نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب الأقضية
والأحكام
باب وجوب نصبة ولاية القضاء والإمارة وغيرهما
1 - عن عبد اللّه بن
عمرو: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا
أمروا عليهم أحدهم".
رواه أحمد.
2 - وعن أبي سعيد:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم
أحدهم".
رواه أبو داود. وله من حديث أبي هريرة
مثله.
ج / 8 ص -256-
حديث عبد اللّه بن عمرو وحديث أبي سعيد قد
أخرج نحوهما البزار بإسناد صحيح من حديث عمر
بن الخطاب بلفظ "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا
أحدكم ذاك أمير أمره رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم". وأخرج البزار أيضًا بإسناد
صحيح من حديث عبد اللّه بن عمر مرفوعًا
بلفظ:
"إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح وهذه
الأحاديث يشهد بعضها لبعض وقد سكت أبو داود
والمنذري عن حديث أبي سعيد وأبي هريرة وكلاهما
رجالهما رجال الصحيح إلا علي بن بحر وهو
ثقة. ولفظ حديث أبي هريرة:
"إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا أن يؤمروا
عليهم أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف
الذي يؤدي إلى التلاف فمع عدم التأمير يستبد
كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون
ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة وإذا
شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو
يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى
والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم
أولى وأحرى وفي ذلك دليل لقول من قال أنه يجب
على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام وقد
ذهب الأكثر إلى أن الإمامة واجبة لكنهم
اختلفوا هل الوجوب عقلًا أو شرعًا فعند العترة
وأكثر المعتزلة والأشعرية تجب شرعًا. وعند
الإمامية تجب عقلًا فقط وعند الجاحظ والبلخي
والحسن البصري تجب عقلًا وشرعًا. وعند ضرار
والأصم وهشام الفوطي والنجدات لا تجب.
باب كراهية
الحرص على الولاية وطلبها
1 - عن أبي موسى قال:
"دخلت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما يا رسول
اللّه أمرنا على بعض ما ولاك اللّه عز وجل
وقال الآخر مثل ذلك فقال:
إنا واللّه لا نولي هذا العمل أحدًا يسأله أو
أحدًا حرص عليه".
2 - وعن عبد الرحمن بن
سمرة قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك
إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها". متفق عليهما.
3 - وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل
عليه ملك يسدده".
رواه الخمسة إلا النسائي.
ج / 8 ص -257-
4 - وعن أبي هريرة: "عن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة
فنعم المرضعة وبئست الفاطمة".
رواه أحمد والبخاري والنسائي.
5 - وعن أبي هريرة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله
جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله
النار". رواه أبو داود. وقد حمل على ما إذا لم يوجد غيره.
حديث أنس أخرجه أيضًا
الطبراني في الأوسط من رواية عبد الأعلى
التغلبي عن بلال بن أبي بردة الأشعري عن أنس
مرفوعًا بلفظ: "من طلب القضاء واستعان عليه وكل إلى نفسه ومن لم يطلبه ولم يستعن
عليه أنزل اللّه عليه ملكًا يسدده"
قال: لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد تفرد
به عبد الأعلى وأخرجه البزار من طريق عبد
الأعلى عن بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس قال
ولا يعلم عن أنس إلا من هذا الوجه. وأخرجه
الترمذي من الطريقتين جميعًا وقال حسن غريب
وقال في الرواية الثانية أصح وأخرجه الحاكم من
طريق إسرائيل عن عبد الأعلى عن بلال عن خيثمة
وصححه وتعقب أن خيثمة لينه يحيى بن معين وعبد
الأعلى ضعفه الجمهور. وأخرج الحديث ابن
المنذر بلفظ:
"من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه
أنزل اللّه ملكًا يسدده"
وحديث أبي هريرة الثاني سكت عنه أبو داود
والمنذري وسنده لا مطعن فيه فإن أبا داود قال
حدثنا عباس العنبري يعني ابن عبد العظيم أبا
الفضل شيخ الشيخين حدثنا عمر بن يونس يعني
اليمامي حدثنا ملازم بن عمرو يعني ابن عبد
اللّه بن بدر اليمامي وثقه أحمد وابن معين
والنسائي حدثني محمد بن نجدة يعني اليمامي عن
جده يزيد بن عبد الرحمن يعني الذي يقال له أبو
كثير السحيمي عن أبي هريرة فذكره.
قوله: "أو أحدًا حرص
عليه" بفتح المهملة والراء. قال
العلماء: والحكمة في أنه لا يولي من يسأل
الولاية أنه يوكل إليها ولا يكون معه إعانة
كما في الحديث الذي بعده وإذا لم يكن معه
إعانة لا يكون كفؤًا ولا يولي غير الكفء لأن
فيه تهمة. قوله: "لا تسأل الإمارة"
هكذا في أكثر طرق الحديث ووقع في رواية
بلفظ:
"لا تتمنين الإمارة"
بصيغة النهي عن التمني مؤكدًا بالنون
الثقيلة. قال ابن حجر: والنهي عن التمني
أبلغ من النهي عن الطلب. قوله: "عن غير
مسألة" أي سؤال. قوله: "وكلت إليها"
بضم الواو وكسر الكاف مخففًا ومشددًا وسكون
اللام ومعنى المخفف أي صرفت إليها وكل الأمر
إلى فلان صرفه إليه ووكله بالتشديد استحفظه.
ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت
إعانته عليها من أجل حرصه ويستفاد من هذا أن
طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارة
ج / 8 ص -258-
القضاء والحسبة ونحو ذلك وأن من حرص على ذلك
لا يعان ويعارض ذلك في الظاهر حديث أبي هريرة
المذكور في آخر الباب.
قال الحافظ:
ويجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان
بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي أو
يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية
وبالجملة فإذا كان الطالب مسلوب الإعانة تورط
فيما دخل فيه وخسر الدنيا والآخرة فلا تحل
تولية من كان كذلك ربما كان الطالب للإمارة
مريدًا بها الظهور على الأعداء والتنكيل بهم
فيكون في توليته مفسدة عظيمة.
قال ابن التين:
محمول على الغالب وإلا فقد قال يوسف عليه
السلام:
{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} وقال سليمان:
{وَهَبْ لِي مُلْكاً}
قال: ويحتمل أن يكون في غير الأنبياء عليهم
السلام انتهى. قلت ذلك لوثوق الأنبياء
بأنفسهم بسبب العصمة من الذنوب وأيضًا لا
يعارض الثابت في شرعنا ما كان في شرع غيرنا
فيمكن أن يكون الطلب في شرع يوسف عليه السلام
سائغًا وأما سؤال سليمان فخارج عن محل النزاع
إذ محله سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق
وسليمان عليه السلام إنما سأل الخالق.
قوله: "إنكم
ستحرصون" بكسر الراء ويجوز فتحها ويدخل في
لفظ الإمارة الإمارة العظمى وهي الخلافة
والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد وهذا
إخبار منه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالشيء
قبل وقوعه فوقع كما أخبر.
قوله: "وستكون ندامة
يوم القيامة" أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي
ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند
صحيح عن عوف بن مالك بلفظ:
"أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب
يوم القيامة إلا من عدل" وفي الأوسط للطبراني من رواية شريك عن عبد اللّه بن عيسى عن أبي
صالح عن أبي هريرة قال شريك لا أدري رفعه أم
لا قال: الإمارة أولها ندامة وأوسطها غرامة
وآخرها عذاب يوم القيامة. وله شاهد من حديث
شداد بن أوس رفعه بلفظ:
"أولها ملامة وثانيها ندامة" أخرجه الطبراني.
وعند الطبراني من حديث
زيد بن ثابت رفعه: نعم الشيء الإمارة لمن
أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن
أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم
القيامة.
قال الحافظ:
وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله ويقيد أيضًا
ما أخرجه مسلم عن أبي ذر: قلت يا رسول اللّه
ألا تستعملني قال: إنك ضعيف وإنها أمانة
وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها
بحقها وأدى الذي عليه فيها.
قال النووي:
هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن
كان فيه ضعف وهو من دخل فيها بغير أهلية ولم
يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي
بالخذي يوم القيامة وأما من كان أهلًا وعدل
فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار ولكن
الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر
منها انتهى. وسيأتي حديث أبي ذر هذا.
قوله: "فنعم المرضعة
وبئست الفاطمة" قال الداودي: نعمت المرضعة
أي الدنيا وبئست الفاطمة أي بعد الموت لأنه
يصير إلى المحاسبة على ذلك فهو كالذي يفطم قبل
أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه.
وقال غيره:
نعمت المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال
ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية
حال حصولها وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها
بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في
الآخرة.
قوله: "ثم غلب عدله
جوره" أي كان عدله
ج / 8 ص -259-
في حكمه أكثر من ظلمه كما يقال غلب على فلان
الكرم أي هو أكثر خصاله وظاهره أنه ليس من شرط
الأجر الذي هو الجنة أن لا يحصل من القاضي جور
أصلًا بل المراد أن يكون جوره مغلوبًا بعدله
فلا يضر صدور الجور المغلوب بالعدل إنما الذي
يضر ويوجب النار أن يكون الجور غالبًا
للعدل. قيل هذا الحديث محمول على ما إذا لم
يوجد غير هذا القاضي الذي طلب القضاء جمعًا
بينه وبين أحاديث الباب.
وقد تقدم طرف من الجمع
وبقي الكلام في استحقاق الأمير للإعانة هل
يكون بمجرد إعطائه لها من غير مسألة كما يدل
عليه حديث عبد الرحمن بن سمرة المذكور في
الباب أم لا يستحقها إلا بالإكراه والإجبار
كما يدل عليه حديث أنس المذكور أيضًا فقال ابن
رسلان: إن المطلق مقيد بما إذا أكره على
الولاية وأجبر على قبولها فلا ينزل اللّه إليه
الملك يسدده إلا إذا أكره على ذلك جبرًا ولا
يحصل هذا لمن عرضت عليه الولاية فقبلها من دون
إكراه كما في لفظ الترمذي من رواية بلال بن
مرداس ومن أكره عليه أنزل اللّه عليه ملكًا
يسدده. وقال حسن غريب ولا يخفى ما في حديث
أنس من المقال الذي قدمناه مع اضطراب ألفاظه
التي أشرنا إلى بعضها وأكثر ألفاظه بدون ذكر
الإجبار والإكراه كما في سنن أبي داود وغيرها
على أنه على فرض صحته وصلاحيته لا معارضة بينه
وبين حديث عبد الرحمن بن سمرة لأن حديث عبد
الرحمن فيه أن من أعطي الإمارة من غير مسألة
أعين عليها وليس فيها نزول الملك للتسديد.
وحديث أنس فيه أن من أجبر نزل عليه ملك يسدده
فغايته أن الإعانة تحصل بمجرد إعطاء الإمارة
من غير مسألة بخلاف نزول الملك فلا يحصل إلا
بالإجبار فلا معارضة ولا إطلاق ولا تقييد إلا
في حديث أنس نفسه فيمكن أن يحمل المطلق من
ألفاظه عن الإجبار والإكراه بالمقيد بهما إذا
انتهض لذلك لا يقال إن إنزال الملك للتسديد
نوع من الإعانة فتثبت المعارضة لأنا نقول بعض
أنواع الإعانة لا يعارض البعض الآخر.
باب التشديد في
الولايات وما يخشى على من لم يقم بحقها دون
القائم به
1 - عن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
من جعل قاضيًا بين الناس فقد ذبح بغير سكين".
رواه الخمسة إلا النسائي.
2 - وعن ابن مسعود:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة
وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم ثم يرفع
رأسه إلى اللّه عز وجل فإن قال ألقه ألقاه في
مهوى فهوي أربعين خريفًا".
رواه أحمد وابن ماجه بمعناه.
3 - وعن أبي هريرة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه
قال:
ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين
أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم
ج / 8 ص -260-
كانت متعلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء
والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء".
4 - وعن عائشة قالت:
"سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
لتأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة
يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط".
5 - وعن أبي أمامة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى
اللّه عز وجل يوم القيامة يده إلى عنقه فكه
بره أو أوبقه إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة
وآخرها خزي يوم القيامة".
6 - وعن عبادة بن الصامت: "قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما من أمير عشرة إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى
يطلقه الحق أو يوبقه ومن تعلم القرآن ثم نسيه
لقي اللّه وهو أجزم". رواهن أحمد.
7 - وعن عبد اللّه بن
أبي أوفى قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
إن اللّه مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله
اللّه إلى نفسه".
رواه ابن ماجه. وفي لفظ:
"اللّه مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى
عنه ولزمه الشيطان". رواه الترمذي.
8 - وعن عبد اللّه بن
عمر قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
إن المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن
يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في
حكمهم وأهليهم وما ولوا". رواه أحمد ومسلم والنسائي.
حديث أبي هريرة الأول
أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه
الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان وله طرق
وقد أعله ابن الجوزي فقال هذا حديث لا يصح.
قال الحافظ ابن حجر:
وليس كما قال وكفاه قوة تخريج النسائي له.
وقد ذكر الدارقطني
الخلاف فيه على سعيد المقبري قال والمحفوظ عن
سيد المقبري عن أبي هريرة قال المنذري وفي
إسناده عثمان بن محمد الأخنسي. قال النسائي
ليس بذاك القوي قال وإنما ذكرناه لئلا يخرج من
الوسط ويجعل عن ابن أبي ذئب عن سعيد انتهى.
فلا تتم التقوية بإخراج النسائي للحديث كما
زعم الحافظ.
وحديث ابن مسعود أخرجه
أيضًا البيهقي في شعب الإيمان والبزار
ج / 8 ص -261-
وفي إسناده مجالد بن سعيد وثقه النسائي
وضعفه جماعة. وحديث أبي هريرة الثاني حسنه
السيوطي.
وحديث عائشة أخرجه أيضًا
العقيلي وابن حبان والبيهقي. قال البيهقي:
عمران بن حطان الراوي عن عائشة لا يتابع عليه
ولا يتبين سماعه منها. ووقع في رواية الإمام
أحمد من طريقه قال: دخلت على عائشة فذاكرتها
حتى ذكرنا القاضي فذكره. قال في مجمع
الزوائد: وإسناده حسن.
وحديث أبي أمامة حسنه
السيوطي وفي معناه أحاديث منها حديث عبادة
المذكور بعده ومنها حديث أبي هريرة عند
البيهقي في السنن بلفظ:
"ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يفكه العدل أو
يوبقه الجور"
ومنها حديث ابن عباس:
"ما من أمير يؤمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة" أخرجه الطبراني في الكبير وأخرج البيهقي حديثًا آخر عن أبي هريرة
بمعنى حديثه هذا. وحديث عبادة أخرجه أيضًا
الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب من حديث
سعد بن عبادة. وحديث عبد اللّه بن أبي أوفى
أخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك والبيهقي في
السنن وابن حبان وحسنه الترمذي. قوله:
"فقد ذبح بغير سكين" بضم الذال المعجمة
مبني للمجهول
قال ابن الصلاح:
المراد ذبح من حيث المعنى لأنه بين عذاب
الدنيا إن رشد وبين عذاب الآخرة إن فسد.
وقال الخطابي ومن تبعه:
إنما عدل عن الذبح بالسكين ليعلم أن المراد ما
يخاف من هلاك دينه دون بدنه وهذا أحد الوجهين
والثاني أن الذبح بالسكين فيه إراحة للمذبوح
وبغير السكين كالخنق أو غيره يكون الألم فيه
أكثر فذكر ليكون أبلغ في التحذير.
قال الحافظ في التلخيص:
ومن الناس من فتن بحب القضاء فأخرجه عما
يتبادر إليه الفهم من سياقه فقال إنما قال ذبح
بغير سكين إشارة إلى الرفق به ولو ذبح بالسكين
لكان أشق عليه ولا يخفى فساده انتهى. وحكى
ابن رسلان في شرح السنن عن أبي العباس أحمد بن
القاص أنه قال ليس في هذا الحديث عندي كراهية
القضاء وذمه إذ الذبح بغير سكين مجاهدة النفس
وترك الهوى واللّه تعالى يقول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
يا أبا هريرة عليك بطريق قوم إذا فزع الناس
أمنوا
قلت من هم يا رسول اللّه قال هم قوم تركوا الدنيا فلم يكن في قلوبهم ما يشغلهم عن
اللّه قد أجهدوا أبدانهم وذبحوا أنفسهم في طلب
رضا اللّه" فناهيك به فضيلة وزلفى لمن قضى بالحق في عباده إذ جعله ذبيح الحق
امتحانًا لتعظم له المثوبة امتنانًا وقد ذكر
اللّه قصة إبراهيم خليله عليه السلام.
وقوله: {يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ} فإذا جعل اللّه إبراهيم في تسليمه لذبح ولده مصدقًا فقد جعل ابنه
لاستسلامه للذبح ذبيحًا ولذا قال صلى اللّه
عليه وآله وسلم "أنا ابن الذبيحين"
يعني إسماعيل وعبد اللّه فكذلك القاضي عندنا
لما استسلم لحكم اللّه واصطبر على مخالفة
الأباعد والأقارب في خصوماتهم لم تأخذه في
اللّه لومة لائم حتى قاده إلى مر الحق جعله
ذبيحًا للحق وبلغ به حال الشهداء الذين لهم
الجنة يقاتلون في سبيل اللّه وقد ولى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليًا ومعاذًا
ومعقل بن يسار فنعم الذابح ونعم المذبوح.
وفي كتاب اللّه الدليل على الترغيب فيه بقوله
{يَحْكُمُ
ج / 8 ص -262-
ِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}
إلى آخر الآيات انتهى.
وحديث أبي هريرة الذي
ذكره لا أدري من أخرجه فيبحث عنه وعلى كل حال
فحديث الباب وارد في ترهيب القضاة لا في
ترغيبهم وهذا هو الذي فهمه السلف والخلف من
جعله من الترغيب فقد أبعد وقد استروح كثير من
القضاة إلى ما ذكره أبو العباس وأنا وإن كنت
حال تحرير هذه الأحرف منهم ولكن اللّه يحب
الإنصاف وقد ورد في الترغيب في القضاة ما يغني
عن مثل ذلك التكلف فأخرج الشيخان من حديث عمرو
بن العاص وأبي هريرة:
"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب
فله أجران"
ورواه الحاكم والدارقطني من حديث عقبة بن عامر
وأبي هريرة وعبد اللّه بن عمر بلفظ:
"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور" وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف وتابعه
ابن لهيعة بغير لفظه ورواه أحمد من طريق عمرو
بن العاص بلفظ:
"إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة" وإسناده ضعيف أيضًا.
وأخرج أحمد في مسنده
وأبو نعيم في الحلية عن عائشة: "أنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم قال:
السابقون إلى ظل اللّه يوم القيامة الذين إذا
أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوه وإذا حكموا
بين الناس حكموا كحكمهم لأنفسهم"
وهو من رواية ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران
عن القاسم بن محمد عنها قال أبو نعيم: تفرد
به ابن لهيعة عن خالد.
قال الحافظ:
وتابعه يحيى بن أيوب عن عبد اللّه بن زحر عن
علي بن زيد عن القاسم وهو ابن عبد الرحمن عن
عائشة ورواه أبو العباس ابن القاص في كتاب
آداب القضاء له. ومن الأحاديث الواردة في
الترغيب حديث عبد اللّه بن عمر المذكور في
الباب. ومنها حديث ابن عباس:
"إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان
يسددانه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر فإذا جار
عرجا وتركاه"
أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن زيد الأشعري عن
ابن جريج عن عطاء عنه وإسناده ضعيف قال صالح
جزرة هذا الحديث ليس له أصل وروى الطبراني
معناه من حديث واثلة بن الأسقع. وفي البزار
من رواية إبراهيم بن خيثم بن عراك عن أبيه عن
أبي هريرة مرفوعًا: "من ولي من أمور المسلمين شيئًا وكل اللّه به ملكًا عن يمينه وأحسبه
قال وملكًا عن شماله يوفقانه ويسددانه إذا
أريد به خير ومن ولي من أمور المسلمين شيئًا
فأريد به غير ذلك وكل إلى نفسه" قال: ولا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من حديث عراك وإبراهيم ليس
بالقوي. ومن أحاديث الترغيب حديث عبد اللّه
بن أبي أوفى المذكور في الباب. ولكن هذه
الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل الذي
لم يسأل القضاء ولا استعان عليه بالشفعاء وكان
لديه من العلم لكتاب اللّه وسنة رسوله ما يعرف
به الحق من الباطل بعد إحراز مقدار من آلاتهما
يقدر به على الاجتهاد في إيراده وإصداره.
وأما من كان بعكس هذه الأوصاف أو بعضها فقد
أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه لأن كل
عاقل يعلم أن من تسلق للقضاء وهو جاهل
بالشريعة المطهرة جهلًا بسيطًا أو جهلًا
مركبًا أو من كان قاصرًا عن رتبة الاجتهاد فلا
حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو
أحدهما إذ لا يصح
ج / 8 ص -263-
أن يكون الحامل من قبيل الدين لأن اللّه لم
يوجب على من لم يتمكن من الحكم بما أنزل من
الحق أن يتحمل هذا العبء الثقيل قبل تحصيل
شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله فعلم من هذا
أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء
والتوثب على أحكام اللّه بدون ما شرطه ليس إلا
الدنيا لا الدين فإياك والاغترار بأقوال قوم
يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فإذا لبسوا
لك أثواب الرياء والتصنع وأظهروا شعار التغرير
والتدليس والتلبيس وقالوا ما لهم بغير الحق
حاجة ولا أرادوا إلا تحصيل الثواب الأخروي
فقيل لهم دعوا الكذب على أنفسكم يا قضاة النار
بنص المختار فلو كنتم تخشون اللّه وتتقونه حق
تقاته لما أقدمتم على المخاطرة بادئ بدء بدون
إيجاب من اللّه ولا إكراه من سلطان ولا حاجة
من المسلمين وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا
المنصب الشريف واشتروه بالأموال ممن هو أجهل
منهم حتى عمت البلوى جميع الأقطار اليمنية.
قوله: "فهوى أربعين
خريفًا" قال في النهاية: هو الزمان
المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء
ويريد به أربعين سنة لأن الخريف لا يكون في
السنة إلا مرة فإذا انقضى أربعون خريفًا انقضت
أربعون سنة.
قوله: "ويل
للعرفاء" بضم العين المهملة وفتح الراء
والفاء جمع عريف. قال في النهاية: وهو
القيم بأمور القبيلة والجماعة من الناس يلي
أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم فعيل بمعنى
فاعل والعرافة عمله. وسبب الوعيد لهذه
الطوائف الثلاث وهم الأمراء والعرفاء والأمناء
أنهم يقبلون ويطاعون فيما يأتون به فإذا جاروا
الرعايا جاروا وهم قادرون فيكون ذلك سببًا
لتشديد العقوبة عليهم لأن حق شكر النعمة التي
امتازوا بها على غيرهم أن يعدلوا ويستعملوا
الشفقة والرأفة. قوله: "أو أوبقه
إثمه" بالباء الموحدة والقاف. قال في
النهاية: يقال وبق يبق ووبق يوبق إذا هلك
وأوبقه غيره فهو موبق. قوله: "كلتا يديه
يمين" قال في النهاية: أي أن يديه تبارك
وتعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لأن
الشمال تنقص عن اليمين. وكل ما جاء في
القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين
وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى اللّه فإنما هو
على سبيل المجاز والاستعارة واللّه منزه عن
التشبيه والتجسيم.
باب المنع من
ولاية المرأة والصبي ومن لا يحسن القضاء أو
يضعف عن القيام بحقه
1 - عن أبي بكرة قال:
"لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال:
لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه.
2 - وعن أبي هريرة
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
تعوذوا باللّه من رأس السبعين وإمارة
الصبيان".
رواه أحمد.
3 - وعن بريدة: "عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: القضاة ثلاثة واحد
ج / 8 ص -264-
في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة
فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق وجار في
الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل
فهو في النار".
رواه ابن ماجه وأبو داود وهو دليل على اشتراط
كون القاضي رجلا.
4 - وعن أبي هريرة:
"عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
من أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمه على الذي
أفتاه".
رواه أحمد وابن ماجه. وفي لفظ: "من
أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي
أفتاه" رواه أحمد وأبو داود.
5 - وعن أبي ذر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا وإني أحب إليك ما أحب
لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال
يتيم".
6 - وعن أبي ذر قال: "قلت يا رسول اللّه ألا تستعملني
قال:
فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك
ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي
وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه
فيها".
رواهما أحمد ومسلم.
7 - وعن أم الحصين
الأحمسية: "أنها سمعت النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم يقول:
اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ما
أقام فيكم كتاب اللّه عز وجل". رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود.
8 - وعن أنس قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن
رأسه زبيبة".
رواه أحمد والبخاري. وهذا عند أهل العلم
محمول على غير ولاية الحكم أو على من كان
عبدًا.
حديث أبي هريرة الأول قد
أخرج ما يشهد له أحمد من حديث قيس الغفاري
مرفوعًا وفيه التحذير من إمارة السفهاء ورجاله
رجال الصحيح ومثله أخرجه الطبراني عن عوف بن
مالك مرفوعًا وفي إسناده النهاس بن قهم وهو
ضعيف.
وحديث بريدة أخرجه أيضًا
الترمذي والنسائي والحاكم وصححه. قال الحاكم
في علوم الحديث: تفرد به الخراسانيون ورواته
مراوزة قال الحافظ: له طرق غير هذه جمعتها
في جزء مفرد. وحديث أبي هريرة الثاني سكت
عنه أبو داود
ج / 8 ص -265-
والمنذري ورجال إسناده أئمة أكثرهم من رجال
الصحيح وزاد أبو داود ومن أشار على أخيه بأمر
يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه. وحديث أنس
لفظ البخاري:
"أطيعوا السلطان وإن عبدًا حبشيًا
كالزبيبة".
قوله: "لن يفلح
قوم" الخ فيه دليل على أن المرأة ليست من
أهل الولايات ولا يحل لقوم توليتها لأن تجنب
الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب.
قال في الفتح:
وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي إلا
عن الحنفية واستثنوا الحدود. وأطلق ابن جرير
ويؤيد ما قاله الجمهور إن القضاء يحتاج إلى
كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولا سيما في
محافل الرجال. واستدل المصنف أيضًا على ذلك
بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه رجل
ورجل فدل بمفهومه على خروج المرأة.
قوله: "وإمارة
الصبيان" فيه دليل على أنه لا يصح أن يكون
الصبي قاضيًا.
قال في البحر:
إجماعًا وأمره صلى اللّه عليه وآله وسلم
بالتعوذ من رأس السبعين لعله لما ظهر فيها من
الفتن العظيمة منها قتل الحسين رضي اللّه عنه
ووقعة الحرة وغير ذلك مما وقع في عشر
السبعين. قوله: "القضاة ثلاثة" الخ في
هذا الحديث أعظم وازع للجهلة عن الدخول في هذا
المنصب الذي ينتهي بالجاهل والجائر إلى النار
وبالجملة فما صنع أحد بنفسه ما صنعه من ضاقت
عليه المعايش فزج بنفسه في القضاء لينال من
الحطام وأموال الأرامل والأيتام ما يحول بينه
وبين دار الإسلام مع جهله بالأحكام أو جوره
على من قعد بين يديه للخصام من أهل الإسلام.
قوله: "من أفتى" بضم الهمزة وكسر
المثناة مبني لما لم يسم فاعله فيكون المعنى
من أفتاه مفت عن غير ثبت من الكتاب والسنة
والاستدلال كان إثمه على من أفتاه بغير الصواب
لا على المستفتي المقلد. وقد روي بفتح
الهمزة والمثناة فيكون المعنى من أفتى الناس
بغير علم كان إثمه على الذي سوغ له ذلك وأفتاه
بجواز الفتيا من مثله مع جهله وأذن له في
الفتوى ورخص له فيها. قوله: "أراك
ضعيفًا" فيه دليل على أن من كان ضعيفًا لا
يصلح لتولي القضاء بين المسلمين قال أبو علي
الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب أدب القضاء
له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافًا أن
أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله
وصدقه وعلمه وورعه وأن يكون عارفًا بكتاب
اللّه عالمًا بأكثر أحكامه عالمًا بسنن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حافظًا
لأكثرها وكذا أقوال الصحابة عالمًا بالوفاق
والخلاف وأقوال فقهاء التابعين يعرف الصحيح من
السقيم يتتبع النوازل من الكتاب فإن لم يجد
ففي السنة فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه
الصحابة فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم
بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به ويكون
كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع
فضل وورع ويكون حافظًا للسانه ونطقه وفرجه
فهمًا لكلام الخصوم ثم لا بد أن يكون عاقلا
مائلا عن الهوى ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم
أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات
ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم
وأفضلهم.
وقال المهلب:
لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلًا
لذلك بل أن يراه الناس أهلا له.
وقال ابن حبيب عن مالك:
لا بد أن يكون القاضي عالمًا عاقلًا قال ابن
حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع لأنه بالورع
يقف وبالعقل يسأل
ج / 8 ص -266-
وهو إذا طلب العلم وجده فإذا طلب العقل لم
يجده انتهى. قلت ماذا يصنع الجاهل العاقل
عند ورود مشكلات المسائل وغاية ما يفيده العقل
التوقف عند كل خصومة ترد عليه وملازمة سؤال
أهل العلم عنها والأخذ بأقوالهم مع عدم
المعرفة لحقها من باطلها وما بهذا أمر اللّه
عباده فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق وبالعدل
وبالقسط وبما أنزل ومن أين لمثل هذا العاقل
العاطل عن حلية الدلائل أن يعرف أحقية هذه
الأمور بل من أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته
من كتاب أو سنة حتى يحكم بمدلولها ثم قد عرف
اختلاف طبقات أهل العلم في الكمال والقصور
والإنصاف والاعتساف والتثبت والاستعجال والطيش
والوقار والتعويل على الدليل والقنوع بالتقليد
فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي من
السافل حتى يأخذ عنه أحكامه وينيط به حله
وإبرامه فهذا شيء لا يعرف بالعقل باتفاق
العقلاء فما حال هذا القاضي إلا كحال من قال
فيه من قال:
كبهيمة عمياء قاد زمامها
** أعمى على عوج الطريق الحائر
قوله: "لا تأمرن على
اثنين" الخ في هذا النهي بعد إمحاض النصح
بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم إني أحب لك ما
أحب لنفسي إرشاد للعباد إلى ترك تحمل أعباء
الإمارة مع الضعف عن القيام بحقها من أي جهة
من الجهات التي يصدق على صاحبها أنه ضعيف فيها
وقد قدمنا كلام النووي على هذا الحديث في باب
كراهية الحرص على الإمارة. قوله: "وإن
أمر عليكم عبد حبشي" بفتح المهملة والموحدة
بعدها معجمة منسوب إلى الحبشة.
قوله: "كأن رأسه
زبيبة" هي واحدة الزبيب المأكول المعروف
الكائن من العنب إذا جف وإنما شبه رأس العبد
بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود وهو تمثيل
في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد
بها.
وقد حكى الحافظ في الفتح
عن ابن بطال عن المهلب أنها لا تجب الطاعة
للعبد إلا إذا كان المستعمل له إمامًا قرشيًا
لأن الإمامة لا تكون إلا في قريش قال وأجمعت
الأمة على أنها لا تكون في العبيد. وحكى في
البحر عن العترة أنه يصح أن يكون العبد قاضيًا
وعن الشافعية والحنفية أن لا يصح أن يكون
العبد قاضيًا.
باب تعليق
الولاية بالشرط
1 - عن ابن عمر قال:
"أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
في غزوة موتة زيد بن حارثة وقال:
إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد اللّه بن
رواحة".
رواه البخاري. ولأحمد من حديث أبي قتادة
وعبد اللّه بن جعفر نحوه.
حديث ابن عمر هو طرف من
حديث طويل في ذكر غزوة موتة وكذلك حديث أبي
قتادة وعبد اللّه بن جعفر هما في وصف الغزوة
المذكورة وقد اشتمل على جميع ذلك كتب الحديث
والسير فلا نطول بذكره.
وقد استدل المصنف رحمه
اللّه بالحديث على جواز تعليق
ج / 8 ص -267-
الولايات بالشرط المستقبل كما في ولاية جعفر
فإنها مشروطة بقتل زيد وكذلك ولاية عبد اللّه
بن رواحة فإنها مشروطة بقتل جعفر ولا أعرف
الآن دليلا يدل على المنع من تعليق الولاية
بالشرط فلعل خلاف من خالف في ذلك مستند إلى
قاعدة فقهية كما يقع ذلك في كثير من المسائل.
باب نهي الحاكم
عن الرشوة واتخاذ حاجب لبابه في مجلس حكمه
1 - عن أبي هريرة قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
لعنة اللّه على الراشي والمرتشي في الحكم".
رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
2 - وعن عبد اللّه بن
عمرو قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
لعنة اللّه على الراشي والمرتشي".
رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
3 - وعن ثوبان قال:
"لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
الراشي والمرتشي والرائش" يعني الذي يمشي بينهما. رواه أحمد.
4 - وعن عمرو بن مرة
قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم يقول:
ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة
والخلة والمسكنة إلا غلق اللّه أبواب السماء
دون خلته وحاجته ومسكنته".
رواه أحمد والترمذي.
حديث أبي هريرة أخرجه
أيضًا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي وقد عزاه
الحافظ في بلوغ المرام إلى أحمد والأربعة وهو
وهم فإنه ليس في سنن أبي داود غير حديث ابن
عمرو المذكور ووهم أيضًا بعض الشراح فقال إن
أبا داود زاد في روايته لحديث ابن عمرو لفظ في
الحكم وليست تلك الزيادة عند أبي داود بل
لفظه: لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم الراشي والمرتشي. قال ابن رسلان في شرح
السنن: وزاد الترمذي والطبراني بإسناد جيد
في الحكم. وحديث ابن عمرو أخرجه أيضًا ابن
حبان والطبراني والدارقطني قال الترمذي:
وقواه الدارمي اهـ. وإسناده لا مطعن فيه فإن
أبا داود قال حدثنا أحمد بن يونس يعني
اليربوعي حدثنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد
الرحمن يعني القرشي العامري خال ابن أبي ذئب
ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي سلمة يعني ابن
عبد الرحمن عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص.
وحديث ثوبان أخرجه أيضًا الحاكم وفي إسناده
ليث ابن أبي سليم قال البزار: إنه تفرد
به. وقال في مجمع الزوائد: إنه أخرجه أحمد
والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو
الخطاب وهو مجهول اهـ. وفي الباب عن عبد
الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة
أشار إليهما الترمذي قال في التلخيص: ينظر
من خرجهما. وحديث عمرو بن مرة أخرجه أيضًا
الحاكم والبزار وفي الباب عن أبي مريم الأزدي
مرفوعًا أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ:
"من تولى شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب عن
حاجتهم وفقيرهم
ج / 8 ص -268-
احتجب اللّه دون حاجته"
قال الحافظ في الفتح: إن سنده جيد. وعن
ابن عباس عند الطبراني في الكبير بلفظ:
"أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب اللّه عنه يوم القيامة"
قال ابن أبي حاتم: هو حديث منكر.
قوله: "على
الراشي" هو دافع الرشوة والمرتشي القابض لها
والرائش هو ما ذكره في الرواية التي في
الباب.
قال ابن رسلان:
ويدخل في إطلاق الرشوة الرشوة للحاكم والعامل
على أخذ الصدقات وهي حرام بالإجماع اهـ.
قال الإمام المهدي في
البحر في كتاب الإجارات منه: مسألة وتحرم
رشوة الحاكم إجماعًا لقوله صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
"لعن اللّه الراشي والمرتشي" قال الإمام يحيى: ويفسق للوعيد. والراشي إن طلب باطلا عمه
الخبر.
قال المنصور باللّه وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي: وإن طلب بذلك حقًا مجمعًا عليه جاز. قيل وظاهر المذهب المنع
لعموم الخبر وإن كان مختلفًا فيه فكالباطل إذ
لا تأثير لحكمه اهـ قلت والتخصيص لطالب الحق
بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي
مخصص فالحق التحريم مطلقًا أخذًا بعموم الحديث
ومن زعم الجواز في صورة من الصور فإن جاء
بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردًا عليه فإن
الأصل في مال المسلم التحريم
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه"
وقد انضم إلى هذا الأصل كون الدافع إنما دفعه
لأحد أمرين إما لينال به حكم اللّه إن كان
محقًا وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر
واجب أوجب اللّه عز وجل على الحاكم الصدع به
فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئًا من الحطام
وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف
ما شرعه اللّه إن كان مبطلًا فذلك أقبح لأنه
مدفوع في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريمًا من
المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها لأن
الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب
لإحراج صدره والإضرار به بخلاف المدفوع إلى
البغي فالتوصل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه
مستلذ للفاعل والمفعول به وهو أيضًا ذنب بين
العبد وربه وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي
وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين اللّه
وبين الأمرين بون بعيد. ومن الأدلة الدالة
على تحريم الرشوة ما حكاه ابن رسلان في شرح
السنن عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا قوله
تعالى
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}
بالرشوة. وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه
لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال لا ومن لم
يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون
والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك
الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا
تقبل.
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة
التابعين:
القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أخذ
الرشوة بلغت به الكفر. رواه ابن أبي شيبة
بإسناد صحيح اهـ. ما حكاه ابن رسلان. ويدل
على المنع من قبول هدية من استعان بها على دفع
مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها
فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا" وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الأموي مولاهم
الشامي وفيه مقال. ويدل على تحريم قبول مطلق
الهدية على الحاكم وغيره من الأمراء حديث
هدايا الأمراء غلول
ج / 8 ص -269-
أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد.
قال الحافظ:
وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية
إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز وأخرجه
الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال
الحافظ: وإسناده أشد ضعفًا. وأخرجه سنيد
بن داود في تفسيره عن عبيدة بن سليمان عن
إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل
ضعيف وأخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث
أنس بلفظ:
"هدايا العمال سحت" وقد تقدم في كتاب الزكاة في باب العاملين عليها حديث بريدة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بلفظ:
"من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه
بعد ذلك فهو غلول" أخرجه أبو داود وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال
وذكر حديث ابن اللتبية المشهور والظاهر أن
الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من
الرشوة لأن المهدي إذا لم يكن معتادًا للإهداء
إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض
وهو إما التقوي به على باطله أو التوصل لهديته
له إلى حق والكل حرام كما تقدم وأقل الأحوال
أن يكون طالبًا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ
كلامه ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على
خصومه أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له
حق عليه ويخافه ما لا يخافه قبل ذلك وهذه
الأغراض كلها تؤل إلى ما آلت إليه الرشوة
فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف
بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد
توليه للقضاء فإن للإحسان تأثير في طبع
الإنسان والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها
فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر
الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي
وبين غيره والقاضي لا يشعر بذلك ويظن أنه لم
يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في
قلبه والرشوة لا تفعل زيادة على هذا ومن هذه
الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في
القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه بل من
الأقارب فضلًا عن سائر الناس فكان في ذلك من
المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه أسأل اللّه
أن يجعله خالصًا لوجهه.
وقد ذكر المغربي في شرح
بلوغ المرام في شرح حديث الرشوة كلامًا في
غاية السقوط فقال ما معناه: إنه يجوز أن
يرشي من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع
باطل وكذلك قال يجوز للمرتشي أن يرشي إذا كان
ذلك في حق لا يلزمه فعله وهذا أعم مما قاله
المنصور باللّه ومن معه كما تقدمت الحكاية
لذلك عنهم لأنهم خصوا الجواز بالراشي وهذا
عممه في الراشي والمرتشي وهو تخصيص بدون مخصص
ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس
عليه أثارة من علم ولا يغتر بمثل هذا إلا من
لا يعرف كيفية الاستدلال والقائل رحمه اللّه
كان قاضيًا.
قوله: "والخلة" في
النهاية الخلة بالفتح الحاجة والفقر فيكون
العطف على ما قبله من عطف العام على الخاص ـ
وفي الحديث ـ
دليل على أنه لا يحل احتجاب أولي الأمر عن أهل
الحاجات قال الشافعي وجماعة: إنه ينبغي
للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا قال في الفتح:
وذهب آخرون إلى جوازه وحمل الأول على زمن سكون
الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم
وقال آخرون: بل يستحب الاحتجاب حينئذ لترتيب
الخصوم ومنع المستطيل ودفع الشر. ونقل
ج / 8 ص -270-
ابن التين عن الداودي قال الذي أحدثه القضاة
من شدة الاحتجاب وإدخال بطائق من الخصوم لم
يكن من فعل السلف اهـ. قلت: صدق لم يكن من
فعل السلف ولكن من لنا بمثل رجال السلف في آخر
الزمان فإن الناس اشتغلوا بالخصومة لبعضهم
بعضًا فلو لم يحتجب الحاكم لدخل الخصوم وقت
طعامه وشرابه وخلوه بأهله وصلاته الواجبة
وجميع أوقات ليله ونهاره وهذا مما لم يتعبد
اللّه به أحدًا من خلقه ولا جعله في وسع عبد
من عباده وقد كان المصطفى صلى اللّه عليه وآله
وسلم يحتجب في بعض أوقاته وقد ثبت في الصحيح
من حديث أبي موسى أنه كان بوابًا للنبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم لما جلس على قف البئر في
القصة المشهورة وإذا جعل لنفسه بوابًا في ذلك
المكان وهو منفرد عن أهله خارج عن بيته
فبالأولى اتخاذه في مثل البيت وبين الأهل وقد
ثبت أيضًا في الصحيح في قصة حلفه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرًا أن
عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح
استأذن لي فذلك دليل على أنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم كان يتخذ لنفسه بوابًا ولولا ذلك
لاستأذن عمر لنفسه ولم يحتج إلى قوله استأذن
لي وقد ورد ما يخالف هذا في الظاهر وهو ما ثبت
في الصحيح في قصة المرأة التي وجدها تبكي عند
قبر فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا
والجمع ممكن أما أولًا فلأن النساء لا يحجبن
عن الدخول في الغالب لأن الأمر الأهم من اتخاذ
الحاجب هو منع دخول من يخشى الإنسان من إطلاعه
على ما لا يحل الإطلاع عليه وأما ثانيًا فلأن
النفي للحاجب في بعض الأوقات لا يستلزم النفي
مطلقًا وغاية ذلك أنه لم يكن له صلى اللّه
عليه وآله وسلم حاجب راتب.
قال ابن بطال:
الجمع بينهما أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد بشيء من
أمره رفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب
الحاجة وبمثله قال الكرماني.
وقد ثبت في قصة عمر في
منازعة أمير المؤمنين علي والعباس في فدك أنه
كان له حاجب يقال له يرفا.
قال ابن التين متعقبًا
لما نقله عن الداودي في كلامه المتقدم إن كان
مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى
فصحيح يعني أنه حادث وإن كان مراده البطائق
التي يكتب فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة
من سبق فهو من العدل في الحكم اهـ. قلت ومن
العدل والتثبت في الحكم أن لا يدخل الحاكم
جميع من كان ببابه من المتخاصمين إلى مجلس
حكمه دفعة واحدة إذا كانوا جمعًا كثيرًا ولا
سيما إذا كانوا مثل أهل هذه الديار اليمنية
فإنهم إذا وصلوا إلى مجلس القاضي صرخوا جميعًا
فيتشوش فهمه ويتغير ذهنه فيقل تدبره وتثبته بل
يجعل ببابه من يرقم الواصلين من الخصوم الأول
فالأول ثم يدعوهم إلى مجلس حكمه كل خصمين على
حدة فالتخصيص لعموم المنع بمثل ما ذكرناه
معلوم من كليات الشريعة وجزئياتها مثل حديث
نهي الحاكم عن القضاء حال الغضب والتأذي بأمر
من الأمور كما سيأتي وكذلك أمره بالتثبت
والاستماع لحجة كل واحد من الخصمين وكذلك أمره
باجتهاد الرأي في الخصومة التي تعرض.
قال بعض أهل العلم:
وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال
من حضر ولا سيما من الأعيان لاحتمال أن يجيء
مخاصمًا والحاكم يظن أنه جاء زائرًا فيعطيه
حقه من الإكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصمًا
انتهى. ولا شك
ج / 8 ص -271-
في أنه يكره دوام الاحتجاب إن لم يكن محرمًا
لما في حديث الباب.
قال في الفتح:
واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق
فالأسبق والمسافر على المقيم ولا سيما إن خشي
فوات الرفقة وأن من اتخذ بوابًا أو حاجبًا أن
يتخذه أمينًا ثقة عفيفًا عارفًا حسن الأخلاق
عارفًا بمقادير الناس انتهى.
باب ما يلزم
اعتماده في أمانة الوكلاء والأعوان
1 - عن ابن عمر: "عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط اللّه حتى
ينزع".
وفي لفظ:
"من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من اللّه". رواهما أبو داود.
2 - وعن أنس قال:
"إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم بمنزلة صاحب الشرط من
الأمير". رواه البخاري. حديث ابن عمر
أخرجه أبو داود بإسنادين الأول لا مطعن فيه
لأنه قال حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي
حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن
راشد يعني الدمشقي الطويل وهو ثقة قال جلسنا
لعبد اللّه بن عمر فذكره والإسناد الثاني قال
حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم يعني العامري
وثقه النسائي حدثنا عمر بن يونس يعني اليمامي
وهو ثقة حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري
يعني ابن عبد اللّه بن عمر حدثنا المثنى بن
يزيد قال المنذري: هو مجهول انتهى. وقد
أخرج له النسائي في عمل اليوم والليلة عن مطر
يعني ابن طمهان الخراساني الوراق قال المنذري
ضعفه غير واحد انتهى. وقد أخرج له مسلم في
مواضع عن نافع عن ابن عمر فذكره بمعناه.
قوله: "من خاصم" قال الغزالي: الخصومة
لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود
وتارة تكون ابتداء وتارة تكون اعتراضًا
والمراء لا يكون إلا اعتراضًا على كلام سابق
قال بعضهم إياك والخصومة فإنها تمحق الدين
ويقال ما خاصم قط ورع.
قوله: "لم يزل في
سخط اللّه" هذا ذم شديد له شرطان أحدهما أن
تكون المخاصمة في باطل والثاني أن يعلم أنه
باطل فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد وإن كان
الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلا.
قوله: "من أعان على
خصومة بظلم" في معنى ذلك ما أخرجه الطبراني
في الكبير من حديث أوس ين شرحبيل: "أنه
سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد
خرج من الإسلام" وأما ما ورد في الحديث الصحيح بلفظ:
"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فقد ورد تفسيره في آخر الحديث
"أن نصر الظالم كفه عن الظلم".
قوله: "فقد باء بغضب من اللّه" أي انقلب
ورجع بغضب لازم له. ومعنى الغضب في صفات
اللّه إرادة العقوبة.
ـ وفي الحديث ـ
دليل على أنه ينبغي للحاكم إذا رأى مخاصمًا أو
معينًا على خصومة بتلك الصفة أن يزجره ويردعه
لينتهي عن غيه. قوله: "أن قبس بن سعد"
يعني ابن عبادة الأنصاري الخزرجي. قوله:
"كان يكون"
ج / 8 ص -272-
قال الكرماني:
فائدة تكرار لفظ الكون إرادة بيان الدوام
والاستمرار. وقد وقع في رواية الترمذي وابن
حبان والإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم بلفظ:
"كان قيس بن سعد" الخ. قوله:
"بمنزلة صاحب الشرط" زاد الترمذي:
"لما يلي من أموره" وقد ترجم ابن حبان
لهذا الحديث فقال: "احتراز المصطفى من
المشركين في مجلسه إذا دخلوا" وقد روى
الإسماعيلي: "أن سعدًا سأل النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم في قيس أن يصرفه عن
الموضع الذي وضعه فيه مخافة أن يقدم على شيء
فصرفه عن ذلك" والشرط بضم المعجمة والراء
والنسبة إليها شرطي بضمتين وقد يفتح الراء
فيهما أعوان الأمير. والمراد بصاحب الشرط
كبيرهم فقيل سموا بذلك لأنهم رذالة الجند.
ومنه في حديث الزكاة المتقدم: "ولا الشرط
اللئيمة" أي رديء المال وقيل لأنهم الأشداء
الأقوياء من الجند. ومنه في حديث الملاحم:
"ويتشرط شرطة للموت" أي يتعاقدون على أن
لا يفروا ولو ماتوا.
قال الأزهري:
شرطة كل شيء خياره ومنه الشرط لأنهم نجبة
الجند وقيل هم أول طائفة تتقدم الجيش. وقيل
سموا شرطًا لأن لهم علامات يعرفون بها في
اللباس والهيئة وهو اختيار الأصمعي. وقيل
لأنهم أعدوا أنفسهم لذلك يقال أشرط فلان نفسه
لأمر كذا إذا أعدها قاله أبو عبيد. وقيل
مأخوذ من الشريط وهو الحبل المبروم لما فيهم
من الشدة. وفي الحديث جواز اتخاذ الأعوان
لدفع ما يرد على الإمام والحاكم.
باب النهي عن
الحكم في حال الغضب إلا أن يكون يسيرًا لا
يشغل
1 - عن أبي بكرة قال:
"سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقول:
لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان".
رواه الجماعة.
2 - وعن عبد اللّه بن
الزبير عن أبيه: "أن رجلا من الأنصار خاصم
الزبير عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال
الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
للزبير:
اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك
فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول اللّه أن كان
ابن عمتك فتلون وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم ثم قال للزبير:
اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر
فقال الزبير: واللّه إني لا أحسب أن هذه
الآية نزلت إلا في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ}
الآية". رواه الجماعة لكنه للخمسة إلا
النسائي من رواية عبد اللّه بن الزبير لم يذكر
فيه عن أبيه. وللبخاري في رواية قال:
"خاصم
ج / 8 ص -273-
الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد فيه فاستوعى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حينئذ
للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير
برأي فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم استوعى
للزبير حقه في صريح الحكم" قال عروة قال
الزبير: "فواللّه ما أحسب هذه الآية نزلت
إلا في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ}
الآية" رواه أحمد كذلك لكن قال عن عروة بن
الزبير: "أن الزبير كان يحدث أنه خاصم
رجلا وذكره" جعله من مسنده. وزاد البخاري
في رواية: "قال ابن شهاب: فقدرت الأنصار
والناس قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى
الجدر" فكان ذلك إلى الكعبين. وفي الخبر
من الفقه جواز الشفاعة للخصم والعفو عن
التعزير. قوله: "لا يقضين" الخ قال
المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب
قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع وبذلك
قال فقهاء الأمصار.
وقال ابن دقيق العيد:
النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من
التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء
الحكم على الوجه قال وعداه الفقهاء بهذا
المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع
والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق
به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر وهو
قياس مظنة على مظنة وكأن الحكمة في الاقتصار
على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة
مقاومته بخلاف غيره وقد أخرج البيهقي بسند
ضعيف عن أبي سعيد رفعه:
"لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان"
انتهى. وسبب ضعفه أن في إسناده القاسم
العمري وهو متهم بالوضع.
وظاهر النهي التحريم ولا
موجب لصرفه عن معناه الحقيقي إلى الكراهة فلو
خالف الحاكم فحكم في حال الغضب فذهب الجمهور
إلى أنه يصح إن صادف الحق لأنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه كما في
حديث الباب فكأنهم جعلوا ذلك قرينة صارفة
للنهي إلى الكراهة ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق
غيره صلى اللّه عليه وآله وسلم به في مثل ذلك
لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه
بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ ولهذا ذهب
بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال
الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي الفساد
وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن
استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل
الخلاف.
قال الحافظ ابن حجر:
وهو تفصيل معتبر وقيد إمام الحرمين والبغوي
الكراهة بما إذا كان الغضب لغير اللّه واستغرب
الروياني هذا واستبعده غيره لمخالفته لظاهر
الحديث وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم حال
الغضب وذكر ابن المنير أن الجمع بين حديثي
الباب بأن يجعل الجواز
ج / 8 ص -274-
خاصًا بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
لوجود العصمة في حقه والأمن من التعدي أو أن
غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز
وإلا منع وقد تعقب القول بالتحريم وعدم انعقاد
الحكم بأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه هو
ما كان لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه
الملازم له لا المفارق كما هنا وكما في النهي
عن البيع حال النداء للجمعة وهذه قاعدة مقررة
في الأصول مع اضطراب فيها وطول نزاع وعدم
اطراد.
قوله: "أن رجلا من
الأنصار" اسمه ثعلبة بن حاطب وقيل حميد وقيل
حاطب ابن أبي بلتعة ولا يصح لأنه ليس بأنصاري
وقيل إنه ثابت بن قيس بن شماس وإنما ترك صلى
اللّه عليه وآله وسلم قتله بعد أن جاء في
مقاله بما يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله
وسلم جار في الحكم لأجل القرابة لأن ذلك كان
في أوائل الإسلام وقد كان صلى اللّه عليه وآله
وسلم يتألف الناس إذ ذاك كما ترك قتل عبد
اللّه بن أبي بعد أن جاء بما يسوغ به
قتله
وقال القرطبي:
يحتمل أنه لم يكن منافقًا بل صدر منه ذلك عن
غير قصد كما اتفق لحاطب بن أبي بلتعة ومسطح
وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية.
قوله: "في شراج" بكسر الشين المعجمة
وراء مهملة بعد الألف جيم وهي مسايل النخل
والشجر واحدتها شرجة وإضافتها إلى الحرة
لكونها فيها والحرة بفتح الحاء المهملة هي أرض
ذات حجارة سود. قوله: "سرح الماء"
بفتح السين المهملة وتشديد الراء المكسورة ثم
حاء مهملة أي أرسله.
قوله: "ثم أرسل إلى
جارك" كان هذا على سبيل الصلح. قوله:
"أن كان ابن عمتك" بفتح الهمزة لأنه
استفهام للاستكثار أي حكمت بهذا لكونه ابن
عمتك. قوله: "حتى يرجع الماء إلى
الجدر" بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وهو
الجدار والمراد به أصل الحائط وقيل أصول الشجر
والصحيح الأول وفي الفتح أن المراد به هنا
المسناة وهي ما وضع بين شريات النخل كالجدار
ويروى الجدر بضم الجيم والدال جمع جدار.
وحكى الخطابي الجذر بسكون الذال المعجمة وهو
جذر الحساب والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب.
وفي بعض طرق الحديث:
"حتى يبلغ الماء الكعبين" رواه أبو داود. قوله: "فلما أحفظ الأنصاري رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم" بالحاء المهملة أي
أثار حفيظته.
قال في الفتح:
أحفظه بالمهملة والظاء المشالة أي أغضبه.
قوله: "فاستوعى" أي استوفى وهو من
الوعاء كأنه جمعه له في وعائه. قوله:
"فقدرت الأنصار والناس" هو من عطف العام
على الخاص. قوله: "فكان ذلك إلى
الكعبين" يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف
بالطول والقصر قاسوا ما وقعت فيه القصة فوجدوه
يبلغ الكعبين فجعلوا ذلك معيار الاستحقاق
الأول فالأول والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ
الماء من ناحيته وقد تقدم الكلام على ذلك في
باب الناس شركاء في ثلاث من كتاب إحياء
الموات.
باب جلوس
الخصمين بين يدي الحاكم والتسوية بينهما
1 - عن عبد اللّه بن
الزبير قال: "قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي
الحاكم".
رواه أحمد وأبو داود.
2 - وعن علي عليه
السلام: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
يا علي إذا
ج / 8 ص -275-
جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من
الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك
تبين لك القضاء". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
حديث عبد اللّه بن
الزبير أخرجه أيضًا البيهقي والحاكم وفي
إسناده مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير
وهو ضعيف كما قال ابن معين وابن حبان وبين
الذهبي ذلك الضعف فقال: فيه لين لغلطه وقال
أبو حاتم: صدوق كثير الغلط وقال النسائي:
ليس بالقوي وقال المنذري: لا يحتج بحديثه
وقد صحح الحديث الحاكم كما حكاه الحافظ في
بلوغ المرام.
وحديث أمير المؤمنين علي
عليه السلام أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه وحسنه
الترمذي وله طرق منها عند البزار وفيها عمرو
بن أبي المقدام وفيها أيضًا اختلاف على عمرو
بن مرة ففي رواية أبي يعلى أنه رواه عنه شعبة
عن أبي البختري قال حدثني من سمع أمير
المؤمنين عليًا ومنهم من أخرجه عن أبي البختري
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام. ومنهم من
رواه عن حارثة بن مضرب عن أمير المؤمنين
علي. ومنهم من رواه عن سماك بن حرب عن حنش
بن المعتمر عن أمير المؤمنين علي. ومنهم من
رواه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن
أمير المؤمنين علي عليه السلام. ورواه أبو
يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير من حديث
أم سلمة بلفظ:
"من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في
لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على
أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر" وفي إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف.
وفي الباب عن أمير
المؤمنين علي عليه السلام أنه جلس بجنب شريح
في خصومة له مع يهودي فقال لو كان خصمي مسلمًا
جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يقول:
"لا تساووهم في المجالس".
أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبي
سمية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال عرف علي
درعًا مع يهودي فذكره مطولا وقال منكر.
وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال
لا يصح تفرد به أبو سمية ورواه البيهقي من وجه
آخر من طريق جابر عن الشعبي قال خرج أمير
المؤمنين على السوق فإذا هو بنصراني يبيع
درعًا فعرف أمير المؤمنين علي عليه السلام
الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن
جابر الجعفي وهما ضعيفان. قال ابن الصلاح في
كلامه على الوسيط: لم أجد له إسنادًا
يثبت.
قوله: "إن الخصمين
يقعدان" الخ هذا فيه دليل لمشروعية قعود
الخصمين بين يدي الحاكم ولعل هذه الهيئة
مشروعة لذاتها لا لمجرد التسوية بين الخصمين
فإنها ممكنة بدون القعود بين يدي الحاكم بأن
يقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله أو
أحدهما في جانب المجلس والآخر في جانب يقابله
ويساويه أو نحو ذلك والوجه في مشروعية هذه
الهيئة أن ذلك هو مقعد الإهانة والإصغار وموقف
من لا يعتد بشأنه من الخدم ونحوهم لقصد
الإعزاز للشريعة المطهرة والرفع من منارها
وتواضع المتكبرين لها وكثيرًا ما ترى من كان
متمسكًا بأذيال الكبر يعظم
ج / 8 ص -276-
عليه قعوده في ذلك المقعد فلعل هذه هي
الحكمة واللّه أعلم "ويؤخذ" من الحديث
أيضًا مشروعية التسوية بين الخصمين لأنهما لما
أمرا بالقعود جميعًا على تلك الصفة كان
الاستواء في الموقف لازمًا لها وأوضح من ذلك
حديث أم سلمة وقصة أمير المؤمنين علي عليه
السلام مع خصمه عند شريح كما تقدم وفيها تخصيص
المسلم إذا كان خصمه كافرًا فلا يساويه في
الموقف بل يرفع موقف المؤمن على موقف الكافر
لأن الإسلام يعلو ويستفاد من الحديث أن
الخصمين لا يتنازعان قائمين أو مضطجعين أو
أحدهما.
قوله: "حتى تسمع من
الآخر كما سمعت من الأول" فيه دليل على أنه
يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد
من الخصمين واستفصال ما لديه والإحاطة بجميعه
والنهي يدل على قبح المنهي عنه والقبح يستلزم
الفساد فإذا قضى قبل السماع من أحد الخصمين
كان حكمه باطلا فلا يلزم قبوله بل يتوجه عليه
نقضه ويعيده على وجه الصحة أو يعيده حاكم آخر
فإن امتنع أحد الخصمين من الإجابة لخصمه جاز
القضاء عليه لتمرده ولكن بعد التثبت المسوغ
للحكم كما في الغائب على خلاف فيه معروف.
باب ملازمة
الغريم إذا ثبت عليه الحق وإعداء الذمي على
المسلم
1 - عن هرماس بن حبيب
رجل من أهل البادية عن أبيه قال: "أتيت
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بغريم لي فقال
لي:
الزمه
ثم قال لي:
يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك". رواه أبو داود وابن ماجه وقال فيه:
"ثم مر بي آخر النهار فقال ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم" وقال في مسنده عن أبيه عن جده وعن ابن أبي
حدرد الأسلمي: "أنه كان ليهودي عليه أربعة
دراهم فاستعدى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فقال: يا محمد إن لي على هذا أربع
دراهم وقد غلبني عليها فقال:
أعطه حقه قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قال:
أعطه حقه
قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قد
أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا
شيئًا فأرجع فأقضيه قال:
أعطه حقه
قال: وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
إذا قال ثلاثًا لم يراجع فخرج به ابن أبي حدرد
إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة
فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة
ثم قال اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة
دراهم فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرها
فقالت: ها دونك هذا البرد عليها طرحته
عليه". رواه أحمد. وفيه أن الحاكم يكرر
على الناكل وغيره ثلاثًا.
ج / 8 ص -277-
2 - ومثله ما روى أنس قال: "كان
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا سلم
سلم ثلاثًا وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا".
رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. حديث
هرماس أخرجه البخاري في تاريخه الكبير عن أبيه
عن جده وقال ابن أبي حاتم هرماس ابن حبيب
العنبري روى عن أبيه عن جده ولجده صحبة وذكر
أنه سأل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن
الهرماس بن حبيب العنبري فقالا: لا نعرفه.
وقال: سألت أبي عن هرماس بن حبيب فقال: هو
شيخ أعرابي لم يرو عنه غير النضر بن شميل ولا
يعرف أبوه ولا جده. وحديث ابن أبي حدرد قال
في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في
الصغير والأوسط ورجاله ثقات إلا أن محمد بن
أبي يحيى لم أجد له رواية عن الصحابة فيكون
مرسلا صحيحًا انتهى. قوله: "الزمه"
بفتح الزاي فيه دليل على جواز ملازمة من له
الدين لمن هو عليه بعد تقرره بحكم الشرع وقد
حكاه في البحر عن أبي حنيفة وأحد وجهي أصحاب
الشافعي فقالوا إنه يسير حيث سار ويجلس حيث
جلس غير مانع له من الاكتساب ويدخل معه داره
وذهب أحمد إلى أن الغريم إذا طلب ملازمة غريمه
حتى يحضر ببينته القريبة أجيب إلى ذلك لأنه لو
لم يمكن من ملازمته ذهب من مجلس الحاكم وهذا
بخلاف البينة البعيدة وذهب الجمهور إلى أن
الملازمة غير معمول بها بل إذا قال لي بينة
غائبة قال الحاكم لك يمينه أو أخره حتى تحضر
بينتك وحملوا الحديث على أن المراد الزم غريمك
بمراقبتك له بالنظر من بعد ولعل الاعتذار عن
الحديث بما فيه من المقال أولى من هذا التأويل
المتعسف وأما حديث ابن أبي حدرد فليس فيه دليل
على الملازمة بل فيه التشديد على المديون
بإيجاب القضاء وعدم قبول دعواه الإعسار
لمجردها من دون بينة وعدم الاعتداد بيمينه من
غير فرق بين أن يكون صاحب المال مسلمًا أو
كافرًا. قوله: "ما تريد أن تفعل
بأسيرك" سماه أسيرًا باعتبار ما يحصل له من
المذلة بالملازمة له وكثرة تذلله عند المطالبة
وكأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعرض بالشفاعة
وقد زاد رزين بعد قوله ما تريد أن تفعل بأسيرك
فأطلقه. قوله: "وإذا تكلم بكلمة أعادها
ثلاثًا" لعل هذا في الأمور التي يريد صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن تحفظ عنه وتنقلها
الناس إلى بعضهم بعضًا بخلاف الكلام في
المحاورات التي تجري من دون قصد إلى حفظها
لكونها ليست من الأمور الشرعية فلعل التكرار
فيها لم يقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم
لعدم الفائدة في ذلك مثلًا لو أنه صلى اللّه
عليه وآله وسلم أراد أن يخبر رجلا بأنه خرج
إلى المسجد وصلى ورجع إلى بيته فكرر كل كلمة
من هذا الخبر ثلاث مرات لم يكن ذلك بمكان من
الحسن والقبول.
وأما تكرير التسليم
فلعله التسليم المراد به الاستئذان وقد ثبتت
مشروعية تكريره لإيقاظ رب المنزل الذي وقع
الاستئذان عليه لا أنه كان يكرر السلام الواقع
لمحض التحية مثلًا لا يلقى رجلًا في طريق
فيقوم بين يديه ويسلم عليه ثلاث مرات.
ج / 8 ص -278-
باب الحاكم يشفع للخصم ويستوضع له
1 - عن كعب بن مالك:
"أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه
في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو في بيته
فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب
فقال لبيك يا رسول اللّه قال:
ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال: قد فعلت يا رسول اللّه قال:
قم فاقضه".
رواه الجماعة إلا الترمذي. وفيه من الفقه
جواز الحكم في المسجد وأن من قيل له بع أو هب
أو أبر فقال قد فعلت صح ذلك منه وأن الإيماء
المفهوم يقوم مقام النطق. قوله: "سجف
حجرته" بكسر السين المهملة وفتحها وسكون
الجيم وهو الستر وقيل الرقيق منه يكون في مقدم
البيت ولا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط
كالمصراعين والحجرة ما يجعل عليه الرجل حاجرًا
في بيته. قوله: "ضع من دينك هذا وأومأ
إليه" فيه دليل على أن الإشارة المفهمة
بمنزلة الكلام لأنها تدل كما تدل عليه الحروف
والأصوات فيصح بيع الأخرس وشراؤه وإجارته
وسائر عقوده إذا فهم ذلك عنه. قوله: "أي
الشطر" هو النصف على المشهور ووقع في حديث
الإسراء ما يدل على أن الشطر يطلق على الجزء
والمراد بهذا الأمر الواقع منه صلى اللّه عليه
وآله وسلم الإرشاد إلى الصلح والشفاعة في ترك
بعض الدين وفيه فضيلة الصلح وحسن التوسط بين
المتخاصمين. قوله: "قد فعلت" الخ
يحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين كأن
يدعى صاحب الدين مقدارًا زائدًا على ما يقر به
المديون فأمره صلى اللّه عليه وآله وسلم أن
يضع الشطر من المقدار الذي ادعاه فيكون الصلح
حينئذ عن إنكار ويدل الحديث على جوازه.
ويحتمل أن يكون النزاع بينهما في التقاضي
باعتبار حلول الأجل وعدمه مع الاتفاق على
مقدار أصل الدين فلا يكون في الحديث دليل على
جواز الصلح عن إنكار وقد ذهب إلى بطلان الصلح
عن إنكار الشافعي ومالك وأبو حنيفة
والهادوية. قوله: "قم فاقضه" قيل هذا
أمر على جهة الوجوب لأن رب الدين لما طاوع
بوضع الشطر تعين على المديون أن يعجل إليه
دينه لئلا يجمع على رب المال بين الوضيعة
والمطل.
باب أن حكم
الحاكم ظاهرًا لا باطنًا
1 - عن أم سلمة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون
ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن
قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما
أقطع له قطعة من النار".
رواه الجماعة وقد احتج به من لم ير أن يحكم
الحاكم بعلمه.
قوله: "إنما أنا
بشر" البشر يطلق على الجماعة والواحد بمعنى
أنه منهم والمراد أنه مشارك للبشر
ج / 8 ص -279-
في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي
اختص بها في ذاته وصفاته والحصر هنا مجازي
لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى قصر قلب لأنه
أتى به ردًا على من زعم أن من كان رسولًا فإنه
يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم من
الظالم وقد أطال الكلام على بيان معنى هذا
الحصر علماء المعاني والبيان فليرجع إلى
ذلك.
قوله: "ألحن"
بالنصب على أنه خبر كان أي أفطن بها ويجوز أن
يكون معناه أفصح تعبيرًا عنها وأظهر احتجاجًا
حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل.
والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في
الصحيحين أي أحسن إيرادًا للكلام ولا بد في
هذا التركيب من تقدير محذوف لتصحيح معناه أي
وهو كاذب ويسمى هذا عند الأصوليين دلالة
اقتضاء لأن هذا المحذوف اقتضاه اللفظ الظاهر
المذكور بعده. وقال في النهاية: اللحن
الميل عن جهة الاستقامة يقال لحن فلان في
كلامه إذا مال عن صحيح المنطق وأراد أن بعضهم
يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره ويقال
لحنت لفلان إذا قلت له قولًا يفهمه ويخفى على
غيره لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم
انتهى.
قوله: "فإنما أقطع
له قطعة من النار" أي الذي قضيت له بحسب
الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه
حرام يؤل به إلى النار وهو تمثيل يفهم منه شدة
التعذيب على ما يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه
كقوله تعالى {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} وقد قدمنا الكلام على بعض ألفاظ الحديث في كتاب الصلح فوقع تكرار
البعض هنا لتكرار الفائدة ـ وفي الحديث ـ دليل
على إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في
الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه وأن من
احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير
حقًا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له
تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم
وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل
يؤجر كما في الحديث الصحيح وإن اجتهد فأخطأ
فله أجر وفيه أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء
وخالف في ذلك قوم وهذا الحديث من أصرح ما يحتج
به عليهم وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر
فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك.
قال الحافظ:
لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لثبوت عصمته واحتج من منع
مطلقًا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم
أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر بإتباعه في
جميع أحكامه حتى قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ}
الآية وبأن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول
أولى بذلك وأجيب عن الأول بأن الأمر إذا
استلزم الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق
المقلدين فإنهم مأمورون بإتباع المفتي والحاكم
ولو جاز عليه الخطأ وأجيب عن الثاني برد
الملازمة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن
مستندهم ما جاء عن الرسول صلى اللّه عليه وآله
وسلم فرجع الإتباع إلى الرسول لا إلى نفس
الإجماع.
قال الحافظ:
وفي الحديث أيضًا أن من ادعى مالًا ولم يكن له
بينة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة
الحالف أنه لا يبرأ في الباطن ولا يرتفع عنه
الإثم بالحكم والحديث حجة لمن أثبت أنه قد
يحكم صلى اللّه عليه وآله وسلم بالشيء في
الظاهر ويكون الأمر في الباطن بخلافه ولا مانع
من ذلك إذ لا يلزم
ج / 8 ص -280-
منه محال عقلا ولا نقلا وأجاب من منع بأن
الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل
الخصومات المبنية على الإقرار أو البينة ولا
مانع من وقوع ذلك فيها ومع ذلك لا يقر على
الخطأ وإنما الذي يمتنع وقوع الخطأ فيه أن
يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون
ذلك ناشئًا عن اجتهاده فإنه لا يكون إلا حقًا
لقوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
وأجيب أن ذلك يستلم الحكم الشرعي فيعود
الإشكال كما كان والمقام يحتاج إلى بسط طويل
ومحله الأصول فليرجع إليها قال الطحاوي: ذهب
قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو
إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك إن كان في
الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ما حكم به
وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه
الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم
موجبًا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا
الطلاق ولا غيرها وهو قول الجمهور ومعهم أبو
يوسف.
وذهب آخرون إلى أن الحكم
إن كان في مال وكان الأمر في الباطن بخلاف ما
استند إليه الحاكم من الظاهر لم يكن ذلك
موجبًا لحله للمحكوم له وإن كان في نكاح أو
طلاق فإنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا وحملوا حديث
الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما
عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن
يكون الرجل قد صدق فيما رماها به قالوا فيؤخذ
من هذا أن كان قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على
الظاهر ولو كان الباطن بخلافه وأن حكم الحاكم
يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال
وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة
للعلم بأن أحدهما كاذب وهو أصل برأسه فلا يقاس
عليه.
وقال بعض الحنفية مجيبًا
على من استدل بالحديث لما تقدم بأن ظاهر
الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع
كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين وليس
النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على
الشهادة وبأن من في قوله: "فمن قضيت له"
شرطية وهي لا تستلزم الوقوع فيكون من فرض ما
لم يقع وهو جائز فيما يتعلق به غرض وهو هنا
محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على
أخذ أموال الناس بالمبالغة في الخصومة وهو وإن
كان جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنًا في
العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه
حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم يقر على الخطأ لأنه لا
يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر
الخطأ وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب
أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه.
وظاهر الحديث يخالف ذلك
فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم
وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو
باطل والجواب عن الأول أنه خلاف الظاهر بل من
التحريف الذي لا يفعله منصف وكذا الثاني
والجواب عن الثالث أن الخطأ الذي لا يقر عليه
هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح
إليه فليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم
الصادر منه عن شهادة زور أو يمين فاجرة فلا
يسمى خطأ للاتفاق على العمل بالشهادة
وبالأيمان وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى
خطأ وليس كذلك لما في حديث:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
ج / 8 ص -281-
لا إله إلا اللّه فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم"
فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولو كان في
نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك ولما في حديث
المتلاعنين حيث قال: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" فإنه لو كان خطأ لم يترك استدراكه والعمل بما عرفه. وكذلك حديث
إني لم أؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس فالحجة من
حديث الباب شاملة للأموال والعقود والفسوخ وقد
حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا
يحلل الحرام.
قال النووي:
والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرًا وباطنًا
مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور
ولقاعدة أجمع عليها العلماء ووافقهم القائل
المذكور وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من
الأموال وفي المقام مقاولات ومطاولات ومع وضوح
الصواب لا فائدة في الإطناب.
وقد استدل المصنف رحمه
اللّه تعالى بالحديث على أن الحاكم لا يحكم
بعلمه وسيأتي الكلام على ذلك في باب مستقل إن
شاء اللّه تعالى وفيه الرد على من حكم بما يقع
في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة
ونحوها ووجه الرد عليه أنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقًا ومع ذلك
فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر
في الأمور العامة فلو كان المدعى صحيحًا لكان
الرسول أحق بذلك فإنه أعلم أنه تجري الأحكام
على ظاهرها مع أنه يمكن أن اللّه يطلعه على
غيب كل قضية وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع
على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن
يعتمدوا ذلك نعم لو شهدت البينة مثلًا بخلاف
ما يعلمه مشاهدة أو سماعًا أو ظنًا راجحًا لم
يجز له أن يحكم بما قامت به البينة.
قال الحافظ:
ونقل بعضهم فيه الاتفاق وإن وقع الاختلاف فيه
في القضاء بالعلم كما سيأتي.
باب ما يذكر في
ترجمة الواحد
1 - في حديث زيد بن
ثابت:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمره
فتعلم كتاب اليهود وقال حتى كتبت للنبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا
كتبوا إليه". رواه أحمد والبخاري.
قال البخاري:
قال عمر بن الخطاب وعنده أمير المؤمنين علي
وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ماذا تقول هذه فقال
عبد الرحمن بن حاطب فقلت تخبرك بالذي صنع بها
قال وقال أبو جمرة كنت أترجم بين ابن عباس
وبين الناس.
قوله: "حتى كتبت
للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كتبه" يعني
إليهم هذا الحديث من الأحاديث المعلقة في
البخاري وقد وصله في تاريخه بلفظ: "إن زيد
بن ثابت قال أتى بي النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم مقدمه المدينة فأعجب بي فقيل له هذا غلام
من بني النجار قد قرأ مما أنزل اللّه عليك بضع
عشرة سورة فاستقرأني فقرأت
{ق}
فقال لي: تعلم كتاب يهود فإني ما آمن يهود
على كتابي فتعلمه في نصف شهر حتى كتبت له إلى
يهود وأقرأ له إذا كتبوا إليه" وأخرجه أيضًا
موصولًا
ج / 8 ص -282-
أبو داود والترمذي وصححه وأخرجه أحمد وإسحاق
وأخرجه أيضًا أبو يعلى بلفظ:
"إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي
وينقصوا فتعلم السريانية" وظاهره أن اللغة السريانية كانت معروفة يومئذ وهي غير العبرانية
فكأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمره أن يتعلم
اللغتين. قوله: "ماذا تقول هذه" أي
المرأة التي وجدت حبلى. قوله: "وقال أبو
جمرة" بالجيم المفتوحة والميم الساكنة
والراء المهملة.
ـ وفي الحديث ـ
جواز ترجمة واحد قال ابن بطال: أجاز الأكثر
ترجمة واحد. وقال محمد بن الحسن: لا بد من
رجلين أو رجل وامرأتين وقال الشافعي: هو
كالبينة وعن مالك روايتان ونقل الكرابيسي عن
مالك والشافعي الاكتفاء بترجمان واحد. وعن
أبي حنيفة الاكتفاء بواحد وعن أبي يوسف باثنين
وعن زفر لا يجوز أقل من اثنين،
وقال الكرماني:
لا نزاع لأحد أنه يكفي ترجمان واحد عند
الإخبار وأنه لا بد من اثنين عند الشهادة
فيرجع الخلاف إلى أنها إخبار أو شهادة فلو سلم
الشافعي أنها إخبار لم يشترط العدد ولو سلم
الحنفي أنها شهادة لقال بالعدد.
وقال ابن المنذر:
القياس يقتضي اشتراط العدد في الأحكام لأن كل
شيء غاب عن الحاكم لا تقبل فيه إلا البينة
الكاملة والواحد ليس بينة كاملة حتى يضم إليه
كمال النصاب غير أن الحديث إذا صح سقط
النظر. وفي الاكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة
ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى.
وتعقبه الحافظ فقال:
يمكن أن يجاب بأنه ليس غير النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم من الحكام في ذلك مثله لإمكان
إطلاعه على ما غاب عنه بالوحي بخلاف غيره بل
لا بد له من أكثر من واحد فمهما كان طريقه
الإخبار يكتفى فيه بالواحد ومهما كان طريقه
الشهادة لا بد فيه من استيفاء النصاب وقد نقل
الكرابيسي أن الخلفاء الراشدين والملوك بعدهم
لم يكن لهم إلا ترجمان واحد.
وقد نقل ابن التين من
رواية ابن عبد الحكم لا يترجم إلا حر عدل وإذا
أقر المترجم بشيء وجب أن يسمع ذلك منه شاهدان
ويرفعان ذلك إلى الحاكم.
باب الحكم
بالشاهد واليمين
1 - عن ابن عباس:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قضى بيمين وشاهد". رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية لأحمد إنما
كان ذلك في الأموال.
2 - وعن جابر: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى باليمين
مع الشاهد". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي ولأحمد من حديث عمارة بن حزم وحديث
سعد بن عبادة مثله.
3 - وعن جعفر بن محمد عن
أبيه عن أمير المؤمنين علي:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب
الحق وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق". رواه أحمد والدارقطني وذكره الترمذي.
ج / 8 ص -283-
4 - وعن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن
أبي هريرة قال:
"قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم باليمين مع الشاهد
الواحد".
رواه ابن ماجه والترمذي وأبو داود وزاد قال
عبد العزيز الداروردي فذكرت ذلك لسهيل فقال:
أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا
أحفظه قال عبد العزيز: وقد كان أصاب سهيلا
علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه فكان سهيل
بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه.
5 - وعن سرق: "أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أجاز
شهادة الرجل ويمين الطالب". رواه ابن ماجه.
حديث ابن عباس قال في
التلخيص: قال فيه الشافعي وهذا الحديث ثابت
لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره
مع أن معه غيره مما يشده وقال النسائي:
إسناده جيد. وقال البزار: في الباب أحاديث
حسان أصحها حديث ابن عباس وقال ابن عبد البر
لا مطعن لأحد في إسناده.
وقال عباس الدوي
في تاريخ يحيى بن معين ليس بمحفوظ.
وقال البيهقي:
أعله الطحاوي بأنه لا يعلم قيسًا يحدث عن عمرو
بن دينار بشيء قال: وليس ما لا يعلمه
الطحاوي لا يعلمه غيره ثم روى بإسناد جيد
حديثًا من طريق وهب بن جرير عن أبيه عن قيس بن
سعد عن عمرو بن دينار حديث الذي وقصته ناقته
وهو محرم ثم قال وليس من شرط قبول رواية
الأخبار كثرة رواية الراوي عمن روى عنه ثم إذا
روى الثقة عمن لا ينكر سماعه منه حديثًا
واحدًا وجب قبوله وإن لم يكن يروى عنه غيره
على أن قيسًا قد توبع عليه رواه عبد الرزاق عن
محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار أخرجه
أبو داود وتابع عبد الرزاق أبو حذيفة وقال
الترمذي في العلل سألت محمدًا يعني البخاري عن
هذا الحديث فقال لم يسمعه عندي عمرو من ابن
عباس.
قال الحاكم
قد سمع عمرو من ابن عباس عدة أحاديث وسمع من
جماعة من أصحابه فلا ينكر أن يكون سمع منه
حديثًا وسمعه من بعض أصحابه عنه وأما رواية
عصام البلخي وغيره ممن زاد بين عمرو وابن عباس
طاوسًا فهم ضعفاء.
قال البيهقي:
ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء انتهى
ما في التلخيص على الحديث.
وحديث جابر أخرجه أيضًا
البيهقي وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن
جابر قال الترمذي: رواه الثوري وغيره عن
جعفر عن أبيه مرسلا وهو أصح وقيل عن أبيه عن
أمير المؤمنين علي انتهى.
وقد ذكر المصنف رحمه
اللّه الطريقين كما ترى.
وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه وأبي
زرعة:
هو مرسل وقال الدارقطني: كان جعفر ربما
أرسله وربما وصله وقال الشافعي والبيهقي:
عبد الوهاب وصله وهو ثقة قال البيهقي: روى
إبراهيم بن أبي هند عن جعفر عن أبيه عن جابر
رفعه: أتاني جبريل وأمرني أن أقضي باليمين
مع الشاهد. وإبراهيم ضعيف جدًا رواه ابن عدي
ج / 8 ص -284-
وابن حبان في ترجمته وقد صحح حديث جابر أبو
عوانة وابن خزيمة وحديث عمارة قال في مجمع
الزوائد: رجاله ثقات ولفظه: "أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد".
وحديث سعد بن عبادة لفظه
في مسند أحمد عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن
سعد بن عبادة عن أبيه: "أنهم وجدوا في
كتاب سعد بن عبادة أن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد" انتهى
وإسماعيل بن عمرو قال الحافظ الحسيني شيخ محله
الصدق وأبوه لم يذكر بشيء وسائر الإسناد رجاله
رجال الصحيح وأخرجه البيهقي وأبو عوانة في
صحيحه من حديثه بسند آخر.
وحديث أبي هريرة قال
الحافظ في الفتح: رجاله مدينون ثقات ولا
يضره أن سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به
ربيعة لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن
نفسه انتهى. وأخرجه أيضًا الشافعي وروى ابن
أبي حاتم في العلل عن أبيه أنه صحيح ورواه
البيهقي من حديث مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال الترمذي
بعد إخراج الطريق الأولى حسن غريب.
قال ابن رسلان في شرح السنن:
إنه صحح حديث الشاهد واليمين الحافظان أبو
زرعة وأبو حاتم من حديث أبي هريرة وزيد بن
ثابت وحديث سرق في إسناده رجل مجهول وهو
الراوي له عنه فإنه قال ابن ماجه حدثنا أبو
بكر ابن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون حدثنا
جويرة بن أسماء حدثنا عبد اللّه بن يزيد مولى
المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سرق فذكره ورجال
إسناده رجال الصحيح لولا الرجل المجهول وقد
أخرجه أيضًا أحمد.
قال في التلخيص:
فائدة ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من رواه
فزاد على عشرين صحابيًا وأصح طرقه حديث ابن
عباس ثم حديث أبي هريرة.
وأخرج الدارقطني من حديث
أبي هريرة مرفوعًا قال
"استشرت جبريل في القضاء باليمين والشاهد فأشار علي بالأموال لا نعد
ذلك"
وإسناده ضعيف. وفي الباب عن الزبيب بضم
الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة وهو ابن
ثعلبة فذكر قصة وفيها أنه قال له صلى اللّه
عليه وآله وسلم هل لك بينة على أنكم أسلمتم
قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام قلت: نعم
قال: من بينتك قلت: سمرة رجل من بني
العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبى سمرة
أن يشهد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر قلت: نعم فاستحلفني فحلفت باللّه لقد
أسلمنا يوم كذا وكذا ثم ذكر تمام القصة وفيها
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عمل
بالشاهد واليمين أخرجه أبو داود مطولًا.
قال الخطابي:
إسناده ليس بذاك. وقال أبو عمر النمري:
إنه حديث حسن قال المنذري: وقد روي القضاء
بالشاهد واليمين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم من رواية عمر بن الخطاب وأمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وسعد بن
عبادة والمغيرة بن شعبة وجماعة من الصحابة
انتهى فجملة عدد من ذكره المصنف رحمه اللّه
سبعة وزينب وعمر بن الخطاب والمغيرة وزيد بن
ثابت وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وعبد اللّه
بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري وبلال بن
الحارث ومسلمة بن قيس وعامر بن ربيعة وسهل بن
سعد وتميم الداري وأم سلمة وأنس هؤلاء أحد
وعشرون رجلا من الصحابة وهو المشار إليهم بقول
ابن الجوزي فزاد عددهم على عشرين. وقد استدل
ج / 8 ص -285-
بأحاديث الباب جماعة من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم فقالوا يجوز الحكم بشاهد ويمين
المدعي وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أمير
المؤمنين علي وأبي بكر وعمر وعثمان وأبي وابن
عباس وعمر بن عبد العزيز وشريح والشعبي وربيعة
وفقهاء المدينة والناصر والهادوية ومالك
والشافعي وحكي أيضًا عن زيد بن علي والزهري
والنخعي وابن شبرمة والإمام يحيى وأبي حنيفة
وأصحابه أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين.
وقد حكى البخاري وقوع
المراجعة في ذلك ما بين أبي الزناد وابن شبرمة
فاحتج أبو الزناد على جواز القضاء بشاهد ويمين
بالخبر الوارد في ذلك فأجاب عليه ابن شبرمة
بقوله تعالى
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قال الحافظ: وإنما تتم له الحجة بذلك على أصل مختلف فيه بين
الفريقين يعني الكوفيين والحجازيين وهو أن
الخبر إذا ورد متضمنًا لزيادة على ما في
القرآن هل يكون نسخًا والسنة لا تنسخ القرآن
أو لا يكون نسخًا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل
إذا ثبت سنده وجب القول به والأول مذهب
الكوفيين والثاني مذهب الحجازيين ومع قطع
النظر عن ذلك لا تنهض حجة ابن شبرمة لأنها
تصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتد به وقد
أجاب عنه الإسماعيلي فقال: الحجة إلى إذكار
إحداهما الأخرى إنما هو فيما إذا شهدتا فإن لم
تشهدا قامت مقامهما يمين الطالب ببيان السنة
الثابتة واليمين ممن هي عليه لو انفردت لحلت
محل البينة في الأداء والإبراء فلذلك حلت
اليمين هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها
مضافة إلى الشاهد الواحد قال: ولو لزم إسقاط
القول بالشاهد واليمين لأنه ليس في القرآن
للزم إسقاط الشاهد والمرأتين لأنهما ليستا في
السنة لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
شاهداك أو يمينه وحاصله أنه لا يلزم من
التنصيص على الشيء نفيه عما عداه لكن مقتضى ما
بحثه أنه لا يقضى باليمين مع الشاهد الواحد
إلا عند فقد الشاهدين أو ما قام مقامهما من
الشاهد والمرأتين وهو وجه للشافعية وصححه
الحنابلة ويؤيده ما روى الدارقطني من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا قضى
اللّه ورسوله في الحق بشاهدين فإن جاء بشاهدين
أخذ حقه وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده
وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسخ
وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر ولا تقبل
الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها
مشهورًا وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع
هنا وأيضًا فالناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا
على محل واحد وهذا غير متحقق في الزيادة على
النص.
وغاية ما فيه أن تسمية
الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح ولا يلزم منه
نسخ الكتاب بالسنة لكن تخصيص الكتاب بالسنة
جائز وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى {وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها
وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة وكذلك قطع
رجل السارق في المرة الثانية ونحو ذلك وقد أخذ
من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على
ما في القرآن ترك العمل بأحاديث كثيرة في
أحكام كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن
كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة ومن القيء
واستبراء المسبية وترك قطع من سرق ما يسرع
إليه الفساد وشهادة المرأة الواحدة في الولادة
ولا قود إلا
ج / 8 ص -286-
بالسيف ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا تقطع
الأيدي في الغزو ولا يرث الكافر المسلم ولا
يؤكل الطافي من السمك ويحرم كل ذي ناب من
السباع ومخلب من الطير ولا يقتل الوالد بالولد
ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة
التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب وأجابوا
بأن الأحاديث الواردة في هذه المواضع المذكورة
أحاديث شهيرة فوجب العمل بها لشهرتها فيقال
لهم وأحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نيف
وعشرون نفسًا كما قدمنا وفيها ما هو صحيح كما
سلف فأي شهرة تزيد على هذه الشهرة.
قال الشافعي:
القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لأنه
لا يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه يعني
والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم أصلًا فضلًا
عن مفهوم العدد.
قال ابن العربي:
أظرف ما وجدت لهم في رد الحكم بالشاهد واليمين
أمران أحدهما أن المراد قضى بيمين المنكر مع
شاهد الطالب والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي
في ثبوت الحق فتجب اليمين على المدعى عليه
فهذا المراد بقوله قضى بالشاهد واليمين.
وتعقبه ابن العربي بأنه جهل باللغة لأن المعية
تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في
المتضادين ثانيهما حمله على صورة مخصوصة وهي
أن رجلًا اشترى من آخر عبدًا مثلا فادعى
المشتري أن به عيبًا وأقام شاهدًا واحدًا فقال
البائع بعته بالبراءة فيحلف المشتري أنه ما
اشتراه بالبراءة ويرد العبد وتعقبه بنحو ما
تقدم وبندور ذلك فلا يحمل الخبر على النادر
وأقول جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد
ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له
أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من
إنصاف فالحق أن أحاديث العمل بشاهد ويمين
زيادة على ما دل عليه قوله تعالى
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} الآية وعلى ما دل عليه قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: "شاهداك أو يمينه"
غير منافية للأصل فقبولها متحتم وغاية ما يقال
على فرض التعارض وإن كان فرضًا فاسدًا أن
الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد
على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم بمجردهما
وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا
يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد
ويمين على أنه يقال العمل بشهادة المرأتين مع
الرجل مخالف لمفهوم حديث:
"شاهداك أو يمينه".
ـ فإن قالوا ـ قدمنا على
هذا المفهوم منطوق الآية الكريمة قلنا ونحن
قدمنا على ذلك المفهوم منطوق أحاديث الباب هذا
على فرض أن الخصم يعمل بمفهوم العدد فإن كان
لا يعمل به أصلًا فالحجة عليه أوضح وأتم.
قوله: "وعن سرق"
بضم السين المهملة وتشديد الراء بعدها قاف وهو
ابن أسد صحابي مصري لم يرو عنه إلا رجل
واحد.
باب ما جاء في
امتناع الحاكم من الحكم بعلمه
1 - عن عائشة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث أبا جهم
بن حذيفة مصدقًا فلاحه رجل في صدقته فضربه أبو
جهم فشجه فأتوا النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم فقالوا: القود يا رسول اللّه فقال:
لكم كذا وكذا فلم يرضوا
فقال:
لكم كذا
ج / 8 ص -287-
وكذا
فرضوا فقال:
إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا: نعم فخطب فقال
إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت
عليهم كذا وكذا فرضوا أفرضيتم قالوا:
لا فهم المهاجرون بهم فأمرهم رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم
دعاهم فزادهم فقال: أفرضيتم قالوا: نعم
قال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم
قالوا: نعم فخطب فقال: أرضيتم فقالوا:
نعم".
رواه الخمسة إلا الترمذي.
2 - وعن جابر قال:
"أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب
بلال فضة والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يقبض منها يعطي الناس فقال: يا محمد اعدل
فقال:
ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن
لم أكن أعدل
فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أقتل هذا
المنافق فقال:
معاذ اللّه أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن
هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم
يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية".
رواه أحمد ومسلم.
قال أبو بكر الصديق:
لو رأيت رجلًا على حد من حدود اللّه ما أخذته
ولا دعوت له أحدًا حتى يكون معي غيري. حكاه
أحمد. حديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري
قال المنذري: ورواه يونس بن يزيد عن الزهري
منقطعًا.
قال البيهقي:
ومعمر بن راشد حافظ قد أقام إسناده فقامت به
الحجة.
وأثر أبي بكر قال الحافظ في الفتح:
رواه ابن شهاب عن زيد بن الصلت أن أبا بكر
فذكره وصحح إسناده.
ـ وقد اختلف ـ أهل العلم
في جواز القضاء من الحاكم بعلمه فروى البخاري
عن عبد الرحمن بن عوف مثل ما ذكره المصنف عن
أبي بكر واستدل البخاري أيضًا على أنه لا يحكم
الحاكم بعلمه بما قاله عمر لولا أن يقول الناس
زاد عمر آية في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم.
قال المهلب:
وأفصح بالعلة في ذلك بقوله لولا أن يقول الناس
الخ فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا يجد
حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن
أحبوا له الحكم بشيء قال البخاري: وقال أهل
الحجاز: الحاكم لا يقضي بعلمه سواء علم بذلك
في ولايته أو قبلها.
قال الكرابيسي:
لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة إذ لا
يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة قال:
ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقًا
أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط
أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني أو يفرق بينه
وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها أو بينه
وبين أمته ويزعم أنه
ج / 8 ص -288-
سمعه يعتقها فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل
قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق
بينه وبين من يحب ومن ثم قال الشافعي لولا
قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه.
قال ابن التين:
ما ذكره البخاري عن عمر وعبد الرحمن هو قول
مالك وأكثر أصحابه. وقال بعض أصحابه: يحكم
بما علمه فيما أقر به أحد الخصمين عنده في
مجلس الحكم.
وقال ابن القاسم وأشهب:
لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا
شهد له عنده.
وقال ابن المنير:
مذهب مالك أن من حكم بعلمه نقض على المشهور
إلا إن كان علمه حادثًا بعد الشروع بعد
المحاكمة فقولان وأما ما أقر به عنده في مجلس
الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل
الحكم عليه فإن
ابن القاسم قال:
لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدًا وقال ابن
الماجشون: يحكم بعلمه قال البخاري: وقال
بعض أهل العراق: ما سمع أو رآه في مجلس
القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلا
بشاهدين يحضرهما إقراره
قال في الفتح:
وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه ووافقهم مطرف
وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية.
قال ابن التين:
وجرى به العمل وروى عبد الرزاق نحوه من
شريح.
قال البخاري:
وقال آخرون منهم يعني أهل العراق بل يقضي به
لأنه مؤتمن قال في الفتح: وهو قول أبي يوسف
ومن تبعه ووافقهم الشافعي فيما بلغني عنه أنه
قال: إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في
حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم
بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي
القضاء أو بعد ما ولي فقيد ذلك بكون القاضي
عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس
بعدل قال البخاري: وقال بعضهم يعني أهل
العراق يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي في
غيرها.
قال في الفتح:
هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله
الكرابيسي عنه وهي رواية لأحمد. قال أبو
حنيفة: القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه ولكن
أدع القياس وأستحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه
وحكي مثل ذلك في الفتح عن بعض المالكية فقالوا
إنه يقضي بعلمه في كل شيء إلا في الحدود قال
وهذا هو الراجح عند الشافعية
وقال ابن العربي:
لا يقضي بعلمه والأصل فيه عندنا الإجماع على
أنه لا يحكم بعلمه في الحدود قال ثم أحدث بعض
الشافعية قولا أنه يجوز فيها أيضًا حين رأوا
أنها لازمة لهم.
قال الحافظ:
كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام
على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف وقد حكى في
البحر القول بأن الحاكم يحكم بعلمه عن العترة
والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وحكى المنع عن شريح
والشعبي والأوزاعي ومالك وإسحاق وأحد قولي
الشافعي والأقوال في المسألة فيها طول قد ذكر
البخاري وشراح كتابه بعضًا منها في باب
الشهادة تكون عند الحاكم وبعضًا في باب من رأى
للقاضي أن يحكم بعلمه. وذكر البخاري في
البابين أحاديث يستدل بها على الجواز وعدمه
وهي في غاية البعد عن الدلالة على المقصود
وكذلك ما ذكره المصنف في هذا الباب فإن حديث
عائشة ليس فيه إلا مجرد وقوع الإخبار منه صلى
اللّه عليه وآله وسلم بما وقع به الرضا من
الطالبين للقود وإن كان الاحتجاج بعدم القضاء
منه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليهم بما رضوا
به المرة الأولى فلم يكن هناك مطالب له بالحكم
عليهم. وكذلك حديث
ج / 8 ص -289-
جابر المذكور لا يدل على المطلوب بوجه وغاية
ما فيه الامتناع عن القتل لمن كان في الظاهر
من الصحابة لئلا يقول الناس تلك المقالة
والأخبار للحاضرين بما يكون من أمر الخوارج
وترك أخذهم بذلك لتلك العلة ومن جملة ما استدل
به البخاري على الجواز حديث هند زوجة أبي
سفيان لما أذن لها النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها. قال
ابن بطال: احتج من أجاز للقاضي أن يحكم
بعلمه بهذا الحديث لأنه إنما قضى لها ولولدها
بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم
يلتمس على ذلك بينة وتعقبه ابن المنير بأنه لا
دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام المفتي
يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي اهـ. فإن
قيل إن محل الدليل إنما هو عمله بعلمه أنها
زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب فيجاب بأن
الذي يحتاج إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا
الإفتاء فإنه يصح للمجهول فإذا ثبت أن ذلك من
قبيل الإفتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها
زوجة وقد تعقب الحافظ كلام ابن المنير فقال:
وما ادعى نفيه بعيد فإنه لو لم يعلم صدقها لم
يأمرها بالأخذ وإطلاعه على صدقها ممكن بالوحي
دون من سواه فلا بد من سبق علم ويجاب عن هذا
بأن الأمر لا يستلزم الحكم لأن المفتي يأمر
المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم
في شيء ومن جملة ما استدل به على المنع الحديث
المتقدم عن أم سلمة "فأقضي بنحو ما أسمع"
ولم يقل بما أعلم.
ويجاب بأن التنصيص على
السماع لا ينفي كون غيره طريقًا للحكم على أنه
يمكن أن يقال إن الاحتجاج بهذا الحديث
للمجوزين أظهر فإن العلم أقوى من السماع لأنه
يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما
يعلمه ففحوى الخطاب تقتضي جواز القضاء بالعلم
ومن جملة ما استدل به المانعون حديث شاهداك أو
يمينه وفي لفظ وليس لك إلا ذلك ويجاب بما تقدم
من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه.
وأما قوله:
"وليس لك إلا ذلك" فلم يقله النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
وقد علم بالمحق منهما من المبطل حتى يكون
دليلًا على عدم حكم الحاكم بعلمه بل المراد
أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان
فاجرًا حيث لم يكن للمدعي برهان.
والحق الذي لا ينبغي
العدول عنه أن يقال إن كانت الأمور التي جعلها
الشارع أسبابًا للحكم كالبينة واليمين ونحوهما
أمورًا تعبدنا اللّه بها لا يسوغ لنا الحكم
إلا بها وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين
فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها وعدم
العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان وإن
كانت أسبابًا يتوصل الحاكم بها إلى معرفة
المحق من المبطل والمصيب من المخطئ غير مقصودة
لذاتها بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم
بها من علم أو ظن وأنها أقل ما يحصل له ذلك في
الواقع فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما
هو المعتبر فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن
يحكم بعلمه لأن شهادة الشاهدين والشهود لا
تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة أو
ما يجري مجراها فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم
الذي يستند إلى شاهدين أو يمين. ولهذا يقول
المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه إنما أقطع له قطعة
ج / 8 ص -290-
من نار" فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابًا وتجويز كونه خطأ فكيف
لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى
العلم اليقين ولا يخفى رجحان هذا وقوته لأن
الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر
اللّه تعالى.
ويؤيد هذا ما سيأتي في
باب استحلاف المنكر حيث قال صلى اللّه عليه
وآله وسلم للكندي ألك بينة فإن البينة في
الأصل ما به يتبين الأمر ويتضح ولا يرد على
هذا أنه يستلزم قبول شهادة الواحد والحكم بها
لأنا نقول إذا كان القضاء بأحد الأسباب
المشروعة فيجب التوقف فيه على ما ورد.
وقد قال تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم
"شاهداك"
وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها
هو أولى بالقبول منها كعلم الحاكم. واستدل
المستثني للحدود بما تقدم من قوله صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" وفي لفظ: "لو
كنت راجمًا أحدًا من غير بينة لرجمتها"
أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عباس في قصة
الملاعنة. وظاهره أنه صلى اللّه عليه وآله
وسلم قد علم وقوع الزنا منها ولم يحكم
بعلمه. ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمن
المتقدمان. ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما لم يعمل
بعلمه لكونه قد حصل التلاعن وهو أحد الأسباب
الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم والنزاع
إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب
شرعي ينافيه وقد تقدم في اللعان ما يزيد هذا
وضوحًا. ومن الأدلة الدالة على جواز الحكم
بالعلم ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من
حديث عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن الأعرج عن
أبي هريرة قال: "جاء رجلان يختصمان إلى
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
للمدعي:
أقم البينة
فلم يقمها فقال للآخر:
احلف فحلف باللّه الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء فقال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
قد فعلت ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا
اللّه"
وفي رواية للحاكم:
"بل هو عندك ادفع إليه حقه
ثم قال شهادتك أن لا إله إلا اللّه كفارة يمينك" وفي رواية لأحمد: "فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فقال:
إنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه
وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا اللّه" وأعله ابن حزم بأبي يحيى وهو مصدع المعرقب كذا قال ابن عساكر
وتعقبه المزي بأنه وهم بل اسمه زياد كذا اسمه
عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث
وأعله أبو حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب
عن البختري بن عبيد عن أبي الزبير مختصرًا:
"أن
رجلا حلف باللّه وغفر له"
قال: وشعبة أقدم سماعًا من غيره.
وفي الباب عن أنس من
طريق الحارث بن عبيد عن ثابت وعن ابن عمر.
قال الحافظ:
أخرجهما البيهقي والحارث بن عبيد هو أبو
قدامة. فهذا الحديث فيه أنه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي
وهو اليمين فبالأولى جواز القضاء بالعلم قبل
وقوعه.
وقد حكي في البحر عن
الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد باللّه وأحد
قولي الشافعي أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه
في الحدود وغيرها واستدل لهم بأنه لم يفصل
الدليل. وحكى عن أبي حنيفة ومحمد أنه إن علم
الحد قبل ولايته أو في غير بلد ولايته لم يحكم
به إذ ذلك شبهة وإن علم به في بلد ولايته أو
بعد ولايته حكم بعلمه.
ج / 8 ص -291-
باب من لا يجوز الحكم بشهادته
1 - عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على
أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت
والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت".
رواه أحمد وأبو داود. وقال شهادة الخائن
والخائنة إلى آخره ولم يذكر تفسير القانع.
ولأبي داود في رواية: "لا
تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية
ولا ذي غمر على أخيه".
2 - وعن أبي هريرة:
"أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". رواه أبو داود وابن ماجه.
حديث عمرو بن شعيب أخرجه
البيهقي وابن دقيق العيد قال في التلخيص:
وسنده قوي اهـ وقد ساقه أبو داود بإسنادين.
الإسناد الأول قال حدثنا حفص بن عمر حدثنا
محمد بن راشد يعني المكحولي الدمشقي نزيل
البصرة وثقه أحمد وابن معين حدثنا سليمان بن
موسى يعني القرشي الأموي فقيه أهل الشام وكان
أوثق أصحاب مكحول وأعلاهم عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده وهذا إسناد لا مطعن فيه. ورواية
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يخرج بها
الحديث عن الحسن والصلاحية للاحتجاج. والسند
الثاني قال حدثنا محمد بن خلف بن طارق الرازي
حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد يعني الدمشقي
الخزاعي وهو ثقة حدثنا سعيد بن عبد العزيز
يعني ابن يحيى التنوخي الدمشقي روى له البخاري
في الأدب وسائر الجماعة عن سليمان بن موسى
المتقدم عن عمرو بن شعيب بالإسناد المتقدم
وهذا كالإسناد الأول.
وفي الباب من حديث عائشة
مرفوعًا بلفظ:
"لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولا
قرابة" أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي وفيه
يزيد بن زياد الشامي وهو ضعيف. قال
الترمذي: لا يعرف هذا من حديث الزهري إلا من
هذا الوجه ولا يصح عندنا إسناده.
وقال أبو زرعة في العلل:
منكر وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي وفي
الباب أيضًا من حديث عبد اللّه ابن عمر بن
الخطاب نحوه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي
إسناده عبد الأعلى وهو ضعيف وشيخه يحيى بن
سعيد الفارسي وهو أيضًا ضعيف قال البيهقي:
لا يصح من هذا شيء عن النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم وفي الباب أيضًا عن عمر: "لا
تقبل شهادة ظنين ولا خصم"
أخرجه مالك في الموطأ موقوفًا وهو منقطع قال
الإمام في النهاية: واعتمد الشافعي خبرًا
صحيحًا وهو أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
لا تقبل شهادة خصم على خصم
قال
الحافظ: ليس له إسناد صحيح لكن له طرق يتقوى بعضها ببعض فروى أبو داود في
المراسيل من حديث طلحة بن عبد اللّه بن عوف أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث
مناديًا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين
ورواه أيضًا البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة يعني الذي بينك وبينه عداوة
ج / 8 ص -292-
ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي
هريرة يرفعه مثله وفي إسناده نظر.
وحديث الباب عن أبي
هريرة أخرجه البيهقي وقال هذا الحديث مما تفرد
به محمد بن عمر وابن عطاء عن عطاء بن يسار
وقال المنذري: رجال إسناده احتج بهم مسلم في
صحيحه اهـ وسياقه في سنن أبي داود قال حدثنا
أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني
يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد يعني الكلاعي عن
أبي الهاد يعني يزيد بن عبد اللّه بن الهاد
الليثي عن محمد بن عمرو بن عطاء يعني القرشي
العامري عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة.
قوله: "لا تجوز
شهادة خائن ولا خائنة" صرح أبو عبيد بأن
الخيانة تكون في حقوق اللّه كما تكون في حقوق
الناس من دون اختصاص.
قوله: "ولا ذي
غمر" قال ابن رسلان: بكسر الغين المعجمة
وسكون الميم بعدها راء مهملة قال أبو داود:
الغمر الحنة والشحناء والحنة بكسر الحاء
المهملة وتخفيف النون المفتوحة لغة في إحنة
وهي الحقد قال الجوهري: يقال في صدره على
إحنة ولا يقال حنة والمواحنة المعاداة والصحيح
أنها لغة كما ذكره أبو داود وجمعها حنات.
قال ابن الأثير:
وهي لغة قليلة في الإحنة وقال الهروي: هي
لغة رديئة والشحناء بالمد العداوة وهذا يدل
على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها
تورث التهمة وتخالف الصداقة فإن في شهادة
الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه
وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه
يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا
فإن قيل لم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار
مع العداوة قال ابن رسلان: قلنا العداوة
ههنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور بخلاف
العداوة الدنيوية قال: وهذا مذهب الشافعي
ومالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة: لا
تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل العدالة
فلا تمنع الشهادة كالصداقة اهـ. وإلى الأول
ذهبت الهادوية وإلى الثاني ذهب المؤيد باللّه
أيضًا والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه
لقيام الدليل على ذلك والأدلة لا تعارض بمحض
الآراء وليس للقائل بالقبول دليل مقبول قال في
البحر: مسألة العداوة لأجل الدين لا تمنع
كالعدلي على القدري والعكس ولأجل الدنيا
تمنع.
قوله: "ولا تجوز
شهادة القانع لأهل البيت" هو الخادم المنقطع
إلى الخدمة فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع
إلى نفسه وذلك كالأجير الخاص وقد ذهب إلى عدم
قبول شهادته للمؤجر له الهادي والقاسم والناصر
والشافعي قالوا لأن منافعه قد صارت مستغرقة
فأشبه العبد وقد حكى في البحر الإجماع على عدم
قبول شهادة العبد لسيده.
قوله: "ولا زان ولا
زانية" المانع من قبول شهادتهما الفسق
الصريح. وقد حكى في البحر الإجماع على أنها
لا تصح الشهادة من فاسق لصريح قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ}
وقوله
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ}
اهـ واختلف في شهادة الولد لوالده والعكس فمنع
من ذلك الحسن البصري والشعبي وزيد بن علي
والمؤيد باللّه والإمام يحيى والثوري ومالك
والشافعية والحنفية وعللوا بالتهمة فكان
كالقانع.
وقال عمر بن الخطاب
وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور
وابن المنذر والشافعي في قول له أنها تقبل
لعموم قوله تعالى {ذَوَيْ عَدْلٍ}
وهكذا وقع الخلاف في
ج / 8 ص -293-
شهادة أحد الزوجين للآخر لتلك العلة ولا ريب
أن القرابة والزوجية مظنة للتهمة لأن الغالب
فيهما المحاباة. وحديث ولا ظنين المتقدم
يمنع من قبول شهادة المتهم فمن كان معروفًا من
القرابة ونحوهم بمتانة الدين البالغة إلى حد
لا يؤثر معها محبة القرابة فقد زالت حينئذ
مظنة التهمة ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم
القبول لشهادته لأنه مظنة للتهمة.
قوله: "لا تجوز
شهادة بدوي على صاحب قرية" البدوي هو الذي
يسكن البادية في المضارب والخيام ولا يقيم في
موضع خاص بل يرتحل من مكان إلى مكان وصاحب
القرية هو الذي يسكن القرى وهي المصر
الجامع.
قال في النهاية:
إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في
الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب
لا يضبطون الشهادة على وجهها.
قال الخطابي:
يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما
فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها
ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها
عن وجهها وكذلك قال أحمد وذهب إلى العمل
بالحديث جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك
وأبو عبيد وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن
رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف
عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف
عدالتهم اهـ. وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا
كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه
بدويًا غير مناسب لقواعد الشريعة لأن المساكن
لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل
ذلك مناطًا شرعيًا ولعدم انضباطه فالمناط هو
العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في
العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية
فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها
يعدم ولم يذكر صلى اللّه عليه وآله وسلم المنع
من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام
بما تحتاج إليه العدالة وإلا فقد قبل صلى
اللّه عليه وآله وسلم في الهلال شهادة بدوي.
باب ما جاء في
شهادة أهل الذمة بالوصية في السفر
1 - عن الشعبي: "أن
رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم
يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد
رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا
الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته
ووصيته
فقال الأشعري:
هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول
اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم
فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا
ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته
فأمضى شهادتهما". رواه أبو داود والدارقطني بمعناه.
2 - وعن جبير بن نفير
قال: "دخلت على عائشة فقالت: هل تقرأ
سورة المائدة قلت: نعم قالت: فإنها آخر
سورة أنزلت فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما
وجدتم فيها من حرام فحرموه". رواه أحمد.
ج / 8 ص -294-
3 - وعن ابن عباس قال: "خرج رجل من بني
سهم مع تميم الداري وعدي ابن بداء فمات السهمي
بأرض ليس بها مسلم فلما قدموا بتركته فقدوا
جامًا من فضة مخوصًا بذهب فأحلفهما رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم وجد الجام بمكة
فقالوا ابتعناه من تميم وعدي بن بداء فقام
رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من
شهادتهما وأن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت
هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}". رواه البخاري وأبو داود.
حديث أبي موسى سكت عنه
أبو داود والمنذري قال الحافظ في الفتح: إن
رجال إسناده ثقات اهـ وسياقه عند أبي داود قال
حدثنا زياد بن أيوب يعني الطوسي شيخ البخاري
حدثنا هشيم أخبرنا زكريا يعني ابن أبي زائدة
عن الشعبي. وأثر عائشة رجاله في المسند رجال
الصحيح وأخرجه أيضًا الحاكم قال في الفتح:
صح عن عائشة وابن عباس وعمرو بن شرحبيل وجمع
من السلف أن سورة المائدة محكمة.
وحديث ابن عباس قال
البخاري في صحيحه وقال لي علي بن المديني
فذكره قال المنذري: وهذه عادته فيما لم يكن
على شرطه وقد تكلم علي بن المديني على هذا
الحديث وقال لا أعرف ابن أبي القاسم وقال وهو
حديث حسن اهـ وابن أبي القاسم هذا هو محمد بن
أبي القاسم قال يحيى بن معين ثقة قد كتبت عنه
وكذلك وثقه أبو حاتم وتوقف فيه البخاري وأخرج
هذا الحديث الترمذي وقال حسن غريب. وقد أشار
في الفتح إلى مثل كلام المنذري فقال على قول
البخاري وقال لي علي بن المديني وهذا مما يقوي
مما قررته غير مرة أنه يعبر بقوله وقال لي في
الأحاديث التي سمعها لكن حيث يكون في إسنادها
عنده نظر أو حيث تكون موقوفة.
وأما من زعم أنه يعبر
بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة فليس
عليه دليل.
قوله: "بدقوقا"
بفتح الدال المهملة وضم القاف وسكون الواو
بعدها قاف مقصورة وقد مدها بعضهم وهي بلد بين
بغداد وأربل. قوله: "من أهل الكتاب"
يعني نصرانيين كما بين ذلك البيهقي وبين أن
الرجل من خثعم ولفظه عن الشعبي توفي رجل من
خثعم فلم يشهد موته إلا رجلان نصرانيان.
قوله: "فأحلفهما" يقال في المتعدي
أحلفته إحلافا وحلفته بالتشديد تحليفًا
واستحلفته. قوله: "بعد العصر" هذا يدل
على جواز التغليظ بزمان من الأزمنة.
قوله: "ولا بدلا"
بتشديد الدال. قوله: "من بني سهم" هو
بديل بضم الموحدة وفتح الدال مصغرًا وقيل بريل
بالراء المهملة. قوله: "وعدي بن بداء"
بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد.
قوله: "فقدوا
جامًا" بالجيم وتخفيف الميم أي إناء.
قوله: "مخوصًا" بخاء معجمة وواو ثقيلة
بعدها مهملة أي منقوشًا فيه صفة الخوص. ووقع
في رواية مخوضًا بالضاد المعجمة أي مموها
والأول أشهر.
قوله: "فقام
رجلان" الخ وقع في رواية الكلبي فقام عمرو
بن العاص ورجل آخر منهم قال مقاتل بن سليمان
هو المطلب بن أبي وداعة وهو سهمي ولكنه سمى
الأول
ج / 8 ص -295-
عبد اللّه بن عمرو بن العاص واستدل بهذا
الحديث على جواز رد اليمين على المدعي فيحلف
ويستحق واستدل به ابن سريج الشافعي على الحكم
بالشاهد واليمين وتكلف في انتزاعه فقال قوله
تعالى {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} لا يخلو إما أن يقرا أو يشهد عليهما شاهدان أو شاهد وامرأتان أو
شاهد واحد قال: وقد أجمعوا على أن الإقرار
بعد الإنكار لا يوجب يمينًا على الطالب وكذلك
مع الشاهدين ومع الشاهد والمرأتين فلم يبق إلا
شاهد واحد فلذلك استحقه الطالبان بيمينيهما مع
الشاهد الواحد وتعقبه الحافظ بأن القصة وردت
من طرق متعددة في سبب النزول وليس في شيء منها
أنه كان هناك من يشهد بل في رواية الكلبي
فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه
أي عديا بما يعظم على أهل دينه واستدل بهذا
الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن
المراد بالغير في الآية الكريمة الكفار.
والمعنى منكم أي من أهل
دينكم أو آخران من غيركم أي من غير أهل دينكم
وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه وتعقب بأنه لا
يقول بظاهرها فلا يجيز شهادة الكفار على
المسلمين وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض
وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على قبول شهادة
الكافر على المسلم وبإيمائها على قبول شهادة
الكافر بطريق الأولى ثم دل الدليل على أن
شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة فبقيت
شهادة الكافر على الكافر على حالها وهذا
الجواب على التعقب في غير محله لأن التعقب هو
باعتبار ما يقوله أبو حنيفة لا باعتبار
استدلاله وخص جماعة القبول بأهل الكتاب
وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ ومنهم ابن عباس
وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وشريح وابن
سيرين والأوزاعي والثوري وأبو عبيد وأحمد
وأخذوا بظاهر الآية. وحديث الباب فإن سياقه
مطابق لظاهر الآية وقيل المراد بالغير غير
العشيرة والمعنى منكم أي من عشيرتكم أو آخران
من غيركم أي من غير عشيرتكم وهو قول الحسن
البصري واستدل له النحاس بأن لفظ آخر لا بد أن
يشارك الذي قبله في الصفة حتى لا يسوغ أن يقول
مررت برجل كريم ولئيم آخر فعلى هذا فقد وصف
الاثنان بالعدالة فتعين أن يكون الآخران كذلك
وتعقب بأن هذا وإن ساغ في الآية لكن الحديث دل
على خلاف ذلك والصحابي إذا حكى سبب النزول كان
ذلك في حكم الحديث المرفوع.
قال في الفتح:
اتفاقًا وأيضًا ففيما قال رد المختلف فيه
بالمختلف فيه لأن اتصاف الكافر بالعدالة مختلف
فيه وهو فرع قبول شهادته فمن قبلها وصفه بها
ومن لا فلا. واعترض أبو حيان على المثال
الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق فلو قلت
جاءني رجل مسلم وآخر كافر صح بخلاف ما لو قلت
جاءني رجل مسلم وكافر آخر والآية من قبيل
الأول لا الثاني لأن قوله آخران من جنس قوله
اثنان لأن كلًا منهما صفة رجلان فكأنه قال
فرجلان اثنان ورجلان آخران. وذهب جماعة من
الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق والكافر
شر من الفاسق. وأجاب الأولون أن النسخ لا
يثبت بالاحتمال وأن الجمع بين الدليلين أولى
من إلغاء أحدهما وبأن
ج / 8 ص -296-
سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وأنها
محكمة كما تقدم وأخرج الطبري عن ابن عباس
بإسناد رجاله ثقات أن الآية نزلت فيمن مات
مسافرًا وليس عنده أحد من المسلمين وأنكر أحمد
على من قال أن هذه الآية منسوخة وقد صح عن أبي
موسى الأشعري أنه عمل بذلك كما في حديث الباب
وذهب الكرابيسي والطبري وآخرون إلى أن المراد
بالشهادة في الآية اليمين قالوا وقد سمى اللّه
اليمين شهادة في آية اللعان وأيدوا ذلك
بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد
باللّه وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق
قالوا فالمراد بالشهادة اليمين لقوله
{فيقسمان باللّه} أي يحلفان فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء
وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة
بخلاف الشهادة. وقد اشترط في القصة فقوى
حملها على أنها شهادة وأما اعتلال من اعتل في
ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها
من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه
وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين
فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن
نظيره وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع
كما في الطب وليس المراد بالحبس السجن وإنما
المراد الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة وأما
تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه السورة عند قيام
الريبة وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه
بمجرد اليمين فإن الآية تضمنت نقل الأيمان
إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين فيشرع
لهما أن يحلفا ويستحقا كما يشرع لمدعي القسامة
أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه
بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام
الشهادة لقوة جانبه وأي فرق بين ظهور اللوث في
صحة الدعوى بالدم وظهوره في صحة الدعوى بالمال
وحكى الطبري أن بعضهم قال المراد بقوله
{اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} الوصيان قال والمراد بقوله {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}
معنى الحضور بما يوصيهما به الوصي ثم زيف ذلك
وهذا الحكم يختص بالكافر الذمي وأما الكافر
الذي ليس بذمي فقد حكى في البحر الإجماع على
عدم قبول شهادته على المسلم مطلقًا.
باب الثناء على
من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى
شهادة من غير مسألة
1 - عن زيد بن خالد
الجهني: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته
قبل أن يسئلها".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وفي
لفظ:
"الذين يبدؤون بشهادتهم من غير أن يسئلوا
عنها"
رواه أحمد.
2 - وعن عمران بن
حصين: "عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو
ثلاثة
ثم إن من بعدهم قومًا يشهدون
ج / 8 ص -297-
ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا
يوفون ويظهر فيهم السمن".
متفق عليه.
3 - وعن أبي هريرة
قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم
واللّه أعلم أذكر الثالث أم لا قال: ثم يحلف بقوم يشهدون قبل أن يستشهدوا". رواه أحمد ومسلم.
قوله: "ألا أخبركم
بخير الشهداء" جمع شهيد كظرفاء جمع ظريف
ويجمع أيضًا على شهود. والمراد بخير الشهداء
أكملهم في رتبة الشهادة وأكثرهم ثوابًا عند
اللّه. قوله: "قبل أن يسئلها" في
رواية قبل أن يستشهد وهذه هي شهادة الحسبة
فشاهدها خير الشهداء لأنه لو لم يظهرها لضاع
حكم من أحكام الدين وقاعدة من قواعد الشرع.
وقيل إن ذلك في الأمانة والوديعة ليتيم لا
يعلم مكانها غيره فيخبر بما يعلم من ذلك.
وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد
فلا يمنعها ولا يؤخرها كما يقال الجواد يعطي
قبل سؤاله عبارة عن حسن عطائه وتعجيله.
قوله: "خير أمتي قرني" قال في
القاموس: القرن يطلق من عشرة إلى مائة
وعشرين سنة ورجح الإطلاق على المائة. وقال
صاحب المطالع: القرن أمة هلكت فلم يبق منهم
أحد. قال في النهاية: القرن أهل كل زمان
وهو مقدار المتوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ
من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل
ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. قيل القرن
أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل هو
مطلق من الزمان وهو مصدر قرن يقرن اهـ.
قال الحافظ:
لم نر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة وما
عدا ذلك فقد قال به قائل. والمراد بقرنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم في هذا الحديث هم
الصحابة كما في حديث أبي هريرة المذكور
بلفظ:
"الذي بعثت فيه"
والمراد بالذين يلونهم التابعون والذين يلونهم
تابعوا التابعين.
وفيه دليل على أن
الصحابة أفضل الأمة والتابعين أفضل من الذين
بعدهم وتابعي التابعين أفضل ممن بعدهم. وثم
أحاديث معارضة في الظاهر لهذا الحديث وسيأتي
الكلام على ذلك إن شاء اللّه في باب ذكر من
حلف قبل أن يستحلف وهو آخر أبواب الكتاب.
قوله: "يخونون" بالخاء المعجمة مشتق من
الخيانة. وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة:
"يحربون" بسكون المهملة وكسر الراء بعدها
موحدة قال فإن كان محفوظًا فهو من قولهم حربه
يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء ورجل محروب
أي مسلوب المال. قوله: "ولا يؤتمنون"
من الأمانة أي لا يثق الناس بهم لخيانتهم.
وقال النووي: وقع في نسخ مسلم:
"ولا يتمنون"
بتشديد الفوقية. قال غيره: هو نظير
قوله: "يتزر" بالتشديد موضع يأتزر.
قوله: "ويظهر فيهم السمن" بكسر المهملة
وفتح الميم بعدها نون أي يحبون التوسع في
المآكل والمشارب وهي أسباب السمن. وقال ابن
التين: المراد ذم محبته وتعاطيه لا من يخلق
كذلك. وقيل المراد يظهر فيهم كثرة المال.
وقيل المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس
فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف. قال في
الفتح:
ج / 8 ص -298-
ويحتمل
أن يكون جميع ذلك مرادًا.
وقد ورد في لفظ من حديث عمران عند الترمذي
بلفظ: "ثم يجيء قوم متسمنون ويحبون السمن" قال الحافظ: وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته فهو أولى ما
حمل عليه خبر الباب وإنما كان ذلك مذمومًا لأن
السمين غالبًا يكون بليد الفهم ثقيلًا عن
العبادة كما هو مشهور. قوله: "ويشهدون
ولا يستشهدون" يحتمل أن يكون التحمل بدون
تحميل أو الأداء بدون طلب. قال الحافظ:
والثاني أقرب وأحاديث الباب متعارضة فحديث زيد
بن خالد الجهني يدل على استحباب شهادة الشاهد
قبل أن يستشهد. وحديث عمران وأبي هريرة
يدلان على كراهة ذلك.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فبعضهم جنح إلى
الترجيح فرجح ابن عبد البر حديث زيد بن خالد
لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على حديث
عمران لكونه من رواية أهل العراق وبالغ فزعم
أن حديث عمران المذكور لا أصل له وجنح غيره
إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح
عليه وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد وذهب آخرون
إلى الجمع فمنهم من قال أن المراد بحديث زيد
من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها
فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها العالم
بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إلى ورثته
فيعلمهم بذلك قال الحافظ: وهذا أحسن الأجوبة
وبه أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما
ثانيها أن المراد بحديث زيد شهادة الحسبة وهي
ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضًا
ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق اللّه أو فيه
شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة
والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك ـ وحاصله ـ
أن المراد بحديث زيد الشهادة في حقوق اللّه
وبحديث عمران وأبي هريرة الشهادة في حقوق
الآدميين ثالثها أنه محمول على المبالغة في
الإجابة إلى الأداء فيكون لشدة استعداده لها
كالذي أداها قبل أن يسئلها وهذه الأجوبة مبنية
على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أنه
لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق فيخص ذم
من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر
بشهادته ولا يعلم بها صاحبها وذهب بعضهم إلى
جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم
حديث زيد وتأولوا حديث عمران بتأويلات:
أحدها أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون
شهادة لم يسبق لهم تحملها وهذا حكاه الترمذي
عن بعض أهل العلم. ثانيها المراد بها
الشهادة في الحلف يدل عليه ما في البخاري من
حديث ابن مسعود بلفظ: "كانوا
يضربوننا على الشهادة"
أي قول الرجل أشهد باللّه ما كان إلا كذا على
معنى الحلف فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف
واليمين قد تسمى شهادة كما تقدم وهذا جواب
الطحاوي. ثالثها المراد بها الشهادة على
المغيب من أمر الناس فيشهد على قوم أنهم في
النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير دليل كما
يصنع ذلك أهل الأهواء حكاه الخطابي. رابعها
المراد به من ينتصب شاهدًا وليس من أهل
الشهادة. خامسها المراد به التسارع إلى
الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله ـ
والحاصل ـ أن الجمع مهما أمكن فهو مقدم على
الترجيح فلا يصار إلى الترجيح في أحاديث الباب
وقد أمكن الجمع بهذه الأمور.
ج / 8 ص -299-
باب التشديد في شهادة الزور
1 - عن أنس قال:
"ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال:
الشرك باللّه وقتل النفس وعقوق الوالدين
وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور
أو قال شهادة الزور".
2 - وعن أبي بكرة قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم:
ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول
اللّه قال: الإشراك باللّه وعقوق الوالدين
وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور
وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته
سكت".
متفق عليهما.
3 - وعن ابن عمر قال:
"قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم:
لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب اللّه له
النار".
رواه ابن ماجه.
حديث ابن عمر انفرد ابن
ماجه بإخراجه كما في الجامع وغيره وسياق
إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا سويد بن
سعيد حدثنا محمد بن الفرات عن محارب بن دثار
عن ابن عمر فذكره ومحمد بن الفرات هو كوفي
كذبه أحمد وقال في التقريب كذبوه. قوله:
"ذكر الكبائر أو سئل عنها" هذه رواية محمد
بن جعفر ورواية في البخاري سئل عن الكبائر.
ورواية أحمد أو ذكرها قال في الفتح: وكأن
المراد بالكبائر أكبرها لما في حديث أبي بكرة
المذكور وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكر وقد
ذكر اللّه الثلاث المذكورة في الحديث في آيتين
الأولى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
والثانية {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ}.
قوله: "وكان متكئًا
فجلس" هذا يشعر باهتمامه صلى اللّه عليه
وآله وسلم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا
ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه وسبب
الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوعًا على
الناس والتهاون بها أكثر فإن الإشراك ينبو عنه
قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور
فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما
فاحتيج إلى الاهتمام به وليس ذلك لعظمه
بالنسبة إلى ما ذكر معه من الإشراك قطعًا بل
لكون مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف الإشراك
فإن مفسدته مقصورة عليه غالبًا وقول الزور أعم
من شهادة الزور لأنه يشمل كل زور من شهادة أو
غيبة أو بهت أو كذب ولذا قال ابن دقيق العيد
يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام لكن ينبغي
أن يحمل على التوكيد فإنا لو حملنا القول على
الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة
وليس كذلك قال: ولا شك في عظم الكذب ومراتبه
متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً
ج / 8 ص -300-
وَإِثْماً مُبِيناً}.
قوله: "حتى قلنا ليته سكت" أي شفقة عليه
وكراهية لما يزعجه وفيه ما كانوا عليه من كثرة
الأدب معه صلى اللّه عليه وآله وسلم والمحبة
له والشفقة عليه.
ـ وفي الحديث ـ
انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر وليس هذا موضع
بسط الكلام على الكبائر وستأتي إشارة إلى طرف
من ذلك في باب التشديد في اليمين الكاذبة
ويؤخذ من الحديث ثبوت الصغائر لأن الكبائر
بالنسبة إليها أكبر منها والاختلاف في ثبوت
الصغائر مشهور وأكثر ما تمسك به من قال ليس في
الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر
اللّه ونهيه فالمخالفة بالنسبة إلى جلال اللّه
كبيرة لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي
بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث
الباب وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من
مدارك الشرع ويدل على ثبوت الصغائر قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}
فلا ريب أن السيئات المكفرة ههنا هي غير
الكبائر المجتنبة لأنه لا يكفر إلا ذنب قد
فعله المذنب لا ما كان مجتنبًا من الذنوب فإنه
لا معنى لتكفيره والكبائر المرادة في الآية
مجتنبة فالسيئات المكفرة غيرها وليست إلا
الصغائر لأنها المقابلة لها وكذلك يؤيد ثبوت
الصغائر حديث تكفير الذنوب الوارد في الصلاة
والوضوء مقيدًا باجتناب الكبائر فثبت أن من
الذنوب ما يكفر بالطاعات ومنها ما لا يكفر
وذلك عين المدعى. ولهذا قال الغزالي إنكار
الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق
بالفقيه. ثم إن مراتب الصغائر والكبائر
تختلف بحسب تفاوت مفاسدها. قوله: "حتى
يوجب اللّه له النار" في هذا وعيد شديد
لشاهد الزور حيث أوجب اللّه له النار قبل أن
ينتقل من مكانه. ولعل ذلك مع عدم التوبة.
أما لو تاب وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته
فاللّه يقبل التوبة عن عباده.
باب تعارض
البينتين والدعوتين
1 - عن أبي موسى: "أن
رجلين ادعيا بعيرًا على عهد رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم فبعث كل واحد منهما
بشاهدين فقسمه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
بينهما نصفين". رواه أبو داود.
2 - وعن أبي موسى:
"أن رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم في دابة ليست لواحد منهما بينة
فجعلها بينهما نصفين".
رواه الخمسة إلا الترمذي.
3 - وعن أبي هريرة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عرض على
قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في
اليمين أيهم يحلف".
رواه البخاري. وفي رواية:
"أن رجلين تدارآ في دابة ليست لواحد منهما
بينة فأمرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها"
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وفي
رواية: "تدارآ في بيع". وفي رواية:
"أن
ج / 8 ص -301-
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إذا
كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما
عليها" رواه أحمد وأبو داود.
حديث أبي موسى أخرجه
أيضًا الحاكم والبيهقي وذكر الاختلاف فيه على
قتادة وقال هو معلول فقد رواه حماد بن سلمة عن
قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي
هريرة. ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في
صحيحه واختلف فيه على سعيد بن أبي عروبة فقيل
عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن
أبي موسى. وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم
بن طرفة قال: "أنبئت أن رجلين" قال
البخاري: قال سماك بن حرب أنا حدثت بردة
بهذا الحديث. فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا
الحديث من أبيه ورواه أبو كامل عن أبيه.
ورواه أبو كامل مطهر بن مدرك عن حماد عن قتادة
عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلًا.
قال حماد:
فحدثت به سماك بن حرب فقال أنا حدثت به أبا
بردة.
وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب:
الصحيح أنه عن سماك مرسلًا. ورواه ابن أبي
شيبة عن أبي الأحوص عن سماك عن تميم بن
طرفة: "أن رجلين ادعيا بعيرًا فأقام كل واحد منهما بينة أنه له فقضى به صلى
اللّه عليه وآله وسلم بينهما"
ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة فيه
بإسنادين في أحدهما حجاج بن أرطأة والراوي عنه
سويد بن عبد العزيز. وفي الآخر ياسين الزيات
والثلاثة ضعفاء كذا قال الحافظ قال المنذري في
مختصر السنن حاكيًا عن النسائي أنه قال هذا
خطأ. ومحمد بن كثير المصيصي هو صدوق إلا أنه
كثير الخطأ. وذكر أنه خولف في إسناده
ومتنه.
قال المنذري:
ولم يخرجه أبو داود من حديث محمد بن كثير
وإنما أخرجه بإسناد كلهم ثقات انتهى. وقد
ذكر أبو داود لحديث أبي موسى ثلاثة أسانيد ليس
في واحد منها محمد بن كثير. وحديث أبي هريرة
أخرج الرواية الثانية عنه النسائي أيضًا.
والرواية الثالثة عزاها المنذري إلى
البخاري. قوله: "فقسمه النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم بينهما نصفين" فيه أنه لو
تنازع رجلان في عين دابة أو غيرها فادعى كل
واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم يكن
بينهما بينة وكانت العين في يديهما فكل واحد
مدع في نصف ومدعى عليه في نصف أو أقاما البينة
كل واحد على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم وحكم
به الحاكم نصفين بينهما لاستوائهما في اليد.
وكذا إذا لم يقيما بينة كما في الرواية
الثانية. وكذا إذا حلفا أو نكلا.
قال ابن رسلان:
يحتمل أن تكون القصة في حديث أبي موسى الأول
والثاني واحدة إلا أن البينتين لما تعارضتا
تساقطتا وصارتا كالعدم. ويحتمل أن يكون
أحدهما في عين كانت في يديهما. والآخر كانت
العين في يد ثالث لا يدعيها بدليل ما وقع في
رواية للنسائي:
"ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما
شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت
من يد الثالث ودفعت إليهما"
قال: وهذا أظهر لأن حمل الإسنادين على
معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد
لأن القاعدة ترجيح ما فيه زيادة علم على
غيره.
قوله: "أحبا أو
كرها" قال الخطابي: الإكراه هنا
ج / 8 ص -302-
لا يراد به حقيقته لأن الإنسان لا يكره على
اليمين وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على
اثنين وأرادا الحلف سواء كانا كارهين لذلك
بقلبهما وهو معنى الإكراه أو مختارين لذلك
بقلبهما وهو معنى المحبة وتنازعا أيهما يبدأ
فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة
وهو المراد بقوله فليستهما أي فليقترعا وقيل
صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان
عينًا ليست في يد أحدهما ولا بينة لواحد منهما
فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها
ويدل على ذلك الرواية الثانية من حديث أبي
هريرة ويحتمل أن تكون قصة أخرى فيكون القوم
المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلًا
وأنكروا ولا بينة للمدعى عليهم فتوجهت عليهم
اليمين فسارعوا إلى الحلف والحلف لا يقع
معتبرًا إلا بتلقين المحلف فقطع النزاع بينهم
بالقرعة فمن خرجت له بدئ به. وقال البيهقي
في بيان معنى الحديث: إن القرعة في أيهما
تقدم عند إرادة تحليف القاضي لهما وذلك أنه
يحلف واحد ثم يحلف الآخر فإن لم يحلف الثاني
بعد حلف الأول قضى بالعين كلها للحالف أولًا
وإن حلف الثاني فقد استويا في اليمين فتكون
العين بينهما كما كانت قبل أن يحلفا وهذا يشهد
له الرواية الثالثة في حديث أبي هريرة
المذكورة في الباب وقد حمل ابن الأثير في جامع
الأصول الحديث على الاقتراع في المقسوم بعد
القسمة وهو بعيد ويرده الرواية الثالثة فإنها
بلفظ فليستهما عليها أي على اليمين.
قوله: "فليستهما
عليها" وجه القرعة أنه إذا تساوى الخصمان
فترجيح أحدهما بدون مرجح لا يسوغ فلم يبق إلا
المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو
القرعة وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين
الخصوم وقد طول أئمة الفقه الكلام على قسمة
الشيء المتنازع فيه بين متنازعيه إذا كان في
يد كل واحد منهم أو في يد غيرهم مقر به لهم
وأما إذا كان في يد أحدهما فالقول قوله
واليمين عليه والبينة على خصمه وأما القرعة في
تقديم أحدهما في الحلف فالذي في فروع الشافعية
أن الحاكم يعين لليمين منهما من شاء على ما
يراه. قال البرماوي: لكن الذي ينبغي العمل
به هو القرعة للحديث وقد قدمنا في كتاب الصلح
في العمل بالقرعة كلامًا مفيدًا.
باب استحلاف
المنكر إذا لم تكن بينة وأنه ليس للمدعي الجمع
بينهما
1 - عن الأشعث بن قيس
قال: "كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فقال: شاهداك أو يمينه
فقلت: إنه إذًا يحلف ولا يبالي فقال: من
حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها
فاجر لقي اللّه وهو عليه غضبان". متفق عليه. واحتج به من لم ير الشاهد
واليمين ومن رأى العهد يمينًا. وفي لفظ:
"خاصمت ابن عم لي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في بئر
كانت لي في يده فجحدني
ج / 8 ص -303-
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم: بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه قلت: ما لي بينة وإن
يجعلها يمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي اللّه وهو
عليه غضبان" رواه أحمد.
2 - وعن وائل بن حجر
قال:
"جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال الحضرمي: يا
رسول اللّه إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي
قال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له
فيها حق فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
للحضرمي: ألك بينة قال: لا قال: فلك
يمينه فقال: يا رسول اللّه الرجل فاجر لا
يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء
قال: ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أدبر
الرجل: أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًا
ليلقين اللّه وهو عنه معرض".
رواه مسلم والترمذي وصححه وهو حجة على عدم
الملازمة والتكفيل وعدم رد اليمين.
قوله: "كان بيني
وبين رجل خصومة" قد تقدم في كتاب الغصب أن
الأشعث بن قيس قال إن رجلا من كندة ورجلا من
حضرموت اختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وآله
وسلم وهكذا وقع في رواية أبي داود وذلك يقتضي
أن الخصومة بين رجلين غيره ورواية حديث الباب
تقتضي أنه أحد الخصمين ويمكن الجمع بالحمل على
تعدد الواقعة فإن في رواية لأبي داود في حديث
الأشعث هذا بلفظ: "كان بيني وبين رجل من
اليهود أرض فجحدني فيها" ففي هذا تصريح بأن
خصمه كان يهوديًا بخلاف ما تقدم في الغصب فإنه
قال إن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت والكندي
هو امرؤ القيس بن عابس الصحابي الشاعر
والحضرمي هو ربيعة بن عبدان بكسر العين وكذلك
حديث وائل المذكور ههنا بأن الخصومة فيه بين
الكندي والحضرمي وهما المذكوران في حديث
الأشعث المتقدم فلعل الرواية لقصة الكندي
والحضرمي من طريق الأشعث ومن طريق وائل.
وأما المخاصمة بين الأشعث وغريمه فقصة أخرى
رواها الأشعث واللّه أعلم. قوله: "في
بئر" في رواية أبي داود في أرض ولا امتناع
أن يكون المجموع صحيحًا فتارة ذكرت الأرض لأن
البئر داخلة فيها وتارة ذكرت البئر لأنها
المقصودة. قوله: "يقتطع بها مال امرئ
مسلم" التقييد بالمسلم ليس لإخراج غير
المسلم بل كأن تخصيص المسلمين بالذكر لكون
الخطاب معهم ويحتمل أن تكون العقوبة العظيمة
مختصة بالمسلمين وإن كان أصل العقوبة لازمًا
في حق الكفار. قوله: "لقي اللّه وهو
عليه غضبان" هذا وعيد شديد لأن غضب اللّه
سبب لانتقامه وانتقامه بالنار فالغضب منه عز
وجل
ج / 8 ص -304-
يستلزم دخول المغضوب عليه النار ولهذا وقع
عليه في رواية لمسلم: "من
اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له
النار"
ولا بد من تقييد ذلك بعدم التوبة وسيأتي بقية
الكلام على هذا في باب التشديد في اليمين
الكاذبة. قوله: "ليس يتورع من شيء"
أصل الورع الكف عن الحرام والمضارع بمعنى
النكرة في سياق النفي فيعم ويكون التقدير ليس
له ورع عن شيء. قوله: "ليس لك منه إلا
ذلك" في هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على
غريمه اليمين المردودة ولا يلزمه التكفيل ولا
يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس ولكنه قد
ورد ما يخصص هذه الأمور من عموم هذا النفي وقد
تقدم بعض ذلك ولنذكر ههنا ما ورد في جواز
الحبس لمن استحقه فأخرج أبو داود والترمذي
والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس رجلا
في تهمة قال الترمذي حسن وزاد هو والنسائي ثم
خلى عنه وقد تقدم الكلام على حديث بهز بن حكيم
عن أبيه عن جده ولكنه قد روى هذا الحديث
الحاكم وقال صحيح الإسناد وله شاهد من حديث
أبي هريرة ثم أخرجه ولعله ما رواه ابن القاص
بسنده عن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي
هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس
في تهمة يومًا وليلة استظهارًا وطلبًا لإظهار
الحق بالاعتراف.
وأخرج أبو داود من حديث
بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قام إلى النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال جيراني بما
أخذوا فأعرض عنه مرتين لكونه كلمه في حال
الخطبة ثم ذكر شيئًا فقال النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"خلوا له عن جيرانه"
فهذا يدل على أنهم كانوا محبوسين ويدل أيضًا
على جواز الحبس ما تقدم في باب ملازمة الغريم
فإن تسليط ذي الحق عليه وملازمته له نوع من
الحبس وكذلك يدل على الجواز حديث:
"مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" لأن العقوبة مطلقة والحبس من جملة ما يصدق عليه المطلق وقد تقدم
الحديث في كتاب التفليس وحكى أبو داود عن ابن
المبارك أنه قال في تفسير الحديث يحل عرضه أي
يغلظ عليه وعقوبته يحبس له.
وروى البيهقي أن عبدًا
كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه فحبسه النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى باع غنيمة له
وفيه انقطاع وقد روي من طريق أخرى عن عبد
اللّه بن مسعود مرفوعًا وقد بوب البخاري على
ذلك في صحيحه فقال في الأبواب التي قبل كتاب
اللقطة ما لفظه باب الربط والحبس في الحرم قال
في الفتح: كأنه أشار بهذا التبويب إلى رد ما
نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول لا
ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. وأورد
البخاري في الرد عليه أن نافع بن عبد الحارث
اشترى دارًا للسجن بمكة وكان نافع عاملًا لعمر
على مكة. وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن
محمد بن يحيى بن غسان الكناني عن هشام بن
سليمان عن ابن جريج أن نافع بن عبد الحارث
الخزاعي كان عاملًا لعمر على مكة فابتاع دار
السجن من صفوان فذكر نحو ما ذكره البخاري وزاد
في آخره وهو الذي يقال له سجن عارم بمهملتين
قال البخاري وسجن ابن الزبير بمكة انتهى.
ـ والحاصل ـ
أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة
والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الأعصار
والأمصار من دون إنكار وفيه من المصالح ما لا
يخفى لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم
المنتهكين للمحارم الذين
ج / 8 ص -305-
يسعون في الإضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك
ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدًا
ولا قصاصًا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم
العباد والبلاد فهؤلاء إن تركوا وخلى بينهم
وبين المسلمين بلغوا من الإضرار بهم إلى كل
غاية وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم
يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين
الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي اللّه
في شأنهم ما يختاره وقد أمرنا اللّه تعالى
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام
بهما في حق من كان كذلك لا يمكن بدون الحيلولة
بينه وبين الناس بالحبس كما يعرف ذلك من عرف
أحوال كثير من هذا الجنس.
وقد استدل البخاري على
جواز الربط بما وقع منه صلى اللّه عليه وآله
وسلم من ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري
مسجده الشريف كما في القصة المشهورة في
الصحيح.
باب استحلاف
المدعى عليه في الأموال والدماء وغيرهما
1 - عن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى
باليمين على المدعى عليه". متفق عليه.
وفي رواية: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم
ولكن اليمين على المدعى عليه"
رواه أحمد ومسلم. قوله: "قضى باليمين
على المدعى عليه" اختلف الفقهاء في تعريف
المدعي والمدعى عليه. قال في الفتح:
والمشهور فيه تعريفان الأول أن المدعي من
تخالف دعواه الظاهر والمدعى عليه بخلافه
والثاني من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه
من لا يخلى إذا سكت. والأول أشهر والثاني
أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى
الردأ والتلف فإن دعواه تخالف الظاهر ومع ذلك
فالقول قوله.
ـ واستدل بالحديث ـ
على أن اليمين على المدعى عليه وقد ذهب إلى
ذلك الجمهور وحملوه على عمومه في حق كل أحد
سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم
لا. وعن مالك لا تتوجه اليمين إلا على من
بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه
أهل الفضل بتحليفهم مرارًا وقريب من مذهب مالك
قول الأصطخري من الشافعية أن قرائن الحال إذا
شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه.
قوله: "لو يعطى الناس" الخ هذا هو وجه
الحكمة في جعل اليمين على المدعى عليه وقال
جماعة من أهل العلم الحكمة في ذلك جانب المدعي
ضعيف لأنه يقول بخلاف الظاهر فكلف الحجة
القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا
ولا تدفع عنها ضررًا فيقوى بها ضعف المدعي
وأما جانب المدعى عليه فهو قوي لأن الأصل فراغ
ذمته فاكتفى فيه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن
الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع عنها الضرر
فكان ذلك في غاية الحكمة. وقد أخرج الحديث
البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ بلفظ
البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وزعم الأصيلي أن قوله البينة
ج / 8 ص -306-
الخ إدراج في الحديث. وأخرج ابن حبان عن
ابن عمر نحوه. وأخرج الترمذي عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده نحوه. وأخرجه أيضًا
الدارقطني بإسناد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو
ضعيف.
وظاهر أحاديث الباب أن
اليمين على المنكر والبينة على المدعي ومن
كانت اليمين عليه فالقول قوله مع يمينه ولكنه
ورد ما يدل على أنه إذا اختلف البيعان فالقول
قول البائع فأخرج أبو داود والنسائي من حديث
الأشعث سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
وسلم يقول:
"إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما
يقول رب السلعة أو يتتاركان". وأخرجه أيضًا الترمذي وابن ماجه من حديث عون بن عبد اللّه بن
عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال الترمذي هذا
مرسل عون بن عبد اللّه لم يدرك ابن مسعود
انتهى.
قال المنذري:
في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولا
يحتج به وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه فهو
منقطع وقد روي هذا الحديث من طرق عن عبد اللّه
بن مسعود كلها لا تصح قال البيهقي: وأصح
إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس عن
عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه
عن جده وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في
كتاب البيوع في باب ما جاء في اختلاف
المتبايعين بما هو أبسط من هذا وبين أحاديث
الباب وهذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فظاهر
أحاديث الباب أن اليمين على المدعى عليه فيكون
القول قوله من غير فرق بين كونه بائعًا أم لا
ما لم يكن مدعيًا فإن كان كذلك فعليه البينة
فلا يكون القول قوله.
وظاهر الأحاديث المتقدمة
في كتاب البيع أن القول قول البائع وذلك
يستلزم أنه لا بينة عليه بل عليه اليمين فقط
سواء كان مدعيًا أو مدعى عليه وقد وقع التصريح
باستحلاف البائع كما تقدم في رواية في البيع
فمادة التعارض حيث كان البائع مدعيًا والواجب
في مثل ذلك الرجوع إلى الترجيح وأحاديث الباب
أرجح فيكون القول ما يقوله البائع ما لم يكن
مدعيًا ـ فإن قيل ـ الجمع ممكن يجعل الأحاديث
الواردة في المتبايعين مخصصة لعموم أحاديث
الباب فيبنى العام على الخاص ويكون القول قول
البائع مطلقًا سواء كان مدعيًا أو مدعى عليه
إذا كان التنازع بينه وبين المشتري وما عدا
البائع فإن كان مدعيًا فعليه البينة وإن كان
مدعى عليه فالقول قوله مع يمينه قلت: هذا
متوقف على أمرين أحدهما أن أحاديث الباب أعم
مطلقًا من أحاديث اختلاف المتبايعين والثاني
أن أحاديث اختلاف البيعين صالحة للاحتجاج بها
منتهضة لتخصيص أحاديث الباب وفي كلا الأمرين
نظر أما الأول فلأن التخصيص إنما يكون بإخراج
فرد من العام عن الأمر المحكوم به عليه والعام
ههنا هو المدعى عليه والمحكوم به عليه هو وجوب
اليمين عليه. وحديث اختلاف البيعين له
صورتان إحداهما أن يكون البائع مدعى عليه
والثانية أن يكون مدعيًا والأولى موافقة للعام
داخلة تحت حكمه غير مستثناة منه والثانية
مخالفة للعام لأن العام هو باعتبار المدعى
عليه وهذا مدع لا مدعى عليه فهو مخالف له فلا
يصح أن يقال بأنه مخصص له وإن كان التخصيص
بالنسبة إلى عموم الأحاديث الدالة على وجوب
البينة على المدعي. ووجه التخصيص أن يقال
هذا مدع ولم تجب عليه البينة فهذا مستقيم وإن
لم يدعه
ج / 8 ص -307-
القائل بالتخصيص ولكن حديث فالقول ما يقول
البائع مع قوله في بعض ألفاظ الحديث كما تقدم
في البيع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
أمر بالبائع أن يستحلف هو أعم من الأحاديث
القاضية بوجوب البينة على المدعي من وجه
لشموله لصورة أخرى وهي حيث كان البائع مدعى
عليه فالأظهر العموم والخصوص من وجه لا مطلقًا
وأما الثاني فقد عرفت عدم انتهاض الأحاديث
المذكورة للتخصيص لما فيها من المقال.
باب التشديد في
اليمين الكاذبة
1 - عن أبي أمامة
الحارثي: "أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وآله وسلم قال:
من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه
له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل: وإن كان
شيئًا يسيرًا قال: وإن كان قضيبًا من أراك".
رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي.
2 - وعن عبد اللّه بن
عمرو: "عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال: الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين
وقتل النفس واليمين الغموس". رواه أحمد
والبخاري والنسائي.
3 - وعن عبد اللّه بن
أنيس الجهني قال: "قال رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم:
إن من الكبائر الشرك باللّه وعقوق الوالدين
واليمين الغموس وما حلف حالف باللّه يمين صبر
فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعله اللّه
نكتة في قلبه إلى يوم القيامة". رواه أحمد والترمذي. حديث عبد اللّه بن أنيس أخرجه أيضًا
الحاكم وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده
وقال له شاهد من حديث عبد اللّه بن عمر.
وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن.
قوله: "وإن كان
قضيبًا من أراك" هذا مبالغة في القلة وإن
استحقاق النار يكون بمجرد اليمين في اقتطاع
الحق وإن كان شيئًا يسيرًا لا قيمة له.
قوله: "الكبائر" الخ قد اختلف السلف في
انقسام الذنوب إلى صغيرة وكبيرة فذهب إلى ذلك
الجمهور ومنعه جماعة منهم الإسفرايني ونقله
ابن عباس وحكاه القاضي عياض عن المحققين ونسبه
ابن بطال إلى الأشعرية وقد تقدم قريبًا وجه
القولين وبيان الراجح منهما.
قال الطيبي:
الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان فلا بد من أمر
يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء الطاعة
والمعصية والثواب. فأما الطاعة فكل ما تكفره
الصلاة مثلًا فهو من الصغائر. وأما المعصية
فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدًا أو
عقابًا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب
معصية أخرى فهي كبيرة. وأما الثواب ففاعل
المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة
إليه كبيرة فقد وقعت المعاتبة في حق بعض
الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم
ج / 8 ص -308-
معصية انتهى.
قال الحافظ:
وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب تخصيص عموم
من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو
العقاب في حق فاعلها لكن يلزم منه أن مطلق قتل
النفس مثلًا ليس كبيرة وإن ورد الوعيد فيه
والعقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل
ولده أشد. فالصواب ما قاله الجمهور وأن
المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبير
وأكبر.
قال النووي: واختلفوا
في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا منتشرًا فروي
عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه اللّه بنار أو
غضب أو لعنة أو عذاب. قال: وجاء نحو هذا
عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد
اللّه عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه جزاء
في الدنيا ـ قلت ـ وممن نص على هذا الأخير
الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى. ومن
الشافعية الماوردي ولفظه الكبيرة ما أوجبت
فيها الحدود أو توجه إليها الوعيد. والمنقول
عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس
به إلا أن فيه انقطاعًا. وأخرج من وجه آخر
متصل لا بأس برجاله أيضًا عن ابن عباس قال ما
توعد اللّه عليه بالنار كبيرة.
وقد ضبط كثير من
الشافعية الكبائر بضوابط أخر منها قول إمام
الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها
بالدين ورقة الديانة. وقال الحليمي: كل
محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه. وقال
الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل ما يلحق
الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة هذا أكثر ما
يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل لكن
الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر
انتهى. وقد استشكل بأن كثيرًا مما وردت
النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق.
وأجيب بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص
بكونه كبيرة.
وقال ابن عبد السلام في القواعد:
لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا
يسلم من الاعتراض والأولى ضبطها بما يشعر
بتهاون مرتكبها بذنبه إشعارًا دون الكبائر
المنصوص عليها. قال الحافظ: وهو ضابط
جيد.
وقال القرطبي في المفهم:
الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد
عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو اشتد النكير
عليه فهو كبيرة. وكلام ابن الصلاح يوافق ما
نقل أولًا عن ابن عباس وزاد إيجاب الحد وعلى
هذا يكثر عدد الكبائر. وهذا الكلام في غير
ما قد ورد النص الصريح فيه أنه كبيرة أو من
الكبائر أو أكبر الكبائر. وقال الواحدي:
ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في
إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن
يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة
والاسم الأعظم. قوله: "يمين صبر" أي
ألزم بها وحبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من
جهة الحكم وإنما أطلق الصبر عليها وإن كان
صاحبها هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها أي
حبس فوصفت بالصبر وأضيفت إليه مجازًا كذا في
النهاية والنكتة الأثر.
ج / 8 ص -309-
باب الاكتفاء في اليمين بالحلف باللّه وجواز
تغليظها باللفظ والمكان والزمان
1 - عن ابن عمر: "عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
من حلف باللّه فليصدق ومن حلف له باللّه فليرض ومن لم
يرض فليس من اللّه".
رواه ابن ماجه.
2 - وعن ابن عباس:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
لرجل حلفه:
احلف باللّه الذي لا إله إلا هو ما له عندي
شيء يعني المدعي".
رواه أبو داود.
3 - وعن عكرمة:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له
يعني ابن صوريا أذكركم باللّه الذي نجاكم من
آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام
وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل التوراة على
موسى أتجدون في كتابكم الرجم قال ذكرتني بعظيم
ولا يسعني أن أكذبك وساق الحديث".
رواه أبو داود.
4 - وعن أبي هريرة:
"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال:
لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين
آثمة ولو على سواك رطب إلا أوجب اللّه له
النار".
5 - وعن جابر: "عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
لا يحلف أحد على منبري كاذبًا إلا تبوأ مقعده من
النار". رواهما أحمد وابن ماجه.
6 - وعن أبي هريرة:
"عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم
القيامة ولا بزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على
فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل
بايع الإمام لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه
منها وفى له وإن لم يعطه لم يف له ورجل باع
سلعة بعد العصر فحلف باللّه لأخذها بكذا وكذا
فصدقه وهو على غير ذلك". رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي
رواية:
"ثلاثة لا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم رجل
حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو
كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر
ليقتطع بها مال امرئ مسلم ورجل منع فضل ماء
فيقول اللّه له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل
ما لم تعمل يداك"
رواه أحمد والبخاري.
حديث ابن عمر قال ابن
ماجه في سننه حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة
حدثنا أسباط بن محمد
ج / 8 ص -310-
عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر فذكره
ومحمد بن إسماعيل المذكور ثقة وبقية إسناده
رجال الصحيح.
وحديث ابن عباس أخرجه
أيضًا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وفيه
مقال وقد أخرج له البخاري مقرونًا بآخر وحديث
عكرمة هو مرسل وقد سكت عنه أبو داود والمنذري
ورجال إسناده رجال الصحيح ويؤيده ما أخرجه أبو
داود من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم يعني لليهود
"أنشدكم باللّه الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من
زنى"
وفي إسناده مجهول لأن الزهري قال أخبرنا رجل
من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عن أبي
هريرة. وحديث أبي هريرة الأول المذكور في
الباب أخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك.
وحديث جابر أخرجه أيضًا مالك وأبو داود
والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم
وغيرهم كذا في الفتح ورجال إسناده عند ابن
ماجه كلهم ثقات.
وفي الباب عن أبي أمامة
بن ثعلبة عند النسائي بإسناد رجاله ثقات رفعه
"من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها
مال امرئ مسلم فعليه لعنة اللّه والملائكة
والناس أجمعين لا يقبل اللّه منه صرفًا ولا
عدلا".
قوله: "من حلف
باللّه" فيه دليل على أنه يكفي مجرد الحلف
باللّه تعالى من دون أن ينضم إليه وصف من
أوصافه ومن دون تغليظ بزمان أو مكان.
قوله: "قال له" يعني ابن صوريا بضم
الصاد المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة
ممدودًا. أصل القصة أن جماعة من اليهود أتوا
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو جالس في
المسجد فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل
وامرأة زنيا فقال ائتوني بأعلم رجل منكم فأتوه
بابن صوريا. قوله: "وأنزل عليكم المن
والسلوى" أكثر المفسرين على أن المن هو
الترنجبين وهو شيء أبيض كالثلج والسلوى طير
يقال السماني فيه دليل على جواز تغليظ اليمين
على أهل الذمة فيقال لليهودي بمثل ما قال له
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن أراد
الاختصار قال قل واللّه الذي أنزل التوراة على
موسى وإن كان نصرانيًا قال له قل واللّه الذي
أنزل الإنجيل على عيسى.
قوله: "ذكرتني"
بتشديد الكاف المفتوحة.
قوله: "أن أكذبك"
بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة يعني فيما
ذكرته لي.
قوله: "عبد ولا
أمة" أي ذكر ولا أنثى.
قوله: "ولو على سواك
رطب" إنما خص الرطب لأنه كثير الوجود لا
يباع بالثمن وهو لا يكون كذلك إلا في مواطن
نباته بخلاف اليابس فإنه قد يحمل من بلد إلى
بلد فيباع.
قوله: "ثلاثة لا
يكلمهم اللّه" الخ فيه دليل على أن حالهم
يوم القيامة حال المغضوب عليهم لأن هذه الأمور
لا تكون إلا عند الغضب فهي كناية عن حلول
العذاب بهم.
قوله: "رجل على فضل
ماء بالفلاة" قد تقدم الكلام على منع فضل
الماء وحكم مانعه.
قوله: "بعد العصر"
خصه لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل
والنهار.
قوله: "لقد أعطي
بها" الخ قال في الفتح: وقع مضبوطًا بضم
الهمزة وفتح الطاء على البناء للمجهول وفي
بعضها بفتح الهمزة والطاء على البناء للفاعل
والضمير للحالف وهي أرجح ومعنى لأخذها بكذا أي
لقد أخذها وقد استدل بأحاديث الباب على جواز
التغليظ على الحالف بمكان معين كالحرم والمسجد
ومنبره صلى اللّه عليه وآله وسلم وبالزمان
كبعد العصر ويوم الجمعة ونحو ذلك وقد ذهب إلى
هذا الجمهور كما حكاه صاحب
ج / 8 ص -311-
الفتح. وذهبت الحنفية إلى عدم جواز التغليظ
بذلك. وعليه دلت ترجمة البخاري فإنه قال في
الصحيح ـ باب يحلف المدعي عليه حيثما وجبت
عليه اليمين ـ وذهبت العترة إلى مثل ما ذهبت
إليه الحنفية كما حكى ذلك عنهم صاحب البحر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك موضع اجتهاد
للحاكم.
وقد ورد عن جماعة من الصحابة طلب التغليظ على
خصومهم في الأيمان بالحلف بين الركن والمقام
وعلى منبره صلى اللّه عليه وآله وسلم. وورد
عن بعضهم الامتناع من الإجابة إلى ذلك. وروي
عن بعض الصحابة التحليف على المصحف.
والحاصل أنه لم يكن في أحاديث
الباب ما يدل على مطلوب القائل بجواز التغليظ
لأن الأحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف على
منبره صلى اللّه عليه وآله وسلم. وكذلك
الأحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف بعد
العصر لا تدل على أنها تجب إجابة الطالب للحلف
في ذلك المكان أو ذلك الزمان.
وقد علمنا صلى اللّه عليه وآله وسلم كيف
اليمين فقال للرجل الذي حلفه "احلف باللّه
الذي لا إله إلا هو" كما في حديث ابن
عباس.
وقال في حديث ابن عمر المذكور في الباب
"ومن حلف له باللّه فليرض ومن لم يرض فليس
من اللّه" وهذا أمر منه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالرضا لمن حلف له باللّه
ووعيد لمن لم يرض بأنه ليس من اللّه ففيه أعظم
دلالة على عدم وجوب الإجابة إلى التغليظ بما
ذكر وعدم جواز طلب ذلك ممن لا يساعد عليه.
وقد كان الغالب من تحليفه صلى اللّه عليه وآله
وسلم لغيره وحلفه هو الاقتصار على اسم اللّه
مجردًا عن الوصف كما في قوله
"واللّه لا أحلف على شيء فأرى غيره خيرًا
منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وكما في تحليفه صلى اللّه عليه وآله وسلم لركانة فإنه اقتصر على
اسم اللّه. وتارة كان يحلف صلى اللّه عليه
وآله وسلم فيقول: "لا والذي نفسي بيده. لا ومقلب القلوب" وقال تعالى {فَيُقْسِمَانِ
بِاللَّهِ} ومن
جملة ما استدل به البخاري على عدم وجوب
التغليظ حديث:
"شاهداك أو يمينه" ووجه ذلك
أن الذي أوجبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
هو مطلق اليمين وهي تصدق على من حلف في أي
زمان وأي مكان فمن بذل لخصمه أن يحلف له حنث
هو ولم يجبه إلى مكان مخصوص ولا إلى زمان
مخصوص فقد بذل ما أوجبه عليه الشارع ولا يلزمه
الزيادة على ذلك لأن الذي تعبد به هو اليمين
على أي صفة كانت ولم يتعبد بأشد الأيمان جرمًا
وأعظمها ذنبًا. على أنه قد ورد في اليمين
التي يقتطع بها حق امرئ مسلم من الوعيد ما ليس
عليه من مزيد كما في الباب الذي قبل هذا أنها
من الكبائر ومن موجبات النار وليس في الحلف
على منبره صلى اللّه عليه وآله وسلم وبعد
العصر زيادة على هذا فالحق عدم وجوب إجابة
الحالف لمن أراد تحليفه في زمان مخصوص أو مكان
مخصوص أو بألفاظ مخصوصة.
وقد روى ابن رسلان أنهم لم يختلفوا في جواز
التغليظ على الذمي فإن صح الإجماع فذاك عند من
يقول بحجيته وإن لم يصح فغاية ما يجوز التغليظ
به هو ما ورد في حديث الباب وما يشابهه من
التغليظ باللفظ وأما التغليظ بزمان معين أو
مكان معين على أهل الذمة مثل أن يطلب منه أن
يحلف في الكنائس أو نحوها فلا دليل على ذلك.
ج / 8 ص -312-
باب ذم من حلف قبل أن يستحلف
1 - عن ابن عمر قال: "خطبنا
عمر بالجابية فقال يا أيها الناس إني قمت فيكم
كقيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
فينا أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا
يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد ألا لا يخلون
رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم
بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع
الواحد وهو من الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة
الجنة فليلزم الجماعة. من سرته حسنته وساءته
سيئته فذلك المؤمن".
رواه أحمد والترمذي.
قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث
هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد
روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم انتهى. وأخرجه
أيضًا ابن حبان وصححه.
قوله: "أوصيكم
بأصحابي" قد وقع الاختلاف فيمن يستحق إطلاق
اسم الصحابي عليه وهو مبسوط في مواطنه من علم
الاصطلاح. قوله: "الجابية" بالجيم قال
في القاموس: هو حوض ضخم والجماعة وقرية
بدمشق وباب الجابية من أبوابها انتهى.
والمراد هنا القرية. قوله: "ثم يفشو
الكذب" رتب صلى اللّه عليه وآله وسلم فشو
الكذب على انقراض الثالث. فالقرن الذي بعده
ثم من بعده إلى القيامة قد فشا فيهم الكذب
بهذا النص. فعلى المتيقظ من حاكم أو عالم أن
يبالغ في تعرف أحوال الشهادة والمخبرين وأن لا
يجعل الأصل في ذلك الصدق لأن كل شهادة وكل خبر
قد دخله الاحتمال ومع دخول الاحتمال يمتنع
القبول إلا بعد معرفة صدق المخبر والشاهد بأي
دليل. وأقل الأحوال أنه ليس ممن يتجارأ على
الكذب ويجازف في أقواله. ومن هذه الحيثية لم
يقبل المجهول عند علماء المنقول لأن العدالة
ملكة والملكات مسبوقة بالعدم فمن لا تعرف
عدالته لا تقبل روايته لأن الفسق مانع فلا بد
من تحقق عدمه. وكذلك الكذب مانع فلا بد من
تحقق عدمه كما تقرر في الأصول. وفي الحديث
التوصية بخير القرون وهم الصحابة ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم. وقد وعدنا أن نذكر
ههنا طرفًا من الكلام على ما ورد من معارضة
الأحاديث القاضية بأفضلية الصحابة فنقول قد
تقدم في باب من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده
وذم من أدى شهادة من غير مسألة حديث عمران ابن
حصين وحديث أبي هريرة أن خير القرون قرنه صلى
اللّه عليه وآله وسلم وفي ذلك دليل على أنهم
الخيار من هذه الأمة وأنه لا أكثر خيرًا منهم
وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد
فرد وقال ابن عبد البر: إن التفضيل إنما هو
بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن
بعدهم لا كل فرد منهم.
وقد أخرج الترمذي بإسناد
قوي من
ج / 8 ص -313-
حديث أنس مرفوعًا:
"مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" وأخرجه أبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف وصححه ابن حبان من حديث
عمار وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن
بن جبير بن نفير بإسناد حسن قال: قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
ليدركن المسيح أقوامًا إنهم لمثلكم أو خير
ثلاثًا ولن يخزي اللّه أمة أنا أولها والمسيح
آخرها" ولكنه مرسل لأن عبد الرحمن تابعي وأخرج
الطيالسي بإسناد ضعيف عن عمر رفعه أفضل الخلق
إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولا
يروني. وأخرج أحمد والدارمي والطبراني
بإسناد حسن من حديث أبي جمعة قال: قال أبو
عبيدة: يا رسول اللّه أحد خير منا أسلمنا
معك وجاهدنا معك قال:
قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" وقد صححه الحاكم وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه
"بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء". وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه تأتي أيام للعامل
فيهن أجر خمسين قيل منهم أو منا يا رسول اللّه
قال:
بل منكم
وجمع الجمهور بأن الصحبة لها فضيلة ومزية لا
يوازيها شيء من الأعمال فلمن صحب النبي صلى
اللّه عليه وآله وسلم فضيلة الصحبة وإن قصر في
الأعمال وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة
الأعمال المستلزمة لكثرة الأجور فحاصل هذا
الجمع أن التنصيص على فضيلة الصحابة باعتبار
فضيلة الصحبة وأما باعتبار أعمال الخير فهم
كغيرهم قد يوجد فيمن بعدهم من هو أكثر أعمالا
منهم أو من بعضهم فيكون أجره باعتبار ذلك أكثر
فكان أفضل من هذه الحيثية وقد يوجد فيمن بعدهم
ممن هو أقل عملًا منهم أو من بعضهم فيكون
مفضولًا من هذه الحيثية ويشكل على هذا الجمع
ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحابة
بلفظ:
"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"
فإن هذا التفضيل باعتبار خصوص أجور الأعمال لا
باعتبار فضيلة الصحبة ويشكل عليه أيضًا حديث
ثعلبة المذكور فإنه قال للعامل فيهن أجر خمسين
رجلًا ثم بين أن الخمسين من الصحابة وهذا صريح
في أن التفضيل باعتبار الأعمال فاقتضى الأول
أفضلية الصحابة في الأعمال إلى حد يفضل نصف
مدهم مثل أحد ذهبًا واقتضى الثاني تفضيل من
بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا
من الصحابة وفي بعض ألفاظ حديث ثعلبة
"فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كالقبض على الجمر أجر العامل فيهن
أجر خمسين رجلا"
فقال بعض الصحابة منا يا رسول اللّه أو منهم
فقال
بل منكم فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور وقال النووي في حديث "أمتي كالمطر" أنه يشتبه على الذين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير أي
الزمانين أفضل قال وهذا الاشتباه مندفع بصريح
قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم خير القرون
قرني ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر
والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدرى فحمله على
هذا وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع
التردد في الخيرية من كل أحد والذي يستفاد من
مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم
فيها من بعدهم وهي صحبته صلى اللّه عليه وآله
وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره
ونواهيه ولمن بعدهم مزية لا يشاركهم الصحابة
ج / 8 ص -314-
فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون
فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما
يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من حقت
عليه الشقاوة وأما باعتبار الأعمال فأعمال
الصحابة فاضلة مطلقًا من غير تقييد بحالة
مخصوصة كما يدل عليه
"لو أنفق أحدكم مثل أحد"
الحديث. إلا أن هذه المزية هي للسابقين منهم
فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم خاطب بهذه
المقالة جماعة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم
كما يشعر بذلك السبب وفيه قصة مذكورة في كتب
الحديث فالذين قال لهم النبي صلى اللّه عليه
وآله وسلم
"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا" هم جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم فكان بين منزلة أول
الصحابة وآخرهم أن إنفاق مثل أحد ذهبًا من
متأخريهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من
متقدميهم وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يرد
ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق إنما ورد
ذلك مقيدًا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان
أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة
فيكون هذا مخصصًا لعموم ما ورد في أعمال
الصحابة فأعمال الصحابة فاضلة وأعمال من بعدهم
مفضولة إلا في مثل تلك الحالة ومثل حالة من
أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل وبانضمام أفضلية
الأعمال إلى مزية الصحبة يكونون خير القرون
ويكون قوله لا يدرى خير أوله أم آخره باعتبار
أن في المتأخرين من يكون بتلك المثابة من كون
أجر خمسين هذا باعتبار أجور الأعمال وأما
باعتبار غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره
لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقًا باعتبار مجموع
القرن لحديث خير القرون قرني فإذا اعتبرت كل
قرن قرن ووازنت بين مجموع القرن الأول مثلا ثم
الثاني ثم كذلك إلى انقراض العالم فالصحابة
خير القرون ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل
قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل
قرن آخر فإن قلت ظاهر الحديث المتقدم أن أبي
عبيدة قال يا رسول اللّه أحد خير منا أسلمنا
معك وجاهدنا معك فقال قوم يكونون من بعدكم
يؤمنون بي ولا يروني يقتضي تفضيل مجموع قرن
هؤلاء على مجموع قرن الصحابة قلت ليس في هذا
الحديث ما يفيد تفضيل المجموع على المجموع وإن
سلم ذلك وجب المصير إلى الترجيح لتعذر الجمع
ولا شك أن حديث خير القرون قرني أرجح من هذا
الحديث بمسافات لو لم يكن إلا كونه في
الصحيحين وكونه ثابتًا من طرق وكونه متلقى
بالقبول فظهر بهذا وجه الفرق بين المزيتين من
غير نظر إلى الأعمال كما ظهر وجه الجمع
باعتبار الأعمال على ما تقدم تقريره فلم يبق
ههنا إشكال واللّه أعلم. قوله: "لا
يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"
سبب ذلك أن الرجل يرغب إلى المرأة لما جبل
عليه من الميل إليها لما ركب فيه من شهوة
النكاح وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل لذلك فمع
ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل
واحد منهما إلى الآخر فتقع المعصية. قوله:
"بحبوحة الجنة" قال في النهاية: بحبوحة
الدار وسطها يقال بحبح إذا تمكن وتوسط المنزل
والمقام والبحبوحة بمهملتين وموحدتين والمراد
أن لزوم الجماعة سبب الكون في بحبوحة الجنة
لأن يد اللّه مع الجماعة ومن شذ
ج / 8 ص -315-
شذ إلى النار كما ثبت في الحديث. قوله: "من سره حسنته" الخ فيه دليل على
أن السرور لأجل الحسنة والحزن لأجل السيئة من
خصال الإيمان لأن من ليس من أهل الإيمان لا
يبالي أحسن أم أساء وأما من كان صحيح الإيمان
خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في غم لعلمه
بأنه مأخوذ بها محاسب عليها ولا يزال من حسنته
في سرور لأنه يعلم أنها مدخرة له في صحائفه
فلا يزال حريصًا على ذلك حتى يوفقه اللّه عز
وجل لحسن الخاتمة.
وإلى هنا انتهى الشرح
الموسوم بنيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار
بعناية مؤلفه ـ محمد بن علي بن محمد الشوكاني
ـ غفر اللّه له ذنوبه وستر عيوبه وتقبل أعماله
وأصلح أقواله وأفعاله وختم له بخير ودفع عنه
كل بؤس وضير. وصلى اللّه على سيدنا محمد
وعلى آله وسلم. |