليد وتصريحه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بأنها أحلت له ساعة من نهار ونهيه عن التأسي
به في ذلك كما وقع جميع ذلك في الأحاديث
المذكورة في الباب تصريحًا وإشارة وأجابوا عن
ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد
تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم
دورهم وغنائمهم ولأن قسمة الأرض المغنومة ليست
متفقًا عليها بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن
بعدهم وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم
وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة
وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن يدعى اختصاصها
به دون بقية البلاد وهي أنها دار النسك ومتعبد
الخلق وقد جعلها اللّه تعالى حرمًا سواء
العاكف فيه والباد وأما قول النووي احتج
الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم صالحهم بمر الظهران قبل
دخول مكة ففيه نظر لأن الذي أشار إليه إن كان
مراده ما وقع من قوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كما تقدم
وكذا من دخل المسجد كما عند ابن إسحاق فإن ذلك
لا يسمى صلحًا إلا إذا التزم من أشير إليه
بذلك الكف عن القتال والذي ورد في الأحاديث
الصحيحة ظاهر في أن قريشًا لم يلتزموا ذلك
لأنهم استعدوا للحرب كما تقدم في حديث أبي
هريرة أن قريشًا وبشت أوباشًا فإن كان مراده
بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل كما قال الحافظ
قال ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول أعني
قوله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وتمسك أيضًا من قال إنه
أمنهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة
الفتح فقال العباس لعلي أجد بعض الحطابة أو
صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة يخبرهم بما كان
من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة ثم
قال في القصة بعد قصة أبي سفيان
"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل
المسجد الحرام فهو آمن"
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد وعند موسى
بن عقبة في المغازي وهي أصح ما صنف في ذلك كما
قال الحافظ وروي ذلك عن الجماعة ما نصه أن أبا
سفيان وحكيم بن حزام قالا يا رسول اللّه كنت
حقيقًا أن تجعل عدتك وكيدك لهوازن فإنهم أبعد
رحمًا وأشد عداوة فقال
"إني لأرجو أن يجمعهما اللّه لي في فتح مكة وإعزاز الإسلام بها وهزيمة
هوازن وغنيمة أموالهم"
فقال أبو سفيان وحكيم بن حزام فادع الناس
بالأمان أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها
آمنون هم قال من كف يده وأغلق داره فهو آمن
قالوا فابعثنا نؤذن بذلك فيهم قال فانطلقوا
فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل دار
حكيم فهو آمن ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودار
حكيم بأسفلها فلما توجها قال العباس يا رسول
اللّه إني لا آمن أبا سفيان أن
ج / 8 ص -24-
يرتد فرده حتى تريه جنود اللّه قال افعل
فذكر القصة وفي ذلك تصريح بعموم التأمين فكان
هذا أمانًا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة ثم
قال الشافعي كانت مكة مؤمنة ولم يكن فتحها
عنوة والأمان كالصلح وأما الذين تعرضوا للقتال
والذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو
تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها
فتحت عنوة ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في
أمره صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقتال وبين
حديث عروة المتقدم المصرح بتأمينه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لهم وكذلك حديث سعد وحديث أبي
بن كعب المذكوران بأن يكون التأمين علق على
شرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال فلما
تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم
يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك
وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه حتى قاتلهم
وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة لأن العبرة
بالأصول لا بالإتباع وبالأكثر لا بالأقل كذا
قال الحافظ في الفتح ويجاب عنه بما تقدم في
أول الباب من حديث أبي هريرة أن قريشًا وبشت
أوباشًا لها وقالوا نقدم هؤلاء الخ فإنه يدل
على أن غير الأوباش لم يرضوا بالتأمين بل وقع
التصريح في ذلك الحديث بأنهم قالوا فإن كان
للأوباش شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي
سألنا ومما احتج به الشافعي ما وقع في سنن أبي
داود بإسناد حسن عن جابر أنه سئل هل غنمتم يوم
الفتح شيئًا قال لا ويجاب بأن عدم الغنيمة لا
يستلزم عدم العنوة لجواز أن يكون النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم منَّ عليهم بالأموال كما
منَّ عليهم بالأنفس حيث قال اذهبوا فأنتم
الطلقاء.
ومن أوضح الأدلة على
أنها فتحت عنوة قوله صلى اللّه عليه وآله
وسلم: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" فإن هذا تصريح بأنها أحلت له في ذلك يسفك بها الدماء وأن حرمتها
ذهبت فيه وعادت بعده ولو كانت مفتوحة صلحًا
لما كان لذلك معنى يعتد به وقد وقع في مسند
أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
تلك الساعة استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى
العصر واحتجت طائفة منهم الماوردي إلى أن
بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد
المذكورة وقرر ذلك الحاكم في الإكليل وفيه جمع
بين الأدلة.
قال الحافظ في الفتح:
والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها
معاملة من دخلت بأمان ومنع قوم منهم السهيلي
ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على
أنها فتحت صلحًا وذكر المصنف رحمه اللّه لحديث
عائشة وحديث علقمة بن نضلة في أحاديث الباب
يشعر بأنه من القائلين بالترتب ولا وجه لذلك
لأن الإمام مخير بين قسمة الأرض المغنومة بين
الغانمين وبين إبقائها وقفًا على المسلمين
ويلزم من ذلك منع بيع دورها وإجارتها وأيضًا
قد قال بعضهم لا تدخل الأرض في حكم الأموال
لأن من مضى كانوا إن غلبوا على الكفار لم
يغنموا إلا الأموال وتنزل النار فتأكلها وتصير
الأرض لهم عمومًا كما قال تعالى
{ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية وقال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}
الآية.
ج / 8 ص -25-
باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام
وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها
1- عن سمرة بن جندب
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله".
رواه أبو داود.
2- وعن جرير بن عبد
اللّه: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس
بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل
وقال:
أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول اللّه ولم قال
لا تتراءى ناراهما".
رواه أبو داود والمنذري.
3- وعن معاوية قال:
"سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع
التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". رواه أحمد وأبو داود.
4- وعن عبد اللّه بن
السعدي: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
لا تنقطع الهجرة ما قوتل العد". رواه أحمد والنسائي.
5- وعن ابن عباس:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم
فانفروا".
رواه الجماعة إلا ابن ماجه لكن له منه:
"إذا استنفرتم فانفروا"
وروت عائشة مثله متفق عليه.
6- وعن عائشة وسئلت عن
الهجرة فقالت: "لا هجرة اليوم كان المؤمن يفر بدينه إلى اللّه ورسوله مخافة أن
يفتن فأما اليوم فقد أظهر اللّه الإسلام
والمؤمن يعبد ربه حيث شاء". رواه البخاري.
7- وعن مجاشع بن مسعود
أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقال: "هذا مجالد
جاء يبايعك على الهجرة فقال:
لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإسلام
والإيمان والجهاد".
متفق عليه.
حديث سمرة قال الذهبي
إسناده مظلم لا تقوم بمثله حجة. وحديث جرير
أخرجه أيضًا ابن ماجه ورجال إسناده ثقات ولكن
صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي
والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم ورواه
الطبراني أيضًا موصولا وحديث معاوية
ج / 8 ص -26-
أخرجه أيضًا النسائي قال الخطابي: إسناده
فيه مقال. وحديث عبد اللّه السعدي أخرجه
أيضًا ابن ماجه وابن منده والطبراني والبغوي
وابن عساكر.
قوله: "فهو مثله"
فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب
مفارقتهم والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم
لكن يشهد لصحته قوله تعالى
{فَلا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} وحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده مرفوعًا: "لا يقبل اللّه من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين".
قوله: "لا تتراءى ناراهما" يعني لا ينبغي أن يكونا بموضع
بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى
على وجه لو كانت متمكنة من الإبصار لأبصرت
الأخرى فإثبات الرؤية للنار مجاز.
قوله: "ما قوتل
العدو" فيه دليل على أن الهجرة باقية ما
بقيت المقاتلة للكفار.
قوله: "لا هجرة بعد
الفتح" أصل الهجرة هجر الوطن وأكثر ما تطلق
على من رحل من البادية إلى القرية.
قوله: "ولكن جهاد
ونية" قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك
يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله والمعنى أن
الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة
على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن
المفارقة بسبب الجهاد باقية وكذلك المفارقة
بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج
في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية
في جميع ذلك.
قوله: "إذا استنفرتم
فانفروا" قال النووي: يريد أن الخير الذي
انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد
والنية الصالحة وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى
الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا
إليه.
قال الطيبي:
إن قوله ولكن جهاد الخ معطوف على محل مدخول لا
هجرة أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار
أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم
فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان فاغتنموهما ولا
تقاعدوا عنهما بل إذا استنفرتم فانفروا.
قال الحافظ:
وليس الأمر في انقطاع الهجرة من الكفار على ما
قال انتهى.
وقد اختلف في الجمع بين
أحاديث الباب فقال الخطابي وغيره كانت الهجرة
فرضًا من أول الإسلام على من أسلم لقلة
المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما
فتح اللّه مكة دخل الناس في دين اللّه أفواجًا
فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد
والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى.
قال الحافظ:
وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من
أسلم ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار فإنهم
كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن
دينه وفيهم نزلت
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ
تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الآية وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر
على الخروج منها.
وقال الماوردي:
إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر
فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها
أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره
في الإسلام ولا يخفى ما في هذا الرأي من
المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم
الإقامة في دار الكفر.
وقال الخطابي أيضًا
إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى حضرته للقتال
معه
ج / 8 ص -27-
وتعلم شرائع الدين وقد أكد اللّه ذلك في عدة
آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم
يهاجر فقال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل انقطعت
الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب.
وقال البغوي في شرح السنة:
يحتمل الجمع بطريق أخرى فقوله لا هجرة بعد
الفتح أي من مكة إلى المدينة.
وقوله "لا تنقطع" أي
من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام
قال ويحتمل وجهًا آخر وهو أن قوله لا هجرة أي
إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث كان
بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا
بإذن فقوله لا تنقطع أي هجرة من هاجر على غير
هذا الوصف من الأعراب ونحوهم وقد أفصح ابن عمر
بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ: "انقطعت
الهجرة بعد الفتح إلى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل
الكفار"
أي ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة
منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه
ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار
كفر إن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها وأطلق ابن
التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت
واجبة وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم إلى المدينة بغير عذر
كان كافرًا.
قال الحافظ:
وهو إطلاق مردود. وقال ابن العربي: الهجرة
هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت
فرضًا في عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
واستمرت بعده لمن خاف على نفسه والتي انقطعت
أصلًا هي القصد إلى حيث كان. وقد حكى في
البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعًا
حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام
بقوته لسلطانه وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض
الهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسًا
على دار الكفر وهو قياس مع الفارق والحق عدم
وجوبها من دار الفسق لأنها دار إسلام وإلحاق
دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي
فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية
ولا لعلم الدراية. وللفقهاء في تفاصيل الدور
والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ليس هذا
محل بسطها.
أبواب الأمان
والصلح والمهادنة
باب تحريم الدم بالأمان وصحته من الواحد
1- عن أنس: "عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به".متفق عليه.
2- عن أبي سعيد قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته
ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة". رواه أحمد ومسلم.
3- وعن علي رضي اللّه
عنه: "عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم".
رواه أحمد.
ج / 8 ص -28-
4- وعن أبي هريرة: "عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
إن المرأة لتأخذ للقوم يعني تجير على المسلمين"
رواه الترمذي وقال حسن غريب.
حديث علي تقدم في أول
كتاب الدماء وقد أخرجه أبو داود والنسائي
والحاكم وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن
ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
مرفوعًا بلفظ:
"يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم
ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد
على من سواهم" ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر
مطولا. ورواه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار
مختصرًا بلفظ: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" ورواه الحاكم عن أبي هريرة مختصرًا بلفظ:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" ورواه من حديثه أيضًا مسلم بلفظ:
"إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة اللّه والملائكة
والناس أجمعين"
وهو أيضًا متفق عليه من حديث علي من طريق أخرى
بأطول من هذا.
وأخرجه البخاري من حديث
أنس وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي عبيدة
بلفظ: "يجير
على المسلمين بعضهم" وفي إسناده حجاج بن أرطأة وهو ضعيف.
وأخرجه أيضًا أحمد من حديث أبي أمامة بنحوه.
وأخرجه أيضًا الطيالسي
في مسنده من حديث عمرو ابن العاص بلفظ:
"يجير على المسلمين أدناهم" ورواه أحمد من حديث أبي هريرة وحديث أبي هريرة المذكور في الباب
رواه الترمذي من طريق يحيى بن أكثم حدثنا عبد
العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد عن الوليد
بن رباح عن أبي هريرة فذكره ثم قال وفي الباب
عن أم هانئ وهذا حديث حسن غريب انتهى. وقد
تقدم حديث أم هانئ قريبًا.
وأخرج أبو داود والنسائي
عن عائشة قالت: إن كانت المرأة لتجير على
المؤمنين فيجوز.
قوله: "يعرف به"
في رواية للبخاري ينصب وفي أخرى له يرى.
ولمسلم من حديث أبي سعيد عند أسته قال ابن
المنير: كأنه عومل بنقيض قصده لأن عادة
اللواء أن يكون على الرأس فنصبه عند السفل
زيادة في فضيحته لأن الأعين غالبًا تمتد إلى
الألوية فيكون ذلك سببًا لامتدادها للذي بدت
له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحة.
قوله: "بقدر
غدرته" قال في القاموس: والغدرة بالضم
والكسر ما أغدر من شيء.
قال القرطبي:
هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل لأنهم
كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء وللغدر راية
سوداء ليلوموا الغادر ويذموه فاقتضى الحديث
وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة
فيذمه أهل الموقف. وقد زاد مسلم في رواية
له: "يقال هذه غدرة فلان" قال في
الفتح: وأما الوفاء فلم يرد فيه شيء ولا
يبعد أن يقع كذلك وقد ثبت لواء الحمد لنبينا
صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي حديث أنس وحديث
أبي سعيد دليل على تحريم الغدر وغلظه ولا سيما
من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره
إلى خلق كثير ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته
على الوفاء
قال القاضي عياض:
المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام
ج / 8 ص -29-
إذا
غدر في عهوده لرعيته أو لمقابلته أو للإمامة
التي تقلدها والتزم القيام بها فمن حاف فيها
أو ترك الرفق فقد غدر بعهده وقيل المراد نهي
الرعية عن الغدر بالإمام فلا تخرج عليه ولا
تتعرض لمعصيته لما يترتب على ذلك من الفتنة
قال والصحيح الأول.
قال الحافظ: ولا أدري ما
المانع من حمل الخبر على أعم من ذلك. وحكي
في الفتح في موضع آخر أن الغدر حرام بالاتفاق
سواء كان في حق المسلم أو الذمي.
قوله: "يسعى بها أدناهم" أي أقلهم فدخل
كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى ودخل في
الأدنى المرأة والعبد والصبي والمجنون فأما
المرأة فيدل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث أم
هانئ المتقدم
قال ابن المنذر: أجمع أهل
العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره
عبد الملك ابن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك
عن غيره قال: إن أمر الأمان إلى الإمام
وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة
قال ابن المنذر: وفي قول
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: "يسعى
بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا
القائل.
قال في الفتح: وجاء عن
سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال هو إلى
الإمام إن أجازه جاز وإن رده رد انتهى.
وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم
يقاتل وقال أبو حنيفة إن قاتل جاز أمانه وإلا
فلا وقال سحنون إن إذن له سيده في القتال صح
أمانه وإلا فلا.
وأما الصبي فقال ابن المنذر:
أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز قال
الحافظ: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين
المراهق وغيره وكذا المميز الذي يعقل والخلاف
عن المالكية والحنابلة وأما المجنون فلا يصح
أمانه بلا خلاف كالكافر لكن
قال الأوزاعي: إن غزا الذمي
مع المسلمين فأمن أحدًا فإن شاء الإمام أمضاه
وإلا فليرده إلى مأمنه. وحكى ابن المنذر عن
الثوري أنه استثنى من الرجال الأحرار الأسير
في أرض الحرب فقال لا ينفذ أمانه وكذلك
الأجير.
باب ثبوت الأمان للكافر إذا كان رسولا
1- عن ابن مسعود قال:
"جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة
إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
لهما:
"أتشهدان أني رسول اللّه"
قالا: نشهد أن مسيلمة رسول اللّه فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"آمنت باللّه ورسوله لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما" قال عبد اللّه: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل". رواه أحمد.
2- وعن نعيم بن مسعود
الأشجعي قال: "سمعت حين قُرئ كتاب مسيلمة
الكذاب قال للرسولين: فما تقولان أنتما
قالا: نقول كما قال فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
واللّه لولا أن الرسل لا تقتل لضربت
أعناقكما".
رواه أحمد وأبو داود.
3- وعن أبي رافع مولى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"بعثتني قريش إلى
ج / 8 ص -30-
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما رأيت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقع في قلبي
الإسلام فقلت: يا رسول اللّه لا أرجع إليهم
قال:
إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع
إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع". رواه أحمد وأبو داود وقال هذا كان في ذلك الزمان اليوم لا
يصلح. ومعناه واللّه أعلم أنه كان في المرة
التي شرط لهم فيها أن يرد من جاءه منهم
مسلمًا.
حديث ابن مسعود أخرجه
أيضًا الحاكم وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي
مختصرًا.
وحديث نعيم بن مسعود سكت
عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص
وأخرج أبو نعيم في الصحابة أن مسيلمة بعث إلى
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاثة وتين
وابن شغاف الحنفي وابن النواحة فأما وتين
فأسلم وأما الآخران فشهدا أنه رسول اللّه وأن
مسيلمة من بعده فقال خذوهما فأخذا فخرجوا بهما
إلى البيت فحبسا فقال رجل هبهما لي يا رسول
اللّه ففعل. وحديث أبي رافع أخرجه أيضًا
النسائي وصححه ابن حبان.
قوله: "ابن
النواحة" بفتح النون وتشديد الواو وبعد
الألف مهملة وفي سنن أبي داود من طريق حارثة
بن مضرب أنه أتى عبد اللّه يعني ابن مسعود
فقال ما بيني وبين أحد من العرب حنة وإني مررت
بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة
فأرسل إليهم عبد اللّه فجيء بهم فاستتابهم غير
ابن النواحة قال له سمعت رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول
"لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست
برسول"
فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق ثم قال
من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا في
السوق.
قوله: "وابن أثال"
بضم الهمزة وبعدها مثلثة.
قوله: "لا أخيس"
بالخاء المعجمة والسين المهملة بينهما مثناة
تحتية أي لا أنقض العهد من خاس الشيء في
الوعاء إذا فسد.
قوله: "ولا أحبس"
بالحاء المهملة والموحدة.
ـ والحديثان ـ
الأولان يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين
من الكفار وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة
الإمام أو سائر المسلمين ـ والحديث ـ الثالث
فيه دليل على أنه يجب الوفاء بالعهد للكفار
كما يجب للمسلمين لأن الرسالة تقتضي جوابًا
يصل على يد الرسول فكان ذلك بمنزلة عقد
العهد.
باب ما يجوز من
الشروط مع الكفار ومدة المهادنة وغير ذلك
1- عن حذيفة بن اليمان
قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني
خرجت أنا وأبي الحسيل قال: فأخذنا كفار قريش
فقالوا: إنكم تريدون محمدًا فقلنا: ما
نريده وما نريد إلا المدينة قال: فأخذوا منا
عهد اللّه وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا
نقاتل معه فأتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فأخبرناه الخبر فقال:
انصرفا نفي لهم بعهدهم
ج / 8 ص -31-
ونستعين اللّه عليهم". رواه أحمد ومسلم. وتمسك به من رأى يمين المكره منعقدة.
2- وعن أنس: "أن
قريشًا صالحوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم
ومن جاء رددتموه علينا فقالوا يا رسول اللّه
أنكتب هذا قال
نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده اللّه ومن
جاء منهم سيجعل اللّه له فرجًا ومخرجًا".
رواه أحمد ومسلم.
قوله: "وأبي
الحسيل" بضم الحاء المهملة وفتح السين
المهملة أيضًا وسكون الياء بلفظ التصغير وهو
والد حذيفة فيكون لفظ الحسيل عطف بيان.
قوله: "فاشترطوا
عليه أن من جاء منكم" الخ في لفظ البخاري
الآتي بعد هذا أن سهيلا قال للنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن
كان على دينك إلا رددته إلينا.
قوله: "فقالوا يا
رسول اللّه" الخ سمى الواقدي جماعة ممن قال
ذلك منهم أسيد بن حضير وسعد بن عبادة وذكر
البخاري في المغازي أن سهل بن حنيف كان ممن
أنكر ذلك أيضًا وقال الحافظ في الفتح: وقائل
ذلك يشبه أن يكون هو عمر. ولابن عائذ من
حديث ابن عباس نحوه وسيأتي بعد هذا الحديث بسط
قصة الصلح وقد أطال ابن إسحاق في القصة وزاد
على ما عند غيره وقد استدل المصنف بالحديثين
المذكورين على جواز مصالحة الكفار على ما وقع
فيهما وسيأتي بسط الكلام في ذلك.
3- وعن عروة بن الزبير
عن المسور ومروان يصدق كل واحد منهما حديث
صاحبه قالا: "خرج النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم زمن الحديبية حتى إذا كان ببعض
الطريق قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فواللّه ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة فانطلق يركض نذيرًا
لقريش وسار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها
بركت به ناقته فقال الناس: حل حل فالحت
فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء فقال
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل قال:
"والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها
حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها
فوثبت" قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل يتبرضه
الناس تبرضًا فلم يلبث الناس حتى نزحوه وشكى
إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
العطش فانتزع سهمًا من كنانته ثم
ج / 8 ص -32-
أمرهم أن يجعلوه فيه فواللّه ما زال يجيش
لهم بالري حتى صدروا عنه فبينا هم كذلك إذ
جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه
من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم من أهل تهامة فقال:
إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد
مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم
مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن
قريش قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا
ماددتهم مدة ويحلوا بيني وبين الناس فإن أظهر
فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا
وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده
لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو
لينفذن اللّه أمره فقال بديل: سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشًا فقال: إنا
قد جئناكم من عند هذا الرجل وقد سمعناه يقول
قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال
سفهاؤهم: لا حاجة لنا إلى أن تخبرنا عنه
بشيء وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول
قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقام عروة بن
مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد قالوا:
بلى قال: أو لست بالولد قالوا: بلى قال:
فهل تتهموني قالوا: لا قال: ألستم تعلمون
أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم
بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا: بلى قال:
فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها وذروني
آته قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم نحوًا من قوله لبديل فقال عروة
عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك
هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن
تكن الأخرى فإني واللّه لأرى وجوهًا أو إني
لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك
فقال له أبو بكر: أمصص ببظر اللات إن نحن
نفر عنه
ج / 8 ص -33-
وندعه فقال:
من ذا
قالوا: أبو بكر فقال:
أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي ولم أجزك
بها لأجبتك قال: وجعل يكلم النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة
قائم على رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة
بيده إلى لحية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
ضرب يده بنصل السيف وقال: أخر يدك عن لحية
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرفع
عروة رأسه فقال: من هذا قالوا: المغيرة بن
شعبة قال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك وكان
المغيرة صحب قومًا في الجاهلية قتلهم وأخذ
أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"أما الإسلام فاقبل وأما المال فلست منه في شيء" ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بعينه قال: فواللّه ما تنخم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم نخامة إلا وقعت في كف
رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم بأمر
ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على
وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون
إليه النظر تعظيمًا له فرجع عروة إلى أصحابه
فقال: أي قوم واللّه لقد وفدت على الملوك
ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي واللّه إن رأيت
ملكًا قط تعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد
محمدًا واللّه إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف
رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم
ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على
وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون
إليه النظر تعظيمًا له وإنه قد عرض عليكم خطة
رشد فاقبلوها
فقال رجل من بني
كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف
على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان اللّه
ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع
إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت
فما أرى
ج / 8 ص -34-
أن يصدوا عن البيت فقام رجل منهم يقال له
مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته
فلما أشرف عليهم قال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فبينا هو يكلمه جاء سهيل
بن عمرو قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة
أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
قد سهل اللّه لكم من أمركم قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال:
هات أكتب بيننا وبينكم كتابًا
فدعا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الكاتب
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم
فقال سهيل: أما الرحمن فواللّه ما أدري ما
هو لكن اكتب باسمك اللّهم كما كنت تكتب فقال
المسلمون: واللّه لا نكتبها إلا بسم اللّه
الرحمن الرحيم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
اكتب باسمك اللّهم ثم قال:
هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم
فقال سهيل: واللّه لو كنا نعلم أنك رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما صددناك عن
البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد
اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
واللّه إني لرسول اللّه وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد اللّه قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا
أعطيتهم إياها قال النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به قال سهيل: واللّه لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من
العام المقبل فكتب فقال سهيل: وعلى أن لا
يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته
إلينا قال المسلمون: سبحان اللّه كيف يرد
إلى المشركين من جاء مسلمًا فبينا هم كذلك إذ
جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده
وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر
المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما
أقاضيك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد
قال: فواللّه إذن لا أصالحك على شيء أبدًا
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
فأجره لي
فقال: ما أنا بمجيره لك فقال:
بلى فافعل
قال: ما أنا بفاعل قال مكرز: بلى قد
أجرناه لك قال أبو جندل أي معشر المسلمين أرد
إلى المشركين وقد جئت مسلمًا ألا ترون ما قد
لقيت وكان قد عذب عذابًا
ج / 8 ص -35-
شديدًا في اللّه قال فقال عمر بن الخطاب:
فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقلت: ألست نبي اللّه حقًا قال: بلى
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل
قال:
بلى قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن قال: إني رسول اللّه ولست أعصيه وهو ناصري قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال:
بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام
قلت: لا قال:
فإنك آتيه ومطوف به قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي اللّه حقًا
قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على
الباطل قال: بلى قلت: فلم نعطي الدنية في
ديننا إذن قال: أيها الرجل إنه رسول اللّه
وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه
فواللّه إنه على الحق قلت: أليس كان يحدثنا
أنا سنأتي البيت ونطوف به قال: بلى أفأخبرك
أنك تأتيه العام قلت: لا قال: فإنك إذن
آتيه ومطوف به قال عمر: فعملت لذلك أعمالا
فلما فرغ من قضية الكتاب قال صلى اللّه عليه
وآله وسلم لأصحابه:
قوموا فانحروا ثم احلقوا فواللّه ما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم
أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس
فقالت أم سلمة: يا نبي اللّه أتحب ذلك اخرج
ولا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو
حالقًا فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى
فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا
ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى
كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا ثم جاء نسوة مؤمنات
فأنزل اللّه عز وجل
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حتى بلغ
{بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك
فتزوج إحداهما معاوية ابن أبي سفيان والأخرى
صفوان بن أمية ثم رجع النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من
قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا
العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا
به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون تمرًا
لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: واللّه إني
لا أرى سيفك هذا يا فلان جيدًا فاستله الآخر
فقال: أجل واللّه إنه
ج / 8 ص -36-
لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير:
أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد
وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين
رآه
لقد رأى هذا ذعرًا
فلما انتهى إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال قتل واللّه
صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا
نبي اللّه قد أوفى اللّه ذمتك قد رددتني إليهم
ثم أنجاني اللّه منهم فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى
أتى سيف البحر قال: وتفلت منهم أبو جندل بن
سهل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل
قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم
عصابة فواللّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى
الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم
فأرسلت قريش إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم تناشده اللّه والرحم لما أرسل إليهم فمن
أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم إليهم وأنزل اللّه عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ} حتى بلغ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}
وكان حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي ولم يقروا
ببسم اللّه الرحمن الرحيم وحالوا بينه وبين
البيت". رواه أحمد والبخاري. ورواه أحمد
بلفظ آخر وفيه: "وكانت خزاعة عيبة رسول
اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مشركها
ومسلمها" وفيه: "هذا ما اصطلح عليه محمد
بن عبد اللّه وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر
سنين يأمن فيها الناس وفيه وإن بيننا عيبة
مكفوفة وأنه لا إغلال ولا إسلال وكان في شرطهم
حين كتبوا الكتاب أنه من أحب أن يدخل في عقد
محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد
قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا نحن
في عقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش
وعهدهم وفيه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن اللّه
جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا
وفيه فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل".
4- وعن مروان والمسور
قالا: "لما كاتب سهيل بن عمرو
ج / 8 ص -37-
يومئذ كان فيما اشترط على النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أنه لا يأتيك أحد منا وإن كان
على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه
فكره المسلمون ذلك وامتعضوا منه وأبى سهيل إلا
ذلك فكاتبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل ولم
يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن
كان مسلمًا وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم
كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء
أهلها يسألون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل
اللّه عز وجل فيهن {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}
إلى
{وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}".
رواه البخاري.
5- وعن الزهري: "قال
عروة فأخبرتني عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم كان يمتحنهن وبلغنا أنه لما
أنزل اللّه أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا
على من هاجر من أزواجهن وحكم على المسلمين أن
لا يمسكوا بعصم الكوافر أن عمر طلق امرأتين
قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي فتزوج
قريبة معاوية وتزوج الأخرى أبو جهم فلما أبى
الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على
أزواجهم أنزل اللّه تعالى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
فَعَاقَبْتُمْ}
والعقاب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته
من الكفار فأمر أن يعطى من ذهب له زوج من
المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي
هاجرن وما يعلم أحد من المهاجرات ارتدت بعد
إيمانها".
أخرجه البخاري.
قوله: "الأحابيش"
أي الجماعة المجتمعة من قبائل والتحبش التجمع
والجنب الأمر يقال ما فعلت كذا في جنب حاجتي
وهو أيضًا القطعة من الشيء تكون معظمه أو
كثيرًا منه محروبين أي مسلوبين قد أصيبوا بحرب
ومصيبة ويروى موتورين والمعنى واحد.
وقوله: "العوذ
المطافيل" يعني النساء والصبيان والعائذ
الناقة القريب عهدها بالولادة والمطفل التي
معها فصيلها وحل حل زجر للناقة وألحت أي
ج / 8 ص -38-
لزمت مكانها وخلأت أي حرنت. والثمد الماء
القليل. والتبرض أخذه قليلا قليلا والبرض
القليل والأعداد جمع عد وهو الماء الذي لا
انقطاع لمادته. وجاشت بالري أي فارت به.
وعيبة نصحه أي موضع سره لأن الرجل يضع في
عيبته حر متاعه. وجموا أي استراحوا والسالفة
صفحة العنق والخطة الأمر والشأن. والأشواب
الأخلاط من الناس مقلوب الأوباش. والضغطة
بالضم الشدة والتضييق. والرسف مشي المقيد.
والغرز للرحل بمنزلة الركاب من السرج.
وقوله: "حتى برد"
أي مات ومسعر حرب أي موقد حرب والمسعر
والمسعار ما يحمي به النار من خشب ونحوه.
وسيف البحر ساحله وامتعضوا منه كرهوا وشق
عليهم. والعاتق الجارية حين تدرك. والعيبة
المكفوفة المشرجة وكنى بذلك عن القلوب ونقائها
من الغل والخداع. والإغلال الخيانة.
والإسلال من السلة وهي السرقة. وقد جمع هذا
الحديث فوائد كثيرة فنشير إلى بعضها إشارة
تنبه من يتدبره على بقيتها. فيه أن ذا
الحليفة ميقات للعمرة كالحج وأن تقليد الهدى
سنة في نفل النسك وواجبه وأن الإشعار سنة وليس
من المثلة المنهي عنها وأن أمير الجيش ينبغي
له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو وأن
الاستعانة بالمشرك الموثوق به في أمر الجهاد
جائز للحاجة لأن عينه الخزاعي كان كافرًا
وكانت خزاعة مع كفرها عيبة نصحه وفيه استحباب
مشورة الجيش إما لاستطابة نفوسهم أو استعلام
مصلحة.
وفيه جواز سبي ذراري
المشركين بانفرادهم قبل التعرض لرجالهم وفي
قول أبي بكر لعروة جواز التصريح باسم العورة
لحاجة ومصلحة وأنه ليس بفحش منهي عنه وفي قيام
المغيرة على رأسه بالسيف استحباب الفخر
والخيلاء في الحرب لإرهاب العدو وأنه ليس
بداخل في ذمه لمن أحب أن يتمثل له الناس
قيامًا وفيه أن مال المشرك المعاهد لا يملك
بغنيمة بل يرد
ج / 8 ص -39-
عليه. وفيه بيان طهارة النخامة والماء
المستعمل. وفيه استحباب التفاؤل وأن المكروه
الطيرة وهي التشاؤم. وفيه أن المشهود عليه
إذا عرف باسمه واسم أبيه أغنى عن ذكر الجد.
وفيه أن مصالحة العدو ببعض ما فيه ضيم على
المسلمين جائزة للحاجة والضرورة دفعًا لمحذور
أعظم منه. وفيه أن من وعد أو حلف ليفعلن كذا
ولم يسم وقتًا فإنه على التراخي وفيه أن
الإحلال نسك على المحصر وأن له نحر هدية بالحل
لأن الموضع الذي نحروا فيه بالحديبية من الحل
بدليل قوله تعالى
{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ}.
وفيه أن مطلق أمره عليه السلام على الفور وأن
الأصل مشاركة أمته له في الأحكام. وفيه أن
شرط الرد لا يتناول من خرج مسلمًا إلى غير بلد
الإمام وفيه أن النساء لا يجوز شرط ردهن للآية
وقد اختلف في دخولهن في الصلح فقيل لم يدخلن
فيه لقوله على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته
وقيل دخلن فيه لقوله في رواية أخرى لا يأتيك
منا أحد لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية
وفيما ذكرناه تنبيه على غيره.
قوله: "عن المسور
ومروان" هذه الرواية بالنسبة إلى مروان
مرسلة لأنه لا صحبة له وأما المسور فهي
بالنسبة إليه أيضًا مرسلة لأنه لم يحضر القصة
وقد ثبت في رواية للبخاري في أول كتاب الشروط
من صحيحه عن الزهري عن عروة أنه سمع المسور
ومروان يخبران عن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فذكرا بعض هذا الحديث وقد سمع
المسور ومروان من جماعة من الصحابة شهدوا هذه
القصة كعلي وعمر وعثمان والمغيرة وأم سلمة
وسهل بن حنيف وغيرهم ووقع في بعض هذه الحديث
شيء يدل على أنه عن عمر كما سيأتي التنبيه
عليه في مكانه.
وقد روى أبو الأسود عن
عروة هذه القصة فلم يذكر المسور ولا مروان لكن
أرسلها وكذلك أخرجها ابن عائذ في المغازي
وأخرجها الحاكم في الإكليل من طريق أبي الأسود
أيضًا عن عروة منقطعة.
قوله: "زمن
الحديبية" هي بئر سمي المكان بها وقيل شجرة
حدباء صغرت وسمي المكان بها. قال المحب
الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها
في الحرم. ووقع عند ابن سعد أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم خرج يوم الاثنين لهلال ذي
القعدة زاد سفيان عن الزهري في رواية ذكرها
البخاري في المغازي وكذا في رواية أحمد عن عبد
الرزاق في بضع عشرة مائة فلما أتى ذا الحليفة
قلد الهدى وأحرم
ج / 8 ص -40-
منها بعمرة وبعث عينًا له من خزاعة وروى عبد
العزيز الأفاقي عن الزهري في هذا الحديث عن
ابن أبي شيبة خرج صلى اللّه عليه وآله وسلم في
ألف وثمانمائة وبعث عينًا له من خزاعة يدعى
ناجية يأتيه بخبر قريش كذا سماه ناجية
والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدي كما
جزم به ابن إسحاق وغيره وأما الذي بعثه عينًا
لخبر قريش فاسمه بسر بن سفيان كذا سماه ابن
إسحاق وهو بضم الموحدة وسكون المهملة على
الصحيح.
قوله: "بالغميم"
بفتح المعجمة وحكى عياض فيها التصغير قال
المحب الطبري: يظهر أن المراد كراع الغميم
الذي وقع ذكره في الصيام هو الذي بين مكة
والمدينة انتهى. وسياق الحديث ظاهر في أنه
كان قريبًا من الحديبية فهو غير كراع الغميم
الذي بين مكة والمدينة وأما الغميم هذا فقال
ابن حبيب هو مكان بين رابغ والجحفة وقد بين
ابن سعد أن خالدًا كان بهذا الموضع في مائتي
فارس فيهم عكرمة ابن أبي جهل والطليعة مقدمة
الجيش.
قوله: "بقترة"
بفتح القاف والمثناة من فوق وهو الغبار الأسود
وفي نسخة من هذا الكتاب بغبرة بالغين المعجمة
وسكون الموحدة.
قوله: "حتى إذا كان
بالثنية" في رواية ابن إسحاق فقال صلى اللّه
عليه وآله وسلم من يخرجنا على طريق غير طريقهم
التي هم بها قال فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر
بن حزم أن رجلًا من أسلم قال أنا يا رسول
اللّه فسلك بهم طريقًا وعرًا فلما خرجوا منه
بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة قال لهم استغفروا اللّه
ففعلوا فقال
والذي نفسي بيده إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فامتنعوا وهذه الثنية هي ثنية المرار بكسر الميم وتخفيف الراء وهي طريق في
الجبل تشرف على الحديبية وزعم الداودي أنها
الثنية التي أسفل مكة وهو وهم وسمى ابن سعد
الذي سلك بهم حمزة بن عمرو الأسلمي.
قوله: "بركت به
ناقته" في رواية للبخاري راحلته. وحل بفتح
الحاء المهملة وسكون اللام كلمة تقال للناقة
إذا تركت السير
وقال الخطابي:
إن قلت حل واحدة فبالسكون وإن أعدتها نونت في
الأول وسكنت في الثانية وحكى غيره السكون
فيهما والتنوين كنظيره في بخ بخ حلحلت فلانًا
إذا أزعجته عن موضعه.
قوله: "فالحت"
بتشديد المهملة أو تمادت على عدم القيام وهو
من الإلحاح.
قوله: "خلأت"
الخلأ بالمعجمة وبالمد للإبل كالحران للخيل
وقال ابن قتيبة: لا يكون الخلأ إلا للنوق
خاصة. وقال ابن فارس: لا يقال للجمل خلأ
ولكن الخ. والقصواء بفتح القاف بعدها مهملة
ومد اسم ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قيل كان طرف أذنها مقطوعًا والقصو القطع
من طرف الأذن وكان القياس أن تكون بالقصر وقد
وقع ذلك في بعض نسخ أبي ذر. وزعم الداودي
أنها كانت لا تسبق فقيل لها القصواء لأنها
بلغت من السبق أقصاه.
قوله: "وما ذاك لها
بخلق" أي بعادة قال ابن بطال وغيره في هذا
الفصل جواز الاستتار عن طلائع المشركين
ومفاجأتهم بالجيش طلبًا لغرتهم وجواز التنكب
عن الطريق السهل إلى الوعر للمصلحة وجواز
الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن
يطرأ عليه غيره وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد
منه مثلها لا ينسب إليها ويرد على من نسبه
إليها ومعذرة من نسبه ممن لا يعرف صورة
الحال.
قوله: "حبسها حابس
الفيل" زاد ابن إسحاق عن
ج / 8 ص -41-
مكة أي حبسها اللّه تعالى عن دخول مكة كما
حبس الفيل عن دخولها وقصة الفيل مشهورة
ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على
تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال
قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو
قدر دخول الفيل وأصحابه مكة لكن سبق في علم
اللّه تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام
خلق منهم وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون
ويجاهدون وكان بمكة في الحديبية جمع كثير
مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء
والولدان فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب
منهم ناس بغير عمد كما أشار إليه تعالى في
قوله
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ}
الآية ووقع للمهلب جواز استبعاد هذه الكلمة
وهي حابس الفيل على اللّه تعالى فقال المراد
حبسها أمر اللّه عز وجل وتعقب بأنه يجوز
إطلاقه في حق اللّه تعالى فيقال حبسها اللّه
حابس الفيل كذا أجاب ابن المنير وهو مبني على
الصحيح من أن الأسماء توقيفية وقد توسط
الغزالي وطائفة فقالوا محل المنع ما لم يرد نص
بما يشتق منه بشرط أن لا يكون ذلك السم المشتق
مشعرًا بنقص فيجوز تسميته بواقي لقوله تعالى {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ولا يجوز تسميته البناء وإن ورد قوله تعالى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}.
قال في
الفتح: وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة
الخاصة لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض
وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض ولكن جاء
التشبيه من جهة إرادة اللّه تعالى منع الحرم
مطلقًا أما من أهل الباطل فواضح وأما من أهل
الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره.
وقال الخطابي:
معنى تعظيم حرمات اللّه في هذه القصة ترك
القتال في الحرم والجنوح إلى المسالمة والكف
عن إرادة سفك الدماء.
قوله: "والذي نفسي
بيده"
قال ابن القيم:
وقد حفظ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
الحلف في أكثر من ثمانين موضعًا.
قوله: "خطة" بضم
الخاء المعجمة أي خصلة يعظمون فيها حرمات
اللّه أي من ترك القتال في الحرم وقيل المراد
بالحرمات حرم الحرم والشهر الإحرام.
قال الحافظ:
وفي الثالث نظر لأنهم لو عظموا والإحرام ما
صدوه ووقع في رواية لابن إسحاق يسألونني فيها
صلة الرحم وهي من جملة حرمات اللّه.
قوله: "إلا أعطيتهم
إياها" أي أجبتهم إليها
قال السهيلي:
لم يقع في شيء من طرق الحديث أنه قال إن شاء
اللّه مع أنه مأمور بها في كل حالة والجواب
أنه كان أمرًا واجبًا حتمًا فلا يحتاج فيه إلى
الاستثناء كذا قال وتعقب بأنه تعالى قال في
هذه القصة لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه
آمنين فقال إن شاء اللّه مع تحقق وقوع ذلك
تعليمًا وإرشادًا فالأولى أن يحمل على أن
الاستثناء سقط من الراوي أو كانت القصة قبل
نزول الأمر بذلك ولا يعارضه كون الكهف مكية إذ
لا مانع أن يتأخر نزول بعض السورة.
قوله: "ثم زجرها"
أي الناقة "فوثبت" أي قامت.
قوله: "علي ثمد"
بفتح المثلثة والميم أي حفيرة فيها ماء قليل
يقال ماء مثمود أي قليل فيكون لفظ قليل بعد
ذلك تأكيدًا لدفع توهم أن يراد لغة من يقول أن
الثمد الماء الكثير وقيل الثمد ما يظهر من
الماء في الشتاء ويذهب في الصيف.
قوله: "يتبرضه
الناس"
ج / 8 ص -42-
بالموحدة وتشديد الراء وبعدها ضاد معجمة وهو
الأخذ قليلا قليلا وأصل البرض بالفتح والسكون
اليسير من العطاء
وقال صاحب العين:
هو جمع الماء بالكفين.
قوله: "فلم يلبث"
لفظ البخاري فلم يلبثه بضم أوله وسكون اللام
من الإلباث
وقال ابن التين:
بفتح اللام وكسر الموحدة المثقلة أي لم يتركوه
يلبث أي يقيم.
قوله: "وشكى" بضم
أوله على البناء للمجهول. "فانتزع سهمًا
من كنانته" أي أخرج سهمًا من جعبته.
قوله: "ثم أمرهم أن
يجعلوه فيه" في رواية ابن إسحاق أن ناجية بن
جندب هو الذي نزل بالسهم وكذا رواه ابن سعد
قال ابن إسحاق: وزعم بعض أهل العلم أنه
البراء بن عازب وروى الواقدي أنه خالد بن
عبادة الغفاري ويجمع بأنهم تعاونوا على ذلك
بالحفر وغيره وفي البخاري في المغازي من حديث
البراء في قصة الحديبية أنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض
ودعا ثم صبه فيها ثم قال دعوها ساعة ثم إنهم
ارتووا بعد ذلك ويمكن الجمع بوقوع الأمرين
جميعًا.
قوله: "يجيش" بفتح
أوله وكسر الجيم وآخره معجمة أي يفور.
وقوله: "بالري"
بكسر الراء ويجوز فتحها.
وقوله: "صدروا
عنه" أي رجعوا رواء بعد ورودهم.
قوله: "بديل"
بموحدة مصغرًا ابن ورقاء بالقاف والمد صاحبي
مشهور.
قوله: "في نفر من
قومه" سمى الواقدي منهم عمرو بن سالم وخراش
بن أمية وفي رواية أبي الأسود عن عروة منهم
خارجة بن كرز ويزيد بن أمية كذا في الفتح.
قوله: "وكانوا عيبة
نصح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم"
العيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها
موحدة ما يوضع فيه الثياب لحفظها أي أنهم موضع
النصح له والأمانة على سره ونصح بضم النون
وحكى ابن التين فتحها كأنه شبه الصدر الذي هو
مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب.
وقوله: "من أهل
تهامة" بكسر المثناة وهي مكة وما حولها
وأصلها من التهم وهو شدة الحر وركود الريح.
قوله: "إني تركت كعب
بن لؤي وعامر بن لؤي" إنما اقتصر على هذين
لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم
إليهما وبقي من قريش بنو سامة ابن لؤي وبنو
عوف بن لؤي ولم يكن بمكة منهم أحد وكذلك قريش
الظواهر الذين منهم بنو تميم بن غالب ومحارب
بن فهر قال هشام بن الكلبي بنو عامر بن لؤي
وكعب بن لؤي هما الصريحان لا شك فيهما بخلاف
سامة وعوف أي ففيهما الخلاف قال وهم قريش
البطاح أي بخلاف قريش الظواهر.
قوله: "نزلوا أعداد
مياه الحديبية" الأعداد بالفتح جمع عد
بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع
له. وغفل الداودي فقال هو موضع بمكة وقول
بديل هذا يشعر بأنه كان بالحديبية مياه كثيرة
وأن قريشًا سبقوا إلى النزول عليها فلذا عطش
المسلمون حين نزلوا على الثمد المذكور.
قوله: "معهم العوذ
المطافيل" العوذ بضم المهملة وسكون الواو
بعدها معجمة جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن
والمطافيل الأمهات اللائي معها أطفالها يريد
أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل
ليتزودوا ألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه أو
كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال والمراد أنهم
خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول
المقام
ج / 8 ص -43-
وليكون أدعى إلى عدم الفرار قال الحافظ:
ويحتمل إرادة المعنى الأعم قال ابن فارس: كل
أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام عائذ والجمع
عوذ كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلتزم
الشغل به.
وقال السهيلي:
سميت بذلك وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها
لأنها تعطف عليه بالشفقة والحنو كما قالوا
تجارة رابحة وإن كان مربوحًا فيها ووقع عند
ابن سعد معهم العوذ المطافيل والنساء
والصبيان.
قوله: "قد نهكتهم"
بفتح أوله وكسر الهاء أي أبلغت فيهم حتى
أضعفتهم إما أضعفت قوتهم وإما أضعفت
أموالهم.
قوله: "ماددتهم"
أي جعلت بيني وبينهم مدة نترك الحرب بيننا
وبينهم فيها والمراد بالناس المذكورين سائر
كفار العرب وغيرهم.
قوله: "فإن أظهر فإن
شاؤوا" هو شرط بعد شرط والتقدير فإن ظهر على
غيرهم كفاهم المؤنة وإن أظهر أنا على غيرهم
فإن شاؤوا أطاعوني وإلا فلا تنقضي مدة الصلح
إلا وقد جموا أي استراحوا وهو بفتح الجيم
وتشديد الميم المضمومة أي قووا ووقع في رواية
ابن إسحاق وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة
وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأن اللّه سينصره
ويظهره لوعد اللّه تعالى له بذلك على طريق
التنزل مع الخصم وفرض الأمر كما زعم الخصم قال
في الفتح: ولهذه النكتة حذف القسم الأول وهو
التصريح بظهور غيره عليه لكن وقع التصريح به
في رواية ابن إسحاق ولفظه فإن أصابوني كان
الذي أرادوا ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري
فإن ظهر الناس عليّ فذلك الذي يبتغون فالظاهر
أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدبًا.
قوله: "حتى تنفرد
سالفتي" السالفة بالمهملة وكسر اللام بعدها
فاء صفحة العنق وكنى بذلك عن القتل قال
الداودي: المراد الموت أي حتى أموت وأبقى
منفردًا في قبري ويحتمل أن يكون أراد أنه
يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم
وقال ابن المنير:
لعله صلى اللّه عليه وآله وسلم نبه بالأدنى
على الأعلى أي أن لي من القوة باللّه والحول
به ما يقتضي أني أقاتل عن دينه لو انفردت فكيف
لا أقاتل عن دينه مع وجود المسلمين وكثرتهم
ونفاذ بصائرهم في نصر دين اللّه تعالى.
قوله: "أو لينفذن
اللّه" بضم أوله وكسر الفاء أي ليمضين اللّه
أمره في نصر دينه ولفظ البخاري:
"ولينفذن اللّه أمره"
بدون شك
قال الحافظ:
وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد
للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل
الفرض. قوله: "فقام عروة بن مسعود" هو
ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد
الفوقية المكسورة بعدها موحدة الثقفي.
قوله: "ألستم
بالوالد" هكذا رواية الأكثر من رواة البخاري
ورواية أبي ذر: "ألستم بالولد وألست
بالوالد" والصواب الأول وهو الذي في رواية
أحمد وابن إسحاق وغيرهما وزاد ابن إسحاق عن
الزهري أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن
عبد مناف فأراد بقوله ألستم بالوالد أنكم حي
قد ولدوني في الجملة لكون أمي منكم.
قوله: "استنفرت أهل
عكاظ" بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وآخره
معجمة أي دعوتهم إلى نصركم.
قوله: "فلما
بلحوا" بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم
مهملة مضمومة أي امتنعوا والتبلح التمنع من
الإجابة وبلح الغريم إذا امتنع عن أداء ما
عليه زاد ابن إسحاق فقالوا صدقت
ج / 8 ص -44-
ما أنت عندنا بمتهم.
قوله: "خطة رشد"
بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة والرشد بضم
الراء وسكون المعجمة وبفتحهما أي خصلة خير
وصلاح وإنصاف وقد بين ابن إسحاق في روايته أن
سبب تقديم عروة لهذا الكلام عند قريش ما رآه
من ردهم العنيف على من يجيء من عند
المسلمين.
قوله "آته" بالمد
والجزم وقالوا ائته بألف وصل بعدها همزة ساكنة
ثم مثناة من فوق مكسورة.
قوله: "اجتاح"
بجيم ثم مهملة أي أهلك أهله بالكلية وحذف
الجزاء من قوله إن تكن الأخرى تأدبًا مع النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم والتقدير إن تكن
الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلًا وقوله:
"فإني واللّه لأرى وجوهًا" إلى آخره
كالتعليل لهذا المحذوف.
قوله: "أشوابًا"
بتقديم المعجمة على الواو وكذا للأكثر ووقع
لأبي ذر عن الكشميهني أوباشًا بتقديم الواو
والأشواب الأخلاط من أنواع شتى والأوباش
الأخلاط من السفلة فالأوباش أخص من الأشواب
كذا في الفتح.
قوله: "امصص ببظر
اللات" بألف وصل ومهملتين الأولى مفتوحة
بصيغة الأمر وحكى ابن التين عن رواية القابسي
ضم الصاد الأولى وخطأها والبظر بفتح الموحدة
وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج
المرأة واللات اسم أحد الأصنام التي كانت قريش
وثقيف يعبدونها وكانت عادة العرب الشتم بذلك
ولكن بلفظ الأم فأراد أبو بكر المبالغة في سب
عروة بإقامة من كان يعبدها مقام أمه وحمله على
ذلك ما أغضبه من نسبة المسلمين إلى الفرار
وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة
زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك.
قوله: "لولا يد"
أي نعمة وقد بين عبد العزيز الآفاقي عن الزهري
في هذا الحديث أن اليد المذكورة هي أن عروة
كان تحمل بدية فأعانه فيها أبو بكر بعون حسن
وفي رواية الواقدي بعشر قلائص.
قوله: "بنعل
السيف" هو ما يكون أسفل القراب من فضة أو
غيرها.
قوله: "أخر يدك"
فعل أمر من التأخير زاد ابن إسحاق قبل أن لا
تصل إليك.
قوله: "أي غدر"
بالمعجمة بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في
وصفه بالغدر.
قوله: "ألست أسعى في
غدرتك" أي في دفع شر غدرتك وقد بسط القصة
ابن إسحاق وابن الكلبي والواقدي بما حاصله أنه
خرج المغيرة لزيارة المقوقس بمصر هو وثلاثة
عشر نفرًا من ثقيف من بني مالك فأحسن إليهم
وأعطاهم وقصر بالمغيرة فحصلت له الغيرة منهم
فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر فلما سكروا
وناموا وثب المغيرة فقتلهم ولحق بالمدينة
فأسلم فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط
المغيرة فسعى عروة بن مسعود وهو عم المغيرة
حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسًا والقصة
طويلة.
قوله: "وأما المال
فلست منه في شيء" أي لا أتعرض له لكونه
مأخوذًا على طريقة الغدر واستفيد من ذلك أنها
لا تحل أموال الكفار غدرًا في حال الأمن لأن
الرفقة يصطحبون على الأمانة والأمانة تؤدى إلى
أهلها مسلمًا كان أو كافرًا فإن أموال الكفار
إنما تحل بالمحاربة والمغالبة ولعل النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ترك المال في يده لإمكان
أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم.
قوله: "يرمق" بضم
الميم وآخره قاف أي يلحظ.
قوله: "وما يحدون
إليه النظر" يضم أوله وكسر المهملة أي
يديمون.
قوله: "ووفدت على
قيصر" هو من عطف الخاص على العام وخص قيصر
ومن بعده لكونهم أعظم
ج / 8 ص -45-
ملوك ذلك الزمان.
قوله: "فقال رجل من
بني كنانة" في رواية الآفاقي فقام الحليس
بمهملتين مصغرًا وسمى ابن إسحاق والزبير بن
بكار أباه علقمة وهو من بني الحارث من عبد
مناة.
قوله: "فابعثوها
له" أي أثيروها دفعة واحدة في رواية ابن
إسحاق فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي
بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعند الحاكم
أنه صاح الحليس هلكت قريش ورب الكعبة أن القوم
إنما أتوا عمارًا فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم أجل يا أخا بني كنانة فأعلمهم
بذلك. قال الحافظ: فيحتمل أن يكون خاطبه
على بعد.
قوله: "مكرز" بكسر
الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي هو من
بني عامر بن لؤي.
قوله: "وهو رجل
فاجر" في رواية ابن إسحاق غادر ورجحها
الحافظ ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي أنه قتل
رجلًا غدرًا وفيها أيضًا أنه أراد أن يبيت
المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلًا
فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس فانفلت
منهم مكرز فكأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أشار إلى ذلك.
قوله: "إذ جاء سهيل
بن عمرو" في رواية ابن إسحاق فدعت قريش سهيل
بن عمرو فقالوا اذهب إلى هذا الرجل فصالحه.
قوله: "فأخبرني أيوب
عن عكرمة" الخ
قال الحافظ:
هذا مرسل لم أقف على من وصله بذكر ابن عباس
فيه لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة
من حديث سلمة بن الأكوع قال بعثت قريش سهيل بن
عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم ليصالحوه فلما رأى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم سهيلا قال لقد سهل لكم
من أمركم وللطبراني نحوه من حديث عبد اللّه بن
السائب.
قوله: "فدعا النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم الكاتب" هو علي
ابن أبي طالب رضي اللّه عنه كما بينه إسحاق بن
راهويه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري وذكره
البخاري أيضًا في الصلح من حديث البراء.
وأخرج عمر بن شبة من
طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه أنه قال
الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة.
قال الحافظ:
ويجمع أن أصل كتاب الصلح بخط علي رضي اللّه
عنه كما هو في الصحيح ونسخ محمد بن مسلمة
لسهيل بن عمرو مثله.
قوله: "هذا ما
قاضى" بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم
فيه.
قوله: "ضغطة" بضم
الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي
قهرًا. وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا
عنوة.
قوله: "فقال
المسلمون" الخ قد تقدم بيان القائل في أول
الباب.
قوله: "أبو جندل"
بالجيم والنون بوزن جعفر وكان اسمه العاصي
فتركه لما أسلم وكان محبوسًا بمكة ممنوعًا من
الهجرة وعذب بسبب الإسلام وكان سهيل أوثقه
وسجنه حين أسلم فخرج من السجن وتنكب الطريق
وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرح به
المسلمون وتلقوه.
قوله: "يرسف" بفتح
أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيًا
بطيئًا بسبب القيد.
قوله: "إنا لم نقض
الكتاب" أي لم نفرغ من كتابته.
قوله: "فأجزه لي"
بالزاي بفعل صيغة الأمر من الإجازة أي أمض
فعلي فيه فلا أرده إليك وأستثنيه من القضية
ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ورجح ابن
الجوزي الزاي وفيه أن الاعتبار في العقود
بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد ولأجل ذلك
أمضى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لسهيل
الأمر في رد ابنه إليه وكان للنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم تلطف معه لقوله لم نقض الكتاب
بعد رجاء أن يجيبه.
قوله: "قال مكرز بلى
قد أجزناه" هذه رواية الكشميهني ورواية
الأكثر من رواة البخاري بل
ج / 8 ص -46-
بالإضراب وقد استشكل ما وقع من مكرز من
الإجازة لأنه خلاف ما وصفه صلى اللّه عليه
وآله وسلم به من الفجور وأجيب بأن الفجور
حقيقة ولا يستلزم أن لا يقع منه شيء من البر
نادرًا أو قال ذلك نفاقًا وفي باطنه خلافه ولم
يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز
لما قال ذلك وقد زعم بعض الشراح أن سهيلًا لم
يجيبه لأن مكرزًا لم يكن ممن جعل له أمر عقد
الصلح بخلاف سهيل وتعقب بأن الواقدي روى أن
مكرزًا كان ممن جاء في الصلح مع سهيل وكان
معهما حويطب ابن عبد العزى لكن ذكر في روايته
ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا
يرده إلى سهيل بل في تأمينه من التعذيب ونحو
ذلك وأن مكرزًا وحويطبًا أخذا أبا جندل
فأدخلاه فسطاطًا وكفا أباه عنه.
وفي مغازي ابن عائذ نحو
ذلك كله ولفظه فقال مكرز بن حفص وكان ممن أقبل
مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح له أنا له
جار وأخذ بيده فأدخله فسطاطًا.
قال الحافظ:
وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأول
فإنه لم يجزه بأن يقره عند المسلمين بل ليكف
العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه فما خرج
بذلك عن الفجور لكن يعكر عليه ما في رواية
الصحيح السابقة بلفظ فقال مكرز قد أجزناه لك
يخاطب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك.
قوله: "فقال أبو
جندل أي معشر المسلمين" الخ زاد ابن إسحاق
فقال رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر وإن اللّه جاعل لك فرجًا
ومخرجًا. قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في
قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما أن اللّه
تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك
ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن
لم تمكنه التورية فلم يكن رده إليهم إسلامًا
لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى
الخلاص من الموت بالتقية. والوجه الثاني أنه
إنما رده إلى أبيه والغالب أن أباه لا يبلغ به
إلى الهلاك وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة
بالتقية أيضًا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة
فإن ذلك امتحان من اللّه يبتلي به صبر عباده
المؤمنين.
ـ واختلف العلماء ـ هل
يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من
جاء مسلمًا من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا
فقيل نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي
بصير وقيل لا وأن الذي وقع في القصة منسوخ وأن
ناسخه حديث: "أنا بريء من كل مسلم بين المشركين" وقد تقدم وهو قول الحنفية وعند الشافعية يفصل بين العاقل والمجنون
والصبي فلا يردان. وقال بعض الشافعية:
ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب
عليه الهجرة من دار الحرب.
قوله: "ألست نبي
اللّه حقًا قال بلى" زاد الواقدي من حديث أي
سعيد قال قال عمر لقد دخلني أمر عظيم وراجعت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مراجعة ما
راجعته مثلها قط.
قوله "فلم نعطي
الدنية" بفتح المهملة وكسر النون وتشديد
التحتية.
قوله: "أولست كنت
حدثتنا" الخ في رواية ابن إسحاق كان الصحابة
لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فلما رأوا الصلح دخلهم
من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. وعند
الواقدي "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان رأى في منامه
قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت
فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم.
قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم
حتى يظهر المعنى وأن الكلام يحمل
ج / 8 ص -47-
على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص
والتقييد وأن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة
معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.
قوله: "فأتيت أبا
بكر" الخ لم يذكر عمر أنه راجع أحدًا في ذلك
غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة وفي جواب
أبي بكر عليه بمثل ما أجاب به النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم دليل على سعة علمه وجودة
عرفانه بأحوال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم.
قوله: "فاستمسك
بغرزه" بفتح العين المعجمة وسكون الراء
بعدها زاي
قال المصنف
هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس والمراد التمسك
بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركاب
الفارس فلا يفارقه.
قوله: "قال عمر فعلت
لذلك أعمالا" القائل هو الزهري كما في
البخاري وهو منقطع لأن الزهري لم يدرك
عمر
قال بعض الشراح:
المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء
والسؤال والجواب ولم يكن ذلك شكًا من عمر بل
طلبًا لكشف ما خفي عليه وحثًا على إذلال
الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين.
قال في الفتح:
وتفسير الأعمال بما ذكر مردود بل المراد به
الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف
في الامتثال ابتداء.
وقد ورد عن عمر التصريح
بمراده ففي رواية ابن إسحاق وكان عمر يقول ما
زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت
يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به وعند الواقدي
من حديث ابن عباس قال عمر لقد أعتقت بسبب ذلك
رقابًا وصمت دهرًا
قال السهيلي:
هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه
عليه وإنما هو من باب الوسوسة
قال الحافظ:
والذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكمة
وتنكشف عنه الشبهة ونظيره قصته في الصلاة على
عبد اللّه بن أبي وإن كان في الأولى لم يطابق
اجتهاده الحكم بخلاف الثانية وهي هذه القصة
وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه وإلا فجميع
ما صدر منه كان معذورًا فيه بل هو فيه مأجور
لأنه مجتهد فيه.
قوله: "فلما فرغ من
قضية الكتاب" زاد ابن إسحاق فلما فرغ من
قضية الكتاب أشهد جماعة على الصلح رجال من
المسلمين ورجال من المشركين منهم علي وأبو بكر
وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن
مسلمة وعبد اللّه بن سهل بن عمرو ومكرز بن حفص
وهو مشرك.
قوله: "فواللّه ما
قام منهم أحد" قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن
يكون الأمر بذلك للندب أو لرجاء نزول الوحي
بإبطال الصلح المذكور أو أن يخصصه بالإذن
بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم وسوغ لهم
ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ ويحتمل أن يكون
أهمتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما
لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم
واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء
نسكهم بالقهر والغلبة أو أخروا الامتثال
لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور.
قال الحافظ:
ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم.
قوله: "فذكر لها ما
لقي من الناس" فيه دليل على فضل المشورة وأن
الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول
المجرد وليس فيه أن الفعل مطلقًا أبلغ من
القول نعم فيه أن الإقتداء بالأفعال أكثر منه
بالأقوال وهذا معلوم مشاهد. وفيه دليل على
فضل أم سلمة ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين
لا نعلم امرأة أشارت
ج / 8 ص -48-
برأي فأصابت إلا أم سلمة وتعقب بإشارة بنت
شعيب على أبيها في أمر موسى. ونظير هذه
القصة ما وقع في غزوة الفتح فإن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم أمرهم بالفطر في رمضان
فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب
فلما رأوه يشرب شربوا.
قوله: "نحر بدنه"
زاد ابن إسحاق عن ابن عباس أنها كانت سبعين
بدنة كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من
فضة ليغيظ به المشركين وكان غنمه منه غزوة
بدر.
قوله: "ودعا
حالقه"
قال ابن إسحاق:
بلغني أن الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش
بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي.
قوله: "فجاءه أبو
بصير" بفتح الموحدة وكسر المهملة اسمه عتبة
وسكون الفوقية.
"ابن أسيد" بفتح
الهمزة وكسر المهملة ابن جارية بالجيم الثقفي
حليف بني زهرة كذا
قال ابن إسحاق
وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب رجل من قريش
أي بالحلف لأن بني زهرة من قريش.
قوله: "فأرسلوا في
طلبه رجلين" سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس
بمعجمة ونون وآخره مهملة مصغرًا ابن جابر
ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري
أن الأخنس بن شريق هو الذي أرسل في طلبه زاد
ابن إسحاق فكتب الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد
عوف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كتابًا وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني
عامر استأجراه اهـ قال الحافظ: والأخنس من
ثقيف رهط أبي بصير وأزهر من بني زهرة حلفاء
أبي بصير فلكل منهما المطالبة برده ويستفاد
منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة
المطلوب بالأصالة أو الحلف وقيل إن اسم أحد
الرجلين مرثد بن حمران زاد الواقدي فقدما بعد
أبي بصير بثلاثة أيام.
قوله: "فقال أبو
بصير لأحد الرجلين" في رواية ابن إسحاق
للعامري وفي رواية ابن سعد لخنيس بن جابر.
قوله: "فاستله
الآخر" أي صاحب السيف أخرجه من غمده.
قوله: "حتى برد"
بفتح الموحدة والراء أي خمدت حواسه وهو كناية
عن الموت لأن الميت تسكن حركته وأصل البرد
السكون قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق
فعلاه حتى قتله.
قوله: "وفر الآخر"
في رواية ابن إسحاق وخرج المولى يشتد أي
هربًا.
قوله: "ذعرًا" بضم
المعجمة وسكون المهملة أي خوفًا.
قوله: "قتل صاحبي"
بضم القاف وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم
الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من
جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك لأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لم ينكر على أبي بصير
قتله للعامري ولا أمر فيه بقود ولا دية.
قوله: "ويل أمه"
بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة وهي
كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون
معنى ما فيها من الذم لأن الويل الهلاك فهو
كقولهم لأمه الويل ولا يقصدون والويل يطلق على
العذاب والحرب والزجر وقد تقدم شيء من ذلك في
الحج في قوله للأعرابي ويلك وقال الفراء أصله
وي فلان أي لفلان أي حزن له فكثر الاستعمال
فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها وأعربوها
وتبعه ابن مالك إلا أنه قال تبعًا للخليل أن
وي كلمة تعجب وهي من أسماء الأفعال واللام
بعدها مكسورة ويجوز ضمها إتباعًا للهمزة وحذفت
الهمزة تخفيفًا.
قوله: "مسعر حرب"
بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين
المهملة أيضًا وبالنصب على التمييز
ج / 8 ص -49-
وأصله من مسعر حرب أي يسعرها.
قال الخطابي:
يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
قوله: "لو كان له
أحد" أي يناصره ويعاضده.
قوله: "سيف البحر"
بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء أي
ساحله.
قوله: "عصابة" أي
جماعة ولا واحد لها من لفظها وهي تطلق على
الأربعين فما دونها وفي رواية ابن إسحاق أنهم
بلغوا نحو السبعين نفسًا وزعم السهيلي أنهم
بلغوا ثلاثمائة رجل.
قوله: "ما يسمعون
بعير" بكسر المهملة أي بخبر عير وهي
القافلة.
قوله: "فأرسل النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم إليهم" في رواية
موسى بن عقبة عن الزهري فكتب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم إلى أبي بصير فقدم كتابه
وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم في يده فدفنه أبو جندل
مكانه وجعل عند قبره مسجدًا.
وفي الحديث دليل على أن
من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا
دية وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو
لما بلغه قتل العامري طالب بديته لأنه من رهطه
فقال له أبو سفيان ليس على محمد مطالبة بذلك
لأنه وفى بما عليه وأسلمه لرسولكم ولم يقتله
بأمره ولا على آل أبي بصير أيضًا شيء لأنه ليس
على دينهم.
قوله: "فأنزل اللّه
تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم" ظاهره أنها
نزلت في شأن أبي بصير والمشهور في سبب نزولها
ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن
حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من
حديث عبد اللّه بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت
بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من
المسلمين غرة فظفروا بهم وعفا عنهم النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فنزلت الآية بما تقدم
وقيل في نزولها غير ذلك.
قوله: "على وضع
الحرب عشر سنين" هذا هو المعتمد عليه كما
ذكره ابن إسحاق في المغازي وجزم به ابن سعد
وأخرجه الحاكم من حديث علي ووقع في مغازي ابن
عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين
وكذا وقع عند موسى بن عقبة ويجمع بأن العشر
السنين هي المدة التي وقع الصلح عليها
والسنتين هي المدة التي انتهى أمر الصلح فيها
حتى وقع نقضه على يد قريش وأما ما وقع في كامل
ابن عدي ومستدرك الحاكم في الأوسط للطبراني من
حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين فهو
مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح وقد اختلف
العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع
المشركين فقيل لا تجاوز عشر سنين على ما في
هذا الحديث وهو قول الجمهور وقيل تجوز الزيادة
وقيل لا تجاوز أربع سنين وقيل ثلاثًا وقيل
سنتين والأول هو الراجح.
قوله: "عيبة
مكفوفة" أي أمرًا مطويًا في صدور سليمة وهو
إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من
أسباب الحرب وغيرها والمحافظة على العهد الذي
وقع بينهم.
قوله: "وأنه لا
إغلال ولا إسلال" أي لا سرقة ولا خيانة يقال
أغل الرجل أي خان أما في الغنيمة فيقال غل
بغير ألف والإسلال من السلة وهي السرقة وقيل
من سل السيوف والإغلال من لبس الدروع ووهاه
أبو عبيد والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض
في نفوسهم وأموالهم سرًا وجهرًا.
قوله: "وامتعضوا
منه" بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا وشق
عليهم قال الخليل معض بكسر
ج / 8 ص -50-
المهملة والضاد المعجمة من الشيء وامتعض توجع
منه
وقال ابن القطاع: شق عليه
وأنف منه ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه
اللفظة فالجمهور على ما هنا والأصيلي
والهمداني بظاء مشالة وعند القابسي أمعظوا
بتشديد الميم وعند النسفي انغضوا بنون وغين
معجمة وضاد معجمة غير مشالة
قال عياض: وكلها تغييرات
حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد وبعضهم
أغيظوا من الغيظ.
قوله: "وهي عاتق" أي شابة.
قوله: {فامتحنوهن} الآية" أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى
ظاهر الحال دون الإطلاع على ما في القلوب وإلى
ذلك أشار بقوله تعالى
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله
إلا اللّه وأن محمد رسول اللّه.
وأخرج الطبري أيضًا والبزار عن ابن عباس أيضًا
كان يمتحنهن واللّه ما خرجن من بغض زوج واللّه
ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض واللّه ما خرجن
التماس دنيا.
قوله: "قال عروة أخبرتني عائشة" هو متصل
كما في مواضع في البخاري.
قوله: "لما أنزل اللّه أن يردوا إلى
المشركين ما أنفقوا" يعني قوله تعالى
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا
مَا أَنْفَقُوا}.
قوله: "قريبة" بالقاف والموحدة مصغر في
أكثر نسخ البخاري. وضبطها الدمياطي بفتح
القاف وتبعه الذهبي وكذا الكشميهني. وفي
القاموس بالتصغير وقد تفتح انتهى. وهي بنت
أبي أمية ابن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن
مخزوم وهي أخت أم سلمة زوج النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم.
قوله: "فلما أبى الكفار أن يقروا" الخ
أي أبوا أن يعملوا بالحكم المذكور في الآية
وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله
تعالى
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} قال من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن
وليمسكوهن ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب
محمد فكذلك هذا كله في صلح بين النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وبين قريش وروى البخاري
أيضًا عن الزهري في كتاب الشروط قال بلغنا أن
الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون
على أزواجهم كما في الآية وهو أن المرأة إذا
جاءت من المشركين إلى المسلمين مسلمة لم يردها
المسلمون إلى زوجها المشرك بل يعطونه ما أنفق
عليها من صداق ونحوه. وكذا بعكسه فامتثل
المسلمون ذلك وأعطوهم وأبى المشركون أن
يمتثلوا ذلك فحبسوا من جاءت إليهم مشركة ولم
يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها فلهذا نزلت
{وَإِنْ
ج / 8 ص -51-
فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى
الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
قوله: "وما يعلم أحد
من المهاجرات" الخ هذا النفي لا يرده ظاهر
ما دلت عليه الآية والقصة لأن مضمون القصة أن
بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر
فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها فعلى
تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات
فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات
كالأعرابيات مثلا أو الحصر على عمومه وتكون
نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم
مثلا فهربت منه إلى الكفار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن
الحسن في قوله تعالى
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت فتزوجها رجل ثقفي ولم
ترتد امرأة من قريش غيرها ثم أسلمت مع ثقيف
حين أسلموا فإن ثبت هذا استثني من الحصر
المذكور في الحديث أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت
فيما قبل ذلك.
قوله: "الأحابيش"
لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ ولكنه مذكور
في غيره في بعض ألفاظ هذه القصة أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم بعث عينًا من خزاعة فتلقاه
فقال إن قريشًا قد جمعوا لك الأحابيش وهم
مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم
"أشيروا عليّ أترون أن أميل على ذراريهم فإن يأتونا كان اللّه قد قطع
جنبًا من المشركين وإلا تركناهم محروبين" فأشار إليه أبو يكر بترك ذلك فقال
"امضوا بسم اللّه"
والأحابيش هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة
وبنو المصطلق بن خزاعة والقارة وهو ابن الهون
ابن خزيمة.
باب جواز مصالحة
المشركين على المال وإن كان مجهولا
1- عن ابن عمر قال:
"أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم
على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا
منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول اللّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم الصفراء والبيضاء
والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها واشترط عليهم
أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا فإن فعلوا فلا
ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكًا فيه مال وحلي
لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين
أجليت النضير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم لعم حيي واسمه سعية
ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير فقال أذهبته النفقات والحروب فقال العهد قريب والمال أكثر من ذلك
وقد كان حيي قتل قبل ذلك فدفع رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم سعية إلى الزبير فمسه
بعذاب فقال قد رأيت حييًا يطوف في خربة ههنا
فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ابني أبي
الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب وسبى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نساءهم
وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا
وأراد أن يجليهم منها فقالوا يا محمد دعنا
نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ولم يكن
لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا
لأصحابه غلمان يقومون عليها وكانوا لا يفرغون
أن يقوموا عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم
الشطر من كل زرع وشيء ما بدا لرسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وكان عبد
ج / 8 ص -52-
اللّه بن رواحة يأتيهم في كل عام فيخرصها
عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم شدة حرصه وأرادوا أن
يرشوه فقال عبد اللّه تطعموني السحت واللّه
لقد جئتكم من عند أحب الناس إليّ ولأنتم أبغض
إلى من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني
بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم
فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض وكان رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعطي كل امرأة
من نسائه ثمانين وسقًا من تمر كل عام وعشرين
وسقًا من شعير فلما كان زمن عمر غشوا فألقوا
ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه فقال عمر بن
الخطاب من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها
بينهم فقسمها عمر بينهم فقال رئيسهم لا تخرجنا
دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وأبو بكر فقال عمر
لرئيسهم أتراه سقط على قول رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم كيف بك إذا رقصت بك
راحلتك نحو الشام يومًا ثم يومًا ثم يومًا
وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل
الحديبية". رواه البخاري وفيه من الفقه أن
تبين عدم الوفاء بالشرط المشروط يفسد الصلح
حتى في حق النساء والذرية وأن قسمة الثمار
خرصًا من غير تقابض جائزة وأن عقد المزارعة
والمساقاة من غير تقدير مدة جائز وأن معاقبة
من يكتم مالا جائزة وأن ما فتح عنوة يجوز
قسمته بين الغانمين وغير ذلك من الفوائد.
2- وعن رجل من جهينة
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
لعلكم تقاتلون قومًا فيظهرون عليكم فيتقونكم
بأموالهم دون أنفسهم وأبناءهم فتصالحونهم على
صلح فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا
يصلح".
رواه أبو داود. حديث
الرجل الذي من جهينة أخرجه أيضًا ابن ماجه
وسكت عنه أبو داود وفي إسناده رجل مجهول لأنه
من رواية رجل من ثقيف عن رجل من جهينة ورواه
أبو داود أيضًا من طريق خالد بن معدان عن جبير
بن نفير قال: "انطلق بنا إلى ذي مخبر رجل
من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فذكره".
قوله: "على أن يجلوا
منها" قال في القاموس: جلا القوم عن
الموضع ومنه جلوا وجلاء وجلوا تفرقوا أو جلا
من الخوف وأجلى من الجدب ثم قال: والجالية
أهل الذمة لأن
ج / 8 ص -53-
عمر أجلاهم من جزيرة العرب انتهى.
وقال الهروي:
جلا القوم عن مواطنهم وأجلى بمعنى واحد والاسم
الجلاء والإجلاء.
قوله: "الصفراء
والبيضاء والحلقة" بفتح الحاء المهملة وسكون
اللام وهي كما فسره المصنف رحمه اللّه تعالى
السلاح وهذا فيه مصالحة المشركين بالمال
المجهول.
قوله: "فغيبوا
مسكًا" بفتح الميم وسكون المهملة
قال في القاموس:
المسك الجلد أو خاص بالسخلة الجمع مسوك وبهاء
القطعة منه.
قوله: "لحيي" بضم
الحاء تصغير حي. وأخطب بالخاء المعجمة وسعية
بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة أيضًا
بعدها تحتية.
قوله: "فمسه
بعذاب" فيه دليل على جواز تعذيب من امتنع من
تسليم شيء يلزمه تسليمه وأنكر وجوده إذا غلب
في ظن الإمام كذبه وذلك نوع من السياسة
الشرعية.
قوله: "فقتل النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ابني أبي الحقيق"
بمهملة وقافين مصغرًا وهو رأس يهود خيبر
قال الحافظ:
ولم أقف على اسمه إنما قتلهما لعدم وفائهم بما
شرطه عليهم لقوله في أول الحديث: "فإن
فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد".
قوله: "ما بدا لرسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" في لفظ
للبخاري:
"نقركم على ذلك ما شئنا"
وفي لفظ له آخر: "نقركم ما أقركم اللّه"
والمراد ما قدر اللّه أنا نترككم فيها إذا
شئنا فأخرجناكم تبين أن اللّه قد أخرجكم.
قوله: "ففدعوا
يديه" الفدع بفتح الفاء والدال المهملة
بعدها عين مهملة زوال المفصل فدعت يداه إذا
أزيلتا من مفاصلهما.
وقال الخليل:
الفدع عوج في المفاصل وفي خلق الإنسان إذا
زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فهو
الفدع.
قال الأصمعي:
هو زيغ في الكف بينها وبين الساعد وفي الرجل
بينها وبين الساق. ووقع في رواية ابن السكن
شدع بالشين المعجمة بدل الفاء وجزم به
الكرماني
قال الحافظ:
وهو وهم لأن الشدع بالمعجمة كسر الشيء المجوف
قاله الجوهري. ولم يقع ذلك لابن عمر في هذه
القصة والذي في جميع الروايات بالفاء.
وقال الخطابي:
كان اليهود سحروا عبد اللّه بن عمر فالتفت
يداه ورجلاه قال: ويحتمل أن يكونوا ضربوه
والواقع في حديث الباب أنهم ألقوه من فوق
بيت.
قوله: "فقال رئيسهم
لا تخرجن" لعل في الكلام محذوفًا ووقع في
رواية للبخاري في الشروط بلفظ: "وقد رأيت
إجلاءهم فلما أجمع" الخ فيكون المحذوف من
حديث الباب هو هذا أي لما أجمع عمر على
إجلائهم قال رئيسهم وظاهر هذا أن سبب الإجلاء
هو ما فعلوه بعبد اللّه بن عمر.
قال في الفتح:
وهذا لا يقتضي حصر السبب في إجلاء عمر إياهم
وقد وقع لي فيه سببان آخران أحدهما رواه
الزهري عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة
قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال لا
يجتمع بجزيرة العرب دينان فقال من كان له من
أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له وإلا فإني
مجليكم فأجلاهم أخرجه ابن أبي شيبة وغيره.
ثانيهما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة من
طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال لما كثر
العيال أي الخدم في أيدي المسلمين وقووا على
العمل في الأرض أجلاهم عمر ويحتمل أن يكون كل
من هذه الأشياء جزء علة في إخراجهم والإجلاء
الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج
والكراهة اهـ.
قوله: "كيف بك
ج / 8 ص -54-
إذا رقصت بك راحلتك" أي ذهبت بك راقصة نحو
الشام وفي لفظ للبخاري: "تعدو بك قلوصك"
والقلوص بفتح القاف وبالصاد المهملة الناقة
الصابرة على السير وقيل الشابة وقيل أول ما
تركب من إناث الإبل وقيل الطويلة القوائم
فأشار صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى إخراجهم
من خيبر فكان ذلك من إخباره بالمغيبات والمراد
بقوله رقصت أي أسرعت.
قوله: "نحو الشام"
قد ثبت أن عمر أجلاهم إلى تيماء وأريحاء وقد
وهم المصنف رحمه اللّه في نسبة جميع ما ذكره
من ألفاظ هذا الحديث إلى البخاري ولعله نقل
لفظ الحميدي في الجمع بين الصحيحين والحميدي
كأنه نقل السياق من مستخرج البرقاني كعادته
فإن كثيرًا من هذه الألفاظ ليس في صحيح
البخاري وإنما هي في مستخرج البرقاني من طريق
حماد بن سلمة. وكذلك أخرج هذا الحديث بلفظ
البرقاني أبو يعلى في مسنده والبغوي في فوائده
ولعل الحميدي ذهل عن عزو هذا الحديث إلى
البرقاني وعزاه إلى البخاري فتبعه المصنف في
ذلك وقد نبه الإسماعيلي على أن حمادًا كان
يطوله تارة ويرويه تارة مختصرًا وقد قدمنا
الكلام على بعض فوائد هذا الحديث في
المزارعة.
قوله: "فلا تصيبوا
منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح" فيه دليل على
أنه لا يجوز للمسلمين بعد وقوع الصلح بينهم
وبين الكفار على شيء أن يطلبوا منهم زيادة
عليه فإن ذلك من ترك الوفاء بالعهد ونقض العقد
وهما محرمان بنص القرآن والسنة.
باب ما جاء فيمن
سار نحو العدو في آخر مدة الصلح بغتة
1- عن سليمان بن عامر
قال: "كان معاوية يسير بأرض الروم وكان
بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا
انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول
اللّه أكبر اللّه أكبر وفاء لا غدر أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا
يشدنها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم
على سواء"
فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ عمرو بن
عبسة". رواه أحمد وأبو داود والترمذي
وصححه.
الحديث أخرجه أيضًا
النسائي وقال الترمذي بعد إخراجه حسن صحيح.
قوله: "وكان بينه
وبينهم أمد" الخ لفظ أبي داود كان بين
معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم
حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس
أو برذون.
قوله: "وفاء لا
غدر" أي أن اللّه سبحانه وتعالى شرع لعباده
الوفاء بالعقود والعهود ولم يشرع لهم الغدر
فكان شرعه الوفاء لا الغدر.
قوله: "فلا يحلن
عقدة" استعار عقدة الحبل لما يقع بين
المسلمين من المعاهدة ونهى عن حلها أي نقضها
وشدها أي تأكيدها بشيء لم يقع التصالح عليه بل
الواجب الوفاء بها على الصفة التي كان وقوعها
عليها بلا زيادة ولا نقصان.
قوله: "أو ينبذ
إليهم عهدهم على سواء" النبذ في أصل
ج / 8 ص -55-
اللغة الطرح.
قال في القاموس:
النبذ طرحك الشيء أمامك أو وراءك أو عام
انتهى. والمراد هنا إخبار المشركين بأن
الذمة قد انقضت وإيذانهم بالحرب إن لم يسلموا
أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وفي الحديث
دليل على ما ترجم به المصنف الباب من أنه لا
يجوز المسير إلى العدو في آخر مدة الصلح بغتة
بل الواجب الانتظار حتى تنقضي المدة أو النبذ
إليهم على سواء.
باب الكفار
يحاصرون فينزلون على حكم رجل من المسلمين
1- عن أبي سعيد: "أن
أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فأرسل
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى سعد
فأتاه على حمار فلما دنا قريبًا من المسجد قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
قوموا إلى سيدكم أو خيركم
فقعد عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
فقال:
إن هؤلاء نزلوا على حكمك قال: فإني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى
ذراريهم فقال:
لقد حكمت بما حكم به الملك" وفي لفظ: "قضيت بحكم اللّه عز وجل". متفق عليه.
قوله: "قوموا إلى
سيدكم" قد اختلف هل المخاطب بهذا الخطاب
الأنصار خاصة أم هم وغيرهم وقد بين ذلك صاحب
الفتح في كتاب الاستئذان.
قوله: "فإني أحكم"
في رواية للبخاري فيهم وفي رواية له أخرى فيه
أي في هذا الأمر.
قوله: "بما حكم به
الملك" بكسر اللام وفي رواية: "لقد حكمت اليوم فيهم بحكم اللّه الذي حكم به
من فوق سبع سماوات"
وفي حديث جابر عن ابن عائذ: "فقال
احكم فيهم يا سعد فقال اللّه ورسوله أحق بالحكم قال
قد أمرك اللّه أن تحكم فيهم"
وفي رواية ابن إسحاق:
"لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة
أرقعة"
والأرقعة بالقاف جمع رقيع وهو من أسماء السماء
قيل سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم وهذا كله
يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح
اللام وفسره بجبريل لأنه الذي كان ينزل
بالأحكام.
قال السهيلي:
من فوق سبع سماوات معناه أن الحكم نزل من فوق
قال ومثله قول زينب بنت جحش زوجني اللّه من
نبيه من فوق سبع سماوات أي نزل تزويجها من
فوق. قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق
على المعنى الذي يليق بجلاله لا على المعنى
الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى
التشبيه.
وفي الحديث دليل
على أنه يجوز نزول العدو على حكم رجل من
المسلمين ويلزمهم ما حكم به عليهم من قتل وأسر
واسترقاق وقد ذكر ابن إسحاق أن بني قريظة لما
نزلوا على حكم سعد حبسوا في دار بنت الحارث.
وفي رواية أبي الأسود عن
عروة في دار أسامة بن زيد ويجمع بينهما بأنهم
جعلوا في البيتين. ووقع في حديث جابر عن ابن
عائذ التصريح بأنهم جعلوا في بيتين.
قال ابن إسحاق:
فخندقوا لهم خنادق فضربت أعناقهم فجرى الدم في
الخندق وقسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على
المسلمين وأسهم للخيل فكان أول يوم وقعت فيه
السهمان لها. وعند ابن سعد من مرسل حميد بن
هلال أن سعد بن معاذ حكم أيضًا أن تكون دورهم
للمهاجرين
ج / 8 ص -56-
دون الأنصار فلامه الأنصار فقال إني أحببت
أن يستغنوا عن دوركم واختلف في عدتهم فعند ابن
إسحاق أنهم كانوا ستمائة وبه جزم أبو عمر ابن
عبد البر في ترجمة سعد بن معاذ وعند ابن عائذ
من مرسل قتادة كانوا سبعمائة
قال السهيلي:
المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى
السبعمائة.
وفي حديث جابر عند
الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم
كانوا أربعمائة مقاتل فيجمع بأن الباقين كانوا
أتباعًا وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل أنهم كانوا
تسعمائة.
باب أخذ الجزية
وعقد الذمة
1- عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد
عبد الرحمن بن عوف:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
أخذها من مجوس هجر". رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي.
وفي رواية: "أن عمر
ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم
فقال له عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي وهو دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب.
2- وعن المغيرة بن شعبة
أنه قال لعامل كسرى:
"أمرنا نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا اللّه
وحده أو تؤدوا الجزية".
رواه أحمد والبخاري.
3- وعن ابن عباس قال:
"مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وشكوه إلى أبي طالب فقال
يا ابن أخي ما تريد من قومك قال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي
إليهم بها العجم الجزية قال كلمة واحدة قال
كلمة واحدة قولوا لا إله إلا اللّه قالوا إلهًا واحدًا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا
اختلاق قال فنزل فيهم القرآن {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله
{إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ}".
رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن.
حديث عمر وعبد الرحمن
ورد بألفاظ من طرق منها ما ذكره المصنف وقد
أخرجه الترمذي بلفظ: "فجاءنا كتاب عمر
انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية فإن عبد
الرحمن بن عوف أخبرني فذكره" وأخرج أبو داود
من طريق ابن عباس قال: "جاء رجل من مجوس
هجر إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما
خرج قلت له ما قضاء اللّه ورسوله فيكم قال:
شر الإسلام أو القتل" وقال عبد الرحمن بن
عوف قبل منهم الجزية. قال ابن عباس: فأخذ
الناس بقول عبد الرحمن وتركوا ما سمعت.
وروى أبو عبيد في كتاب
الأموال بسند صحيح عن حذيفة: لولا أني رأيت
أصحابي
ج / 8 ص -57-
أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها.
وفي الموطأ عن جعفر بن
محمد عن أبيه أن عمر قال: لا أدري ما أصنع
بالمجوس فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وهذا منقطع ورجاله ثقات. ورواه الدارقطني
وابن المنذر في الغرائب من طريق أبي علي
الحنفي عن مالك فزاد فيه عن جده أي جد جعفر بن
محمد وهو أيضًا منقطع لأن جده علي بن الحسين
لم يلحق عبد الرحمن بن عوف ولا عمر فإن كان
الضمير في جده يعود إلى محمد بن علي فيكون
متصلًا لأن جده الحسين بن علي صلوات اللّه
عليهم سمع من عمر بن الخطاب ومن عبد الرحمن بن
عوف وله شاهد من حديث مسلم بن العلاء بن
الحضرمي أخرجه الطبراني في آخر حديث بلفظ:
"سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب"
قال ابن عبد البر:
هذا من الكلام العام الذي أريد به الخاص لأن
المراد سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط
واستدل بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا
أهل الكتاب لكن روى الشافعي وعبد الرزاق
وغيرهما بإسناد حسن عن علي كان المجوس أهل
كتاب يدرسونه وعلم يقرؤونه فشرب أميرهم الخمر
فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع
فأعطاهم وقال إن آدم كان ينكح أولاده بناته
فأطاعوه وقتل من خالفه فأسري على كتابهم وعلى
ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء وروى
عبد ابن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد
صحيح عن ابن أبزي لما هزم المسلمون أهل فارس
قال عمر اجتمعوا فقال إن المجوس ليسوا أهل
كتاب فنضع عليهم ولا من عبدة الأوثان فنجري
عليهم أحكامهم فقال علي: بل هم أهل كتاب
فذكر نحوه لكن قال وقع على ابنته وقال في آخره
فوضع الأخدود لمن خالفه فهذا حجة من قال كان
لهم كتاب.
وأما قول ابن بطال لو
كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه ولما استثنى حل
ذبائحهم ونكاح نسائهم فالجواب أن الاستثناء
وقع تبعًا للأثر الوارد لأن في ذلك شبهة تقتضي
حقن الدم بخلاف النكاح فإنه مما يحتاط له
وقال ابن المنذر:
ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقًا عليه ولكن
الأكثر من أهل العلم عليه وحديث ابن عباس
أخرجه النسائي أيضًا وصححه الترمذي والحاكم.
قوله: "حتى تعبدوا
اللّه وحده" الخ فيه الإخبار من المغيرة
"بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر
بقتال المجوس حتى يؤدوا الجزية" زاد الطبراني وإنا واللّه لا نرجع إلى ذلك الشقاء حتى نغلبكم على
ما في أيديكم.
قوله: "وتؤدي إليهم
بها العجم الجزية" فيه متمسك لمن قال لا
تؤخذ الجزية من الكتابي إذا كان عربيًا
قال في الفتح:
فأما اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب
بالاتفاق وفرق الحنفية فقالوا تؤخذ من مجوس
العجم دون مجوس العرب وحكى الطحاوي عنهم أنها
تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار
العجم ولا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو
السيف وعن مالك تقبل من جميع الكفار إلا من
ارتد وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام وحكى ابن
القاسم عن مالك أنها لا تقبل من قريش وحكى ابن
عبد البر الاتفاق على قبولها من المجوس لكن
حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لا تقبل من
اليهود والنصارى فقط ونقل أيضًا الاتفاق على
أنه لا يحل
ج / 8 ص -58-
نكاح
نسائهم ولا أكل ذبائحهم وحكى غيره عن أبي ثور
حل ذلك.
قال ابن قدامة: وهذا خلاف
إجماع من تقدمه.
قال الحافظ: وفيه نظر فقد
حكى ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب أنه لم
يكن يرى بذبيحة المجوسي بأسًا إذا أمره المسلم
بذبحها وروى ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء وطاوس
وعمرو بن دينار أنهم لم يكونوا يرون بأسًا
بالتسري بالمجوسية
وقال الشافعي: تقبل من أهل
الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا ويلتحق بهم
المجوس في ذلك قال أبو عبيد: ثبتت الجزية
على اليهود والنصارى بالكتاب وعلى المجوس
بالسنة.
قال العلماء: الحكمة في وضع
الجزية أن الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في
الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الإطلاع
على محاسن الإسلام واختلف في السنة التي شرعت
فيها فقيل في سنة ثمان وقيل في سنة تسع.
4- وعن عمر بن عبد العزيز:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كتب إلى
أهل اليمن أن على كل إنسان منكم دينارًا كل
سنة أو قيمته من المعافر يعني أهل الذمة
منهم". رواه الشافعي في مسنده.
وقد سبق هذا المعنى في كتاب الزكاة في حديث
لمعاذ.
5- وعن عمرو بن عوف الأنصاري:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي
بجزيتها وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن
الحضرمي". متفق
عليه.
6- وعن الزهري قال:
"قبل
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الجزية
من أهل البحرين وكانوا مجوسًا". رواه أبو عبيد في الأموال.
7- وعن أنس:
"أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد
إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه
وصالحه على الجزية". رواه
أبو داود. وهو دليل على أنها لا تختص بالعجم
لأن أكيدر دومة عربي من غسان.
8- وعن ابن عباس قال: "صالح رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل نجران على ألفي
حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى
المسلمون وعارية ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا
وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنف من أصناف
السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى
يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر على
أن لا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا
يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثًا أو يأكلوا
الربا". أخرجه أبو داود.
ج / 8 ص -59-
حديث عمر بن عبد العزيز هو مرسل ولكنه يشهد
له ما أشار إليه المصنف من حديث معاذ وقد سبق
في باب صدقة المواشي من كتاب الزكاة ومن كل
حالم دينارًا أو عدله معافر وقد قدمنا الكلام
عليه هنالك.
وحديث الزهري هو أيضًا
مرسل وقد تقدم ما يشهد له في أول الباب.
وحديث أنس أخرجه أيضًا
البيهقي وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال
إسناده ثقات وفيه عنعنة محمد بن إسحاق.
وحديث ابن عباس هو من رواية السدي عنه
قال المنذري:
وفي سماع السدي من عبد اللّه بن عباس نظر
وإنما قيل إنه رآه ورأى ابن عمر وسمع من أنس
بن مالك وكذا
قال الحافظ
إن في سماع السدي منه نظرًا لكن له شواهد منها
ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي قال:
"كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إلى أهل نجران وهم نصارى أن من بايع منكم
بالربا فلا ذمة له" وأخرج أيضًا عن سالم قال إن أهل نجران قد
بلغوا أربعين ألفًا وكان عمر رضي اللّه عنه
يخافهم أن يميلوا على المسلمين فتحاسدوا بينهم
فأتوا عمر فقالوا أجلنا قال وكان رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم قد كتب لهم كتابًا
أن لا يجلوا فاغتنمها عمر فأجلاهم فندموا
فأتوه فقالوا أقلنا فأبى أن يقيلهم فلما قدم
علي أتوه فقالوا إنا نسألك بخط يمينك وشفاعتك
عند نبيك إلا ما أقلتنا فأبى وقال إن عمر كان
رشيد الأمر.
قوله: "من
المعافر" بعين مهملة وفاء اسم قبيلة وبها
سميت الثياب وإليها ينسب البز المعافري.
قوله: "الأنصاري"
كذا في صحيح البخاري والمعروف عند أهل المغازي
أنه من المهاجرين وقد وقع أيضًا في البخاري
أنه حليف لبني عامر بن لؤي وهو يشعر بكونه من
أهل مكة
قال في الفتح:
ويحتمل أن يكون وصفه بالأنصاري بالمعنى الأعم
ولا مانع أن يكون أصله من الأوس والخزرج نزل
مكة وحالف بعض أهلها فبهذا الاعتبار يكون
أنصاريًا مهاجريًا قال: ثم ظهر لي أن لفظة
الأنصاري وهم وقد تفرد بها شعيب عن الزهري
ورواه أصحاب الزهري عنه بدونها في الصحيحين
وغيرهما وهو معدود في أهل بدر باتفاقهم ووقع
عند موسى بن عقبة في المغازي أنه عمير بن عوف
بالتصغير.
قوله: "إلى
البحرين" هي البلد المشهور بالعراق وهو بين
البصرة وهجر.
وقوله: "يأتي
بجزيتها" أي يأتي بجزية أهلها وكان غالب
أهلها إذ ذاك المجوس ففيه تقوية للحديث الذي
تقدم ومن ثم ترجم عليه النسائي أخذ الجزية من
المجوس. وذكر ابن سعد أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة
أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوى عامل الفرس
على البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم وصالح
مجوس تلك البلاد على الجزية.
قوله: "وكان رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" الخ كان
ذلك في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة.
قوله: "إلى أكيدر"
بضم الهمزة تصغير أكدر
قال في التلخيص:
إن ثبت أن أكيدر كان كنديًا ففيه دليل على أن
الجزية لا تختص بالعجم من أهل الكتاب لأن
أكيدرًا كان عربيًا اهـ.
قوله: "صالح رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل نجران"
الخ هذا المال الذي وقعت عليه المصالحة هو في
الحقيقة جزية ولكن ما كان مأخوذًا على هذه
الصفة يختص بذوي الشوكة فيؤخذ ذلك المقدار من
أموالهم ولا يضربه الإمام على رؤوسهم.
قوله: "إن كان
باليمن كيد ذات غدر" إنما أنَّث الكيد هنا
لأنه أراد به الحرب
ج / 8 ص -60-
ولفظ الجامع كيد إذا بغدر. وفي الإرشاد
كيد أو غدر وهكذا لفظ أبي داود. قوله:
"ولا يخرج لهم قس" بفتح القاف وتشديد
المهملة بعدها
قال في القاموس:
هو رئيس النصارى في العلم. قوله: "أو
يأكلوا الربا" زاد أبو داود قال إسماعيل قد
أكلوا الربا.
9- وعن ابن شهاب قال:
"أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل
نجران وكانوا نصارى". رواه أبو عبيد في
الأموال.
10- وعن ابن عباس قال:
"كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن
عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير
كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع
أبناءنا فأنزل اللّه عز وجل
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}".
رواه أبو داود وهو دليل على أن الوثني إذا
تهود يقر ويكون كغيره من أهل الكتاب.
11- وعن ابن أبي نجيح
قال: "قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم
أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل
ذلك من قبيل اليسار". أخرجه البخاري.
حديث ابن شهاب مرسل.
وحديث ابن عباس أخرجه أيضًا النسائي وقد رواه
أبو داود من ثلاث طرق والنسائي من طريقين
وجميع رجاله لا مطعن فيهم. قوله:
"مقلاة" بكسر الميم وسكون القاف
قال في مختصر النهاية:
هي المرأة التي لا يعيش لها ولد.
قوله: "فأنزل اللّه
عز وجل لا إكراه في الدين" فيه دليل على أنه
إذا اختار الوثني الدخول في اليهودية أو
النصرانية جاز تقريره على ذلك بشرط أن يلتزم
بما وضعه المسلمون على أهل الذمة.
قوله: "ما شأن أهل
الشام" الخ أشار بهذا الأثر إلى جواز
التفاوت في الجزية وأقل الجزية عند الجمهور
دينار في كل سنة من كل حالم لحديث معاذ
المتقدم وما ورد في معناه وظاهره المساواة بين
الغني والفقير وخصته الحنفية بالفقير قالوا
وأما المتوسط فعليه ديناران وعلى الغني أربعة
وهو موافق لأثر مجاهد المذكور وعند الشافعية
إن للإمام أن يماكس حتى يأخذها منهم وبه قال
أحمد. وحكى في البحر عن الهادي والقاسم
والمؤيد باللّه وأبي حنيفة وأصحابه أنها تكون
من الفقير اثنتي عشرة قفلة ومن الغني ثمانيًا
وأربعين ومن المتوسط أربعًا وعشرين وتمسكوا
بما رواه أبو عبيد من طريق أبي إسحاق عن حارثة
بن مضرب عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف بوضع
الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة
وعشرين واثني عشر.
قال في الفتح:
وهذا على حساب الدينار باثني عشر وأخرجه
البيهقي من طريق مرسلة بلفظ: "إن عمر ضرب
الجزية على الغني ثمانية وأربعين درهمًا وعلى
المتوسط أربعة وعشرين وعلى الفقير المكتسب
اثني عشر" وأخرج البيهقي أيضًا عن
ج / 8 ص -61-
عمر
أنه وضع على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل
الورق ثمانية وأربعين. وأخرج أيضًا عنه أنه
قال دينار الجزية اثنا عشر درهمًا قال ويروى
عنه بإسناد ثابت عشرة دراهم قال ووجهه التقويم
باختلاف السعر
وقال مالك: لا يزيد على
الأربعين وينقص منها عمن لا يطيق.
قال في الفتح: وهذا يحتمل
أن يكون جعله على حساب الدينار بعشرة والقدر
الذي لا بد منه دينار وحكى في البحر عن النفس
الزكية وأبي حنيفة والشافعي في قول له أنه لا
جزية على فقير وهذا يخالف ما حكاه في الفتح عن
الحنفية والشافعية كما قدمنا ولعل ما وقع من
عمر وغيره من الصحابة من الزيادة على الدينار
لأنهم لم يفهموا من النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم حدًا محدودًا أو أن حديث معاذ المتقدم
واقعة عين لا عموم لها وأن الجزية نوع من
الصلح كما قدمنا وقد تقدم ما كان يأخذه صلى
اللّه عليه وآله وسلم من أهل نجران وحكى في
البحر عن الهادي أن الغني من يملك ألف دينار
نقدًا وبثلاثة آلاف دينار عروضًا ويركب الخيل
ويتختم الذهب.
وقال المؤيد باللّه: إن
الغنى هو العرفي وقواه المهدي وقال المنصور
باللّه: بل الشرعي
قال في الفتح "واختلف
السلف" في أخذها من الصبي فالجمهور قالوا لا
تؤخذ على مفهوم حديث معاذ وكذا لا تؤخذ من شيخ
فان ولا زمن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن
الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع في قول
والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخرًا
اهـ.
وقد أخرج البيهقي من طريق زيد بن أسلم عن أبيه
أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد أن لا تضربوا
الجزية إلا على من جرت عليه المواسي وكان لا
يضرب على النساء والصبيان ورواه من طريق أخرى
بلفظ: "ولا تضعوا الجزية على النساء
والصبيان" ولكنه قد أخرج أبو عبيد في كتاب
الأموال عن عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن أبي
الأسود عن عروة قال: "كتب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن
أنه من كان على
يهوديته أو نصرانيته فإنه لا ينزعها وعليه
الجزية على كل حال ذكرًا أو أنثى عبد أو أمة
دينار واف أو قيمته"
ورواه ابن زنجويه في الأموال عن النضر بن شميل
عن عوف عن الحسن قال: "كتب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم" فذكره. قال
الحافظ: وهذان مرسلان يقوي أحدهما الآخر.
وروى أبو عبيد أيضًا في الأموال عن يحيى بن
سعيد عن قتادة عن شقيق العقيلي عن أبي عياض عن
عمر قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم أهل
خراج يؤدي بعضهم عن بعض.
12- وعن ابن عباس قال: "قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
لا تصلح قبلتان في أرض وليس على مسلم جزية". رواه أحمد وأبو داود وقد احتج به على سقوط الجزية بالإسلام
وعلى المنع من إحداث بيعة أو كنيسة.
13- وعن رجل من بني تغلب: "أنه سمع رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
ليس على
المسلمين عشور إنما العشور على اليهود
والنصارى".
رواه أحمد وأبو داود.
ج / 8 ص -62-
14- وعن أنس: "أن امرأة يهودية أتت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بشاة مسمومة
فأكل منها فجيء بها إلى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت
أن أقتلك فقال:
ما كان اللّه ليسلطك على ذلك
قال فقالوا ألا نقتلها قال
لا فما زلت أعرفها في لهوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه أحمد ومسلم وهو دليل على أن
العهد لا ينتقض بمثل هذا الفعل. حديث ابن
عباس سكت عنه أبو داود ورجال إسناده موثقون
وقد تكلم في قابوس بن الحصين بن جندب ووثقه
ابن معين.
وقال المنذري:
أخرجه الترمذي وذكر أنه مرسل ويشهد له ما تقدم
أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: "المسلم
والكافر لا تتراءى ناراهما"
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" قال ابن شهاب: ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه الثلج واليقين عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذا فأجلى يهود
خيبر
قال مالك
وقد أجلى عمر يهود نجران وفدك. ورواه مالك
في الموطأ أيضًا عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه
سمع عمر بن عبد العزيز يقول بلغني أنه كان من
آخر ما تكلم به رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم أن قال: قاتل اللّه اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى
دينان بأرض العرب. ووصله صالح بن أبي الأخضر
عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه إسحاق
في مسنده. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن
الزهري عن سعيد بن المسيب فذكره مرسلا وزاد
فقال عمر: من كان منكم عنده عهد من رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فليأت به وإلا
فإني مجليكم. ورواه أحمد في مسنده موصولا عن
عائشة ولفظه: قالت آخر ما عهد رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم أن لا يترك بجزيرة
العرب دينان. أخرجه من طريق ابن إسحاق حدثني
صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد
اللّه بن عتبة عنها وحديث الرجل الذي من بني
تغلب أخرجه البخاري في التاريخ وساق الاضطراب
فيه وقال لا يتابع عليه.
قال المنذري:
وقد فرض النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
العشور فيما أخرجت الأرض في خمسة أوساق وقد
أخرجه أبو داود أيضًا من طريق أخرى من حديث
حرب بن عبيد اللّه عن جده أبي أمه قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم: إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور" ولم يتكلم أبو داود ولا المنذري على إسناده وأخرجه أيضًا من طريق
أخرى عن حرب بن عبيد اللّه فقال الخراج مكان
العشور.
وأخرجه أيضًا من طريق
أخرى عن رجل من بكر بن وائل عن خاله قال قلت
يا رسول اللّه أعشر قومي قال:
"إنما العشور على اليهود والنصارى".
وقد سكت أبو داود والمنذري عنه وفي إسناده الرجل البكري وهو
مجهول وخاله أيضًا مجهول ولكنه صحابي.
قوله: "لا تصلح
قبلتان" سيأتي الكلام عن ذلك في الباب الذي
بعد هذا.
قوله: "وليس على
مسلم جزية" لأنها إنما ضربت على أهل الذمة
ليكون بها حقن الدماء وحفظ الأموال والمسلم
بإسلامه قد صار محترم الدم والمال.
قوله: "عشور" هي
جمع عشر وهو واحد من عشرة أي ليس عليهم غير
الزكاة من
ج / 8 ص -63-
الضرائب والمكس ونحوهما.
قال في القاموس:
عشرهم يعشرهم عشرًا وعشورًا أخذ عشر أموالهم
انتهى.
وقال الخطابي:
يريد عشور التجارات دون عشور الصدقات قال
والذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما
صولحوا عليه وإن لم يصالحوا عليه فلا شيء
عليهم غير الجزية انتهى. ولعله يريد على
مذهب الشافعي.
وأما عند الحنفية
والزيدية فإنهم يقولون يؤخذ من تجار أهل الذمة
نصف عشر ما يتجرون به إذا كان نصابًا وكان ذلك
الاتجار بأماننا ويؤخذ من تجار أهل الحرب
مقدار ما يأخذون من تجارنا فإن التبس المقدار
وجب الاقتصار على العشر وقد أخرج البيهقي عن
محمد بن سيرين أن أنس بن مالك قال له أبعثك
على ما بعثني عليه عمر فقال لا أعمل لك عملا
حتى تكتب لي عهد عمر الذي كان عهد إليك فكتب
لي أن تأخذ لي من أموال المسلمين ربع العشر
ومن أموال أهل الذمة إذا اختلفوا للتجارة نصف
العشر ومن أموال أهل الحرب العشر.
وأخرج سعيد بن منصور عن
زياد بن حدير قال استعملني عمر بن الخطاب على
العشور فأمرني أن آخذ من تجار أهل الحرب العشر
ومن تجار أهل الذمة نصف العشر ومن تجار
المسلمين ربع العشر. وأخرج مالك عن ابن شهاب
عن سالم عن أبيه كان عمر يأخذ من القبط من
الحنطة والزيت نصف العشر يريد بذلك أن يكثر
الحمل إلى المدينة ولا يؤخذ ذلك منهم إلا في
السنة مرة لظاهر اقترانه بربع العشر الذي على
المسلمين وأما اشتراط النصاب والانتقال بأمان
المسلمين كما قاله جماعة من الزيدية فلم أقف
في شيء من السنة أو أفعال أصحابه على ما يدل
عليه وفعل عمر وإن لم يكن حجة لكنه قد عمل
الناس به قاطبة فهو إجماع سكوتي. ويمكن أن
يقال لا يسلم الإجماع على ذلك والأصل تحريم
أموال أهل الذمة حتى يقوم دليل والحديث
محتمل.
وقد استنبط المصنف رحمه
اللّه من حديث ابن عباس المذكور في الباب
المنع من إحداث بيعة أو كنيسة وأخرج البيهقي
من طريق حزام بن معاوية قال كتب إلينا عمر أبو
الخيل ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب ولا
تجاوركم الخنازير وفي إسناده ضعف وأخرجه أيضًا
الحافظ الحراني وروى ابن عدي عن عمر مرفوعًا
لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب
منها.
وروى البيهقي عن ابن
عباس كل مصر مصره المسلمون لا تبنى فيه بيعة
ولا كنيسة ولا يضرب فيه ناقوس ولا يباع فيه
لحم خنزير وفي إسناده حنش وهو ضعيف.
وروى أبو عبيد في كتاب
الأموال عن نافع عن أسلم أن عمر أمر في أهل
الذمة أن تجز نواصيهم وأن يركبوا على الأكف
عرضًا ولا يركبوا كما يركب المسلمون وأن
يوثقوا المناطق.
قال أبو عبيد:
يعني الزنانير وروى البيهقي عن عمر أنه كتب
إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة
بخاتم الرصاص وأن تجز نواصيهم وأن تشد
المناطق.
وحديث أنس المذكور في
الباب استدل به المصنف رحمه اللّه على أن
إرادة القتل من الذمي لا ينتقض بها عهده لأن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقتلها بعد
أن اعترفت بذلك والقصة معروفة في كتب السير
والحديث والخلاف فيها مشهور.
وقد جزم بعض أهل العلم
بأنه يقتل من سب النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم من أهل الذمة
ج / 8 ص -64-
واستدل بأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بقتل من كان يشتمه من كفار قريش كما سبق
وتعقبه ابن عبد البر بأن كفار قريش المأمور
بقتلهم يوم الفتح كانوا حربيين.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن
جريج قال أخبرت أن أبا عبيدة بن الجراح وأبا
هريرة قتلا كتابيين أرادا امرأة على نفسها
مسلمة وروى البيهقي من طريق الشعبي عن سويد بن
غفلة قال كنا عند عمر وهو أمير المؤمنين
بالشام فأتى نبطي مضروب مشجج يستعدي فغضب عمر
وقال لصهيب انظر من صاحب هذا فذكر القصة فجيء
به فإذا هو عوف بن مالك فقال رأيته يسوق
بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع ثم
دفعها فخرت عن الحمار فغشيها ففعلت به ما ترى
فقال عمر واللّه ما على هذا عاهدناكم فأمر به
فصلب ثم قال يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى
اللّه عليه وآله وسلم فمن فعل منهم هذا فلا
ذمة له.
باب منع أهل
الذمة من سكنى الحجاز
1- عن ابن عباس قال:
"اشتد برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو
ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة". متفق عليه
والشك من سليمان الأحول.
2- وعن عمر: "أنه
سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا
أدع فيها إلا مسلمًا". رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
3- وعن عائشة قالت:
"آخر ما عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم أن قال:
لا يترك بجزيرة العرب دينان".
4- وعن أبي عبيدة بن
الجراح قال:
"آخر ما تكلم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخرجوا يهود
أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب". رواهما أحمد.
5- وعن ابن عمر: "أن
عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وذكر
يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء
وأريحاء". رواه البخاري.
حديث عائشة قد قدمنا أنه
رواه أحمد في مسنده من طريق ابن إسحاق قال
حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد اللّه
بن عبد اللّه بن عتبة عنها. وحديث أبي عبيدة
أخرجه أيضًا البيهقي وهو في مسند مسدد وفي
مسند الحميدي أيضًا. قوله: "من جزيرة
العرب" قال
ج / 8 ص -65-
الأصمعي: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولا ومن جدة
وما والاها من أطراف الشام عرضًا وسميت جزيرة
لإحاطة البحار بها يعني بحر الهند وبحر فارس
والحبشة. وأضيفت إلى العرب لأنها كانت
بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم ومنازلهم.
قال في القاموس:
وجزيرة العرب ما أحاط بها بحر الهند وبحر
الشام ثم دجلة والفرات أو ما بين عدن أبين إلى
أطراف الشام طولا ومن جدة إلى ريف العراق
عرضًا انتهى.
وظاهر حديث ابن عباس أنه
يجب إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان
يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا ويؤيد هذا ما
في حديث عائشة المذكور بلفظ:
"لا يترك بجزيرة العرب دينان" وكذلك حديث عمر وأبي عبيدة بن الجراح لتصريحهما بإخراج اليهود
والنصارى وبهذا يعرف أن ما وقع في بعض ألفاظ
الحديث من الاقتصار على الأمر بإخراج اليهود
لا ينافي الأمر العام لما تقرر في الأصول أن
التنصيص على بعض أفراد العام لا يكون مخصصًا
للعام المصرح به في لفظ آخر وما نحن فيه من
ذلك.
قوله: "ونسيت
الثالثة" قيل هي تجهيز أسامة وقيل يحتمل
أنها قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: "لا تتخذوا قبري وثنًا"
وفي الموطأ ما يشير إلى ذلك. وظاهر الحديث
أنه يجب إخراج المشركين من كل مكان داخل في
جزيرة العرب.
وحكى الحافظ في الفتح في كتاب الجهاد
عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون من
جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال وهو مكة
والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك
مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب لاتفاق الجميع
على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة
جزيرة العرب قال وعن الحنفية يجوز مطلقًا إلا
المسجد. وعن مالك يجوز دخولهم الحرم
للتجارة. وقال الشافعي لا يدخلون الحرم أصلا
إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين انتهى.
قال ابن عبد البر في الاستذكار ما لفظه:
قال الشافعي جزيرة العرب التي أخرج عمر اليهود
والنصارى منها مكة والمدينة واليمامة
ومخاليفها فأما اليمن فليس من جزيرة العرب
انتهى.
قال في البحر:
مسألة ولا يجوز إقرارهم في الحجاز إذ أوصى صلى
اللّه عليه وآله وسلم بثلاثة أشياء إخراجهم من
جزيرة العرب الخبر ونحوه والمراد بجزيرة العرب
في هذه الأخبار مكة والمدينة واليمامة
ومخاليفها ووج والطائف وما ينسب إليهما وسمى
الحجاز حجازًا لحجزه بين نجد وتهامة ثم حكى
كلام الأصمعي السابق ثم حكى عن أبي عبيدة أنه
قال جزيرة العرب هي ما بين حفر أبي موسى وهو
قريب من البصرة إلى أقصى اليمن طولا وما بين
يبرين إلى السماوة عرضًا ثم قال لنا ما روى
أبو عبيدة أن آخر ما تكلم به النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم أخرجوا اليهود من جزيرة
العرب. الخبر وأجلى عمر أهل الذمة من الحجاز
فلحق بعضهم بالشام وبعضهم بالكوفة وأجلى أبو
بكر قومًا فلحقوا بخيبر فاقتضى أن المراد
الحجاز لا غير انتهى. ولا يخفى أنه لو كان
حديث أبي عبيدة باللفظ الذي ذكره لم يدل على
أن المراد بجزيرة العرب هو الحجاز فقط ولكنه
باللفظ الذي ذكره المصنف فيكون دليلا لتخصيص
جزيرة العرب بالحجاز وفيه ما سيأتي.
قال المهدي
في الغيث
ج / 8 ص -66-
ناقلا عن الشفاء للأمير الحسين: إنما قلنا
بجواز تقريرهم في غير الحجاز لأن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لما قال
"أخرجوهم من جزيرة العرب"
ثم قال أخرجوهم من الحجاز عرفنا أن مقصوده
بجزيرة العرب الحجاز فقط ولا مخصص للحجاز عن
سائر البلاد إلا برعاية أن المصلحة في إخراجهم
منه أقوى فوجب مراعاة المصلحة إذا كانت في
تقريرهم أقوى منها في إخراجهم انتهى.
وقد أجيب عن هذا
الاستدلال بأجوبة منها أن حمل جزيرة العرب على
الحجاز وإن صح مجازًا من إطلاق اسم الكل على
البعض فهو معارض بالقلب وهو أن يقال المراد
بالحجاز جزيرة العرب إما لانحجازها بالأبحار
كانحجازها بالحرار الخمس وإما مجاز من إطلاق
اسم الجزء على الكل فترجيح أحد المجازين مفتقر
إلى دليل ولا دليل إلا ما ادعاه من فهم أحد
المجازين ومنها أن في خبر جزيرة العرب زيادة
لم تغير حكم الخبر والزيادة كذلك مقبولة.
ومنها أن استنباط كون علة التقرير في غير
الحجاز هي المصلحة فرع ثبوت الحكم أعني
التقرير لما علم من أن المستنبطة إنما تؤخذ من
حكم الأصل بعد ثبوته والدليل لم يدل إلا على
نفي التقرير لا ثبوته لما تقدم في حديث المسلم
والكافر لا تتراءى ناراهما.
وحديث لا يترك بجزيرة
العرب دينان ونحوهما فهذا الاستنباط واقع في
مقابلة النص المصرح فيه بأن العلة كراهة
اجتماع دينين فلو فرضنا أنه لم يقع النص إلا
على إخراجهم من الحجاز لكان المتعين إلحاق
بقية جزيرة العرب به لهذه العلة فكيف والنص
الصحيح مصرح بالإخراج من جزيرة العرب وأيضًا
هذا الحديث الذي فيه الأمر بالإخراج من الحجاز
فيه الأمر بإخراج أهل نجران كما وقع في حديث
الباب وليس نجران من الحجاز فلو كان لفظ
الحجاز مخصصًا للفظ جزيرة العرب على انفراده
أو دالا على أن المراد بجزيرة العرب الحجاز
فقط لكان في ذلك إهمال لبعض الحديث وإعمال
لبعض وأنه باطل وأيضًا غاية ما في حديث أبي
عبيدة الذي صرح فيه بلفظ أهل الحجاز مفهومه
معارض لمنطوق ما في حديث ابن عباس المصرح فيه
بلفظ جزيرة العرب والمفهوم لا يقوى على معارضة
المنطوق فكيف يرجح عليه ـ فإن قلت ـ فهل يخصص
لفظ جزيرة العرب المنزل منزلة العام لما له من
الإجزاء بلفظ الحجاز عند من جوز التخصيص
بالمفهوم قلت هذا المفهوم من مفاهيم اللقب وهو
غير معمول به عند المحققين من أئمة الأصول حتى
قيل إنه لم يقل به إلا الدقاق وقد تقرر عند
فحول أهل الأصول أن ما كان من هذا القبيل يجعل
من قبيل التنصيص على بعض الأفراد لا من قبيل
التخصيص إلا عند أبي ثور. قوله: "أهل
الحجاز"
قال في القاموس:
والحجاز مكة والمدينة والطائف ومخالفيها لأنها
حجزت بين نجد وتهامة أو بين نجد والسراة أو
لأنها احتجزت بالحرار الخمس حرة بني سليم
وواقم وليلى وشوران والنار انتهى.
باب ما جاء في
بداءتهم بالتحية وعيادتهم
1- عن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام وإذا
لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها". متفق عليه.
2- وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم".
متفق عليه. وفي رواية لأحمد:
"فقولوا عليكم" بغير واو.
3- وعن ابن عمر قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم: إن اليهود إذا سلم أحدهم إنما يقول السام
عليكم فقل عليك".
متفق عليه. وفي رواية لأحمد ومسلم:
"وعليك" بالواو.
4- وعن عائشة قالت:
"دخل رهط من اليهود على رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقالوا السام عليك قالت
عائشة: ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة
قالت: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
مهلا يا عائشة إن اللّه يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول اللّه ألم تسمع ما قالوا فقال:
قد قلت وعليكم".
متفق عليه. وفي لفظ:
"عليكم" أخرجاه.
5- وعن عقبة بن عامر
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
إني راكب غدًا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام
وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم". رواه أحمد.
قوله: "لا تبدؤوا
اليهود" الخ فيه تحريم ابتداء اليهود
والنصارى بالسلام وقد حكاه النووي عن عامة
السلف وأكثر العلماء.
قال:
وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام
روي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز
وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي لكنه قال
يقول السلام عليك ولا يقول عليكم بالجمع واحتج
هؤلاء بعموم الأحاديث الواردة في إفشاء السلام
وهو من ترجيح العمل بالعام على الخاص. وذلك
مخالف لما تقرر عند جميع المحققين ولا شك أن
هذا الحديث الوارد في النهي عن ابتداء اليهود
والنصارى بالسلام أخص منها مطلقًا والمصير إلى
بناء العام على الخاص واجب.
وقال بعض أصحاب الشافعي:
يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم وهو مصير إلى
معنى النهي المجازي بلا قرينة صارفة إليه.
وحكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم
به للضرورة والحاجة وهو قول علقمة والنخعي.
وروي عن الأوزاعي أنه قال:
إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك
الصالحون.
قوله: "وإذا
لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها" أي
ألجؤهم إلى المكان الضيق منها وفيه دليل على
أنه لا يجوز للمسلم أن يترك للذمي صدر الطريق
وذلك نوع من إنزال الصغار بهم والإذلال
ج / 8 ص -68-
لهم.
قال النووي:
وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه
جدار ونحوه.
قوله: "فقولوا
وعليكم" في الرواية الأخرى:
"فقولوا عليكم"
وفي الرواية الثالثة:
"فقل عليك" فيه دليل على أنه يرد على أهل الكتاب إذا وقع منهم الابتداء
بالسلام ويكون الرد بإثبات الواو وبدونها
وبصيغة المفرد والجمع وكذا يرد عليهم لو قالوا
السام بحذف اللام وهو عندهم الموت.
قال النووي في شرح مسلم:
اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا
سلموا لكن لا يقال لهم وعليكم السلام بل يقال
عليكم أو وعليكم فقد جاءت الأحاديث بإثبات
الواو وحذفها وأكثر الروايات بإثباتها.
قال:
وعلى هذا في معناه وجهان: أحدهما أنه على
ظاهره فقالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضًا
أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني
أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك
وتقديره وعليكم ما تستحقونه من الذم.
وأما من حذف الواو
فتقديره بل عليكم السام
قال القاضي
اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي حذف
الواو فتقديره بل عليكم السام. وقال غيره
بإثباتها.
قال:
وقال بعضهم يقول عليكم السلام بكسر السين أي
الحجارة وهذا ضعيف. وقال الخطابي: عامة
المحدثين يروون هذا الحرف وعليكم بالواو وكان
ابن عيينة يرويه بغير واو قال وهذا هو الصواب
لأنه إذا حذف الواو صار كلامهم بعينه مردودًا
عليهم خاصة وإذا ثبت الواو اقتضى الشركة معهم
فيما قالوه.
قال النووي:
والصواب أن إثبات الواو جائز كما صحت به
الروايات وأن الواو أجود ولا مفسدة فيه لأن
السام الموت وهو علينا وعليهم فلا ضرر في
المجيء بالواو. وحكى النووي بعد أن حكى
الإجماع المتقدم عن طائفة من العلماء أنه لا
يرد على أهل الكتاب السلام. قال: ورواه
ابن وهب وأشهب عن مالك.
وحكى الماوردي عن بعض
أصحاب الشافعي أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم
وعليكم السلام ولكن لا يقول ورحمة اللّه.
قال النووي:
وهو ضعيف مخالف للأحاديث. قال: ويجوز
الابتداء على جمع فيهم مسلمون وكفار أو مسلم
وكافر ويقصد المسلمين للحديث الثابت في الصحيح
أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم سلم على مجلس
فيه أخلاط من المسلمين والمشركين.
قوله: "إن اللّه يحب
الرفق في الأمر كله" هذا من عظيم خلقه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وكمال حلمه وفيه حث على
الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع
حاجة إلى المخاشنة وفي الحديث استحباب تغافل
أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليهم
مفسدة. قال الشافعي: الكيس العاقل هو
الفطن المتغافل.
6- وعن أنس قال:
"كان غلام يهودي يخدم رسول اللّه صلى اللَّه
عليه وآله وسلم فمرض فأتاه النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال
له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له
أطع أبا القاسم فأسلم فخرج النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم وهو يقول
الحمد للّه الذي أنقذه بي من النار".
رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية
لأحمد:
"أن غلامًا يهوديًا كان يضع
ج / 8 ص -69-
للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وضوءه ويناوله
نعليه فمرض"
فذكر الحديث.
قوله: "كان غلام
يهودي" زعم بعضهم أن اسمه عبد القدوس.
وفي الحديث دليل
على جواز زيارة أهل الذمة إذا كان الزائر يرجو
بذلك حصول مصلحة دينية كإسلام المريض.
قال المنذري:
قيل يعاد المشرك ليدعى إلى الإسلام إذا رجي
إجابته ألا ترى أن اليهودي أسلم حين عرض عليه
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الإسلام فأما
إذا لم يطمع في الإسلام ولا يرجو إجابته فلا
ينبغي عيادته. وهكذا
قال ابن بطال:
إنها إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجي أن يجيب
إلى الدخول في الإسلام فأما إذا لم يطمع في
ذلك فلا.
قال الحافظ:
والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد
يقع بعيادته مصلحة أخرى
قال الماوردي:
عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع
حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة.
وقد بوب البخاري على هذا
الحديث باب عيادة المشرك.
باب قسمة خمس
الغنيمة ومصرف الفيء
1- عن جبير بن مطعم
قال: "مشيت أنا وعثمان إلى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقلنا أعطيت بني المطلب
من خمس خيبر وتركتنا قال:
"إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"
قال جبير:
ولم يقسم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لبني
عبد شمس ولا لبني نوفل شيئًا". رواه أحمد
والبخاري والنسائي وابن ماجه. وفي رواية:
"لما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم سهم ذي القربى من خيبر بين بني هاشم وبني
المطلب جئت أنا وعثمان بن عفان فقلنا يا رسول
اللّه هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك
الذي وضعك اللّه عز وجل منهم أرأيت إخواننا من
بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك
بمنزلة واحدة قال:
"إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء
واحد"
قال: ثم شبك بين أصابعه" رواه أحمد
والنسائي وأبو داود والبرقاني وذكر أنه على
شرط مسلم.
قوله: "مشيت أنا
وعثمان" إنما اختص جبير وعثمان بذلك لأن
عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل وعبد
شمس ونوفل وهاشم والمطلب هم بنو عبد مناف فهذا
معنى قولهما ونحن وهم منك بمنزلة واحدة أي في
الانتساب إلى عبد مناف.
قوله: "شيء واحد"
بالشين المعجمة المفتوحة والهمزة كذا
للأكثر.
وقال عياض:
هكذا في البخاري بغير خلاف. وفي رواية
للكشميهني والمستملي بالمهملة المكسورة وتشديد
التحتانية وكذا كان يرويه يحيى بن معين.
ج / 8 ص -70-
قال الخطابي: هو
أجود في المعنى. وحكاه عياض رواية خارج
الصحيح وقال الصواب رواية الكافة لقوله فيه
"وشبك بين أصابعه" وهذا دليل على الاختلاط
والامتزاج كالشيء الواحد لا على التمثيل
والتنظير. ووقع في رواية أبي زيد المروزي
شيء أحد بغير واو وبهمز الألف فقيل هما
بمعنى.
وقيل الأحد الذي ينفرد بشيء لا يشاركه فيه
غيره والواحد أول العدد. وقيل الأحد المنفرد
بالمعنى والواحد المنفرد بالذات. وقيل الأحد
لنفي ما يذكر معه من العدد والواحد اسم لمفتاح
العدد ومن جنسه. وقيل لا يقال أحد إلا للّه
تعالى حكى ذلك جميعه عياض.
قوله: "ولم يقسم" الخ هذا أورده البخاري
في كتاب الخمس معلقًا ووصله في المعازي عن
يحيى بن بكير عن الليث عن يونس بتمامه وزاد
أبو داود بهذا الإسناد وكان أبو بكر يقسم
الخمس نحو قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وكان عمر يعطيهم منه
وعثمان بعده. وهذه الزيادة مدرجة من كلام
الزهري والسبب الذي لأجله أعطى النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بني المطلب مع بني هاشم
دون غيرهم ما تقدم لهم من المعاضدة لبني هاشم
والمناصرة فمن ذلك أنه لما كتبت قريش الصحيفة
بينهم وبين بني هاشم وحصروهم في الشعب دخل بنو
المطلب مع بني هاشم ولم يدخل بنو نوفل وبنو
عبد شمس كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير.
وفي هذا الحديث دليل للشافعي
ومن وافقه أن سهم ذوي القربى لبني هاشم
والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم من قريش. وعن عمر بن عبد
العزيز هم بنو هاشم خاصة وبه قال زيد بن أرقم
وطائفة من الكوفيين وإليه ذهب جميع أهل
البيت. وهذا الحديث حجة لأهل القول الأول.
وقد قيل إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إنما أعطى بني المطلب لعلة الحاجة ورد بأنه لو
كان الأمر كذلك لم يخص النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم قومًا دون قوم وأيضًا الحديث مصرح
بأنه إنما أعطاهم لكونهم هم وذرية هاشم شيء
واحد وبمنزلة واحدة لكونهم لم يفارقوه في
جاهلية ولا إسلام
ـ والحاصل ـ أن الآية دلت على
استحقاق قربى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وهي متحققة في بني عبد شمس وبني نوفل.
واختلفت الشافعية في سبب إخراجهم فقيل العلة
القرابة مع النصرة. فلذلك دخل بنو هاشم وبنو
المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل لفقدان
جزء العلة أو شرطها. وقيل سبب الاستحقاق
القرابة. ووجد في بني عبد شمس ونوفل مانع
لكونهم انحازوا عن بني هاشم وحاربوهم. وقيل
إن القربى عام خصصته السنة.
2- وعن علي رضي اللّه عنه قال: "اجتمعت
أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت يا رسول اللّه
إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس في كتاب
اللّه تعالى فأقسمه في حياتك كيلا ينازعني أحد
بعدك فأفعل قال ففعل ذلك فقسمته حياة رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم ولانيه أبو
بكر حتى كانت آخر سنة من سني عمر فإنه أتاه
مال كثير". رواه أحمد وأبو داود.
ج / 8 ص -71-
3- وعن علي رضي اللّه عنه قال: "ولاني
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خمس
الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وحياة أبي بكر وحياة
عمر". رواه أبو داود وهو دليل على أن
مصارف الخمس خمسة.
4- وعن يزيد بن هرمز:
"أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن الخمس
لمن هو فكتب إليه ابن عباس كتبت تسألني عن
الخمس لمن هو فإنا نقول هو لنا فأبى علينا
قومنا ذلك". رواه أحمد ومسلم. وفي
رواية: "أن نجدة الحروري حين خرج في فتنة
ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي
القربى لمن يراه فقال هو لنا لقربى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لهم قسمه رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لهم وقد كان عمر عرض
علينا شيئًا منه رأيناه دون حقنا فرددناه إليه
وأبينا أن نقبله وكان الذي عرض عليهم أن يعين
ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم وأن يعطي فقيرهم
وأبى أن يزيدهم على ذلك" رواه أحمد
والنسائي.
5- وعن عمر بن الخطاب
قال:
"كانت أموال بني النضير مما أفاء اللّه على رسوله مما لم يوجف عليه
المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت للنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فكان ينفق على أهله نفقة
سنته".
وفي لفظ: "يحبس لأهله وقت سنتهم ويجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل
اللّه".
متفق عليه.
حديث علي الأول في
إسناده حسين بن ميمون الخندقي
قال أبو حاتم الرازي:
ليس بقوي الحديث يكتب حديثه.
وقال علي بن المديني:
ليس بمعروف. وذكر له البخاري في تاريخه هذا
الحديث قال: وهو حديث لا يتابع عليه. وزاد
أبو داود بعد قوله فإنه أتاه مال كثير ما
لفظه: فعزل حقنا ثم أرسل إلي فقلت: بنا
عنه العام غنى وبالمسلمين إليه حاجة فاردده
عليهم ثم لم يدعني إليه أحد بعد عمر فلقيت
العباس بعد ما خرجت من عند عمر فقال يا علي
حرمتنا الغداة شيئًا لا يرد علينا أبدًا وكان
رجلا داهيًا.
وحديث علي الثاني في
إسناده أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان وقيل
ابن عبد اللّه بن ماهان وثقه علي بن المديني
وابن معين. ونقل عنهما خلاف ذلك وتكلم فيه
غير واحد.
قال في التقريب:
صدوق سيئ الحفظ خصوصًا عن مغيرة من كبار
السابعة مات في إحدى وستين. وتمام الحديث
عند أبي داود فأتي بمال يعني عمر فدعاني فقلت
خذه قال
ج / 8 ص -72-
خذه فأنتم أحق به قلت قد استغنينا عنه فجعله
في بيت المال.
قوله: "وعن يزيد بن
هرمز" بضم الهاء وسكون الراء وضم الميم
وبعدها زاي.
قوله: "أن نجدة"
بفتح النون وسكون الجيم بعدها دال مهملة وقد
تقدم ذكره.
قوله: "وكانت أموال
بني النضير" الخ.
قال في البخاري:
قال الزهري كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من
اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد
هكذا ذكره معلقًا ووصله عبد الرزاق في مصنفه
عن معمر عن الزهري أتم من هذا وهو في حديث عن
عروة ثم كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من
اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكانت
منازلهم ونخلهم بناحية المدينة فحاصرهم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى نزلوا على
الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة
والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فأنزل اللّه
فيهم
{سَبَّحَ لِلَّهِ}
إلى قوله {لأَوَّلِ الْحَشْرِ}
وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى
الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا
وكان اللّه كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم
في الدنيا بالقتل والسبي. وحكى ابن التين عن
الداودي أنه رجح ما قال ابن إسحاق من أن غزوة
بني النضير كانت بعد بئر معونة مستدلا بقوله
تعالى
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ
صَيَاصِيهِمْ}
قال:
وذلك في قصة الأحزاب.
قال في الفتح:
وهو استدلال واه فإن الآية نزلت في شأن بني
قريظة فإنهم هم الذين ظاهروهم وهم أي من
الأحزاب وأما بنو النضير فلم يكن لهم في
الأحزاب ذكر بل كان من أعظم الأسباب في جمع
الأحزاب ما وقع من إجلائهم فإنه كان من رؤوسهم
حيي بن أخطب وهو الذي حسن لبني قريظة الغدر
وموافقة الأحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان
فكيف يصير السابق لاحقًا انتهى.
ـ والأحاديث ـ
المذكورة في الباب فيها دليل على أن من مصارف
الخمس قربى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم وقد تقدم الخلاف في ذلك.
وروى أبو داود في حديث
أن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسم رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم غير أنه لم يكن يعطي
قربى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
وكان عمر يعطيهم أمنه وعثمان بعده وقد استدل
من قال أن الإمام يقسم الخمس حيث شاء بما
أخرجه أبو داود وغيره عن ضباعة بنت الزبير
قالت: أصاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
سبيًا فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله فقال
سبقتكما يتامى بدر. وفي الصحيح أن فاطمة بنت
رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم اشتكت
ما تلقى من الرحى مما تطحن فبلغها أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي بسبي فأتته
تسأله خادمًا فذكر الحديث وفيه
"ألا أدلكما على خير مما سألتما فذكر الذكر
عند النوم".
قال إسماعيل القاضي:
هذا الحديث يدل على أن للإمام أن يقسم الخمس
حيث يرى لأن الأربعة الأخماس استحقاق للغانمين
والذي يختص بالإمام هو الخمس وقد منع النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم ابنته وأعز الناس
عليه من قرابته وصرفه إلى غيرهم وقال بنحو ذلك
الطبري والطحاوي.
قال الحافظ:
في الاستدلال بذلك نظر لأنه يحتمل أن يكون ذلك
من الفيء.
قوله: "مما أفاء
اللّه على رسوله" قد تقدم الكلام في مصرف
الفيء.
6- وعن عوف بن مالك:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان إذا أتاه الفيء
ج / 8 ص -73-
قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب
حظًا". رواه أبو داود وذكره أحمد في رواية أبي
طالب وقال حديث حسن.
7- وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
ما أعطيكم ولا أمنعكم أنا قاسم أضع حيث أمرت". رواه البخاري ويحتج به من لم ير الفيء
ملكًا له.
8- وعن زيد بن أسلم:
"أن ابن عمر دخل على معاوية فقال حاجتك يا
أبا عبد الرحمن فقال: عطاء المحررين فإني
رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أول
ما جاءه شيء بدأ بالمحررين". رواه أبو
داود.
حديث عوف بن مالك سكت
عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وزاد
ابن المصنف فدعينا وكنت أُدعى قبل عمار فدعيت
فأعطاني حظين وكان لي أهل ثم دعا بعدي عمار بن
ياسر فأعطي حظًا واحدًا.
وحديث زيد بن أسلم سكت
عنه أيضًا أبو داود والمنذري. وفي إسناده
هشام بن سعد وفيه مقال.
قوله: "فأعطى
الآهل" أي من له أهل يعني زوجة. وفيه دليل
على أنه ينبغي أن يكون العطاء على مقدار أتباع
الرجل الذي يلزم نفقتهم من النساء وغيرهن إذ
غير الزوجة مثلها في الاحتياج إلى المؤنة.
قوله: "ما أعطيكم"
الخ فيه دليل على التفويض وأن النفع لا تأثير
فيه لأحد سوى اللّه جل جلاله. والمراد بقوله
أضع حيث أمرت إما الأمر الإلهامي أو الأمر
الذي طريقه الوحي. وقد استدل به من لم يجعل
الفيء ملكًا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم. وقد تقدم تفصيل ذلك.
قوله: "عطاء
المحررين" جمع محرر وهو الذي صار حرًا بعد
أن كان عبدًا وفي ذلك دليل على ثبوت نصيب لهم
في الأموال التي تأتي إلى الأئمة وأما نصيبهم
من الزكاة فقد تقدم الكلام فيه.
وقد أخرج أبو داود من
حديث عائشة
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة
والأمة قالت عائشة كان أبي يقسم للحر والعبد.
قوله: "بدأ
بالمحررين" فيه استحباب البداءة بهم
وتقديمهم عند القسمة على غيرهم.
9- وعن جابر قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
"لو قد جاءني مال البحرين لقد أعطيتك هكذا
وهكذا وهكذا"
فلم يجيء حتى قبض النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر
مناديًا فنادى من كان له عند رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم دين أو عدة فليأتنا
فأتيته فقلت: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال لي كذا وكذا
فحثى لي حثية وقال عدها فإذا هي خمسمائة فقال
خذ مثليها". متفق عليه.
10- وعن عمر بن عبد
العزيز: "أنه كتب أن من سأل عن مواضع
ج / 8 ص -74-
الفيء
فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب فرآه المؤمنون
عدلا موافقًا لقول النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم
"جعل اللّه الحق على لسان عمر وقلبه فرض الأعطية وعقد لأهل الأديان ذمة
بما فرض اللّه عليهم من الجزية ولم يضرب فيها
بخمس ولا مغنم". رواه أبو داود.
حديث عمر بن عبد العزيز فيه راو مجهول وأيضًا
فيه انقطاع لأن عمر بن عبد العزيز لم يدرك عمر
بن الخطاب والمرفوع منه مرسل.
وقد أخرج أبو داود من طريق أبي ذر رضي اللّه
عنه قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
إن اللّه تعالى وضع الحق على لسان عمر يقول
به"
أخرجه أيضًا ابن ماجه وفي إسناده محمد بن
إسحاق وفيه مقال مشهور وقد تقدم. قوله:
"مال البحرين" هو من الجزية
وقد قال ابن بطال: يحتمل أن
يكون من الخمس أو من الفيء وفي البخاري في باب
الجزية أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث
أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها
أي بجزية أهلها وكان الغالب أنهم إذ ذاك مجوس
وقد ترجم النسائي على هذا الحديث باب أخذ
الجزية من المجوس وذكر ابن سعد أن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بعد قسمة الغنائم
بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوى
عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الإسلام
فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية.
قوله: "أمر أبو بكر مناديًا ينادي"
قال الحافظ: لم أقف على
اسمه ويحتمل أن يكون بلالا. قوله: "فحثى
لي" بالمهملة والمثلثة.
قوله: "حثية" الخ في رواية للبخاري فحثى
لي ثلاثًا وفي رواية له وجعل سفيان يحثو بكفيه
وهذا يقتضي أن الحثية ما يؤخذ باليدين جميعًا
والذي قاله أهل اللغة أن الحثية ما تملأ الكف
والحفنة ما تملأ الكفين ثم ذكر أبو عبيد
الهروي أن الحثية والحفنة بمعنى والحثية من
حثى يحثى ويجوز حثوة من حثا يحثو وهما
لغتان.
قوله: "قد جعل اللّه الحق على لسان عمر"
فيه منقبة ظاهرة لعمر.
قوله: "ولم يضرب فيها بخمس" فيه دليل
على عدم وجوب الخمس في الجزية وفي ذلك خلاف
معروف في الفقه.
11- وعن مالك بن أوس قال: "كان عمر يحلف
على أيمان ثلاث واللّه ما أحد أحق بهذا المال
من أحد وما أنا أحق به من أحد وواللّه ما من
المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا
عبدًا مملوكًا ولكنا على منازلنا من كتاب
اللّه وقسمنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فالرجل وبلاؤه في الإسلام والرجل
وقدمه في الإسلام والرجل وغناؤه في الإسلام
والرجل وحاجته وواللّه لئن بقيت لهم لأوتين
الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى
مكانه". رواه أحمد في مسنده.
ج / 8 ص -75-
12- وعن عمر أنه قال يوم الجابية وهو يخطب
الناس: "إن اللّه عز وجل جعلني خازنًا
لهذا المال وقاسمًا له ثم قال بل اللّه قاسمه
وأنا بادئ بأهل النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم ثم أشرفهم ففرض لأزواج النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم عشرة آلاف إلا جويرية وصفية
وميمونة فقالت عائشة: إن رسول اللّه صلى
اللَّه عليه وآله وسلم كان يعدل بيننا فعدل
بينهن عمر ثم قال: إني بادئ بأصحابي
المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا
ظلمًا وعدوانًا ثم أشرفهم ففرض لأصحاب بدر
منهم خمسة آلاف ولمن كان شهد بدرًا من الأنصار
أربعة آلاف وفرض لمن شهد أحدًا ثلاثة آلاف قال
ومن أسرع في الهجرة أسرع به في العطاء ومن
أبطأ في الهجرة بطئ به في العطاء فلا يلومن
رجل إلا مناخ راحلته". رواه أحمد. الأثر
الأول أخرجه أيضًا البيهقي والأثر الآخر
قال في مجمع الزوائد:
رجال أحمد ثقات والأثران فيهما أن عمر كان
يفاضل في العطاء على حسب البلاء في الإسلام
والقدم فيه والغناء والحاجة ويفضل من شهد
بدرًا على غيره ممن لم يشهد وكذلك من شهد
أحدًا ومن تقدم في الهجرة.
وقد أخرج الشافعي في
الأم أن أبا بكر وعليًا ذهبا إلى التسوية بين
الناس في القسمة وأن عمر كان يفضل.
وروى البزار والبيهقي من
طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
قدم على أبي بكر مال البحرين فقال من كان له
على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عدة
فليأت فذكر الحديث بطوله في تسويته بين الناس
في القسمة وفي تفضيل عمر الناس على مراتبهم.
وروى البيهقي من وجه آخر
من طريق عيسى ين عبد اللّه الهاشمي عن أبيه عن
جده قال: أتت عليًا امرأتان فذكر القصة
وفيها: إني نظرت في كتاب اللّه فلم أر فضلًا
لولد إسماعيل على ولد إسحاق وروى البيهقي عن
عثمان أيضًا أنه كان يفاضل بين الناس كما كان
عمر يفاضل.
قوله: "وما أنا أحق
به من أحد" فيه دليل على أن الإمام كسائر
الناس لا فضل له على غيره في تقديم ولا توفير
نصيب.
قوله: "إلا عبدًا
مملوكًا" فيه دليل على أنه لا نصيب للعبد
المملوك في المال المذكور ولكن حديث عائشة
المتقدم قريبًا الذي أخرجه أبو داود عن
عائشة: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والأمة
وقول عائشة أن أبا بكر كان يقسم للحر والعبد
ولا شك أن أقوال الصحابة لا تعارض المرفوع
فمنع العبيد اجتهاد من عمر والنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قد أعطى الأمة ولا فرق بينها
وبين العبد ولهذا كان أبو بكر يعطي العبيد.
قوله: "ولكنا على
منازلنا من كتاب اللّه تعالى وقسمنا من رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم" فيه إشعار
بأن التفضيل لم يقع من عمر بمجرد الاجتهاد
وأنه فهم ذلك من الكتاب العزيز والسنة
النبوية.
قوله: "وغناؤه"
بالغين المعجمة وهو في الأصل الكفاية فالمراد
أن الرجل إذا كان له في القيام ببعض الأمور ما
ليس لغيره كان مستحقًا للتفضيل. قوله:
"لئن بقيت لأوتين الراعي"
ج / 8 ص -76-
فيه
مبالغة حسنة لأن الراعي الساكن في جبل منقطع
عن الحي في مكان بعيد إذا نال نصيبه فبالأولى
أن يناله القريب من المتولي للقسمة ومن كان
معروفًا من الناس ومخالطًا لهم.
قوله: "يوم الجابية" بالجيم وبعد الألف
موحدة وهي موضع بدمشق على ما في القاموس
وغيره.
قوله: "فإنا أخرجنا من ديارنا" هو تعليل
للبداءة بالمهاجرين الأولين لأن في ذلك مشقة
عظيمة ولهذا جعله اللّه قرينًا لقتل الأنفس
وكذلك في بعد العهد بالأوطان مشقة زائدة على
مشقة من كان قريب العهد والمهاجرون الأولون قد
أصيبوا بالمشقتين فكانوا أقدم من غيرهم ولهذا
قال في آخر الكلام ومن أسرع في الهجرة أسرع به
في العطاء الخ والمراد بقوله فلا يلومن رجل
إلا مناخ راحلته البيان لمن تأخر في العطاء
بأنه أتى من قبل نفسه حيث تأخر عن المسارعة
إلى الهجرة وأناخ راحلته ولم يهاجر عليها
ولكنه كنى بالمناخ عن القعود عن السفر إلى
الهجرة والمناخ بضم الميم كما في القاموس.
13- وعن قيس بن أبي حازم قال: "كان عطاء
البدريين خمسة آلاف خمسة آلاف وقال عمر:
لأفضلنهم على من بعدهم".
14- وعن نافع مولى ابن عمر: "أن عمر كان
فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لابن
عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من
المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف قال:
إنما هاجر به أبوه يقول ليس هو كمن هاجر
بنفسه".
15- وعن أسلم مولى عمر قال: "خرجت مع عمر
بن الخطاب إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة
فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية
صغارًا واللّه ما ينضجون كراعًا ولا لهم زرع
ولا ضرع وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا ابنة خفاف
بن إيماء الغفاري وقد شهد أبي الحديبية مع
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فوقف
معها عمر ولم يمض وقال مرحبا بنسب قريب ثم
انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار
فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا وجعل بينهما
نفقة وثيابًا ثم ناولها خطامه فقال: اقتاديه
فلن يفنى هذا حتى يأتيكم اللّه بخير فقال
رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها فقال:
ثكلتك أمك فواللّه إني لأرى أبا هذه وأخاها قد
حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه فأصبحنا نستفيء
سهمانهما فيه". أخرجهن البخاري.
ج / 8 ص -77-
16- وعن محمد ابن علي: "أن عمر لما دون
الدواوين قال: بمن ترون أبدأ قيل له ابدأ
بالأقرب فالأقرب بك قال: بل أبدأ بالأقرب
فالأقرب برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم". رواه الشافعي.
قوله: "لأفضلنهم على
من بعدهم" فيه إشعار بمزية البدريين من
الصحابة وأنه لا يلحق بهم من عداهم وإن هاجر
ونصر لحديث: "إن اللّه اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقد تقدم هذا الحديث وشرحه.
قوله: "إنما هاجر به
أبوه" فيه دليل على أن الهجرة التي يستحق
بها كمال أجر الدين والدنيا وهي التي تكون
باختيار وقصد لا مجرد الانتقال من المكان إلى
المكان فإن ذلك وإن كان هجرة في الصورة
والحقيقة لكن كمال الأجور يتوقف على ما قدمنا
ولهذا جعل عمر هجرة ابنه عبد اللّه كلا هجرة
وقال إنما هاجر به أبوه مع أنه قد كان مميزًا
وقت الهجرة.
قوله: "ما ينضجون"
بضم أوله ثم نون ثم ضاد معجمة ثم جيم أي لم
يبلغوا إلى سن من يقدر على الطبخ ومع ذلك
فليسوا بأهل أموال يستغنون بغلتها ولا أهل
مواش يعيشون بما يحصل من ألبانها وأدهانها
وأصوافها.
قوله: "الضبع" بضم
الباء وسكونها هي مؤنثة اسم لسبع كالذئب معروف
ولكن ليس ذلك هو المراد هنا إنما المراد السنة
المجدبة
قال في القاموس:
والضبع كرجل السنة المجدبة.
قوله: "خفاف" بكسر
الخاء المعجمة وفاءين خفيفتين بينهما ألف
وإيماء بفتح الهمزة وكسرها والكسر أشهر وسكون
الياء.
قوله: "فوقف معها
عمر" أي لم يجاوز المكان الذي سألته وهو فيه
بل وقف حتى سمع منها ثم انصرف بعد ذلك لقضاء
حاجتها. والمراد بالنسب القريب الذي يعرفه
السامع بلا سرد لكثير من الآباء وذلك إنما
يكون في الأشراف المشاهير.
قوله: "وجعل بينهما
نفقة" أي دراهم قال في القاموس: النفقة ما
تنفقه من الدراهم ونحوها.
قوله: "ثكلتك أمك"
قال في القاموس:
الثكل بالضم الموت والهلاك وفقدان الحبيب أو
الولد ويحرك وقد ثكله كفرح فهو ثاكل وثكلان
وهي ثاكل وثكلانة قليلة وثكول وأثكلت لزمها
الثكل فهي مثكل من مثاكيل انتهى.
قوله: "نستفيء"
قال في النهاية:
أي نأخذها لأنفسنا ونقتسمها.
قوله: "بل أبدأ
بالأقرب فالأقرب برسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم" فيه مشروعية البداءة بقرابة
الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وتقديمهم على
غيرهم.
أبواب السبق
والرمي
باب ما يجوز المسابقة عليه بعوض
1- عن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر". رواه الخمسة ولم يذكر فيه ابن ماجه أو نصل.
ج / 8 ص -78-
2- وعن ابن عمر قال: "سابق
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بين
الخيل فأرسلت التي ضمرت منها وأمدها الحفياء
إلى ثنية الوداع والتي لم تضمر أمدها ثنية
الوداع إلى مسجد بني زريق". رواه الجماعة.
وفي الصحيحين عن موسى بن
عقبة: "أن بين الحفياء إلى ثنية الوداع
ستة أميال أو سبعة" وللبخاري: "قال
سفيان من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال
أو ستة ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق
ميل".
حديث أبي هريرة أخرجه
أيضًا الشافعي والحاكم من طرق وصححه ابن
القطان وابن حبان وابن دقيق العيد وحسنه
الترمذي وأعله الدارقطني بالوقف ورواه
الطبراني وأبو الشيخ من حديث ابن عباس.
قوله: "لا سبق"
وهو بفتح السين والباء الموحدة مفتوحة أيضًا
ما يجعل للسابق على سبقه من جعل
قاله الخطابي وابن
الصلاح. وحكى ابن دقيق العيد فيه الوجهين
وقيل هو بفتح السين وسكون الموحدة مصدر
وبفتحها الجعل وهو الثابت في كتب اللغة.
وقوله: "في خف"
كناية عن الإبل والحافر عن الخيل والنصل عن
السهم. أي ذي خف أو ذي حافر أو ذي نصل
والنصل حديدة السهم وفيه دليل على جواز السباق
على جعل فإن كان الجعل من غير المتسابقين
كالإمام يجعله للسابق فهو جائز بلا خلاف وإن
كان من أحد المتسابقين جاز ذلك عند الجمهور
كما حكاه الحافظ في الفتح. وكذا إذا كان
معهما ثالث محلل بشرط أن لا يخرج من عنده
شيئًا ليخرج العقد عند صورة القمار وهو أن
يخرج كل منهما سبقًا فمن غلب أخذ السبقين فإن
هذا مما وقع الاتفاق على منعه كما حكاه الحافظ
في الفتح. ومنهم من شرط في المحلل أن يكون
لا يتحقق السبق وهكذا وقع الاتفاق على جواز
المسابقة بغير عوض لكن قصرها مالك والشافعي
على الخف والحافر والنصل. وخصه بعض العلماء
بالخيل وأجازه عطاء في كل شيء وقد حكى في
البحر عن أبي حنيفة أن عقد المسابقة على مال
باطل وحكى عن مالك أيضًا أنه لا يجوز أن يكون
العوض من غير الإمام وحكى أيضًا عن مالك وابن
الصباغ وابن خيران أنه لا يصح بذل المال من
جهتهما وإن دخل المحلل وروي عن أحمد بن حنبل
أنه لا يجوز السبق على الفيلة وروى عن الإمام
يحيى وأصحاب الشافعي أنه يجوز على الأقدام مع
العوض وذكر في البحر أن شروط صحة العقد خمسة
الأول:
كون العوض معلومًا.
الثاني:
كون المسابقة معلومة الابتداء والانتهاء.
الثالث:
كون السبق بسكون الموحدة معلومًا يعني المقدار
الذي يكون من سبق به مستحقًا للجعل.
الرابع:
تعيين المركوبين.
الخامس:
إمكان سبق كل منهما فلو علم عجز أحدهما لم يصح
إذ القصد الخبرة.
قوله: "ضمرت" لفظ
البخاري التي أضمرت والتي لم بضمر بسكون الضاد
المعجمة والمراد به أن تعلف الخيل حتى تسمن
وتقوى ثم يقلل
ج / 8 ص -79-
علفها بقدر القوت وتدخل بيتًا وتغشى بالجلال
حتى يحمى فتعرق فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت
على الجري هكذا في الفتح وذكر مثل معناه في
النهاية وزاد في الصحاح وذلك في أربعين
يومًا.
قوله: "الحفياء"
بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانية ثم
همزة ممدودة ويجوز القصر وحكى الحازمي تقديم
التحتانية على الفاء وحكى عياض ضم أوله
وخطأه.
قوله: "ثنية
الوداع" هي قريب المدينة سميت بذلك لأن
المودعين يمشون مع حاج المدينة إليها.
قوله: "زريق"
بتقديم الزاي.
ـ والحديث ـ
فيه مشروعية المسابقة وأنها ليست من العبث بل
من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل
المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة
وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث
على ذلك.
قال القرطبي:
لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من
الدواب وعلى الأقدام وكذا الرمي بالسهام
واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدرب على
الجري وفيه جواز تضمير الخيل وبه يندفع قول من
قال أنه لا يجوز لما فيه من مشقة سوقها ولا
يخفى اختصاص ذلك بالخيل المعدة للغزو. وفيه
مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند
المسابقة.
3- وعن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سبق بالخيل
وراهن". وفي لفظ: "سبق
بين الخيل وأعطى السابق".
رواهما أحمد.
4- وعن ابن عمر:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سبق
الخيل وفضل القرح في الغاية". رواه أحمد وأبو داود.
5- وعن أنس: "وقيل
له أكنتم تراهنون على عهد رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أكان رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يراهن قال: نعم واللّه
لقد راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس
فبهش لذلك وأعجبه". رواه أحمد.
6- وعن أنس قال:
"كانت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
ناقة تسمى العضباء وكانت لا تسبق فجاء أعرابي
على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين
وقالوا سبقت العضباء فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
إن حقًا على اللّه أن لا يرفع شيئًا من الدنيا
إلا وضعه".
رواه أحمد والبخاري.
حديث ابن عمر الأول
أخرجه أيضًا ابن أبي عاصم من حديث نافع عنه
وقوى إسناده الحافظ
وقال في مجمع الزوائد:
رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات ويشهد له
ما أخرجه ابن حبان وابن أبي عاصم من حديث ابن
عمر بلفظ:
"إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سابق
بين الخيل وجعل بينهما سبقًا" وفي إسناده عاصم بن عمر وهو ضعيف وقد اضطرب فيه رأي ابن حبان فصحح
حديثه تارة
وقال في الضعفاء:
لا يجوز الاحتجاج به.
وقال في الثقات:
يخطئ ويخالف. وحديث
ج / 8 ص -80-
ابن عمر الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري
وصححه ابن حبان وحديثه الأول
قال في مجمع الزوائد:
رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضًا الدارمي
والدارقطني والبيهقي من حديث أبي لبيد قال:
أتينا أنس بن مالك وأخرج نحوه البيهقي من طريق
سليمان بن حزم عن حماد بن زيد أو سعيد بن زيد
عن واصل مولى أبي عتبة قال حدثني موسى بن عبيد
قال كنا في الحجر بعد ما صلينا الغداة فلما
أسفرنا إذا فينا عبد اللّه بن عمر فجعل يستقر
بنا رجلا رجلا ويقول صليت يا فلان حتى قال أين
صليت يا أبا عبيد فقلت ههنا فقال بخ بخ ما
يعلم صلاة أفضل عند اللّه من صلاة الصبح جماعة
يوم الجمعة فسألوه أكنتم تراهنون على عهد رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: نعم
لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت
سابقة.
قوله: "سبق" بفتح
السين المهملة وتشديد الموحدة بعدها قاف.
قوله: "وفضل
القرح" بالقاف مضمومة وتشديد الراء بعدها
حاء مهملة جمع قارح وهو ما كملت سنة كالبازل
من الإبل. قوله: "سبحة" بفتح المهملة
وسكون الموحدة حاء مهملة هو من قولهم فرس سباح
إذا كان حسن مد اليدين في الجري. قوله:
"فبهش" بالباء الموحدة والشين المعجمة أي
هش وفرح كذا في التلخيص.
قوله: "تسمى
العضباء" بفتح العين المهملة وسكون الضاد
المعجمة ومد وقد تقدم ضبطها وتفسيرها غير
مرة.
قوله: "وكانت لا
تسبق" زاد البخاري:
قال حميد
أو لا تكاد تسبق شك منه وهو موصول بإسناد
الحديث المذكور كما قال الحافظ. قوله:
"فجاء أعرابي"
قال الحافظ:
لم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع
الشديد.
قوله: "على قعود"
بفتح القاف وهو ما استحق الركوب من الإبل.
وقال الجوهري:
هو البكر حتى يركب وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين
إلى أن يدخل في السادسة فيسمى جملا.
وقال الأزهري:
لا يقال إلا للذكر ولا يقال للأنثى قعودة
وإنما يقال لها قلوص. قال: وقد حكى
الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الأكثر
على غيره.
وقال الخليل:
القعودة من الإبل ما يقتعده الراعي لحمل متاعه
والهاء فيه للمبالغة.
قوله: "أن لا يرفع
شيئًا" الخ في رواية موسى بن إسماعيل أن لا
يرتفع وكذلك في رواية للبخاري وفي رواية
للنسائي أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا.
وفي الحديث
اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها وفيه
التزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها
لا يرتفع إلا اتضع وفيه حسن خلق النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وتواضعه.
باب ما جاء في
المحلل وآداب السبق
1- عن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس
ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو
قمار". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
2- وعن رجل من الأنصار
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
الخيل
ج / 8 ص -81-
ثلاثة فرس يربطه الرجل في سبيل اللّه فثمنه أجر
وركوبه أجر وعاريته أجر وعلفه أجر. وفرس
يغالق فيه الرجل ويراهن فثمنه وزر وعلفه وزر
وركوبه وزر. وفرس للبطنة فعسى أن يكون
سدادًا من الفقر إن شاء اللّه".
3- وعن ابن مسعود:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: الخيل ثلاثة فرس للرحمن وفرس للإنسان وفرس
للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في
سبيل اللّه فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء
اللّه. وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو
يراهن عليه. وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطه
الإنسان يلتمس بطنها فهي ستر فقر". رواهما أحمد ويحملان على المراهنة من الطرفين. حديث أبي
هريرة أخرجه أيضًا الحاكم وصححه والبيهقي وابن
حزم وصححه
وقال الطبراني في الصغير
تفرد به سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن
المسيب وتفرد به عنه الوليد وتفرد به عنه هشام
بن خالد. ورواه أيضًا أبو داود عن محمود بن
خالد عن الوليد لكنه أبدل قتادة بالزهري.
ورواه أبو داود وغيره ممن تقدم من طريق سفيان
بن حسين عن الزهري وسفيان ضعيف في الزهري وقد
رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من
أهل العلم. كذا قال أبو داود وقال هذا أصح
عندنا.
وقال أبو حاتم:
أحسن أحواله أن يكون موقوفًا على سعيد بن
المسيب. فقد رواه يحيى بن سعيد عنه وهو كذلك
في الموطأ عن سعيد من قوله.
وقال ابن أبي خيثمة:
سألت ابن معين فقال هذا باطل وضرب على أبي
هريرة. وحكى أبو نعيم في الحلية أنه من حديث
الوليد عن سعيد بن عبد العزيز.
قال الدارقطني:
والصواب سعيد بن بشير كما عند الطبراني
والحاكم. وحكى الدارقطني في العلل أن عبيد
بن شريك رواه عن هشام بن عمار عن الوليد عن
سعيد بن بشير عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي
هريرة هو وهم أيضًا. فقد رواه أصحاب هشام
عنه عن الوليد عن سعيد عن الزهري.
قال الحافظ:
وقد رواه عبدان عن هشام أخرجه ابن عدي مثل ما
قال عبيد وقال إنه غلط فتبين بهذا أن الغلط
فيه من هشام وذلك أنه تغير حفظه.
وأما حديث الرجل من
الأنصار وكذلك حديث ابن مسعود فقال في مجمع
الزوائد: أن حديث الرجل من الأنصار رجال
أحمد فيه رجال الصحيح. وحديث ابن مسعود قال
أيضًا رجال أحمد ثقات وقد تقدم ما يشهد لهما
في أوائل كتاب الزكاة.
قوله: "وهو لا يأمن
أن يسبق" استدل به من قال أنه يشترط في
المحلل أن لا يكون متحقق السبق وإلا كان
قمارًا وقيل إن الغرض الذي شرع له السباق هو
معرفة الخيل السابق منها والمسبوق
ج / 8 ص -82-
فإذا كان السابق معلومًا فات الغرض الذي شرع
لأجله.
قوله: "الخيل
ثلاثة" الخ قد سبق شرحه وشرح ما بعده في
كتاب الزكاة.
وقوله: "يغالق"
بالغين المعجمة والقاف من المغالقة. قال في
القاموس: المغالقة المراهنة فيكون قوله:
"ويراهن" عطف بيان وهو محمول على المراهنة
المحرمة كما سبق تحقيقه.
قوله: "وفرس
للبطنة"
قال في القاموس:
أبطن البعير شد بطانه كبطنه فلعل المراد هنا
الفرس الذي يتخذ للركوب. وتقدم في كتاب
الزكاة تقسيم الخيل إلى ثلاثة أقسام منها
الخيل المعدة للجهاد وهي الأجر ومنها الخيل
المتخذة أشرًا وبطرًا وهو الوزر ومنها الخيل
المتخذة تكرمًا وتجملا وهي الستر فيمكن أن
يكون المراد بالفرس التي للبطنة المذكورة هنا
هو المتخذ للتكرم والتجمل. ويؤيد ذلك قوله
في حديث ابن مسعود المذكور في الباب. وأما
فرس الإنسان فالفرس الذي يرتبطه الإنسان يلتمس
بطنها. ويمكن أن يكون المراد ما يتخذ من
الأفراس للنتاج. قال في النهاية: رجل
ارتبط فرسًا ليستبطنها أي يطلب ما في بطنها من
النتاج.
قوله: "فالذي يقامر
أو يراهن عليه"
قال في القاموس:
قامره مقامرة وقمارًا فقمره كنصره وتقمره
راهنه فيكون على هذا قوله: "أو يراهن
عليه" شكًا من الراوي.
قوله: "ويحملان على
المراهنة من الطرفين" أي بأن يكون الجعل
للسابق من المسبوق من غير تعيين.
4- وعن عمران بن حصين:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا جلب ولا جنب يوم الرهان". رواه أبو داود.
5- وعن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام". رواه أحمد.
6- وروي عن علي رضي
اللّه عنه: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس
فخرج علي فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة
إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا
أتيت الميطان.
قال أبو عبد الرحمن:
والميطان مرسلها من الغاية فصف الخيل ثم ناد
هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل
فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثًا ثم خلها عند
الثالثة يسعد اللّه بسبقه من شاء من خلقه وكان
علي يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطًا ويقيم
رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين إبهامي
أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول إذا خرج
أحد الفرسين على صاحبه بطرف
ج / 8 ص -83-
أذنيه
أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له فإن شككتما
فاجعلا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا
الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب
ولا شغار في الإسلام". رواه الدارقطني
حديث عمران بن حصين قد تقدم في كتاب الزكاة
وزيادة يوم الرهان انفرد بها أبو داود.
وحديث ابن عمر هو من طريق حميد عن الحسن عنه
وقد تقدم بيان ذلك وبيان ما في الباب من
الأحاديث في الزكاة.
ـ وفي الباب ـ عن ابن عباس مرفوعًا:
"ليس منا من أجلب على الخيل يوم الرهان" رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وعنه أيضًا حديث آخر بلفظ: "لا جلب في الإسلام" أخرجه الطبراني وفيه أبو شيبة وهو ضعيف. وعن أنس مرفوعًا عند
الطبراني بإسناد صحيح:
"لا شغار في الإسلام ولا جلب ولا جنب"
وتقدم أيضًا هنالك تفسير الجلب والجنب.
والمراد بالجلب في الرهان أن يأتي برجل يجلب
على فرسه أي يصيح عليه حتى يسبق. والجنب أن
يجنب فرسًا إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول
إلى المجنوب.
وقال ابن الأثير: له
تفسيران ثم ذكر معنى في الرهان ومعنى في
الزكاة كما سلف وتبعه المنذري في حاشيته.
والرهان المسابقة على الخيل كما في القاموس
والشغار بالشين والغين معجمتين قد تقدم تفسيره
في النكاح.
وحديث علي أخرجه البيهقي بإسناد الدارقطني
وقال هذا إسناد ضعيف. قوله: "هذه
السبقة" بضم السين المهملة وسكون الموحدة
بعدها قاف هو الشيء الذي يجعله المتسابقان
بينهما يأخذه من سبق منهما. قال في
القاموس: السبقة بالضم الخطر يوضع بين أهل
السباق الجمع أسباق.
قوله: "فإذا أتيت الميطان" بكسر
الميم.
قال في القاموس: والميطان
بالكسر الغاية.
قوله: "فصف الخيل" هي خيل الحلبة.
قال في القاموس: الحلبة
بالفتح الدفعة من الخيل في الرهان وخيل تجتمع
للسباق من كل أوب.
قال الجوهري: ترتيبها
المجلي ثم المصلي ثم المسلي ثم التالي ثم
العاطف ثم المرتاح ثم المؤمل ثم الحظي ثم
اللطيم ثم السكيت.
قال في النهاية: وسمي
المصلي لأن رأسه عند صلا السابق وهو ما عن
يمين الذنب وشماله.
قال القتيبي: والسكيت مخفف
ومشدد وهو بضم السين.
قال في الكفاية: والمحفوظ
المجلي والمصلي والسكيت وباقي الأسماء محدثة
انتهى. وقد تعرض بعض الشعراء لضبطها نظمًا
في أبيات منها:
شهدنا الرهان غداة الرهان ** بمجمعه ضمها
الموسم
فجلى الأغر وصلى الكميت ** وسلى فلم يذمم
الأدهم
وجاء اللطيم لها تاليا ** ومن كل ناحية يلطم
وغاب عني بقية النظم وضبطها بعضهم فقال:
سبق المجلي والمصلي بعده ** ثم المسلي بعد
والمرتاح
ولعاطف ولحظيها ومؤمل ** ولطميها وسكيتها
إيضاح
ج / 8 ص -84-
والعاشر المنعوت منها فسكل ** فافهم هديت
فما عليك جناح
وجمعها أيضًا الإمام
المهدي فقال:
مجل مصل مسل لها **
ومرتاح عاطفها والحظى
ومسحنفر ومؤملها ** وبعد
اللطيم السكيت البطى
قوله: "ثم ناد"
الخ فيه استحباب التأني قبل إرسال خيل الحلبة
وتنبيههم على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه وجعل
علامة على الإرسال من تكبير أو غيره وتأمير
أمير يفعل ذلك.
قوله: "يسعد اللّه
بسبقه" الخ فيه أن السباق حلال وقد تقدم
البحث عن ذلك.
قوله: "ويخط خطًا"
الخ فيه مشروعية التحري فيه تبيين الغاية التي
جعل السباق إليها لما يلزم من عدم ذلك من
الاختلاف والشقاق والافتراق.
قوله: "بطرف
أذنيه" الخ فيه دليل على أن السبق يحصل
بمقدار يسير من الفرس كطرف الأذنين أو طرف أذن
واحدة. قوله: "فإن شككتما" الخ فيه
جواز قسمة ما يراهن عليه المتسابقون عند الشك
في السبق.
قوله: "فإذا قرنتم
ثنتين" أي إذا جعل الرهان بين فرسين من جانب
وفرسين من الجانب الآخر فلم يحكم لأحد
المتراهنين بالسبق بمجرد سبق أكبر الفرسين إذا
كانت إحداهما صغرى والأخرى كبرى بل الاعتبار
بالصغرى.
باب الحث على
الرمي
1- عن سلمة بن الأكوع
قال: "مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال:
ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا ارموا وأنا مع بني فلان قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
ما لكم لا ترمون قالوا كيف نرمي وأنت معهم فقال
ارموا وأنا معكم كلكم". رواه أحمد والبخاري .
قوله: "ينتضلون"
بالضاد المعجمة أي يترامون. والنضال الترامي
للسبق ونضل فلان فلانًا إذا غلبه.
قال في القاموس:
ناضله مناضلة ونضالا وتنضالا باراه في الرمي
ونضلته سبقته فيه.
قوله: "وأنا مع بني
فلان" في حديث أبي هريرة عند ابن حبان
والبزار في مثل هذه القصة وأنا مع ابن الأدرع
اهـ. واسم ابن الأدرع محجن. وعند الطبراني
من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في هذا الحديث
وأنا مع محجن بن الأدرع وقيل اسمه سلمة حكاه
ابن منده. قال: والأدرع لقب واسمه
ذكوان.
قوله: "قالوا كيف
نرمي وأنت معهم" ذكر ابن إسحاق في المغازي
عن سفيان بن فروة الأسلمي عن أشياخ من قومه من
الصحابة قال بينا محجن بن الأدرع يناضل رجلا
من أسلم يقال له نضلة فذكر الحديث وفيه فقال
نضلة وألقى قوسه من يده واللّه لا أرمي معه
وأنت معه.
قوله: "وأنا معكم
كلكم" بكسر اللام تأكيد للضمير. وفي
رواية:
"وأنا مع جماعتكم".
والمراد بالمعية معية القصد إلى الخير.
ويحتمل أن يكون قام مقام المحلل فيخرج السبق
من عنده أو لا يخرج
ج / 8 ص -85-
وقد خصه بعضهم بالإمام. وفي رواية
للطبراني أنهم قالوا من كنت معه فقد غلب.
وكذا في رواية ابن إسحاق فهذه هي علة
الامتناع.
ـ وفي الحديث ـ
الندب إلى إتباع خصال الآباء المحمودة والعمل
بمثلها وفيه أيضًا حسن أدب الصحابة مع النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم وحسن خلقه معهم
والتنويه بفضيلة الرمي.
2- وعن عقبة بن عامر
قال: "سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}
ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي".
3- وعنه: "عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من علم الرمي ثم تركه فليس منا". رواهما أحمد ومسلم.
قوله: "ألا إن القوة
الرمي"
قال القرطبي:
إنما فسر القوة بالرمي وإن كانت القوة تطهر
بإعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد
نكاية في العدو وأسهل مؤنة له لأنه قد يرمي
رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه اهـ. وكرر
ذلك للترغيب في تعلمه وإعداد آلاته. وفيه
دليل على مشروعية الاشتغال بتعليم آلات الجهاد
والتمرن فيها والعناية في إعدادها ليتمرن بذلك
على الجهاد ويتدرب فيه ويروض أعضاءه.
قوله: "فليس منا"
قد تقدم الكلام على تأويل مثل هذه العبارة في
مواضع.
وفي ذلك إشعار بأن من
أدرك نوعًا من أنواع القتال التي ينتفع بها في
الجهاد في سبيل اللّه ثم تساهل في ذلك حتى
تركه كان آثمًا إثمًا شديدًا لأنه ترك العناية
بذلك يدل على ترك العناية بأمر الجهاد وترك
العناية بالجهاد يدل على ترك العناية بالدين
لكونه سنامه وبه قام.
4- وعنه: "عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن اللّه يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه الذي يحتسب في
صنعته الخير والذي يجهز به في سبيل اللّه
والذي يرمي به في سبيل اللّه". وقال:
"ارموا واركبوا فإن ترموا خير لكم من أن
تركبوا".
وقال:
"كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثًا رميه عن قوسه وتأديبه
فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق". رواه الخمسة.
5- وعن علي عليه السلام
قال: "كانت بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قوس عربية فرأى رجلا بيده قوس
فارسية فقال:
ما هذه ألقها وعليك بهذه وأشباهها ورماح القنا فإنهما يؤيد اللّه بهما
في الدين ويمكن لكم في البلاد".
رواه ابن ماجه.
6- وعن عمرو بن عبسة
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
ج / 8 ص -86-
من رمى بسهم في سبيل اللّه فهو عدل محرر". رواه الخمسة وصححه الترمذي.
ولفظ أبي داود:
"من بلغ العدو بسهم في سبيل اللّه فله
درجة"
وفي لفظ للنسائي: "من رمى بسهم في سبيل اللّه بلغ العدو أو لم
يبلغ كان له كعتق رقبة".
الحديث الأول في إسناده خالد بن زيد أو ابن يزيد وفيه مقال
وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه الترمذي وابن
ماجه من غير طريقه. وأخرجه أيضًا ابن حبان
وزاد أبو داود ومن ترك الرمي بعد ما علمه
فإنها نعمة تركها.
وحديث علي في إسناده
أشعث بن سعيد السمان أبو الربيع النضري وهو
متروك.
وقد ورد في الترغيب في
الرمي أحاديث كثيرة غير ما ذكره المصنف رحمه
اللّه. منها ما أخرجه صاحب مسند الفردوس من
طريق ابن أبي الدنيا بإسناده عن مكحول عن أبي
هريرة رفعه:
"تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من
رياض الجنة"
وفي إسناده ضعف وانقطاع.
وأخرجه البيهقي من حديث
جابر: "وجبت محبتي على من سعى بين الغرضين" وأخرج الطبراني عن أبي ذر قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
من مشي بين الغرضين كان له بكل خطوة حسنة"
وروى البيهقي من حديث أبي رافع:
"حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة
والسباحة والرمي"
وإسناده ضعيف.
قوله: "يدخل بالسهم
الواحد" الخ فيه دليل على أن العمل في آلات
الجهاد وإصلاحها وإعدادها كالجهاد في استحقاق
فاعله الجنة ولكن بشرط أن يكون ذلك لمحض
التقرب إلى اللّه بإعانة المجاهدين ولهذا قال
الذي يحتسب في صنعته الخير. وأما من يصنع
ذلك لما يعطاه من الأجرة فهو من المشغولين
بعمل الدنيا لا بعمل الآخرة نعم يثاب مع صلاح
النية كمن يعمل بالأجرة التي يستغني بها عن
الناس أو يعول بها قرابته ولهذا ثبت في الصحيح
أن الرجل يؤجر حتى على اللقمة يضعها في فم
امرأته. قوله: "والذي يجهز به في سبيل
اللّه" أي الذي يعطي السهم مجاهدًا يجاهد به
في سبيل اللّه.
قوله: "فإن ترموا
خير لكم" الخ فيه تصريح بأن الرمي أفضل من
الركوب ولعل ذلك لشدة نكايته في العدو في كل
موطن يقوم فيه القتال وفي جميع الأوقات بخلاف
الخيل فإنها لا تقابل إلا في المواطن التي
يمكن فيها الجولان دون المواضع التي فيها
صعوبة لا تتمكن الخيل من الجريان فيها وكذلك
المعاقل والحصون.
قوله: "كل شيء يلهو
به ابن آدم فهو باطل" الخ فيه أن ما صدق
عليه مسمى اللهو داخل في حيز البطلان إلا تلك
الثلاثة الأمور فإنها وإن كانت في صورة اللهو
فهي طاعات مقربة إلى اللّه عز وجل مع الالتفات
إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع
الديني.
قوله: "ما هذه
ألقها" فيه دليل على كراهة القوس العجمية
واستحباب ملازمة القوس العربية للعلة التي
ذكرها صلى اللّه عليه وآله وسلم من أن اللّه
يؤيد بها وبرماح القنا الدين ويمكن للمسلمين
في البلاد وقد كان ذلك فإن الصحابة رضي اللّه
عنهم فتحوا أراضي العجم كالروم وفارس وغيرهما
ومعظم سلاحهم تلك السهام والرماح.
قوله: "فهو
ج / 8 ص -87-
عدل محرر" أي محرر من رق العذاب الواقع
على أعداء الدين أو عدل ثواب محرر من الرق أي
ثواب من أعتق عبدًا.
قوله: "بلغ العدو أو
لم يبلغ" في هذا دليل على أن الأجر يحصل لمن
رمى بسهم في سبيل اللّه بمجرد الرمي سواء أصاب
بذلك السهم أو لم يصب وسواء بلغ إلى جيش العدو
أو لم يبلغ تفضلا من اللّه جل جلاله على عباده
لجلالة هذه القربة العظيمة الشأن التي هي لأصل
الإسلام أعظم أس وبنيان.
باب النهي عن
صبر البهائم وإخصائها والتحريش بينها ووسمها
في الوجه
1- عن ابن عمر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعن من اتخذ
شيئًا فيه الروح غرضًا".2- وعن أنس: "أنه دخل دار الحكم بن أيوب فإذا قوم قد نصبوا
دجاجة يرمونها فقال:
نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن
تصبر البهائم".
متفق عليهما.
3- وعن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". رواه الجماعة إلا البخاري.
4- وعن ابن عمر قال:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
عن إخصاء الخيل والبهائم ثم قال ابن عمر: فبها نماء الخلق". رواه أحمد.
5- وعن ابن عباس قال:
"نهى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن
التحريش بين البهائم". رواه أبو داود والترمذي.
6- وعن جابر قال:
"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
عن ضرب الوجه وعن وسم الوجه". رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وفي لفظ:
"مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال لعن اللّه الذي وسمه" رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ: "مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال أما بلغكم أني لعنت من وسم
البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها ونهى عن
ذلك" رواه أبو داود.
7- وعن ابن عباس قال:
"رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
حمارًا موسوم الوجه فأنكر ذلك قال: فواللّه
لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه وأمر بحماره
فكوى في جاعرتيه فهو أول من كوى
الجاعرتين". رواه مسلم.
ج / 8 ص -88-
حديث ابن عمر الثاني في إسناده عبد اللّه بن
نافع وهو ضعيف.
وأخرج البزار بإسناد
صحيح من حديث ابن عباس أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم نهى عن صبر الروح وعن إخصاء
البهائم نهيًا شديدًا.
حديث ابن عباس الثاني في
إسناده أبو يحيى القتات وهو ضعيف.
قوله: "لعن من اتخذ
شيئًا فيه الروح غرضًا" الغرض بفتح الغين
المعجمة والراء وهو المنصوب للرمي واللعن دليل
على التحريم.
قوله: "أن تصبر
البهائم" بضم أوله أي تحبس لترمى حتى تموت
وأصل الصبر الحبس.
قال النووي:
قال العلماء صبر البهائم أن تحبس وهي حية
لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى لا تتخذوا شيئًا
فيه الروح غرضًا أي لا تتخذوا الحيوان الحي
غرضًا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها.
وهذا النهي للتحريم ويدل على ذلك ما ورد من
لعن من فعل ذلك كما في حديث ابن عمر ولأن
الأصل في تعذيب الحيوان وإتلاف نفسه وإضاعة
المال التحريم.
قوله: "دجاجة"
بفتح الدال المهملة وفي القاموس: والدجاجة
معروف للذكر والأنثى وتثلث وهذه الرواية مفسرة
لما وقع في صحيح مسلم بلفظ نصبوا طيرًا.
قوله: "عن إخصاء
الخيل" الإخصاء سل الخصية
قال في القاموس:
وخصاه خصيًا سل خصيته. وفيه دليل على تحريم
خصي الحيوانات وقول ابن عمر فبها نماء الخلق
أي زيادته إشارة إلى أن الخصي مما تنمو به
الحيوانات ولكن ليس كل ما كان جالبًا لنفع
يكون حلالا بل لا بد من عدم المانع وإيلام
الحيوان ههنا مانع لأنه إيلام لم يأذن به
الشارع بل نهى عنه.
قوله: "عن التحريش
بين البهائم"
قال في القاموس:
التحريش الإغراء بين القوم أو الكلاب اهـ.
فجعله مختصًا ببعض الحيوانات. وظاهر الحديث
أن الإغراء بين ما عدا الكلاب من البهائم يقال
له تحريش. ووجه النهي أنه إيلام للحيوان
وإتعاب له بدون فائدة بل مجرد عبث.
قوله: "وعن وسم
الوجه" الوسم بفتح الواو وسكون المهملة كذا
قال القاضي عياض.
قال النووي:
وهو الصحيح المعروف في الروايات وكتب
الحديث.
قال القاضي عياض:
وبعضهم يقوله بالمهملة وبالمعجمة وبعضهم فرق
فقال بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر
الجسد. "وفيه دليل" على تحريم وسم
الحيوان في وجهه وهو معنى النهي حقيقة.
ويؤيد ذلك اللعن الوارد لمن فعل ذلك كما في
الرواية المذكورة في حديث الباب فإنه لا يلعن
صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا من فعل محرمًا
وكذلك ضرب الوجه.
قال النووي:
وأما الضرب في الوجه فمنهي عنه في كل الحيوان
المحترم من الآدمي والحمير والخيل والإبل
والبغال والغنم وغيرها لكنه في الآدمي أشد
لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف يظهر فيه أثر
الضرب وربما شانه وربما آذى بعض الحواس.
قال: وأما الوسم في الوجه فمنهي عنه
بالإجماع للحديث ولما ذكرناه فأما الآدمي
فوسمه حرام لكرامته ولأنه لا حاجة إليه ولا
يجوز تعذيبه وأما غير الآدمي فقال جماعة من
أصحابنا يكره
وقال البغوي من أصحابنا
لا يجوز فأشار إلى تحريمه وهو الأظهر لأن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعن فاعله
واللعن يقتضي التحريم.
وأما وسم غير الوجه من
غير الآدمي فجائز بلا خلاف عندنا لكن يستحب في
نعم الزكاة والجزية ولا يستحب في غيرها ولا
ينهى عنه. قال أهل
ج / 8 ص -89-
اللغة: الوسم أثر الكية وقد وسمه يسمه وسمًا وسمة. والميسم الشيء الذي
يسم به وهو بكسر الميم وفتح السين وجمعه
مياسيم ومواسم وأصله كله من السمة وهي العلامة
ومنه موسم الحج أي معلم يجمع الناس وفلان
موسوم بالخير وعلمه سمة الخير أي علامته
وتوسمت فيه كذا أي رأت فيه علامته.
قوله: "في
جاعرتيه" بالجيم والعين المهملة بعدها راء
مهملة. والجاعرتان حرفا الورك المشرفان مما
يلي الدبر.
قال النووي:
وأما القائل فواللّه لا أسمه إلا في أقصى شيء
من الوجه
فقد قال القاضي عياض هو
العباس بن عبد المطلب كذا ذكره في سنن أبي
داود وكذا صرح به في رواية البخاري في
تاريخه.
قال القاضي:
وهو في كتاب مسلم مستشكل يوهم أنه من قول
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. والصواب
أنه من قول العباس كما ذكرناه.
قال النووي:
ليس هو بظاهر فيه بل ظاهره أنه من كلام ابن
عباس وحينئذ فيجوز أن تكون القضية جرت للعباس
ولابنه.
قال النووي:
يستحب أن يسم الغنم في آذانها والإبل والبقر
في أصول أفخاذها لأنه موضع صلب فيقل الألم فيه
ويخف شعره فيظهر الوسم وفائدة الوسم تمييز
الحيوان بعضه من بعض ويستحب أن يكتب في ماشية
الجزية جزية أو صغار وفي ماشية الزكاة زكاة أو
صدقة.
قال الشافعي وأصحابه:
يستحب كون ميسم الغنم ألطف من ميسم البقر
والبقر ألطف من ميسم الإبل وحكى الاستحباب
النووي عن الصحابة كلهم وجماهير العلماء
بعدهم. ونقل ابن الصباغ وغيره إجماع الصحابة
عليه.
وقال أبو حنيفة:
هو مكروه لأنه تعذيب ومثلة وقد نهي عن المثلة
وحجة الجمهور هذه الأحاديث وغيرها والجواب عن
النهي عن المثلة والتعذيب أنه عام وحديث الوسم
خاص فوجب تقديمه كما تقرر في الأصول.
باب ما يستحب
ويكره من الخيل واختيار تكثير نسلها
1- عن أبي قتادة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم المحجل طلق اليمين فإن لم يكن
أدهم فكميت على هذه الشية".
رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
2- وعن ابن عباس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم: يمن الخيل في شقرها". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
3- وعن أبي وهب الجشمي
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
عليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو
أدهم أغر محجل".
رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
4 - وعن أبي هريرة
قال: "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يكره الشكال
ج / 8 ص -90-
من الخيل والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى
بياض وفي يده اليسرى أو في يده اليمنى وفي
رجله اليسرى". رواه مسلم وأبو داود.
5 - وعن ابن عباس قال:
"كان
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عبدًا
مأمورًا ما اختصنا بشيء دون الناس إلا بثلاث
أمرنا أن نسبغ الوضوء وأن لا نأكل الصدقة وأن
لا ننزي حمارًا على فرس". رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
6 - وعن علي عليه السلام
قال: "أهديت إلى النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم بغلة فقلنا يا رسول اللّه لو أنزينا
الحمر على خيلنا فجاءتنا بمثل هذه فقال
إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون".
رواه أحمد وأبو داود.
7 - وعن علي عليه السلام
قال: "قال لي النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك ولا تأكل
الصدقة ولا تنز الحمر على الخيل ولا تجالس
أصحاب النجوم". رواه عبد اللّه بن أحمد في المسند.
حديث أبي قتادة له
طريقان عند الترمذي إحداهما فيها ابن لهيعة عن
يزيد ابن أبي حبيب. والثانية عن يحيى بن
أيوب عن يزيد بن أبي حبيب وقال هذا حديث حسن
غريب صحيح.
وحديث ابن عباس الأول
قال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من
هذا الوجه من حديث شيبان.
وحديث أبي وهب الجشمي
سكت عند أبو داود والمنذري وفي إسناده عقيل بن
شبيب وقيل ابن سعيد قيل هو مجهول. وحديث أبي
هريرة أخرجه أيضًا الترمذي وقال حسن صحيح.
وحديث ابن عباس الثاني.
قال الترمذي هذا حديث
حسن صحيح ورواه سفيان الثوري عن أبي جهضم فقال
عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس عن ابن
عباس وسمعت محمدًا يقول حديث الثوري غير محفوظ
وهم فيه الثوري والصحيح ما رواه إسماعيل بن
علية وعبد الوارث بن سعيد عن أبي جهضم عن عبد
اللّه بن عبيد اللّه بن عباس عن ابن عباس.
وحديث علي الأول سكت عنه
أبو داود والمنذري ورجال إسناد أبي داود ثقات
وقد أخرجه النسائي من طرق وأخرجه أيضًا ابن
ماجه أيضًا وأشار إليه الترمذي فقال: ـ وفي
الباب ـ عن علي وحديثه الآخر في إسناده القاسم
بن عبد الرحمن وهو ضعيف وتشهد له أحاديث إسباغ
الوضوء وأحاديث تحريم الصدقة على الآل وأحاديث
النهي عن انزاء الحمر على الخيل. وأحاديث
النهي عن إتيان المنجمين فإن المجالسة إتيان
وزيادة وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: "من أتى كاهنًا أو منجمًا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى اللّه عليه
وآله وسلم".
قوله:
ج / 8 ص -91-
"الأدهم" هو شديد السواد ذكره في الضياء.
قوله: "الأقرح" هو
الذي في جبهته قرحة وهي بياض يسير في وسطها.
قوله: "الأرثم" هو
الذي في شفته العليا بياض.
قوله: "طلق
اليمين" بضم الطاء واللام أي غير محجلها
وكذا في شمس العلوم.
قوله: "فكميت" هو
الذي لونه أحمر يخالطه سواد ويقال للذكر
والأنثى ولا يقال أكمت ولا كمتاء والجمع كمت
وقيل إن الكميت ما فيه حمرة مخالطة لسواد
وليست سوادًا خالصًا ولا حمرة خالصة ويقال
الكميت أشد الخيل جلودًا وأصلبها حوافر.
قوله: "على هذه
الشية" بكسر الشين المعجمة وتخفيف المثناة
التحتية.
قال في النهاية:
الشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره
وأصله من الوشي والهاء عوض عن الواو. يقال
وشيت الثوب أشيه وشيًا وشية والوشي النقش.
أراد على هذه الصفة وهذا اللون من الخيل.
وهذا الحديث فيه دليل على أن أفضل الخيل
الأدهم المتصف بتلك الصفات. ثم الكميت.
قوله: "يمن الخيل في
شقرها" اليمن البركة. والأشقر
قال في القاموس:
هو من الدواب الأحمر في مغرة حمرة يحمر منها
العرف والذنب اهـ. وقيل الأشقر من الخيل نحو
الكميت إلا أن الأشقر أحمر الذيل والناصية
والعرف والكميت أسودها والأدهم شديد السواد
كذا في الضياء.
قوله: "بكل كميت أغر
محجل" في رواية لأبي داود: "عليكم بكل شقر أغر محجل أو كميت أغر محجل" فذكر نحوه والأغر هو ما كان له غرة في
جبهته بيضاء فوق الدرهم.
قوله: "يكره الشكال
من الخيل" هو أن يكون الفرس في رجله اليمنى
بياض وفي يده اليسرى أو يده اليمنى ورجله
اليسرى كما في الرواية المذكورة في الباب.
وقيل الشكال أن يكون
ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو الثلاث
مطلقة وواحدة محجلة ولا يكون الشكال إلا في
رجل.
وقال أبو عبيد:
وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة
محجلة قال ولا تكون المطلقة من المحجلة إلا
الرجل.
وقال ابن دريد:
الشكال أن يكون محجلا من شق واحد في رجله ويده
فإن كان مخالفًا قيل شكال مخالف.
قال القاضي عياض:
قال أبو عمر الشكال بياض الرجل اليمنى واليد
اليمنى. وقيل بياض الرجل اليسرى واليد
اليسرى. وقيل بياض اليدين. وقيل بياض
الرجلين. وقيل بياض الرجلين ويد واحدة.
وقيل بياض اليدين ورجل واحدة. كذا في شرح
مسلم.
وفي شرح مسلم أنه إنما
سمي شكالا تشيبهًا بالشكال الذي يشكل به الخيل
فإنه يكون في ثلاثة قوائم غالبًا.
قال القاضي:
قال العلماء كره لأنه على صورة المشكول.
وقيل يحتمل أن يكون قد جرب ذلك الجنس فلم تكن
فيه نجابة
قال بعض العلماء:
إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبهة
الشكال. قوله: "وأن لا ننزي حمارًا على
فرس"
قال الخطابي:
يشبه أن يكون المعنى فيه واللّه أعلم أن الحمر
إذا حملت على الخيل قل عددها وانقطع نماؤها
وتعطلت منافعها والخيل يحتاج إليها للركوب
والركض والطلب والجهاد وإحراز الغنائم ولحمها
مأكول وغير ذلك من المنافع وليس للبغل شيء من
هذه فأحب أن يكثر نسلها ليكثر الانتفاع بها
كذا في النهاية.
ج / 8 ص -92-
باب ما جاء في المسابقة على الأقدام والمصارعة
واللعب بالحراب وغير ذلك
1 - عن عائشة قالت:
"سابقني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم فسبقته فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم
سابقني فسبقني فقال: هذه بتلك". رواه
أحمد وأبو داود.
2 - وعن سلمة بن الأكوع
قال: "بينا نحن نسير وكان رجل من الأنصار
لا يسبق شدًا فجعل يقول ألا مسابق إلى المدينة
هل من مسابق فقلت أما تكرم كريمًا ولا تهاب
شريفًا قال: لا إلا أن يكون رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال: قلت يا رسول
اللّه بأبي أنت وأمي ذرني فلأسابق الرجل
قال: إن شئت
قال: فسبقته إلى المدينة". مختصرًا من
أحمد ومسلم.
3 - وعن محمد بن علي بن
ركانة: "أن ركانة صارع النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فصرعه النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم". رواه أبو داود.
4 - وعن أبي هريرة
قال: "بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بحرابهم دخل عمر فأهوى
إلى الحصباء فحصبهم بها فقال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
دعهم يا عمر". متفق عليه. وللبخاري في رواية: في
المسجد.
5 - وعن أنس: "لما
قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
المدينة لعبت الحبشة لقدومه بحرابهم فرحًا
بذلك". متفق عليه.
6 - وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رأى
رجلا يتبع حمامة فقال
شيطان يتبع شيطانة". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وقال يتبع شيطانًا.
حديث عائشة أخرجه أيضًا
الشافعي والنسائي وابن ماجه وابن حبان
والبيهقي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عنها
واختلف فيه على هشام. فقيل هكذا وقيل عن رجل
عن أبي سلمة عنها. وقيل عن أبيه وعن أبي
سلمة عن عائشة.
وحديث محمد بن علي بن
ركانة في إسناده أبو الحسن العسقلاني وهو
مجهول وأخرجه أيضًا الترمذي من حديث أبي الحسن
العسقلاني عن أبي جعفر محمد بن ركانة وقال
غريب وليس إسناده بالقائم.
وروى أبو داود في
المراسيل عن سعيد بن جبير قال: كان رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالبطحاء فأتى
عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه عير
له فقال له يا محمد هل لك أن تصارعني فقال ما
تسبقني قال شاة من غنمي فصارعه فصرعه فأخذ
الشاة فقال ركانة هل لك في العود ففعل ذلك
مرارًا فقال: يا محمد ما وضع جنبي أحد إلى
الأرض وما أنت بالذي تصرعني فأسلم ورد النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم عليه غنمه.
قال الحافظ:
إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير إلا أن سعيدًا
لم يدرك ركانة.
قال البيهقي:
وروي موصولا وفي كتاب السبق
ج / 8 ص -93-
لأبي الشيخ من رواية عبيد اللّه بن يزيد
المصري عن حماد عن عمرو بن دينار عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس مطولا. ورواه أبو نعيم في
معرفة الصحابة من حديث أبي أمامة مطولا
وإسنادهما ضعيف.
وروى عبد الرزاق عن معمر
عن يزيد ابن أبي زياد وأحسبه عن عبد اللّه بن
الحارث قال: صارع النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أبا ركانة في الجاهلية وكان شديدًا
فقال:
شاة بشاة فصرعه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال:
عاودني في أخرى
فصرعه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال:
عاودني فصرعه صلى اللّه عليه وآله وسلم الثالثة فقال أبو ركانة: ماذا
أقول لأهلي شاة أكلها الذئب وشاة نشزت فما
أقول في الثالثة فقال النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك خذ غنمك
هكذا وقع فيه أبو ركانة والصواب ركانة.
وحديث أبي هريرة الثاني
في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة الليثي
استشهد به مسلم ووثقه ابن معين ومحمد بن يحيى
الذهلي والنسائي
وقال ابن عدي:
أرجو أنه لا بأس به.
وقال ابن معين
مرة ما زال الناس يتقون حديثه
وقال السعدي
ليس بالقوي وغمزه الإمام مالك.
وقال ابن المديني
سألت يحيى القطان عن محمد بن عمرو بن علقمة
كيف هو قال تريد العفو أو تشدد قلت بل أشدد
قال فليس هو ممن تريد.
قوله: "حتى إذا
أرهقني اللحم" أي كثر لحمي قال في
القاموس: أرهقه طغيانًا غشاه إياه وقال رهقه
كفرح غشيه.
ـ وفي الحديثين ـ
دليل على مشروعية المسابقة على الأرجل وبين
الرجال والنساء المحارم وأن مثل ذلك لا ينافي
الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن فإنه
صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتزوج عائشة إلا
بعد الخمسين من عمره ولا فرق بين الخلأ والملأ
لما في حديث سلمة.
قوله: "أن ركانة
صارع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم" فيه
دليل على جواز المصارعة بين المسلم والكافر
وهكذا بين المسلمين ولا سيما إذا كان مطلوبًا
لا طالبًا وكان يرجو حصول خصلة من خصال الخير
يذلك أو كسر سورة كبر متكبر أو وضع مترفع
بإظهار الغلب له وكما روي من مصارعته صلى
اللّه عليه وآله وسلم ركانة روي أنه تصارع هو
وأبو جهل.
قال الحافظ عبد الغني:
ما روي من مصارعة النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أبا جهل لا أصل له وحديث ركانة أمثل ما
روي في مصارعة النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم.
قوله: "يلعبون عند
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بحرابهم"
فيه جواز ذلك في المسجد كما في الرواية
الثانية وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي
أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن
والسنة أما القرآن فقوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وأما السنة فحديث: "جنبوا
مساجدكم صبيانكم ومجانينكم"
وتعقب بأن الحديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية
تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ
وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج
المسجد وكانت عائشة في المسجد وهذا لا يثبت عن
مالك فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا
الحديث. واللعب بالحراب ليس لعبًا مجردًا بل
فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب
والاستعداد للعدو.
قال المهلب:
المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين فما كان من
الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه وفي
الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح.
قوله: "ودخل عمر"
الخ قال ابن التين: يحتمل أن يكون عمر لم ير
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يعلم
أنه
ج / 8 ص -94-
رآهم أو ظن أنه رآهم واستحيا أن يمنعهم وهذا
أولى لقوله في الحديث يلعبون عند النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم ويحتمل أن يكون إنكاره
لهذه شبيهًا لإنكاره على المغنيتين وكان من
شدته في الدين ينكر خلاف الأولى والجد في
الجملة أولى من اللعب المباح وأما النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فكان بصدد بيان
الجواز.
قوله: "فقال
شيطان" الخ فيه دليل على كراهة اللعب
بالحمام وأنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه وقد
قال بكراهته جمع من العلماء ولا يبعد على فرض
انتهاض الحديث تحريمه لأن تسمية فاعله شيطانًا
يدل على ذلك وتسمية الحمامة شيطانة إما لأنها
سبب إتباع الرجل لها أو أنها تفعل فعل الشيطان
حيث يتولع الإنسان بمتابعتها واللعب بها لحسن
صورتها وجودة نغمتها.
باب تحريم
القمار واللعب بالنرد وما في معنى ذلك
1- عن أبي هريرة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا
اللّه ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق". متفق عليه.
2- وعن بريدة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير
ودمه".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
3- وعن أبي موسى:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من لعب بالنرد فقد عصى اللّه ورسوله". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ومالك في الموطأ.
4- وعن أبي موسى:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من لعب بالكعاب فقد عصى اللّه ورسوله". رواه أحمد.
5 - وعن عبد الرحمن
الخطمي قال: "سمعت أبي يقول: سمعت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير
ثم يقوم فيصلي".
رواه أحمد.
حديث أبي موسى الأول
رجال إسناده ثقات وأخرجه أيضًا الحاكم
والدارقطني والبيهقي. وحديث أبي موسى الثاني
قال في مجمع الزوائد:
رواه الطبراني وفي إسناده علي بن زيد وهو
متروك. وحديث عبد الرحمن الخطمي قال أحمد
حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا الجعيد عن موسى
بن عبد الرحمن فذكره وأورده الحافظ في التلخيص
من كتاب الشهادات وسكت عنه وقال في مجمع
الزوائد فيه موسى ابن عبد الرحمن الخطمي ولم
أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
قوله: "فليقل لا إله
إلا اللّه" في الأمر لمن حلف باللات والعزى
أن يتكلم بكلمة الشهادة دليل على أنه قد كفر
بذلك وسيأتي تحقيق المسألة في كتاب الأيمان إن
شاء اللّه. قوله: "فليتصدق" فيه
ج / 8 ص -95-
دليل على المنع من المقامرة لأن الصدقة
المأمور بها كفارة عن الذنب
قال في القاموس:
وقامره مقامرة وقمارًا فقمره كنصره وتقمره
راهنه فغلبه وهو التقامر اهـ فالمراد بالقمار
المذكور هنا الميسر ونحوه مما كانت تفعله
العرب وهو المراد بقوله تعالى {إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ}
وكل ما لا يخلو اللاعب فيه من غنم أو غرم فهو
ميسر وقد صرح القرآن بوجوب اجتنابه قال اللّه
تعالى
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية وقد صرحت بتحريمه السنة كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا.
قوله: "من لعب بالنردشير"
قال النووي:
النردشير هو النرد عجمي معرب وشير معناه حلو
وكذا في النهاية وقيل هو خشبة قصيرة ذات فصوص
يلعب بها. وقيل إنما سمي بذلك الاسم لأن
واضعه أردشير بن بابك من ملوك الفرس.
قال النووي:
وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم
اللعب بالنرد
وقال أبو إسحاق المروزي
يكره ولا يحرم قيل وسبب تحريمه أن وضعه على
هيئة الفلك بصورة شمس وقمر وتأثيرات مختلفة
تحدث عند اقترانات أوضاعه ليدل على أن أقضية
الأمور كلها مقدرة بقضاء اللّه ليس للكسب فيها
مدخل ولهذا ينتظر اللاعب به ما يقضى له به
والتمثيل بقوله فكأنما صبغ يده في لحم خنزير
الخ فيه إشارة إلى التحريم لأن التلوث
بالنجاسات من المحرمات.
وقوله: "فقد عصى
اللّه ورسوله" تصريح بما يفيد التحريم.
قوله: "من لعب
بالكعاب" هي فصوص النرد وقد كرهها عامة
الصحابة وروي أنه رخص فيها ابن مغفل وابن
المسيب على غير قمار واختلف في الشطرنج
قال النووي:
مذهبنا أنه مكروه وليس بحرام وهو مروي عن
جماعة من التابعين.
وقال مالك وأحمد:
هو حرام قال مالك هو شر من النرد وألهى وروى
ابن كثير في إرشاده أن أول ظهور الشطرنج في
زمن الصحابة وضعه رجل هندي يقال له صصة قال
وروى البيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن
عليًا قال في الشطرنج هو من الميسر.
قال ابن كثير:
وهو منقطع جيد. وروي عن ابن عباس وابن عمر
وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد وعائشة أنهم
كرهوا ذلك وروي عن ابن عمر أنه شر من النرد
كما قال مالك وحكى في ضوء النهار عن ابن عباس
وأبي هريرة وابن سيرين وهشام بن عروة بن
الزبير وسعيد ابن المسيب وابن جبير أنهم
أباحوه وقد روى في تحريمه أحاديث أخرج الديلمي
من حديث واثلة مرفوعًا:
"إن للّه في كل يوم ثلاثمائة نظرة ولا ينظر
فيها إلى صاحب الشاه" وفي لفظ:
"يرحم بها عباده ليس لأهل الشاه فيها نصيب"
يعني الشطرنج وأخرج من حديث ابن عباس يرفعه:
"ألا إن أصحاب الشاه في النار الذين يقولون
قتلت واللّه شاهك"
وأخرج الديلمي أيضًا عن أنس يرفعه: ملعون من
لعب بالشطرنج وأخرج ابن حزم وعبدان: ملعون
من لعب الشطرنج والناظر إليهم كالآكل لحم
الخنزير من حديث جميع بن مسلم وأخرج الديلمي
عن علي مرفوعًا:
"يأتي على الناس زمان يلعبون بها ولا يلعب بها
إلا كل جبار والجبار في النار".
وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم اللّه وجهه
أنه قال:
ج / 8 ص -96-
النرد والشطرنج من الميسر. وأخرج عنه عبد
بن حميد أنه قال: الشطرنج ميسر العجم وأخرج
عنه ابن عساكر أنه قال لا يسلم على أصحاب
النردشير والشطرنج.
قال ابن كثير:
والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء ويؤيد
هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة
وأحسن ما روي فيه ما تقدم عن علي كرم اللّه
وجهه وإذا كان بحيث لا يخلو أحد اللاعبين من
غنم أو غرم فهو من القمار وعليه يحمل ما قاله
علي أنه من الميسر والمجوزون له قالوا إن فيه
فائدة وهي معرفة تدبير الحروب ومعرفة المكايد
فأشبه السبق والرمي قالوا وإذا كان على عوض
فهو كمال الرهان وقد تقدم حكمه ولا نزاع أنه
نوع من اللهو الذي نهى اللّه عنه ولا ريب أنه
يلزمه إيغار الصدور وتتأثر عنه العداوات وتنشأ
منه المخاصمات فطالب النجاة لنفسه لا يشتغل
بما هذا شأنه وأقل أحواله أن يكون من
المشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات.
وفي الشفاء للأمير
الحسين قبل آخر الكتاب بنحو ثلاث ورق عن علي
عليه السلام أنه أمر بتحريق رقعة الشطرنج
وإقامة كل واحد ممن لعب بها معقولا على فرد
رجل إلى صلاة الظهر ثم ذكر غير ذلك.
باب ما جاء في
آلة اللهو
1 - عن عبد الرحمن بن
غنم قال: "حدثني أبو عامر أو أبو مالك
الأشعري سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". أخرجه البخاري. وفي لفظ:
"ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم
بالمعازف والمغنيات يخسف اللّه بهم الأرض
ويجعل منهم القردة والخنازير" رواه ابن ماجه وقال: عن أبي مالك الأشعري ولم يشك والمعازف
الملاهي قاله الجوهري وغيره.
2 - وعن نافع: "أن
ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع إصبعيه في
أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول يا نافع
أتسمع فأقول نعم فيمضي حتى قلت لا فرفع يده
وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سمع زمارة راع
فصنع مثل هذا". رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه.
3 - وعن عبد اللّه بن
عمر: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
إن اللّه حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء
وكل مسكر حرام".
رواه أحمد
ج / 8 ص -97-
وأبو داود. وفي لفظ: "إن اللّه حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين"
رواه أحمد.
حديث أبي مالك الأشعري
باللفظ الذي ساقه ابن ماجه هو من طريق ابن
محيريز عن ثابت بن السمط. وأخرجه أبو داود
وصححه ابن حبان وله شواهد.
وحديث ابن عمر الأول
أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه قال أبو علي
وهو اللؤلؤي سمعت أبا داود يقول وهو حديث
منكر. وحديثه الثاني سكت عنه الحافظ في
التلخيص أيضًا وفي إسناده الوليد بن عبدة
الراوي له عن ابن عمر
قال أبوحاتم الرازي
هو مجهول.
وقال ابن يونس في تاريخ المصريين
أنه روى عنه يزيد ابن أبي حبيب.
وقال المنذري:
إن الحديث معلول ولكنه يشهد له ما أخرجه أحمد
وأبو داود وابن حبان والبيهقي من حديث ابن
عباس بنحوه وسيأتي وأخرجه أحمد من حديث قيس بن
سعد بن عبادة.
قوله: "يستحلون"
الحر ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة
والراء الخفيفة وهو الفرج.
قال في الفتح:
وكذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري ولم
يذكر عياض ومن تبعه غيره وأغرب ابن التين فقال
إنه عند البخاري بالمعجمتين.
وقال ابن العربي:
هو بالمعجمتين تصحيف وإنما رويناه بالمهملتين
وهو الفرج والمعنى يستحلون الزنا.
قال ابن التين:
يريد ارتكاب الفرج لغير حله وحكى عياض فيه
تشديد الراء والتخفيف هو الصواب ويؤيد الرواية
بالمهملتين ما أخرجه ابن المبارك في الزهد عن
علي مرفوعًا بلفظ:
"يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير"
ووقع عند الداودي بالمعجمتين ثم تعقبه بأنه
ليس بمحفوظ لأن كثيرًا من الصحابة لبسوه.
وقال ابن الأثير:
المشهور في روايات هذا الحديث بالإعجام وهو
ضرب من الإبريسم
وقال ابن العربي:
الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه فالأقوى
حمله وليس فيه وعيد ولا عقوبة بالإجماع وقد
تقدم الكلام على ذلك في كتاب اللباس.
قوله: "والمعازف"
بالعين المهملة والزاي بعدها فاء جمع معزفة
بفتح الزاي وهي آلات الملاهي ونقل القرطبي عن
الجوهري أن المعازف الغناء والذي في صحاحه
أنها اللهو وقيل صوت الملاهي وفي حواشي
الدمياطي المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به
ويطلق على الغناء عزف وعلى كل لعب عزف.
قوله: "زمارة"
قال في القاموس:
والزمارة كجبانة ما يزمر به كالمزمار.
قوله: "فصنع مثل
هذا" فيه دليل على أن المشروع لمن سمع
الزمارة أن يصنع كذلك واستشكل إذن ابن عمر
لنافع بالسماع ويمكن أنه إذ ذاك لم يبلغ الحلم
وسيأتي بيان وجه الاستدلال به والجواب عليه.
قوله: "والميسر"
هو القمار وقد تقدم.
قوله: "والكوبة"
بضم الكاف وسكون الواو ثم باء موحدة قيل هي
الطبل كما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وبين
أن هذا التفسير من كلام علي بن بذيمة.
قوله: "والغبيراء" بضم الغين المعجمة
قال في التلخيص:
اختلف في تفسيرها فقيل الطنبور وقيل العود
وقيل البربط وقيل مزر يصنع من الذرة أو من
القمح وبذلك
ج / 8 ص -98-
فسره من النهاية.
قوله: "والمزر"
بكسر الميم وهو نبيذ الشعير.
قوله: "والقنين"
هو لعبة للروم يقامرون بها وقيل هو الطنبور
بالحبشية كذا في مختصر النهاية وقد استدل
المصنف بهذه الأحاديث على ما ترجم به الباب
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه تعالى.
4 - وعن ابن عباس:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
إن اللّه حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر
حرام".
رواه أحمد. والكوبة الطبل قاله سفيان عن علي
بن بذيمة.
وقال ابن الأعرابي:
الكوبة النرد وقيل البربط والقنين هو الطنبور
بالحبشية والتقنين الضرب به قاله ابن
الأعرابي.
5 - وعن عمران بن
حصين: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قال:
في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل من المسلمين يا رسول اللّه ومتى ذلك قال:
إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور". رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
6 - وعن أبي هريرة
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنمًا والزكاة
مغرمًا وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته
وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات
في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم
القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت
القيان والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه
الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء
وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع
كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه بعضًا".
رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
7 - وعن أبي أمامة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم
يصبحون قردة وخنازير وتبعث على أحياء من
أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم
باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم
القينات". رواه أحمد وفي إسناده فرقد السبخي
قال أحمد:
ليس بقوي
وقال ابن معين:
هو ثقة
وقال الترمذي:
تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس.
ج / 8 ص -99-
6 - وعن عبيد اللّه بن زحر عن علي بن يزيد عن
القاسم عن أبي أمامة: "عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال: إن اللّه بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات
يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت
تعبد في الجاهلية". رواه أحمد قال البخاري عبيد اللّه بن زحر ثقة وعلي بن يزيد
ضعيف والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن
ثقة وبهذا الإسناد: "أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن
ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا
أنزلت هذه الآية
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ}
إلى آخر الآية". رواه الترمذي. ولأحمد
معناه ولم يذكر نزول الآية فيه ورواه الحميدي
في مسنده ولفظه: "لا
يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا
الاستماع إليها".
حديث ابن عباس قد تقدم
أنه أخرجه أيضًا أبو داود وابن حبان
والبيهقي. وحديث عمران بن حصين قال الترمذي
بعد إخراجه عن عباد بن يعقوب الكوفي حدثنا عبد
اللّه بن عبد القدوس عن الأعمش عن هلال بن
يساف عن عمران ما لفظه وقد روى هذا الحديث عن
الأعمش عن عبد الرحمن بن ساباط عن النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم مرسلا وهذا حديث غريب.
وحديث أبي هريرة قال الترمذي بعد أن أخرجه من
طريق علي بن حجر حدثنا محمد بن يزيد الواسطي
عن المسلم بن سعيد عن رميح الجذامي عنه ما
لفظه وفي الباب عن علي وهذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه.
وحديث علي هذا الذي أشار
إليه هو ما أخرجه في سننه قبل حديث أبي هريرة
عن علي بن أبي طالب قال: "قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء
وفيه وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان
والمعازف"
وقال بعد تعداد الخصال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي إلا
من هذا الوجه ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن
سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة والفرج بن
فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث وضعفه من
قبل حفظه وقد روى عنه وكيع وغير واحد من
الأئمة انتهى.
وحديث أبي أمامة الأول
والثاني قد تكلم المصنف عليهما وحديثه الثالث
قال الترمذي بعد إخراجه إنما يعرف مثل هذا من
هذا الوجه وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن
يزيد وضعفه وهو شامي انتهى.
وأخرجه أيضًا ابن ماجه
وسعيد بن منصور والواحدي وعبيد اللّه بن زحر
قال أبو مسهر:
إنه صاحب كل معضلة
وقال ابن معين:
ضعيف وقال مرة ليس بشيء
وقال ابن المديني:
منكر الحديث وقال
ج / 8 ص -100-
الدارقطني: ليس بالقوي.
وقال ابن حبان:
روى موضوعات عن الأثبات وإذا روى عن علي بن
يزيد أتى بالطامات.
ـ وفي الباب ـ عن ابن
مسعود عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال
في قوله
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ}
قال هو واللّه الغناء. وأخرجه الحاكم
والبيهقي وصححاه وأخرجه البيهقي أيضًا عن ابن
عباس بلفظ هو الغناء وأشباهه ـ وفي الباب ـ
أيضًا عن ابن مسعود عند أبي داود والبيهقي
مرفوعًا بلفظ:
"الغناء ينبت النفاق في القلب"
وفيه شيخ لم يسم ورواه البيهقي موقوفًا وأخرجه
ابن عدي من حديث أبي هريرة
وقال ابن طاهر
أصح الأسانيد في ذلك أنه من قول إبراهيم.
وأخرج أبو يعقوب محمد بن
إسحاق النيسابوري من حديث أنس: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من قعد إلى قينة يسمع صب في أذنه الآنك" وأخرج أيضًا من حديث ابن مسعود: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم سمع رجلا يتغنى من الليل فقال
لا صلاة له لا صلاة له لا صلاة له"
وأخرج أيضًا من حديث أبي هريرة: "أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها كفر" وروى ابن غيلان عن علي: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
بعثت بكسر المزامير" وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"كسب المغني والمغنية حرام" وكذا رواه الطبراني من حديث عمر مرفوعًا: "ثمن القينة سحت وغناؤها حرام". وأخرج القاسم بن سلام عن علي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
نهى عن ضرب الدف والطبل وصوت المزمار.
ـ وفي الباب ـ أحاديث
كثيرة وقد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك
مصنفات ولكنه ضعفها جميعًا بعض أهل العلم حتى
قال ابن حزم: إنه لا يصح في الباب حديث
أبدًا وكل ما فيه فموضوع. وزعم أن حديث أبي
عامر أو أبي مالك الأشعري المذكور في أول
الباب منقطع فيما بين البخاري وهشام وقد وافقه
على تضعيف أحاديث الباب من سيأتي قريبًا.
قال الحافظ في الفتح:
وأخطأ في ذلك يعني في دعوى الانقطاع من وجوه
والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح
والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث
في موضع آخر من كتابه وأطال الكلام على ذلك
بما يشفي. قوله: "الكبارات" جمع كبار
قال في القاموس:
في مادة ك ب ر والطبل الجمع كبار أو أكبار
انتهى. والبربط العود
قال في القاموس:
البربط كجعفر معرب بربط أي صدر الأوز لأنه
يشبهه انتهى.
وقد اختلف في الغناء مع
آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى
التحريم مستدلين بما سلف. وذهب أهل المدينة
ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية
إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع
وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي
في مؤلفه في السماع أن عبد اللّه بن جعفر كان
لا يرى بالغناء بأسًا ويصوغ الألحان لجواريه
ويسمعها منهن على أوتاره وكان ذلك في زمن أمير
المؤمنين علي رضي اللّه عنه. وحكى الأستاذ
المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح وسعيد
بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري
والشعبي.
وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم
نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد اللّه بن
الزبير كان له جوار عوادات وأن ابن عمر دخل
عليه وإلى جنبه عود فقال ما هذا يا صاحب رسول
اللّه فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال هذا
ميزان
ج / 8 ص -101-
شامي
قال ابن الزبير:
يوزن به العقول. وروى الحافظ أبو محمد ابن
حزم في رسالته في السماع سنده إلى ابن سيرين
قال: إن رجلا قدم المدينة بجوار فنزل على
عبد اللّه بن عمر وفيهن جارية تضرب فجاء رجل
فساومه فلم يهو منهن شيئًا قال انطلق إلى رجل
هو أمثل لك بيعًا من هذا قال من هو قال عبد
اللّه بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن
فقال لها خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء
إلى ابن عمر إلى آخر القصة.
وروى صاحب العقد العلامة
الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد اللّه بن عمر
دخل على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها
عود ثم قال لابن عمر هل ترى بذلك بأسًا قال لا
بأس بهذا وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن
العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى
أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من
عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره.
وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك والمزهر عند
أهل اللغة العود وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد
العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة ونقل
ابن السمعاني الترخيص عن طاوس ونقله ابن قتيبة
وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم
بن عبد الرحمن الزهري من التابعين ونقله أبو
يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن
سلمة الماجشون مفتي المدينة.
وحكى الروياني عن القفال
أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف
وحكى الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز
العود وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن
شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال بن عمرو
المحدث المشهور. وحكى أبو الفضل ابن طاهر في
مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة
في إباحة العود.
قال ابن النحوي في العمدة:
قال ابن طاهر هو إجماع أهل المدينة.
قال ابن طاهر:
وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة
قال الأدفوي
لم يختلف النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن
سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له الجماعة
كلهم وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض
الشافعية وحكاه أبو الفضل ابن طاهر عن أبي
إسحاق الشيرازي وحكاه الأسنوي في المهمات عن
الروياني والماوردي ورواه ابن النحوي عن
الأستاذ أبي منصور وحكاه ابن الملقن في العمدة
عن ابن طاهر. وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز
الدين بن عبد السلام وحكاه صاحب الإمتاع عن
أبي بكر ابن العربي وجزم بالإباحة الأدفوي
هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من
الآلات المعروفة وأما مجرد الغناء من غير آلة
فقال الأدفوي في الإمتاع أن الغزالي في بعض
تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله ونقل ابن
طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه ونقل التاج
الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه
ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضًا إجماع أهل
المدينة عليه
وقال الماوردي
لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام
السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر
قال ابن النحوي في العمدة:
وقد روى الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة
والتابعين فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد
البر وغيره وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب
البيان والرافعي وعبد الرحمن بن عوف كما رواه
ابن أبي شيبة وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه
البيهقي وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة
وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي وبلال
وعبد اللّه ابن الأرقم وأسامة بن زيد
ج / 8 ص -102-
كما أخرجه البيهقي أيضًا وحمزة كما في
الصحيح وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر والبراء
بن مالك كما أخرجه أبو نعيم وعبد اللّه بن
جعفر كما رواه ابن عبد البر.
وعبد اللّه بن الزبير
كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه أبو
الفرج الأصبهاني وعبد اللّه بن عمرو كما رواه
الزبير بن بكار وقرظة بن كعب كما رواه ابن
قتيبة وخوات بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه
صاحب الأغاني والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو
طالب المكي وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي
وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو
بن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن
جبير وعامر الشعبي وعبد اللّه بن أبي عتيق
وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر
بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري.
وأما تابعوهم فخلق لا
يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور
الشافعية انتهى كلام ابن النحوي.
واختلف هؤلاء المجوزون
فمنهم من قال بكراهته ومنهم من قال باستحبابه
قالوا لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق
إلى اللّه قال المجوزون إنه ليس في كتاب اللّه
ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس
والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات
الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات وأما
المانعون من ذلك فاستدلوا بأدلة. منها حديث
أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول الباب
وأجاب المجوزون بأجوبة:
الأول
ما قاله ابن حزم وقد تقدم وتقدم جوابه.
والثاني
إن في إسناده صدقة بن خالد وقد حكى ابن الجنيد
عن يحيى بن معين أنه ليس بشيء. وروى المزي
عن أحمد أنه ليس بمستقيم ويجاب عنه بأنه من
رجال الصحيح.
ثالثها
إن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا أما الإسناد
فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم
وأما متنًا فلأن في بعض الألفاظ يستحلون وفي
بعضها بدونه وعند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ
ليشربن أناس من أمتي الخمر. وفي رواية الحر
بمهملتين وفي أخرى بمعجمتين كما سلف ويجاب عن
دعوى الاضطراب في السند بأنه قد رواه أحمد
وابن أبي شيبة من حديث أبي مالك بغير شك ورواه
أبو داود من حديث أبي عامر وأبي مالك وهي
رواية ابن داسة عن أبي داود ورواية ابن حبان
أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين
بذلك أنه من روايتهما جميعًا وأما الاضطراب في
المتن فيجاب بأن مثل ذلك غير قادح في
الاستدلال لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ
الحديث تارة ويذكرها أخرى.
والرابع
أن لفظة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست
عند أبي داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره وثبتت
في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة وأجاب
المجوزون أيضًا على الحديث المذكور من حيث
دلالته فقالوا لا نسلم دلالته على التحريم
وأسندوا هذا المنع بوجوه:
أحدها
أن لفظة يستحلون ليست نصًا في التحريم فقد ذكر
أبو بكر ابن العربي لذلك معنيين أحدهما أن
المعنى يعتقدون أن ذلك حلال.
الثاني
أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك
الأمور ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد يشعر
بتحريم الملابسة بفحوى الخطاب وأما دعوى
التجوز فالأصل الحقيقة ولا ملجئ إلى
ج / 8 ص -103-
الخروج عنها
وثانيها
أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف وإذا كان
اللفظ محتملا لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم
ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركًا
والراجح التوقف فيه أو حقيقة ومجازًا ولا
يتعين المعنى الحقيقي ويجاب بأنه يدل على
تحريم استعمال ما صدق عليه الاسم والظاهر
الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص عليها من
أهل اللغة وليس من قبيل المشترك لأن اللفظ لم
يوضع لكل واحد على حدة بل وضع للجميع على أن
الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه
مع عدم التضاد كما تقرر في الأصول
وثالثها
أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على
تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في
رواية بلفظ:
"ليشربن أناس من أمتي الخمر تروح عليهم
القيان وتغدو عليهم المعازف" ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم
أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند
شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل
بالإجماع فالملزوم مثله وأيضًا يلزم في مثل
قوله تعالى
{إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
أنه لا يحرم عدم الإيمان باللّه إلا عند عدم
الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه
الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل
آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل
آخر أيضًا كما سلف على أنه لا ملجئ إلى ذلك
حتى يصار إليه
ورابعها
أن يكون المراد يستحلون مجموع الأمور المذكورة
فلا يدل على تحريم واحد منها على الانفراد وقد
تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة أو الوعيد
على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها
ويجاب عنه بما تقدم في الذي قبله واستدلوا
ثانيًا بالأحاديث المذكورة في الباب التي
أوردها المصنف رحمه اللّه تعالى وأجاب عنها
المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها
ويجاب بأنها تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن
بعضها فأقل أحوالها أن تكون من قسم الحسن
لغيره ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات
المغنيات فإنها ثابتة من طرق كثيرة منها ما
تقدم ومنها غيره قد استوفيت ذلك في رسالة
وكذلك حديث إن الغناء ينبت النفاق فإنه ثابت
من طرق قد تقدم بعضها وبعضها لم يذكر منه عن
ابن عباس عند ابن صصرى في أماليه ومنه عن جابر
عند البيهقي ومنه عن أنس عند الديلمي وفي
الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي وابن
مردويه وأبي نعيم والبيهقي بلفظ: صوتان
ملعونان في الدنيا والأخرة مزمار عند نعمة
ورنة عند مصيبة.
وأخرج ابن سعد في السنن
عن جابر أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة لهو
ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة وخمش وجه
وشق جيب ورنة شيطان".
وأخرج الديلمي عن أبي
أمامة مرفوعًا:
"إن اللّه يبغض صوت الخلخال كما يبغض الغناء" والأحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جمعها جماعة من العلماء كابن حزم
وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الأربلي
والذهبي وغيرهم
وقد أجاب المجوزون عنها
بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية
والحنابلة والشافعية وقد تقدم ما قاله ابن حزم
ووافقه على ذلك أبو بكر ابن العربي في كتابه
الأحكام وقال لم يصح في التحريم شيء وكذلك قال
الغزالي وابن النحوي في
ج / 8 ص -104-
العمدة وهكذا قال ابن طاهر إنه لم يصح منها
حرف واحد والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث
ابن مسعود في تفسير قوله تعالى
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ}
قد تقدم أنه صحيح وقد ذكر هذا الاستثناء ابن
حزم فقال إنهم لو أسندوا حديثًا واحدًا فهو
إلى غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
ولا حجة في أحد دونه كما روي عن ابن عباس وابن
مسعود في تفسير قوله تعالى {ومن الناس}
الآية أنهما فسرا اللهو بالغناء قال ونص الآية
يبطل احتجاجهم لقوله تعالى {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهذه صفة من فعلها كان كافرًا ولو أن شخصًا اشترى مصحفًا ليضل به
عن سبيل اللّه ويتخذها هزوًا لكان كافرًا فهذا
هو الذي ذم اللّه تعالى وما ذم من اشترى لهو
الحديث ليروح به نفسه لا ليضل به عن سبيل
اللّه انتهى.
قال الفاكهاني:
لم أعلم في كتاب اللّه ولا في السنة حديثًا
صحيحًا صريحًا في تحريم الملاهي وإنما هي
ظواهر وعمومات يتأنس بها لا أدلة قطعية واستدل
ابن رشد بقوله تعالى {وَإِذَا
سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}
وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء
والمفسرين فيها أربعة أقوال
الأول
إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا فكان
اليهود يلقونهم بالسب والشتم ويعرضون عنهم.
والثاني
أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره
اليهود من التوراة وبدلوا من نعت النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا
الحق.
الثالث
أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا
إليه.
الرابع
أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهودًا ولا
نصارى وكانوا على دين اللّه كانوا ينتظرون بعث
محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما سمعوا به
بمكة أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا وكان
الكفار من قريش يقولون لهم أف لكم اتبعتم
غلامًا كرهه قومه وهم أعلم به منكم وهذا
الأخير قاله ابن العربي في أحكامه وليت شعري
كيف يقوم الدليل من هذه الآية انتهى.
ويجاب بأن الاعتبار
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب واللغو عام وهو في
اللغة الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه
والآية خارجة مخرج المدح لمن فعل ذلك وليس
فيها دلالة على الوجوب ومن جملة ما استدلوا به
حديث
"كل لهو يلهو به المؤمن هو باطل إلا ثلاثة ملاعبة الرجل أهله وتأديبه
فرسه ورميه عن قوسه".
قال
الغزالي: قلنا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم
"فهو باطل"
لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة
انتهى. وهو جواب صحيح لأن ما لا فائدة فيه
من قسم المباح على أن التلهي بالنظر إلى
الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى اللّه عليه
وآله وسلم كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك
الأمور الثلاثة وأجاب المجوزون عن حديث ابن
عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من أنه
حديث منكر وأيضًا لو كان سماعه حرامًا لما
أباحه صلى اللّه عليه وآله وسلم لابن عمر ولا
ابن عمر لنافع ولنهى عنه وأمر بكسر الآلة لأن
تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وأما سده
صلى اللّه عليه وآله وسلم لسمعه فيحتمل أنه
تجنبه كما كان يتجنب كثيرًا من المباحات كما
تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال
ذلك لا يقال يحتمل أن تركه صلى اللّه عليه
وآله وسلم للإنكار على الراعي إنما كان لعدم
القدرة على التغيير لأنا نقول ابن عمر إنما
صاحب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو
بالمدينة بعد ظهور الإسلام وقوته فترك الإنكار
فيه دليل على عدم التحريم وقد استدل المجوزون
بأدلة منها قوله تعالى
{وَيُحِلُّ
ج / 8 ص -105-
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ} ووجهه التمسك أن الطيبات جمع محلى باللام فيشمل كل طيب والطيب يطلق
بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم
عند التجرد عن القرائن ويطلق بإزاء الطاهر
والحلال وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من
أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها
ولو قصرنا العام على بعض أفراده لكان قصره على
المتبادر الظاهر وقد صرح ابن عبد السلام في
دلائل الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات
المستلذات ومن جملة ما استدل به المجوزون ما
سيأتي في الباب الذي بعد هذا وسيأتي الكلام
عليه.
ومن جملة ما قاله
المجوزون أنا لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه
لهوًا لكان جميع ما في الدنيا محرمًا لأنه لهو
لقوله تعالى {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوًا
بل الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث
المنصوص عليه في القرآن لكنه لما علل في الآية
بعلة الإضلال عن سبيل اللّه لم ينتهض
للاستدلال به على المطلوب وإذا تقرر جميع ما
حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر
أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم
يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند
الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح ومن تركها
فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن حام حول الحمى
يوشك أن يقع فيه ولا سيما إذا كان مشتملا على
ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر
والوصال ومعاقرة العقار وخلع العذار والوقار
فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان
من التصلب في ذات اللّه على حد يقصر عنه الوصف
وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول
وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول نسأل اللّه
السداد والثبات ومن أراد الاستيفاء للبحث في
هذه المسألة فعليه بالرسالة التي سميتها إبطال
دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع.
باب ضرب النساء
بالدف لقدوم الغائب وما في معناه
1 - عن بريدة قال:
"خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء
فقالت يا رسول اللّه إني كنت نذرت إن ردك
اللّه صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى
قال لها
إن كنت نذرت فاضربي
وإلا فلا فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم
دخل علي وهي تضرب ثم دخل
ج / 8 ص -106-
عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت
أستها ثم قعدت عليه فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر إني كنت جالسًا وهي تضرب فدخل أبو بكر
وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان
وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف". رواه أحمد والترمذي وصححه.
الحديث أخرجه أيضًا ابن
حبان والبيهقي وفي الباب عن عبد اللّه بن عمر
وعند أبي داود. وعن عائشة عند الفاكهاني في
تاريخ مكة بسند صحيح وقد استدل المصنف بحديث
الباب على جواز ما دل عليه الحديث عند القدوم
من الغيبة والقائلون بالتحريم يخصون مثل ذلك
من عموم الأدلة الدالة على المنع وأما
المجوزون فيستدلون به على مطلق الجواز لما سلف
وقد دلت الأدلة على أنه لا نذر في معصية اللّه
فالإذن منه صلى اللّه عليه وآله وسلم لهذه
المرأة بالضرب يدل على أن ما فعلته ليس بمعصية
في مثل ذلك الموطن وفي بعض ألفاظ الحديث أنه
قال لها
"أوفي بنذرك"
ومن جملة مواطن التخصيص للهو في العرسات وقد
تقدمت الأحاديث في ذلك في كتاب الوليمة من
كتاب النكاح. ومن مواطن التخصيص أيضًا في
الأعياد لما في الصحيحين من حديث عائشة
قالت: "دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من
جواري الأنصار تغنيانني بما تقاولت به الأنصار
يوم بعاث وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر مزامير
للشيطان في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم وذلك في يوم عيد فقال
يا أبا بكر لكل قوم عيد وهذا عيدنا" وروى المبرد والبيهقي في المعرفة عن عمر أنه إذا كان داخلا في
بيته ترنم بالبيت والبيتين. ورواه المعافي
النهرواني في كتاب الجليس والأنيس وابن منده
في المعرفة في ترجمة أسلم الحادي. وأخرج
النسائي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
لعبد اللّه بن رواحة حرك بالقوم فاندفع
يرتجز. |