نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

كتاب الأطعمة والصيد والذبائح
باب في أن الأصل في الأعيان والأشياء الإباحة إلى أن يرد منع أو إلزام

1 - عن سعد بن أبي وقاص‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته‏"‏‏.‏
2 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏
3 - وعن سلمان الفارسي قال‏:‏ ‏"‏سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال‏:‏
الحلال ما أحل اللّه في كتابه والحرام ما حرم اللّه في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا لكم‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه والترمذي‏.‏

 

ج / 8 ص -107-       4 - وعن علي عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏لما نزلت ‏{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه في كل عام فسكت فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه في كل عام قال‏:‏ لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل اللّه ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}‏‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن‏.‏
حديث سلمان قيل إنه لم يوجد في سنن الترمذي ويدل على ذلك أنه روى صاحب جامع الأصول شطرًا منه من قوله الحلال ما أحل اللّه الخ ولم ينسبه إلى الترمذي بل بيض له ولكنه قد عزاه الحافظ في الفتح في باب ما يكره من كثرة السؤال إلى الترمذي كما فعله المصنف‏.‏ والحديث أورده الترمذي في كتاب اللباس وبوب له باب ما جاء في لباس الفراء وأخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك وقد ساقه ابن ماجه بإسناد فيه سيف بن هارون البرجمي وهو ضعيف متروك‏.‏
وحديث علي أخرجه أيضًا الحاكم وهو منقطع كما قال الحافظ‏.‏ وصورة إسناده في الترمذي قال حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا منصور بن زاذان عن علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري عن علي فذكره
قال أبو عيسى الترمذي حديث علي حديث غريب واسم أبي البختري سعيد بن أبي عمران وهو سعيد بن فيروز انتهى‏.‏
وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وقد تقدما في أول كتاب الحج ـ وفي الباب ـ أحاديث ساقها البخاري في باب ما يكره من كثرة السؤال وأخرج البزار وقال سنده صالح والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ‏:‏
‏"‏ما أحل اللّه في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من اللّه عافيته فإن اللّه لم يكن لينسى شيئًا وتلا ‏{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}‏‏"‏ وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه‏:‏ ‏"‏إن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها‏"‏ وأخرج مسلم من حديث أنس وأصله في البخاري‏:‏ ‏"‏قال كنا نهينا أن نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن شيء‏"‏ الحديث‏.‏ وفي البخاري من حديث ابن عمر فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المسائل وعابها‏.‏
وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال‏:‏ لما نزلت ‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ}‏ الآية كنا قد اتقينا أن نسأله صلى اللّه عليه وآله وسلم الحديث‏.‏ والراجح في تفسير الآية أنها نزلت في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن وقد أنكر ذلك جماعة من أهل العلم منهم
القاضي أبو بكر ابن العربي فقال‏:‏ اعتقد قومًا من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقًا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه ومسائل النوازل ليست كذلك
قال الحافظ وهو كما قال إلا أن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي ويؤيده حديث سعد المذكور في أول الباب لأنه قد أمن من وقوع التحريم لأجل المسألة ولكن ليس الظاهر ما قاله ابن العربي من الاختصاص لأن المساءة مجوزة في السؤال عن كل أمر لم يقع وأما ما ثبت في الأحاديث

 

ج / 8 ص -108-       من وقوع المسائل من الصحابة فيحتمل أن ذلك قبل نزول الآية ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه كبيان ما أجمل أو نحوه ذلك مما وقعت عنه المسائل وقد وردت عن الصحابة آثار كثيرة في المنع من ذلك ساقها الدارمي في أوائل مسنده‏.‏ منها عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول هل كان هذا فإن قيل لا قال دعوه حتى يكون‏.‏
قال في الفتح‏:‏ والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضًا على من تعين عليه من المجتهدين‏.‏ ثانيهما أن يدقق النظر في وجوه الفرق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين مفترقين لوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه‏:‏
‏"‏هلك المتنطعون‏"‏ أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدًا فيصرف فيها زمانًا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إذا لزم من ذلك المقال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها‏.‏
ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة كما صح من حديث أبي هريرة رفعه عند البخاري وغيره‏:‏ ‏
"‏لا يزال الناس يتساءلون هذا اللّه خلق الخلق فمن خلق اللّه‏"‏
قال الحافظ‏:‏ فمن سد باب المسائل حتى فاته كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف ومن أمعن البحث عن معاني كتاب اللّه تعالى محافظًا على ما جاء في تفسيره عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرًا على ما يصلح للحجة فيها فإنه الذي يجمد وينفع وينتفع به وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وهم من أهل دين واحد والوسط هو المعتدل من كل شيء وإلى ذلك يشير قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث المذكور في الباب‏:‏ ‏"‏فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم‏"‏ فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى يعني هل العلم أو العمل والإنصاف أن يقال كل ما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين من وجد من نفسه قوة على الفهم والتحرير

 

ج / 8 ص -109-       فتشاغله ذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي ومن وجد من نفسه قصورًا فإقباله على العبادة أولى به لعسر اجتماع الأمرين فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه عن الثاني انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن أعظم المسلمين‏"‏ الخ هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري‏:‏
‏"‏إن أعظم الناس جرمًا‏"‏
قال الطيبي‏:‏ فيه من المبالغة أنه جعله عظيمًا ثم فسره بقوله جرمًا ليدل على أنه نفسه جرم قال وقوله في المسلمين أي في حقهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فحرم‏"‏ بضم الحاء المهملة وتشديد الراء
قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن اللّه يفعل شيئًا من أجل شيء وليس كذلك بل هو على كل شيء قدير فهو فاعل السبب والمسبب ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله‏.‏
وقال غيره‏:‏ أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه فلا يمتنع أن يكون الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك إلا أن السؤال علة للتحريم‏.‏
وقال ابن التين‏:‏ قيل الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته‏.‏
وقال القاضي عياض‏:‏ المراد بالجزم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقب عليه لأن السؤال كان مباحًا ولهذا قال سلوني وتعقبه النووي فقال‏:‏ هذا الجواب ضعيف أو باطل والصواب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم الإثم والذنب وحملوه على من سأل تكلفًا وتعنتًا فيما لا حاجة له به إليه وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يحتاج إليه لقوله تعالى ‏
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}‏ فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب فكل من الأمر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى قال ويؤخذ منه أن من عمل شيئًا أضر به غيره كان آثمًا‏.‏
وأورد الكرماني على الحديث سؤالا فقال‏:‏ السؤال ليس بجريمة ولئن كان فليس بكبيرة ولئن كان فليس بأكبر الكبائر وأجاب أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببًا لتحريم شيء مباح هو أعظم الجرم لأنه صار سببًا لتضييق الأمر على جميع المكلفين فالقتل مثلا كبيرة ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده أو إلى من هو منه بسبيل بخلاف صورة المسألة فضررها عام للجميع انتهى‏.‏
وقد روي ما يدل على أنه قد وقع في زمنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من المسائل ما كان سببًا لتحريم الحلال أخرج البزار عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر فيسألون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو حلال فلا يزالون يسألونه عن الشيء حتى يحرم عليهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ذروني‏"‏ في رواية البخاري دعوني ومعناهما واحد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما تركتكم‏"‏ أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء
قال ابن فرج‏:‏ معناه لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظاهره ولو كان صالحة لغيره كما أن قوله حجوا وإن كان صالحًا للتكرار فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة ولا يكثر التعنت عن ذلك فإنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل

 

ج / 8 ص -110-       في البقرة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏واختلافهم‏"‏ يجوز فيه الرفع والجر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإذا نهيتكم‏"‏ هذا النهي عام في جميع المناهي ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله وإليه ذهب الجمهور وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏ أي اجعلوه قدر استطاعتكم
قال النووي‏:‏ هذا من جوامع الكلم وقواعد الإسلام ويدخل فيه كثير من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور وكذا الوضوء وستر العورة وحفظ بعض الفاتحة وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه وبذلك استدل المزني على أن ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد‏.‏
واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشارع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك وقيد في المأمورات بالاستطاعة وهذا منقول عن الإمام أحمد ـ فإن قيل ـ إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضًا إذ لا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين كذا قيل
قال الحافظ‏:‏ والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعى من الاعتبار بل هو من جهة الكف إذ كل واحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا فلا يتصور عدم الاستطاعة من الكف بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل فإن العجز عن تعاطيه محسوس فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي‏.‏
قال ابن فرج في شرح الأربعين‏:‏ إن الأمر بالاجتناب على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الإكراه والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان كما نطق به القرآن‏.‏
قال الحافظ‏:‏ والتحقيق أن المكلف في كل ذلك ليس منهيًا في تلك الحال
وقال الماوردي‏:‏ إن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل وعمل الطاعة فعل وهو شاق فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك والترك لا يعجز المعذور عنه وادعى بعضهم أن قوله تعالى ‏
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}‏ يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة فاستويا فحينئذ تكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار وهو قوله تعالى ‏{إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}‏ وهو مضطر ولا يرد الإكراه لأنه مندرج في الاضطرار وزعم بعضهم أن قوله تعالى ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}‏ نسخ بقوله تعالى ‏{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
قال الحافظ‏:‏ والصحيح أنه لا نسخ بل المراد بحق تقاته امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الفراء‏"‏ بفتح الفاء مهموز حمار الوحش كذا في مختصر النهاية ولكن تبويب الترمذي الذي ذكرناه سابقًا يدل على أن الفراء بكسر الفاء جمع فرو‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الحلال ما أحل اللّه في كتابه‏"‏ الخ المراد من هذه العبارة وأمثالها مما يدل على حصر التحليل والتحريم على الكتاب

 

ج / 8 ص -111-       العزيز هو باعتبار اشتماله على جميع الأحكام ولو بطريق العموم أو الإشارة أو باعتبار الأغلب لحديث‏:‏ ‏"‏إني أوتيت القرآن ومثله معه‏"‏ وهو حديث صحيح‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وعن علي‏"‏ الخ قد تقدم الكلام على ما اشتمل عليه حديث علي في أول كتاب الحج‏.‏

باب ما يباح من الحيوان الإنسي
1 - عن جابر‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل‏"‏‏.‏ متفق عليه وهو للنسائي وأبو داود‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏أطعمنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر‏"‏ رواه الترمذي وصححه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏سافرنا يعني مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فكنا نأكل لحوم الخيل ونشرب ألبانها‏"‏ رواه الدارقطني‏.‏
2 - وعن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ ‏"‏ذبحنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ ولفظ أحمد‏:‏ ‏"‏ذبحنا فرسًا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأكلناه نحن وأهل بيته‏"‏‏.‏
3 ـ وعن أبي موسى قال‏:‏
‏"‏رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل لحم دجاج‏"‏ متفق عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية‏"‏ فيه دليل على تحريمها وسيأتي الكلام على ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأذن في لحوم الخيل‏"‏ استدل به القائلون بحل أكلها
قال الطحاوي ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق ولكن الآثار إذا صحت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أولى أن نقول بها مما يوجبه النظر ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر فدل ذلك على اختلاف حكمهما‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الشيخين عن عطاء أنه قال لابن جريج‏:‏ لم يزل سلفك يأكلونه قال ابن جريج‏:‏ قلت أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال نعم‏.‏
وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين وسيأتي في الباب الذي بعد هذا عن ابن عباس أنه استدل لحل الحمر الأهلية بقوله تعالى ‏
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ}‏ الآية وذلك يقوي أنه من القائلين بالحل وأخرج الدارقطني عنه بسند قوي قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل‏"‏
قال في الفتح‏:‏ وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عتيبة ومالك وبعض الحنفية وعن بعض المالكية والحنفية التحريم
قال الفاكهاني‏:‏ المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم

 

ج / 8 ص -112-       وقد صحح صاحب المحيط والهداية والذخيرة عن أبي حنيفة التحريم وإليه ذهبت العترة كما حكاه في البحر ولكنه حكى الحل عن زيد بن علي واستدل القائلون بالتحريم بما رواه الطحاوي وابن حزم من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال‏"‏
قال الطحاوي‏:‏ أهل الحديث يضعفون عكرمة بن عمار
قال الحافظ لا سيما في يحيى بن أبي كثير فإن عكرمة وإن كان مختلفًا في توثيقه قد أخرج له مسلم لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير
وقال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة وقال البخاري‏:‏ حديثه عن يحيى مضطرب
وقال النسائي‏:‏ ليس به بأس إلا في يحيى
وقال أحمد‏:‏ حديثه من غير إياس بن سلمة مضطرب‏.‏ وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف على عكرمة فيها فإن الحديث عند أحمد والترمذي من طريقه ليس فيه للخيل ذكر وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالروايات المتنوعة عن جابر المفصلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتصالا وأتقن رجالا وأكثر عددًا ومن أدلتهم ما رواه في السنن من حديث خالد بن الوليد‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل‏"‏‏.
وتعقب بأنه شاذ منكر لأن في سياقه أنه شهد خيبر وهو خطأ فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح وقد روى الحديث من طريق أخرى عن خالد وفيها مجهول ولا يقال أن جابرًا أيضًا لم يشهد خيبر كما أعل الحديث بذلك بعض الحنفية لأنا نقول ذلك ليس بعلة مع عدم التصريح بحضوره فغايته أن يكون من مراسيل الصحابة‏.‏
وأما الرواية الثانية عنه المذكورة في الباب أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أطعمهم لحوم الخيل وفي الأخرى أنهم سافروا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فليس في ذلك تصريح بأنه كان في خيبر فيمكن أن يكون في غيرها ولو فرضنا ثبوت حديث خالد وسلامته عن العلل لم ينتهض لمعارضة حديث جابر وأسماء المتفق عليهما مع أنه قد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون‏.‏ ومن جملة ما استدل به القائلون بالتحريم قوله تعالى
‏{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}‏ وقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم وقرروا ذلك بأن اللام للتعليل فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها تقتضي خلاف الظاهر من الآية وقرره أيضًا بأن العطف يشعر بالاشتراك في الحكم وبأن الآية سيقت مساق الامتنان فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم وأجيب إجمالا بأن الآية مكية اتفاقًا والإذن كان بعد الهجرة وأيضًا ليست نصًا في منع الأكل والحديث صريح في الحل وأجيب أيضًا تفصيلا بأنا لو سلمنا أن اللام للعلة لم نسلم إفادته الحصر في الركوب والزينة فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقًا ونظير ذلك حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت‏:‏ إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث فإنه مع كونه أصرح في الحصر لكونه بإنما مع اللام لا يستدل به على تحريم أكلها وإنما المراد الأغلب

 

ج / 8 ص -113-       من المنافع وهو الركوب في الخيل والتزين بها والحرث في البقر وأيضًا يلزم المستدل بالآية أنه لا يجوز حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به‏.‏ وأما الاستدلال بالعطف فغايته دلالة اقتران وهي من الضعف بمكان‏.‏ وأما الاستدلال بالامتنان فهو باعتبار غالب المنافع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ذبحنا فرسًا‏"‏ لفظ البخاري نحرنا فرسًا وقد جمع بين الروايتين بحمل النحر على الذبح مجازًا وقد وقع ذلك مرتين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يأكل لحم دجاج‏"‏ هو اسم جنس مثلث الدال ذكره المنذري وابن مالك وغيرهما ولم يحك النووي أن ذلك مثلث وقيل إن الضم ضعيف قال الجوهري‏:‏ دخلتها التاء للوحدة مثل الحمامة
وقال إبراهيم الحربي‏:‏ إن الدجاجة بالكسر اسم للذكران دون الإناث والواحد منها ديك وبالفتح الإناث دون الذكران والواحدة دجاجة بالفتح أيضًا‏.‏ وفي القاموس والدجاجة معروف للذكر والأنثى وتثلث اهـ وقد تقدم نقله‏.‏
وفي الحديث قصة وهو أن رجلا امتنع من أكل الدجاج وحلف على ذلك فأفتاه أبو موسى بأنه يكفر عن يمينه ويأكل وقص له الحديث‏.‏

باب النهي عن الحمر الإنسية
1 - عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏
‏"‏حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لحوم الحمر الأهلية‏"‏‏.‏ متفق عليه وزاد أحمد ولحم كل ذي ناب من السباع‏.‏
2 - وعن البراء بن عازب قال‏:‏
‏"‏نهانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية نضيجًا ونيًا‏"‏‏.‏
3 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏
4 - وعن ابن أبي أوفى قال‏:‏
‏"‏نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏
5 - وعن زاهر الأسلمي وكان ممن شهد الشجرة قال‏:‏
‏"‏إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر إذ نادى مناد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهاكم عن لحوم الحمر‏"‏‏.‏
6 - وعن عمرو بن دينار قال‏:‏ ‏"‏قلت لجابر بن زيد يزعمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الحمر الأهلية قال‏:‏ قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس

 

ج / 8 ص -114-       وقرأ ‏{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}‏‏"‏‏.‏ رواهما البخاري‏.‏
7 - وعن أبي هريرة‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع والمجثمة والحمار الإنسي‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏
8 - وعن ابن أبي أوفى قال‏:‏ ‏"‏أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أكفؤا القدور لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئًا فقال ناس إنما نهى عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنها لم تخمس وقال آخرون نهى عنها البتة‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ وقد ثبت النهي من رواية علي وأنس وقد ذكرا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏الأنسية‏"‏
قال في الفتح‏:‏ بكسر الهمزة وسكون النون منسوبة إلى الأنس ويقال فيه أنسية بفتحتين وزعم ابن الأثير أن في كلام أبي موسى المديني ما يقتضي أنها بالضم ثم السكون وقد صرح الجوهري أن الأنس بفتحتين ضد الوحشة ولم يقع في شيء من روايات الحديث بضم ثم سكون مع احتمال جوازه نعم زيف أبو موسى الرواية بكسر أوله ثم السكون
فقال ابن الأثير‏:‏ إن أراد من جهة الرواية وإلا فهو ثابت في اللغة والمراد بالأنسية الأهلية كما وقع في سائر الروايات ويؤخذ من التقييد بها جواز أكل الحمر الوحشية ولعله يأتي البحث عنها إن شاء اللّه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إذ نادى مناد‏"‏ وقع عند مسلم أن الذي ناد بذلك أبو طلحة ووقع عند مسلم أيضًا أن بلالا نادى بذلك وعند النسائي أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف ولعل عبد الرحمن نادى أولا بالنهي مطلقًا ثم نادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله فإنها رجس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وقرأ قل لا أجد‏"‏ الآية هذا الاستدلال إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها وأما الحمر الأنسية فقد تواترت النصوص على ذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس وأيضًا الآية مكية وقد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إنما حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر‏.‏ رواه ابن ماجه والطبراني وإسناده ضعيف وفي البخاري في المغازي أن ابن عباس تردد هل كان النهي لمعنى خاص أو للتأبيد وعن بعضهم إنما نهى عنها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأنها كانت تأكل العذرة وفي حديث ابن أبي أوفى المذكور في الباب فقال ناس إنما نهى عنها لأنها لم تخمس‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو غيرهما حديث أنس حيث جاء فيه فإنها رجس وكذلك الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة اهـ‏.‏
والحديثان متفق عليهما وقد تقدما في أول الكتاب في باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يؤكل إذا ذبح من كتاب الطهارة‏.‏
قال القرطبي‏:‏ ظاهره أن الضمير في إنها رجس عائد على الحمر لأنها المتحدث

 

ج / 8 ص -115-       عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها وهذا حكم النجس فيستفاد منه تحريم أكلها لعينها لا لمعنى خارج
وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الأمر بإكفاء القدور ظاهر أنه سبب تحريم لحم الحمر‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وقد وردت علل أخر إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة‏.‏ وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونان فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها
قال النووي‏:‏ قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا إلا عن ابن عباس وعند مالك ثلاث روايات ثالثها الكراهة‏.‏
وقد أخرج أبو داود عن غالب بن أبجر قال أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة قال أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية بفتح الجيم والواو وتشديد اللام جمع جالة مثل سوام جمع سامة بتشديد الميم وهوام جمع هامة يعني الجلالة وهي التي تأكل العذرة‏.‏
ـ والحديث ـ لا تقوم به حجة قال الحافظ‏:‏ إسناده ضعيف والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فلا اعتماد عليه‏.‏ وقال المنذري‏:‏ اختلف في إسناده كثيرًا
وقال البيهقي‏:‏ إسناده مضطرب
قال ابن عبد البر‏:‏ روى عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تحريم الحمر الأهلية علي عليه السلام وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرو وجابر والبراء وعبد اللّه بن أبي أوفى وأنس وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح وحسان‏.‏
وحديث غالب بن أبجر لا يعرج على مثله مع ما يعارضه ويحتمل أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رخص لهم في مجاعتهم وبين علة تحريمها المطلق بكونها تأكل العذرات‏.‏
وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الحمر الأهلية فقال أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر قال نعم قال فأصب من لحومها‏.‏
وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال سألت فذكر نحوه
فقال الحافظ في السندين مقال ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم‏.‏
قال الطحاوي‏:‏ لولا تواتر الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيًا كالخنزير وقد أجمع على حل الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وما ادعاه من الإجماع مردود فإن كثيرًا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كل ذي ناب من السباع‏"‏ سيأتي الكلام فيه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏المجثمة‏"‏ بضم الميم وفتح الجيم وتشديد المثلثة على صيغة اسم المفعول وهي كل حيوان ينصب ويقتل إلا أنها قد كثرت في الطير والأرنب وما يجثم في الأرض أي يلزمها والجثم في الأصل لزوم المكان أو الوقوع على الصدر أو التلبد بالأرض كما في القاموس فالتجثيم نوع من المثلة‏.‏

 

ج / 8 ص -116-       باب تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير
1 - عن أبي ثعلبة الخشني‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
كل ذي ناب من السباع فأكله حرام‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود‏.‏
2 - وعن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي‏.‏
3 - وعن جابر قال‏:‏
‏"‏حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعني يوم خيبر لحوم الحمر الأنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي‏.‏
4 - وعن عرباض بن سارية‏:‏ ‏
"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حرم يوم خيبر كل ذي مخلب من الطير ولحوم الحمر الأهلية والخلسة والمجثمة‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وقال نهى بدل لفظ التحريم وزاد في رواية
قال أبو عاصم‏:‏ المجثمة أن ينصب الطير فيرمى‏.‏ والخلسة الذئب أو السبع يدركه الرجل فيأخذ منه يعني الفريسة فتموت في يده قبل أن يذكيها‏.‏
حديث جابر أصله في الصحيحين كما سلف وهو بهذا اللفظ بسند لا بأس به كما قاله الحافظ في الفتح وكذلك حديث العرباض بن سارية لا بأس بإسناده‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كل ذي ناب‏"‏ الناب السن الذي خلف الرباعية جمعه أنياب
قال ابن سينا لا يجتمع في حيوان واحد ناب وقرن معًا وذو الناب من السباع كالأسد والذئب والنمر والفيل والقرد وكل ما له ناب يتقوى به ويصطاد
قال في النهاية‏:‏ وهو ما يفترس الحيوان ويأكل قسرًا كالأسد والنمر والذئب ونحوها
وقال في القاموس‏:‏ والسبع بضم الباء وفتحها المفترس من الحيوان اهـ‏.‏ ووقع الخلاف في جنس السباع المحرمة
فقال أبو حنيفة‏:‏ كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع والسنور
وقال الشافعي‏:‏ يحرم من السباع ما يعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب وأما الضبع والثعلب فيحلان عنده لأنهما لا يعدوان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وكل ذي مخلب‏"‏ المخلب بكسر الميم وفتح اللام
قال أهل اللغة‏:‏ المخلب للطير والسباع بمنزلة الظفر للإنسان‏.‏
وفي الحديث دليل على تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وإلى ذلك ذهب الجمهور‏.‏ وحكى ابن عبد الحكم وابن وهب عن مالك مثل قول الجمهور
وقال ابن العربي‏:‏ المشهور عنه الكراهة
قال ابن رسلان‏:‏ ومشهور مذهبه على إباحة ذلك وكذا قال القرطبي وقال ابن عبد البر‏:‏ اختلف فيه عن ابن عباس وعائشة وجاء عن ابن عمر من وجه ضعيف وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير يعني عدم

 

ج / 8 ص -117-       التحريم واحتجوا بقوله تعالى ‏{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ‏}‏ الآية وأجيب بأنها مكية وحديث التحريم بعد الهجرة وأيضًا هي عامة والأحاديث خاصة وقد تقدم الجواب عن الاحتجاج بالآية مفصلا وعن بعضهم إن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية ‏ {قُلْ لا أَجِدُ}‏ أي من المذكورات ويجاب عن هذا أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولحوم البغال‏"‏ فيه دليل على تحريمه وبه قال الأكثر وخالف في ذلك الحسن البصري كما حكاه عنه في البحر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والخلسة‏"‏ بضم الخاء وسكون اللام بعدها سين مهملة وهي ما وقع التفسير به في المتن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والمجثمة‏"‏ قد تقدم ضبطها وتفسيرها‏.‏

باب ما جاء في الهر والقنفذ
1 - عن جابر‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي‏.‏
2 - وعن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية ‏
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}‏ الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر‏:‏ إن كان قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو كما قال‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ حديث جابر في إسناده عمر بن زيد الصنعاني
قال المنذري وابن حبان‏:‏ لا يحتج به‏.‏
وقال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ لم يرو عنه غير عبد الرزاق‏.‏ وقد أخرج النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور مسلم في صحيحه‏.‏ وحديث عيسى بن نميلة
قال الخطابي‏:‏ ليس إسناده بذاك
وقال البيهقي‏:‏ إسناده غير قوي ورواه شيخ مجهول
وقال في بلوغ المرام‏:‏ إسناده ضعيف‏.‏
وقد استدل بالحديث الأول على تحريم أكل الهر وظاهره عدم الفرق بين الوحشي والأهلي ويؤيد التحريم أنه من ذوات الأنياب وللشافعية وجه في حل الهر الوحشي كحمار الوحش إذا كان وحشي الأصل لا إن كان أهليًا ثم توحش‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عن عيسى بن نميلة‏"‏ بضم النون وتخفيف الميم مصغر نملة ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏القنفذ‏"‏ هو واحد القنافذ والأنثى الواحدة قنفذة وهو بضم القاف وسكون النون وضم الفاء وبالذال المعجمة وقد تفتح الفاء وهو نوعان قنفذ يكون بأرض مصر قدر الفأر الكبير وآخر يكون بأرض الشام في قدر الكلب وهو مولع بأكل الأفاعي ولا يتألم بها كذا قال ابن رسلان في شرح السنن‏.‏
وقد استدل بالحديث على تحريم القنفذ لأن الخبائث محرمة بنص القرآن وهو مخصص لعموم الآية الكريمة كما سلف في

 

ج / 8 ص -118-       مثل ذلك‏.‏
وقد حكى التحريم في البحر عن أبي طالب والإمام يحيى قال ابن رسلان راويًا عن القفال أنه قال‏:‏ إن صح الخبر فهو حرام وإلا رجعنا إلى العرب والمنقول عنهم أنهم يستطيبونه وقال مالك وأبو حنيفة القنفذ مكروه ورخص فيه الشافعي والليث وأبو ثور اهـ‏.‏
وحكى الكراهة في البحر أيضًا عن المؤيد باللّه والراجح أن الأصل الحل حتى يقوم دليل ناهض ينقل عنه أو يتقرر أنه مستخبث في غالب الطباع ويؤيد القول بالحل ما أخرجه أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال صحبت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريمًا وهذا يؤيد الأصل وإن كان عدم السماع لا يستلزم عدم ورود دليل ولكن قال البيهقي إن إسناده غير قوي وقال النسائي ينبغي أن يكون ملقام بن التلب ليس بالمشهور قال ابن رسلان‏:‏ إن حشرات الأرض كالضب والقنفذ واليربوع وما أشبهها وأطال في ذلك‏.‏

باب ما جاء في الضب
1 - عن ابن عباس عن خالد بن الوليد أنه أخبره أنه‏:‏ ‏"‏دخل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ميمونة وهي خالته وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبًا محنوذًا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد فقدمت الضب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأهوى بيده إلى الضب فقالت امرأة من النسوة الحضور أخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بما قدمتن له قلن هو الضب يا رسول اللّه فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يده فقال خالد بن الوليد‏:‏ أحرام الضب يا رسول اللّه قال‏:‏
لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد‏:‏ فاجتررته فأكلته ورسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ينظر فلم ينهني‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏
2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن الضب فقال‏:‏
لا آكله ولا أحرمه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان معه ناس فيهم سعد فأتوا بلحم ضب فنادت امرأة من نسائه إنه لحم ضب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ كلوا فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي‏"‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
3 - وعن جابر‏:‏ ‏"‏أن عمر بن الخطاب قال في الضب إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يحرمه وأن عمر قال إن اللّه لينفع به غير واحد وإنما طعام عامة الرعاة منه ولو كان عندي طعمته‏"‏‏.‏ رواه مسلم وابن ماجه‏.‏

 

ج / 8 ص -119-       4 - وعن جابر قال‏:‏ ‏"‏أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال لا أدري لعله من القرون التي مسخت‏"‏‏.‏
5 - وعن أبي سعيد‏:‏ ‏"‏أن أعرابيًا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال إني في غائط مضبة وإنه عامة طعام أهلي قال فلم يجبه فقلنا عاوده فعاوده فلم يجبه ثلاثًا ثم ناداه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الثالثة فقال‏:‏ يا أعرابي إن اللّه لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض ولا أدري لعل هذا منها فلم آكلها ولا أنهى عنها‏"‏‏.‏ رواهما أحمد ومسلم‏.‏ وقد صح عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الممسوخ لا نسل له والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي وإن تردده في الضب كان قبل الوحي بذلك‏.‏ والحديث يرويه ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكرت عنده القردة قال مسعر‏:‏ وأراه قال والخنازير مما مسخ فقال‏:‏ "إن اللّه لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبًا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك‏".‏
وفي رواية‏:‏ ‏"‏أن رجلا قال يا رسول اللّه القردة والخنازير هي مما مسخ اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللّه لم يهلك أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلا‏"‏ روى ذلك أحمد ومسلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فوجد عندها ضبًا‏"‏ هو دويبة تشبه الحرذون ولكنه أكبر منه قليلا ويقال للأنثى ضبة‏.‏
قال ابن خالويه‏:‏ إنه يعيش سبعمائة سنة وإنه لا يشرب الماء ويبول في كل أربعين يومًا قطرة ولا يسقط له سن ويقال بل أسنانه قطعة واحدة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏محنوذًا‏"‏ بحاء مهملة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة أي مشويًا بالحجارة المحماة ووقع في رواية بضب مشوي‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أختها حفيدة‏"‏ بمهملة مضمومة بعدها فاء مصغرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لم يكن بأرض قومي‏"‏ قال ابن العربي‏:‏ اعترض بعض الناس على هذه اللفظة وقال إن الضباب موجودة بأرض الحجاز فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء وربما أنها حدثت بعد عصر النبوة وكذا أنكر ذلك ابن عبد البر ومن تبعه قال الحافظ ولا يحتاج إلى شيء من هذا بل المراد بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم
"بأرض قومي قريش" فقط فيختص النفي بمكة وما حولها ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأجدني أعافه‏"‏ أي أكره أكله يقال عفت الشيء أعافه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فاجتررته‏"‏ بجيم وراءين مهملتين هذا هو المعروف في كتب الحديث وضبطه بعض شراح المهذب بزاي قبل الراء وقد غلطه النووي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا آكله ولا أحرمه‏"‏ فيه جواز أكل الضب قال النووي‏:‏ وأجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته وإلا

 

ج / 8 ص -120-       ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام وما أظنه يصح عن أحد فإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله اهـ‏.‏
قال الحافظ‏:‏ قد نقله ابن المنذر عن علي رضي اللّه عنه فأين يكون الإجماع مع مخالفته ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم‏.‏
وقال الطحاوي في معاني الآثار‏:‏ كره قوم أكل الضب منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقد جاء عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه نهى عن أكل لحم الضب أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن شبل
قال الحافظ في الفتح‏:‏ وإسناده حسن فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل‏.‏ وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي وهؤلاء شاميون ثقات ولا يغتر بقول الخطابي ليس إسناده بذاك وقول ابن حزم فيه ضعفاء ومجهولون وقول البيهقي تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة وقول ابن الجوزي لا يصح ففي كل ذلك تساهل لا يخفى فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري وقد صحح الترمذي بعضها‏.‏
وأخرج أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط الشيخين من حديث عبد الرحمن بن حسنة نزلنا أرضًا كثيرة الضباب الحديث وفيه أنهم طبخوا منها فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب فأخشى أن تكون هذه فاكفؤها‏.‏ ومثله حديث أبي سعيد المذكور في الباب‏.‏
قال في الفتح‏:‏ والأحاديث وإن دلت على الحل تصريحًا وتلويحًا نصًا وتقريرًا فالجمع بينها وبين الحديث المذكور حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ‏.‏ وحينئذ أمر بإكفاء القدور ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه‏.‏ وحمل الإذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له وبعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه وأكل على مائدته بإذنه فدل على الإباحة‏.‏ وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره‏.‏
وقد استدل على الكراهة بما أخرجه الطحاوي عن عائشة أنه أهدي للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضب فلم يأكله فقام عليهم سائل فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها أتعطينه ما لا تأكلين‏.‏
قال محمد بن الحسن‏:‏ دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره‏.‏ وتعقبه الطحاوي باحتمال أن يكون ذلك من جنس ما قال اللّه تعالى ‏
{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}‏ ثم ساق الأحاديث الدالة على كراهة التصدق بخشف التمر وكحديث البراء كانوا يحبون الصدقة بأردأ تمرهم فنزلت ‏{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}‏ قال فلهذا المعنى كره لعائشة أن تتصدق بالضب لا لكونه حرامًا‏.‏ وهذا يدل على أن الطحاوي فهم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم‏.‏ والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه‏.‏ وجنح بعضهم إلى التحريم‏.‏
وقال اختلفت الأحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم ودعوى التعذر ممنوعة بما تقدم‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في غائط مضبة‏"‏
قال النووي‏:‏ فيه لغتان مشهورتان إحداهما فتح الميم والضاد والثانية ضم الميم وكسر الضاد والأول أشهر وأفصح‏.‏ والمراد ذات ضباب كثيرة والغائط الأرض المطمئنة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏يدبون‏"‏ بكسر الدال‏.‏
قوله ‏"‏ولا أدري لعل هذا منها‏"‏ قال القرطبي‏:‏ إنما كان ذلك ظنًا منه من قبل أن يوحى إليه أن اللّه لم

 

ج / 8 ص -121-       يجعل لمسخ نسلا فلما أوحى إليه بذلك زال التظنن وعلم أن الضب ليس مما مسخ كما في الحديث المذكور في الباب‏.‏ ومن العجيب أن ابن العربي قال‏:‏ إن قولهم الممسوخ لا نسل له دعوى فإنه أمر لا يعرف بالفعل وإنما طريقه النقل وليس فيه أمر يعول إليه وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم ثم قال وعلى تقدير كون الضب ممسوخًا فذلك لا يقتضي تحريم أكله لأن كونه آدميًا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا وإنما كره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الأكل منه لما وقع عليه من سخط اللّه كما كره الشرب من مياه ثمود اهـ‏.‏ ولا منافاة بين كونه صلى اللّه عليه وآله وسلم عاف الضب وبين ما ثبت أنه كان لا يعيب الطعام لأن عدم العيب إنما هو فيما صنعه الآدمي لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التقصير فيه وأما الذي خلق ذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعًا‏.‏

باب ما جاء في الضبع والأرنب
1 - عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمارة قال‏:‏ ‏"‏قلت لجابر الضبع أصيد هي قال نعم قلت آكلها قال نعم قلت آكلها قال نعم قلت أقاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
نعم‏"‏‏.‏ رواه الخمسة وصححه الترمذي‏.‏ ولفظ أبي داود عن جابر‏:‏ ‏"‏سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الضبع فقال هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم‏"‏‏.‏
2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏أنفجنا أرنبًا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بوركها وفخذها فقبله‏"‏‏.‏ رواه الجماعة‏.‏ ولفظ أبي داود‏:‏ ‏"‏صدت أرنبًا فشويتها فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأتيته بها‏"‏‏.‏
3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏
‏"‏جاء أعرابي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بأرنب قد شواها ومعها صنابها وأدمها فوضعها بين يديه فأمسك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلم يأكل وأمر أصحابه أن يأكلوا‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏
4 - وعن محمد بن صفوان‏:‏
‏"‏أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأمره بأكلهما‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏
حديث عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمارة أخرجه أيضًا الشافعي والبيهقي وصححه أيضًا البخاري وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وأعله ابن عبد البر بعبد الرحمن المذكور وهو وهم فإنه وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ثم إنه لم ينفرد به‏.‏ وحديث أبي هريرة قال في

 

ج / 8 ص -122-       الفتح‏:‏ رجاله ثقات إلا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافًا كثيرًا‏.‏ وحديث محمد بن صفوان أخرجه أيضًا بقية أصحاب السنن وابن حبان والحاكم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الضبع‏"‏ هو الواحد الذكر والأنثى ضبعان ولا يقال ضبعة‏.‏ ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكرًا وسنة أنثى فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏قال نعم‏"‏ فيه دليل على جواز أكل الضبع‏.‏ وإليه ذهب الشافعي وأحمد قال الشافعي ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير ولأن العرب تستطيبه وتمدحه‏.‏ وذهب الجمهور إلى التحريم واستدلوا بما تقدم في تحريم كل ذي ناب من السباع‏.‏ ويجاب بأن حديث الباب خاص فيقدم على حديث كل ذي ناب واستدلوا أيضًا بما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الضبع فقال أو يأكل الضبع أحد‏.‏ وفي رواية ومن يأكل الضبع فيجاب بأن هذا الحديث ضعيف لأن في إسناده عبد الكريم بن أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف
قال ابن رسلان‏:‏ وقد قيل إن الضبع ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس فعلى هذا لا يدخل في عموم النهي اهـ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ويجعل فيه كبش‏"‏ فيه دليل على أن الكبش مثل الضبع‏.‏ وفيه أن المعتبر في المثلية بالتقريب في الصورة لا بالقيمة ففي الضبع الكبش سواء كان مثله في القيمة أو أقل أو أكثر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أنفجنا أرنبًا‏"‏ بنون ثم فاء مفتوحة وجيم ساكنة أي أثرنا‏.‏ يقال نفج الأرنب إذا ثار وأنفجته أي أثرته من موضعه ويقال الانتفاج الاقشعرار وارتفاع الشعر وانتفاشه‏.‏ والأرنب دويبة معروفة تشبه العناق ولكن في رجليها طول بخلاف يديها والأرنب اسم جنس للذكر والأنثى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بمر الظهران‏"‏ اسم موضع على مرحلة من مكة والراء من قوله بمر مشددة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فلغبوا‏"‏ بمعجمة وموحدة أي تعبوا وزنًا ومعنى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏صنابها‏"‏ بالصاد المهملة بعدها نون‏.‏
قال في القاموس‏:‏ الصناب ككتاب اهـ‏.‏ وهو صبغ يتخذ من الخردل والزبيب ويؤتدم به فعلى هذا عطف أدمها عليه للتفسير‏.‏ ويمكن أن يكون من عطف العام على الخاص‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بوركها‏"‏ الورك بكسر الراء وبكسر الواو وسكون الراء وهما وركان فوق الفخذين كالكتفين فوق العضدين كذا في المصباح‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وأمر أصحابه أن يأكلوا‏"‏ فيه دليل على جواز أكل الأرنب‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء‏.‏
واحتجوا بحديث خزيمة بن جزء قال قلت يا رسول اللّه ما تقول في الأرنب قال لا آكله ولا أحرمه قلت ولم يا رسول اللّه قال نبئت أنها تدمي‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وسنده ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة وله شاهد عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص بلفظ‏:‏ ‏
"‏جيء بها إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها وزعم أنها تحيض‏"‏ أخرجه أبو داود وله شاهد أيضًا عند إسحاق بن راهويه في مسنده وهذا إذا صح صلح الاحتجاج به على كراهة التنزيه لا على التحريم‏.‏

 

ج / 8 ص -123-       والمحكي عن عبد اللّه بن عمرو التحريم كما في شرح ابن رسلان للسنن‏.‏ وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة‏.‏
وقد حكى في البحر عن العترة الكراهة يعني كراهة التنزيه وهو القول الراجح‏.‏

باب ما جاء في الجلالة
1 - عن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن شرب لبن الجلالة‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي‏.‏
2 - وفي رواية‏:‏ ‏
"‏نهى عن ركوب الجلالة‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
3 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏
"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أكل الجلالة وألبانها‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏
4 - وفي رواية‏:‏
‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
5 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحومها‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وأبو داود‏.‏ حديث ابن عباس أخرجه أيضًا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه أيضًا ابن دقيق العيد ولفظه‏:‏ "وعن أكل الجلالة وشرب ألبانها"‏.‏
وحديث ابن عمر حسنه الترمذي‏.‏ وقد اختلف في حديث ابن عمر على ابن أبي نجيح فقيل عن مجاهد عنه وقيل عن مجاهد مرسلا وقيل عن مجاهد عن ابن عباس‏.‏ وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضًا الحاكم والدارقطني والبيهقي‏.‏
وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعًا وفيه النهي عن الجلالة وهي التي تأكل العذرة‏.‏ قال في التلخيص‏:‏ إسناده قوي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عن شرب لبن الجلالة‏"‏ بفتح الجيم وتشديد اللام من أبنية المبالغة وهي الحيوان الذي يأكل العذرة والجلة بفتح الجيم هي البعرة‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ الجلة مثلثة البعر أو البعرة اهـ‏.‏ وتجمع على جلالات على لفظ الواحدة وجوال كدابة ودواب يقال جلت الدابة الجلة وأجلتها فهي جالة وجلالة‏.‏ وسواء في الجلالة البقر والغنم والإبل وغيرها كالدجاج والإوز وغيرهما‏.‏ وادعى ابن حزم أنها لا تقع إلا على ذات الأربع خاصة ثم قيل إن كان أكثر علفها النجاسة فهي جلالة وإن كان أكثر علفها الطاهر فليست جلالة وجزم به النووي في تصحيح التنبيه‏.‏
وقال في الروضة تبعًا للرافعي‏:‏ الصحيح أنه لا اعتداد بالكثرة بل بالرائحة والنتن فإن تغير ريح مرقها أو لحمها أو طعمها أو لونها فهي جلالة‏.‏ والنهي حقيقة في التحريم‏.‏ فأحاديث الباب ظاهرها تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها وركوبها‏.‏ وقد ذهبت الشافعية

 

ج / 8 ص -124-       إلى تحريم أكل الجلالة‏.‏ وحكاه في البحر عن الثوري وأحمد بن حنبل‏.‏ وقيل يكره فقط كما في اللحم المذكى إذا أنتن‏.‏
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام‏:‏ لو غذى شاة عشر سنين بأكل حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره‏.‏ وهذا أحد احتمالي البغوي وإذا قلنا بالتحريم أو الكراهة فإن علفت طاهرًا فطاب لحمها حل لأن علة النهي التغير وقد زالت‏.‏
قال ابن رسلان‏:‏ ونقل الإمام فيه الاتفاق
قال الخطابي‏:‏ كرهه أحمد وأصحاب الرأي والشافعي وقالوا لا تؤكل حتى تحبس أيامًا‏.‏
وفي حديث أن البقر تعلف أربعين يومًا ثم يؤكل لحمها‏.‏ وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثًا ولم ير بأكلها بأسًا مالك من دون حبس اهـ‏.‏
قال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ وليس للحبس مدة مقدرة‏.‏ وعن بعضهم في الإبل والبقر أربعين يومًا وفي الغنم سبعة أيام وفي الدجاج ثلاثة‏.‏ واختاره في المهذب والتحرير‏.‏ قال الإمام المهدي في البحر‏:‏ فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نهى عن ركوب الجلالة‏"‏ علة النهي أن تعرق فتلوث ما عليها بعرقها وهذا ما لم تحبس فإذا حبست جاز ركوبها عند الجميع كذا في شرح السنن‏.‏
وقد اختلف في طهارة لبن الجلالة فالجمهور على الطهارة لأن النجاسة تستحيل في باطنها فيطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوانات لحمًا ويصير لبنًا‏.‏

باب ما استفيد تحريمه من الأمر بقتله أو النهي عن قتله
1 - عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
خمس فواسق يقتلن في الحل والحرام الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي‏.‏
2 - وعن سعد بن أبي وقاص‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وللبخاري منه الأمر بقتله‏.‏
3 - وعن أم شريك‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بقتل الوزغ‏"‏‏.‏ متفق عليه زاد البخاري قال وكان ينفخ على إبراهيم عليه السلام‏.‏
4 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من قتل وزغًا في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي معناه‏.‏
5 - وعن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

 

ج / 8 ص -125-       6 - وعن عبد الرحمن بن عثمان قال‏:‏ ‏"‏ذكر طبيب عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم دواء وذكر الضفدع يجعل فيه فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏
7 - وعن أبي لبابة قال‏:‏
‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنهما اللذان يخطفان البصر ويتبعان ما في بطون النساء‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
8 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن لبيوتكم عمارًا فحرجوا عليهن ثلاثًا فإن بدا لكم بعد ذلك شيء فاقتلوه‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي‏.‏ وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏"‏ثلاثة أيام‏"‏‏.
حديث ابن عباس قال الحافظ‏:‏ رجاله رجال الصحيح‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ هو أقوى ما ورد في هذا الباب‏.‏ ثم رواه من حديث سهل بن سعد وزاد فيه والضفدع‏.‏ وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف‏.‏
وحديث عبد الرحمن بن عثمان أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي قال البيهقي‏:‏ ما ورد في النهي ‏[‏هكذا الأصل المطبوع ولعل فيه سقطًا تقديره ما ورد في النهي عن الضفدع من الأحاديث ضعيف واللّه أعلم‏]‏‏.‏ وروى البيهقي من حديث أبي هريرة النهي عن قتل الصرد والضفدع والنملة والهدهد وفي إسناده إبراهيم بن الفضل وهو متروك‏.‏
وروى البيهقي أيضًا من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص موقوفًا‏:‏ لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم‏.‏ قال البيهقي‏:‏ إسناده صحيح‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وإن كان إسناده صحيحًا لكن عبد اللّه بن عمرو كان يأخذ عن الإسرائيليات‏.‏
ومن جملة ما نهي عن قتله الخطاف أخرج أبو داود في المراسيل من طريق عباد بن إسحاق عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قتل الخطاطيف‏"‏ ورواه البيهقي معضلا أيضًا من طريق ابن أبي الحويرث عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏ ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عباس وفيه الأمر بقتل العنكبوت‏.‏ وفيه عمرو بن جميع وهو كذاب‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ روي فيه حديث مسند وفيه حمزة النصيبي وكان يرمى بالوضع‏.‏
ومن ذلك الرخمة أخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن أكل الرخمة‏.‏ وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف جدًا‏.‏
ومن ذلك العصفور أخرج الشافعي وأبو داود والحاكم من حديث عبد اللّه بن عمر وقال صحيح الإسناد مرفوعًا‏:‏
‏"‏ما من إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها إلا سأله اللّه عنها قال يا رسول اللّه وما حقها قال يذبحها ويأكلها ولا يقطع رأسها ويطرحها‏"‏ وأعله ابن القطان بصهيب مولى ابن

 

ج / 8 ص -126-       عباس الراوي عن عبد اللّه فقال لا يعرف حاله‏.‏ ورواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه مرفوعًا‏:‏ ‏"‏من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى اللّه به يوم القيامة يقول يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة‏"‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏خمس فواسق‏"‏ الخ هذا الحديث قد تقدم الكلام عليه في كتاب الحج‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أمر بقتل الوزغ‏"‏ قال أهل اللغة‏:‏ هي من الحشرات المؤذيات وجمعه أوزاغ وسام أبرص جنس منه وهو كباره وتسميته فويسقًا كتسمية الخمس فواسق وأصل الفسق الخروج والوزغ والخمس المذكورة خرجت عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضر والأذى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وكان ينفخ على إبراهيم‏"‏ أي في النار وذلك لما جبل عليه طبعها من عداوة نوع الإنسان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في أول ضربة كتب له مائة حسنة‏"‏ في رواية أخرى سبعون قال النووي‏:‏ مفهوم العدد لا يعمل به عند جمهور الأصوليين فذكر سبعين لا يمنع المائة فلا معارضة بينهما ويحتمل أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر بالسبعين ثم تصدق اللّه بالزيادة إلى المائة فأعلم بها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حين أوحى إليه بعد ذلك‏.‏ ويحتمل أن ذلك يختلف باختلاف قاتل الوزغ بحسب نياتهم وإخلاصهم وكمال أحوالهم ونقصها لتكون المائة للكامل منهم والسبعون لغيره‏.‏
وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والاعتناء به وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة فإنه إذا أراد أن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والصرد‏"‏ هو طائر فوق العصفور‏.‏ وأجاز مالك أكله‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ إنما نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قتله لأن العرب كانت تتشاءم به فنهى عن قتله ليزول ما في قلوبهم من اعتقاد التشاؤم‏.‏ وفي قول للشافعي مثل مالك لأنه أوجب فيه الجزاء على المحرم إذا قتله‏.‏
وأما النمل فلعله إجماع على المنع من قتله‏.‏ قال الخطابي‏:‏ إن النهي الوارد في قتل النمل المراد به السليماني أي لانتفاء الأذى منه دون الصغير وكذا في شرح السنة‏.‏
وأما النحلة فقد روي إباحة أكلها عن بعض السلف‏.‏
وأما الهدهد فقد روي أيضًا حل أكله وهو مأخوذ من قول الشافعي أنه يلزم في قتله الفدية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فنهى عن قتل الضفدع‏"‏ فيه دليل على تحريم أكلها بعد تسليم أن النهي عن القتل يستلزم تحريم الأكل‏.‏ قال في القاموس‏:‏ الضفدع كزبرج وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود دابة نهرية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ينهى عن قتل الجنان‏"‏ هو بجيم مكسورة ونون مشددة وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة‏.‏ وقيل الدقيقة الخفيفة‏.‏ وقيل الدقيقة البيضاء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا الأبتر‏"‏ هو قصير الذنب‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها‏.‏ وهو المراد من قوله‏:‏ ‏"‏يتبعان ما في بطون النساء‏"‏ أي يسقطان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وذا الطفيتين‏"‏ هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء وهما الخطان الأبيضان على ظهر الحية وأصل الطفية خوصة المقل وجمعها طفي شبه الخطين على ظهرها بخوصتي المقل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يخطفان البصر‏"‏ أي يطمسانه بمجرد نظرهما إليه لخاصية جعلها اللّه تعالى في بصرهما إذا وقع على بصر الإنسان‏.‏
قال النووي‏:‏ قال العلماء وفي الحيات نوع يسمى الناظر إذا وقع بصره على عين إنسان مات من ساعته‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فحرجوا عليهن ثلاثًا‏"‏ بحاء مهملة ثم راء مشددة ثم جيم والمراد به

 

ج / 8 ص -127-       الإنذار‏.‏
قال المازري والقاضي‏:‏ لا تقتلوا حيات مدينة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا بإنذار كما جاء في هذه الأحاديث فإذا أنذرها ولم تنصرف قتلها وأما حيات غير المدينة في جميع الأرض والبيوت والدور فيندب قتلها من غير إنذار لعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بقتلها ففي الصحيح بلفظ‏:‏
‏"‏اقتلوا الحيات‏"‏ ومن ذلك حديث الخمس الفواسق المذكورة في أول الباب‏.‏
وفي حديث الحية الخارجة بمنى أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بقتلها ولم يذكر إنذارًا ولا نقل أنهم أنذروها فأخذ بهذه الأحاديث في استحباب قتل الحيات مطلقًا وخصت المدينة بالإنذار للحديث الوارد فيها وسببه ما صرح به في صحيح مسلم وغيره أنه أسلم طائفة من الجن بها وذهبت طائفة من العلماء إلى عموم النهي في حيات البيوت بكل بلد حتى تنذر‏.‏
وأما ما ليس في البيوت فيقتل من غير إنذار قال مالك يقتل ما وجد منها في المساجد قال القاضي‏:‏ وقال بعض العلماء الأمر بقتل الحيات مطلقًا مخصوص بالنهي عن حيات البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنه يقتل على كل حال سواء كان في البيوت أم غيرها وإلا ما ظهر منها بعد الإنذار قالوا ويخص من النهي عن قتل حيات البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين اهـ وهذا هو الذي يقتضيه العمل الأصولي في مثل أحاديث الباب فالمصير إليه أرجح‏.‏
وأما صفة الاستئذان فقال القاضي روى ابن حبيب عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه يقول أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان بن داود أن تؤذننا وأن تظهرن لنا وقال مالك يكفيه أن يقول أحرج عليك باللّه واليوم الآخر أن تبدو لنا ولا تؤذننا ولعل مالكًا أخذ لفظ التحريج من لفظ الحديث المذكور‏.‏ وتبويب المصنف في هذا الباب فيه إشارة إلى أن الأمر بالقتل والنهي عنه من أصول التحريم‏.‏
قال المهدي في البحر‏:‏ أصول التحريم إما نص الكتاب أو السنة أو الأمر بقتله كالخمسة وما ضر من غيرها فمقيس عليها أو النهي عن قتله كالهدهد والخطاف والنحلة والنملة والصرد أو استخباث العرب إياه كالخنفساء والضفدع والعظاية والوزغ والحرباء والجعلان وكالذباب والبعوض والزنبور والقمل والكتان والنامس والبق والبرغوث لقوله تعالى ‏
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}‏ وهي مستخبثة عندهم والقرآن نزل بلغتهم فكان استخباثهم طريق تحريم فإن استخبثه البعض اعتبر الأكثر والعبرة باستطابة أهل السعة لا ذوي الفاقة اهـ‏.‏
والحاصل أن الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة المذكورة في أول الكتاب وغيرها قد دلت على أن الأصل الحل وأن التحريم لا يثبت إلا إذا ثبت الناقل عن الأصل المعلوم وهو أحد الأمور المذكورة فما لم يرد فيه ناقل صحيح فالحكم بحله هو الحق كائنًا ما كان وكذلك إذا حصل التردد فالمتوجه الحكم بالحل لأن الناقل غير موجود مع التردد ومما يؤيد أصالة الحل بالأدلة الخاصة استصحاب البراءة الأصلية‏.‏

 

ج / 8 ص -128-       إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط‏"‏‏.‏ رواه الجماعة‏.‏
2 - وعن سفيان بن أبي زهير قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
3 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏
"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية‏"‏‏.‏
رواه مسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
4 - وعن عبد اللّه بن المغفل قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم‏"‏‏.‏ رواه الخمسة وصححه الترمذي‏.‏
5 - وعن جابر قال‏:‏
‏"‏أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتل كل الكلاب حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قتلها وقال‏:‏ عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
- قوله‏:‏ ‏"‏أو زرع‏"‏ زيادة الزرع أنكرها ابن عمر كما في صحيح مسلم أنه قيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول أو كلب زرع فقال ابن عمر‏:‏ إن لأبي هريرة زرعًا ويقال إن ابن عمر أراد بذلك أن سبب حفظ أبي هريرة لهذه الرواية أنه صاحب زرع دونه ومن كان مشتغلًا بشيء احتاج إلى تعرف أحكامه وهذا هو الذي ينبغي حمل الكلام عليه‏.‏
وفي صحيح مسلم أيضًا قال سالم وكان أبو هريرة يقول أو كلب حرث وكان صاحب حرث‏.‏ وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزرع سفيان بن أبي زهير وعبد اللّه بن المغفل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو ماشية‏"‏ أو للتنويع لا للترديد وهو ما يتخذ من الكلاب لحفظ الماشية عند رعيها‏.‏ والمراد بقوله ولا ضرعًا الماشية أيضًا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وقال عليكم بالأسود البهيم‏"‏ أي الخالص السواد والنقطتان هما الكائنتان فوق العينين‏.‏
قال ابن عبد البر‏:‏ في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية وكذلك للزرع لأنها زيادة حافظ وكراهة اتخاذها لغير ذلك إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسًا فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة لما فيه من ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏"‏نقص من عمله‏"‏ أي من أجر عمله‏.‏
وقد استدل بهذا على جواز اتخاذها لغير ما ذكر وأنه ليس بمحرم لأن ما كان اتخاذه محرمًا امتنع اتخاذه على كل حال

 

ج / 8 ص -129-       سواء نقص الأجر أم لا‏.‏ فدل ذلك على أن اتخاذها مكروه لا حرام‏.‏
قال ابن عبد البر أيضًا‏:‏ ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعًا لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك‏.‏
وروي أن المنصور باللّه سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه فقال المنصور‏:‏ لأنه ينبح الضيف ويروع السائل اهـ‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وما ادعاه من عدم التحريم واستدل له بما ذكره ليس بلازم بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط مما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ كلبًا ويحتمل أن يكون الاتخاذ حرامًا‏.‏ والمراد بالنقص إذًا الإثم الحاصل باتخاذه يوازن قدر قيراط أو قيراطين من أجر فينتقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه وهو قيراط أو قيراطان‏.‏
وقيل سبب النقصان امتناع الملائكة من دخول بيته أو ما يلحق المارين من الأذى أو لأن بعضها شياطين أو عقوبة لمخالفة النهي أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها فربما ينجس الطاهر منها فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر‏.‏
وقال ابن التين‏:‏ المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملا فإذا اقتناه نقص من ذلك العمل ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى وإنما أراد أنه ليس في الكمال كعمل من لم يتخذ اهـ‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وما ادعاه من عدم الجواز منازع فيه‏.‏ فقد حكى الروياني في البحر اختلافًا في الأجر هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل وفي محل نقصان القيراطين خلاف‏:‏ فقيل من عمل النهار قيراط ومن عمل الليل آخر‏.‏ وقيل من الفرض قيراط ومن النفل آخر‏.‏
واختلفوا في اختلاف الروايتين في القيراطين كما في صحيح البخاري والقيراط كما في أحاديث الباب‏.‏ فقيل الحكم للزائد لكونه حفظ ما لم يحفظ الآخر أو أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر أولًا بنقص قيراط واحد فسمعه الراوي الأول ثم أخبر ثانيًا بنقص قيراطين زيادة في التأكيد والتنفير من ذلك فسمع الراوي الثاني‏.‏
وقيل ينزل على حالين فنقص القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها ونقص القيراط باعتبار قلته وقيل يختص نقص القيراطين بمن اتخذها بالمدينة الشريفة خاصة والقيراط بما عداها وقيل غير ذلك‏.‏
واختلف في القيراطين المذكورين هنا هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة وإتباعها فقيل بالتسوية‏.‏ وقيل اللذان في الجنازة من باب الفضل واللذان هنا من باب العقوبة وباب الفضل أوسع من غيره والأصح عند الشافعية إباحة اتخاذ الكلب لحفظ الدروب إلحاقًا للمنصوص بما في معناه كما أشار إليه ابن عبد البر واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه ما لم يحصل الاتفاق على قتله وهو الكلب العقور‏.‏ وأما غير العقور فقد اختلف هل يجوز قتله مطلقًا أم لا‏.‏
واستدل ـ بأحاديث الباب ـ على طهارة الكلب المأذون باتخاذه لأن في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة فالإذن باتخاذه إذن بمكملات مقصوده كما أن المنع من اتخاذه مناسب للمنع منه وهو استدلال قوي كما قال الحافظ لا يعارضه إلا عموم الخبر في الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل‏.‏

 

ج / 8 ص -130-       باب ما جاء في صيد الكلب المعلم والبازي ونحوهما
1 - عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إنا بأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي فقال‏:‏
ما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم اللّه عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل‏"‏‏.‏
2 - وعن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليَّ وأذكر اسم اللّه قال‏:‏
إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه عليه فكل ما أمسك عليك قلت‏:‏ وإن قتلن قال‏:‏ وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها قلت له‏:‏ فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيد قال‏:‏ إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه فإن أمسك عليك فأدركته حيًا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة‏"‏‏.‏ متفق عليهن‏.‏ وهو دليل على الإباحة سواء قتله الكلب جرحًا أو خنقًا‏.‏
3 - وعن عدي بن حاتم‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم اللّه عليه فكل ما أمسك عليك قلت‏:‏ وإن قتل قال‏:‏ وإن قتل ولم يأكل منه شيئًا فإنما أمسكه عليك‏"‏‏.‏
رواه أحمد وأبو داود‏.‏
- حديث عدي بن حاتم الآخر أخرجه أيضًا البيهقي وهو من رواية مجالد عن الشعبي عنه قال البيهقي تفرد مجالد بذكر الباز فيه وخالف الحفاظ‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ما صدت بقوسك‏"‏ سيأتي الكلام عن الصيد بالقوس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وما صدت بكلبك المعلم‏"‏ المراد بالمعلم الذي إذا أغراه صاحبه على الصيد طلبه وإذا زجره انزجر وإذا أخذ الصيد حبسه على صاحبه وفي اشتراط الثالث خلاف‏.‏ واختلف متى يعلم ذلك منها فقال البغوي في التهذيب‏:‏ أقله ثلاث مرات وعن أبي حنيفة وأحمد‏:‏ يكفي مرتين‏.‏ وقال الرافعي‏:‏ لا تقدير لاضطراب العرف واختلاف طباع الجوارح فصار المرجع إلى العرف‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فذكرت اسم اللّه عليه‏"‏ فيه اشتراط التسمية وسيأتي الكلام عليه‏.‏
ـ وأحاديث الباب ـ تدل على إباحة الصيد بالكلاب المعلمة وإليه ذهب الجمهور من غير تقييد واستثنى أحمد وإسحاق

 

ج / 8 ص -131-       الأسود وقالا لا يحل الصيد به لأنه شيطان‏.‏ ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فكل ما أمسك عليك‏"‏ فيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المذكورة في الأحاديث وهو مجمع عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما لم يشركها كلب ليس معها‏"‏ فيه دليل على أنه لا يحل أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياده ومحله ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل ثم ينظر فإن كان إرسالهما معًا فهو لهما وإلا فللأول ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله ‏"‏فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره‏"‏ فإنه يفهم منه أن المرسل لو سمى على الكلب لحل ووقع في رواية بيان عن الشعبي وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فيؤخذ منه أنه لو وجده حيًا وفيه حياة مستقرة فذكاه حل لأن الاعتماد في الإباحة على التذكية لا على إمساك الكلب ويؤيده ما في حديث الباب‏:‏
‏"‏وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل‏"‏‏.
قوله‏:‏ ‏"‏بالمعراض‏"‏ بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة‏.‏ قال الخليل وتبعه جماعة‏:‏ هو سهم لا ريش له ولا نصل‏.‏ وقال ابن دريد وتبعه ابن سيده‏:‏ هو سهم طويل له أربع قذذ رقاق فإذا رمي به اعترض‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة وقيل عود رقيق الطرفين غليظ الوسط وقيل خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وقد لا يحدد وقوى هذا الأخير النووي تبعًا لعياض‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ إنه المشهور وقال ابن التين‏:‏ المعراض عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل وما أصاب بغير حده فهو وقيذ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فخزق‏"‏ بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها قاف أي نفذ يقال سهم خازق أي نافذ ويقال بالسين المهملة بدل الزاي وقيل الخزق بالزاي وقد تبدل سينًا الخدش‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وحاصله أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد حل وكانت تلك ذكاته وإذا أصاب بعرضه لم يحل لأنه في معنى الخشبة الثقيلة أو الحجر ونحو ذلك من المثقل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بعرضه‏"‏ بفتح العين المهملة أي بغير طرفه المحدد وهو حجة للجمهور في التفصيل المذكور وعن الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام يحل مطلقًا وسيأتي لهذا زيادة بسط إن شاء اللّه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولم يأكل منه‏"‏ فيه دليل على تحريم ما أكل منه الكلب من الصيد ولو كان الكلب معلمًا وقد علل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه وهذا قول الجمهور وقال مالك وهو قول الشافعي في القديم ونقل عن بعض الصحابة أنه يحل‏.‏
واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏"‏أن أعرابيًا يقال له أبو ثعلبة قال‏:‏ يا رسول اللّه إن لي كلابًا مكلبة فأفتني في صيدها فقال‏:‏
كل مما أمسك عليك وإن أكل منه‏"‏ أخرجه أبو داود قال الحافظ‏:‏ ولا بأس بإسناده وسيأتي هذا الحديث في الباب الذي بعد هذا‏.‏
قال‏:‏ وسلك الناس في الجمع بين الحديثين طرقًا منها للقائلين بالتحريم الأولى حمل حديث الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه والثانية الترجيح‏.‏ فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غير الصحيحين ومختلف في تضعيفها وأيضًا فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم وهو خوف الإمساك على نفسه متأيدة

 

ج / 8 ص -132-       بأن الأصل في الميتة التحريم فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل ولظاهر القرآن أيضًا وهو قوله تعالى ‏{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فإن مقتضاه أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح ويتقوى أيضًا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد‏:‏ ‏"‏إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه‏"‏ وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع نحوه بمعناه ولو كان مجرد الإمساك كافيًا لما احتيج إلى زيادة عليكم في الآية وأما القائلون بالإباحة فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه وحديث الأعرابي على بيان الجواز قال بعضهم‏:‏ ومناسبة ذلك أن عديًا كان موسرًا فاختير له الحمل على الأولى بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان بعكسه ولا يخفى ضعف هذا التمسك مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه‏.‏
وقال ابن التين‏:‏ قال بعض أصحابنا هو عام فيحمل على الذي أدركه ميتًا من شدة العدو أو من الصدمة فأكل منه لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال والإمساك على صاحبه‏.‏
قال‏:‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله فإن أكل فلا تأكل أن لا يوجد منه غير الأكل دون إرسال الصائد له وتكون هذه الجملة مقطوعة عما قبلها ولا يخفى تعسف هذا وبعده وقال ابن القصار‏:‏ مجرد إرسالنا الكلب إمساك علينا لأن الكلب لا نية له وإنما يتصيد بالتعلم فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية وهو مرسله فإذا أرسله فقد أمسك عليه وإذا لم يرسله فلم يمسك عليه كذا قال ولا يخفى بعده ومصادمته لسياق الحديث‏.‏
وقد قال الجمهور إن معنى قوله أمسكن عليكم صدن لكم وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه فلا يعدل عن ذلك وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة‏:‏ إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله دل على أنه ليس يعلم التعليم المشترط وسلك بعض المالكية الترجيح فقال هذه القطعة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام وعارضها حديث الأعرابي المعروف بأبي ثعلبة‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهذا ترجيح مردود لما تقدم وتمسك بعضهم بأن الإجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهم بأكله فأدركه قبل أن يأكل منه يدل على أنه يحل ما أكل منه لأن تناوله بفيه وشروعه في أكله مثل الأكل في أن كل واحد منهما يدل على أنه إنما أمسكه على نفسه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن أخذ الكلب ذكاة‏"‏ فيه دليل على أن إمساك الكلب للصيد بمنزلة التذكية إذا لم يدركه الصائد إلا بعد الموت لا إذا أدركه قبل الموت فالتذكية واجبة لقوله في الحديث فإن أدركته حيًا فاذبحه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فكل ما أمسك عليك‏"‏ استدل به على أنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حل للعموم الذي في قوله‏:‏ ‏"‏ما أمسك عليك‏"‏ وهذا قول الجمهور وقال مالك لا يحل وهو رواية البويطي عن الشافعي‏.

 

ج / 8 ص -133-       باب ما جاء فيما إذا أكل الكلب من الصيد
1 - عن عدي بن حاتم‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم اللّه فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن إبراهيم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسكه على صاحبه‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
3 - وعن أبي ثعلبة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في صيد الكلب‏:‏
إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم اللّه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
4 - وعن عبد اللّه بن عمرو‏:‏ ‏"‏أن أبا ثعلبة الخشني قال‏:‏ يا رسول اللّه إن لي كلابًا مكلبة فأفتني في صيدها قال‏:‏
إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك فقال‏:‏ يا رسول اللّه ذكي وغير ذكي قال‏:‏ ذكي وغير ذكي قال‏:‏ وإن أكل منه قال‏:‏ وإن أكل منه قال‏:‏ يا رسول اللّه أفتني في قوسي قال‏:‏ كل مما أمسك عليك قوسك قال‏:‏ ذكي وغير ذكي قال‏:‏ ذكي وغير ذكي قال‏:‏ فإن تغيب عني قال‏:‏ وإن تغيب عنك ما لم يصل يعني يتغير أو تجد فيه أثر غير سهمك‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏
- حديث ابن عباس قد تقدم في الباب الذي قبل هذا ذكر طرقه وما يشهد له‏.‏
وحديث أبي ثعلبة الأول قد تقدم أن الحافظ قال لا بأس بإسناده انتهى‏.‏ وفي إسناده داود بن عمرو الأودي الدمشقي عامل واسط‏.‏ قال أحمد بن عبد اللّه العجلي‏:‏ ليس بالقوي وقال أبو زرعة الرازي‏:‏ هو شيخ وقال يحيى بن معين‏:‏ ثقة وقال أبو زرعة‏:‏ لا بأس به وقال ابن عدي‏:‏ لا أرى برواياته بأسًا‏.‏
قال ابن كثير‏:‏ وقد طعن في حديث أبي ثعلبة وأجيب بأنه صحيح لا شك فيه على أنه قد روى الثوري عن سماك بن حرب عن عدي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم مثل حديث أبي ثعلبة إذا كان الكلب ضاريًا وروى عبد الملك بن حبيب حدثنا أسد بن موسى عم أبي زائدة عن الشعبي عن عدي بمثله فوجب حمل حديث عدي يعني على نحو ما تقدم في حديث الباب الأول‏.‏
وحديث أبي ثعلبة الثاني أخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه وأعله البيهقي وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمرو بن شعيب عن أبيه

 

ج / 8 ص -134-       عن جده‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل‏"‏ قد تقدم البحث عن هذا وما عارضه من حديث أبي ثعلبة المذكور مبسوطًا في الباب الذي قبل هذا فليرجع إليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وكل ما ردت عليه يدك‏"‏ أي كُل كلَّ ما صدته بيدك لا بشيء من الجوارح ونحوها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كلابًا مكلبة‏"‏ يحتمل أن يكون مشتقًا من الكلب بسكون اللام اسم العين فيكون حجة لمن خص ما صاده الكلب بالحل إذا وجد ميتًا دون ما عداه من الجوارح كما قيل في قوله تعالى ‏
{مُكَلِّبِينَ‏}‏ ويحتمل أن يكون مشتقًا من الكلب بفتح العين وهو مصدر بمعنى التكليب وهو التضرية ويقوي هذا عموم قوله من الجوارح مكلبين فإن الجوارح المراد بها الكواسب على أهلها وهو عام‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ذكي وغير ذكي‏"‏ فيه دليل على أنه يحل ما وجد ميتًا من صيد الكلاب المعلمة وهو مجمع عليه فيما عدا الكلب الأسود كما تقدم‏.‏ واختلف العلماء فيما عداه من السباع كالفهد والنمر وغيرهما وكذلك الطيور فذهب مالك إلى أنها مثل الكلاب وحكاه ابن شعبان عن فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس وقال جماعة ومنهم مجاهد لا يحل ما صادوه غير الكلب إلا بشرط إدراك ذكاته وبعضهم خص البازي بحل ما قتله لحديث ابن عباس المتقدم في الباب الأول‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وإن تغيب عنك‏"‏ سيأتي الكلام عليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ما لم يصل‏"‏ بفتح حرف المضارعة وكسر الصاد المهملة وتشديد اللام أي يتغير‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أو تجد فيه أثر غير سهمك‏"‏ سيأتي أيضًا الكلام عليه إن شاء اللّه تعالى‏.

باب وجوب التسمية
1 - عن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إني أرسل كلبي وأسمي قال‏:‏
إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه قلت إني أرسل كلبي أجد معه كلبًا آخر لا أدري أيهما أخذه قال‏:‏ فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره‏"‏‏.‏
2 - وفي رواية‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه فإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله‏"‏‏.‏ متفق عليهما وهو دليل على أنه إذا أوحاه أحدهما وعلم بعينه فالحكم له لأنه قد علم أنه قاتله‏.‏
- قوله‏:‏ ‏"‏وسميت‏"‏ استدل به على مشروعية التسمية وهو مجمع على ذلك إنما الخلاف في كونها شرطًا في حل الأكل فذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإليه ذهبت القاسمية والناصر والثوري والحسن بن صالح إلى أنها شرط وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مروي عن مالك وأحمد إلى أنها سنة فمن تركها عندهم عمدًا أو سهوًا لم يقدح في حل الأكل‏.‏

 

ج / 8 ص -135-       ومن أدلة القائلين بأن التسمية شرط قوله تعالى ‏{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}‏ فهذه الآية فيها النهي عن أكل ما لم يسم عليه‏.‏
وفي حديث الباب إيقاف الإذن في الأكل عليها والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم والشرط أقوى من الوصف ويتأكد القول بالوجوب بأن الأصل تحريم الميتة وما أذن فيه منها تراعى صفته فالمسمى عليها وافق الوصف وغير المسمى باق على أصل التحريم‏.‏ واختلفوا إذا تركها ناسيًا فعند أبي حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء ومنهم القاسمية والناصر أن الشرطية إنما هي في حق الذاكر فيجوز أكل ما تركت التسمية عليه سهوًا لا عمدًا وذهب داود والشعبي وهو مروي عن مالك وأبي ثور أنها شرط مطلقًا لأن الأدلة لم تفصل واختلف الأولون في العمد هل يحرم الصيد ونحوه أم يكره‏.‏ فعند الحنفية يحرم‏.‏ وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه أصحها يكره الأكل وقيل خلاف الأولى وقيل يأثم بالترك ولا يحرم الأكل والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث‏.‏ وحجة القائلين بعدم وجوب التسمية مطلقًا ما سيأتي في باب الذبح إن شاء اللّه تعالى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن وجدت مع كلبك‏"‏ الخ فيه دليل على أن من وجد الصيد ميتًا ومع كلبه كلب آخر وحصل اللبس عليه أيهما القاتل له أنه لا يحل الصيد لأنه لم يسم إلا على كلبه بخلاف ما لو وجده حيًا فإنه يذكيه ويحل أكله بالتذكية‏.‏ وسيأتي الخلاف في الصيد إذا غاب وسبب الاختلاف حصول اللبس المذكور هنا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏على أنه أوحاه‏"‏ بالحاء المهملة بمعنى أنهاه إلى حركة المذبوح وليس لأوجاه بالجيم هنا معنى‏.‏

باب الصيد بالقوس وحكم الرمية إذا غابت أو وقعت في ماء
1 - عن عدي قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إنا قوم نرمي فما يحل لنا قال‏:‏
يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم اسم اللّه عليه وخزقتكم فكلوا منه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وهو دليل على أن ما قتله السهم بثقله لا يحل‏.‏
2 - وعن أبي ثعلبة الخشني‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي‏.‏
3 - وعن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الصيد قال‏:‏
إذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك‏"‏‏.‏ متفق عليه وهو دليل على أن السهم إذا أوحاه أبيح لأنه قد علم أن سهمه قتله‏.‏
4 - وعن عدي‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إذا رميت الصيد فوجدته

 

ج / 8 ص -136-       بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏
وفي رواية‏:‏
‏"‏إذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل‏"‏ رواه مسلم والنسائي‏.‏
وفي رواية‏:‏ ‏"‏أنه قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتًا وفيه سهمه قال‏:‏
يأكل إن شاء‏"‏ رواه البخاري‏.‏
5 - وفي رواية‏:‏ ‏"‏قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قلت إن أرضنا أرض صيد فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين فيجده وفيه سهمه قال‏:‏
إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثر غيره وعلمت أن سهمك قتله فكله‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏
6 - وفي رواية‏:‏ ‏"‏قال‏:‏ قلت يا رسول اللّه أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال‏:‏
إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وصححه‏.‏
- حديث عدي الأول له طرق هذه أحدها وقد تقدم بعضها والرواية الأخرى من حديث عدي أخرجها أيضًا أبو داود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم اسم اللّه عليه‏"‏ فيه دليل على أن التسمية واجبة لتعليق الحل عليها وقد تقدم الخلاف في ذلك وسيأتي له مزيد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فكله ما لم ينتن‏"‏ جعل الغاية أن ينتن الصيد فلو وجده في دونها مثلا بعد ثلاث ولم ينتن حل فلو وجده دونها وقد أنتن فلا هذا ظاهر الحديث‏.‏ وأجاب النووي بأن النهي عن أكله إذا أنتن للتنزيه وظاهر الحديث التحريم ولكنه سيأتي في باب ما جاء في السمك أن الجيش أكلوا من الحوت التي ألقاها البحر نصف شهر وأهدوا عند قدومهم للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم منه فأكله واللحم لا يبقى في الغالب مثل هذه المدة بلا نتن لا سيما في الحجاز مع شدة الحر فلعل هذا الحديث هو الذي استدل به النووي على كراهة التنزيه ولكنه يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه فلم يدخله النتن‏.‏ وقد حرمت المالكية المنتن مطلقًا وهو الظاهر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا أن تجده وقع في ماء‏"‏ وجهه أنه يحصل حينئذ التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم حل أكله‏.‏
قال النووي في شرح مسلم‏:‏ إذا وجد الصيد في الماء غريقًا حرم بالاتفاق انتهى‏.‏
وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح فإن انتهى إليها كقطع الحلقوم مثلا فقد تمت ذكاته ويؤيده ما قاله بعد ذلك فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك فدل على أنه إذا علم أن سهمه

 

ج / 8 ص -137-       هو الذي قتله أنه يحل‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إذا أوحاه‏"‏ قد تقدم ضبطه وتفسيره في الباب الذي قبل هذا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ليس به إلا أثر سهمك‏"‏ مفهومه أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يؤكل وهو نظير ما تقدم في الكلب من التفصيل فيما إذا خالط الكلب الذي أرسله الصائد كلب آخر لكن التفصيل في مسألة الكلب فيما إذا شارك الكلب في قتله كلب آخر وهنا الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد وقد جاءت فيه زيادة كما في الرواية الآخرة في الباب بلفظ‏:‏
‏"‏ولم تر فيه أثر سبع‏"‏ قال الرافعي‏:‏ يؤخذ منه أنه لو جرحه ثم غاب ثم وجده ميتًا أنه لا يحل وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر‏.‏ وقال النووي‏:‏ الحل أصح دليلًا وحكى البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه قال في قول ابن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت معنى ما أصميت ما قتله الكلب وأنت تراه وما أنميت ما غاب عنك مقتله قال وهذا لا يجوز عندي غيره إلا أن يكون جاء عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيه شيء فيسقط كل شيء خلف أمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا يقوم معه رأي ولا قياس‏.‏
قال البيهقي‏:‏ وقد ثبت الخبر يعني المذكور في الباب فينبغي أن يكون هو قول الشافعي‏.‏
وقد استدل بما في الباب على أن الرمي لو أخر طلب الصيد عقب الرمي إلى أن يجده أنه يحل بالشروط المتقدمة ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غيبته عنه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فيقتفي أثره‏"‏ بفاء ثم مثناة تحتية ثم قاف ثم مثناة فوقية ثم فاء‏.‏ أي يتبع قفاه حتى يتمكن منه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏اليومين والثلاثة‏"‏ فيه زيادة على الرواية التي قبلها وهي قوله‏:‏ ‏"‏بعد يوم أو يومين‏"‏ وفي الرواية الآخرة‏:‏ ‏"‏فيغيب عنه الليلة والليلتين‏"‏‏.‏

باب النهي عن الرمي بالبندق وما في معناه
1 - عن عبد اللّه بن المغفل‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الخذف وقال
إنها لا تصيد صيدًا ولا تنكأ عدوًا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن عبد اللّه بن عمرو‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من قتل عصفورًا بغير حقه سأله اللّه عنه يوم القيامة قيل يا رسول اللّه وما حقه قال‏:‏ أن تذبحه ولا تأخذ بعنقه فتقطعه‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏
3 - وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إذا رميت فسميت فخزقت فكل وإن لم تخزق فلا تأكل ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت‏"‏‏.‏ رواه أحمد وهو مرسل إبراهيم لم يلق عديًا‏.‏
- حديث عبد اللّه بن عمرو أخرجه أيضًا الحاكم وصححه وأعله ابن القطان بصهيب مولى ابن عباس الراوي عن عبد اللّه فقال لا يعرف حاله وله طريق أخرى عند الشافعي وأحمد والنسائي

 

ج / 8 ص -138-       وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه مرفوعًا‏:‏ ‏"‏من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى اللّه يوم القيامة يقول يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة‏"‏ وقد تقدم ذكر هذا الحديث‏.‏ وحديث عدي المذكور في الباب وإن كان مرسلا كما ذكره لكن معناه صحيح ثابت عن عدي في الصحيحين كما تقدم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نهى عن الخذف‏"‏ بالخاء المعجمة وآخره فاء وهو الرمي بحصاة أو نواة بين سبابتيه أو بين الإبهام والسبابة أو على ظاهر الوسطى وباطن الإبهام وقال ابن فارس‏:‏ خذفت الحصاة رميتها بين إصبعيك وقيل في حصا الخذف أن تجعل الحصاة بين السبابة من اليمنى والإبهام من اليسرى ثم تقذفها بالسبابة من اليمنى‏.‏
وقال ابن سيده‏:‏ خذف بالشيء يخذف قال والمخذفة التي يوضع فيها الحجر ويرمى بها الطير ويطلق على المقلاع أيضًا قاله في الصحاح‏.‏
والمراد بالبندقة المذكورة في ترجمة الباب هي التي تتخذ من الطين وتيبس فيرمى بها‏.‏ قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن كذا في البخاري وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد اللّه بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر أنهما كانا يكرهان البندقة إلا ما أدركت ذكاته‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إنها لا تصيد صيدًا‏"‏ قال المهلب‏:‏ أباح اللّه الصيد على صفة فقال ‏
{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}‏ وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك وإنما هو وقيذ وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به وقد اتفق العلماء إلا من شذ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر وإنما كان كذلك لأنه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده كذا في الفتح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا تنكأ عدوًا‏"‏ قال عياض‏:‏ الرواية بفتح الكاف وبهمزة في آخره وهي لغة والأشهر بكسر الكاف بغير همزة وقال في شرح مسلم‏:‏ لا تنكأ بفتح الكاف مهموزًا وروي لا تنكي بكسر الكاف وسكون التحتانية وهو أوجه لأن المهموز نكأت القرحة وليس هذا موضعه فإنه من النكاية لكن قال في العين‏:‏ نكأه لغة في نكيت فعلى هذا تتوجه هذه الرواية قال‏:‏ ومعناه المبالغ في الأذى‏.‏
وقال ابن سيده‏:‏ نكى العدو نكاية أصاب منه ثم قال نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم فظهر أن الرواية صحيحة ولا معنى لتخطئتها وأغرب ابن التين فلم يعرج على الرواية التي بالهمز أصلا بل شرحه على التي بكسر الكاف بغير همز ثم قال‏:‏ ونكأت القرحة بالهمز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولكنها تكسر السن‏"‏ أي الرمية وأطلق السن ليشمل سن المرمى وغيره من آدمي وغيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وتفقأ العين‏"‏ قد تقدم ضبطه وتفسيره وأطلق العين لما ذكرنا في السن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بغير حقه‏"‏ فيه دليل على تحريم قتل العصفور وما شاكله لمجرد العبث وعلى غير الهيئة المذكورة ولأن تعذيب الحيوان قد ورد النهي عنه في غير حديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فخزقت فكل‏"‏ فيه أن الخزق شرط الحل وقد تقدم وكذلك تقدم الكلام عن المعراض‏.‏

باب الذبح وما يجب له وما يستحب
1 - عن الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه‏:‏ ‏"‏أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
لعن اللّه من ذبح لغير اللّه ولعن اللّه من آوى محدثًا ولعن اللّه

 

ج / 8 ص -139-       من لعن والديه ولعن اللّه من غير تخوم الأرض‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏
2 - وعن عائشة‏:‏ ‏"‏أن قومًا قالوا يا رسول اللّه إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم اللّه عليه أم لا فقال‏:‏
سموا عليه أنتم وكلوا وكانوا حديثي عهد بالكفر‏"‏‏.‏ رواه البخاري والنسائي وابن ماجه وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد‏.‏
3 - وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه‏:‏ ‏"‏أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرًا فذبحتها به فقال لهم‏:‏ لا تأكلوا حتى أسأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك وأنه سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك أو أرسل إليه فأمره بأكلها‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري قال‏:‏ وقال عبيد اللّه يعجبني أنها أمة وأنها ذبحت بحجر‏.‏
4 - وعن زيد بن ثابت‏:‏
‏"‏أن ذئبًا نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص لهم رسول اللّه في أكلها‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏
5 - وعن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إنا نصيد الصيد فلا نجد سكينًا إلا الظرار وشقة العصا فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم
أمر الدم بما شئت واذكر اسم اللّه عليه‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا الترمذي‏.‏
- حديث زيد بن ثابت رجاله رجال الصحيح إلا حاضر بن المهاجر فقيل هو مجهول وقيل مقبول‏.‏ وقد أخرج معناه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن ابن عمر بإسناد صحيح‏.‏
وحديث عدي بن حاتم أخرجه أيضًا الحاكم وابن حبان ومداره على سماك بن حرب عن مري بن قطري عنه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لعن اللّه من ذبح لغير اللّه‏"‏ المراد به أن يذبح لغير اللّه تعالى كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى عليهما السلام أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو كافرًا‏.‏ وإليه ذهب الشافعي وأصحابه فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير اللّه تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًا‏.‏ وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير اللّه‏.‏
قال الرافعي‏:‏ هذا إنما يذبحونه استبشارًا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏محدثًا‏"‏ بكسر الدال

 

ج / 8 ص -140-       هو من يأتي لما فيه فساد في الأرض من جناية على غيره أو غير ذلك والمؤوي له المانع له من القصاص ونحوه‏.‏ ولعن الوالدين من الكبائر‏.‏ وتخوم الأرض بالتاء المثناة من فوق والخاء المعجمة وهي الحدود والمعالم وظاهره العموم في جميع الأرض وقيل معالم الحرم خاصة وقيل في الأملاك وقيل أراد المعالم التي يهتدى بها في الطرقات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أن قومًا قالوا للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏"‏ قال في الفتح‏:‏ لم أقف على تعيينهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فقال سموا عليه أنتم‏"‏ قال المهلب‏:‏ هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضًا فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح دل على أنها سنة لأن السنة لا تنوب عن فرض هذا على أن الأمر في حديث عدي وابن ثعلبة محمول على التنزيه من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية فعلمهما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر الصيد والذبح فرضه ومندوبه لئلا يوافقا شبهة في ذلك وليأخذا بأكمل الأمور وأما الذين سألوا عن هذه الذبائح فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم فعرفهم بأصل الحل فيه‏.‏
وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل وبذلك جزم النووي‏.‏ قال ابن التين‏:‏ وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم فلا تكليف عليهم فيه وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أذكروا اسم اللّه عليه أم لا إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمى ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية وبهذا الأخير جزم ابن عبد البر فقال‏:‏ إن ما ذبحه المسلم يؤكل ويحمل على أنه سمى لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك وعكس هذا الخطابي فقال‏:‏ فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة لأنها لو كانت شرطًا لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا وهذا هو المتبادر من سياق الحديث حيث وقع الجواب فيه سموا أنتم كأنه قيل لهم لا تهتموا بذلك بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم اللّه وتأكلوا وهذا من الأسلوب الحكيم كما نبه عليه الطيبي ومما يدل على عدم الاشتراط قوله تعالى ‏
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}‏ فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وكانوا حديثي عهد بالكفر‏"‏ في رواية لمالك وذلك في أوائل الإسلام وقد تعلق بهذه الزيادة قوم فزعموا أن هذا الجواب كان قبل نزول قوله تعالى ‏
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}‏ قال ابن عبد البر‏:‏ وهو تعلق ضعيف‏.‏
وفي الحديث نفسه ما يرده لأنه أمرهم فيه بالتسمية عند الأكل فدل على أن الآية كانت نزلت بالأمر بالتسمية وأيضًا فقد اتفقوا على أن الأنعام مكية وأن هذه القصة جرت بالمدينة وأن الأعراب المشار إليهم في الحديث هم بادية أهل المدينة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏جارية‏"‏ في رواية أمة وفي رواية امرأة ولا تنافي بين الروايات لأن الرواية الأخيرة أعم فيؤخذ بقول من زاد في روايته صفة وهي كونها أمة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأمره بأكلها‏"‏ فيه دليل على أنها تحل ذبيحة المرأة وإليه ذهب الجمهور‏.‏
وقد نقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته وفي المدونة جوازه وفي وجه للشافعية يكره ذبح المرأة الأضحية وعند سعيد بن منصور

 

ج / 8 ص -141-       بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية وفيه جواز ما ذبح بغير إذن مالكه وإليه ذهب الجمهور وخالف في ذلك طاوس وعكرمة وإسحاق وأهل الظاهر وإليه جنح البخاري ويدل لما ذهبوا إليه ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند قوي من طريق عاصم بن كليب عن أبيه في قصة الشاة التي ذبحتها المرأة بغير إذن صاحبها فامتنع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من أكلها لكنه قال أطعموها الأسارى ولو لم تكن مذكاة لما أمر بإطعام الأسارى لأنه لا يبيح لهم إلا ما يحل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فذبحوها بمروة‏"‏ أي بحجر أبيض وقيل هو الذي تقدح منه النار‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا الظرار‏"‏ بالمعجمة بعدها راءان مهملتان بينهما ألف جمع ظرر وهي الحجارة كذا في النهاية‏.‏ قال في القاموس‏:‏ الظر بالكسر والظرر والظررة الحجر أو المدور المحدد منه الجمع ظرار وظرار قال‏:‏ والمظرة بالكسر الحجر تقدح به النار وبالفتح كسر الحجر ذي الحد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وشقة العصا‏"‏ بكسر الشين المعجمة أي ما يشق منها ويكون محددًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أمر الدم‏"‏ بفتح الهمزة وكسر الميم وبالراء مخففة من أمار الشيء ومار إذا جرى وبكسر الهمزة وسكون الميم من مرى الضرع إذا مسحه ليدر‏.‏
قال الخطابي‏:‏ المحدثون يروونه بتشديد الراء وهو خطأ إنما هو بتخفيفها من مريت الناقة إذا حلبتها قال ابن الأثير‏:‏ ويروى أمرر براءين مظهرين من غير إدغام وكذا في التلخيص إنه براءين مهملتين الأولى مكسورة ثم نقل كلام الخطابي قال وأجيب بأن التثقيل لكونه أدغم أحد الراءين في الأخرى على الرواية الأولى‏.‏
6 - وعن رافع بن خديج قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إنا نلقى العدو غدًا وليس معنا مدى فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوا ما لم يكن سنًا أو ظفرًا وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة‏"‏‏.‏ رواه الجماعة‏.‏
7 - وعن شداد بن أوس‏:‏ ‏"‏عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه‏.‏
8 - وعن ابن عمر‏:‏
‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال إذا ذبح أحدكم فليجهز‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏
9 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏
"‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق

 

ج / 8 ص -142-       واللبة ولا تجعلوا الأنفس أن تزهق وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال‏"‏‏.‏ رواه الدارقطني‏.‏
- حديث ابن عمر في إسناده عند ابن ماجه ابن لهيعة وفيه مقال معروف ويشهد له الحديث الذي قبله‏.‏
وحديث أبي هريرة في إسناده سعيد بن سلام العطار قال أحمد كذاب وقد تقدم ما يشهد له في صلاة العيد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إنا نلقى العدو غدًا‏"‏ لعله عرف ذلك بخبر أو بقرينة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وليس معنا مدى‏"‏ بضم الميم مخفف مقصور جمع مدية بسكون الدال بعدها تحتانية وهي السكين سميت بذلك لأنها تقطع مدى الحيوان أي عمره والرابط بين قوله نلقى العدو وليس معنا مدى يحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه ويحتمل أن يكون مراده أنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقووا به على العدو إذا لقوه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما أنهر الدم‏"‏ أي أساله وصبه بكثرة شبهه بجري الماء في النهر قال عياض‏:‏ هذا هو المشهور في الروايات بالراء وذكره أبو ذر بالزاي وقال النهز بمعنى الدفع وهو غريب وما موصولة في موضع رفع بالابتداء وخبرها فكلوا والتقدير ما أنهر الدم فهو حلال فكلوا ويحتمل أن تكون شرطية‏.‏ ووقع في رواية إسحاق عن الثوري كل ما أنهر الدم ذكاة وما في هذا موصوفة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وذكر اسم اللّه عليه‏"‏ فيه دليل على اشتراط التسمية لأنه علق الأذن بمجموع الأمرين وهما الإنهار والتسمية والمعلق على شيئين لا يكتفى فيه إلا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وسأحدثكم‏"‏ اختلف في هذا هل هو من جملة المرفوع أو مدرج‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أما السن فعظم‏"‏ قال البيضاوي‏:‏ هو قياس حذفت منه المقدمة الثانية لشهرتها عندهم والتقدير أما السن فعظم وكل عظم لا يحل الذبح به وطوى النتيجة لدلالة الاستثناء عليها‏.‏
وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط‏:‏ هذا يدل على أنه عليه السلام كان قد قرر كون الذكاة لا تحصل بالعظم فلذلك اقتصر على قوله‏:‏ ‏"‏فعظم‏"‏ قال‏:‏ ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل وكذا وقع في كلام ابن عبد السلام‏.‏
وقال النووي‏:‏ معنى الحديث لا تذبحوا بالعظام فإنها تنجس بالدم وقد نهيتم عن تنجيسها لأنها زاد إخوانكم من الجن‏.‏ وقال ابن الجوزي في المشكل هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودًا عندهم أنه لا يجزئ وقررهم الشارع على ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأما الظفر فمدى الحبشة‏"‏ أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم قاله ابن الصلاح وتبعه النووي‏.‏ وقيل نهى عنهما لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان ولا يقع به غالبًا إلا الخنق الذي هو على صورة الذبح‏.‏ واعترض على الأول بأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل‏.‏ وأما ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التشبه ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وروي عن الشافعي أنه قال السن إنما يذكي بها إذا كانت منتزعة فأما وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة يعني فدل على عدم جواز التذكية بالسن

 

ج / 8 ص -143-       المنتزعة بخلاف ما نقل عن الحنفية من جوازه بالسن المنفصلة‏.‏
قال‏:‏ وأما الظفر فلو كان المراد به ظفر الإنسان لقال فيه ما قال في السن لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طيب من بلاد الحبشة وهو لا يقوى فيكون في معنى الخنق‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فأحسنوا القتلة‏"‏ بكسر القاف وهي الهيئة والحالة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فأحسنوا الذبح‏"‏ قال النووي في شرح مسلم‏:‏ وقع في كثير من النسخ أو أكثرها فأحسنوا الذبح بفتح الذال بغير هاء وفي بعضها الذبحة بكسر الذال وبالهاء كالقتلة وهي الهيئة والحالة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وليحد‏"‏ بضم الياء يقال أحد السكين وحددها واستحدها بمعنى وليرح ذبيحته بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وغير ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وأن توارى عن البهائم‏"‏ قال النووي‏:‏ ويستحب أن لا يحدد السكين بحضرة الذبيحة وأن لا يذبح واحدة بحضرة أخرى ولا يجرها إلى مذبحها‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فليجهز‏"‏ بالجيم والزاي أي يسرع في الذبح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏واللبة‏"‏ هي المنحر من البهائم وهي بفتح اللام وتشديد الموحدة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق‏"‏ بالزاي أي ألاَّ تسرعوا في شيء من الأعمال المتعلقة بالذبيحة قبل أن تموت‏.‏
10 - وعن ابن عباس وأبي هريرة قالا‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
11 - وعن أسماء ابنة أبي بكر قالت‏:‏ ‏"‏نحرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرسًا فأكلناه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
12 - وعن أبي العشراء عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال
لو طعنت في فخذها لأجزأك‏"‏‏.‏ رواه الخمسة وهذا فيما لم يقدر عليه‏.‏
13 - وعن رافع بن خديج قال‏:‏ ‏"‏كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا‏"‏‏.‏ رواه الجماعة‏.‏
- حديث ابن عباس وأبي هريرة قال المنذري في إسناده عمرو بن عبد اللّه الصنعاني وقد تكلم فيه غير واحد‏.‏
وحديث أبي العشراء قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث‏.‏
قال الخطابي‏:‏ وضعفوا هذا الحديث لأن رواته مجهولون وأبو العشراء لا يدرى من أبوه ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة‏.‏ قال في التلخيص‏:‏ وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه يعني أبا العشراء على الصحيح وهو لا يعرف حاله‏.‏

 

ج / 8 ص -144-       قوله‏:‏ ‏"‏عن شريطة الشيطان‏"‏ أي ذبيحته وهي المذكورة في الحديث والتفسير ليس من الحديث بل زيادة رواها الحسن بن عيسى أحد رواته كما صرح به أبو داود في السنن قال في النهاية‏:‏ شريطة الشيطان قيل هي الذبيحة التي لا يقطع أوداجها ولا يستقصى ذبحها وهو من شرط الحجام وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حلقها ويتركونها حتى تموت وإنما أضافها إلى الشيطان لأنه هو الذي حملهم على ذلك وحسن هذا الفعل لديهم وسوله لهم انتهى‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏عن أبي العشراء‏"‏ بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة قال أبو داود‏:‏ واسمه عطارد بن بكرة ويقال ابن قهطم ويقال اسمه عطارد بن مالك بن قهطم‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لو طعنت في فخذها‏"‏ الخ قال أهل العلم بالحديث‏:‏ هذا عند الضرورة كالتردي في البئر وأشباهه وقال أبو داود بعد إخراجه‏:‏ هذا لا يصح إلا في المتردية والنافرة والمتوحشة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏نحرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرسًا‏"‏ فيه أن النحر يجزئ في الخيل كما يجزئ في الإبل‏.‏ قال ابن التين‏:‏ الأصل في الإبل النحر وفي الشاة ونحوها الذبح وأما البقر فجاء في القرآن ذكر ذبحها وفي السنة ذكر نحرها واختلف في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح فأجازه الجمهور ومنع منه ابن القاسم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فند بعير‏"‏ أي نفر وهو بفتح النون وتشديد الدال‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فحبسه‏"‏ أي أصابه السهم فوقف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أوابد‏"‏ جمع آبدة بالمد وكسر الموحدة أي غريبة يقال جاء فلان بآبدة أي بكلمة أو فعلة منفرة يقال أبدت بفتح الموحدة تأبد بضمها ويجوز الكسر ويقال تأبدت أي توحشت والمراد أن لها توحشًا‏.‏
ـ وفي الحديث ـ جواز أكل ما رمي بالسهم فجرى في أي موضع كان من جسده بشرط أن يكون وحشيًا أو متوحشًا وإليه ذهب الجمهور وروي عن مالك والليث وسعيد بن المسيب وربيعة أنه لا يحل الأكل لما توحش إلا بتذكية في حلقه أو لبته‏.

باب ذكاة الجنين بذكاة أمه
1 - عن أبي سعيد‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال
في الجنين ذكاته ذكاة أمه‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏قلنا يا رسول اللّه تنحر الناقة وتذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكل قال‏:‏ كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه‏"‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الدارقطني وابن حبان وصححه وضعفه عبد الحق وقال لا يحتج بأسانيده كلها وذلك لأن في بعضها مجالدًا ولكن أقل أحوال الحديث أن يكون حسنًا لغيره لكثرة طرقه ومجالد ليس إلا في الطريق التي أخرجها الترمذي وأبو داود منها‏.‏
وقد أخرجه أحمد من طريق ليس فيها ضعيف والحاكم أخرجه من طريق فيها عطية عن ابن سعيد وعطية فيه لين وقد صححه مع ابن حبان ابن دقيق العيد وحسنه الترمذي وقال وفي الباب عن علي عليه

 

ج / 8 ص -145-       السلام وابن مسعود وأبي أيوب والبراء وابن عمر وابن عباس وكعب بن مالك وزاد في التلخيص عن جابر وأبي أمامة وأبي الدرداء وأبي هريرة‏.‏
أما حديث علي فأخرجه الدارقطني بإسناد فيه الحارث الأعور وموسى بن عمر الكوفي وهما ضعيفان‏.‏
وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أيضًا الدارقطني بسند رجاله ثقات إلا أحمد بن الحجاج بن الصامت فإنه ضعيف جدًا‏.‏
وأما حديث أبي أيوب فأخرجه الحاكم وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف‏.‏
وأما حديث البراء فأخرجه البيهقي‏.‏
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الحاكم والطبراني في الأوسط وابن حبان في الضعفاء وفي إسناده محمد بن الحسن الواسطي ضعفه ابن حبان وفي بعض طرقه عنعنة محمد بن إسحاق وفي بعضها أحمد بن عصام وهو ضعيف وهو في الموطأ موقوف وهو أصح‏.‏
وأما حديث ابن عباس فرواه الدارقطني وفي إسناده موسى بن عثمان العبدي وهو مجهول‏.‏
وأما حديث كعب بن مالك فأخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده إسماعيل ابن مسلم وهو ضعيف‏.‏
وأما حديث جابر فأخرجه الدارمي وأبو داود وفي إسناده عبد اللّه ابن أبي الزناد القداح عن أبي الزبير والقداح ضعيف وله طرق أخر‏.‏
وأما حديث أبي أمامة وأبي الدرداء فأخرجهما الطبراني من طريق راشد بن سعد وفيه ضعف وانقطاع‏.‏
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني وفي إسناده عمر بن قيس وهو ضعيف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ذكاة الجنين ذكاة أمه‏"‏ مرفوعان بالابتداء والخبر والمراد الإخبار عن ذكاة الجنين بأنها ذكاة أمه فيحل بها كما تحل الأم بها ولا يحتاج إلى تذكية وإليه ذهب الثوري والشافعي والحسن بن زياد وصاحبا أبي حنيفة وإليه ذهب أيضًا مالك واشترط أن يكون قد أشعر لما في بعض روايات الحديث عن أبي عمر بلفظ‏:‏
‏"‏إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه‏"‏ وقد تفرد به أحمد بن عصام كما تقدم والصحيح أنه موقوف فلا حجة فيه‏.‏ وأيضًا قد روي من طريق ابن أبي ليلى مرفوعًا‏:‏ ‏"‏ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر‏"‏ وفيه ضعف كما تقدمت الإشارة إليه‏.‏ وأيضًا قد روي من طريق ابن عمر نفسه مرفوعًا وموقوفًا كما رواه البيهقي أنه قال‏:‏ ‏"‏أشعر أو لم يشعر‏"‏ وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى تحريم الجنين إذا خرج ميتًا وأنها لا تغني تذكية الأم عن تذكيته محتجين بعموم قوله تعالى ‏{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}‏ وهو من ترجيح العام على الخاص وقد تقرر في الأصول بطلانه ولكنهم اعتذروا عن الحديث بما لا يغني شيئًا فقالوا المراد ذكاة الجنين كذكاة أمه ورد بأنه لو كان المعنى على ذلك لكان منصوبًا بنزع الخافض والرواية بالرفع ويؤيده أنه روي بلفظ ذكاة الجنين في ذكاة أمه أي كائنة أو حاصلة في ذكاة أمه وروي ‏"‏ذكاة الجنين بذكاة أمه‏"‏ والباءللسببية   قال في التلخيص‏:‏ فائدة قال ابن المنذر إنه لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ما روي عن أبي حنيفة اهـ‏.‏ وظاهر الحديث أنه يحل بذكاة الأم الجنين مطلقًا سواء خرج حيًا أو ميتًا فالتفصيل ليس عليه دليل‏.‏

 

ج / 8 ص -146-       باب أن ما أبين من حي فهو ميتة
1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
ما قطع من بهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
2 - وعن أبي واقد الليثي قال‏:‏ ‏"‏قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المدينة وبها ناس يعمدون إلى أليات الغنم وأسنمة الإبل يجبونها فقال‏:‏
ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي‏.‏ ولأبي داود منه الكلام النبوي فقط‏.‏
حديث ابن عمر أخرجه أيضًا البزار والطبراني في الأوسط من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عنه واختلف فيه على زيد بن أسلم وقد روي عن زيد بن أسلم مرسلًا قال الدارقطني‏:‏ المرسل أشبه بالصواب وله طرق أخرى عن ابن عمر أخرجها الطبراني في الأوسط وفيها عاصم بن عمر وهو ضعيف‏.‏
وحديث أبي واقد أخرجه أيضًا الدارمي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار عن زيد بن أسلم عنه وأخرجه أيضًا الحاكم من حديث سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا قال الدارقطني‏:‏ والمرسل أصح وأخرجه البزار من طريق المسور بن الصلت عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري وقال تفرد به ابن الصلت وخالفه سليمان بن بلال فقال عن زيد عن عطاء مرسلا وكذا قال الدارقطني وقد وصله الحاكم كما تقدم‏.‏ وتابع المسور وغيره عليه خارجة بن مصعب أخرجه بن عدي في الكامل وأبو نعيم في الحلية وأخرجه ابن ماجه والطبراني وابن عدي من طريق تميم الداري وإسناده ضعيف كما قال الحافظ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فما قطع منها‏"‏ المجيء بهذه الجملة لزيادة الإيضاح وإلا فقد أغنى عنها ما قبلها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فهو ميتة‏"‏ فيه دليل على أن البائن من الحي حكمه حكم الميتة في تحريم أكله ونجاسته وفي ذلك تفاصيل ومذاهب مستوفاة في كتب الفقه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إلى أليات‏"‏ جمع ألية والجب القطع والأسنمة جمع سنام‏.‏

باب ما جاء في السمك والجراد وحيوان البحر
 قد سبق قوله في البحر‏:‏
‏"‏هو الحل ميتته‏"‏‏.‏
1 - عن ابن أبي أوفى قال‏:‏ ‏"‏غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا ابن ماجه‏.‏
2 - وعن جابر قال‏:‏ ‏"‏غزونا جيش الحبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعًا شديدًا فألقى البحر حوتًا ميتًا لم نر مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظمًا من عظامه فمر الراكب تحته قال فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏
كلوا رزقًا

 

ج / 8 ص -147-       أخرجه اللّه عز وجل لكم أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء فأكله‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
3 - وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني وهو للدارقطني أيضًا من رواية عبد اللّه بن زيد بن أسلم عن أبيه بإسناده قال أحمد وابن المديني‏:‏ عبد الرحمن بن زيد ضعيف وأخوه عبد اللّه ثقة‏.‏
4 - وعن أبي شريح من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن اللّه ذبح ما في البحر لبني آدم‏"‏‏.‏ رواه الدارقطني وذكره البخاري عن أبي شريح موقوفًا‏.‏
وعن أبي بكر الصديق قال‏:‏ الطافي حلال‏.‏
5- وعن عمر في قوله تعالى
‏{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}‏ قال‏:‏ صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طعامه ميتته إلا ما قذرت منها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل من صيد البحر صيد يهودي أو نصراني أو مجوسي‏.‏ وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء‏.‏ ذكرهن البخاري في صحيحه‏.‏
الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله قد سبق هو أول حديث في كتابه هذا وقد مر الكلام عليه‏.‏
وحديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أخرجه أيضًا الشافعي والبيهقي ورواه الدارقطني أيضًا من رواية سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم موقوفًا وقال هو أصح وكذا صحح الموقوف أبو زرعة وأبو حاتم وعبد الرحمن ابن زيد ضعيف كما نقله المصنف عن أحمد وابن المديني وفي رواية عن أحمد أنه قال حديثه هذا منكر‏.‏ وقال البيهقي رفع هذا الحديث أولاد زيد بن أسلم عبد اللّه وعبد الرحمن وأسامة وقد ضعفهم ابن معين وكان أحمد بن حنبل يوثق عبد اللّه وكذا روي عن ابن المديني‏.‏ قال الحافظ‏:‏ قلت رواه الدارقطني وابن عدي من رواية عبد اللّه بن زيد بن أسلم قال ابن عدي‏:‏ الحديث يدور على هؤلاء الثلاثة قال الحافظ‏:‏ وقد تابعهم شخص هو أضعف منهم وهو أبو هاشم كثير بن عبد اللّه الأيلي أخرجه ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام من طريقه عن زيد بن أسلم بلفظ‏:‏
‏"‏يحل من الميتة اثنان ومن الدم اثنان فأما الميتة فالسمك والجراد وأما الدم فالكبد والطحال‏"‏ ورواه المسور بن الصلت أيضًا عن زيد بن أسلم لكنه خالف في إسناده قال عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعًا أخرجه الخطيب وذكره الدارقطني

 

ج / 8 ص -148-       في العلل والمسور كذاب‏.‏ نعم الرواية الموقوفة التي صححها أبو حاتم وغيره هي في حكم المرفوع لأن قول الصحابي أحل لنا كذا وحرم علينا كذا مثل قوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فيحصل الاستدلال بهذه الرواية لأنها في معنى المرفوع كذا قال الحافظ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏سبع غزوات‏"‏ في رواية البخاري أو ستًا‏.‏ ووقع في توضيح ابن مالك سبع غزوات أو ثماني وتكلم عليه فقال الأجود أن يقال أو ثمانيًا بالتنوين لأن لفظ ثماني وإن كان كلفظ جواري في أن ثالث حروفه ألف بعدها حرفان ثانيهما ياء فهو يخالفه في أن جواري جمع وثماني ليس بجمع وقال أطال الكلام على ذلك ثم وجه ترك التنوين بتوجيهات‏.‏ منها أن يكون حذف المضاف إليه وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف‏.‏
قال الحافظ‏:‏ ولم أر لفظ ثماني في شيء من كتب الحديث قال وهذا الشك في عدد الغزوات من شعبة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نأكل معه الجراد‏"‏ يحتمل أن يراد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد ويحتمل أن يريد مع أكله ويدل على الثاني ما وقع في رواية أبي نعيم بلفظ‏:‏ ‏"‏ويأكله معنا‏"‏ وهذا يرد على الصيمري من الشافعية حيث زعم أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم عافه كما عاف الضب‏.‏
وقد أخرج أبو داود عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من حديث سلمان أنه قال‏:‏
‏"‏لا آكله ولا أحرمه‏"‏ والصواب أنه مرسل‏.‏ ولابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن الضب فقال لا آكله ولا أحرمه وسئل عن الجراد فقال مثل ذلك‏"‏ قال الحافظ‏:‏ وهذا ليس ثابتًا لأن ثابتًا قال فيه النسائي ليس بثقة‏.‏ ونقل النووي الإجماع على حل أكل الجراد‏.‏
وفصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس فقال في جراد الأندلس لا يؤكل لأنه ضرر محض وهذا إن ثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من جراد البلاد تعين استثناؤه وذهب الجمهور إلى حل أكل الجراد ولو مات بغير سبب وعند المالكية اشتراط التذكية وهي هنا أن يكون موته بسبب آدمي إما بأن يقطع رأسه أو بعضه أو يسلق أو يلقى في النار حيًا فإن مات حتف أنفه أو في وعاء لم يحل‏.‏
واحتج الجمهور بحديث ابن عمر المذكور في الباب‏.‏ ولفظ الجراد جنس يقع على الذكر والأنثى ويميز واحده بالتاء وسمي جرادًا لأنه يجرد ما ينزل عليه أو لأنه أجرد أي أملس وهو من صيد البر وإن كان أصله بحريًا عند الأكثر وقيل إنه بحري بدليل حديث أبي هريرة أنه قال‏:‏ ‏"‏خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربهن بنعالنا وأسواطنا فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
كلوه فإنه من صيد البحر‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف‏.‏
وأخرج نحوه أبو داود والترمذي من طريق أخرى عن أبي هريرة وفي إسناده أبو المهزم بضم الميم وكسر الزاي وفتح الهاء وهو ضعيف‏.‏ وأخرج ابن ماجه من حديث أنس مرفوعًا‏:‏
‏"‏أن الجراد نثرة حوت من البحر‏"‏ أي عطسته‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏الخبط‏"‏ بالتحريك هو ما يسقط من الورق عند خبط الشجر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فأكله‏"‏ بهذا تتم الدلالة وإلا فمجرد أكل الصحابة منه وهم في حال المجاعة قد يقال إنه للاضطرار ولا سيما وقد ثبت عن أبي عبيدة في رواية عند مسلم

 

ج / 8 ص -149-       فكلوا بلفظ‏:‏ ‏"‏وقد اضطررتم فكلوه‏"‏‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وحاصل قول أبي عبيدة أنه بني أولًا على عموم تحريم الميتة ثم ذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد وهم بهذه الصفة لأنهم في سبيل اللّه وفي طاعة رسول اللّه وقد تبين من آخر الحديث أن حمله كونها حلالا ليس لسبب الاضطرار بل لكونها من صيد البحر لأكله صلى اللّه عليه وآله وسلم منها لأنه لم يكن مضطرًا وقد ذهب الجمهور إلى إباحة ميتة البحر سواء ماتت بنفسها أو ماتت بالاصطياد‏.‏ وعن الحنفية والهادي والقاسم والإمام يحيى والمؤيد باللّه في أحد قوليه أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي أو بإلقاء الماء له أو جزره عنه وأما ما مات أو قتله حيوان غير آدمي فلا يحل واستدلوا بحديث أبي الزبير عن جابر مرفوعًا بلفظ‏:‏
‏"‏ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه‏"‏ أخرجه أبو داود مرفوعًا من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن أبي الزبير عن جابر وقد أسند من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا وقال الترمذي‏:‏ سألت البخاري عنه فقال ليس بمحفوظ ويروى عن جابر خلافه انتهى‏.‏
ويحيى بن سليم صدوق سيئ الحفظ‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ليس بالقوي‏.‏ وقال يعقوب‏:‏ إذا حدث من كتابه فحديثه حسن وإذا حدث حفظًا ففي حديثه ما يعرف وينكر‏.‏
وقال أبو حاتم‏:‏ لم يكن بالحافظ‏.‏ وقال ابن حبان في الثقات‏:‏ كان يخطئ وقد توبع على رفعه أخرجه الدارقطني من رواية أبي أحمد الزبيري عن الثوري مرفوعًا لكن قال خالفه وكيع وغيره فوقفوه على الثوري وهو الصواب وروي عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعًا ولا يصح والصحيح موقوف‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وإذا لم يصح إلا موقوفًا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره يعني المذكور في الباب‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير أوقفوه على جابر‏.‏ قال المنذري‏:‏ وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف وأخرجه ابن ماجه‏.‏ قال الحافظ أيضًا‏:‏ والقياس يقتضي حله لأنه لو مات في البر لأكل بغير تذكية ولو نضب عنه الماء فمات لأكل فكذلك إذا مات وهو في البحر ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه وإنما اختلفوا فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير فعند الحنفية وهو قول الشافعية أنه يحرم والأصح عند الشافعية الحل مطلقًا وهو قول المالكية إلا الخنزير في رواية‏.‏
وحجتهم عموم قوله تعالى ‏
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}‏ وحديث ‏"‏هو الطهور ماؤه والحل ميتته‏"‏ أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما وقد تقدم في أول الكتاب‏.‏
وروي عن الشافعية أيضًا أنه يحل ما يؤكل نظيره في البر وما لا فلا وإليه ذهبت الهادوية واستثنت الشافعية ما يعيش في البر والبحر وهو نوعان النوع الأول ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله كما ورد ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم وله شاهد من حديث ابن عمر عند أبي عاصم وآخر عن عبد اللّه بن عمر وأخرجه الطبراني في الأوسط وزاد فإن نقيقها تسبيح‏.‏ وذكر

 

ج / 8 ص -150-       الأطباء أن الضفدع نوعان بري وبحري ومن المستثنى التمساح والقرش والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم‏.‏ النوع الثاني ما لم يرد فيه مانع فيحل لكن بشرط التذكية كالبط وطير الماء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن اللّه ذبح ما في البحر لبني آدم‏"‏ لفظ البخاري‏:‏ ‏
"‏كل شيء في البحر مذبوح‏"‏ وقد أخرجه الدارقطني وأبو نعيم في الصحابة مرفوعًا‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والموقوف أصح‏.‏ وأخرجه ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق عمرو بن دينار سمعت شيخًا كبيرًا يحلف باللّه ما في البحر دابة إلا قد ذبحها اللّه لبني آدم‏.‏
وأخرج الدارقطني من حديث عبد اللّه بن سرجس رفعه‏:‏ إن اللّه قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم وفي سنده ضعف‏.‏ والطبراني من حديث ابن عمرو رفعه نحوه وسنده ضعيف‏.‏
وأخرج عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي بلفظ‏:‏
‏"‏الحوت ذكي كله‏"‏ قال عطاء أما الطير فأرى أن تذبحه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏الطافي حلال‏"‏ وصله أبو بكر ابن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس والطافي بغير همز من طفا يطفو إذا علا على الماء ولم يرسب‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏صيده ما اصطيد وطعامه ما رمى به‏"‏ وصله البخاري في التاريخ وعبد بن حميد‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏طعامه ميتة إلا ما قدرت‏"‏ وصله الطبراني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كل من صيد البحر صيد يهودي‏"‏ الخ وصله البيهقي قال ابن التين‏:‏ مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء وهو كذلك عند قوم وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير كراهية صيد المجوسي‏.‏ وأخرج أيضًا بسند آخر عن علي عليه السلام مثل ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وركب الحسن على سرج‏"‏ قيل إنه الحسن بن علي وقيل البصري والمراد أن السرج متخذ من جلود الكلاب المعروفة بكلاب الماء التي في البحر كما صرح به في الرواية‏.‏

باب الميتة للمضطر
1 - عن أبي واقد الليثي قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إنا بأرض تصيبنا مخمصة فما يحل لنا من الميتة فقال‏:‏
إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفؤا بها بقلا فشأنكم بها‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
2 - وعن جابر بن سمرة‏:‏
‏"‏أن أهل بيت كانوا بالحرة محتاجين قال‏:‏ فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخص لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أكلها قال‏:‏ فعصمتهم بقية شتائهم أو سنتهم‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
وفي لفظ‏:‏ ‏"‏أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده فقال رجل‏:‏ إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت فقالت امرأته‏:‏ انحرها فأبى فنفقت فقالت‏:‏ اسلخها حتى نقدر شحمها لحمها ونأكله فقال‏:‏ حتى أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأتاه فسأله فقال‏:‏
هل عندك غنى

 

ج / 8 ص -151-       يغنيك قال‏:‏ لا قال‏:‏ فكلوه قال‏:‏ فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال‏:‏ هلا كنت نحرتها قال‏:‏ استحييت منك‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وهو دليل على إمساك الميتة للمضطر‏.‏ حديث أبي واقد قال في مجمع الزوائد‏:‏ أخرجه الطبراني ورجاله ثقات انتهى‏.‏ وحديث جابر بن سمرة سكت عنه أبو داود والمنذري وليس في إسناده مطعن لأن أبا داود رواه من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة وفي الباب عن الفجيع العامري أنه‏:‏ ‏"‏أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ ما يحل لنا الميتة قال‏:‏ ما طعامكم قلنا‏:‏ نغتبق ونصطبح قال أبو نعيم وهو الفضل بن دكين فسره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشية قال ذاك وأبي الجوع فأحل لهم الميتة على هذا الحال‏"‏ قال أبو داود‏:‏ الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار وفي إسناده عقبة بن وهب العامري‏.‏
قال يحيى بن معين‏:‏ صالح وقال علي بن المديني‏:‏ قلت لسفيان بن عيينة عقبة بن وهب فقال ما كان ذاك فيدري ما هذا الأمر ولا كان شأنه الحديث انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا‏"‏ قال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ الاصطباح ههنا أكل الصبوح وهو الغداء والغبوق أكل العشاء انتهى‏.‏
وقد تقدم تفسير الصبوح والغبوق وهما بفتح أولهما الأول شرب اللبن أول النهار والثاني شرب اللبن آخر النهار ثم استعملا في الأكل للغداء والعشاء وعليهما يحمل ما في حديث أبي واقد الليثي المذكور ولعل المراد بهما في حديث الفجيع مجرد شرب اللبن لأنه لو كان المراد بهما أكل الطعام في الوقتين لم يصح ما في آخر الحديث وهو قوله‏:‏ ذاك وأبي الجوع إذ لا جوع حينئذ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولم تحتفؤا بها بقلا‏"‏ بفتح المثناتين من فوق بينهما حاء مهملة وبعدهما فاء مكسورة ثم همزة مضمومة من الحفاء وهو البردي بضم الموحدة نوع من جيد التمر وضعفه بعضهم بأن البردي ليس من البقول‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ هو أصل البردي الأبيض الرطب وقد يؤكل‏.‏
قال أبو عبيد‏:‏ معنى الحديث أنه ليس لكم أن تصطبحوا وتغتبقوا وتجمعوهما مع الميتة قال الأزهري‏:‏ قد أنكر هذا على أبي عبيد وفسر أنه أراد إذا لم تجدوا البينة تصطبحونها أو شربًا تغتبقونه ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة قال وهذا هو الصحيح‏.‏
قال الخطابي‏:‏ القدح من اللبن بالغداة والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس وإن كان لا يغذو البدن ولا يشبع الشبع التام وقد أباح لهم من ذلك الميتة فكان دلالته أن تتناول الميتة إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت كما ذهب إليه مالك والشافعي في أحد قوليه والقول الراجح عند الشافعي هو الاقتصار على سد الرمق كما نقله المزني وصححه الرافعي والنووي وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك والهادوية‏.‏ ويدل عليه قوله‏:‏ ‏"‏هل عندك غنى يغنيك‏"‏ إذا كان يقال لمن وجد سد رمقه مستغنيًا لغة وشرعًا‏.‏ واستدل به بعضهم على القول الأول قال لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة واستثنى ما وقع الاضطرار إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء ولا شك أن سد الرمق

 

ج / 8 ص -152-       يدفع الضرورة وقيل إنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهو الراجح لإطلاق الآية واختلفوا في الحالة التي يصح فيها الوصف بالاضطرار ويباح عندها الأكل‏.‏ فذهب الجمهور إلى أنها الحالة التي يصل به الجوع فيها إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه‏.‏ وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام‏.‏
قال ابن أبي جمرة‏:‏ الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية هي أشد من سمية الميتة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كانوا بالحرة‏"‏ بفتح الحاء والراء المشددة مهملتين أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فنفقت‏"‏ بفتح النون والفاء والقاف أي ماتت يقال نفقت الدابة نفوقًا مثل قعدت المرأة قعودًا إذا ماتت‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حتى نقدر‏"‏ بفتح النون وسكون القاف وضم الدال بعده راء مهملة هكذا في النسخ الصحيحة يقال قدر اللحم يقدره طبخه في القدر‏.‏ وفي سنن أبي داود‏:‏ ‏"‏نقدد اللحم‏"‏ بدال مهملة مكان الراء وعلى ذلك شرح ابن رسلان فإنه قال أي نجعله قديدًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏غنى يغنيك‏"‏ أي تستغني به ويكفيك ويكفي أهلك وولدك عنها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏استحييت منك‏"‏ بياءين مثناتين من تحت‏.‏ ولغة تميم وبكر بن وائل استحيت بفتح الحاء وحذف إحدى الياءين‏.‏ وقد دلت أحاديث الباب على أنه يجوز للمضطر أن يتناول من الميتة ما يكفيه على خلاف السابق في مقدار ما يتناوله ولا أعلم خلافًا في الجواز وهو نص القرآن الكريم وهل يجب على المضطر أن يتناول من الميتة حفظًا لنفسه‏.‏ قال في البحر‏:‏ في ذلك وجهان يجب لوجوب دفع الضرر ولا إيثارًا للورع واختلفوا في المراد بقوله تعالى
‏{غَيْرَ بَاغٍ}‏ فقيل أي غير متلذذ ولا مجاوز لدفع الضرر وقيل أي غير عاص فمنعوا العاصي من أكل الميتة‏.‏ وحكى الحافظ في الفتح عن الجمهور أنهم جعلوا من البغي العصيان قالوا وطريقه أن يتوب ثم يأكل وجوزه بعضهم مطلقًا ولعله يعني بالبعض القائل بالتفسير الأول‏.‏

باب النهي أن يؤكل طعام الإنسان بغير إذنه
1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتثل طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن عمرو بن يثربي قال‏:‏ ‏"‏شهدت خطبة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بمنى وكان فيما خطب به أن قال‏:‏
ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه قال فلما سمعت ذلك قلت يا رسول اللّه أرأيت لو لقيت في موضع غنم ابن عمي فأخذت منها شاة فاجتزرتها هل علي في ذلك شيء قال‏:‏ إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادًا فلا تمسها‏"‏‏.‏

 

ج / 8 ص -153-       3 - وعن عمير مولى آبي اللحم قال‏:‏ ‏"‏أقبلت مع سادتي نريد الهجرة حتى إذا دنونا من المدينة قال فدخلوا وخلفوني في ظهرهم فأصابتني مجاعة شديدة قال فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها قال فدخلت حائطًا فقطعت منه قنوين فأتاني صاحب الحائط وأتى بي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأخبره خبري وعلي ثوبان فقال لي أيهما أفضل فأشرت إلى أحدهما فقال خذه وأعط صاحب الحائط الآخر فخلى سبيلي‏"‏‏.‏ رواهما أحمد‏.‏
حديث عمرو بن اليثربي في إسناده حاتم بن إسماعيل وفيه خلاف عن عبد الملك بن حسين الجاري فإن يكن هو الكوفي النخعي فضعيف بمرة وإلا فليس من رجال الأمهات‏.‏
وحديث عمير مولى آبي اللحم في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن زيد وقد قال العجلي يكتب حديثه وليس بالقوي وكذا قال أبو حاتم ونحوه عن البخاري وقال النسائي وابن خزيمة ليس به بأس وقال في مجمع الزوائد‏:‏ إن حديث عمير هذا أخرجه أحمد بإسنادين في أحدهما ابن لهيعة وفي الآخر أبو بكر بن زيد بن المهاجر ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا وبقية رجاله ثقات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مشربته‏"‏ قال في القاموس‏:‏ والمشربة وتضم الراء أرض لينة دائمة النبات والغرفة والعلية والصفة والمشرعة انتهى‏.‏ والمراد هنا الغرفة التي يجمع فيها الطعام شبه صلى اللّه عليه وآله وسلم ضروع المواشي في حفظها لما فيها من اللبن بالمشربة في حفظها لما فيها من الطعام فكما أن هذه يحفظ فيها الإنسان طعامه فتلك تحفظ له شرابه وهو لبن ماشيته وكما أن الإنسان يكره دخول غيره إلى مشربته لأخذ طعامه كذلك يكره حلب غيره لماشيته فلا يحل الجميع إلا بإذن المالك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فينتثل طعامه‏"‏ النثل الاستخراج أي فيستخرج طعامه قال في القاموس‏:‏ نثل الركية ينثلها استخرج ترابها وهي الشيلة والنثالة والكنانة استخرج نبلها ونثرها ودرعه ألقاها عنه واللحم في القدر وضعه فيها مقطعًا وامرأة نثول تفعل ذلك كثيرًا وعليه درعه صبها انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فاجتزرتها‏"‏ بزاي ثم راء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادًا‏"‏ هذا فيه مبالغة في المنع من أخذ ملك الغير بغير إذنه وإن كان على حالة مشعرة بأن تلك الماشية معدة للذبح حاملة لما تصلح به من آلة الذبح وهي الشفرة وآلة الطبخ وهو الأزناد وهي جمع زند وهو العود الذي يقدح به النار قال في القاموس‏:‏ والجمع زناد وأزند وأزناد‏.‏ ونعجة منصوبة على الحال أي لقيتها حال كونها نعجة حاملة لشفرة وأزناد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مولى آبي اللحم‏"‏ قد تقدم غير مرة أن آبي اللحم اسم فاعل من أبى يأبى فهو آب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في ظهرهم‏"‏ أي في دوابهم التي يسافرون بها ويحملون عليها أمتعتهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأعط صاحب الحائط الآخر‏"‏ فيه دليل على تغريم السارق قيمة ما أخذه مما لا يجب فيه الحد وعلى أن الحاجة لا تبيح الإقدام على مال الغير مع وجود ما يمكن الانتفاع به أو بقيمته ولو كان مما تدعو حاجة الإنسان إليه فإنه هنا أخذ أحد ثوبيه ودفعه إلى صاحب النخل‏.‏

 

ج / 8 ص -154-       باب ما جاء من الرخصة في ذلك لابن السبيل إذا لم يكن حائط ولم يتخذ خبنة
1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذ خبنة‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وابن ماجه‏.‏
2 - وعن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ ‏"‏سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرجل يدخل الحائط فقال
يأكل غير متخذ خبنة‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
3 - وعن الحسن عن سمرة بن جندب‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحلب وليشرب وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثًا فإن أجابه أحد فليستأذنه فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والترمذي وصححه‏.‏
وقال ابن المديني‏:‏ سماع الحسن من سمرة صحيح‏.‏
4 - وعن أبي نضرة عن أبي سعيد‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إذا أتى أحدكم حائطًا فأراد أن يأكل فليناد يا صاحب الحائط ثلاثًا فإن أجابه وإلا فليأكل وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد يا صاحب الإبل أو يا راعي الإبل فإن أجابه وإلا فليشرب‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏
حديث ابن عمر الأول والثاني هما حديث واحد ولكن المصنف أوردهما هكذا لاختلاف اللفظ‏.‏ وقال الترمذي بعد إخراجه في البيوع‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏
وحديث سمرة قال الترمذي بعد إخراجه‏:‏ حديث سمرة حسن صحيح غريب والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق وقال علي بن المديني‏:‏ سماع الحسن من سمرة صحيح وقد تكلم بعض أهل الحديث في رواية الحسن عن سمرة وقالوا إنما يحدث عن صحيفة سمرة انتهى‏.‏
وحديث أبي سعيد أخرجه أيضًا أبو يعلى وابن حبان والحاكم والمقدسي‏.‏
وفي الباب عن رافع عند الترمذي وأبي داود قال‏:‏ ‏"‏كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏
يا رافع لم ترمي نخلهم قال‏:‏ قلت يا رسول اللّه الجوع قال‏:‏ لا ترم وكل ما وقع أشبعك وأرواك‏"‏ وعند أبي داود والنسائي من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع وفيها‏:‏ ‏"‏فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لصاحب الحائط‏:‏ ما علمت إذ كان جاهلا ولا أطعمت إذ كان جائعًا‏"‏‏.‏
قوله في ترجمة الباب‏:‏ ‏"‏إذا لم يكن حائط‏"‏ قال في النهاية‏:‏ الحائط البستان من

 

ج / 8 ص -155-       النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار وظاهر الأحاديث المذكورة في الباب مخالف لما قيد به المصنف الترجمة فلعله أراد بقوله إذا لم يكن حائط أي جدار يمنع الدخول إليه بحرزه طرقه لما في ذلك من الإشعار بعدم الرضا وكأنه حمل الأحاديث على ما ليس كذلك ولا ملجئ إلى هذا بل الظاهر الإطلاق وعدم التقييد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا يتخذ خبنة‏"‏ بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها نون وهي ما تحمله في حضنك كما في القاموس‏.‏ وهذا الإطلاق في حديث ابن عمر مقيد بما في حديث أبي سعيد المذكور من الأمر بالنداء ثلاثًا وحديث سمرة في الماشية ليس فيه إلا مجرد الاستئذان بدون تقييد بكونه ثلاثًا وكذلك حديث أبي سعيد فإنه لم يذكر في الماشية إلا مجرد النداء ولم يقيده بكونه ثلاثًا‏.‏
ـ وظاهر أحاديث ـ الباب جواز الأكل من حائط الغير والشرب من ماشيته بعد النداء المذكور من غير فرق بين أن يكون مضطرًا إلى الأكل أم لا لأنه إنما قال إذا دخل وإذا أراد أن يأكل ولم يقيد الأكل بحد ولا خصه بوقت فالظاهر جواز تناول الكفاية والممنوع إنما هو الخروج بشيء من ذلك من غير فرق بين القليل والكثير‏.‏
قال العلامة المقبلي في الأبحاث بعد ذكر حديث أبي سعيد ما لفظه‏:‏ وفي معناه عدة أحاديث تشهد لصحته ووجه موافقته للقانون الشرعي ظاهر فيمن له حق الضيافة كابن السبيل وفي ذي الحاجة مطلقًا وسياقات الحديث تشعر بالاختصاص بمن هو كذلك فهو المتيقن وأما الغني الذي ليس له حق الضيافة فمشكوك فيه فيبقى على المنع الأصلي فإن صحت إرادته بدليل خاص كقضية فيها ذلك كان مقبولا وتكون مناسبته ما في اللبن والفاكهة من الندرة إذ لا يوجد في كل حال مع مسارعة النفس إليها والعرف شاهد بذلك حتى أنه يذم من ضن بهما ويبخل وهو خاصة الوجوب فهو من حق المال غير الصدقة وهذا يرجح بقاء الحديث على عمومه إذ لا معنى للاقتصار مع ظهور العموم وفي المنتهى من فقه الحنابلة ومن مر بثمرة بستان لا حائط عليه ولا ناظر فله الأكل ولو بلا حاجة مجانًا لا صعود شجره أو رميه بشيء ولا يحمل ولا يأكل من مجني مجموع إلا لضرورة وكذا زرع قائم وشرب لبن ماشية وألحق جماعة بذلك باقلا وحمصا أخضر من المنفتح وهو قوي انتهى‏.‏
ـ وأحاديث الباب ـ مخصصة للحديث المذكور في الباب الأول ومخصصة أيضًا لحديث ليس في المال حق سوى الزكاة وهو من حديث فاطمة بنت قيس مع أنه قد ثبت في الترمذي من حديثها بلفظ‏:‏
‏"‏في المال حق سوى الزكاة‏"‏ بدون لفظ ليس‏.‏ ومن جملة المخصصات لحديث‏:‏ ‏"‏ليس في المال حق سوى الزكاة‏"‏ ما ورد في الضيافة وفي سد رمق المسلم ومنها ‏{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}‏

 

ج / 8 ص -156-       باب ما جاء في الضيافة
1 - عن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إنك تبعثني فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فقال‏:‏
إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم‏"‏‏.‏
2 - وعن أبي شريح الخزاعي‏:‏ ‏"‏عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا‏:‏ وما جائزته يا رسول اللّه قال‏:‏ يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى بحرجه‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏
3 - وعن المقدام أبي كريمة‏:‏ ‏"‏أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏من نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه‏"‏‏.‏ رواهما أحمد وأبو داود‏.‏
4 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
حديث المقدام سكت عنه أبو داود هو والمنذري‏.‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ وإسناده على شرط الصحيح وله أيضًا من حديثه‏:‏
‏"‏أيما رجل أضاف قومًا فأصبح الضيف محرومًا فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقرى ليلة من زرعه وماله‏"‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده صحيح‏.‏
وعن أبي هريرة عند أبي داود والحاكم بسند صحيح‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
الضيافة ثلاثة أيام فما سوى ذلك فهو صدقة‏"‏ وعن شقيق بن سلمة عند الطبراني في الأوسط قال‏:‏ ‏"‏دخلنا على سلمان فدعا بماء كان في البيت وقال‏:‏ لولا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن التكلف للضيف لتكلفت لكم‏.‏
وحديث أبي هريرة المذكور في الباب قال في مجمع الزوائد‏:‏ رجال أحمد ثقات ـ وفي الباب ـ عن عائشة أشار إليه الترمذي‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لا يقرونا‏"‏ بفتح أوله من القرى أي لا يضيفونا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بما ينبغي للضيف‏"‏ أي من الإكرام بما لا بد منه من طعام وشراب وما يلتحق بهما‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فخذوا منهم حق الضيف‏"‏ الخ قال الخطابي‏:‏ إنما كان يلزم ذلك في زمنه صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث لم يكن بيت مال وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال لا حق لهم في أموال المسلمين‏.‏
وقال ابن بطال‏:‏ قال أكثرهم إنه كان هذا في أول الإسلام حيث كانت المواساة واجبة وهو منسوخ بقوله جائزته كما في حديث الباب قالوا والجائزة تفضل لا واجب‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ قال بعضهم المراد أن لكم أن

 

ج / 8 ص -157-       تأخذوا من أعراض من لم يضيفكم بألسنتكم وتذكروا للناس لؤمهم والعيب عليهم وهذا من المواضع التي يباح فيها الغيبة كما أن القادر المماطل بالدين مباح عرضه وعقوبته وحمله بعضهم على أن هذا كان في أول الإسلام وكانت المواساة واجبة فلما اتسع الإسلام نسخ ذلك‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا تأويل ضعيف أو باطل لأن هذا الذي ادعاه قائله لا يعرف انتهى‏.‏ وقد تقدم ذكر قائله قريبًا فتعليل الضعف أو البطلان بعدم معرفة القائل ضعيف أو باطل بل الذي ينبغي عليه التعويل في ضعف هذا التأويل هو أن تخصيص ما شرعه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمته بزمن من الأزمان أو حال من الأحوال لا يقبل إلا بدليل ولم يقم ههنا دليل على تخصيص هذا الحكم بزمن النبوة وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية لأن مؤنة الضيافة بعد شرعتها قد صارت لازمة للمضيف لكل نازل عليه فللنازل مطالبة بهذا الحق الثابت شرعًا كالمطالبة بسائر الحقوق فإذا أساء إليه واعتدى عليه بإهمال حقه كان له مكافأته بما أباحه له الشارع في هذا الحديث وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من كان يؤمن باللّه‏"‏ الخ قيل المراد من كان يؤمن الإيمان الكامل المنجي من عذاب اللّه الموصل إلى رضوانه ويؤمن بيوم القيامة الآخر استعد له واجتهد في فعل ما يدفع به أهواله ومكارهه فيأتمر بما أمر به وينتهي عما نهى عنه‏.‏ ومن جملة ما أمر به إكرام الضيف وهو القادم من السفر النازل عند المقيم وهو يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى‏.‏
قال ابن رسلان‏:‏ والضيافة من مكارم الأخلاق ومحاسن الدين وليست واجبة عند عامة العلماء خلافًا لليث بن سعد فإنه أوجبها ليلة واحدة وحجة الجمهور لفظ جائزته المذكورة فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب وقلما يستعمل هذا اللفظ في الواجب قال العلماء‏:‏ معنى الحديث الاهتمام بالضيف في اليوم والليلة وإتحافه بما يمكن من بر وألطاف انتهى‏.‏
والحق وجوب الضيافة لأمور‏:‏
الأول إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك وهذا لا يكون في غير واجب‏.‏
والثاني التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان باللّه واليوم الآخر ويفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالأولى‏.‏
والثالث قوله فما كان وراء ذلك فهو صدقة فإنه صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة بل واجب شرعًا‏.‏ قال الخطابي‏:‏ يريد أن يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف ويقدم له في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته فما جاوز الثلاث فهو معروف وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك‏.‏
وقال ابن الأثير‏:‏ الجائزة العطية أي يقري ضيفه ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة‏.‏
والرابع قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏ليلة الضيف حق واجب‏"‏ فهذا تصريح بالوجوب لم يأت ما يدل على تأويله‏.‏
والخامس قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث المقدام الذي ذكرنا‏:‏
‏"‏فإن نصره حق على كل مسلم‏"‏ فإن ظاهر هذا وجوب النصرة وذلك فرع وجوب الضيافة‏.‏ إذا تقرر هذا تقرر ضعف ما ذهب إليه الجمهور وكانت أحاديث الضيافة مخصصة لأحاديث حرمة الأموال إلا بطيبة الأنفس

 

ج / 8 ص -158-       ولحديث‏:‏ ‏"‏ليس في المال حق سوى الزكاة‏"‏‏.‏
ومن التعسفات حمل أحاديث الضيافة على سد الرمق فإن هذا مما لم يقم عليه دليل ولا دعت إليه حاجة وكذلك تخصيص الوجوب بأهل الوبر دون أهل المدن استدلالًا بما يروى أن الضيافة على أهل الوبر‏.‏ قال النووي وغيره من الحفاظ‏:‏ إنه حديث موضوع لا أصل له‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أن يثوي‏"‏ بفتح أوله وسكون المثلثة أي يقيم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حتى يحرجه‏"‏ بضم أوله وسكون الحاء المهملة أي يوقعه في الحرج وهو الإثم لأنه قد يكدره فيقول هذا الضيف ثقيل أو ثقل علينا بطول إقامته أو يتعرض له بما يؤذيه أو يظن به ما لا يجوز‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا كله محمول على ما إذا أقام بعد الثلاث بغير استدعائه وأما إذا استدعاه وطلب منه إقامته أو علم أو ظن منه محبة الزيادة على الثلاث أو عدم كراهته فلا بأس بالزيادة لأن النهي إنما جاء لأجل كونه يؤثمه فلو شك في حال المضيف هل تكره الزيادة ويلحقه بها حرج أم لا لم يحل له الزيادة على الثلاث لظاهر الحديث‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ليلة الضيف‏"‏ أي ويومه بدليل الحديث الذي قبله‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بفنائه‏"‏ بكسر الفاء وتخفيف النون ممدودًا وهو المتسع أمام الدار وقيل ما امتد من جوانب الدار جمعه أفنية‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فله أن يعقبهم‏"‏ الخ قال الإمام أحمد في تفسير ذلك‏:‏ أي للضيف أن يأخذ من أرضهم وزرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنهم وعنه رواية أخرى‏:‏ أن الضيافة على أهل القرى دون الأمصار‏.‏ وإليه ذهبت الهادوية وقد تقدم تحقيق ما هو حق‏.‏

باب الأدهان تصيبها النجاسة
1 - عن ميمونة‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال‏:‏
ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري والنسائي‏.‏
وفي رواية‏:‏ ‏"‏سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال‏:‏
إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏"‏ رواه أبو داود والنسائي‏.‏
2 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال‏:‏
إن كان جامدًا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ حديث أبي هريرة قال الترمذي هو حديث غير محفوظ سمعت محمد بن إسماعيل يعني البخاري يقول هذا خطأ قال‏:‏ والصحيح حديث الزهري عن عبيد اللّه عن ابن عباس عن ميمونة يعني الحديث الذي قبله‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وجزم الذهلي بأن الطريقين صحيحتان وقد قال أبو داود في روايته عن الحسن بن علي قال الحسن وربما حدث به معمر عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس عن ميمونة وأخرجه أبو داود أيضًا عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق وكذا أخرجه النسائي عن خشيش بن أصرم عن عبد الرزاق‏.‏ وذكر الإسماعيلي أن الليث رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن فأرة وذكر الحديث‏.‏ وأما الزيادة في حديث ميمونة

 

ج / 8 ص -159-       التي زادها أبو داود والنسائي فصححها ابن حبان وغيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فماتت‏"‏ استدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد أن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغير وهو اختيار البخاري ووجه الاستدلال ما قاله ابن العربي متمسكًا بقوله وما حولها على أنه كان جامدًا قال لأنه لو كان مائعًا لم يكن له حول لأنه لو نقل من جانب خلفه غيره في الحال فيصير مما حوله فيحتاج إلى إلقائه كله فما بقي إلا اعتبار ضابط كلي في المائع وهو التغير ولكنه يدفع هذا ما في الرواية الأخيرة من حديث ميمونة وما في حديث أبي هريرة المذكور من التفرقة بين الجامد والمائع وتبيين حكم كل واحد منهما وضابط المائع عند الجمهور أن يتراد بسرعة إذا أخذ منه شيء واستدل بقوله فماتت على أن تأثيرها إنما يكون بموتها فيه وإذا وقعت فيه وخرجت بلا موت لم يضر وما عدا الفأرة ملحق بها وكذلك ما يشابه السمن ملحق فلا عمل بمفهومهما‏.‏ وجمد ابن حزم على عادته قال‏:‏ فلو وقع غير جنس الفأرة من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير ولم يرد في طريق صحيحة تقدير ما يلقى‏.‏ وقد أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء بن يسار أنه يكون قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله‏.‏
وأما ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعًا من التقييد في المأخوذ منه بثلاث غرفات بالكفين فسنده ضعيف ولو ثبت لكان ظاهرًا في المائع‏.‏ واستدل بقوله في المائع فلا تقربوه على أنه لا يجوز الانتفاع به في شيء فيحتاج من أجاز الانتفاع به في غير الأكل كالشافعية أو أجاز بيعه كالحنفية إلى الجواب عن الحديث فإنهم احتجوا به في التفرقة بين الجامد والمائع‏.‏
وأما الاحتجاج بما عند البيهقي من حديث ابن عمر بلفظ‏:‏
‏"‏إن كان السمن مائعًا انتفعوا به ولا تأكلوه‏"‏ وعنده من رواية ابن جريج مثله فالصحيح أنه موقوف وعند البيهقي أيضًا عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت فقال استصبحوا به وادهنوا به أدمكم وهذا السند على شرط الشيخين لأنه من طريق الثوري عن أيوب عن نافع عنه إلا أنه موقوف‏.‏ واستدل بالحديث على أن الفأرة طاهرة العين وأغرب ابن العربي فحكى عن الشافعي وأبي حنيفة أنها نجسة‏.

باب آداب الأكل
1 - عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل بسم اللّه فإن نسي في أوله فليقل بسم اللّه على أوله وآخره‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا النسائي وهو من حديث عبد اللّه بن عبيد عن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم عن عائشة ولم يقل الترمذي عن امرأة منهم إنما قال عن أم كلثوم ووقع في بعض رواياته أم كلثوم الليثية وهو الأشبه لأن عبيد بن عمير ليثي‏.‏ وقد أخرج أبو بكر ابن أبي شيبة هذا الحديث في مسنده عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير عن عائشة ولم يذكر فيه أم كلثوم‏.‏ وفي الباب عن جابر عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه‏:‏ ‏"‏سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
إذا دخل الرجل

 

ج / 8 ص -160-       بيته فذكر اللّه عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر اللّه عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اللّه عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء‏"‏ وعن حذيفة بن اليمان عند مسلم وأبي داود والنسائي قال‏:‏ ‏"‏كنا إذا حضرنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طعامًا لم يضع أحدنا يده في الطعام حتى يبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وإنا حضرنا معه طعامًا فجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيده ثم جاء جارية كأنما تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيدها وقال‏:‏ إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه جاء بهذا الأعرابي ليستحل بيده فأخذت بيده وجاء بهذه الجارية ليستحل بيدها فأخذت بيدها والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع أيديهما‏"‏ وأخرج الترمذي عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل طعامًا في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكل بلقمتين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أما إنه لو سمى لكفى لكم‏"‏ وقال حديث حسن‏.‏
وأخرج ابن السني عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من نسي أن يذكر اللّه في أول طعامه فليقل حين يذكر بسم اللّه أوله وآخره فإنه يستقبل طعامًا جديدًا ويمنع الخبيث مما كان يصيب منه"‏.‏
وفي الباب أيضًا عن عمر بن أبي سلمة وسيأتي‏.‏
وفي هذه الأحاديث دليل على مشروعية التسمية للأكل وإن نسي بقول في أثنائه بسم اللّه على أوله وآخره وكذا التارك للتسمية عمدًا يشرع له التدارك في أثنائه‏.‏
قال في الهدي‏:‏ والصحيح وجوب التسمية عند الأكل وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة لا معارض لها ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها وتاركها يشركه الشيطان في طعامه وشرابه اهـ‏.‏ والذي عليه الجمهور من السلف والخلف من المحدثين وغيرهم أن أكل الشيطان محمول على ظاهره وأن للشيطان يدين ورجلين وفيهم ذكر وأنثى وأنه يأكل حقيقة بيده إذا لم يدفع وقيل إن أكلهم على المجاز والاستعارة وقيل إن أكلهم شم واسترواح ولا ملجئ إلى شيء من ذلك‏.‏
وقد ثبت في الصحيح كما سيأتي أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وروي عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ الشياطين أجناس فخالص الجن لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون وهم ريح ومنهم جنس يفعلون ذلك كله ويتوالدون وهم السعالى والغيلان ونحوهم‏.‏
2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
3 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏

 

ج / 8 ص -161-       4 - وعن عمر ابن أبي سلمة قال‏:‏ ‏"‏كنت غلامًا في حجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي‏:‏ يا غلام سم اللّه وكل بيمينك وكل مما يليك‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
5 - وعن أبي جحيفة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أما أنا فلا آكل متكئًا‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لا يأكل أحدكم بشماله‏"‏ فيه النهي عن الأكل والشرب بالشمال والنهي حقيقة في التحريم كما تقرر في الأصول ولا يكون لمجرد الكراهة فقط إلا مجازًا مع قيام صارف‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا إذا لم يكن عذر فإن كان عذر يمنع الأكل أو الشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن الشيطان يأكل‏"‏ الخ إشارة إلى أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشيطان وقد تقدم الخلاف هل ذلك على الحقيقة أم على المجاز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏البركة تنزل في وسط الطعام‏"‏ لفظ أبي داود‏:‏
‏"‏إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يأكل من أعلى الصفحة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها‏"‏ وفيه مشروعية الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه قال الرافعي وغيره‏:‏ يكره أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة وأن يأكل مما يلي أكيله ولا بأس بذلك في الفواكه‏.‏ وتعقبه الأسنوي بأن الشافعي نص على التحريم فإن لفظه في الأم فإن أكل مما يليه أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالمًا واستدل بالنهي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأشار إلى هذا الحديث قال الغزالي‏:‏ وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذا قل الخبز فليكسر الخبز والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏تطيش‏"‏ بكسر الطاء وبعدها مثناة تحتية ساكنة أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصفحة ولا تقتصر على موضع واحد‏.‏
قال النووي‏:‏ والصفحة دون القصعة وهي ما تسع ما يشبع خمسة والقصعة ما تشبع عشرة كذا قال الكسائي فيما حكاه الجوهري وغيره عنه‏.‏ وقيل الصفحة كالقصعة وجمعها صحاف‏.‏
قال النووي أيضًا‏:‏ وفي هذا الحديث ثلاث سنن من سنن الأكل وهي‏:‏ التسمية والأكل باليمين وقد سبق بيانهما والثالثة الأكل مما يليه لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة قد يتقذر صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها وهذا في الثريد والأمراق وشبههما فإن كان تمرًا وأجناسًا فقد نفلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه والذي ينبغي تعميم النهي حملًا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص واللّه أعلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أما أنا فلا آكل متكئًا‏"‏ سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد اللّه بن بسر عند ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن قال‏:‏ ‏"‏أهديت للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شاة فجثى على ركبتيه يأكل فقال له أعرابي‏:‏ ما هذه الجلسة

 

ج / 8 ص -162-       فقال‏:‏ إن اللّه جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك تواضعًا للّه‏.‏ ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال‏:‏ ‏"‏أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ملك لم يأته قبلها فقال‏:‏ إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًا أو ملكًا نبيًا قال‏:‏ فنظر إلى جبريل كالمستشير له فأومأ إليه أن تواضع فقال‏:‏ بل عبدًا نبيًا قال‏:‏ فما أكل متكئًا‏"‏ اهـ‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهذا مرسل أو معضل وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد اللّه بن عباس قال كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه‏.‏ وأخرج أبو داود من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال‏:‏ ما رؤي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل متكئًا قط‏.‏
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال‏:‏ ما أكل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم متكئًا إلا مرة ثم نزع فقال‏:‏ ‏
"‏اللّهم إني عبدك ورسولك‏"‏ وهذا مرسل ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد اللّه بن عمرو‏.‏ وقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار أن جبريل رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل متكئًا فنهاه‏.‏ ومن حديث أنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما نهاه جبريل عن الأكل متكئًا لم يأكل متكئًا بعد ذلك‏.‏ واختلف في صفة الاتكاء فقيل أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان وقيل أن يميل على أحد شقيه وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض‏.‏
قال الخطابي‏:‏ يحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء عند الأكل لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إني أذم فعل من يستكثر من الطعام فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزًا‏.‏ وفي حديث أنس‏:‏
‏"‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أكل تمرًا وهو مقع‏"‏ والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن‏.‏ وأخرج ابن عدي بسند ضعيف‏:‏ ‏"‏زجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل‏"‏ قال مالك‏:‏ هو نوع من الاتكاء‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة ما يعد الآكل فيه متكئًا ولا يختص بصفة بعينها‏.‏ وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك‏.‏ وحكى ابن الأثير في النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئًا‏.‏
واختلف السلف في حكم الأكل متكئًا فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية وتعقبه البيهقي فقال‏:‏ يكره لغيره أيضًا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم قال‏:‏ فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه الآكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة وفي الحمل نظر‏.‏
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقًا وإذا ثبت كونه مكروهًا أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه وظهور قدميه أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعًا أكل البقل واختلف في علة الكراهة وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال‏:‏ كانوا يكرهون أن يأكلوا تكأة مخافة أن تعظم بطونهم وإلى

 

ج / 8 ص -163-       ذلك يشير بقية ما ورد من الأخبار‏.‏ ووجه الكراهة فيه ظاهر وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب‏.‏
6 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا طعم طعامًا لعق أصابعه الثلاث وقال‏:‏
إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان وأمرنا أن نسلت القصعة وقال‏:‏ إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
7 - وعن المغيرة بن شعبة قال‏:‏
‏"‏ضفت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوى قال فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها منه‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
8 - وعن جابر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أتى بعض حجر نسائه فدخل ثم أذن لي فدخلت فقال‏:‏
هل من غداء فقالوا‏:‏ نعم فأتي بثلاثة أقرصة فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرصًا فوضعه بين يديه وأخذ قرصًا آخر فوضعه بين يدي ثم أخذ الثالث فكسره باثنتين فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي ثم قال‏:‏ هل من أدم قالوا‏:‏ لا إلا شيء من خل قال‏:‏ هاتوه فنعم الأدم هو‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
حديث المغيرة بن شعبة أخرجه أيضًا أبو داود والترمذي وابن ماجه ولفظ أبي داود في باب ترك الوضوء مما مست النار عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏"‏ضفت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم ليلة فأمر بجنب فشوى فأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال‏:‏ فجاء بلال فآذنه بالصلاة قال‏:‏ فألقى السكين وقال‏:‏
ما له تربت يداه وقام يصلي‏"‏ زاد الأنباري‏:‏ ‏"‏وكان بشاربي وفاء فقصه على سواك أو قال أقصه لك على سواك‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لعق أصابعه‏"‏ فيه استحباب لعق الأصابع محافظة على بركة الطعام وتنظيفًا وسيأتي تمام الكلام على ذلك‏.‏
وفيه استحباب الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقًا أو غيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الأعذار‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فليمط عنها الأذى‏"‏ فيه مشروعية أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها هذا إذا لم تقع على موضع نجس ولا بد من غسلها إن أمكن فإن تعذر قال النووي‏:‏ أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن نسلت القصعة‏"‏ قال الخطابي‏:‏ سلت القصعة تتبع ما يبقى فيها من الطعام وفيه أن لعق القصعة مشروع والعلة في ذلك ما ذكرناه عقبه أنهم لا يدرون في أي طعامهم البركة أي أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدرى هل البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في

 

ج / 8 ص -164-       أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به‏.‏
قال النووي‏:‏ والمراد هنا واللّه أعلم ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة اللّه وغير ذلك وسيأتي حديث استغفار القصعة قريبًا وهو صالح للتعليل به‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ضفت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏"‏ بكسر الضاد المعجمة من ضاف يضيف مثل باع يبيع                وقال في النهاية‏:‏ ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته‏.‏
وقال في الضياء‏:‏ إذا تعرض به ليضيفه‏.‏ قال في النهاية‏:‏ وأضفته إذا أنزلته وتضيفته إذا نزلت به‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها‏"‏ فيه دليل على جواز قطع اللحم بالسكين‏.‏
وقد أخرج أبو داود عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الأعاجم وانهشوه فهو أهنأ وأمرأ‏"‏ ويؤيد حديث الباب ما رواه البخاري وغيره من حديث عمرو بن أمية الضمري أنه ‏"‏رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يحتز من كتف شاة فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ‏"‏ على أن حديث عائشة المذكور في إسناده أبو معشر السندي المدني واسمه نجيح كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدًا ويضحك إذا ذكره غيره‏.‏ قال المنذري‏:‏ وتكلم فيه غير واحد من الأئمة وقال النسائي‏:‏ أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا‏.‏ ومنها عن أبي هريرة ما بين المشرق والمغرب قبلة وأما أحمد بن حنبل فقال صدوق وعلى كل حال فحديث عائشة لا يعادل ما عارضه من حديث عمرو بن أمية وحديث الباب ويروي عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث عائشة فقال ليس بمعروف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأخذ قرصًا‏"‏ الخ فيه استحباب التسوية بين الحاضرين على الطعام وإن كان بعضهم أفضل من بعض‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏هل من أدم‏"‏ قال أهل اللغة‏:‏ الإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الإدام أدم بضم الهمزة كأهاب وأهب وكتاب وكتب والإدام بإسكان الدال مفرد كالإدام كذا قال النووي‏.‏ قال الخطابي والقاضي عياض‏:‏ معنى الحديث مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن‏.‏
قال النووي‏:‏ والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه‏.‏
وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر‏.‏
قال‏:‏ وأما قول جابر فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو كقول أنس ما زلت أحب الدباء وهذا يؤيد ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه وقد كررنا مرات أن تأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده اهـ‏.‏ وقيل وهو الصواب أنه ليس فيه تفضيل على اللحم واللبن والعسل والمرق وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه‏.‏
9 - وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو‏:‏ ‏"‏أن رجلا من قومه يقال له أبو شعيب صنع للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طعامًا فأرسل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ائتني أنت

 

ج / 8 ص -165-       وخمسة معك قال‏:‏ فبعث إليه أن ائذن لي في السادس‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
10 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إ
ذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها‏"‏‏.‏ متفق عليه ورواه أبو داود وقال فيه بالمنديل‏.‏
11 - وعن جابر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال‏:‏
إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
12 - وعن نبيشة الخير‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي‏.‏
13 - وعن جابر‏:‏ ‏"‏أنه سئل عن الوضوء مما مسته النار فقال لا لقد كنا في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلا فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا ثم نصلي ولا نتوضأ‏"‏‏.‏ رواه البخاري وابن ماجه‏.‏
14 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏
حديث نبيشة الخير رواه الترمذي من طريق نصر بن علي الجهضمي قال‏:‏ أخبرنا أبو اليمان المعلى بن راشد قال حدثتني جدتي أم عاصم وكانت أم ولد لسنان بن سلمة قالت‏:‏ دخل علينا نبيشة الخير ونحن نأكل في قصعة فحدثنا‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة‏"‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الأئمة عن المعلى بن راشد هدا الحديث اهـ‏.‏
وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود ورجال إسناده رجال الصحيح وأخرجه الترمذي معلقًا وأخرجه الضياء من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة وقال غريب‏.‏ وأخرجه أيضًا من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال حسن غريب لا نعرفه من حديث الأعمش إلا من هذا الوجه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فبعث إليه أن ائذن لي في السادس‏"‏ فيه أن المدعو إذا تبعه رجل من غير استدعاء ينبغي له أن لا يأذن له ولا ينهاه وإذا بلغ باب دار صاحب الطعام أعلمه به ليأذن له أو يمنعه وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له إن لم يترتب على حضوره مفسدة بأن يؤذي الحاضرين أو يشيع عنهم ما

 

ج / 8 ص -166-       يكرهونه أو يكون جلوسه معهم مزريًا بهم لشهرته بالفسوق ونحو ذلك فإن خيف من حضوره شيء من هذا لم يأذن له وينبغي أن يتلطف في رده ولو بإعطائه شيئًا من الطعام إن كان يليق به ليكون ردًا جميلا كذا قال النووي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلا يمسح يده‏"‏ يحتمل أن يكون أطلق اليد على الأصابع الثلاث لما تقدم في حديث أنس بلفظ‏:‏ ‏
"‏لعق أصابعه الثلاث‏"‏ وفي مسلم من حديث كعب بن مالك بلفظ‏:‏ ‏"‏يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها‏"‏ ويحتمل أن يطلق على جميع أصابع اليد لأن الغالب اتصال شيء من آثار الطعام بجميعها ويحتمل أن يكون المراد باليد الكف كلها‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهو الأولى فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها وقال ابن العربي في شرح الترمذي‏:‏ يدل على الأكل بالكف كلها أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يتعرق العظم وينهش اللحم ولا يمكن ذلك عادة إلا بالكف كلها قيل وفيه نظر لأنه يمكن بالثلاث سلمنا لكن هو ممسك بكفه كلها لا آكل بها سلمنا لكن محل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال ويؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الأكل بثلاث أصابع وإن كان الأكل بأكثر منها جائزًا‏.‏
وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عبيد اللّه بن يزيد أنه رأى ابن عباس إذا أكل لعق أصابعه الثلاث‏.‏
قال عياض‏:‏ والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب وتكبير اللقم ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث فإن اضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلفيفه بالثلاث فيدعمه بالرابعة أو الخامسة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حتى يلعقها أو يلعقها‏"‏ الأول بفتح حرف المضارعة والثاني بضمها أي يلعقها زوجته أو جاريته أو خادمه أو ولده وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد البركة بلعقها وكذا لو ألعقها شاة ونحوها‏.‏
وقال البيهقي‏:‏ إن قوله أو يلعقها شك من الراوي ثم قال فإن كانا جميعًا محفوظين فإنما أراد أن يلعقها صغيرًا أو من يعلم أنه لا يتقذر بها ويحتمل أن يكون أراد أن يلعق إصبعه فمه فيكون بمعنى يلعقها فتكون أو للشك‏.‏
قال ابن دقيق العيد‏:‏ جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات أنه لا يدري في أي طعامه البركة وقد يعلل أن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق لكن إذا صح الحديث بالتعليل لم يعدل عنه وقد عرفت أنه في صحيح مسلم كما في الباب‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وقال فيه بالمنديل‏"‏ هو أيضًا في صحيح مسلم بلفظ‏:‏
‏"‏فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه‏"‏ وفي حديث جابر أنهم لم يكن لهم مناديل ومفهومه يدل على أنها لو كانت لهم مناديل لمسحوا بها‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏استغفرت له القصعة‏"‏ فيه أن ذلك من القرب التي ينبغي المحافظة عليها لأن استغفار القصعة دليل على كون الفعل مما يثاب عليه الفاعل‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إلا أكفنا وسواعدنا‏"‏ فيه الإخبار بما كان عليه الصحابة رضي اللّه عنهم من التقلل من الدنيا والزهد فيها والانتفاع بالأكف والسواعد كما ينتفع غيرهم بالمناديل وقد تقدم الكلام على الوضوء مما مست النار‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏غمر‏"‏ بفتح الغين المعجمة والميم معًا هو ريح دسم اللحم وزهومته كالوضر من السمن ذكر معنى ذلك في النهاية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولم يغسله‏"‏ إطلاقه يقتضي حصول السنة بمجرد الغسل بالماء قال ابن رسلان‏:‏ والأولى غسل اليد منه بالأشنان والصابون وما في

 

ج / 8 ص -167-       معناهما‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وأصابه شيء‏"‏ في رواية للطبراني من بات وفي يده ريح غمر فأصابه وضح أي برص‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلا يلومن إلا نفسه‏"‏ أي لأنه الذي فرط بترك الغسل فأتى الشيطان فلحس يده فوقع بها البرص‏.‏ وأخرج الترمذي عن أنس قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن الشيطان حساس لحاس فاحذروه على أنفسكم من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه‏"‏ وقد جاء في الحديث تخصيص غسل اليد بأكل اللحم فأخرج أبو يعلى بإسناد ضعيف من حديث ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من أكل من هذه اللحوم شيئًا فليغسل يده من ريح وضره‏"‏‏.‏
15 - وعن أبي أمامة‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا رفع مائدته قال الحمد للّه كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏كان إذا فرغ من طعامه قال الحمد للّه الذي كفانا وأروانا غير مكفي ولا مكفور‏"‏ رواه البخاري‏.‏
16 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏كان إذا أكل أو شرب قال
الحمد للّه الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه‏.‏
17 - وعن معاذ بن أنس قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من أكل طعامًا فقال الحمد للّه الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏
18 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من أطعمه اللّه طعامًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه ومن سقاه اللّه لبنًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وزدنا منه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ليس شيء يجزي مكان الشراب والطعام غير اللبن‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏
حديث أبي سعيد أخرجه أيضًا النسائي وذكره البخاري في تاريخه الكبير وساق اختلاف الرواة فيه وقد سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده إسماعيل ابن رباح السلمي وهو مجهول‏.‏
وحديث معاذ بن أنس أخرجه الترمذي من طريق محمد بن إسماعيل قال حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقبري حدثنا سعيد بن أيوب حدثني أبو مرحوم وهو عبد الرحمن بن ميمون عن سهل بن معاذ

 

ج / 8 ص -168-       ابن أنس عن أبيه وساق الحديث ثم قال هذا حديث حسن غريب‏.‏
وحديث ابن عباس وغيره ولكن لفظ أبي داود‏:‏ ‏
"‏إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه وإذا سقي لينًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن‏"‏ ولفظ الترمذي‏:‏ ‏"‏من أطعمه اللّه طعامًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه ومن سقاه اللّه لبنًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وزدنا منه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن‏"‏ وقد حسن هذا الحديث الترمذي ولكن في إسناده علي بن يزيد بن جدعان عن عمر بن حرملة وقد ضعف علي بن زيد جماعة من الحفاظ‏.‏ وعمر بن حرملة سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال بصري لا أعرفه إلا في هذا الحديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إذا رفع مائدته‏"‏ قد ثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يأكل على خوان قط كما في حديث أنس والمائدة هي خوان عليه طعام فأجاب بعضهم بأن أنسًا ما رأى ذلك ورآه غيره والمثبت يقدم على النافي‏.‏                    قال في الفتح‏:‏ وقد تطلق المائدة ويراد بها نفس الطعام‏.‏ وقد نقل عن البخاري أنه قال‏:‏ إذا أكل الطعام على شيء ثم رفع قيل رفعت المائدة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏غير مكفي‏"‏ بفتح الميم وسكون الكاف وكسر الفاء وتشديد التحتانية قال ابن بطال‏:‏ يحتمل أن يكون من كفأت الإناء فالمعنى غير مردود عليه إنعامه ويحتمل أن يكون من الكفاية أي أن اللّه غير مكفي رزق عباده لأنه لا يكفيهم أحد غيره‏.‏
وقال ابن التين‏:‏ أي غير محتاج إلى أحد لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم هذا قول الخطابي‏.‏ وقال القزاز‏:‏ معناه أنا غير مكتف بنفسي عن كفايته وقال الداودي‏:‏ معناه لم أكتف من فضل اللّه ونعمته قال ابن التين‏:‏ وقول الخطابي أولى لأن مفعولا بمعنى مفتعل فيه بعد وخروج عن الظاهر‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وهذا كله على أن الضمير للّه ويحتمل أن يكون الضمير للحمد‏.‏ وقال إبراهيم الحربي‏:‏ الضمير للطعام ومكفي بمعنى مقلوب من الإكفاء وهو القلب‏.‏ وذكر ابن الجوزي عن أبي منصور الجواليقي أن الصواب غير مكافأ بالهمز أي أن نعمة اللّه لا تكافأ اهـ‏.‏ وقد ثبت هكذا في حديث أبي هريرة ويؤيد هذا لفظ كفانا الواقع في الرواية الأخرى لأن الضمير فيه يعود إلى اللّه تعالى بلا ريب إذ هو تعالى هو الكافي لا المكفي وكفانا هو من الكفاية وهو أعم من الشبع والري وغيرهما فأروانا على هذا من الخاص بعد العام ووقع في رواية ابن السكن وآوانا بالمد من الإيواء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا مودع‏"‏ بفتح الدال الثقيلة أي غير متروك ويحتمل أنه حال من القائل أي غير تارك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا مستغنى عنه‏"‏ بفتح النون وبالتنوين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ربنا‏"‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو على أنه مبتدأ وخبره متقدم عليه ويجوز النصب على المدح أو الاختصاص أو إضمار أعني‏.‏
قال ابن التين‏:‏ ويجوز الجر على أنه بدل من الضمير في عنه وقال غيره‏:‏ على البدل من الاسم في قوله الحمد للّه‏.‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ ربنا بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا مكفور‏"‏ أي مجحود فضله ونعمته وهذا أيضًا مما يقوي أن الضمير للّه تعالى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إذا أكل أو شرب‏"‏ لفظ أبي داود‏:‏ ‏"‏كان إذا فرغ من طعامه‏"‏ والمذكور في الباب لفظ الترمذي‏.‏ وفي حديث أبي هريرة عند

 

ج / 8 ص -169-       النسائي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعًا‏:‏ ‏"‏الحمد للّه الذي أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسا من العري وهدى من الضلال وبصر من العمى وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وزدنا منه‏"‏ هذا يدل على الروايات التي ذكرناها أنه ليس في الأطعمة والأشربة خير من اللبن وظاهره أنه خير من العسل الذي هو شفاء لكن قد يقال إن اللبن باعتبار التغذي والري خير من العسل ومرجح عليه والعسل باعتبار التداوي من كل داء وباعتبار الحلاوة مرجح على اللبن ففي كل منهما خصوصية يترجح بها ويحتمل أن المراد وزدنا لبنًا من جنسه وهو لبن الجنة كما في قوله تعالى
‏{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإنه ليس يجزي‏"‏ بضم أوله من الطعام أي بدل الطعام كقوله تعالى ‏
{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}‏ أي بدلها‏.‏