نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

كتاب الأشربة
باب تحريم الخمر ونسخ إباحتها المتقدمة
1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏
2 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
مدمن الخمر كعابد وثن‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
3 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
يا أيها الناس إن اللّه يبغض الخمر ولعل اللّه سينزل فيها أمرًا فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به قال‏:‏ فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللّه حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع قال‏:‏ فاستقبل الناس بما عندهم منها طرق المدينة فسفكوها‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏
4 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صديق من ثقيف ودوس فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من الخمر يهديها إليه فقال‏:‏
يا فلان أما علمت أن اللّه حرمها فأقبل الرجل على غلامه فقال‏:‏ اذهب فبعها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن الذي حرم شربها حرم بيعها فأمر بها فأفرغت في البطحاء‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏ وفي رواية لأحمد‏:‏ أن رجلا خرج والخمر حلال فأهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم راوية خمر فذكر نحوه وهو دليل على أن الخمور المحرمة وغيرها تراق ولا تستصلح بتخليل ولا غيره‏.

 

ج / 8 ص -170-       5 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أن رجلا كان يهدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم راوية خمر فأهداها إليه عامًا وقد حرمت فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إنها قد حرمت فقال الرجل‏:‏ أفلا أبيعها فقال‏:‏ إن الذي حرم شربها حرم بيعها قال‏:‏ أفلا أكارم بها اليهود قال‏:‏ إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود قال‏:‏ فكيف أصنع بها قال شنها على البطحاء‏"‏‏.‏ رواه الحميدي في مسنده‏.‏
6 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء نزلت
‏{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ الآية‏.‏ فقيل حرمت الخمر فقيل يا رسول اللّه ننتفع بها كما قال اللّه عز وجل فسكت عنهم ثم أنزلت هذه الآية ‏{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}‏ فقيل حرمت الخمر بعينها فقالوا يا رسول اللّه إنا لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}‏ الآية‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ حرمت الخمر‏"‏‏.‏ رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‏.‏
7 - وعن علي عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وقد حضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل اللّه عز وجل ‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وصححه‏.‏
حديث أبي هريرة الأول إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن الصباح قالا حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فذكره ورجال إسناده ثقات إلا محمد بن سليمان فصدوق لكنه يخطئ وقد ضعفه النسائي وقال أبو حاتم لا بأس به وليس بحجة‏.‏
وحديث علي عليه السلام سيأتي الكلام عليه آخر البحث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها‏"‏ بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان والمراد بقوله لم يتب منها أي من شربها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏
قال الخطابي والبغوي في شرح السنة‏:‏ معنى الحديث لا يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة فإذا حرم شربها

 

ج / 8 ص -171-       دل على أنه لا يدخل الجنة‏.‏
وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة لأن اللّه تعالى أخبر أن في الجنة أنهارًا من خمر لذة للشاربين وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرًا أو أنه حرمها عقوبة له لزم وقوع الهم والحزن والجنة لا هم فيها ولا حزن وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم فلهذا قال بعض من تقدم أنه لا يدخل الجنة أصلا قال وهو مذهب غير مرضي قال ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا اللّه عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة فعلى هذا معنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا اللّه عنه قال وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرًا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعًا‏:‏ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه وقد أخرجه الطبراني وصححه ابن حبان وقريب منه حديث عبد اللّه بن عمرو رفعه‏:‏
‏"‏من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم اللّه عليه شربها في الجنة‏"‏ أخرجه أحمد بسند حسن وقد زاد عياض على ما ذكره ابن عبد البر احتمالًا وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد اللّه عقوبته ومثله الحديث الآخر لم يرح رائحة الجنة قال ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه بل هو نقص نعم بالنسبة إلى من هو أتم نعيمًا منه كما تختلف درجاتهم ولا يلحق من هو أنقص درجة بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطًا به‏.‏
وقال ابن العربي‏:‏ ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته وفصل بعض المتأخرين بين من شربها مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا وعدم الدخول يستلزم حرمانها ومن شربها عالمًا بتحريمها فهو محل الخلاف وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب أو المعنى أن ذاك جزاؤه إن جوزي وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وذلك في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني      قال النووي‏:‏ الأقوى أنه ظني وقال القرطبي‏:‏ من استقرأ الشريعة علم أن اللّه يقبل توبة الصادقين قطعًا وللتوبة الصادقة شروط مدونة في مواطن ذلك‏.‏ وظاهر الوعيد أنه يتناول من شرب الخمر إن لم يحصل له السكر لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير تقييد‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب وكذا فيما يسكر من غيرها وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مدمن الخمر كعابد وثن‏"‏ هذا وعيد شديد وتهديد ما عليه مزيد لأن عابد الوثن أشد الكافرين كفرًا فالتشبيه لفاعل هذه المعصية بفاعل العبادة للوثن من أعظم المبالغة والزجر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‏.‏
قوله ‏"‏إن اللّه حرم الخمر‏"‏ اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر

 

ج / 8 ص -172-       فقال الدمياطي في سيرته‏:‏ بأنه كان عام الحديبية والحديبية كانت سنة ست وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فمن أدركته هذه الآية‏"‏ لعله يعني قوله تعالى ‏{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏}‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أفلا أكارم بها اليهود‏"‏ قال في القاموس‏:‏ كارمه فكرمه كنصره غلبه فيه اهـ ولعل المراد هنا المهاداة‏.‏ قال في النهاية‏:‏ المكارمة أن تهدي لإنسان شيئًا ليكافئك عليه وهي مفاعلة من الكرم اهـ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ثم نزلت إنما الخمر والميسر‏"‏ أخرج أبو داود عن ابن عباس أن قوله تعالى
‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}‏ وقوله تعالى ‏{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏ نسختهما التي في المائدة ‏{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ}‏ وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال‏.‏ ووجه النسخ أن الآية الآخرة فيها الأمر بمطلق الاجتناب وهو يستلزم أن لا ينتفع بشيء معه من الخمر في حال من حالاته في غير وقت الصلاة وفي حال السكر وحال عدم السكر وجميع المنافع في العين والثمن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وعن علي رضي اللّه عنه قال صنع لنا عبد الرحمن‏"‏ الخ هذا الحديث صححه الترمذي كما رواه المصنف رحمه اللّه وأخرجه أيضًا النسائي وأبو داود وفي إسناده عطاء بن السائب لا يعرف إلا من حديثه وقد قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وفرق مرة بين حديثه القديم وحديثه الحديث ووافقه على التفرقة الإمام أحمد‏.‏ وقال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي رضي اللّه عنه متصل الإسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن يعني السلمي وإنما كان ذلك قبل أن تحرم الخمر فحرمت من أجل ذلك‏.‏
قال المنذري‏:‏ وقد اختلف في إسناده ومتنه فأما الاختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري وأبو جعفر الرازي عن عطاء بن السائب فأرسلوه وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبو داود والترمذي أن الذي صلى بهم علي عليه السلام وفي كتاب النسائي وأبو جعفر النحاس أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وفي كتاب أبي بكر البزار أمروا رجلًا فصلى بهم ولم يسمه‏.‏ وفي حديث غيره فتقدم بعض القوم اهـ‏.‏
وأخرج الحاكم في تفسير سورة النساء عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي اللّه عنه دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ قل يا أيها الكافرون فألبس عليه فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ثم قال صحيح‏.‏ قال‏:‏ وفي هذا الحديث فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برأه اللّه فإنه راوي الحديث‏.‏

باب ما يتخذ منه الخمر وأن كل مسكر حرام
1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ الخمر من هاتين الشجرتين النخل والعنب‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري‏.‏
2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البشر

 

ج / 8 ص -173-       والتمر‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ وفي لفظ قال‏:‏ ‏"‏حرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر‏"‏ رواه البخاري‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏لقد أنزل اللّه هذه الآية التي حرم فيها الخمر وما في المدينة شراب إلا من تمر‏"‏ رواه مسلم‏.‏
3 - وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال‏:‏ إن الخمر حرمت فقال أبو طلحة‏:‏ قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
4 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ خمسة أشربة ما فيها شراب العنب‏"‏‏.‏ رواه البخاري‏.‏
5 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن عمر قال عن منبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
6 - وعن النعمان بن بشير قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:
‏ إن من الحنطة خمرًا ومن الشعير خمرًا ومن الزبيب خمرًا ومن التمر خمرًا ومن العسل خمرًا‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏ زاد أحمد وأبو داود‏:‏ وأنا أنهى عن كل مسكر‏.‏
7 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
كل مسكر خمر وكل مسكر حرام‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر وكل خمر حرام‏"‏ رواه مسلم والدارقطني‏.‏
8 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
كل شراب أسكر فهو حرام‏"‏‏.‏
9 - وعن أبي موسى قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال‏:‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد أعطي جوامع الكلام بخواتمه فقال‏:‏
كل مسكر حرام‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏

 

ج / 8 ص -174-       10 - وعن جابر‏:‏ ‏"‏أن رجلا من جيشان وجيشان من اليمن سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال‏:‏ أمسكر هو قال‏:‏ نعم فقال‏:‏ كل مسكر حرام إن على اللّه عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا‏:‏ يا رسول اللّه وما طينة الخبال قال‏:‏ عرق أهل النار أو عصارة أهل النار‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏
11 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
كل مخمر خمر وكل مسكر حرام‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
12 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
كل مسكر حرا‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي ولابن ماجه مثله في حديث ابن مسعود وحديث معاوية‏.‏
حديث النعمان بن بشير في إسناده إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي قال المنذري‏:‏ قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة وقال الترمذي بعد إخراجه‏:‏ غريب اهـ‏.‏ قال ابن المديني‏:‏ لإبراهيم بن المهاجر نحو أربعين حديثًا‏.‏ وقال أحمد‏:‏ لا بأس به‏.‏ وقال النسائي والقطان‏:‏ ليس بالقوي‏.‏
وحديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من طريق محمد بن رافع النيسابوري شيخ الجماعة سوى ابن ماجه قال حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني وهو ثقة قال سمعت النعمان يعني ابن أبي شيبة عبيد الجنيدي وهو أيضًا ثقة يقول عن طاوس عن ابن عباس الحديث وتمامه عند أبي داود‏:‏ ‏
"‏ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا فإن تاب تاب اللّه عليه فإن عاد الرابعة كان حقًا على اللّه أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال يا رسول اللّه قال‏:‏ صديد أهل النار ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقًا على اللّه أن يسقيه من طينة الخبال‏"‏‏.‏ وحديث جابر المذكور في الباب أخرجه أيضًا أبو داود بلفظ‏:‏ ‏"‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏"‏ وقد حسنه الترمذي‏.‏ قال المنذري‏:‏ في إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات الأشجعي مولاهم المدني سئل عنه ابن معين فقال‏:‏ ثقة وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ لا بأس به ليس بالمتين‏.‏
قال المنذري أيضًا‏:‏ وقد روى عنه هذا الحديث من رواية الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وسعد بن أبي وقاص وعبد اللّه بن عمرو وعبد اللّه بن عمر وعائشة وخوات بن جبير‏.‏ وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسنادًا فإن النسائي رواه في سننه عن محمد بن عبد اللّه بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير‏.‏
وقد احتج به البخاري ومسلم في الصحيحين عن الضحاك بن عثمان وقد احتج به مسلم في صحيحه عن بكير بن عبد اللّه الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص وقد احتج البخاري ومسلم بهما في الصحيحين‏.‏ قال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا يعلم روي عن سعد إلا من هذا الوجه ورواه عن الضحاك وأسنده جماعة عنه منهم

 

ج / 8 ص -175-       الدراوردي والوليد بن كثير ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني انتهى‏.‏
قال المنذري أيضًا‏:‏ وتابع محمد بن عبد اللّه بن عمار أبو سعيد عبد اللّه بن سعيد الأشج وهو ممن اتفق عليه البخاري ومسلم واحتجا به‏.‏
وحديث أبي هريرة لم يذكر الترمذي لفظه إنما ذكر حديث عائشة المذكور في الباب ثم حديث ابن عمر بلفظ‏:‏ ‏
"‏كل مسكر حرام‏"‏ ثم قال‏:‏ وفي الباب عن علي وعمر وابن مسعود وأنس وأبي سعيد وأبي موسى والأشج وديلم وميمونة وابن عباس وقيس بن سعد والنعمان بن بشير ومعاوية ووائل بن حجر وقرة المزني وعبد اللّه بن مغفل وأم سلمة وبريدة وأبي هريرة وعائشة قال‏:‏ هذا حديث حسن وقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نحوه وكلاهما صحيح‏.‏ ورواه غير واحد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعن أبي سلمة عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏
وحديث ابن مسعود ومعاوية اللذين أشار إليهما المصنف هما في سنن ابن ماجه كما قال أما حديث ابن مسعود فلم يكن في إسناده إلا أيوب ابن هانئ وهو صدوق وربما يخطئ وهو بلفظ‏:‏
‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ وأما حديث معاوية ففي إسناده سليمان بن عبد اللّه بن الزبرقان وهو لين الحديث ولفظه كل مسكر حرام على كل مؤمن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏النخلة والعنبة‏"‏ لفظ أبي داود يعني النخلة والعنبة وهو يدل على أن تفسير الشجرتين ليس من الحديث فيحتمل رواية من عدا أبا داود على الإدراج وليس في هذا نفي الخمرية عن نبيذ الحنطة والشعير والذرة وغير ذلك فقد ثبت فيه أحاديث صحيحة في البخاري وغيره قد ذكر بعضها المصنف كما ترى وإنما خص بالذكر هاتين الشجرتين لأن أكثر الخمر منهما وأعلى الخمر وأنفسه عند أهله منهما وهذا نحو قولهم المال الإبل أي أكثره وأعمه والحج عرفات ونحو ذلك فغاية ما هنالك أن مفهوم الخمر المدلول عليه باللام معارض بالمنطوقات وهي أرجح بلا خلاف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وعامة خمرنا البسر والتمر‏"‏ أي الشراب الذي يصنع منهما‏.‏
وأخرج النسائي والحاكم وصححه من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
الزبيب والتمر هو الخمر" وسنده صحيح وظاهره الحصر‏.‏
قال الحافظ‏:‏ لكن المراد المبالغة وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذ بالمدينة موجودًا وقيل إن مراد أنس الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب وقيل مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهذا أظهر قال والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد فإنه يحرم تناوله بالاتفاق‏.‏ وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة وهو قول مجهول لا يلتفت إلى قائله وحكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه فليس بحرام قال‏:‏ وهذا عظيم من القول يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه ولو كان الخلاف واهيًا‏.‏
ونقل الطحاوي في اختلاف العلماء عن أبي حنيفة أن الخمر حرام قليلها وكثيرها والسكر من غيرها حرام وليس كتحريم الخمر والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شيء كان‏.‏ وعن أبي يوسف لا بأس بالنقيع من كل شيء وإن غلا إلا الزبيب والتمر قال كذا حكاه محمد عن أبي حنيفة وعن محمد ما أسكر كثيره فأحب إلي أن

 

ج / 8 ص -176-       لا أشربه ولا أحرمه وقال الثوري‏:‏ أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلا قال‏:‏ ونقيع العسل لا بأس به انتهى‏.‏ والبسر بضم الموحدة من تمر النخل معروف‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏من فضيخ‏"‏ بالفاء ثم معجمتين وزن عظيم اسم للبسر إذا شدخ ونبذ‏.‏
وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والتمر ويطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأهرقها‏"‏ الهاء بدل من الهمزة والأصل أراقها وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معًا كما وقع هنا وهو نادر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وهي من خمسة من العنب‏"‏ قال في الفتح‏:‏ هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن لهم عندهم حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل وأخبر عن سبب وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره وأراد عمر بنزول تحريم الخمر نزول قوله تعالى
‏{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}‏ الآية فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصًا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيرها انتهى‏.‏ ويؤيده حديث النعمان بن بشير المذكور في الباب وفي لفظ منه عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة‏.‏ ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح قال‏:‏ الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة‏.‏ بضم المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والخمر ما خامر العقل‏"‏ أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو مجاز والعقل هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه اللّه من عباده ليقوموا بحقوقه‏.‏
قال الكرماني‏:‏ هذا تعريف بحسب اللغة وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة           قال الحافظ‏:‏ وفيه نظر لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي فكأنه قال‏:‏ الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل على أن عند أهل اللغة اختلافًا في ذلك كما قدمته ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية وقد تواترت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرًا والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة‏"‏ وقد تقدم‏.‏ وقد جعل الطحاوي هذا الحديث معارضًا لحديث عمر المذكور‏.‏
وقال البيهقي‏:‏ ليس المراد الحصر في الأمرين المذكورين في حديث أبي هريرة لأنه يتخذ الخمر من غيرهما وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏ قال الحافظ‏:‏ إنه يحمل حديث أبي هريرة على إرادة الغالب لأن أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر ويحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر‏.‏
قال الراغب في مفردات القرآن‏:‏ سمي الخمر لكونه خامرًا للعقل أي ساترًا له وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر وعند بعضهم لغير المطبوخ ورجح أنه

 

ج / 8 ص -177-       لكل شيء ستر العقل وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم الدينوري والجوهري ونقل عن ابن الأعرابي قال‏:‏ سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها ويقال سميت بذلك لمخامرتها العقل نعم جزم ابن سيده في المحكم أن الخمر حقيقة إنما هي للعنب وغيرها من المسكرات يسمى خمرًا مجازًا‏.‏
وقال صاحب الفائق‏:‏ من حديث إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم هي نبيذ الحبشة تتخذ من الذرة سميت الغبيراء لما فيها من الغبرة وقال خمر العالم أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها‏.‏ وقيل أراد أنها معظم خمر العالم‏.‏
وقال صاحب الهداية من الحنفية‏:‏ الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم‏.‏
قال‏:‏ وقيل هو اسم لكل مسكر لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏كل مسكر خمر‏"‏ ولأنه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر قال‏:‏ ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب ولهذا اشتهر استعمالها فيه ولأن تحريم الخمر قطعي وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني قال‏:‏ وإنما يسمى الخمر خمرًا لتخمره لا لمخامرة العقل قال‏:‏ ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصًا فيه كما في النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا انتهى‏.‏
قال في الفتح‏:‏ والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمر‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرًا عرب فصحاء فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا لما أطلقوه‏.‏
وقال ابن عبد البر‏:‏ قال الكوفيون الخمر من العنب لقوله تعالى
‏{أَعْصِرُ خَمْراً}‏ قالوا‏:‏ فدل على أن الخمر هو ما يعصر لا ما ينبذ قال‏:‏ ولا دليل فيه على الحصر قال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب‏.‏ وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرًا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية والجواب عن الحجة الثانية أن اختلاف مشتركين في الحكم لا يلزم منه افتراقهما في التسمية كالزنى مثلًا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره والثاني أغلظ من الأول وعلى من وطئ محرمًا له وهو أغلظ منهما واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة وأيضًا فالأحكام الفرعية لا تشترط فيها الأدلة القطعية فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حرامًا بل يحكم بتحريمه وكذا تسميته خمرًا وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب كما في قول عمر الخمر ما خامر العقل وكان مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة فيحمل قول عمر على المجاز لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرًا فقال ابن الأنباري‏:‏ لأنها تخامر العقل أي تخالطه وقيل لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها

 

ج / 8 ص -178-       وهذا أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية وقيل سميت خمرًا لأنها تخمر أي تترك كما يقال خمرت العجين أي تركته ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان قال ابن عبد البر‏:‏ الأوجه كلها موجودة في الخمر‏.‏
وقال القرطبي‏:‏ الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كانت من غيره فلا تسمى خمرًا ولا يتناولها اسم الخمر وهو قول مخالف للغة العرب والسنة الصحيحة وللصحابة لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما وحرموا كل نوع منهما ولم يتوقفوا ولا استفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما كان قد تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال فلما لم يفعلوا ذلك بل بادروا إلى إتلاف الجميع علمنا أنهم فهموا التحريم ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد ذهب إلى التعميم علي عليه السلام وعمر وسعد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة ومن التابعين ابن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث‏.‏
قال في الفتح‏:‏ ويمكن الجمع بأن من أطلق ذلك على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال‏:‏ إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي وقد تقرر أن نزول تحريم الخمر وهي من البسر إذ ذاك فيلزم من قال إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أن يجوز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازًا وهو لا يجوز ذلك فصح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم بأن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث كل مسكر خمر فكل ما اشتد كان خمرًا وكل خمر يحرم قليله وكثيره وهذا يخالف قولهم وباللّه التوفيق‏.‏
قال الخطابي‏:‏ إنما عد عمر الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام فإن الحنطة كانت بها عزيزة وكذا العسل بل كان أعز فعد عمر ما عرف منها وجعل ما في معناه مما يتخذ من الأرز وغيره خمرًا إن كان مما يخامر العقل وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق الاشتقاق وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين احتج بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمرو بسند جيد قال‏:‏ أما الخمر فحرام لا سبيل إليها وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام قال وجوابه إن ثبت عن ابن عمرو أنه قال‏:‏ كل مسكر خمر فلا يلزم من تسمية

 

ج / 8 ص -179-       المتخذ من العنب خمرًا انحصار اسم الخمر فيه وكذا احتجوا بحديث ابن عمرو أيضًا حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء مراده المتخذ من العنب ولم يرد أن غيرها لا يسمى خمرًا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏من العنب والتمر‏"‏ هذان مما وقع الإجماع على تحريمهما حيث لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والعسل‏"‏ هو الذي يسمى البتع وهو خمر أهل اليمن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والشعير‏"‏ بفتح الشين المعجمة وكسرها لغة وهو المسمى بالمزر زاد أبو داود والذرة وهي بضم الذال المعجمة وتخفيف الراء المهملة كما سبق ولامها محذوفة والأصل ذرو أو ذري فحذفت لام الكلمة وعوض عنها الهاء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عن البتع‏"‏ بكسر الموحدة وسكون المثناة فوق وهو ما ذكره في الحديث‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏كل شراب أسكر فهو حرام‏"‏ هذا حجة للقائلين بالتعميم من غير فرق بين خمر العنب وغيره لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما سأله السائل عن البتع قال‏:‏ "
كل شراب أسكر فهو حرام" فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب وهو البتع ودخل فيه كل ما كان في معناه مما يسمى شرابًا مسكرًا من أي نوع كان فإن قال أهل الكوفة إن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم "كل شراب أسكر" يعني به الجزء الذي يحدث عقبه السكر فهو حرام فالجواب أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع التحريم إلى الجنس كله كما يقال هذا الطعام مشبع والماء مرو يريد به الجنس وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل فاللقمة تشبع العصفور وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور وكذلك جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحد فكذلك النبيذ‏.‏
قال الطبري‏:‏ يقال لهم أخبرونا عن الشربة التي يعقبها السكر أهي التي أسكرت صاحبها دون ما تقدمها من الشراب أم أسكرت باجتماعها مع ما تقدم وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار فإن قالوا إنما أحدث له السكر الشربة الآخرة التي وجد خبل العقل عقبها قيل لهم وهل هذه التي أحدثت له ذلك إلا كبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما قبلها كانت غير مسكرة وحدها وإنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها فحدث عن جميعها السكر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والمزر‏"‏ بكسر الميم بعدها زاي ثم راء‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏من جيشان‏"‏ بفتح الجيم وسكون الياء تحتها نقطتان وبالشين المعجمة وبالنون وهو جيشان بن عيدان بن حجر بن ذي رعين قاله في الجامع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من طينة الخبال‏"‏ بفتح الخاء المعجمة والموحدة المخففة يعني يوم القيامة‏.‏ والخبال في الأصل الفساد وهو يكون في الأفعال والأبدان والعقول‏.‏ والخبل بالتسكين الفساد‏.‏
13 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن‏.‏
14 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
ما أسكر كثيره فقليله حرام‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني وصححه‏.‏ ولأبي داود وابن ماجه

 

ج / 8 ص -180-       والترمذي مثله سواء من حديث جابر وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وكذا الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه‏.‏
15 - وعن سعد بن أبي وقاص‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره‏"‏‏.‏ رواه النسائي والدارقطني‏.‏
16 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتاه قوم فقالوا يا رسول اللّه إنا ننبذ النبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا فقال‏:‏
اشربوا فكل مسكر حرام فقالوا يا رسول اللّه إنا نكسره بالماء فقال‏:‏ حرام قليل ما أسكر كثيره‏"‏‏.‏ رواه الدارقطني‏.‏
17 - وعن ميمونة‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير ولا في الجرار وقال كل مسكر حرام‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
18 - وعن أبي مالك الأشعري‏:‏ ‏"‏أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
ليشربن أناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود وقد سبق‏.‏
19 - وعن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه وقال تشرب مكان تستحل‏.‏
20 - وعن أبي أمامة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
21 - وعن ابن محيريز‏:‏ ‏"‏عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
يشرب ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها‏"‏‏.‏ رواه النسائي‏.‏
حديث عائشة رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين سوى أبي عثمان عمرو ويقال عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدني ثم الخراساني وهو مشهور ولي القضاء بمرو ورأى عبد اللّه بن عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن عباس وسمع من القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق‏.‏ وروى عنه غير

 

ج / 8 ص -181-       واحد‏.‏
قال المنذري‏:‏ لم أر أحد قال فيه كلامًا وقال الحاكم‏:‏ هو معروف بكنيته‏.‏ وأخرجه أيضًا ابن حبان وأعله الدارقطني بالوقف‏.‏ وحديث جابر الذي أشار إليه المصنف حسنه الترمذي وقال الحافظ‏:‏ رجاله ثقات انتهى‏.‏ وفي إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات الأشجعي مولاهم المدني سئل عنه ابن معين فقال ثقة‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي لا بأس به ليس بالمتين‏.‏
وحديث عمرو بن شعيب وما بعده أشار إلى البعض منها الترمذي قال بعد إخراج حديث جابر ـ وفي الباب ـ عن سعد وعائشة وعبد اللّه بن عمرو وابن عمر وخوات بن جبير وقال المنذري بعد الكلام على حديث جابر ما نصه‏:‏ وقد روي هذا الحديث من رواية الإمام علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرو‏.‏
وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسنادًا فإن النسائي رواه في سننه عن محمد بن عبد اللّه بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير وقد احتج به البخاري ومسلم في الصحيحين عن الضحاك بن عثمان‏.‏
وقد احتج به مسلم في صحيحه عن بكير بن عبد اللّه الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص‏.‏
وقد احتج البخاري ومسلم بهما في الصحيحين وقال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا نعلم روي عن سعد إلا من هذا الوجه ورواه عن الضحاك وأسنده جماعة منهم الدراوردي والوليد بن كثير ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني انتهى‏.‏ وتابع محمد بن عبد اللّه بن عمار أبو سعيد عبد اللّه بن سعيد الأشج وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج به وأخرجه أيضًا البزار وابن حبان‏.‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ حديث علي في الدارقطني وحديث خوات في المستدرك وحديث سعد في النسائي وحديث ابن عمرو في ابن ماجه والنسائي‏.‏ وحديث ابن عمر في الطبراني‏.‏
وحديث ميمونة في إسناده عبد اللّه بن محمد بن عقيل وحديثه حسن وفيه ضعف‏.‏
قال في مجمع الزوائد‏:‏ وبقية رجاله رجال الصحيح وستأتي الأحاديث الواردة في معناه في باب الأوعية المنهي عن الانتباذ فيها وإنما ذكره المصنف ههنا لقوله في آخره‏:‏ ‏
"‏كل مسكر حرام‏"‏‏.‏
وحديث أبي مالك الأشعري قد تقدم في باب ما جاء في آلة اللهو وقد صححه ابن حبان قال في الفتح‏:‏ وله شواهد كثيرة ثم ساق من ذلك عدة أحاديث منها حديث أبي أمامة المذكور في الباب وسكت عنه ومنها حديث ابن محيريز المذكور أيضًا وقد أخرجه أيضًا أحمد وابن ماجه من وجه آخر بسند صحيح‏.‏
وحديث عبادة في إسناده عند ابن ماجه الحسين بن أبي السري العسقلاني وهو مجهول‏.‏
وحديث أبي أمامة رواه ابن ماجه من طريق العباس بن الوليد الدمشقي وهو صدوق وقد ضعف عن عبد السلام بن عبد القدوس وهو ضعيف وبقية رجال إسناده ثقات‏.‏
وحديث ابن محيريز إسناده عند النسائي صحيح قال أخبرنا محمد بن عبد الأعلى عن خالد وهو ابن الحارث عن شعبة قال سمعت أبا بكر بن حفص يقول سمعت ابن محيريز يذكره ولعل الرجل المبهم من الصحابة هو عبادة بن الصامت فإن ابن ماجه روى حديث عبادة المتقدم من طريق ابن محيريز والأحاديث الواردة في هذا المعنى يقوي بعضها بعضًا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏الفرق‏"‏ بفتح الراء وسكونها

 

ج / 8 ص -182-       والفتح أشهر وهو مكيال يسع ستة عشر رطلا وقيل هو بفتح الراء كذلك فإذا سكنت فهو مائة وعشرون رطلا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فملء الكف منه حرام‏"‏ في رواية الإمام أحمد في الأشربة بلفظ‏:‏
‏"‏فالأوقية منه حرام‏"‏ وذكر ملء الكف أو الأوقية في الحديث على سبيل التمثيل وإنما العبرة بأن التمثيل شامل للقطرة ونحوها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏"‏ قال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ أجمع المسلمون على وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلا أو كثيرًا ولو قطرة واحدة قال‏:‏ وأجمعوا على أنه لا يقتل شاربها وإن تكرر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تنبذوا في الدباء‏"‏ إلى آخر الحديث سيأتي تفسير هذه الألفاظ في باب الأوعية المنهي عن الانتباذ فيها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ليشربن‏"‏ بفتح الباء الموحدة ونون التوكيد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ويسمونها بغير اسمها‏"‏ يعني يسمونها الداذي بدال مهملة وبعد الألف ذال معجمة قال الأزهري‏:‏ هو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر أو يسمونها بالطلاء‏.‏ وقد تقدم الكلام على هذا في باب ما جاء في آلة اللهو‏.‏

باب الأوعية المنهي عن الانتباذ فيها ونسخ تحريم ذلك
1 - عن عائشة‏:‏
‏"‏أن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم أن ينبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم‏"‏‏.‏
2 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس‏:‏
أنهاكم عما ينبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت‏"‏‏.‏
3 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت‏"‏‏.‏
4 - وعن ابن أبي أوفى قال‏:‏ ‏
"‏نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن نبيذ الجر الأخضر‏"‏‏.‏
5 - وعن الإمام علي رضي اللّه عنه قال‏:‏
‏"‏نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تنبذوا في الدباء والمزفت‏"‏‏.‏ متفق على خمستهن‏.‏
6 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن المزفت والحنتم والنقير‏"‏ قيل لأبي هريرة‏:‏ ما الحنتم قال‏:‏ الجرار الخضر‏.‏
7 - وعن أبي سعيد‏:‏ ‏"‏أن وفد عبد القيس قالوا‏:‏ يا رسول اللّه ماذا يصلح لنا من الأشربة قال‏:‏
لا تشربوا في النقير فقالوا‏:‏ جعلنا اللّه فداك أو تدري ما النقير قال‏:‏ نعم الجذع ينقر في وسطه ولا في الدباء ولا في الحنتم وعليكم بالموكى‏"‏‏.‏ رواهن أحمد ومسلم‏.‏

 

ج / 8 ص -183-       8 - وعن ابن عمر وابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الدباء والحنتم والمزفت‏"‏‏.‏
9 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس‏:‏
أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير والمزادة المجبوبة ولكن اشرب في سقائك وأوكه‏"‏‏.‏ رواهما مسلم والنسائي وأبو داود‏.‏
10 - عن ابن عمر وابن عباس قالا‏:‏
‏"‏حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نبيذ الجر‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود‏.‏
11 - وعن ابن عمر قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الحنتمة وهي الجرة ونهى عن الدباء وهي القرعة ونهى عن النقير وهي أصل النخل ينقر نقرًا وينسخ نسخًا ونهى عن المزفت وهو المقير وأمر أن ينبذ في الأسقية‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه‏.‏
12 - وعن بريدة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرًا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي‏.‏
وفي رواية‏:‏
‏"‏نهيتكم عن الظروف وإن ظرفًا لا يحل شيئًا ولا يحرمه وكل مسكر حرام‏"‏ رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود‏.‏
13 - وعن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ ‏
"‏لما نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الأوعية قيل للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليس كل الناس يجد سقاء فرخص لهم في الجر غير المزفت‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
14 - وعن أنس قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن النبيذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت ثم قال بعد ذلك ألا كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرًا من شاء أوكى سقاءه على إثم‏"‏‏.‏
15 - وعن عبد اللّه بن مغفل قال‏:‏ ‏"‏أنا شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين نهى عن نبيذ الجر وأنا شهدته حين رخص فيه وقال‏:‏ واجتنبوا كل مسكر‏"‏‏.‏ رواهما أحمد‏.‏
حديث أنس أخرجه أيضًا أبو يعلى والبزار وفي إسناده يحيى بن عبد اللّه الجابري ضعفه

 

ج / 8 ص -184-       الجمهور وقال أحمد‏:‏ لا بأس به وبقية رجاله ثقات‏.‏
وحديث عبد اللّه بن مغفل رجال إسناده ثقات‏.‏ وفي أبي جعفر الرازي كلام لا يضر وقد أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط في الباب عن جماعة من الصحابة غير من ذكره المصنف‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في الدباء‏"‏ بضم الدال المهملة وتشديد الباء وهو القرع وهو من الآنية التي يسرع الشراب في الشدة إذا وضع فيها‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والنقير‏"‏ هو فعيل بمعنى مفعول من نقر ينقر وكانوا يأخذون أصل النخلة فينقرونه في جوفه ويجعلونه إناء ينتبذون فيه لأن له تأثيرًا في شدة الشراب‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والمزفت‏"‏ اسم مفعول وهو الإناء المطلي بالزفت وهو نوع من القار‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والحنتم‏"‏ بفتح الحاء المهملة جرار خضر مدهونة كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحدها حنتمة وهي أيضًا مما تسرع فيه الشدة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏عن نبيذ الجر‏"‏ بفتح الجيم وتشديد الراء جمع جرة كتمر جمع تمرة وهو بمعنى الجرار الواحدة جرة ويدخل فيه جميع أنواع الجرار من الحنتم وغيره‏.‏
وروى أبو داود عن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس‏:‏ ما الجر فقال‏:‏ كل شيء يصنع من المدر فهذا تصريح أن الجر يدخل فيه جميع أنواع الجرار المتخذة من المدر الذي هو التراب والطين يقال مدرت الحوض أمدره إذا أصلحته بالمدر وهو الطين من التراب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والمقير‏"‏ بضم الميم وفتح القاف والياء المشددة وهو المزفت أي المطلي بالزفت وهو نوع من القار كما تقدم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المزفت هو المقير حكى ذلك ابن رسلان في شرح السنن وقال إنه صح ذلك عنه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والمزادة‏"‏ هي السقاء الكبير سميت بذلك لأنه يزاد فيها على الجلد الواحد كذا قال النسائي‏.‏ والمجبوبة بالجيم بعدها موحدتان بينهما واو‏.‏ قال عياض‏:‏ ضبطناه في جميع هذه الكتب بالجيم والباء الموحدة المكررة ورواه بعضهم المخنوثة بخاء معجمة ثم نون وبعدها ثاء مثلثة كأنه أخذ من اختناث الأسقية المذكورة في حديث آخر ثم قال وهذه الرواية ليست بشيء والصواب الأول أنها بالجيم وهي التي قطع رأسها فصارت كالدن مشتقة من الجب وهو القطع لكون رأسها يقطع حتى لا يبقى لها رقبة توكي‏.‏ وقيل هي التي قطعت رقبتها وليس لها عزلاء أي فم من أسفلها يتنفس الشراب منها فيصير شرابها مسكرًا ولا يدرى به‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأوكه‏"‏ بفتح الهمزة أي وإذا فرغت من صب الماء واللبن الذي من الجلد فأوكه أي سد رأسه بالوكاء يعني بالخيط لئلا يدخله حيوان أو يسقط فيه شيء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ينسح نسحًا‏"‏ بالحاء المهملة عند أكثر الشيوخ وفي كثير من نسخ مسلم عن ابن ماهان بالجيم وكذا في الترمذي وهو تصحيف ومعناه القشر ثم الحفر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا في ظروف الأدم‏"‏ بفتح الهمزة والدال جمع أديم ويقال أدم بضمهما وهو القياس ككثيب وكثب وبريد وبرد والأديم الجلد المدبوغ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فاشربوا في كل وعاء‏"‏ فيه دليل على نسخ النهي عن الانتباذ في الأوعية المذكورة‏.‏
قال الخطابي‏:‏ ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولا ثم نسخ وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق منهم ابن عمر وابن عباس وبه قال مالك وأحمد وإسحاق كذا أطلق قال والأول أصح والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبًا فلما اشتهر التحريم أبيح لهم

 

ج / 8 ص -185-       الانتباذ في كل وعاء بشرط ترك شرب المسكر وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ وقال الحازمي لمن نصر قول مالك أن يقول ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها ظروف الأدم والجرار غير المزفتة واستمر ما عداها على المنع ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم كما في حديث الباب قال وطريق الجمع أن يقال لما وقع النهي عامًا شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم ثم شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك فرخص لهم في الظروف كلها‏.‏ وقال ابن بطال‏:‏ النهي عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة فلما قالوا لا نجد بدًا من الانتباذ في الأوعية قال "انتبذوا وكل مسكر حرام" وهكذا الحكم في كل شيء نهى عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط للضرورة كالنهي عن الجلوس في الطرقات فلما قالوا لا بد لنا منها قال‏:‏ ‏"‏وأعطوا الطريق حقها‏"‏‏.‏

باب ما جاء في الخليطين
1 - عن جابر‏:‏ ‏"‏عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعًا ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعًا‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا الترمذي فإن له منه فصل الرطب والبسر‏.‏
2 - وعن أبي قتادة‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا تنبذوا الزهو والرطب جميعًا ولا تنبذوا الزبيب والرطب جميعًا ولكن انبذوا كل واحد منهما على حدته‏"‏‏.‏ متفق عليه. لكن للبخاري ذكر التمر بدل الرطب‏.‏
وفي لفظ‏:‏ ‏
"‏أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن خليط التمر والبسر وعن خليط الزبيب والتمر وعن خليط الزهو والرطب وقال انتبذوا كل واحد على حدته‏"‏ رواه مسلم وأبو داود‏.‏
3 - وعن أبي سعيد‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما وعن التمر والبسر أن يخلط بينهما يعني في الانتباذ‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏نهانا أن نخلط بسرًا بتمر أو زبيبًا بتمر أو زبيبًا ببسر وقال‏:‏ من شربه منكم فليشربه زبيبًا فردًا وتمرًا فردًا أو بسرًا فردًا‏"‏ رواه مسلم والنسائي‏.‏
4 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لا تنبذوا التمر والزبيب جميعًا ولا تنبذوا التمر والبسر جميعًا وانبذوا كل واحد منهن وحده‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
5 - وعن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يخلط التمر

 

ج / 8 ص -186-       والزبيب جميعًا وأن يخلط البسر والتمر جميعًا‏"‏‏.‏
6 - وعنه قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يخلط البلح بالزهو‏"‏‏.‏ رواهما مسلم والنسائي‏.‏
7 - وعن المختار بن فلفل عن أنس قال‏:‏ ‏
"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نجمع بين شيئين فينبذا يبغي أحدهما على صاحبه قال‏:‏ وسألته عن الفضيخ فنهاني عنه قال‏:‏ كان يكره المذنب من البسر مخافة أن يكون شيئين فكنا نقطعه‏"‏‏.‏ رواه النسائي‏.‏
8 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏كنا ننبذ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سقاء فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحهما ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية فيشربه غدوة‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
حديث أنس رواه النسائي من طريق سويد بن نصر وهو ثقة عن عبد اللّه ابن المبارك الإمام الكبير عن ورقاء وهو صدوق عن المختار بن فلفل وهو ثقة عن أنس‏.‏ وقد أخرجه أيضًا أحمد بن حنبل من طريق المختار بن فلفل عنه‏.‏
وحديث عائشة رجاله عند ابن ماجه رجال الصحيح إلا تبالة بنت يزيد الراوية له عن عائشة فإنها مجهولة وقد أخرجه أيضًا أبو داود عن صفية بنت عطية قالت‏:‏ دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة فسألناها عن التمر والزبيب فقالت كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ثم أسقيه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي إسناده أبو بحر عبد الرحمن بن عثمان البكراوي البصري قال المنذري‏:‏ ولا يحتج بحديثه‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وليس هو بالقوي‏.‏ وأخرج أبو داود أيضًا عن امرأة من بني أسد عن عائشة‏:‏
‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان ينتبذ له زبيب فيلقى فيه تمرًا وتمر فيلقى فيه الزبيب‏"‏ وفيه هذه المرأة المجهولة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏باب ما جاء في الخليطين‏"‏ أصل الخلط تداخل أجزاء الأشياء بعضها في بعض‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والبسر‏"‏ بضم الموحدة نوع من ثمر النخل معروف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الزهو‏"‏ بفتح الزاي وضمها لغتان مشهورتان‏.‏ قال الجوهري‏:‏ أهل الحجاز يضمون يعني وغيرهم يفتح والزهو هو البسر الملون الذي بدا فيه حمرة أو صفرة وطاب وزهت تزهى زهوًا وأزهت تزهى وأنكر الأصمعي أزهت بالألف وأنكر غيره زهت بلا ألف ورجح الجمهور زهت وقال ابن الأعرابي‏:‏ زهت ظهرت وأزهت احمرت أو اصفرت والأكثرون على خلافه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏على حدته‏"‏ بكسر الحاء المهملة وفتح الدال أي وحدته فحذفت الواو من أوله والمراد أن كل واحد منهما ينبذ منفردًا عن الآخر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏البلح‏"‏ بفتح الموحدة وسكون اللام ثم حاء مهملة وفي القاموس وشمس العلوم بفتحها هو أول ما يرطب من

 

ج / 8 ص -187-       البسر واحده بلحة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وسألته عن الفضيخ‏"‏ قد تقدم ضبطه وتفسيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏كان يكره المذنب‏"‏ بذال معجمة فنون مشددة مكسورة ما بدا فيه الطيب من ذنبه أي طرفه ويقال له أيضًا التذويب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نقطعه‏"‏ أي نفصل بين البسر وما بدا فيه واختلف في سبب النهي عن الخليطين فقال النووي‏:‏ ذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه قال‏:‏ ومذهب الجمهور أن النهي في ذلك للتنزيه وإنما يحرم إذا صار مسكرًا ولا تخفى علامته‏.‏ وقال بعض المالكية‏:‏ هو للتحريم‏.‏
واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل يمتنع أو يختص النهي عن الخلط بالانتباذ فقال الجمهور‏:‏ لا فرق‏.‏ وقال الليث‏:‏ لا بأس بذلك عند الشرب ونقل ابن التين عن الداودي أن المنهي عنه خلط النبيذ بالنبيذ لا إذا نبذا معًا‏.‏
ـ واختلف ـ في الخليطين من الأشربة غير النبيذ فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض الأشربة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لنا أربع صور أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسًا على المنصوص أو مسكوت عنهما وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز إلى آخر كلامه‏.‏
وقال الخطابي‏:‏ ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرًا جماعة عملا بظاهر الحديث وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وظاهر مذهب الشافعي وقالوا من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين وخص الليث النهي بما إذا انتبذا معًا وخص ابن حزم النهي بخمسة أشياء التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب قال‏:‏ سواء خلط أحدها في الآخر منها أو في غيرها فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها فلا منع كالتين والعسل مثلًا وحديث أنس المذكور في الباب يرد عليه‏.‏
وقال القرطبي‏:‏ النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم وهو قول جمهور فقهاء الأمصار وعن مالك يكره فقط وشذ من قال لا بأس به لأن كلًا منهما يحل منفردًا فلا يكره مجتمعًا قال‏:‏ وهذه مخالفة للنص بقياس مع وجود الفارق فهو فاسد ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الأختين منفردة وتحريمهما مجتمعتين‏.‏

باب النهي عن تخليل الخمر
1 - عن أنس‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال‏:‏ لا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
2 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن أبا طلحة سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا قال‏:‏
أهرقها قال‏:‏ أفلا نجعلها خلا قال‏:‏ لا‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏
3 - وعن أبي سعيد قال‏:‏
‏"‏قلنا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما حرمت الخمر إن عندنا خمرًا ليتيم لنا فأمرنا فأهرقناها‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏

 

ج / 8 ص -188-       4 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن يتيمًا كان في حجر أبي طلحة فاشترى له خمرًا فلما حرمت سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتتخذ خلا قال‏:‏ لا‏"‏‏.‏ رواه أحمد والدارقطني‏.‏ حديث أنس الأول قال الترمذي بعد إخراجه حديث حسن صحيح‏.‏
وحديثه الثاني عزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم وهو كما قال في صحيح مسلم ورجال إسناده في سنن أبي داود ثقات‏.‏ وأخرجه الترمذي من طريقين وقال الثانية أصح‏.‏
وحديث أبي سعيد أشار إليه الترمذي قال وفي الباب عن جابر وعائشة وأبي سعيد وابن مسعود وابن عمر‏.‏ وفي لفظ للترمذي عن أنس عن أبي طلحة أنه قال يا نبي اللّه‏.‏ وفي لفظ آخر كما في الكتاب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏قال‏:‏ لا‏"‏ فيه دليل للجمهور على أنه لا يجوز تخليل الخمر ولا تطهر بالتخليل هذا إذا خللها بوضع شيء فيها أما إذا كان التخليل بالنقل من الشمس إلى الظل أو نحو ذلك فأصح وجه عن الشافعية أنها تحل وتطهر وقال الأوزاعي وأبو حنيفة تطهر إذا خللت بإلقاء شيء فيها وعن مالك ثلاث روايات أصحها أن التخليل حرام فلو خللها عصى وطهرت‏.‏ قال القرطبي‏:‏ كيف يصح لأبي حنيفة القول بالتخليل مع هذا الحديث ومع سببه الذي خرج عليه إذ لو كان جائزًا لكان قد ضيع على الأيتام مالهم ولوجب الضمان على من أراقها عليهم وهو أبو طلحة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أهرقها‏"‏ بسكون القاف وكسر الراء فيه دليل على أن الخمر لا تملك بل يجب إراقتها في الحال ولا يجوز لأحد الانتفاع بها إلا بالإراقة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وقال بعض أصحابنا تملك وليس بصحيح‏.‏ ولفظ أحمد في رواية له‏:‏ ‏"‏أن أبا طلحة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ عندي خمور لأيتام فقال‏:‏ أرقها قال‏:‏ ألا أخللها قال‏:‏ لا‏"‏‏.‏

باب شرب العصير ما لم يغل أو يأت عليه ثلاث وما طبخ قبل غليانه فذهب ثلثاه‏.‏
1 - عن عائشة قالت‏:‏
‏"‏كنا ننبذ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سقاء يوكي أعلاه وله عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشيًا وننبذه عشيًا فيشربه غدوة‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي‏.‏
2 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏
"‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر فإذا بقي شيء سقاه الخدام أو أمر به فصب‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏كان ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقي الخادم أو يهراق‏"‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود‏.‏ وقال معنى يسقي الخادم يبادر به الفساد‏.‏

 

ج / 8 ص -189-       وفي رواية‏:‏ ‏"‏كان ينبذ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيشربه يومه ذلك والغد واليوم الثالث فإن بقي شيء منه أهراقه أو أمر به فأهريق‏"‏ رواه النسائي وابن ماجه‏.‏
3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏علمت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال‏:‏
اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر‏"‏‏.‏
رواه أبو داود والنسائي‏.‏ وقال ابن عمر في العصير أشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل وفي كم يأخذه شيطانه قال في ثلاث‏.‏ حكاه أحمد وغيره‏.‏
4 - وعن أبي موسى‏:‏ ‏"‏أنه كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه‏"‏‏.‏ رواه النسائي وله مثله عن عمر وأبي الدرداء وقال البخاري رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث وشرب البراء وأبو جحيفة على النصف‏.‏
وقال أبو داود‏:‏ سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فقال‏:‏ لا بأس به فقلت‏:‏ إنهم يقولون يسكر قال‏:‏ لا يسكر لو كان يسكر ما أحله عمر رضي اللّه عنه‏.‏ حديث عائشة تقدم في باب ما جاء في الخليطين‏.‏
وأخرج أبو داود أيضًا عن عائشة أنها كانت تنبذ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غدوة فإذا كان من العشاء فتعشى شرب على عشائه وإن فضل شيء صبته أو فرغته ثم تنبذ له بالليل فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه قالت‏:‏ نغسل السقاء غدوة وعشية فقال لها‏:‏ أي مرتين في يوم قالت‏:‏ نعم‏.‏ وحديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وقد اختلف في هشام بن عمار ولكنه قد أخرج له البخاري‏.‏
وأما قوله وله مثله عن عمر فهو ما أخرجه النسائي من طريق عبد اللّه بن يزيد الخطمي قال كتب عمر اطبخوا شرابكم حتى يذهب نصيب الشيطان اثنين ولكم واحد وصحح هذا الحافظ في الفتح وأخرج مالك في الموطأ من طريق محمود بن لبيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكى إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها وقالوا لا يصلحنا إلا هذا الشراب فقال عمر اشربوا العسل قالوا ما يصلحنا العسل فقال رجل من أهل الأرض هل لك أن تجعل من هذا الشراب شيئًا لا يسكر فقال نعم فطبخوا حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر فأدخل فيه إصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط فقال هذا الطلاء مثل طلاء

 

ج / 8 ص -190-       الإبل فأمرهم عمر أن يشربوه وقال اللّهم إني لا أحل لهم شيئًا حرمته عليهم‏.‏
وأخرج سعيد بن منصور من طريق أبي مجلز عن عامر بن عبد اللّه قال كتب عمر إلى عمار أما بعد فإنه جاءني عير تحمل شرابًا أسود كأنه طلاء الإبل فذكروا أنهم يطبخونهم حتى يذهب ثلثاه الأخبثان ثلث بريحه وثلث ببغيه فمر من قبلك أن يشربوه‏.‏ ومن طريق سعيد بن المسيب أن عمر أحل من الشراب ما يطبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه‏.‏
وأثر أبي عبيدة ومعاذ أخرجه أبو مسلم الكجي وسعيد بن منصور بلفظ‏:‏ يشربون من الطلاء ما يطبخ على الثلث وذهب ثلثاه‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء أخرجه النسائي عنهما وعلي وأبو أمامة وخالد بن الوليد وغيرهم أخرجها ابن أبي شيبة وغيره ومن التابعين ابن المسيب والحسن وعكرمة ومن الفقهاء الثوري والليث ومالك وأحمد والجمهور وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر وكرهه طائفة تورعًا‏.‏ وأثر البراء أخرجه ابن أبي شيبة من رواية عدي بن ثابت عنه أنه كان يشرب الطلاء على النصف أي إذا طبخ فصار على النصف‏.‏ وأثر أبي جحيفة أخرجه أيضًا ابن أبي شيبة ووافق البراء وأبا جحيفة جرير ومن التابعين ابن الحنيفة وشريح وأطلق الجميع على أنه إن كان يسكر حرم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ بلغني أن النصف يسكر فإن كان كذلك فهو حرام والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف أعناب البلاد فقد قال ابن حزم أنه شاهد العصير ما إذا طبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكرًا أصلا ومنه ما إذا طبخ إلى النصف كذلك ومنه ما إذا طبخ إلى الربع كذلك بل قال أنه شاهد منه ما لو طبخ لا يبقى غير ربعه لا ينفك عنه السكر قال وجب أن يحمل ما ورد عن الصحابة من أمر الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ‏.‏ وأخرج النسائي من طريق عطاء عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال‏:‏ إن النار لا تحل شيئًا ولا تحرمه‏.‏ وأخرج النسائي أيضًا من طريق أبي ثابت الثعلبي قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل يسأله عن العصير فقال اشربه ما كان طريًا قال إني طبخت شرابًا وفي نفسي قال كنت شاربه قبل أن تطبخه قال لا قال فإن النار لا تحل شيئًا قد حرم‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهذا يقيد ما أطلق في الآثار الماضية وهو أن الذي يطبخ إنما هو العصير الطري قبل أن يتخمر أما لو صار خمرًا فطبخ فإن الطبخ لا يحله ولا يطهره إلا على رأي من يجيز تخليل الخمر والجمهور على خلافه‏.‏
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي اشربوا العصير ما لم يغل‏.‏ وعن الحسن البصري ما لم يتغير وهذا قول كثير من السلف أنه إذا بدا فيه التغير يمتنع وعلامة ذلك أن يأخذ في الغليان وبهذا قال أبو يوسف‏.‏ وقيل إذا انتهى غليانه وابتدأ في الهدو بعد الغليان‏.‏ وقيل إذا سكن غليانه‏.‏
وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحرم عصير العنب إلى أن يغلي ويقذف بالزبد فإذا غلى وقذف بالزبد حرم‏.‏ وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فلا يمتنع مطلقًا ولو غلى وقذف بالزبد بعد الطبخ‏.‏
وقال مالك والشافعي والجمهور يمتنع إذا صار مسكرًا شرب قليله وكثيره سواء غلى أم لا لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي ثم يسكن

 

ج / 8 ص -191-       غليانه بعد ذلك وهو مراد من قال حد منع شربه أن يتغير‏.‏
وأخرج مالك بإسناد صحيح أن عمر قال إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه شرب الطلاء وإني سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلده عمر الحد تامًا‏.‏ وفي السياق حذف والتقدير سأل عنه فوجده يسكر فجلده‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور عنه نحوه‏.‏ وفي هذا رد على من احتج بعمر في جواز المطبوخ إذا ذهب منه الثلثان ولو أسكر بأن عمر أذن بشربه ولم يفصل وتعقب بأن الجمع بين الأثرين ممكن بأن يقال سأل ابنه فاعترف بأنه شرب كذا فسأل غيره عنه فأخبره أنه يسكر أو سأل ابنه فاعترف أنه يسكر‏.‏
وقال أبو الليث السمرقندي‏:‏ شارب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنبًا من شارب الخمر لأن شارب الخمر يشربها وهو عالم أنه عاص بشربها وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالا وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام‏.‏ وثبت قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏يوكي‏"‏ أي يشد بالوكاء وهو غير مهموز‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وله عزلاء‏"‏ بفتح العين المهملة وإسكان الزاي وبالمد وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فيشربه عشاء‏"‏ قال النووي‏:‏ هو بكسر العين وفتح الشين وضبطه بعضهم بفتح العين وكسر الشين وزيادة ياء مشددة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ هذا يدل على أن أقصى زمان الشرب ذلك المقدار فإنه لا تخرج حلاوة التمر أو الزبيب في أقل من ليلة أو يوم‏.‏
ـ الحاصل ـ أنه يجوز شرب النبيذ ما دام حلوًا غير أنه إذا اشتد الحر أسرع إليه التغير في زمان الحر دون زمان البرد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلى مساء الثالثة‏"‏ قال النووي‏:‏ مساء الثالثة يقال بضم الميم وكسرها لغتان مشهورتان والضم أرجح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فيسقي الخادم‏"‏ هذا محمول على أنه لم يكن قد بلغ إلى حد السكر لأن الخادم لا يجوز أن يسقى المسكر كما لا يجوز له شربه بل تتوجه إراقته‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أو يهراق‏"‏ بضم أوله لأنه إذا صار مسكرًا حرم شربه وكان نجسًا فيراق‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فتحينت فطره‏"‏ أي طلبت حين فطره‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏صنعته في دباء‏"‏ أي قرع‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ينش‏"‏ بفتح الياء التحتية وكسر النون أي إذا غلى يقال نشت الخمر تنش نشيشًا إذا غلت‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏اضرب بهذا الحائط‏"‏ أي اصببه وأرقه في البستان وهو الحائط‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في ثلاث‏"‏ فيه دليل على أن النبيذ بعد الثلاث قد صار مظنة لكونه مسكرًا فيتوجه اجتنابه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من الطلاء‏"‏ بكسر المهملة والمد شبه بطلاء الإبل وهو في تلك الحال غالبًا لا يسكر‏.‏

باب آداب الشرب‏.
1 - عن أنس‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثًا‏"‏ متفق عليه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏كان يتنفس في الشراب ثلاثًا ويقول إنه أروى وأبرأ وأمرأ‏"‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
2 - وعن أبي قتادة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

 

ج / 8 ص -192-       3 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي‏.‏
4 - وعن أبي سعيد‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل‏:‏ القذاة أراها في الإناء فقال‏:‏ أرقها فقال‏:‏ إني لا أروى من نفس واحد قال‏:‏ فأبن القدح إذًا عن فيك‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كان يتنفس في الإناء ثلاثًا‏"‏ حمل بعضهم هذه الرواية على ظاهرها وأنه يقع التنفس في الإناء ثلاثًا وقال‏:‏ فعل ذلك ليبين به جواز ذلك‏.‏ ومنهم من علل جواز ذلك في حقه عليه السلام بأنه لم يكن يتقذر منه شيء بل الذي يتقذر من غيره يستطاب منه فإنهم كانوا إذا بزق أو تنخع يدلكون بذلك وإذا توضأ اقتتلوا على فضلة وضوئه إلى غير ذلك مما في هذا المعنى‏.‏
قال القرطبي‏:‏ وحمل هذا الحديث على هذا المعنى ليس بصحيح بدليل بقيته فإنه قال إنه أروى وأمرأ‏.‏ وفي لفظ لأبي داود وأبرأ‏.‏ وهذه الثلاثة الأمور إنما تحصل بأن يشرب ثلاثة أنفاس خارج القدح فأما إذا تنفس في الماء وهو يشرب فلا يأمن الشرق وقد لا يروى وعلى هذا المعنى حمل الحديث الجمهور نظرًا إلى المعنى ولبقية الحديث وللنهي عن التنفس في الإناء في حديث أبي قتادة وحديث ابن عباس ولقوله في حديث أبي سعيد فأبن القدح إذًا ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق ومن باب النظافة وما كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأمر بشيء ثم لا يفعله وإن كان لا يستقذر منه وأهنأ وأمرأ من قوله تعالى ‏
{فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}‏‏.‏
ومعنى الحديث كان إذا شرب تنفس في الشراب من الإناء ثلاثًا‏.‏ ومعنى أروى أي أكثر ريًا وأبرأ مهموز أي أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد‏.‏ وأمرأ أي أكمل انسياغًا وقيل إذا نزل من المريء الذي في رأس المعدة إليها فيمرئ في الجسد منها وفي رواية لأبي داود بزيادة أهنأ وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنيء ويقال هنأني الطعام فهو هني أي لا إثم فيه ويحتمل أن يكون أهنأ في هذه الرواية بمعنى أروى‏.‏
قال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ وفي هذا الحديث إشارة إلى ما يدعى للشارب به عقب الشراب فيقال له عقب الشراب هنيئًا مريئًا وأما قولهم في الدعاء للشارب صحة بكسر الصاد فلم أجد له أصلا في السنة مسطورًا بل نقل لي بعض طلبة الدمشقيين عن بعض مشايخه أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال للتي شربت دمه أو بوله صحة فإن ثبت هذا فلا كلام انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلا يتنفس في الإناء‏"‏ النهي عن التنفس في الذي يشرب منه لئلا يخرج من الفم بزاق يستقذره من شرب بعده منه أو تحصل فيه رائحة كريهة تتعلق بالماء أو بالإناء وعلى هذا فإذا لم يتنفس في الإناء فليشرب في نفس واحد قاله عمر بن عبد العزيز وأجازه جماعة منهم ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومالك بن أنس وكره ذلك جماعة منهم ابن عباس ورواية

 

ج / 8 ص -193-       عكرمة وطاوس وقالوا هو شرب الشيطان‏.‏ والقول الأول أظهر لقوله في حديث الباب للذي قال له أنه لا يروى من نفس واحد‏:‏ أبن القدح عن فيك وظاهره أنه أباح له الشرب في نفس واحد إذا كان يروى منه وكما لا يتنفس في الإناء لا يتجشأ فيه بل ينحيه عن فيه مع الحمد للّه ويرده إلى فيه مع التسمية فيتنفس ثلاثًا يحمد اللّه في آخر كل نفس ويسمي اللّه في أوله‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو ينفخ فيه‏"‏ أي في الإناء الذي يشرب منه والإناء يشمل إناء الطعام والشراب فلا ينفخ في الإناء ليذهب ما في الماء من قذاة ونحوها فإنه لا يخلو النفخ غالبًا من بزاق يستقذر منه وكذا لا ينفخ في الإناء لتبريد الطعام الحار بل يصبر إلى أن يبرد كما تقدم ولا يأكله حارًا فإن البركة تذهب منه وهو شراب أهل النار‏.‏
5 - وعن أبي سعيد‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الشرب قائمًا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
6 - وعن قتادة عن أنس‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم زجر عن الشرب قائمًا قال قتادة‏:‏ فقلنا فالأكل قال‏:‏ ذاك شر وأخبث‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي‏.‏
7 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لا يشربن أحد منكم قائمًا فمن نسي فليستقيء‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏
8 - وعن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏شرب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قائمًا من زمزم‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
9 - وعن الإمام علي رضي اللّه عنه‏:‏ ‏"‏أنه في رحبة الكوفة شرب وهو قائم قال‏:‏ إن ناسًا يكرهون الشرب قائمًا وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صنع مثل ما صنعت‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏
10 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏كنا نأكل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
ظاهر النهي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن الشرب من قيام حرام ولا سيما بعد قوله‏:‏ ‏"‏فمن نسي فليستقيء‏"‏ فإنه يدل على التشديد في المنع والمبالغة في التحريم ولكن حديث ابن عباس وحديث علي يدلان على جواز ذلك ـ وفي الباب ـ أحاديث غير ما ذكره المصنف منها ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان عن أبي هريرة بلفظ‏:‏
‏"‏لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء‏"‏ ولأحمد من

 

ج / 8 ص -194-       وجه آخر عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم رأى رجلا يشرب قائمًا فقال‏:‏ قه قال‏:‏ لمه قال‏:‏ أيسرك أن يشرب معك الهر قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ قد شرب معك من هو شر منه الشيطان‏"‏ وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه رضي اللّه عنهما وأبو زياد لا يعرف اسمه وقد وثقه يحيى بن معين ومنها عند مسلم عن أنس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم زجر عن الشرب قائمًا‏"‏‏.‏
قال المازري‏:‏ اختلف الناس في هذا فذهب الجمهور إلى الجواز وكرهه قوم فقال بعض شيوخنا‏:‏ لعل النهي منصرف إلى من أتى أصحابه بماء فبادر بشربه قائمًا قبلهم استبدادًا به وخروجًا عن كون ساقي القوم آخرهم شربًا قال وأيضًا فإن الحديث تضمن المنع من الأكل قائمًا ولا خلاف في جواز الأكل قائمًا قال والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائمًا يدل على الجواز وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل قال‏:‏ ويحمل الأمر بالقيء على أن الشرب قائمًا يحرك خلطًا يكون القيء دواءه ويؤيده قول النخعي إنما نهى عن ذلك لداء البطن‏.‏ وقد تكلم عياض على أحاديث النهي وقال‏:‏ إن مسلمًا أخرج حديث أبي سعيد وحديث أنس من طريق قتادة وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث قال واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له‏.‏
وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يتحمل منه مثل هذا المخالفة غيره له والصحيح أنه موقوف انتهى ملخصًا قال النووي ما ملخصه‏:‏ هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها ولا وجه لإشاعة الغلطات بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعف بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه وشربه قائمًا لبيان الجواز وأما من زعم نسخًا أو غيره فقد غلط فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ وفعله صلى اللّه عليه وآله وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروهًا أصلًا فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات ويواظب على الأفضل والأمر بالاستقاء محمول على الاستحباب فيستحب لمن يشرب قائمًا أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب يحمل على الاستحباب وأما قول عياض لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائمًا ليس عليه أن يتقيأ وأشار به إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنع من الاستحباب فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوى والترهات‏.‏
قال الحافظ‏:‏ ليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو في كلام المازري كما مضى وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه قال فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسًا فيجاب عنه بأنه صرح في نفس هذا الحديث بما يقتضي السماع فإنه قال قلنا لأنس فالأكل الخ وأما تضعيف حديث أبي سعيد بأن أبا عباس غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة لكن وثقه الطبري وابن حبان ودعواه اضطرابه مردودة فقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما رواه أحمد

 

ج / 8 ص -195-       وابن حبان فالحديث بمجموع طرقه صحيح قال النووي والعراقي في شرح الترمذي‏:‏ إن قوله فمن نسي لا مفهوم له بل يستحب ذلك للعامد أيضًا بطريق الأولى وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبًا إلا نسيانًا قال القرطبي في المفهم‏:‏ لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان القول به جاريًا على أصول الظاهرية وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم وتمسك من لم يقل بالتحريم بالأحاديث المذكورة في الباب‏.‏
ـ وفي الباب ـ عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي‏.‏ وعن عبد اللّه بن أنيس أخرجه الطبراني‏.‏ وعن أنس أخرجه البزار والأثرم‏.‏ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في الأحكام‏.‏ وعن أم سليم أخرجه ابن شاهين‏.‏ وعن عبد اللّه بن السائب أخرجه ابن أبي حاتم وثبت الشرب قائمًا عن عمر أخرجه الطبري‏.‏
وفي الموطأ أن عمر وعثمان وعلي كانوا يشربون قيامًا وكان سعد وعائشة لا يريان بذلك بأسًا وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين‏.‏ وسلك العلماء في ذلك مسالك‏:‏
أحدها الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النفي وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال‏:‏ حديث أنس يعني في النهي جيد الإسناد ولكن قد جاء عنه خلافه يعني في الجواز قال‏:‏ ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في التثبت وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث‏.‏ ويروى عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ لا بأس بالشرب قائمًا‏.‏ قال‏:‏ فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست بثابتة وإلا لما قال لا بأس به قال‏:‏ ويدل على وهانة أحاديث النهي أيضًا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب أن يستقيء‏.‏
المسلك الثاني دعوى النسخ وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز وقد عكس ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكًا بأن الجواز على وفق الأصل‏.‏ وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم في حجة الوداع كما تقدم ذكره في حديث الباب عن ابن عباس وإذا كان ذلك الآخر من فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم دل على الجواز ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين‏.‏
المسلك الثالث الجمع بين الأخبار بضرب من التأويل قال أبو الفرج الثقفي‏:‏ المراد بالقيام هنا المشي يقال قمت في الأمر إذا مشيت فيه وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها ومنه قوله تعالى
‏{إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً}‏ أي مواظبًا بالمشي عليه وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها وسلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين قال الحافظ‏:‏ وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض وقد أشار الأثرم إلى ذلك آخرًا فقال‏:‏ إن ثبتت الكراهة حملت على

 

ج / 8 ص -196-       الإرشاد والتأديب لا على التحريم وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزًا ثم حرمه أو كان حرامًا ثم جوزه لبين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك بيانًا واضحًا فلما تعارضت الأخبار في ذلك جمعنا بينها بهذا‏.‏
وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به فإن الشرب قاعدًا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائمًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏شرب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قائمًا من زمزم‏"‏ وفي رواية لابن ماجه من وجه آخر عن عاصم فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبًا‏.‏
وعند أبي داود من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه لأن عمدة عكرمة في إنكاره كونه شرب قائمًا إنما هو ما ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائمًا كما حفظه الشعبي عن ابن عباس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في رحبة الكوفة‏"‏ الرحبة بفتح الراء المهملة وفتح الموحدة المكان المتسع والرحب بسكون المهملة المتسع أيضًا‏.‏ قال الجوهري‏:‏ ومنه أرض رحبة أي متسعة ورحبة المسجد بالتحريك وهي ساحته‏.‏ قال ابن التين‏:‏ فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك وهذا هو الصحيح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏صنع كما صنعت‏"‏ أي من الشرب قائمًا وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال شرب فضلة وضوئه قائمًا كما شربت‏.‏
11 - وعن ابن سعيد قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ وفي رواية‏:‏ "واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه‏".‏ أخرجاه‏.‏
12 - وعن أبي هريرة‏:‏
‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن يشرب من في السقاء‏"‏‏.‏ رواه البخاري وأحمد‏.‏ وزاد‏:‏ قال أيوب‏:‏ فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية‏.‏
13 - وعن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الشرب من في السقاء‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا مسلمًا‏.‏
14 - وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت‏:‏ ‏"‏دخل علي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فشرب من في قربة معلقة قائمًا فقمت إلى فيها فقطعته‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
15 - وعن أم سليم قالت‏:‏ ‏"‏دخل علي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي البيت

 

ج / 8 ص -197-       قربة معلقة فشرب منها وهو قائم فقطعت فاها فإنه لعندي‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
حديث أم سليم أخرجه أيضًا ابن شاهين والترمذي في الشمائل والطبراني والطحاوي في معاني الآثار ـ وفي الباب ـ عن عبد اللّه بن أنيس عند أبي داود والترمذي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عن اختناث الأسقية‏"‏ بالخاء المعجمة ثم المثناة من فوق بعدها نون وبعد الألف مثلثة افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة وهو في الأصل الانطواء والتكسر والانثناء‏.‏ والأسقية جمع سقاء والمراد به المتخذ من الأدم صغيرًا كان أو كبيرًا وقيل القربة قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة والسقاء لا يكون إلا صغيرًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏واختناثها‏"‏ الخ هو مدرج وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وزاد‏"‏ فقال أيوب الخ هذه الزيادة زادها أيضًا ابن أبي شيبة ولفظه‏:‏ ‏"‏شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه حيتان فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك‏"‏ وكذا أخرجه الإسماعيلي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من في السقاء‏"‏ قال النووي‏:‏ اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم كذا قال وفي الاتفاق نظر فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال لم يبلغني فيه نهي‏.‏
قال الحافظ‏:‏ لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى اللّه عليه وآله وسلم وأحاديث النهي كلها من قوله فهي أرجح وإذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى اللّه عليه وآله وسلم أما أولًا فلعصمته وطيب نكهته وأما دخول شيء في فم الشارب فهو يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء الذي يدخل فيه ثم ربطه ربطًا محكمًا ثم شرب منه لم يتناوله النهي‏.‏
وقد أخرج الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ‏:‏
‏"‏نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه‏"‏ وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصًا بمن يشرب فيتنفس داخل السقاء أو باشر بفمه باطن السقاء أما من صب من الفم إلى داخل فمه من غير مماسة فلا‏.‏ ومن جملة ما علل به النهي أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو يبل ثيابه‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ واحدة من هذه العلل تكفي في ثبوت الكراهة وبمجموعها تقوى الكراهة جدًا‏.‏
قال ابن أبي جمرة‏:‏ الذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم والعادة في مثل ذلك ترجيح ما يقتضي التحريم‏.‏
وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة‏.‏ وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولًا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز‏.‏
قال العراقي‏:‏ لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى هذا تحمل الأحاديث المذكورة وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي‏.‏
قال الحافظ‏:‏ ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة

 

ج / 8 ص -198-       كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقًا بل على تلك الصورة وحدها وحملها على حالة الضرورة جمعًا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ واللّه أعلم‏.‏
قال‏:‏ وقد سبق ابن العربي إلى ما أشار إليه العراقي فقال ويحتمل أن يكون شربه صلى اللّه عليه وآله وسلم في حال ضرورة إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لا يمكن تفريغ السقاء في الإناء ثم قال ويحتمل أن يكون شرب من أداوة والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام‏.‏
قال الحافظ‏:‏ والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها والضرر يحصل به ولو كان حقيرًا اهـ‏.‏
وقد عرفت أن كبشة وأم سليم صرحتا بأن ذلك كان في البيت وهو مظنة وجود الآنية وعلى فرض عدمها فأخذ القربة من مكانها وإنزالها والصب منها إلى الكفين أو أحدهما ممكن فدعوى أن تلك الحالة ضرورية لم يدل عليها دليل ولا شك أن الشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب مطلقًا ولكن لا فرق في تجويز العذر وعدمه بين المعلقة وغيرها وليست المعلقة مما يصاحبها العذر دون غيرها حتى يستدل بالشرب منها على اختصاصه بحال الضرورة وعلى كل حال فالدليل أخص من الدعوى فالأولى الجمع بين الأحاديث بحمل الكراهة على التنزيه ويكون شربه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيانًا للجواز‏.‏
16 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شرب لبنًا فمضمض وقال‏:‏
إن له دسمًا‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏
17 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال
الأيمن فالأيمن‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا النسائي‏.‏
18 - وعن سهل بن سعد‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام
أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال الغلام واللّه يا رسول اللّه لا آثرت بنصيبي منك أحدًا فتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في يده‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
19 - وعن أبي قتادة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
ساقي القوم آخرهم شربًا‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
حديث أبي قتادة أخرجه أيضًا أبو داود قال المنذري‏:‏ ورجال إسناده ثقات وقد أخرج مسلم في حديث أبي قتادة الأنصاري الطويل قلت لا أشرب حتى يشرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إن الساقي آخرهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فمضمض‏"‏ فيه مشروعية المضمضة بعد شراب اللبن‏.‏ وقد روى أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ‏:‏ ‏"‏تمضمضوا من شرب اللبن والعلة الدسومة

 

ج / 8 ص -199-       الكائنة في اللبن‏"‏ والتعليل بذلك يشعر بأن ما كان له دسومة من مأكول أو مشروب فإنه تشرع له المضمضة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏قد شيب بالماء‏"‏ أي مزج بالماء وإنما كانوا يمزجونه بالماء لأن اللبن يكون عند حلبه حارًا وتلك البلاد في الغالب حارة فكانوا يمزجونه بالماء لذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن‏"‏ يجوز أن يكون قوله الأيمن مبتدأ خبره محذوف أي الأيمن مقدم أو أحق ويجوز أن يكون منصوبًا على تقدير قدموا الأيمن أو أعطوا‏.‏ وفيه دليل على أنه يقدم من على يمين الشارب في الشرب وهلم جرا وهو مستحب عند الجمهور‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏ يجب ولا فرق بين شراب اللبن وغيره كما في حديث سهيل بن سعد وغيره ونقل عن مالك أنه خصه بالماء قال ابن عبد البر‏:‏ لا يصح عن مالك‏.‏ وقال عياض‏:‏ يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصًا في الماء خاصة وتقدم الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ كان اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل إنه لا يملك بخلاف سائر المشروبات ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه وهل يقطع في سرقته اهـ‏.‏ ولا يخفى أن حديث أنس نص في اللبن وحديث سهل بن سعد يعم الماء وغيره فتأويل قول مالك بأن السنة ثبتت في الماء لا يصح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أتأذن لي أن أعطي هؤلاء‏"‏ ظاهر في أنه لو أذن له لأعطاهم ويؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب‏.‏ وعبارة إمام الحرمين في هذا لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها وقد يقال أن القرب أعم من العبادة‏.‏
وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول ليصلي معه فإن خروج المجذوب من الصف الأول لقصد تحصيل فضيلة للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته ويمكن الجواب بأنه لا إيثار إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره وهذا لم يعط الجاذب شيئًا وإنما رجح مصلحته لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصوده ليس فيها إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فتله‏"‏ بفتح المثناة من فوق وتشديد اللام أي وضعه‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ وضعه بعنف‏.‏ وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي المرتفع ثم استعمل في كل شيء رمي به وفي كل إلقاء‏.‏ وقيل هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنق‏.‏ ومنه ‏
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}‏ أي صرعه فألقى عنقه وجعل جبينه إلى الأرض والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنف‏.‏ وظاهر هذا أن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه بل لمعنى من جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحًا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهة اليمين وقد يعارض حديث أنس وسهل المذكورين حديث سهل بن أبي حثمة الذي تقدم في القسامة بلفظ‏:‏ ‏"‏كبر كبر‏"‏ وكذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قوي قال‏:‏ ‏"‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا سقى قال‏:‏ ابدؤوا بالأكبر‏"‏ ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين إما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم أو خلفه‏.‏
قال ابن المنير‏:‏ يؤخذ من هذا الحديث أنها إذا تعارضت فضيلة الفاضل وفضيلة الوظيفة اعتبرت فضيلة الوظيفة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ساقي القوم آخرهم شربًا‏"‏ فيه دليل على أنه يشرع لمن تولى سقاية قوم أن يتأخر في

 

ج / 8 ص -200-       الشرب حتى يفرغوا عن آخرهم وفيه إشارة إلى أن كل من ولي من أمور المسلمين شيئًا يجب عليه تقديم إصلاحهم على ما يخص نفسه وأن يكون غرضه إصلاح حالهم وجر المنفعة إليهم ودفع المضار عنهم والنظر لهم في دق أمورهم وجلها وتقديم مصلحتهم على مصلحته‏.‏ وكذا من يفرق على القوم فاكهة فيبدأ بسقي كبير القوم أو بمن عن يمينه إلى آخرهم وما بقي شربه ولا معارضة بين هذا الحديث وحديث ابدأ بنفسك لأن ذاك عام وهذا خاص فيبنى العام على الخاص‏.‏

أبواب الطب
باب إباحة التداوي وتركه

1 - عن أسامة بن شريك قال‏:‏ ‏"‏جاء أعرابي فقال‏:‏ يا رسول اللّه أنتداوى قال‏:‏
نعم فإن اللّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏قالت الأعراب يا رسول اللّه ألا نتداوى قال‏:‏ نعم عباد اللّه تداووا فإن اللّه لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داءًا واحدًا قالوا‏:‏ يا رسول اللّه وما هو قال‏:‏ الهرم‏"‏ رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
2 - وعن جابر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن اللّه تعالى‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
3 - وعن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن اللّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
4 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
ما أنزل اللّه من داء إلا أنزل له شفاء‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري وابن ماجه‏.‏
5 - وعن أبي خزامة قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئًا قال‏:‏
هي من قدر اللّه‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث‏.‏
6 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون‏"‏‏.

 

 

ج / 8 ص -201-       7 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن امرأة سوداء أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت‏:‏ إني أصرع وإني أتكشف فادع اللّه لي قال‏:‏ إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت اللّه أن يعافيك فقالت‏:‏ أصبر وقالت‏:‏ إني أتكشف فادع اللّه أن لا أتكشف فدعا لها‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏ حديث أسامة أخرجه أيضًا النسائي والبخاري في الأدب المفرد وصححه أيضًا ابن خزيمة والحاكم‏.‏ وحديث ابن مسعود أخرجه أيضًا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم‏.‏
وحديث أبي خزامة وهو بمعجمة مكسورة وزاي خفيفة أخرجه أيضًا الترمذي من طريقين إحداهما عن ابن أبي عمر عن سفيان عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه والثانية عن سعيد بن عبد الرحمن عن سفيان عن الزهري عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال‏:‏ وقد روي عن ابن عيينة كلتا الروايتين وقال بعضهم عن أبي خزامة عن أبيه وقال بعضهم عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال وقد روى هذا الحديث غير ابن عيينة عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه وهذا أصح ولا يعرف لأبي خزامة عن أبيه غير هذا الحديث اهـ كلامه وقد صرح بأنه حديث حسن وهو كما قال‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن اللّه لم ينزل داء‏"‏ المراد بالإنزال إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مثلا أو المراد به التقدير‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏عباد اللّه تداووا‏"‏ لفظ الترمذي قال نعم يا عباد اللّه تداووا والداء والدواء كلاهما بفتح الدال المهملة بالمد وحكى كسر دال الدواء‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والهرم‏"‏ استثناه لكونه شبيهًا بالموت والجامع بينهما تقضي الصحة أو لقربه من الموت أو إفضائه إليه ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاُ والتقدير لكن الهرم لا دواء له وفي لفظ‏:‏ إلا السام بمهملة مخففًا وهو الموت ولعل التقدير إلا داء السام أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏علمه من علمه‏"‏ فيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمه كل واحد‏.‏
ـ وفي أحاديث الباب ـ كلها إثبات الأسباب وأن ذلك لا ينافي التوكل على اللّه لمن اعتقد أنها بإذن اللّه وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره اللّه فيها وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر اللّه ذلك وإليه الإشارة في حديث جابر حيث قال بإذن اللّه فمدار ذلك كله على تقدير اللّه وإرادته والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بالعافية ودفع المضار وغير ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وجهله من جهله‏"‏ فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن كان به داء قد اعترف الأطباء بأنه لا دواء له وأقروا بالعجز عنه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏رقى نسترقيها‏"‏ الخ سيأتي الكلام على الرقية‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وتقاة نتقيها‏"‏ أي ما نتقي به ما يرد علينا من الأمور التي لا نريد وقوعها بنا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏قال هي من قدر اللّه‏"‏ أي لا مخالفة بينهما لأن اللّه هو الذي خلق تلك الأسباب وجعل لها خاصية في الشفاء‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لا يسترقون‏"‏ الخ سيأتي الكلام على الرقية والكي‏.‏ وأما التطير فهو من الطيرة بكسر الطاء المهملة وفتح المثناة التحتية وقد تسكن وهي التشاؤم بالشي وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه ـ والأحاديث ـ في الطيرة

 

ج / 8 ص -202-       متعارضة وقد وضعت فيها رسالة مستقلة‏.‏ وقد استدل بهذا الحديث والذي بعده على أنه يكره التداوي وأجيب عن ذلك بأجوبة قال النووي‏:‏ لا مخالفة بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتي بغير العربية وما لا يعرف معناه فهذه مذمومة لاحتمال أن معناه كفر أو قريب منه أو مكروه وأما الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن الواردة في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل وفي فعل الرقى لبيان الجواز مع أن تركها أفضل وبهذا قال ابن عبد البر وحكاه عمن حكاه والمختار الأول وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار اللّه تبارك وتعالى‏.‏
قال المازري‏:‏ جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب اللّه أو بذكره ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر وقال الطبري والمازري وطائفة‏:‏ إنه محمول على من يعتقد أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون‏.‏
قال عياض‏:‏ الحديث يدل على أن للسبعين ألفًا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن يشاركهم في أصل الفضل والديانة ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى أهل الجاهلية ونحوها فليس مسلمًا فلم يسلم هذا الجواب وأجاب الداودي وطائفة أن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء فلا‏.‏ وأجاب الحليمي بأنه يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام باللّه والرضا بقضائه فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يخشون من ذلك شيئًا وأجاب الخطابي ومن تبعه بأن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على اللّه في دفع الداء والرضا بقدره لا القدح في جواز ذلك وثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة‏.‏ وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب‏.‏
قال ابن الأثير‏:‏ هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها وهؤلاء هم خواص الأولياء ولا يرد عليه وقوع مثل ذلك من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فعلا وأمرًا لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز ومع ذلك فلا ينقص من توكله لأنه كان كامل التوكل يقينًا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئًا بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل فكان من ترك الأسباب وفوض وأخلص أرفع مقامًا قال الطبري‏:‏ قيل لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي ولا يسعى في طلب رزقه ولا في مداواة ألم‏.‏ والحق من وثق باللّه وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب إتباعًا لسنته وسنة رسوله فقد ظاهر صلى اللّه عليه وآله وسلم بين درعين ولبس على رأسه المغفر وأقعد الرماة على فم الشعب وخندق حول المدينة وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو كان أحق الخلق

 

ج / 8 ص -203-       أن يحصل له ذلك وقال للذي سأله أيعقل ناقته أو يتوكل اعقلها وتوكل فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فقالت إني أصرع‏"‏ الصرع نعوذ باللّه منه علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن استعمالها منعًا غير تام وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء وقد يتبعه تشنج في الأعضاء ويقذف المصروع بالزبد لغلظ الرطوبة وقد يكون الصرع من الجن ويقع من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه والثاني يجحده كثير منهم وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاج إلا بجذب الأرواح الخيرة العلوية لدفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطيل أفعالها وممن نص على ذلك بقراط فقال بعد ذكر علاج المصروع إنما ينفع في الذي سببه أخلاط وأما الذي يكون من الأرواح فلا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإني أتكشف‏"‏ بمثناة من فوق وتشديد الشين المعجمة من التكشف وبالنون الساكنة المخففة من الانكشاف والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر‏.‏ وفيه أن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة وفيه دليل على جواز ترك التداوي وأن التداوي بالدعاء مع الالتجاء إلى اللّه أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير ولكن إنما ينجع بأمرين أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد والآخر من جهة المداوي وهو توجه قلبه إلى اللّه وقوته بالتقوى والتوكل على اللّه تعالى‏.‏

باب ما جاء بالتداوي بالمحرمات
1 - عن وائل بن حجر‏:‏ ‏"‏أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه عنها فقال‏:‏ إنما أصنعها للدواء قال‏:‏
إنه ليس بدواء ولكنه داء‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏
2 - وعن أبي الدرداء قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن اللّه أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وقال ابن مسعود في المسكر‏:‏ ‏"‏إن اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم‏"‏ ذكره البخاري‏.‏
3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏
"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الدواء الخبيث يعني السم‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي‏.‏
وقال الزهري في أبوال الإبل‏:‏ ‏"‏قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بها بأسًا‏"‏ رواه البخاري‏.‏

 

ج / 8 ص -204-       حديث أبي الدرداء في إسناده إسماعيل بن عياش قال المنذري‏:‏ وفيه مقال انتهى‏.‏ وقد عرفت غير مرة أنه إذا حدث عن أهل الشام فهو ثقة وإنما يضعف في الحجازيين وهو ههنا حدث عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي وهو شامي ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي عمران الأنصاري مولى أم الدرداء وقائدها وهو أيضًا شامي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ليس بدواء ولكنه داء‏"‏ فيه التصريح بأن الخمر ليست بدواء فيحرم التداوي بها كما يحرم شربها وكذلك سائر الأمور النجسة أو المحرمة وإليه ذهب الجمهور‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا تتداووا بحرام‏"‏ أي لا يجوز التداوي بما حرمه اللّه من النجاسات وغيرها مما حرمه اللّه ولو لم يكن نجسًا‏.‏
قال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ والصحيح من مذهبنا يعني الشافعية جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر لحديث العرنيين في الصحيحين حيث أمرهم صلى اللّه عليه وآله وسلم بالشراب من أبوال الإبل للتداوي قال ـ وحديث الباب ـ محمول على عدم الحاجة بأن يكون هناك دواء غيره يغني عنه ويقوم مقامه من الطاهرات‏.‏ قال البيهقي‏:‏ هذان الحديثان إن صحا محمولان على النهي عن التداوي بالمسكر والتداوي بالحرام من غير ضرورة ليجمع بينهما وبين حديث العرنيين انتهى‏.‏ ولا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف فإن أبوال الإبل الخصم يمنع اتصافها بكونها حرامًا أو نجسًا وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العام وهو تحريم التداوي بالحرام وبين الخاص وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل بأن يقال يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل هذا هو القانون الأصولي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عن الدواء الخبيث‏"‏ ظاهره تحريم التداوي بكل خبيث والتفسير بالسم مدرج لا حجة فيه ولا ريب أن الحرام والنجس خبيثان‏.‏ قال الماوردي وغيره‏:‏ السموم على أربع أضرب منها ما يقتل كثيره وقليله فأكله حرام للتداوي ولغيره لقوله تعالى ‏
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}‏ ومنها ما يقتل كثيره دون قليله فأكل كثيره الذي يقتل حرام للتداوي وغيره والقليل منه إن كان مما ينفع في التداوي جاز أكله تداويًا ومنها ما يقتل في الأغلب وقد يجوز أن لا يقتل فحكمه كما قبله ومنها ما لا يقتل في الأغلب وقد يجوز أن يقتل فذكر الشافعي في موضع إباحة أكله وفي موضع تحريم أكله فجعله بعض أصحابه على حالين فحيث أباح أكله فهو إذا كان للتداوي وحيث حرم أكله فهو إذا كان غير منتفع به في التداوي‏.‏

باب ما جاء في الكي
1 - عن جابر قال‏:‏
‏"‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
2 - وعن جابر أيضًا‏:‏
‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه ومسلم بمعناه‏.‏

 

ج / 8 ص -205-       3 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏
4 - وعن المغيرة بن شعبة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏
من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
5 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنهى أمتي عن الكي‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري وابن ماجه‏.‏
6 - وعن عمران بن حصين‏:‏ ‏
"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحن ولا نجعن‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي وقال فما أفلحنا ولا أنجعنا‏.‏ حديث أنس أخرجه الترمذي من طريق حميد بن مسعدة حدثنا بريدة بن زريع أخبرنا معمر عن الزهري عن أنس وإسناده حسن كما قال‏.‏ وحديث المغيرة صححه أيضًا ابن حبان والحاكم‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فقطع منه عرقًا‏"‏ استدل بذلك على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده قال ابن رسلان‏:‏ وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق‏.‏
وقد روى ابن عدي في الكامل من حديث عبد اللّه بن جواد قطع العروق مسقمة كما في الترمذي وابن ماجه ترك العشاء مهرمة وإنما كواه بعد القطع لينقطع الدم الخارج من العرق المقطوع‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏كوى سعد بن معاذ‏"‏ الكي هو أن يحمي حديد ويوضع على عضو معلول ليحرق ويحبس دمه ولا يخرج أو لينقطع العرق الذي خرج منه الدم‏.‏
وقد جاء النهي عن الكي وجاءت الرخصة فيه والرخصة لسعد لبيان جوازه حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر لأن الكي فيه تعذيب بالنار ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار وهو اللّه تعالى ولأن الكي يبقى منه أثر فاحش وهذان نوعان من أنواع الكي الأربعة وهما النهي عن الفعل وجوازه والثالث الثناء على من تركه كحديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة وقد تقدم والرابع عدم محبته كحديث الصحيحين‏:‏
‏"‏وما أحب أن أكتوى‏"‏ فعدم محبته يدل على أن الأولى عدم فعله والثناء على تركه يدل على أن تركه أولى فتبين أنه لا تعارض بين

 

ج / 8 ص -206-       الأربعة‏.‏ قال الشيخ أبو محمد بن حمزة‏:‏ علم من مجموع كلامه في الكي أن فيه نفعًا وأن فيه مضرة فلما نهى عنه علم أن جانب المضرة فيه أغلب وقريب منه إخبار اللّه تعالى أن في الخمر منافع ثم حرمها لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع انتهى ملخصًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من الشوكة‏"‏ هي داء معروف كما في القاموس‏.‏ قال في النهاية‏:‏ هي حمرة تعلو الوجه والجسد يقال منه شيك فهو مشوك وكذلك إذا دخل في جسمه شوكة ومنه الحديث إذا شيك فلا انتقش أي إذا شاكته فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالنقاش‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فقد برئ من التوكل‏"‏ قال في الهدى‏:‏ أحاديث الكي التي في هذا الباب قد تضمنت أربعة أشياء أحدها فعله‏.‏ ثانيها عدم محبته‏.‏ ثالثها الثناء على من تركه‏.‏ رابعها النهي عنه‏.‏ ولا تعارض فيها بحمد اللّه فإن فعله يدل على جوازه وعدم محبته لا يدل على المنع منه والثناء على تاركيه يدل على أن تركه أفضل والنهي عنه إما على سبيل الاختيار من دون علة أو عن النوع الذي يحتاج معه إلى كي انتهى‏.‏ وقيل الجمع بين هذه الأحاديث أن المنهي عنه هو الاكتواء ابتداء قبل حدوث العلة كما يفعله الأعاجم والمباح هو الاكتواء بعد حدوث العلة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في شرطة محجم‏"‏ بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أو شربة عسل‏"‏ قال في الفتح‏:‏ العسل يذكر ويؤنث وأسماؤه تزيد على المائة وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا يجلي الأوساخ التي في العروق والأمعاء ويدفع الفضلات ويغسل المعدة ويسخنها تسخينًا معتدلا ويفتح أفواه العروق ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية وفيه حفظ للمعجونات وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة وتنقية للكبد والصدر وإدرار البول والطمس وينفع للسعال الكائن من البلغم والأمزجة الباردة وإذا أضيف إليه الخل نفع أصحاب الصفراء ثم هو غذاء من الأغذية ودواء من الأدوية وشراب من الأشربة وحلوًا من الحلاوات وطلاء من الأطلية ومفرح من المفرحات ومن منافعه أنه إذا شرب حارًا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب الكلب وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذا الخيار والقرع والباذنجان والليمون ونحو ذلك وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها وهو عجيب في حفظ جثة الموتى فلا يسرع إليها البلا وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة ولم يكن يعول قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه ولا ذكر للسكر في أكثر كتبهم أصلا‏.‏
وقد أخرج أبو نعيم في الطب النبوي بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر رفعه‏:‏
‏"‏من لعق العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأنهى أمتي عن الكي‏"‏ قال النووي‏:‏ هذا الحديث من بديع الطب عند أهله لأن الأمراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وإن كانت من الثلاثة الباقية

 

ج / 8 ص -207-       فشفاؤها بالإسهال بالمسهل اللائق بكل خلط منها فكأنه نبه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالعسل على المسهلات وبالحجامة على إخراج الدم بها وبالفصد ووضع العلق وما في معناها وذكر الكي لأنه يستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها فآخر الطب الكي والنهي عنه إشارة إلى تأخير العلاج بالكي حتى يضطر إليه لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏نهى عن الكي فاكتويتا‏"‏ قال ابن رسلان‏:‏ هذه الرواية فيها إشارة إلى أنه يباح عند الضرورة بالابتلاء بالأمراض المزمنة التي لا ينجع فيها إلا الكي ويخاف الهلاك عند تركه ألا تراه كوى سعدًا لما لم ينقطع الدم من جرحه وخاف عليه الهلاك من كثرة خروجه كما يكوى من تقطع يده أو رجله ونهى عمران بن حصين عن الكي لأنه كان به باسور وكان موضعه خطرًا فنهاه عن كيه فتعين أن يكون خاصًا بمن به مرض مخوف ولأن العرب كانوا يرون أن الشافي لما لا شفاء له بالدواء هو الكي ويعتقدون أن من لم يكتو هلك فنهاهم عنه لأجل هذه النية فإن اللّه تعالى هو الشافي‏.‏
قال ابن قتيبة‏:‏ الكي جنسان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه والثاني كي الجرح إذا لم ينقطع دمه بإحراق ولا غيره والعضو إذا قطع ففي هذا الشفاء بتقدير اللّه وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجح ويجوز أن لا ينجح فإنه إلى الكراهة أقرب‏.‏ وقد تضمنت ‏"‏أحاديث الكي‏"‏ أربعة أنواع كما تقدم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فما أفلحن ولا أنجحن‏"‏ هكذا الرواية الصحيحة بنون الإناث فيهما يعني تلك الكيات التي اكتويناهن وخالفنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في فعلهن وكيف يفلح أو ينجح شيء خولف فيه صاحب الشريعة وعلى هذا فالتقدير فاكتوينا كيات لأوجاع فما أفلحن ولا أنجحن وهو أولى من أن يكون المحذوف الفاعل على تقدير فما أفلحن الكيات ولا أنجحن لأن حذف المفعول الذي هو فضلة أقوى من حذف الفاعل الذي هو عمدة ورواية الترمذي كما ذكره المصنف رحمه اللّه فيكون الفلاح والنجاح مسندًا فيها إلى المتكلم ومن معه‏.‏ وفي رواية لابن ماجه‏:‏
‏"‏فما أفلحت ولا أنجحت‏"‏ بسكون تاء التأنيث بعد الحاء المفتوحة‏.‏

باب ما جاء في الحجامة وأوقاتها
1 - عن جابر قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة نار توافق الداء وما أحب أن أكتوى‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن قتادة عن أنس قال‏:‏
‏"‏كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏

 

ج / 8 ص -208-       3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
4 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏
5 - وعن أبي بكرة‏:‏ ‏"‏أنه كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء ويزعم عن رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
أن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
6 - وروي عن معقل بن يسار قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
الجحامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة‏"‏‏.‏ رواه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وليس إسناده بذاك‏.‏
7 - وروى الزهري‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من احتجم يوم السبت أو يوم الأربعاء فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏ ذكره أحمد واحتج به‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وقد أسند ولا يصح وكره إسحاق بن راهويه الحجامة يوم الجمعة والأربعاء والثلاثاء إلا إذا كان يوم الثلاثاء سبع عشرة من الشهر أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين‏.‏
حديث أنس أخرجه أيضًا ابن ماجه من وجه آخر وسنده ضعيف‏.‏ والطريق التي رواها الترمذي منها هي ما في سننه قال حدثنا عبد القدوس بن محمد حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام وجرير بن حازم قالا حدثنا قتادة عن أنس فذكره وقال النووي عند الكلام على هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه الحاكم أيضًا ولكن ليس في حديث أبي داود المذكور الزيادة وهي قوله وكان يحتجم لسبع عشرة الخ‏.‏
وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن عوف الجمحي عن سهيل بن أبي صالح وسعيد وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه وله شاهد مذكور في الباب بعده‏.‏
وحديث ابن عباس أخرجه أيضًا أحمد قال الحافظ‏:‏ ورجاله ثقات لكنه معلول انتهى‏.‏ وإسناده في سنن الترمذي هكذا حدثنا عبد بن حميد أخبره النضر بن شميل حدثنا عباد بن منصور قال سمعت عكرمة فذكره‏.‏
وحديث أبي بكرة في إسناده أبو بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة قال يحيى بن معين‏:‏

 

ج / 8 ص -209-       ضعيف ليس حديثه بشيء‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ أرجو أنه لا بأس به وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم‏.‏
وحديث معقل بن يسار أشار إليه الترمذي وقد ضعف المصنف إسناده ولكن شهد له ما قبله وقد أخرجه أيضًا رزين ـ وفي الباب ـ عن ابن عمر عند ابن ماجه رفعه في أثناء حديث وفيه ‏
"‏فاحتجموا على بركة اللّه يوم الخميس واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد‏"‏ أخرجه من طريقين ضعيفتين وله طريق ثالثة ضعيفة أيضًا عند الدارقطني في الأفراد وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفًا‏.‏
ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة وإن كان الحديث لم يثبت‏.‏ وحكى أن رجلا احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص لكونه تهاون بالحديث قال في الفتح‏:‏ ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن إسحاق كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت‏.‏
ـ ومن أحاديث الباب ـ في الحجامة حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
إن كان في شيء مما تداويتم به خير فالحجامة‏"‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه‏.‏ وعن سلمى خادمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قالت‏:‏ ‏"‏ما كان أحد يشتكي إلى رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وجعًا في رأسه إلا قال‏:‏ احتجم ولا وجعًا في رجليه إلا قال‏:‏ اخضبهما‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث غريب إنما يعرف من حديث قائد‏.‏ وقائد هذا هو مولى عبيد اللّه بن علي بن أبي رافع وثقه يحيى بن معين وقال أحمد وأبو حاتم الرازي‏:‏ لا بأس به وفي إسناده أيضًا عبيد اللّه بن علي بن أبي رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏ قال ابن معين‏:‏ لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ لا يحتج بحديثه وقد أخرجه الترمذي من حديث علي بن عبيد اللّه عن جدته وقال وعبيد اللّه بن علي أصح وقال غيره‏:‏ علي بن عبيد اللّه بن أبي رافع لا يعرف بحال ولم يذكره أحد من الأئمة في كتاب وذكر بعده حديث عبيد اللّه بن علي بن أبي رافع هذا الذي ذكرناه وقال فانظر في اختلاف إسناده وتغير لفظه هل يجوز لمن يدعي السنة أو ينسب إلى العلم أن يحتج بهذا الحديث على هذا الحال ويتخذه سنة وحجة في خضاب اليد والرجل‏.‏ وعن جابر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم احتجم على وركيه من وثء كان به‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي والوثء بالمثلثة الوجع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو لذعة بنار‏"‏ بذال معجمة ساكنة وعين مهملة‏.‏ اللذع هو الخفيف من حرق النار‏.‏ وأما اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة فهو ضرب أو عض ذات السم‏.‏ وقد تقدم الكلام على حديث جابر هذا قريبًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في الأخدعين‏"‏ قال أهل اللغة‏:‏ الأخدعان عرقان في جانبي العنق بحجم منه والكاهل ما بين الكتفين وهو مقدم الظهر‏.‏
قال ابن القيم في الهدى‏:‏ الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف إذا كان حدوث ذلك من كثرة الدم أو فساده أو منهما جميعًا قال‏:‏ والحجامة لأهل الحجاز والبلاد الحارة لأن دماءهم رقيقة وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد ولأن مسام أبدانهم واسعة

 

ج / 8 ص -210-       ففي الفصد لهم خطر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏كان شفاء من كل داء‏"‏ هذا من العام المراد به الخصوص والمراد كان شفاء من كل داء سببه غلبة الدم‏.‏ وهذا الحديث موافق لما أجمعت عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر أنفع مما قبله وفي الربع الرابع أنفع مما قبله‏.‏
قال صاحب القانون‏:‏ أوقاتها في النهار الساعة الثانية أو الثالثة وتكره عندهم الحجامة على الشبع فربما أورثت سددًا وأمراضًا رديئة لا سيما إذا كان الغذاء رديئًا غليظًا والحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الاحتراز من الأذى وحفظًا للصحة وأما في مداواة الأمراض فحيثما وجد الاحتياج إليها وجب استعمالها‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أن يوم الثلاثاء يوم الدم‏"‏ أي يوم يكثر فيه الدم في الجسم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وفيه ساعة لا يرقأ‏"‏ بهمز آخره أي لا ينقطع فيها دم من احتجم أو افتصد أو لا يسكن وربما يهلك الإنسان فيها بسبب عدم انقطاع الدم وأخفيت هذه الساعة لتترك الحجامة في هذه اليوم خوفًا من مصادفة تلك الساعة كما أخفيت ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر ليجتهد المتعبد في جميع أوتاره ليصادف ليلة القدر وكما أخفيت ساعة الإجابة في يوم الجمعة‏.‏ وفي رواية رواها رزين‏:‏
‏"‏لا تفتحوا الدم في سلطانه ولا تستعملوا الحديد في يوم سلطانه‏"‏ وزاد أيضًا‏:‏ ‏"‏إذا صادف يوم سبع عشرة يوم الثلاثاء كان دواء السنة لمن احتجم‏"‏ فيه وفي الحجامة منافع‏.‏
قال في الفتح‏:‏ والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق وتنوب عن فصد القيفال والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم وتنقي الرأس والحجامة على القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق تحت الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الظهر ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادف وقت الاحتياج إليه والحجامة على المعدة تنفع الأمعاء وفساد الحيض انتهى‏.‏
قال أهل العلم بالفصد فصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك وفصد الأكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويًا ولا سيما إن كان قد فسد وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد وفصد الودجين لوجع الطحال والربو‏.‏
قال أهل المعرفة‏:‏ إن المخاطب بأحاديث الحجامة غير الشيوخ لقلة الحرارة في أبدانهم‏.‏
وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن سيرين قال‏:‏ إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم قال الطبري‏:‏ وذلك لأنه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قوة جسده فلا ينبغي أن يزيده وهنًا بإخراج الدم انتهى‏.‏ وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه وعلى من لم يعتده وقد قال ابن سينا في أرجوزته‏:‏
ومن يكن تعود الفصادة ** فلا يكن يقطع تلك العاده

 

ج / 8 ص -211-       ثم أشار إلى أنه يقلل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملة في عشر الثمانين‏.‏ وقال ابن سينا في أبيات أخرى‏:‏
ووفر على الجسم الدماء فإنها ** لصحة جسم من أجل الدعائم
قال الموفق البغدادي بعد أن ذكر أن الحجامة في نصف الشهر الآخر ثم في ربعه الرابع أنفع من أوله وآخره وذلك أن الأخلاط في أول الشهر وفي آخره تسكن فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه‏.‏
ـ والحاصل ـ أن أحاديث التوقيت وإن لم يكن شيء منها على شرط الصحيح إلا أن المحكوم عليه بعدم الصحة إنما هو في ظاهر الأمر لا في الواقع فيمكن أن يكون الصحيح ضعيفًا والضعيف صحيحًا لأن الكذوب قد يصدق والصدوق قد يكذب فاجتناب ما أرشد الحديث الضعيف إلى اجتنابه وإتباع ما أرشد إلى إتباعه من مثل هذه الأمور ينبغي لكل عارف وإنما الممنوع إثبات الأحكام التكليفية أو الوضعية أو نفيها بما هو كذلك‏.

باب ما جاء في الرقى والتمائم
1 - عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
إن الرقى والتمائم والتولة شرك‏"‏‏.‏
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏ والتولة ضرب من السحر‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ هو تحبيب المرأة إلى زوجها‏.‏
2 - وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
من تعلق تميمة فلا أتم اللّه له ومن تعلق ودعة فلا ودع اللّه له‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
3 - وعن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
ما أبالي ما ركبت أو ما أتيت إذا أنا شربت ترياقًا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود وقال هذا كان للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خاصة وقد رخص فيه قوم يعني الترياق‏.‏
4 - وعن أنس قال‏:‏
‏"‏رخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه‏.‏ والنملة قروح تخرج في الجنب‏.‏
5 - وعن الشفا بنت عبد اللّه قالت‏:‏ ‏"‏دخل علي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي
ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وهو دليل على جواز تعليم النساء الكتابة‏.‏
6 - وعن عوف بن مالك قال‏:‏ ‏"‏كنا نرقى في الجاهلية فقلنا

 

ج / 8 ص -212-       يا رسول اللّه كيف ترى في ذلك فقال‏:‏ اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك‏"‏‏.‏ رواه مسلم وأبو داود‏.‏
7 - وعن جابر قال‏:‏
‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا يا رسول اللّه إنها كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال فعرضوها عليه فقال‏:‏ ما أرى بأسًا فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏
8 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏
"‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها أعظم بركة من يدي‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
حديث ابن مسعود أخرجه أيضًا الحاكم وصححه‏.‏ وصححه أيضًا ابن حبان وهو من رواية ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود‏.‏ قال المنذري‏:‏ والراوي عن زينب مجهول‏.‏ وحديث عقبة بن عامر قال في مجمع الزوائد أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات انتهى‏.‏ وحديث عبد اللّه بن عمرو في إسناده عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي أفريقية قال البخاري‏:‏ في حديثه مناكير‏.‏ وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه نحو هذا‏.‏
وحديث الشفا سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي وهو ثقة‏.‏ وقد أخرجه النسائي عن إبراهيم بن يعقوب عن علي بن المدني عن محمد بن بشر ثم بإسناد أبي داود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن الرقى‏"‏ بضم الراء وتخفيف القاف مع القصر جمع رقية كدمى جمع دمية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والتمائم‏"‏ جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يمنعون بها العين في زعمهم فأبطله الإسلام‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والتولة‏"‏ بكسر التاء المثناة فوق وبفتح الواو المخففة‏.‏ قال الخليل‏:‏ التولة بكسر التاء وضمها شبيه بالسحر‏.‏ وقد جاء تفسير التولة عن ابن مسعود كما أخرجه الحاكم وابن حبان وصححاه أنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء معقود فجذبه فقطعه ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
إن الرقى والتمائم والتولة شرك قالوا يا أبا عبد اللّه هذه التمائم والرقى عرفناها فما التولة قال‏:‏ شيء يصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن يعني من السحر‏.‏ قيل هي خيط يقرأ فيه السحر أو قرطاس يكتب فيه شيء منه يتحبب به النساء إلى قلوب الرجال أو الرجال إلى قلوب النساء فأما ما تحبب به المرأة إلى زوجها من كلام مباح كما يسمى الغنج وكما تلبسه للزينة أو تطعمه من عقار مباح أكله أو أجزاء حيوان مأكول مما يعتقد أنه سبب إلى محبة زوجها لما أودع اللّه تعالى فيه من الخصيصة بتقدير اللّه لا أنه يفعل ذلك بذاته‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ فالظاهر أن هذا جائز لا أعرف الآن ما يمنعه في الشرع‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏شرك‏"‏ جعل

 

ج / 8 ص -213-       هذه الثلاثة من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر بنفسه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلا أتم اللّه له‏"‏ فيه الدعاء على من اعتقد في التمائم وعلقها على نفسه بضد قصده وهو عدم التمام لما قصده من التعليق‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏فلا ودع اللّه له‏"‏ فإنه دعاء على من فعل ذلك‏.‏ وودع ماضي يدع مثل وذر ماضي يذر‏.‏ قوله ‏"‏أو ما أتيت‏"‏ بفتح الهمزة والتاء الأولى أي لا أكترث بشيء من أمر ديني ولا أهتم بما فعلته إن أنا فعلت هذه الثلاثة أو شيئًا منها وهذه مبالغة عظيمة وتهديد شديد في فعل شيء من هذه الثلاثة أي من فعل شيئًا منها فهو غير مكترث بما يفعله ولا يبالي به هل هو حرام أو حلال وهذا وإن أضافه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى نفسه فالمراد به إعلام غيره بالحكم‏.‏ وقد سئل عن تعليق التمائم فقال ذلك شرك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ترياقًا‏"‏ بالتاء أو الدال أو الطاء في أوله مكسورات أو مضمومات فهذه ست لغات أرجحهن بمثناة مكسورة رومي معرب‏.‏ والمراد به هنا ما كان مختلطًا بلحوم الأفاعي يطرح منها رأسها وأذنابها ويستعمل أوساطها في الترياق وهو محرم لأنه نجس وإن اتخذ الترياق من أشياء طاهرة فهو طاهر لا بأس بأكله وشربه ورخص مالك فيما فيه شيء من لحوم الأفاعي لأنه يرى إباحة لحوم الحيات وأما إذا كان الترياق نباتًا أو حجرًا فلا مانع منه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو قلت الشعر من قبل نفسي‏"‏ أي من جهة نفسي فخرج به ما قاله لا عن نفسه بل حاكيًا له عن غيره كما في الصحيح‏:‏
‏"‏خير كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‏"‏ ويخرج منه أيضًا ما قاله لا على قصد الشعر فجاء موزونًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كان للنبي خاصة‏"‏ يعني وأما في حق الأمة فالتمائم وإنشاء الشعر غير حرام‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في الرقية من العين‏"‏ أي من إصابة العين‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏والحمة‏"‏ بضم الحاء المهملة وفتح الميم المخففة وأصلها حمو أو حمى بوزن صرد والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة أو الياء مثل سمة من الوسم وهذا على تخفيف الميم أما من شدد فالأصل عنده حممة ثم أدغم كما في الحديث‏:‏
‏"‏العالم مثل الحمة‏"‏ وهي عين ماء حار ببلاد الشام يستشفي بها المرضى وأنكر الأزهري تشديد الميم والمراد بالحمة السم من ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور ونحوهما حمة لأن السم يخرج منها فهو من المجاز والعلاقة المجاورة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ألا تعلمين‏"‏ بضم أوله وتشديد اللام المكسورة هذه يعني حفصة رقية النملة بفتح النون وكسر الميم وهي قروح تخرج من الجنب أو الجنبين ورقية النملة كلام كانت نساء العرب تستعمله يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع‏.‏ ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شيء يفتعل غير أن لا تعصي الرجل فأراد صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضًا لأنه ألقى إليها سرًا فأفشته على ما شهد به التنزيل في قوله تعالى ‏
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ‏}‏ الآية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كما علمتها الكتابة‏"‏ فيه دليل على جواز تعلم النساء الكتابة وأما حديث‏:‏ ‏
"‏لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف وعلموهن سورة النور‏"‏ فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد‏.‏ قوله‏:‏ لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شيء من الشرك المحرم وفيه دليل على جواز الرقى

 

ج / 8 ص -214-       والتطيب بما لا ضرر فيه ولا منع من جهة الشرع وإن كان بغير أسماء اللّه وكلامه لكن إذا كان مفهومًا لأن ما لا يفهم لا يؤمن أن يكون فيه شيء من الشرك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل‏"‏ قد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها لكن دل حديث عوف أنه يمنع ما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطًا وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين والحمة كما في حديث عمران بن حصين لا رقية إلا من عين أو حمة وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل محتاج إلى الرقية فيلحق بالعين جواز رقية من به مس أو نحوه لاشتراك ذلك في كون كل واحد ينشأ عن أحوال شيطانية من أنسي أو جني ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد أو دم وكذلك حديث أنس المذكور في الباب زاد فيه النملة‏.‏ وقال قوم‏:‏ المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما وفيه نظر وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى كما في حديث ابن مسعود المذكور في الباب‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏نفث‏"‏ النفث نفخ لطيف بلا ريق وفيه استحباب النفث في الرقية‏.‏
قال النووي‏:‏ وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم‏.‏
قال القاضي‏:‏ وأنكر جماعة النفث في الرقى وأجازوا فيها النفخ بلا ريق قال وهذا هو المذهب قال وقد اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكون إلا بريق وقال أبو عبيد‏:‏ يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه قال وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بالمعوذات‏"‏ قال ابن التين‏:‏ الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء اللّه تعالى هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن اللّه فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن ادعى تسخير الجن له يأتي بأمور مشبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر اللّه وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بمردتهم ويقال إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر اللّه وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من شوب الشرك وعلى كراهة الرقى بغير كتاب اللّه علماء الأمة‏.‏
وقال القرطبي‏:‏ الرقى ثلاثة أقسام أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية ما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك‏.‏ الثاني ما كان بكلام اللّه أو بأسمائه فيجوز فإن كان مأثورًا فيستحب‏.‏ الثالث ما كان بأسماء غير اللّه من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش قال فهذا ليس من الواجب اجتنابه

 

ج / 8 ص -215-       ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى اللّه والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير اللّه قال الربيع‏:‏ سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن ترقى بكتاب اللّه وبما تعرف من ذكر اللّه قلت‏:‏ أيرقي أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب اللّه وبذكر اللّه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأمسحه بيد نفسه‏"‏ في رواية وأمسح بيده نفسه‏.‏

باب الرقية من العين والاستغسال منها
1 - عن عائشة قالت‏:‏
‏"‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأمرني أن أسترقي من العين‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن أسماء بنت عميس أنها قالت‏:‏ ‏"‏يا رسول اللّه إن بني جعفر تصيبهم العين أفنسترقي لهم قال‏:‏
نعم فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين‏"‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏
3 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه‏.‏
4 - وعن عائشة قالت‏:‏
‏"‏كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغسل منه المعين‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
5 - وعن سهل بن حنيف‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج وسار معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلا أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط سهل فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقيل يا رسول اللّه هل لك في سهل واللّه ما يرفع رأسه قال
هل تتهمون فيه من أحد قالوا نظر إليه عامر بن ربيعة فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عامرًا فتغيظ عليه وقال‏:‏ على ما يقتل أحدكم أخاه هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت ثم قال له اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم يكفأ القدح وراءه ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏

 

ج / 8 ص -216-       حديث أسماء بنت عميس أخرجه أيضًا النسائي ويشهد له حديث جابر المتقدم في الباب الأول‏.‏
وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات لأنه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عنها‏.‏ وحديث سهل أخرجه أيضًا في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فذكر الحديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يأمرني أن أسترقي من العين‏"‏ أي من الإصابة بالعين قال المازري‏:‏ أخذ الجمهور بظاهر الحديث وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى لأن كل شيء ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا فساد دليل فهو من مجوزات العقول فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به في الآخرة من الأمور‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين‏"‏ فيه رد على من زعم من المتصوفة أن قوله العين حق يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام فإن عين الشيء حقيقته والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر اللّه السابق لا شيء يحدثه الناظر في المنظور ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل اللّه تعالى فيها من ذلك وأودعه إياها وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر إذ القدر عبارة عن سابق علم اللّه وهو لا راد لأمره أشار إلى ذلك القرطبي وحاصله لو فرض أن شيئًا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين لكنها لا تسبق فكيف غيرها وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
‏"‏أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء اللّه وقدره بالأنفس‏"‏ قال الراوي يعني بالعين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏العين حق‏"‏ أي شيء ثابت موجود من جملة ما تحقق كونه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وإذا استغسلتم فاغسلوا‏"‏ أي إذا طلبتم للاغتسال فاغسلوا أطرافكم عند طلب المعيون ذلك من العائن وهذا كان أمرًا معلومًا عندهم فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم وأدنى ما في ذلك رفع الوهم وظاهر الأمر الوجوب وحكى المازري فيه خلافًا وصحح الوجوب وقال‏:‏ متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء فيه فإنه يتعين وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بشعب الخرار‏"‏ بمعجمة ثم مهملتين قال في القاموس‏:‏ هو موضع قرب الجحفة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فلبط‏"‏ بضم اللام وكسر الموحدة لبط الرجل فهو ملبوط أي صرع وسقط إلى الأرض‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وداخلة إزاره‏"‏ يحتمل أن يريد بذلك الفرج ويحتمل أن يريد طرف الإزار الذي يلي جسده من الجانب الأيمن وقد اختلف في ذلك على قولين ذكرهما في الهدى وقد بين في هذا الحديث صفة الغسل‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ثم يكفأ القدح وراءه‏"‏ زاد في رواية على الأرض‏.‏ قال المازري‏:‏ هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه‏.‏ وقال ابن

 

ج / 8 ص -217-       العربي‏:‏ إن توقف فيه متشرع قلنا له اللّه ورسوله أعلم وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة‏.‏
قال ابن القيم‏:‏ هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربًا غير معتقد وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما يفعل بالخاصة فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن فكأن أثر تلك العين شعلة نار وقعت على جسد المعيون ففي الاغتسال إطفاء لتلك العلة ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ولا شيء أرق من العين فكان في غسلها إبطال لعملها ولا سيما للأرواح الشيطانية في تلك المواضع‏.‏
وفيه أيضًا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذًا فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الغسل المأمور به ينفع بعد استحكام النظرة فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة‏:‏
‏"‏ألا بركت عليه‏"‏ وفي رواية ابن ماجه فليدع بالبركة ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة‏.‏ وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه "من رأى شيئًا فأعجبه فقال ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه لم يضره" وقد اختلف في القصاص بذلك فقال القرطبي‏:‏ لو أتلف العائن شيئًا ضمنه ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر‏.‏
قال الحافظ‏:‏ ولم تتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه وقالوا إنه لا يقتل غالبًا ولا يعد مهلكًا‏.‏ وقال النووي في الروضة‏:‏ ولا دية فيه ولا كفارة لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له كيف ولم يقع منه فعل أصلًا وإنما غايته حسد وثمن لزوال نعمة وأيضًا فالذي ينشأ عن الإصابة حصول مكروه لذلك الشخص ولا يتعين المكروه في زوال الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين‏.‏
ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته فإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مخالطة الناس وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة‏.‏ قال النووي‏:‏ هذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه‏.‏

أبواب الأيمان وكفارتها
باب الرجوع في الأيمان وغيرها من الكلام إلى النية

1 - عن سويد بن حنظلة قال‏:‏ ‏"‏خرجنا نريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي فخلى عنه فأتينا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏

 

ج / 8 ص -218-       أنت كنت أبرهم وأصدقهم صدقت المسلم أخو المسلم‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏ وفي حديث الإسراء المتفق عليه‏:‏ ‏"‏مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح‏"‏‏.
2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏أقبل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر وأبو بكر شيخ يعرف ونبي اللّه شاب لا يعرف قال‏:‏ فيلقى الرجل أبا بكر فيقول‏:‏ يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك فيقول‏:‏ هذا الرجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏
3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
يمينك على ما يصدقك به صاحبك‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏اليمين على نية المستحلف‏"‏ رواه مسلم وابن ماجه وهو محمول على المستحلف المظلوم‏.‏
حديث سويد بن حنظلة أخرجه أيضًا أبو داود وسكت عنه ورجاله ثقات وله طريق وهو من رواية إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن سويد بن حنظلة وعزاه المنذري إلى مسلم فينظر في صحة ذلك‏.‏ قال المنذري أيضًا‏:‏ وسويد بن حنظلة لم ينسب ولا يعرف له غير هذا الحديث انتهى‏.‏ وآخره الذي هو محل الحجة وهو قوله‏:‏ ‏
"‏المسلم أخو المسلم‏"‏ هو متفق عليه بلفظ‏:‏ ‏"‏المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه‏"‏ وكذلك حديث‏:‏ ‏"‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏"‏ فإنه متفق عليه وليس المراد بهذه الأخوة إلا أخوة الإسلام فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة ويشترك في ذلك الحر والعبد ويبر الحالف إذا حلف أن هذا المسلم أخوه ولا سيما إذا كان في ذلك قربة كما في حديث الباب‏.‏ ولهذا استحسن ذلك صلى اللّه عليه وآله وسلم من الحالف وقال أنت كنت أبرهم وأصدقهم ولهذا قيل إن في المعاريض لمندوحة‏.‏ وقد أخرج ذلك البخاري في الأدب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد اللّه عن عمران بن حصين‏.‏ وأخرجه الطبري في التهذيب والطبراني في الكبير قال الحافظ‏:‏ ورجاله ثقات‏.‏ وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعًا ووهاه أبو بكر بن كامل في فوائده‏.‏ وأخرجه البيهقي في الشعب من طريقه كذلك‏.‏ وأخرجه ابن عدي أيضًا من حديث علي‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وسنده واه أيضًا‏.‏ وأخرج البخاري في الأدب من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال‏:‏ أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب قال الجوهري‏:‏ المعاريض هي خلاف التصريح وهي التورية بالشيء عن الشيء وقال الراغب‏:‏ التعريض له وجهان في صدق وكذب أو باطن وظاهر‏.‏ والمندوحة السعة وقد جعل البخاري في صحيحه هذه المقالة ترجمة باب

 

ج / 8 ص -219-       فقال باب المعاريض مندوحة‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه‏.‏ وقال الكوفيون يحنث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مرحبًا بالأخ الصالح‏"‏ فيه دليل على صحة إطلاق الأخوة على بعض الأنبياء من بعض منهم والجهة الجامعة هي النبوة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ونبي اللّه شاب‏"‏ فيه جواز إطلاق اسم الشاب على من كان في نحو الخمسين السنة فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عند مهاجره قد كان مناهزًا للخمسين إن لم يكن قد جاوزها وفي إثبات الشيخوخة لأبي بكر والشباب للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إشكال لأن أبا بكر أصغر من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنه عاش بعده ومات في السن التي مات فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويمكن أن يقال أن أبا بكر ظهرت عليه هيئة الشيخوخة من الشيب والنحول في ذلك الوقت والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يظهر عليه ذلك ولهذا وقع الخلاف بين الرواة في وجود الشيب فيه عند موته صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي هذا التعريض الواقع من أبي بكر غاية اللطافة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏على ما يصدقك به صاحبك‏"‏ فيه دليل على أن الاعتبار بقصد المحلف من غير فرق أن يكون المحلف هو الحاكم أو الغريم وبين أن يكون المحلف ظالمًا أو مظلومًا صادقًا أو كاذبًا‏.‏
وقيل هو مقيد بصدق المحلف فيما ادعاه أما لو كان كاذبًا كان الاعتبار بنية الحالف وقد ذهبت الشافعية إلى أن تخصيص الحديث بكون المحلف هو الحاكم ولفظ صاحبك في الحديث يرد عليهم وكذلك ما ثبت في رواية لمسلم بلفظ‏:‏
‏"‏اليمين على نية المستحلف‏"‏ قال النووي‏:‏ أما إذا حلف بغير استحلاف وورى فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك ولا اعتبار بنية المستحلف بكسر اللام غير القاضي وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه‏.‏ قال‏:‏ والتورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع عليه انتهى‏.‏
وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته ويقبل قوله وأما إذا كان لغيره حق عليه فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه سواء حلف متبرعًا أو باستحلاف انتهى ملخصًا‏.‏ وإذا صح الإجماع على خلاف ما يقضي به ظاهر الحديث كان الاعتماد عليه ويمكن التمسك لذلك بحديث سويد بن حنظلة المذكور في الباب فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حكم له بالبر في يمينه مع أنه لا يكون بارًا إلا باعتبار نية نفسه لأنه قصد الأخوة المجازية والمستحلف له قصد الأخوة الحقيقية ولعل هذا هو مستند الإجماع‏.

باب من حلف فقال إن شاء اللّه
1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من حلف فقال إن شاء اللّه لم يحنث‏"‏‏.‏
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال فله ثنياه والنسائي وقال فقد استثنى‏.‏
2 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من حلف على يمين

 

ج / 8 ص -220-       فقال إن شاء اللّه فلا حنث عليه‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا أبا داود‏.‏
3 - وعن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
واللّه لأغزون قريشًا ثم قال‏:‏ إن شاء اللّه ثم قال‏:‏ واللّه لأغزون قريشًا ثم قال‏:‏ إن شاء اللّه ثم قال‏:‏ واللّه لأغزون قريشًا ثم سكت ثم قال‏:‏ إن شاء اللّه ثم لم يغزهم‏"‏‏.‏ أخرجه أبو داود‏.‏ حديث أبي هريرة أخرجه أيضًا ابن حبان وهو من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة‏.‏ قال البخاري فيما حكاه الترمذي‏:‏ أخطأ فيه عبد الرزاق واختصره عن معمر من حديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال‏:‏ لأطوفن الليلة على سبعين امرأة الحديث وفيه‏:‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لو قال إن شاء اللّه لم يحنث‏.‏ وهو في الصحيح وله طرق أخرى رواها الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر كما ذكره المصنف في الباب‏.‏ قال الترمذي‏:‏ لا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني‏.‏
وقال ابن علية‏:‏ كان أيوب تارة يرفعه وتارة لا يرفعه قال ورواه مالك وعبيد اللّه بن عمر وغير واحد موقوفًا‏.‏        قال الحافظ‏:‏ هو في الموطأ كما قال البيهقي‏.‏ وقال لا يصح رفعه إلا عن أيوب مع أنه شك فيه وتابعه على لفظه العمري عبد اللّه وموسى بن عقبة وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى وقد صححه ابن حبان‏.‏ وحديث ابن عمر رجاله رجال الصحيح وله طرق كما ذكره صاحب الأطراف وهو أيضًا في سنن أبي داود في الأيمان والنذور لا كما قال المصنف‏.‏ وحديث عكرمة قال أبو داود‏:‏ إنه قد أسنده غير واحد عن عكرمة عن ابن عباس وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا‏.‏ قال ابن أبي حاتم في العلل‏:‏ الأشبه إرساله‏.‏ وقال ابن حبان في الضعفاء‏:‏ رواه مسعر وشريك أرسله مرة ووصله أخرى‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لم يحنث‏"‏ فيه دليل على أن التقييد بمشيئة اللّه مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وادعى عليه ابن العربي الإجماع قال أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء اللّه يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا‏.‏
قال ولو جاز منفصلا كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة‏.‏
قال واختلفوا في الاتصال فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء اللّه متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة النفس‏.‏ وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه‏.‏
وقال قتادة‏:‏ ما لم يقم أو يتكلم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ قدر حلبة ناقة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ يصح بعد أربعة أشهر‏.‏ وعن ابن عباس له الاستثناء أبدًا ولا فرق بين الحلف باللّه أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة يمنع الانعقاد وإلى ذلك ذهب الجمهور وبعضهم فصل‏.‏ واستثنى أحمد العتاق قال لحديث‏:‏
‏"‏إذا قال أنت طالق إن شاء اللّه لم تطلق وإن قال لعبده أنت حر إن شاء اللّه فإنه حر‏"‏ وقد تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول كما قال البيهقي‏.‏ وذهبت الهادوية

 

ج / 8 ص -221-       إلى أن التقييد بالمشيئة يعتبر فيه مشيئة اللّه في تلك الحال باعتبار ما يظهر من الشريعة فإن كان ذلك الأمر الذي حلف على تركه وقيد الحلف بالمشيئة محبوبًا للّه فعله لم يحنث بالفعل وإن كان محبوبًا للّه تركه لم يحنث بالترك فإذا قال واللّه ليتصدقن إن شاء اللّه حنث بترك الصدقة لأن اللّه يشاء التصدق في الحال وإن حلف ليقطعن رحمه إن شاء اللّه لم يحنث بترك القطع لأن اللّه يشاء ذلك الترك‏.‏
وقال المؤيد باللّه‏:‏ معنى التقييد بالمشيئة بقاء الحالف في الحياة وقتًا يمكنه الفعل فإذا بقي ذلك القدر حنث الحالف على الفعل بالترك وحنث الحالف على الترك بالفعل‏.‏ والظاهر من أحاديث الباب أن التقييد إنما يفيد إذا وقع بالقول كما ذهب إليه الجمهور لا بمجرد النية إلا ما زعمه بعض المالكية عن مالك أن قياس قوله صحة الاستثناء بالنية وعند الهادوية في ذلك تفصيل معروف وقد بوب البخاري على ذلك فقال باب النية في الأيمان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ثم سكت ثم قال إن شاء اللّه‏"‏ لم يقيد هذا السكوت بالعذر بل ظاهره السكوت اختيارًا لا اضطرارًا فيدل على جواز ذلك‏.‏

باب من حلف لا يهدي هدية فتصدق‏.‏
1 - عن أبي هريرة قال‏:‏
‏"‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل وإن قيل هدية ضرب بيده وأكل معهم‏"‏‏.‏
2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏أهدت بريرة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لحمًا تصدق به عليها فقال‏:‏
هو لها صدقة ولنا هدية‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏
قد تقدم الكلام على معنى الحديثين في كتاب الزكاة والمقصود من إيرادهما ههنا أن الحالف بأنه لا يهدي لا يحنث إذا تصدق لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يسأل عن الطعام الذي يقرب إليه هل هو صدقة أو هدية وكذلك قال في لحم بريرة هو لها صدقة ولنا هدية كما في حديث الباب فدل ذلك على تغاير مفهومي الهدية والصدقة فإذا حلف من إحداهما لم يحنث بالأخرى كسائر المفهومات المتغايرة‏.‏
قال ابن بطال‏:‏ إنما كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس ولأن أخذ الصدقة منزلة ضعة والأنبياء منزهون عن ذلك لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان كما وصفه اللّه
‏{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى‏}‏ والصدقة لا تحل للأغنياء وهذا بخلاف الهدية فإن العادة جارية بالإثابة عليها وكذلك كان شأنه‏.‏
وفي حديث أنس دليل على أن الصدقة إذا قبضها من يحل له أخذها ثم تصرف فيها زال عنها حكم الصدقة وجاز لمن حرمت عليه الصدقة أن يتناول منها إذا أهديت له أو بيعت‏.‏

 

ج / 8 ص -222-       باب من حلف لا يأكل إدامًا بماذا يحنث
1 - عن جابر‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
نعم الأدم الخل‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا البخاري‏.‏ ولأحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي من حديث عائشة مثله‏.‏
2 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة‏"‏‏.‏
3 - وعن أنس قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ سيد إدامكم الملح‏"‏‏.‏ رواهما ابن ماجه‏.‏
4 - وعن يوسف بن عبد اللّه بن سلام قال‏:‏
‏"‏رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال هذه إدام هذه‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والبخاري‏.‏
5 - وعن بريدة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم‏"‏‏.‏ رواه ابن قتيبة في غريبه فقال حدثنا القومسي حدثنا الأصمعي عن أبي هلال الراسبي عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه فذكره‏.‏
6 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة قال بلى قال تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنظر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال ألا أخبرك بإدامهم قال بلى إدامهم بالام ونون قال ما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا‏"‏‏.‏ متفق عليه والنون الحوت‏.‏
حديث ابن عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه ثقات إلا الحسين بن مهدي شيخ ابن ماجه فقال في التقريب‏:‏ إنه صدوق وعزاه السيوطي في الجامع الصغير أيضًا إلى الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب‏.‏
وأخرج أيضًا الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعًا‏:‏
‏"‏اِئتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة‏"‏‏.‏
وحديث أنس في إسناده عند ابن ماجه رجل مجهول فإنه قال عن رجل أراه موسى عن أنس وقد أخرجه أيضًا الحكيم الترمذي‏.‏ وحديث بريدة

 

ج / 8 ص -223-       أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الطب من حديث علي بإسناد ضعيف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نعم الأدم‏"‏ قال النووي‏:‏ الإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الأدام بضم الهمزة كإهاب وأهب وكتاب وكتب والأدم بإسكان الدال مفرد كالإدام‏.‏ قال الخطابي والقاضي عياض‏:‏ معنى الحديث مدح الاقتصار في المآكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره اِئتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن‏.‏
قال النووي‏:‏ والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر‏.‏
وأما قول جابر فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو كقول أنس ما زلت أحب الدباء قال وهذا مما يؤيد ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه وتأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر بتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏اِئتدموا بالزيت‏"‏ فيه الترغيب في الإئتدام بالزيت معللًا ذلك بكونه من شجرة مباركة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏سيد إدامكم الملح‏"‏ قد تقدم أن الإدام اسم لما يؤتدم به أي يؤكل به الخبز مما يطيب سواء كان مما يصطبغ به كالأمراق والمائعات أو مما لا يصطبغ به كالجامدات من الجبن والبيض والزيتون وغير ذلك‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ هذا معنى الإدام عند الجمهور من السلف والخلف انتهى‏.‏ ولعل تسمية الملح بسيد الإدام لكونه مما يحتاج إليه في كل طعام ولا يمكن أن يساغ بدونه فمع كونه لا يزال مخالطًا لكل طعام محتاجًا إليه لا يغني عنه من أنواع الإدام شيء وهو يغني عنها بل ربما لا يصلح بعض الأدم إلا بالملح فلما كان بهذا المحل أطلق عليه اسم السيد وإن لم يكن سيدًا بالنسبة إلى ذاته لكونه خاليًا عن الحلاوة والدسومة ونحوهما‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فوضع عليها تمرة‏"‏ فيه أن وضع التمرة على الكسرة جائز ليس بمكروه وإن كان البزار قد روى حديث‏:‏ ‏
"‏أكرموا الخبز‏"‏ مع ما في الحديث من المقال فمثل هذا لا ينافي الكرامة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏هذه إدام هذه‏"‏ فيه دليل على أن الجوامد تكون إدامًا كالجبن والزيتون والبيض والتمر وبهذا قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ما لا يصطبغ به فليس بإدام لأن كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردًا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏سيد إدام أهل الدنيا‏"‏ الخ فيه تصريح بأن اللحم حقيق بأن يطلق عليه اسم السيادة المطلقة في الدنيا والآخرة ولا جرم فهو بمنزلة لا يبلغها شيء من الأدم كائنًا ما كان فإطلاق السيادة عليه لذاته لا لمجرد الاحتياج إليه كما تقدم في الملح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏خبزة واحدة‏"‏ بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها زاي هي في أصل اللغة الظلمة والمراد بها هنا المصنوع من الطعام‏.‏
قال النووي‏:‏ معنى الحديث أن اللّه يجعل الأرض كالظلمة والرغيف العظيم ويكون ذلك طعامًا نزلا لأهل الجنة واللّه تبارك وتعالى على كل شيء قدير‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بالام ونون‏"‏ الحرف الأول باء موحدة وبعدها لام مخففة بعده ميم مرفوعة غير منونة كذا قال النووي‏.‏ قال‏:‏ وفي معناها أقوال مضطربة الصحيح منها الذي اختاره القاضي وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ثور ولهذا فسر ذلك به ووقع السؤال لليهود عن

 

ج / 8 ص -224-       تفسيرها ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة‏.‏
قال‏:‏ وأما النون فهو الحوت باتفاق العلماء‏.‏ والمراد بقوله يتكفؤها أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها‏.‏ والنزل بضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله‏.‏
قال الخطابي‏:‏ لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء يريد لأي على وزن لعا وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء المثناة فجعلها موحدة‏.‏ قال الخطابي‏:‏ هذا أقرب ما يقع لي فيه والمراد بزائدة الكبد قطعة منفردة متعلقة بالكبد وهي أطيبها‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏يأكل منها سبعون ألفًا‏"‏                    قال القاضي‏:‏ يحتمل أنهم السبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فخصوا بأطيب النزل ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفًا عن العدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر وهذا معروف في كلام العرب‏.‏

باب أن من حلف أنه من لا مال له يتناوله الزكاتي وغيره‏.‏
1 - عن أبي الأحوص عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي شملة أو شملتان فقال‏:‏
هل لك من مال فقلت‏:‏ نعم قد آتاني اللّه من كل ماله من خيله وإبله وغنمه ورقيقه فقال‏:‏ فإذا آتاك اللّه مالا فلير عليك نعمه فرحت إليه في حلة‏"‏‏.‏
2 - وعن سويد بن هبيرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة‏"‏‏.‏ رواهما أحمد‏.‏ المأمورة الكثيرة النسل والسكة الطريق من النخل المصطفة‏.‏ والمأبورة هي الملفحة‏.‏
وقد سبق أن عمر قال‏:‏ ‏"‏يا رسول اللّه أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه‏"‏ وقال أبو طلحة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏أحب أموالي إلي بيرحاء لحائط له مستقبلة المسجد‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
حديث أبي الأحوص أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم في المستدرك ورجال إسناده رجال الصحيح‏.‏
وحديث سويد بن هبيرة أخرجه أيضًا أخرجه أيضًا أبو سعيد والبغوي وابن قانع والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن والضياء المقدسي في المختارة وصححه وأخرجه أيضًا عنه من طريق أخرى العسكري‏.‏
وحديث عمر قد سبق في أول كتاب الوقف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإذا آتاك اللّه مالا‏"‏ ذكر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إتيان المال مع أمره بإظهار النعمة عليه يدل على أنه علة لأنه لو لم يمكن التعليل لما كان لإعادة ذكره فائدة وكان ذكره عبثًا وكلام الشارع منزه عنه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلير‏"‏ بسكون لام الأمر والياء المثناة التحتية مضمومة ويجوز بالمثناة من فوق باعتبار النعم المذكورة ويجوز أيضًا بالمثناة من تحت المفتوحة‏.‏ وفيه أنه يستحب للغني أن يلبس من الثياب

 

ج / 8 ص -225-       ما يليق به ليكون ذلك إظهارًا لنعمة اللّه عليه إذ الملبوس هو أعظم ما يظهر فيه الفرق بين الأغنياء والفقراء فمن لبس من الأغنياء ثياب الفقراء صار مماثلا لهم في إيهام الناظر له أنه منهم وذلك ربما كان من كفران نعمة اللّه عليه وليس الزهد والتواضع في لزوم ثياب الفقر والمسكنة لأن اللّه سبحانه أحل لعباده الطيبات ولم يخلق لهم جيد الثياب إلا لتلبس ما لم يرد النص على تحريمه ومن فوائد إظهار أثر الغني أن يعرفه ذوو الحاجات فيقصدونه لقضاء حوائجهم وقد أخرج الترمذي حديث‏:‏ ‏"‏إن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته بالخير على عبده‏"‏ وقال حسن فدل هذا على أن إظهار النعمة من محبوبات المنعم ويدل على ذلك قوله تعالى ‏{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}‏ فإن الأمر منه جل جلاله إذا لم يكن للوجوب كان للندب وكلا القسمين مما يحبه اللّه فمن أنعم اللّه عليه بنعمة من نعمه الظاهرة أو الباطنة فليبالغ في إظهارها بكل ممكن ما لم يصحب ذلك الإظهار رياء أو عجب أو مكاثرة للغير وليس من الزهد والتواضع أن يكون الرجل وسخ الثياب شعث الشعر‏.‏ فقد أخرج أبو داود والنسائي عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ ‏"‏أتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرأى رجلا شعثًا قد تفرق شعره فقال‏:‏ أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره ورأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة فقال أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه‏"‏‏.‏
ـ والحاصل ـ إن اللّه جميل يحب الجمال فمن زعم أن رضاه في لبس الخلقان والمرقعات وما أفرط في الغلظ من الثياب فقد خالف ما أرشد إليه الكتاب والسنة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏مهرة مأمورة‏"‏ قال في القاموس‏:‏ وأمر كفرح أمرًا وأمرة كثر وتم فهو أمر والأمر اشتد والرجل كثرت ماشيته وأمره اللّه وأمره كنصره لغية كثر نسله وماشيته‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏سكة‏"‏ قال في القاموس‏:‏ السك والسكة بالكسر حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم والسطر من الشجر وحديدة الفدان والطريق المستوي وضربوا بيوتهم سكاكًا بالكسر صفًا واحدًا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏مأبورة‏"‏ قال في القاموس‏:‏ وأبر كفرح صلح وذكر أن تأبير النخل إصلاحه‏.‏ وقد تقدم الكلام على ما قاله عمر وما قاله أبو طلحة في الوقف‏.‏

باب من حلف عند رأس الهلال لا يفعل شيئًا شهرًا فكان ناقصًا
1 - عن أم سلمة‏:‏ ‏
"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حلف لا يدخل على بعض أهله شهرًا‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏آلى من نسائه شهرًا فلما مضى تسعة وعشرون يومًا غدا عليهم أو راح فقيل له‏:‏ يا رسول اللّه حلفت أن لا تدخل عليهن شهرًا فقال‏:‏ إن الشهر يكون تسعًا وعشرين‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
2 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏
"‏هجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نساءه شهرًا

 

ج / 8 ص -226-       فلما مضى تسعة وعشرون أتى جبريل عليه السلام فقال قد برت يمينك وقد تم الشهر‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فقيل له يا رسول اللّه حلفت‏"‏ الخ فيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها لا سيما ممن له تعلق بذلك والقائل له بذلك عائشة كما تدل عليه الروايات الآخرة فإنها لما خشيت أن يكون صلى اللّه عليه وآله وسلم نسي مقدار ما حلف عليه وهو شهر والشهر ثلاثون يومًا أو تسعة وعشرون يومًا فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذهل عن القدر أو أن الشهر لم يهل فأعلمها أن الشهر استهل وأن الذي كان الحلف وقع فيه تسع وعشرون وفيه تقوية لقول من قال إن يمينه صلى اللّه عليه وآله وسلم اتفق أنها كانت في أول الشهر ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين وإلا فلو اتفق ذلك في أثناء الشهر فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين‏.‏ وذهبت طائفة إلى الاكتفاء بتسعة وعشرين أخذًا بأقل ما ينطلق عليه الاسم‏.‏
قال ابن بطال‏:‏ يؤخذ منه أن من حلف على شيء بر بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم والقصة محمولة عند الشافعي ومالك على أنه دخل أول الهلال وخرج به فلو دخل في أثناء الشهر لم يبر إلا بثلاثين وافية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن الشهر يكون تسعًا وعشرين‏"‏ هذه الرواية تدل على المراد من الرواية الأخرى بلفظ‏:‏ ‏
"‏الشهر تسع وعشرون‏"‏ كما في لفظ ابن عمر فإن ظاهر ذلك الحصر وهذا الظاهر غير مراد وإن وهم فيه من وهم وقد أنكرت عائشة على ابن عمر روايته المطلقة‏:‏ ‏"‏إن الشهر تسع وعشرون‏"‏ قال‏:‏ فذكروا ذلك لعائشة فقالت‏:‏ يرحم اللّه أبا عبد الرحمن إنما قال "الشهر قد يكون تسعًا وعشرين" وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن عمر بهذا اللفظ الأخير الذي جزمت به عائشة ويدل أيضًا على ذلك أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يخرج من يمينه بمجرد مضي ذلك العدد بل للخبر الواقع من جبريل كما في حديث ابن عباس المذكور‏.‏

باب الحلف بأسماء اللّه وصفاته والنهي عن الحلف بغير اللّه تعالى
1 - عن ابن عمر قال‏:‏ ‏
"‏كان أكثر ما كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يحلف لا ومقلب القلوب‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا مسلمًا‏.‏
2 - وفي حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لما خلق اللّه الجنة أرسل جبريل فقال‏:‏ انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها فرجع فقال‏:‏ لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها‏"‏‏.‏
3 - وفي حديث لأبي هريرة‏:‏
‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يبقى رجل بين الجنة والنار فيقول‏:‏ يا رب اصرف وجهي عن النار لا وعزتك لا أسألك غيرها‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏

 

ج / 8 ص -227-       4 - وفي حديث اغتسال أيوب‏:‏ ‏"‏بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك‏"‏‏.
5 - وعن قتيلة بن صيفي‏:‏ ‏"‏أن يهوديًا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون ما شاء اللّه وشئت وتقولون والكعبة
فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقول أحدهم ما شاء اللّه ثم شئت‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏
6 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال‏:‏
إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف باللّه أو ليصمت‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ وفي لفظ قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من كان حالفًا فلا يحلف إلا باللّه فكانت قريش تحلف بآبائها فقال‏:‏ لا تحلفوا بآبائكم‏"‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏
7 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لا تحلفوا إلا باللّه ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون‏"‏‏.‏ رواه النسائي‏.‏ حديث قتيلة أخرجه أيضًا ابن ماجه وصححه النسائي‏.‏ وحديث أبي هريرة الأخر أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه‏:‏ ‏"‏من كان حالفًا فلا يحلف إلا باللّه‏"‏‏.‏
ـ وفي الباب ـ عن ابن عمر رفعه‏:‏ ‏
"‏من حلف بغير اللّه فقد كفر‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه‏.‏ ويروى أنه قال فقد أشرك وهو عند أحمد من هذا الوجه وكذا عند الحاكم ورواه الترمذي وابن حبان من هذا الوجه أيضًا بلفظ‏:‏ ‏"‏فقد كفر وأشرك‏"‏ قال البيهقي‏:‏ لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر قال الحافظ‏:‏ قد رواه شعبة عن منصور عنه قال‏:‏ كنت عند ابن عمر ورواه الأعمش عن سعيد عن عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا ومقلب القلوب‏"‏ لا نفي للكلام السابق ومقلب القلوب هو المقسم به والمراد بتقليب القلوب تقليب أحوالها لا ذواتها وفيه جواز تسمية اللّه بما ثبت من صفاته على وجه يليق به‏.‏
قال القاضي أبو بكر ابن العربي‏:‏ في الحديث جواز الحلف بأفعال اللّه تعالى إذا وصف بها ولم يذكر اسمه تعالى‏.‏ وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا إن حلف بقدرة اللّه انعقدت يمينه وإن حلف بعلم اللّه لم تنعقد لأن العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى
‏{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}‏ والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم والكلام إنما هو في الحقيقة‏.‏
قال الراغب‏:‏ تقليب اللّه القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي قال‏:‏ ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص

 

ج / 8 ص -228-       به من الروح والعلم والشجاعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فقال وعزتك‏"‏ هذا طرف من الحديث الذي فيه‏:‏ ‏"‏إن الجنة حفت بالمكاره والنار بالشهوات‏"‏ وذكره المصنف رحمه اللّه هنا للاستدلال به على الحلف بعزة اللّه‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ العزة يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم ولذلك صحت الإضافة قال‏:‏ ويظهر الفرق بين الحالف بعزة اللّه أي التي هي صفة لذاته والحالف بعزة اللّه التي هي صفة لفعله بأنه يحنث في الأول دون الثاني‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت اليمين‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لا وعزتك لا أسألك غير هذا‏"‏ هذا طرف من الحديث الطويل في صفة الحشر ومحل الحجة منه هذا اللفظ المذكور فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكر ذلك مقررًا له فكان دليلا على جواز الحلف بذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بلى وعزتك‏"‏ هو طرف من حديث طويل وأوله‏:‏ ‏"‏أن أيوب كان يغتسل فخر عليه جراد من ذهب‏"‏ ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا باللّه وقد ذكر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك عنه وأقره‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ولكن لا غنى لي عن بركتك‏"‏ بكسر الغين المعجمة والقصر كذا للأكثر‏.‏ ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني بفتح أوله والمد والأول أولى فإن معنى الغناء بالفتح والمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء أي ما يغتني به‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏تنددون‏"‏ أي تجعلون للّه أندادًا وتشركون أي تجعلون للّه شركاء وفيه النهي عن الحلف بالكعبة وعن قول الرجل ما شاء اللّه وشئت ثم أمرهم أن يأتوا بما لا تنديد فيه ولا شرك فيقولون ورب الكعبة ويقولون ما شاء اللّه ثم شئت‏.‏ وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي أنه قال‏:‏ ليس في الحديث نهي عن القول المذكور وقد قال اللّه تعالى ‏{وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}‏ وقال تعالى ‏{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}‏ وغير ذلك وتعقبه بأن الذي قاله أبو جعفر ليس بظاهر لأن قوله‏:‏ ‏"‏ما شاء اللّه وشئت‏"‏ تشريك في مشيئته تعالى وأما الآية فإنما أخبر اللّه أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من اللّه حقيقة لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل‏.‏ وكذا الإنعام أنعم اللّه على زيد بن حارثة بالإسلام وأنعم عليه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالعتق وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منفردة للّه سبحانه وتعالى بالحقيقة وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم‏"‏ في رواية للترمذي من حديث ابن عمر ‏"‏أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال‏:‏ لا تحلف بغير اللّه فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
من حلف بغير اللّه فقد كفر وأشرك‏"‏ قال الترمذي حسن وصححه الحاكم والتعبير بقوله كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك وقد تمسك به من قال بالتحريم‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فليحلف باللّه أو ليصمت‏"‏ قال العلماء‏:‏ السر في النهي عن الحلف بغير اللّه أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي للّه وحده فلا يحلف إلا باللّه وذاته وصفاته وعلى ذلك اتفق الفقهاء‏.‏ واختلف هل الحلف بغير اللّه حرام أو مكروه للمالكية والحنابلة قولان ويحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على عدم جواز الحلف بغير اللّه على أن مراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه وقد صرح بذلك في موضع آخر‏.‏ وجمهور الشافعية على أنه مكروه

 

ج / 8 ص -229-       تنزيهًا وجزم ابن حزم بالتحريم‏.‏
وقال إمام الحرمين‏:‏ المذهب القطع بالكراهة وجزم غيره بالتفصيل فإن اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في اللّه تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرًا ومذهب الهادوية أنه لا إثم في الحلف بغير اللّه ما لم يسو بينه وبين اللّه في التعظيم أو كان الحلف متضمنًا كفرًا أو فسقًا وسيأتي الكلام على من يكفر بحلفه‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير اللّه ففيه جوابان أحدهما أن فيه حذفًا والتقدير ورب الشمس ونحوه والثاني أن ذلك يختص باللّه فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم للأعرابي أفلح وأبيه إن صدق فقد أجيب عنه بأجوبة‏:‏
الأول الطعن في صحة هذه اللفظة كما قال ابن عبد البر إنها غير محفوظة وزعم أن أصل الرواية أفلح واللّه فصحفها بعضهم‏.‏
والثاني أن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف قاله البيهقي وقال النووي إنه الجواب المرضي‏.‏
والثالث أنه كان يقع في كلامهم على وجهين للتعظيم والتأكيد والنهي إنما وقع عن الأول‏.‏
والرابع أن ذلك كان جائزًا ثم نسخ قاله الماوردي وقال السهيلي أكثر الشراح عليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وروي‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك‏"‏ قال السهيلي‏:‏ ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يحلف بغير اللّه ويجاب بأنه قبل النهي عنه غير ممتنع عليه ولا سيما الأقسام القرآنية على ذلك النمط‏.‏ وقال المنذري‏:‏ دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ‏.‏
والخامس أنه كان في ذلك حذف والتقدير أفلح ورب أبيه قاله البيهقي‏.‏
والسادس أنه للتعجيب قاله السهيلي‏.‏
والسابع أنه خاص به صلى اللّه عليه وآله وسلم وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال‏.‏
ـ وأحاديث الباب ـ تدل على أن الحلف بغير اللّه لا ينعقد لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه وإليه ذهب الجمهور وقال بعض الحنابلة‏:‏ إن الحلف بنبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم ينعقد وتجب الكفارة‏.‏

باب ما جاء في وأيم اللّه ولعمر اللّه وأقسم باللّه وغير ذلك
1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلها تأتي بفارس يقاتل في سبيل اللّه فقال له صاحبه قل إن شاء اللّه فلم يقل إن شاء اللّه فطاف عليهن جميعًا فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة فجاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانًا أجمعون‏"‏ وهو حجة في أن إلحاق الاستثناء ما لم يطل الفصل ينفع وإن لم ينوه وقت الكلام الأول‏.‏
2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال في زيد بن حارثة‏:‏
وأيم اللّه إن كان لخليقًا للإمارة‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏ وفي حديث متفق

 

ج / 8 ص -230-       عليه لما وضع عمر على سريره جاء أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه فترحم عليه وقال‏:‏ وأيم اللّه إن كنت لأظن أن يجعلك اللّه مع صاحبيك‏.‏ وقد سبق في حديث المخزومية "وأيم اللّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"‏.‏ وقول عمر لغيلان بن سلمة "وأيم اللّه لتراجعن نساءك"‏.‏ وفي حديث الإفك فقام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاستعذر من عبد اللّه بن أبي فقام أسيد بن حضير فقال لسعد بن عبادة‏:‏ لعمر اللّه لنقتلنه وهو متفق عليه‏.‏ 3 - وعن عبد الرحمن بن صفوان وكان صديقًا للعباس‏:‏ ‏"‏أنه ما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه بايعه على الهجرة فأبى وقال‏:‏ إنها لا هجرة فانطلق إلى العباس فقام العباس معه فقال‏:‏ يا رسول اللّه قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا هجرة فقال العباس‏:‏ أقسمت عليك لتبايعنه قال‏:‏ فبسط رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يده فقال‏:‏ هات أبرره عمي ولا هجرة‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏
4 - وعن أبي الزاهرية عن عائشة‏:‏ ‏"‏أن امرأة أهدت إليها تمرًا في طبق فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت‏:‏ أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أبريها فإن الإثم على المحنث‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
5 - وعن بريدة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
ليس منا من حلف بالأمانة‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
حديث المخزومية تقدم في باب ما جاء في السارق يوهب السرقة بعد وجوب القطع أو يشفع فيه‏.‏
وقول عمر لغيلان تقدم في باب من أسلم وتحته أختان أو أكثر من أربع‏.‏ وحديث عبد الرحمن بن صفوان قال ابن ماجه‏:‏ في إسناده حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا ابن إدريس جميعًا عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الرحمن بن صفوان فذكره ثم قال حدثنا محمد بن يحيى الحسن بن الربيع عن عبد اللّه بن إدريس عن يزيد بن أبي زياد بإسناده نحوه‏.‏ وقال يزيد بن أبي زياد يعني لا هجرة من دار من قد أسلم أهلها اهـ‏.‏ وحديث أبي الزاهرية قال في مجمع الزوائد‏:‏ رجال أحمد رجال الصحيح

 

ج / 8 ص -231-       ويشهد لصحته الأحاديث الآتية في إبرار القسم‏.‏ وحديث بريدة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات‏.‏ وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سمع رجلا يحلف بالأمانة فقال ألست الذي يحلف بالأمانة‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لأطوفن‏"‏ اللام جواب القسم كأنه قال واللّه لأطوفن‏.‏ ويرشد إلى ذلك ذكر الحنث في قوله لم يحنث كما في رواية‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏على تسعين‏"‏ بتقديم التاء الفوقية على السين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وأيم اللّه‏"‏ بكسر الهمزة وفتحها والميم مضمومة‏.‏ وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة وهو اسم عند الجمهور وحرف عند الزجاج وهمزته همزة وصل عند الأكثر وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم لأنه عندهم جمع يمين وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه‏.‏
قال ابن مالك‏:‏ فلو كان جمعًا لم تكسر همزته وقد ذكر في فتح الباري فيها لغات عديدة وقال غيره‏:‏ أصله يمين اللّه ويجمع على أيمن فيقال وأيمن اللّه حكاه أبو عبيدة وأنشد لزهير ابن أبي سلمى‏:‏
فيجمع أيمن منا ومنكم ** لمقسمة تمور بها الدماء
فقالوا عند القسم وأيمن اللّه ثم كثر فحذفوا النون كما حذفوها من لم يكن فقالوا لم يك ثم حذفوا الياء فقالوا أم اللّه ثم حذفوا الألف فاقتصروا على الميم مفتوحة ومضمومة ومكسورة وقالوا أيضًا م اللّه بكسر الميم وضمها وأجازوا في أيمن فتح الميم وضمها وكذا في أيم ومنهم من وصل الألف وجعل الهمزة زائدة ومسهلة وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين‏.‏
قال الجوهري‏:‏ قالوا أيم اللّه وربما حذفوا الياء فقالوا أم اللّه أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا م اللّه وربما كسروها لأنها صارت حرفًا واحدًا فشبهوها بالباء قال‏:‏ وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين ولم يجيء ألف وصل مفتوحة غيرها وقد يدخل اللام للتأكيد فيقال ليمن اللّه قال الشاعر‏:‏
فقال فريق القوم لما شهدتهم ** نعم وفريق ليمن اللّه ما ندري
وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلى أن ألفها ألف قطع وإنما خففت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة الاستعمال‏.‏ وحكى ابن التين عن الداودي أنه قال أيم اللّه معناه اسم اللّه بإبدال السين ياء وهو غلط فاحش لأن السين لا تبدل ياء‏.‏ وذهب المبرد إلى أنها عوض من واو القسم وأن معنى قوله وأيم اللّه واللّه لأفعلن‏.‏ ونقل عن ابن عباس أن يمين اللّه من أسماء اللّه ومنه قول امرئ القيس‏:‏
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدًا ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومن ثم قالت المالكية والحنفية إنه يمين وعند الشافعية إن نوى اليمين انعقدت وإن نوى غير اليمين لم تنعقد يمينًا وإن أطلق فوجهان أصحهما لا تنعقد إلا إن نوى‏.‏ وعن أحمد روايتان أصحهما الانعقاد‏.‏ وحكى الغزالي في معناه وجهين أحدهما أنه كقوله باللّه والثاني أنه كقوله

 

ج / 8 ص -232-       أحلف باللّه وهو الراجح ومنهم من سوى بينه وبين لعمر الله‏.‏ وفرق الماوردي بأن لعمر اللّه شاع في استعمالهم عرفًا بخلاف أيم اللّه واحتج بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقًا بأن معناه يمين اللّه ويمين اللّه من صفاته وصفاته قديمة‏.‏ وجزم النووي في التهذيب أن قوله وأيم اللّه كقوله وحق اللّه وقال إنه ينعقد به اليمين عند الإطلاق وقد استغربوه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لعمر اللّه‏"‏ بفتح العين المهملة وسكون الميم هو العمر بضم العين قال في النهاية‏:‏ ولا يقال في القسم إلا بالفتح‏.‏
وقال الراغب‏:‏ العمر بالضم وبالفتح واحد ولكن خص الحلف بالثاني‏.‏
قال الشاعر‏:‏ *عمرك اللّه كيف يلتقيان*
أي سألت اللّه أن يطيل عمرك وقال أبو القاسم الزجاجي‏:‏ العمر الحياة فمن قال لعمر اللّه فكأنه قال أحلف ببقاء اللّه واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به‏.‏ ومن ثم قالت المالكية والحنفية تنعقد بها اليمين لأن بقاء اللّه تعالى من صفة ذاته وعن الإمام مالك لا يعجبني الحالف بذلك وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال‏:‏ كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري‏.‏
وقال الإمام الشافعي وإسحاق‏:‏ لا يكون يمينًا إلا بالنية لأنه يطلق على العلم وعلى الحق وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوجبه اللّه تعالى وعن أحمد كالمذهبين والراجح عنه كالشافعي وأجابوا عن الآية التي فيها القسم بالعمر بأن اللّه تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس ذلك لغيره لثبوت النهي عن الحلف بغير اللّه تعالى وقد عد الأئمة ذلك في فضائل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأن اللّه تعالى أقسم به حيث قال
‏{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}‏ وأيضًا فإن اللام ليست من أدوات القسم لأنها محصورة في الواو والباء والتاء وقد ثبت عند البخاري في كتاب الرقاق من حديث لقيط بن عمر‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لعمر الأهل وكررها‏"‏ وهو عند عبد اللّه بن أحمد وعند غيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أقسمت عليك‏"‏ قال ابن المنذر‏:‏ اختلف فيمن قال أقسمت باللّه أو أقسمت مجردًا فقال قوم‏:‏ هي يمين وإن لم يقصد وممن روى عنه ذلك ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ لا يكون يمينًا إلا إن نوى‏.‏ وقال الإمام مالك‏:‏ أقسمت باللّه يمين وأقسمت مجردة لا تكون يمينًا إلا إن نوى‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ المجردة لا تكون يمينًا أصلًا ولو نوى وأقسمت باللّه إن نوى يكون يمينًا وكذا لو قال أقسم باللّه‏.‏ وقال سحنون‏:‏ لا يكون يمينًا أصلا وعن الإمام أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسمًا باللّه فيمين جزمًا لأن التقدير أقسمت باللّه قسمًا وكذا لو قال آليت باللّه‏.‏
قال ابن المنير‏:‏ لو قال أقسم باللّه عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه اليمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل قال وفي ذلك نظر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ليس منا من حلف بالأمانة‏"‏ قال في النهاية‏:‏ يشبه أن تكون الكراهة فيه لأجل أنه أمر أن يحلف بأسماء اللّه وصفاته والأمانة أمر من أموره فنهوا عنها من أجل التسوية بينها وبين أسماء اللّه كما نهوا أن يحلفوا بآبائهم قال وإذا قال الحالف وأمانة اللّه كانت يمينًا عند أبي حنيفة والشافعي لا يعدها يمينًا قال‏:‏ والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والنقد والأمان وقد جاء في كل منها حديث‏.‏

 

ج / 8 ص -233-       باب الأمر بإبرار القسم والرخصة في تركه للعذر
1 - عن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏"‏أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسبع أمرنا بعيادة المريض وإتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام‏"‏‏.‏
2 - وعن ابن عباس في حديث رؤيا قصها أبو بكر‏:‏ ‏"‏أن أبا بكر قال‏:‏ أخبرني يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي أصبت أم أخطأت فقال‏:‏
أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا قال‏:‏ فواللّه لتحدثني بالذي أخطأت قال‏:‏ لا تقسم‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإبرار القسم‏"‏ أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك بارًا‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أو المقسم‏"‏ اختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم الميم على أنه اسم فاعل وقيل بفتح السين أي الأقسام والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الإدخال وكذا أخرجته‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في حديث رؤيا قصها‏"‏ هذا من كلام المصنف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تقسم‏"‏ أي لا تحلف وهذا طرف من حديث طويل قد ساقه البخاري مستوفى في كتاب التعبير‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإبرار القسم‏"‏ ظاهر الأمر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام قرينة صارفة عن الوجوب وعدم إبراره صلى اللّه عليه وآله وسلم لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الأحسن لكنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فعله لبيان عدم الوجوب ويمكن أن يقال أن الفعل منه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يعارض الأمر الخاص بالأمة كما تقرر في الأصول وما نحن فيه كذلك وبقية ما اشتمل عليه الحديث موضعه غير هذا‏.‏

باب ما يذكر فيمن قال هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا
1 - عن ثابت بن الضحاك‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا أبا داود‏.‏
2 - وعن بريدة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
من قال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبًا فهو كما قال وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالمًا‏"‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏ حديث بريدة هو من طريق الحسين بن واقد عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه وقد صححه النسائي‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏بملة غير الإسلام‏"‏ الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ونحوهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم‏.‏ قال

 

ج / 8 ص -234-       بن المنذر‏:‏ اختلف فيمن قال أكفر باللّه ونحوه إن فعلت ثم فعل فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار‏:‏ لا كفارة عليه ولا يكون كافرًا إلا إن أضمر ذلك بقلبه وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد إسحاق‏:‏ هو يمين وعليه كفارة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والأول أصح لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا اللّه ولم يذكر كفارة زاد غيره وكذا قال من حلف بملة سوى الإسلام فهو كما قال فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه‏.‏
ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل وتضمن كلامه بما ذكر تعظيمًا للإسلام وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال وحق الإسلام إذا حنث لا يجب عليه كفارة فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لم يصرح‏.‏
قال ابن دقيق العيد‏:‏ الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله واللّه وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق وأطلق عليه الحلف لمشابهته لليمين في اقتضاء الحنث أو المنع وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذبًا والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى وهذا بخلاف قولنا واللّه ما أشبهه فليس الإخبار بها عن أمر خارجي بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين‏:‏ أحدهما أن تتعلق بالمستقبل كقوله إن فعل كذا فهو يهودي‏.‏ والثاني تتعلق بالماضي كقوله إن كان كاذبًا فهو يهودي‏.‏ وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فهو كما قال‏"‏ قال ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم وفيه خلاف عند الحنفية لكونه تنجيز معنى فصار كما لو قال هو يهودي ومنهم من قال إذا كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل‏.‏
وقال بعض الشافعية‏:‏ ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك كفر لأن إرادة الكفر كفر وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهًا الثاني هو المشهور‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏كاذبًا‏"‏ زاد في البخاري ومسلم متعمدًا‏.‏ قال عياض‏:‏ تفرد بهذه الزيادة سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف متعمدًا إن كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك الملة لكونها حقًا كفر وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وينقدح بأن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضًا قال‏:‏ ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد بالنسبة إلى رواية مسلم فعسى فإنه أخرجها من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعًا عن أبي قلابة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في الحديث الآخر فهو كما قال‏"‏ قال في الفتح‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم كأن قال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال ونظيره من ترك الصلاة فقد كفر أي استوجب عقوبة من كفر‏.‏
وقال ابن المنذر‏:‏ ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر بل المراد أنه كاذب كذب المعظم لتلك الجهة‏.

 

ج / 8 ص -235-       باب ما جاء في اليمين الغموس ولغو اليمين
1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
خمس ليس لهن كفارة الشرك باللّه وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالًا بغير حق‏"‏‏.‏
2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل‏:‏
فعلت كذا قال‏:‏ لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت قال‏:‏ فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ قد فعل ولكن اللّه عز وجل غفر له بقوله لا والذي لا إله إلا هو‏"‏‏.‏
3 - وعن ابن عباس قال‏:‏
‏"‏اختصم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجلان فوقعت اليمين على أحدهما فحلف باللّه الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء قال‏:‏ فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا اللّه أو شهادته‏"‏‏.‏ رواهن أحمد ولأبي داود الثالث بنحوه‏.‏
4 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏أنزلت هذه الآية
‏{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ‏}‏ في قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه‏"‏‏.‏ أخرجه البخاري‏.‏ حديث أبي هريرة أخرجه أيضًا أبو الشيخ ويشهد له ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمرو قال جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه ما الكبائر فذكر الحديث وفيه "اليمين الغموس" وفيه قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب‏.‏
وحديث ابن عباس أخرجه أيضًا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وقد تكلم فيه غير واحد‏.‏ وأخرج له البخاري حديثًا مقرونًا بابن بشر‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ليس لهن كفارة‏"‏ أي لا يمحو الإثم الحاصل بسببهن شيء من الطاعات أما الشرك باللّه فلقوله تعالى ‏
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ وأما قتل النفس فعلى الخلاف في قبول توبة التائب عنه وقد تقدم الكلام فيه‏.‏ والمراد ببهت المؤمن أن يغتابه بما ليس فيه واليمين الصابرة أي التي ألزم بها وصبر عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم والظاهر أن هذه الأمور لا كفارة لها إلا التوبة منها ولا توبة في مثل القتل إلا بتسليم النفس للقود‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏وكفارة يمينه‏"‏ الخ هذا يعارض حديث

 

ج / 8 ص -236-       أبي هريرة لأنه قد نفى الكفارة عن الخمس التي من جملتها اليمين الفاجرة في اقتطاع حق وهذا أثبت له كفارة وهي التكلم بكلمة الشهادة ومعرفته لها ويجمع بينهما بأن النفي عام والإثبات خاص‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏باللغو‏"‏ الآية          قال الراغب‏:‏ هو في الأصل ما لا يعتد به من الكلام والمراد به في الأيمان ما يورد عن غير روية فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لا واللّه‏"‏ أخرجه أبو داود عنها مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏"‏قالت عائشة إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ هو كلام الرجل في بيته كلا واللّه وبلى واللّه‏"‏ وأخرجه أيضًا البيهقي وابن حبان وصحح الدارقطني الوقف ورواه البخاري والشافعي ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا‏.‏ ورواه الشافعي من حديث عطاء أيضًا موقوفًا‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ورواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفًا‏.‏ وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعًا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب فيظهر أنه أخطأ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد وقد تمسك بتفسير عائشة المذكور في الباب الشافعي وقال إنها قد جزمت بأن الآية نزلت في قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه وهي قد شهدت التنزيل‏.‏
وذهبت الحنفية والهادوية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظنه ثم يظهر خلافه وبه قال ربيعة ومالك ومكحول والأوزاعي والليث‏.‏ وعن أحمد روايتان قال في الفتح‏:‏ ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة عن أبي قلابة لا واللّه وبلى واللّه لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام ونقل إسماعيل القاضي عن طاوس أن لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان ونقل أقوالا أخر عن بعض التابعين ‏"‏وجملة‏"‏ ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قوله إبراهيم النخعي إن اللغو هو أن يحلف على الشيء لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري‏.‏
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن مثله وعنه هو كقول الرجل واللّه لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك‏.‏
وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحل اللّه له‏.‏ وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية ينعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه‏.‏
قال‏:‏ ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني المذكورة في الباب ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه‏.‏ ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا متعلق له فإن اللّه تعالى رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقًا فلا إثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة‏.‏ وقد أخرج ابن

 

ج / 8 ص -237-       أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة‏:‏ ‏"‏لغو اليمين ما كان في المراء والهزل أو المراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب‏"‏ وهذا موقوف‏.‏ ورواية يونس تقارب الزبيدي ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا واللّه وبلى واللّه وكلا واللّه ولا يقصد الحلف وليس مخالفًا للأول‏.‏ وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه وهذا يوافق القول الثاني لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفته من هو أوثق منه وأكثر عددًا‏.‏
ـ والحاصل ـ في المسألة أن القرآن الكريم قد دل على عدم المؤاخذة في يمين اللغو وذلك يعم الإثم والكفارة فلا يجب أيهما والمتوجه الرجوع في معرفة معنى اللغو إلى اللغة العربية وأهل عصره صلى اللّه عليه وآله وسلم أعرف الناس بمعاني كتاب اللّه تعالى لأنهم مع كونهم من أهل اللغة قد كانوا من أهل الشرع ومن المشاهدين للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والحاضرين في أيام النزول فإذا صح عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجح عليه أو يساويه وجب الرجوع إليه وإن لم يوافق ما نقله أئمة اللغة في معنى ذلك اللفظ لأنه يمكن أن يكون المعنى الذي نقله إليه شرعيًا لا لغويًا والشرعي مقدم على اللغوي كما تقرر في الأصول فكان الحق فيما نحن بصدده هو أن اللغو ما قالته عائشة رضي اللّه عنها‏.‏ ‏"‏وفي حديث الباب‏"‏ تعرض لذكر بعض الكبائر والكلام في شأنها طويل الذيول لا يتسع لبسطه إلا مؤلف حافل وقد ألف ابن حجر في ذلك مجلدًا ضخمًا سماه الزواجر في الكبائر فمن رام الاستقصاء رجع إليه وأما حصرها في عدد معين فليس ذلك إلا باعتبار الاستقراء لا باعتبار الواقع فمن جعل عددها أوسع فلكثرة ما استقرأه منها‏.‏

باب اليمين على المستقبل وتكفيرها قبل الحنث وبعده
1 -عن عبد الرحمن بن سمرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏
وفي لفظ‏:‏
‏"‏إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو الذي خير‏"‏ رواه النسائي وأبو داود وهو صريح في تقديم الكفارة‏.‏
2 - وعن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏"‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه‏.‏

 

ج / 8 ص -238-       3 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏"‏ رواه مسلم‏.‏
4 - وعن أبي موسى‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏
"‏لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني‏"‏‏.‏ متفق عليهن‏.‏
5 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا نذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم‏"‏‏.‏ رواه النسائي وأبو داود وهو محمول على نفي الوفاء بها‏.‏
6 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏كان الرجل يقوت أهله قوتًا في شدة فنزلت
‏{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}‏‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
7 - وعن أبي بن كعب وابن مسعود‏:‏
‏"‏أنهما قرآ فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏"‏‏.‏ حكاه أحمد ورواه الأثرم بإسناده ‏.‏
حديث عمرو بن شعيب ذكر البيهقي أنه لم يثبت وتمامه‏:‏
‏"‏ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها‏"‏ قال أبو داود‏:‏ الأحاديث كلها عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ ورواته لا بأس بهم لكن اختلف في سنده على عمرو وفي بعض طرقه عند أبي داود ولا في معصية‏.‏
وأثر ابن عباس رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح إلا سليمان بن أبي المغيرة العبسي ولكنه قد وثقه ابن معين وقال في التقريب صدوق‏.‏ وأثر أبي بن كعب أخرجه الدارقطني وصححه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأت الذي هو خير‏"‏ فيه دليل على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه طاعة والتمادي واجب والحنث معصية وعكسه بالعكس وإن حلف على فعل نفل فيمينه طاعة والتمادي مستحب والحنث مكروه وإن حلف على ترك مندوب فبعكس الذي قبله وإن حلف على فعل مباح فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك كما لو حلف لا يأكل طيبًا ولا يلبس ناعمًا ففيه عند الشافعية خلاف وقال ابن الصباغ‏:‏ وصوبه المتأخرون أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال وإن كان

 

ج / 8 ص -239-       مستوي الطرفين فالأصح أن التمادي أولى لأنه قال فليأت الذي هو خير‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير‏"‏ هذه الرواية صححها الحافظ في بلوغ المرام وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه وأخرج الحاكم عن عائشة نحوها وأخرج أيضًا الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ‏:‏
‏"‏فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير‏"‏ وفيه دليل على أن الكفارة يجب تقديمها على الحنث ولا يعارض ذلك الرواية المذكورة في الباب قبلها بلفظ‏:‏ ‏"‏فأت الذي هو خير وكفر‏"‏ لأن الواو لا تدل على ترتيب إنما هي لمطلق الجمع على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي بعدها بلفظ‏:‏ ‏"‏فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير‏"‏ تخالفها وكذلك بقية الروايات المذكورة في الباب‏.‏
قال ابن المنذر‏:‏ رأي ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال‏:‏ لا يجزئ إلا بعد الحنث وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا تجزئ الكفارة قبل الحنث وعن مالك روايتان ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالفه ابن حزم واحتج له الطحاوي بقوله تعالى ‏
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}‏ فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم ورده مخالفوه فقالوا بل التقدير فأردتم الحنث‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر‏.‏
واحتجوا أيضًا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين ورده من أجازها بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقًا‏.‏
واحتجوا أيضًا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع فلا يقوم التطوع مقام المفروض‏.‏ وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا فلا تجزئ كما في تقديم الزكاة‏.‏ وقال عياض‏:‏ اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث واستحب الإمام مالك والشافعي والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث قال عياض‏:‏ ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لأن فيه إعانة على المعصية ورده الجمهور‏.‏
قال ابن المنذر‏:‏ واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يدل على تعيين أحد الأمرين والذي يدل عليه أنه أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعًا فقد فعل ما أمر به وإذا دل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلأن تحله الكفارة وهي فعل مالي أو بدني أولى ويرجح قولهم أيضًا بالكثرة‏.‏ وذكر عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيًا وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة‏.‏
وقد عرفت مما سلف أن المتوجه العمل برواية الترتيب المدلول عليه بلفظ ثم ولولا الإجماع المحكي سابقًا على جواز تأخير الكفارة عن الحنث لكان ظاهر الدليل أن تقديم الكفارة واجب كما سلف‏.‏
قال المازري‏:‏ للكفارة ثلاث حالات‏:‏ أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا‏.‏ ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا‏.‏ ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها خلاف ـ والأحاديث ـ المذكورة في الباب تدل على وجوب الكفارة مع

 

ج / 8 ص -240-       إتيان الذي هو خير‏.‏
وفي حديث عمرو بن شعيب المذكور بعضه في الباب ما يدل على أن ترك اليمين وإتيان الذي هو خير هو الكفارة وقد ذكرنا ذلك وذكرنا أن أبا داود قال إنه ما ورد من ذلك إلا ما لا يعبأ به‏.‏ قال الحافظ‏:‏ كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد اللّه عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه‏:‏
‏"‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته‏"‏ ويحيى ضعيف جدًا وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك فإنه أخرجه عنه بلفظ‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه‏"‏ هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ‏:‏ ‏"‏فرأى غيرها خيرًا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير‏"‏ ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كان الرجل يقوت أهله‏"‏ الخ فيه أن الأوسط المنصوص عليه في الآية الكريمة هو المتوسط ما بين قوت الشدة والسعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أنهما قرآ فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏"‏ قراءة الآحاد منزلة منزلة أخبار الآحاد صالحة لتقييد المطلق وتخصيص العام كما تقرر في الأصول وخالف في وجوب التتابع عطاء ومالك والشافعي والمحاملي‏.‏