نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

باب نذر الطاعة مطلقًا ومعلقًا بشرط
1 - عن عائشة‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من نذر أن يطيع اللّه فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا مسلمًا‏.‏
2 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن النذر وقال‏:‏
إنه لا يرد شيئًا وإنما يستخرج به من البخيل‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏ وللجماعة إلا أبا داود مثل معناه من رواية أبي هريرة‏.‏
لفظ حديث أبي هريرة‏:‏
‏"‏لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج اللّه فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل‏"‏ أي يعطيني‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فليطعه‏"‏ الطاعة أعم من أن تكون واجبة أو غير واجبة ويتصور النذر في الواجب بأن يؤقته كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبًا ويتقيد بما قيد به الناذر والخبر صريح في الأمر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية وهل تجب في الثاني كفارة يمين أو لا فيه خلاف يأتي إن شاء اللّه‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إنه لا يرد شيئًا‏"‏ فيه إشارة إلى تعليل النهي عن النذر وقد اختلف العلماء في هذا النهي فمنهم من حمله على ظاهره ومنهم من تأوله قال ابن

 

ج / 8 ص -241-       الأثير في النهاية‏:‏ تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ يصير بالنهي معصية فلا يلزم وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر إليهم في العاجل نفعًا ولا يصرف عنهم ضررًا ولا يغير قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر اللّه لكم أو تصرفون به عنكم ما قدره عليكم فإذا نذرتم فأخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى‏.‏
وقال أبو عبيد‏:‏ النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا ولو كان كذلك ما أمر اللّه تعالى أن يوفى به ولا حمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به‏.‏ ثم استدل على الحث على الوفاء به من الكتاب والسنة وإلى ذلك أشار المازري بقوله ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر قال وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم يبذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب قال ويشير إلى هذا التأويل قوله‏:‏ ‏"‏إنه لا يأتي بخير‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏إنه لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن اللّه قدره له‏"‏ وهذا كالنص على هذا التعليل انتهى‏.‏ والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازاة وزاد القاضي عياض فقال‏:‏ إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة قال‏:‏ ومحصل مذهب الإمام مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤيدًا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيبة نفس وخالص نية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إنه لا يرد شيئًا‏"‏ يعني مما يكرهه الناذر وأوقع النذر استدفاعًا له وأعم من هذه الرواية ما في البخاري وغيره بلفظ‏:‏ ‏"‏إنه لا يأتي بخير‏"‏ فإنه قد ينظر استجلابًا لنفع أو استدفاعًا لضرر والنذر لا يأتي بذلك المطلوب وهو الخير الكائن في النفع أو الخير الكائن في اندفاع الضرر‏.‏
قال الخطابي في الأعلام‏:‏ هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبًا وقد ذهب أكثر الشافعية ونقل عن نص الشافعي أن النذر مكروه وكذا عن المالكية وجزم الحنابلة بالكراهة‏.‏
وقال النووي‏:‏ إنه مستحب صرح بذلك في شرح المهذب وروي ذلك عن القاضي حسين والمتولي والغزالي وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال هذا النهي محله أن يقول مثلًا إن شفى اللّه مريضي فعلي صدقة‏.‏ ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى اللّه تعالى بما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة ويوضحه أنه لو لم

 

ج / 8 ص -242-       يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏"‏وإنما يستخرج به من البخيل‏"‏ قال‏:‏ وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض أو أن اللّه تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر وإليهما الإشارة في الحديث بقوله‏:‏ ‏"‏فإنه لا يرد شيئًا‏"‏ والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح‏.‏ قال الحافظ‏:‏ بل تقرب من الكفر ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة قال والذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرمًا والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهو تفصيل حسن ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة‏.‏
وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى
‏{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}‏ قال كانوا ينذرون طاعة اللّه تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم اللّه تعالى أبرارًا وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور‏:‏ ‏"‏البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي‏"‏ أخرجه النسائي وصححه ابن حبان أشار إلى ذلك العراقي في شرح الترمذي وقد نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطع اللّه فليطعه‏"‏ ولم يفرق بين المعلق وغيره‏.‏
قال الحافظ‏:‏ والاتفاق الذي ذكره مسلم لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر قلت لا نظر إذا لم يصحبه اعتقاد فاسد لأن إخراج المال في القرب طاعة والبخيل يحرص على المال فلا يخرجه إلا في نحو نذر المجازاة ولا تتيسر طاعته المالية إلا بمثل ذلك أو ما لا بد له منه كالزكاة والفطرة فلو لم يلزمه الوفاء لاستمر على بخله ولم يتم الاستخراج المذكور‏.‏

باب ما جاء في نذر المباح والمعصية وما أخرج مخرج اليمين
1 - عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏بينا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه‏"‏‏.‏ رواه البخاري وابن ماجه وأبو داود‏.‏
2 - وعن ثابت بن الضحاك‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
ليس على الرجل نذر فيما لا يملك‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
3 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏

 

ج / 8 ص -243-       لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه اللّه تعالى‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نظر إلى أعرابي قائمًا في الشمس وهو يخطب فقال‏:‏ ما شأنك قال‏:‏ نذرت يا رسول اللّه أن لا أزال في الشمس حتى تفرغ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ليس هذا نذرًا إنما النذر ما ابتغي به وجه اللّه‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
4 - وعن سعيد بن المسيب‏:‏ ‏"‏أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال‏:‏ إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر‏:‏ إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏
لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
5 - وعن ثابت بن الضحاك‏:‏ ‏"‏أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال‏:‏
أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللّه ولا فيما لا يملك ابن آدم‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
6 - وعن عائشة‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين‏"‏‏.‏ رواه الخمسة واحتج به أحمد وإسحاق‏.‏
7 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
8 - وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
كفارة النذر كفارة يمين‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏ حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضًا البيهقي وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه‏.‏ وقد أخرجه بلفظ أحمد الطبراني قال في مجمع الزوائد‏:‏ فيه عبد اللّه بن نافع المدني وهو ضعيف ولم يكن في إسناده أبي داود لأنه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏.‏ وحديث سعيد بن المسيب حديث صالح سكت عنه أبو داود والحافظ وهو من طريق عمرو بن شعيب ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع

 

ج / 8 ص -244-       من عمر بن الخطاب فهو منقطع‏.‏ وروي نحوه عن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة فقالت يكفر عن اليمين أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن‏.‏
وحديث ثابت بن الضحاك أخرجه أيضًا الطبراني وصحح الحافظ إسناده وأخرج نحوه أبو داود من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس ورواه أحمد في مسنده من حديث عمرو بن شعيب عن ابنة كردم عن أبيها بنحوه‏.‏ وفي لفظ لابن ماجه عن ميمونة بنت كردم‏.‏
وحديث عائشة قال الترمذي بعد إخراجه لا يصح لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة وكذلك قال غيره قالوا وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك‏.‏ وقال أحمد‏:‏ ليس بشيء ولا يساوي فلسًا‏.‏ وقال البخاري‏:‏ تركوه وتكلم فيه جماعة أيضًا منهم عمرو بن علي وأبو داود وأبو زرعة والنسائي وابن حبان والدارقطني‏.‏           وقال الخطابي‏:‏ لو صح هذا الحديث لكان القول به واجبًا والمصير إليه لازمًا إلا أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن الأرقم ورواه النسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمران بن حصين ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عنه ومحمد ليس بالقوي وقد اختلف عليه فيه‏.‏ ورواه ابن المبارك عن عبد الوارث عن أبيه أن رجلا حدثه أنه سأل عمران بن الحصين فذكره وفيه رجل مجهول‏.‏ ورواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الحافظ وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع وذلك لأن الزهري لم يروه عن أبي سلمة‏.‏ ورواه ابن ماجه من حديث سليمان بن بلال عن حرشي بن عتبة ومحمد بن أبي عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع إلى الرواية الأولى‏.‏ ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة وأبي سلمة كلاهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو مع كونه مرسلا فالحنفي هو محمد بن الزبير المتقدم قاله الحاكم‏.‏ وقال إن قوله من بني حنيفة تصحيف وإنما هو من بني حنظلة وله طريق أخرى عن عائشة عند الدارقطني من رواية غالب بن عبد اللّه الجزري عن عطاء عن عائشة مرفوعًا بلفظ‏:‏
‏"‏من جعل عليه نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين‏"‏ وغالب متروك وله طريق أخرى عند أبي داود من حديث كريب عن ابن عباس وإسنادها حسن فيها طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه‏.‏ وقال أبو داود موقوفًا يعني وهو أصح‏.‏
وقال النووي في الروضة‏:‏ حديث
‏"‏لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين‏"‏ ضعيف باتفاق المحدثين‏.‏ قال الحافظ‏:‏ قلت قد صححه الطحاوي وأبو علي ابن السكن فأين الاتفاق‏.‏
وحديث ابن عباس قد تقدمت الإشارة إليه أنه من طريق كريب عنه ولفظه في سنن أبي داود عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به‏"‏ وسيأتي وقد تقدم أنه موقوف على ابن عباس وأن الموقوف أصح‏.‏ وأخرجه ابن ماجه وفي إسناد ابن

 

ج / 8 ص -245-       ماجه من لا يعتمد عليه وليس فيه من نذر نذرًا في معصية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أبو إسرائيل‏"‏ قال الخطيب‏:‏ هو رجل من قريش ولا يشاركه أحد من الصحابة في كنيته واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغرًا وقيل بسير بمهملة مصغرًا وقيل قيصر باسم ملك الروم‏.‏ وقيل بالسين المهملة بدل الصاد‏.‏ وقد جزم ابن الأثير وغيره بأنه من الصحابة وفيه دليل على أن كل شيء يتأذى به الإنسان مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافيًا والجلوس في الشمس ليس من طاعة اللّه تعالى فلا ينعقد النذر به فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه‏.‏
قال القرطبي في قصة أبي إسرائيل‏:‏ هذا أعظم حجة للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه‏.‏ قال مالك‏:‏ لم أسمع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمره بكفارة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ليس على الرجل نذر فيما لا يملك‏"‏ فيه دليل على أن من نذر بما لا يملك لا ينفذ نذره وكذلك من نذر بمعصية كما في بقية أحاديث الباب واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا فقال الجمهور لا وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك واتفقوا على تحريم النذر في المعصية واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة واحتج من أوجبها بحديث عائشة المذكور في الباب وما ورد في معناه وأجيب بأن ذلك لا ينتهض للاحتجاج لما سبق في المقال‏.‏ واحتج أيضًا بما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر بلفظ‏:‏
‏"‏كفارة النذر كفارة اليمين‏"‏ لأن عمومه يشمل نذر المعصية وأجيب بأن فيه زيادة تمنع العموم وهي أن الترمذي وابن ماجه أخرجا حديث عقبة بلفظ‏:‏ ‏"‏كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين‏"‏ هذا لفظ الترمذي ولفظ ابن ماجه‏:‏ ‏"‏من نذر نذرًا لم يسمه‏"‏‏.‏ وحديث ابن عباس المذكور في الباب أيضًا قد سبق ما فيه من المقال‏.‏
ـ واستدل بأحاديث الباب ـ على أنه يصح النذر في المباح لأنه لما نفى النذر في المعصية بقي ما عداه ثابتًا‏.‏ ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح الحديث المذكور في أول الباب عن ابن عباس والحديث الذي فيه‏:‏ ‏
"‏إنما النذر ما يبتغى به وجه اللّه‏"‏ ومن جملة ما استدل به على أنه يلزم الوفاء بالنذر المباح قصة التي نذرت الضرب بالدف وأجاب البيهقي بأنه يمكن أن يقال إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل وأكلة السحر للتقوي على صيام النهار فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سالمًا معنى مقصود يحصل به الثواب‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏في رتاج الكعبة‏"‏ بمهملة فمثناة فوقية فجيم بعد ألف هو في اللغة الباب وكنى به هنا عن الكعبة نفسها‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ببوانة‏"‏ بضم الموحدة وبعد الألف نون قال في التلخيص‏:‏ موضع بين الشام وديار بكر قاله أبو عبيدة وقال البغوي‏:‏ أسفل مكة دون يلملم‏.‏ وقال المنذري‏:‏ هضبة من وراء ينبع ومثله في النهاية وسيأتي الكلام على حديث ثابت بن الضحاك‏.‏

 

ج / 8 ص -246-       باب من نذر نذرًا لم يسمه ولا يطيقه
1 - عن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏
2 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏
من نذر نذرًا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وابن ماجه وزاد‏:‏ ‏"‏ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به‏"‏‏.‏
3 - وعن أنس‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال‏:‏
ما هذا قالوا‏:‏ نذر أن يمشي قال‏:‏ إن اللّه عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا ابن ماجه‏.‏ وللنسائي في رواية‏:‏ ‏"‏نذر أن يمشي إلى بيت اللّه‏"‏‏.‏
4 - وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه فأمرتني أن أستفتي لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاستفتيته فقال‏:‏ لتمش ولتركب‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ ولمسلم فيه‏:‏ حافية غير مختمرة‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللّه لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنة‏"‏ رواه أحمد‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة فسأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إن اللّه لا يصنع بشقاء أختك شيئًا مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام‏"‏ رواه الخمسة‏.‏
5 - وعن كريب عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏جاءت امرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال‏:‏
إن اللّه لا يصنع بشقاء أختك شيئًا لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏
6 - وعن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
إن اللّه غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت وإنها لا تطيق ذلك فأمرها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تركب وتهدي هديًا‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

 

ج / 8 ص -247-       حديث عقبة الأول هو في صحيح مسلم بدون زيادة إذا لم يسم وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي‏.‏
وحديث ابن عباس الأول قال الحافظ في بلوغ المرام‏:‏ إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه وقد تقدم الكلام عليه والرواية الأخرى من حديث عقبة التي فيها ولتصم ثلاثة أيام حسنها الترمذي ولكن في إسنادها عبد اللّه بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة‏.‏ وحديث كريب عن ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح‏.‏
وحديث عكرمة عن ابن عباس سكت أيضًا عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح‏.‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ إسناده صحيح والرواية الأخرى أوردها أبو داود وسكت عنها هو والمنذري‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لم يسم‏"‏ فيه دليل على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى‏.‏
قال النووي‏:‏ اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله على نذر وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين انتهى‏.‏ والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذي لم يسم لأن حمل المطلق على المقيد واجب‏.‏ وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها سواء كانت متعلقة بالبدن أو بالمال وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا ينعقد ولا يلزم فيها الكفارة وإن كانت مباحة مقدورة فالظاهر الانعقاد ولزوم الكفارة لوقوع الأمر بها في أحاديث الباب في قصة الناذرة بالمشي وإن كانت غير مقدورة ففيها الكفارة لعموم ومن نذر نذرًا لم يطقه هذا خلاصة ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة‏.‏
وقال ابن رشد في نهاية المجتهد ما حاصله‏:‏ إنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الخبر وإن كان على جهة الشرط فقال مالك‏:‏ يلزم كالخبر ولا كفارة يمين في ذلك إلا أنه إذا نذر يجميع ماله لزمه ثلث ماله إذا كان مطلقًا وإن كان معينًا لزمه وإن كان جميع ماله أو أكثر من الثلث وسيأتي الخلاف فيمن نذر بجميع ماله‏.‏ قال‏:‏ وإذا كان النذر مطلقًا أي غير مسمى ففيه الكفارة عند كثير من العلماء‏.‏ وقال قوم‏:‏ فيه كفارة الظهار وقال قوم‏:‏ فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين‏"‏ ظاهره سواء كان المنذور به طاعة أو معصية أو مباحًا إذا كان غير مقدور ففيه الكفارة إلا أنه يخص من هذا العموم ما كان معصية بما تقدم ويبقى ما كان طاعة أو مباحًا وسواء كان غير مقدور شرعًا أو عقلًا أو عادة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ومن نذر نذرًا أطاقه‏"‏ الخ ظاهره العموم ولكنه يخص منه نذر المعصية بما سلف وكذلك نذر المباح بلزوم الكفارة وأما النذر الذي لم يسم فغير داخل في عموم الطاقة وعدمها لأن اتصاف النذر بأحد الوصفين فرع معرفته وما لم يسم لم يعرف‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏لتمش ولتركب‏"‏ فيه أن النذر بالمشي ولو إلى مكان المشي إليه طاعة فإنه

 

ج / 8 ص -248-       لا يجب الوفاء به بل يجوز الركوب لأن المشي نفسه غير طاعة إنما الطاعة الوصول إلى ذلك المكان كالبيت العتيق من غير فرق بين المشي والركوب ولهذا سوغ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الركوب للناذرة بالمشي فكان ذلك دالا على عدم لزوم النذر بالمشي وإن دخل تحت الطاقة‏.‏
قال في الفتح‏:‏ وإنما أمر الناذرة في حديث أنس أن تركب جزمًا وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب لأن الناذر في حديث أنس كان شيخًا ظاهر العجز وأخت عقبة لم توصف بالعجز فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت وبهذا ترجم البيهقي للحديث وأورد في بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس ما ذكره المصنف رحمه اللّه‏.‏ وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ‏:‏ ‏"‏جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وإنه يشق عليها المشي فقال‏:‏
مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي فما أغنى اللّه أن يشق على أختك‏"‏ وأحاديث الباب مصرحة بوجوب الكفارة‏.‏ ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدى‏.‏ وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة وفيه لتركب ولتلبس ولتصم‏.‏ وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عقبة نحوه وأخرج البيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال ففرت منه الإبل فإذا امرأة عريانة ناقضة شعرها فقالت‏:‏ نذرت أن أحج عريانة ناقضة شعري فقال‏:‏ مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دمًا‏"‏ وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه‏:‏ ‏"‏إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيًا فليهد هديًا وليركب‏"‏ وفي سنده انقطاع‏.‏
وقد استدل بهذه الأحاديث على صحة النذر بإتيان البيت الحرام لغير حج ولا عمرة‏.‏ وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجًا ولا عمرة لم ينعقد ثم إن نذره راكبًا لزمه فلو مشى لزمه دم لتوفر مؤنة الركوب وإن نذر ماشيًا لزمه من حيث أحرم إلى أن ينتهي الحج أو العمرة ووافقه صاحباه فإن ركب لعذر أجزأه ولزم دم‏.‏ وفي أحد القولين عن الشافعي مثله واختلف هل يلزمه بدنة أو شاة وإن ركب بلا عذر لزمه الدم‏.‏ وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا أن يعجز مطلقًا فيلزمه الهدى‏.‏ وعن عبد اللّه بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقًا‏.‏
قال القرطبي‏:‏ زيادة الأمر بالهدى رواتها ثقات‏.‏ وعن الهادوية أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي فإذا عجز جاز الركوب ولزمه دم قالوا لأن الرواية وإن جاءت مطلقة فقد قيدت برواية العجز ولا يخفى ما في أكثر هذه التفاصيل من المخالفة لصريح الدليل ويرد قول من قال بأنه لا كفارة مع العجز وتلزم مع عدمه ما وقع في حديث عكرمة عن ابن عباس وفي الرواية التي بعده فإنهما مصرحان بوجوب الهدى مع ذكر ما يدل على العجز من الضعف وعدم الطاقة والرجل المذكور في حديث أنه يهادى بين ابنيه قيل هو أبو إسرائيل المذكور في الباب الأول روى ذلك عن الخطيب حكى ذلك عنه مغلطاي‏.‏
قال الحافظ‏:‏ وهو تركيب منه وإنما ذكر الخطيب ذلك في رجل آخر مذكور في حديث لابن عباس‏.‏

 

ج / 8 ص -249-       باب من نذر وهو مشرك ثم أسلم أو نذر ذبحًا في موضع معين
1 - عن عمر قال‏:‏ ‏"‏نذرت نذرًا في الجاهلية فسألت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ما أسلمت فأمرني أن أوفي بنذري‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏
2 - وعن كردم بن سفيان‏:‏ ‏"‏أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن نذر نذره في الجاهلية فقال له‏:‏
ألوئن أو لنصب قال‏:‏ لا ولكن للّه فقال‏:‏ أوف للّه ما جعلت له انحر على بوانة وأوف بنذرك‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
3 - وعن ميمونة بنت كردم قالت‏:‏ ‏"‏كنت ردف أبي فسمعته يسأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال يا رسول اللّه إني نذرت أن أنحر ببوانة قال‏:‏ أبها وثن أو طاغية قال‏:‏ لا قال‏:‏
أوف بنذرك‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه‏.‏ وفي لفظ لأحمد‏:‏ ‏"‏إني نذرت أن أنحر عددًا من الغنم وذكر معناه وفيه دلالة على جواز نحو ما يذبح‏"‏‏.‏
4 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏"‏أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال
لصنم قالت‏:‏ لا قال‏:‏ لوثن قالت‏:‏ لا قال‏:‏ أوفي بنذرك‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
حديث عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وهذا اللفظ لعله أحد روايات حديثه الصحيح المتفق عليه بلفظ أنه قال ‏"‏قلت يا رسول اللّه إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال‏:‏
أوف بنذرك‏"‏ وزاد البخاري في رواية‏:‏ ‏"‏فاعتكف‏"‏‏.‏
وحديث ميمونة بنت كردم رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وعبد اللّه بن عبد الرحمن الطائفي قد أخرج له مسلم وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال في التقريب صدوق يخطئ وقد أخرجه ابن ماجه من طريق أخرى من حديث ابن عباس وبقية أحاديث الباب قد تقدم تخريج بعضها في باب ما جاء في نذر المباح عند ذكر المصنف رحمه اللّه لحديث ثابت بن الضحاك الذي بمعناها هنالك‏.‏
وفي حديث عمر دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي‏.‏ وعند الجمهور لا ينعقد النذر من الكافر وحديث عمر حجة عليهم وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما عرف أن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لأن الاعتكاف طاعة ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب‏.‏ وأجاب بعضهم بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمره بالوفاء استحبابًا لا وجوبًا ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادعى عدم الانعقاد‏.‏ وقد تقدم الكلام على حديث عمر في باب الاعتكاف‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏كردم‏"‏ بفتح الكاف والدال وفيه دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر في المكان المعين إذا لم يكن في التعيين معصية ولا مفسدة من اعتقاد تعظيم

 

ج / 8 ص -250-       جاهلية أو نحوه وبوانة قد تقدم ضبطه وتفسيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏قال لصنم قالت لا قال لوثن‏"‏ قال في النهاية‏:‏ الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد والصنم الصورة بلا جثة ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين وقد يطلق الوثن على غير الصورة ومنه حديث عدي بن حاتم‏:‏ ‏"‏قدمت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال‏:‏ ألق هذا الوثن عنك‏"‏ انتهى‏.

باب ما يذكر فيمن نذر الصدقة بماله كله
1 - عن كعب بن مالك أنه قال‏:‏ ‏"‏يا رسول اللّه إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه ورسوله فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال قلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر‏"‏‏.‏
متفق عليه‏.‏
2 - وفي لفظ قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول اللّه إن من توبتي إلى اللّه أن أخرج من مالي كله إلى اللّه ورسوله صدقة قال
لا قلت فنصفه قل لا قلت فثلثه قال نعم قلت فإني سأمسك سهمي من خيبر‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
3 - وعن الحسين بن السائب ابن أبي لبابة‏:‏ ‏"‏أن أبا لبابة ابن عبد المنذر لما تاب اللّه عليه قال‏:‏ يا رسول اللّه إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة للّه عز وجل ولرسوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
يجزئ عنك الثلث‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏ رواية أبي داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف‏.‏
وحديث أبي لبابة أورده الحافظ في الفتح وعزاه إلى أحمد وأبي داود وسكت عنه‏.‏
وأخرج أبو داود من طريق أبي عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكر الحديث وفيه‏:‏ وأن أنخلع من مالي كله صدقة قال
يجزئ عنك الثلث‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏أن أنخلع‏"‏ بنون وخاء معجمة أي أعرى من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب‏:‏ الأول أنه يلزمه الثلث فقط لهذا الحديث قاله مالك ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه بل يحتمل أنه نجز النذر ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ما يملك شكرًا للّه تعالى على ما أنعم به عليه قال ابن المنير‏:‏ لم يبتت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أم لا‏.‏
قال الحافظ‏:‏ ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام‏.‏ ومن ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء ممن التزم أن يتصدق بجميع ماله إذا كان على

 

ج / 8 ص -251-       سبيل القربة وقيل إن كان مليًا لزمه وإن كان فقيرًا فعليه كفارة يمين وهذا قول الليث ووافقه ابن وهب وزاد وإن كان متوسطًا يخرج قدر زكاة ماله‏.‏ والأخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل وهو قول ربيعة‏.‏ وعن الشعبي وابن أبي ليلى لا يلزمه شيء أصلا‏.‏ وعن قتادة يلزم الغني العشر والمتوسط السبع والمملق الخمس‏.‏
وقيل يلزم الكل إلا في نذر اللجاج فكفارة يمين‏.‏ وعن سحنون يلزمه أن يخرج ما لا يضر به‏.‏ وعن الثوري والأوزاعي وجماعة يلزمه كفارة يمين بدون تفصيل‏.‏ وعن النخعي يلزمه الكل بغير تفصيل وإذا تقرر ذلك فقد دل حديث كعب أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع ماله أن يمسك بعضه ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ وقيل إن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال فمن كان قويًا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن لم يكن كذلك فلا وعليه يتنزل لا صدقة إلا عن ظهر غِنىً‏.‏ وفي لفظ‏:‏
أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً‏.‏

باب ما يجزئ من عليه عتق رقبة مؤمنة بنذر أو غيره
1 - عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن رجل من الأنصار‏:‏ ‏"‏أنه جاء بأمة سوداء فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن علي عتق رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أتشهدين أن لا إله إلا اللّه قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أتشهدين أني رسول اللّه قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ فأعتقها‏"‏‏.‏
2 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
أين اللّه فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها‏:‏ من أنا فأشارت بإصبعها إلى رسول اللّه وإلى السماء أي أنت رسول اللّه فقال‏:‏ أعتقها‏"‏‏.‏ رواهما أحمد‏.‏
حديث عبيد اللّه بن عبد اللّه رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن رجل من الأنصار وهذا إسناد رجاله أئمة وجهالة الصحابي مغتفرة كما تقرر في الأصول‏.‏
وحديث أبي هريرة أخرجه أيضًا أبو داود من حديث عون بن عبد اللّه بن عتبة عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بجارية سوداء‏"‏ الحديث‏.‏ وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عون بن عبد اللّه بن عتبة حدثني أبي عن جدي فذكره وفي اللفظ مخالفة كثيرة وسياق أبي داود أقرب إلى السياق الذي في الباب‏.‏
وروى نحوه أحمد وأبو داود

 

ج / 8 ص -252-       والنسائي وابن حبان من حديث الشريد بن سويد وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي ليلى عن المنهال والحكم عن سعيد عن ابن عباس بنحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب‏.‏ ومن ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي المشهور‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها‏"‏ إلى آخر ما في الحديثين استدل بالحديثين على أنه لا يجزئ في كفارة اليمين إلا رقبة مؤمنة وإن كانت الآية الواردة في كفارة اليمين لم تدل على ذلك لأنه قال تعالى ‏{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان‏.‏
قال ابن بطال‏:‏ حمل الجمهور ومنهم الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى
‏{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}‏ على المقيد في قوله تعالى ‏{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}‏ وخالف الكوفيون فقالوا يجوز إعتاق الكافر ووافقهم أبو ثور وابن المنذر واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين ومما يؤيد القول الأول أن المعتق للرقبة المؤمنة آخذ بالأحوط بخلاف المكفر بغير المؤمنة فإنه في شك من براءة الذمة‏.‏

باب أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأه أن يصلي في مسجد مكة والمدينة
1 - عن جابر‏:‏ ‏"‏أن رجلا قال يوم الفتح يا رسول اللّه إني نذرت إن فتح اللّه عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس فقال‏:‏
صل ههنا فسأله فقال‏:‏ شأنك إذن‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود ولهما عن بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذا الخبر وزاد‏:‏ ‏"‏فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ والذي بعث محمدًا بالحق لو صليت ههنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس‏"‏‏.‏
2 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن امرأة شكت شكوى فقالت‏:‏ إن شفاني اللّه فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها فأخبرتها بذلك فقالت‏:‏ اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام‏"‏‏.‏ رواه الجماعة إلا أبا داود‏.‏ ولأحمد وأبي داود من حديث جابر مثله وزاد‏:‏ ‏"‏صلاة في المسجد

 

ج / 8 ص -253-       الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه‏"‏ وكذلك لأحمد من حديث عبد اللّه بن الزبير مثل حديث أبي هريرة وزاد‏:‏ ‏"‏وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا‏"‏‏.‏
4 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏ ولمسلم في رواية‏:‏ ‏"‏إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد‏"‏‏.‏ حديث جابر أخرجه أيضًا البيهقي والحاكم وصححه‏.‏ وصححه أيضًا ابن دقيق العيد في الاقتراح‏.‏
وحديث بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سكت عنه أبو داود والمنذري وله طرق رجال بعضها ثقات وقد تقرر أن جهالة الصحابي لا تضر‏.‏ وقيل إنه روى الحديث عن عبد الرحمن بن عوف وعن رجال من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏ وحديث جابر الآخر رواه أحمد من حديث أحمد بن عبد الملك حدثنا عبد اللّه بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه‏:‏ ‏
"‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه‏"‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده صحيح إلا أنه اختلف فيه على عطاء‏.‏
وحديث عبد اللّه بن الزبير أخرجه أيضًا ابن حبان والبيهقي ولفظه‏:‏ ‏
"‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي‏"‏ وفي الباب عن جابر أيضًا عند ابن عدي بلفظ‏:‏ ‏"‏الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة‏"‏ وإسناده ضعيف لأنه من حديث يحيى بن أبي حية عن عثمان بن الأسود عن مجاهد عن جابر وفي الباب أيضًا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا عند الطبراني في الكبير‏:‏ ‏"‏الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة‏"‏ وعن أبي ذر عند الدارقطني في العلل والحاكم في المستدرك‏:‏ ‏"‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس‏"‏ وعند ابن ماجه من حديث ميمونة بنت سعد بأن الصلاة في بيت المقدس كألف صلاة في غيره‏.‏
وروى ابن ماجه من حديث أنس فصلاة في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وإسناده ضعيف وروى ابن عبد البر في التمهيد من حديث الأرقم صلاة هذا خير من ألف صلاة ثمة يعني بيت المقدس‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ هذا حديث ثابت وحديث أبي هريرة الآخر هو أيضًا متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏صل ههنا‏"‏ فيه دليل على أن من نذر بصلاة أو صدقة أو نحوهما في مكان ليس بأفضل من مكان الناذر فإنه لا يجب عليه الوفاء بإيقاع المنذور به في ذلك المكان بل يكون الوفاء بالفعل في مكان الناذر وقد تقدم أنه

 

ج / 8 ص -254-       صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر الناذر بأن ينحر ببوانة يفي بنذره بعد أن سأله هل كانت كذا هل كانت كذا فدل ذلك على أنه يتعين مكان النذر ما لم يكن معصية ولكن الجمع بين ما هنا وما هناك أن المكان لا يتعين حتمًا بل يجوز فعل المنذور به في غيره فيكون ما هنا بيانًا للجواز ويمكن الجمع بأنه يتعين مكان النذر إذا كان مساويًا للمكان الذي فيه الناذر أو أفضل منه لا إذا كان المكان الذي فيه الناذر فوقه في الفضيلة ويشعر بهذا ما في حديث ميمونة من تعليل ما أفتت به ببيان أفضلية المكان الذي فيه الناذرة في الشيء المنذور به وهو الصلاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إلا المسجد الحرام هذا‏"‏ فيه دليل على أفضلية الصلاة في مسجده صلى اللّه عليه وآله وسلم على غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإنه استثناه فاقتضى ذلك أنه ليس بمفضول بالنسبة إلى مسجده صلى اللّه عليه وآله وسلم ويمكن أن يكون مساويًا أو أفضل وسائر الأحاديث دلت على أنه أفضل باعتبار الصلاة فيه بذلك المقدار‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تشد الرحال‏"‏ الخ فيه دليل على أنه يتعين مكان النذر إذا كان أحد الثلاثة المذكورة وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلزم وله أن يصلي في أي محل شاء وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان بحج أو عمرة وما عدا الأمكنة الثلاثة فلا يتعين مكانًا للنذر ولا يجب الوفاء عند الجمهور‏.‏
وقد تمسك بهذا الحديث من منع السفر وشد الرحل إلى غيرها من غير فرق بين جميع البقاع‏.‏ وقد وقع لحفيد المصنف في ذلك وقائع بينه وبين أهل عصره لا يتسع المقام لبسطها‏.‏

باب قضاء كل المنذورات عن الميت‏.
1 - عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن سعد بن عبادة استفتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏
إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ اقضه عنه‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والنسائي وهو على شرط الصحيح قال البخاري‏:‏ وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال‏:‏ صلي عنها قال‏:‏ وقال ابن عباس نحوه‏.‏ حديث ابن عباس في قصة سعد بن عبادة أصله في الصحيحين‏.‏
وقول ابن عباس الذي أشار البخاري بأنه نحو ما قاله ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح‏:‏ ‏"‏أن امرأة جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه فأفتى عبد اللّه بن عباس ابنتها أن تمشي عنها‏"‏ وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك فقال مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد اللّه بن عمر كان يقول لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد‏.‏ وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن ابن أبي رباح عن ابن عباس قال‏:‏ لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد‏.‏ أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفًا ثم قال‏:‏ والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي قال‏:‏ ثم وجدت عن ابن عباس ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح‏:‏ سئل

 

ج / 8 ص -255-       ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال يصام عنه النذر‏.‏
وقال ابن المنير‏:‏ يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله صلي عنها العمل بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏
‏"‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏"‏ فعد منها الولد لأن الولد من كسبه فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره فمعنى صلي عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك كذا قال ولا يخفى تكلفه‏.‏ وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد وإلى ذلك ذهب ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد فرضًا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت‏.‏ ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه‏.‏ ولما نهي عن الاستغفار لعمه ولبطل معنى قوله ‏{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}‏ قال الحافظ‏:‏ وجميع ما قاله لا يخفى وجه تعقبه خصوصًا ما ذكره في حق الشارع صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏
وأما الآية فعمومها مخصوص اتفاقًا وقد ذهب ابن حزم ومن وافقه إلى أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل كان صومًا لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال‏:‏
نعم‏.‏ الحديث‏.‏ وأجيب بأنه لم يكن فيه أن الرجل سعد‏.‏
وقال ابن عبد البر‏:‏ كان عتقًا واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال يا رسول اللّه إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها قال نعم وقيل كان صدقة لما رواه في الموطأ وغيره أن سعدًا خرج مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقيل لأمه أوصي قالت المال مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم فقال يا رسول اللّه هل ينفعها أن أتصدق عنها قال نعم‏.‏ وليس في هذا والذي قبله أنها نذرت‏.‏ قال عياض‏:‏ والذي يظهر أنه كان نذرها في مال أو مبهمًا‏.‏ وظاهر حديث الباب أنه كان معينًا عند سعد‏.‏
ـ وفي الحديث ـ قضاء الحقوق الواجبة عن الميت وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي فإنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقًا‏.‏