أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب السَّادِس فِي الْعَام وَالْإِطْلَاق
... سادسها فِي الْعَام وَالْإِطْلَاق ... وضد ذين فَاتبع إِطْلَاق ...

أَي سادس أَبْوَاب الْكتاب المنظوم فِي مسَائِل الْعَام وَالْإِطْلَاق أَي الْمُطلق الْآتِي بَحثه وَقَوله وضد ذين أَي خلاف الْعَام وَهُوَ الْخَاص وَخلاف الْإِطْلَاق وَهُوَ التَّقْيِيد فقد افاد النّظم أَن فِي الْبَاب اربعة أبحاث
الْعَام وَهُوَ اسْم فَاعل من عَم الشَّيْء يعم عُمُوما فَهُوَ عَام والعموم فِي اللُّغَة شُمُول أَمر لمتعدد فَهُوَ أَمر معنوي وَبحث الأصولي عَن الْأَمر الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنْهُ الْعُمُوم وَهُوَ الْعَام وَلذَا أَتَى بِهِ النَّاظِم وعرفه بقوله ... فالعام مَا استغرق صَالحا لَهُ ... من غير حصر قد عزا مَدْلُوله ...

فكلمة مَا جنس الْحَد وَعدل عَن قَول الأَصْل لفظ للْإِشَارَة إِلَى ان الْعُمُوم يكون أَيْضا من عوارض الْمعَانِي وَقَوْلنَا استغرق صَالحا لَهُ أَي تنَاول مَا يصلح لَهُ دفْعَة كَمَا يشْعر بِهِ لفظ الِاسْتِغْرَاق الدَّال على الشُّمُول والإحاطة بِجَمِيعِ مَا يصلح لَهُ فالتقييد بِدَفْعِهِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الأصوليون فِي تَعْرِيف الْعَام قد أَفَادَهُ التَّعْبِير باستغرق وَوَجهه أَن قَوْله مَا استغرق يشْعر مَا يُطلق عَلَيْهِ

(1/297)


وَيصْلح لَهُ فالنكرة فِي الْإِثْبَات مُفْردَة ومثناة وجمعا وَاسم الْجمع كقوم ومراتب الْأَعْدَاد كعشرة لَا استغراق فِيهَا كلهَا لما تصلح لَهُ على جِهَة الْإِحَاطَة بل على سَبِيل الْبَدَلِيَّة كَرجل يتَنَاوَل كل فَرد على الْبَدَلِيَّة فَلَمَّا قُلْنَا استغرق مَا يصلح لَهُ خرج مَا ذكر وَعلم أَنه لَا يكون الِاسْتِغْرَاق إِلَّا دفْعَة
فَإِن قلت نَحْو الْمُسلمين وَالرِّجَال معرفين بلام الِاسْتِغْرَاق عمومها بِالنّظرِ إِلَى تنَاول كل جمَاعَة لَا الْآحَاد فَلَا يتناولان كل فَرد فَرد فَلَا يتم دخولهما فِي التَّعْرِيف وهما من أَلْفَاظ الْعَام قلت الْحق أَن التَّعْرِيف الاستغراقي فِي الدَّاخِل على الْجمع قد سلبه معنى الجمعية كَمَا عَلَيْهِ أَئِمَّة التَّفْسِير وَكثير من الْمُحَقِّقين فَهُوَ كَالرّجلِ مُعَرفا بهَا يدل على كل فَرد فَرد
وَقَوْلنَا من غير حصر فصل آخر لإِخْرَاج اللَّفْظ الْمُشْتَرك إِذا اسْتعْمل فِي جَمِيع مَعَانِيه فَإِنَّهَا محصورة وَفِيه نزاع وَاخْتِلَاف ومرادنا من غير حصر يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ لَا فِي الْوَاقِع فَإِنَّهُ قد يكون الْعَام محصورا كالسماء وَالْأَرْض وعلماء الْبَلَد
وَاعْلَم أَنه اشْتهر بَين عُلَمَاء الْأُصُول إِشْكَال أوردهُ الْقَرَافِيّ حَاصله أَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد فَرد من أَفْرَاده كَمَا قُلْتُمْ مُشكل لانحصار الدلالات بِالثلَاثِ وَدلَالَة الْمُشْركين فِي {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} مثلا على زيد الْمُشرك لَا تصلح أَن تكون من أَي الدلالات الثَّلَاث أما الْمُطَابقَة فَظَاهر لِأَن زيدا الْمُشرك لَيْسَ تَمام مَا وضع لَهُ لفظ الْعَام والتضمن دلَالَة اللَّفْظ على جُزْء مَعْنَاهُ والجزء لَا يصدق إِلَّا إِذا كَانَ الْمُسَمّى كلا وَقد تقدم أَن دلَالَة الْعَام على سَبِيل الْعُمُوم والاستغراق لكل فَرد فَلَيْسَ هُوَ بِكُل والالتزام الدّلَالَة على أَمر خَارج وَزيد الْمُشرك لَيْسَ بِخَارِج عَن معنى الْعَام بل دَاخل قَالَ فَأَما أَن

(1/298)


يبطل حصر الدلالات اللفظية فِي الثَّلَاث وَإِمَّا أَن لَا يكون الْعَام دَالا على شَيْء من أَفْرَاده فَلَا يتم أَنه دَال على كل فَرد فَرد كَمَا هُوَ الْمُدعى
وَقد اضْطربَ الْأَئِمَّة فِي حلّه بِمَا هُوَ مودوع فِي كتب الْأُصُول
وَالَّذِي يظْهر لي وَإِن لم يتَنَبَّه لَهُ أحد هُوَ أَن هَذَا الْإِشْكَال وَإِن أَطَالَ الْأَئِمَّة فِيهِ الْمقَال يفْتَقر إِلَى تَأمله فَإِنَّهُ قَالَ الْقَرَافِيّ الَّذِي أوردهُ إِنَّه لَا يدل لفظ اقْتُلُوا الْمُشْركين على قتل زيد الْمُشرك إِلَى آخر كَلَامه جَوَابه أَن يُقَال إِن أردْت أَن لفظ الْمُشْركين لَا يدل على قتل زيد بِأَيّ الثَّلَاث فَهَذَا مُسلم وَلَا شكّ فِيهِ وَلَا إِشْكَال بِهِ وَإِن أردْت أَنه لَا يدل على الْمُشْركين فَهَذَا لَا يَقُوله من يفهم الدلالات ضَرُورَة أَنه من إِفْرَاد جمعه وَأَنه يدل عَلَيْهِ تضمنا لِأَنَّهُ جَزَاء الْمَوْضُوع لَهُ لفظ جمعه
وَإِذا عرفت هَذَا فزيد الْمُشرك مَا أَمر بقتْله لكَونه زيدا وَلَا دلّ لفظ الْمَأْمُور بِقَتْلِهِم عَلَيْهِ بل دلّ اللَّفْظ على الْأَمر بقتل الْمُشْركين وَاتفقَ أَنه عرف أحد أَفْرَاده فِي الْخَارِج بِأَنَّهُ زيد فكونه زيدا لسنا مأمورين بقتْله وَلَا دلّ عَلَيْهِ الْأَمر وَلَا توجه إِلَيْهِ الْخطاب إِلَيْنَا بقتْله بل وَلَا هُوَ من إِفْرَاد الْعَام الَّذِي صدر بحث الْإِشْكَال بِهِ بل فَرده الَّذِي دخل تَحْتَهُ وَوَقع الْأَمر بِالْقَتْلِ عَلَيْهِ هُوَ الْمُشرك فاتفقا أَنه زيد كاتفاق أَنه أَحْمَر وأسود فَإنَّا نَقْتُلهُ لكَونه مُشْركًا مدلولا لما أوقع عَلَيْهِ الْأَمر وَتعلق بِهِ الْخطاب لَا لكَونه أَحْمَر مثلا وَإِذا تحققت هَذَا علمت أَن أصُول السُّؤَال مغالطي وَأَن المجيبين لم يفتضوا بكارته وَأَجَابُوا على

(1/299)


تَسْلِيم الْإِشْكَال وَمَا عرفُوا أَنه رَكبه السَّائِل على حق وباطل فَقَالَ لَا يَد على قتل زيد الْمُشرك قُلْنَا ذكر زيد بَاطِل وإدخاله هُنَا لَغْو من السَّائِل وقولك الْمُشرك لَا يعلق بِهِ السُّؤَال وَلَا يناط على عَاتِقه هَذَا الْإِشْكَال فَلْيتَأَمَّل وَإِن خَفِي على الْمُحَقِّقين من الرِّجَال فبيد الله الإفضال هَذَا وَفِي جمع الْجَوَامِع ان مَدْلُوله كُلية أَي مَحْكُوم فِيهِ على كل فَرد مُطَابقَة إِثْبَاتًا أَو سلبا لَا كل أَو مَحْكُوم فِيهِ على مَجْمُوع الْأَفْرَاد من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع وَلَا كلي وَلَا مَحْكُوم فِيهِ على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ أَي من غير نظر إِلَى الْإِفْرَاد قَالَ ودلالته على أصل الْمَعْنى قَطْعِيَّة وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ ظنية انْتهى ... خلاف هَذَا الْخَاص والتخصيص ... إِخْرَاج بعض مِنْهُ وَالْمَنْصُوص ...

أَي خلاف قَوْلنَا مَا استغرق صَالحا لَهُ الْخَاص وَهُوَ مَا لَا يسْتَغْرق صَالحا لَهُ لحصر وَقَوْلنَا والتخصيص مُبْتَدأ خَبره إِخْرَاج بعض مِنْهُ وَالْمَنْصُوص مُبْتَدأ يَأْتِي خَبره
وَالْعم انه تبع النّظم المنظوم فِي رسم الْخَاص وَهُوَ تبع المعيار وَقد أورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا ينطبق على الْمَحْدُود إِذْ الْخَاص قد يكون عَاما فِي نَفسه نَحْو لَا تقتلُوا أهل الذِّمَّة فَإِنَّهُ تخصص {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وجزئيا نَحْو اقْتُلُوا الْقَوْم إِلَّا زيدا والرسم لما ذكرنَا لَا يصدق على شَيْء مِنْهَا وَلَك أَن تَقول عبارَة النّظم صَحِيحَة فَإِن الْخَاص خلاف الْعَام وَلَيْسَ لفظ هَذَا عَائِد إِلَى رسم الْعَام نَفسه بل المُرَاد خِلَافه فِي اسْمه ورسمه وَهُوَ مَا أخرج من الْعَام كَمَا أشعر بِهِ قَوْلنَا والتخصيص إِخْرَاج بعض مِنْهُ أَي من الْعَام وَالْمرَاد إِخْرَاجه عَمَّا يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ من تنَاول إِرَادَة الْمُتَكَلّم بِهِ وَالْحكم عَلَيْهِ لَا إِخْرَاجه عَن الحكم نَفسه والإرادة فِي أَن الْخَاص لم يدْخل تحتهما من حَيْثُ الْإِرَادَة وَالْحكم

(1/300)


بِحَسب الظَّاهِر حَتَّى يخرج وَلَا إِخْرَاجه عَن الدّلَالَة فَإِنَّهَا كَون اللَّفْظ بِحَسب الظَّاهِر إِذا أطلق وَفهم مِنْهُ الْمَعْنى وَهَذَا حَاصِل مَعَ التَّخْصِيص فَفِي التَّحْقِيق لَيْسَ هُنَاكَ إِخْرَاج وَأَن التَّعْلِيل بِهِ مجَاز عَن عدم الدُّخُول وَصَارَ فِي الْعرف حَقِيقَة بشيوعه وَقَوْلنَا مِنْهُ إِشَارَة بِحرف التَّبْعِيض إِلَى أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص حَتَّى لَا يبْقى شَيْء من إِفْرَاد الْعَام وَيَأْتِي تَحْقِيقه وَقَوْلنَا وَالْمَنْصُوص تقدم أَنه مُبْتَدأ مُرَاد بِهِ الَّذِي نَص عَلَيْهِ أَئِمَّة الْأُصُول من أَلْفَاظ الْعُمُوم وَهُوَ مَا يفِيدهُ خَبره أَعنِي قَوْلنَا ... فِي الأَصْل من أَلْفَاظه مَا تسمع ... كل جَمِيع ثمَّ سِتّ تتبع ...

أَي الَّذِي نَص عَلَيْهِ من أَلْفَاظ الْعُمُوم فِي أصل المنظوم هِيَ مَا تسمعه من ذَلِك فِي النّظم أَولهَا لفظ كل فَهُوَ مَرْفُوع بدل من قَوْلنَا مَا تسمع فَلفظ كل يُفِيد الْعُمُوم وَهِي تُضَاف إِلَى نكرَة نَحْو {كل نفس ذائقة الْمَوْت} وَإِلَى معرفَة نَحْو اشْتريت كل الدَّار مُفردا أَو جمعا نَحْو كل الرِّجَال أكْرمهم وَهَذَا فِيمَا كَانَت متبوعة وتفيده تَابِعَة نَحْو {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} وَمثلهَا جَمِيع فِي إفادتها الْعُمُوم تَابِعَة ومتبوعة إِلَّا أَنَّهَا لَا تُضَاف إِلَى نكرَة وَقَوْلنَا سِتّ تتبع أَي سِتّ كَلِمَات بَينهَا قَوْلنَا ... أَسمَاء الِاسْتِفْهَام وَالشّرط كمن ... خَافَ الْمعَاد لم يذقْ طعم الوسن ...

(1/301)


بَيَان لَهَا وَهِي أَسمَاء الِاسْتِفْهَام وَأَسْمَاء الشَّرْط والنكرة فِي سِيَاق النَّفْي وَالْجمع الْمُضَاف والموصول والمعرف بلام الْجِنْس كَمَا ستمر بك فأسماء الِاسْتِفْهَام كأي لمن يعلم وَلمن لَا يعلم نَحْو {أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} وَغير ذَلِك وَأَسْمَاء الشُّرُوط مثلهَا النَّاظِم بقوله من خَافَ الْمعَاد لم يذقْ طعم الوسن وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} ... والنكرات فِي سِيَاق النَّافِي ... وَالْجمع إِن قيد بالمضاف ...

قَوْلنَا النَّافِي صفة مَحْذُوف أَي اللَّفْظ النَّافِي وَاللَّفْظ أَعم من أَن يكون بِأَيّ أدوات النَّفْي لَا الَّتِي لنفي الْجِنْس أَو غَيرهَا
وَاعْلَم أَن النكرَة فِي الاثبات قد تفِيد الْعُمُوم لاعتبارات وقرائن يقتضيها الْمقَام نَحْو {ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك} {قَول مَعْرُوف ومغفرة خير من صَدَقَة} وَهُوَ كثير فِي الْكتاب وَالسّنة وَقد ذهب الْجُمْهُور الْقَائِلُونَ بِأَن للْعُمُوم صِيغَة إِلَى الِاتِّفَاق على هَذِه الَّتِي قدمناها من أَلْفَاظه وَالْخلاف بَينهم فِيمَا عدهَا مِنْهَا قَوْلنَا ... وَالْجمع إِن قيد بالمضاف ...

فَإِن فِيهِ خلافًا هَل هُوَ من أَلْفَاظه أم لَا ومثاله قَوْله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَأكْرم عُلَمَاء الْبَلَد ومرادهم بِالْجمعِ مَا دلّ على أَكثر

(1/302)


من اثْنَيْنِ سَوَاء كَانَ لَهُ مُفْرد من جنسه أَو لَا فَيدْخل اسْم الْجمع وَهُوَ مَا يُطلق على ثَلَاثَة فَصَاعِدا بِحَسب الْوَضع نَحْو قوم نوح وغنم الْقَوْم وَخرج بِمَفْهُوم الْقَوْم الْجمع الْمُفْرد إِذا أضيف فَلَا يُفِيد الْعُمُوم وَيَأْتِي تَحْقِيقه ... ومثلة الْمَوْصُول فِي الْجِنْس وَمَا ... بلامه عرف عِنْد العلما ...

أَي مثل الْجمع الْمَذْكُور فِي إِفَادَة الْعُمُوم الْمَوْصُول إِذا كَانَ للْجِنْس لَا إِذا كَانَ للْعهد نَحْو {وَقَالَ الَّذِي آمن} وَنَحْو {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك} وَقَوْلنَا وَمَا بلامه أَي لَام الْجِنْس فَيُقَال إِنَّهَا لَام الِاسْتِغْرَاق نَحْو {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} وَلذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاء مِنْهُ ومعيار عمومها أَن يصلح وُقُوع كل موقعها نَحْو كل إِنْسَان فِي خسر وَقَيده فِي ذَلِك ليخرج سَائِر مَعَاني اللَّازِم إيضاحا للمراد وَإِلَّا فَالْكَلَام فِي صِيغ الْعُمُوم وَوضع لَام التَّعْرِيف حَقِيقَة فِي الِاسْتِغْرَاق كَمَا ذهب إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمُحَقِّقين سَوَاء دخلت على الْجِنْس نَحْو الرجل أَو اسْمه نَحْو الْعَسَل وَالْمَاء أَو الْجمع نَحْو الرِّجَال أَو اسْمه كالغنم والرهط وَالْقَوْم كَمَا تقضي بِهِ عبارَة النّظم
وَاعْلَم أَن إِثْبَات الْعُمُوم لما ذكر وَأَنه حَقِيقَة فِيهِ هُوَ قَول الجماهير ويروى عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة قَالَ ابْن حزم وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة وَاسْتدلَّ لهَذَا بتبادر فهم الْعُمُوم من نفس الصِّيَغ الْمَذْكُورَة لأهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ والتبادر عَلامَة الْحَقِيقَة من ذَلِك قَوْله تَعَالَى {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي} فَإِنَّهُ فهم نوح من قَوْله تَعَالَى {وَأهْلك} نجاة ابْنه مَعَهم فَقَالَ {إِن ابْني من أَهلِي} وَمِنْه قَول الْمَلَائِكَة لإِبْرَاهِيم {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} فهم إِبْرَاهِيم الْعُمُوم ف {قَالَ إِن فِيهَا لوطا} وأجابته الْمَلَائِكَة بتحقيق مَا فهمه وَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ تَعَالَى

(1/303)


امْرَأَته وَهُوَ معيار الْعُمُوم فِي الصَّحِيحَيْنِ لما نزل قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} قَالَ ابْن أم مَكْتُوم إِنِّي ضَرِير فَنزل {غير أولي الضَّرَر} فأقره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فهم الْعُمُوم وَنزل الْقُرْآن بالتخصيص وَفِيهِمَا أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} قَالَ الصَّحَابَة وأينا لم يظلم نَفسه ففهموا الْعُمُوم من النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي وأقرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين لَهُم أَن المُرَاد بِهِ ظلم مَخْصُوص هُوَ الشّرك والآيات وَالْأَحَادِيث وَاسِعَة فِي هَذَا
وَاسْتدلَّ أَيْضا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ على أَن إِفَادَة صِيغ الْعُمُوم لَهُ بِنَفسِهَا فَإِنَّهُ شاع فيهم الِاسْتِدْلَال بذلك بِمثل {وَالسَّارِق والسارقة} وَالزَّانِي والزانية {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} وَلم يُنكر فَكَانَ إِجْمَاعًا وَقد نَفَاهُ الْعُمُوم لدفع هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ بِمَا لَا يخرج أَلْفَاظ الْعُمُوم عَن أَنَّهَا ظَاهِرَة فِي الْعُمُوم وَهُوَ الْمُدعى أَنَّهَا حَقِيقَة فِيهِ ظَاهِرَة فِي مَعْنَاهُ وَقد تخرج عَنهُ بقرائن كَانَ يُرَاد بِالْعُمُومِ الْخُصُوص
وَاخْتلفُوا هَل يدْخل الْمُخَاطب
تَحت خطاب نَفسه وَالْوَاجِب ... دُخُوله والمدح لَا يُغير
دلَالَة الْعُمُوم وَهُوَ الْأَظْهر
هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ معروفتان فِي الْأُصُول تعرف الأولى بِدُخُول الْمُتَكَلّم فِي خطاب نَفسه الْوَارِد بِصِيغَة الْعُمُوم فَاخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النّظم وَقَوله وَاخْتلفُوا اسْتِئْنَاف بَيَان لهَذِهِ الْمَسْأَلَة وَلَهُم أَقْوَال
الأول إِنَّه دَاخل تَحت خطاب نَفسه الْوَارِد بِصِيغَة الْعُمُوم وَهَذَا قَول الْأَكْثَر وَإِلَيْهِ أُشير بقولنَا وَالْوَاجِب دُخُوله سَوَاء كَانَ خَبرا أَو أمرا فَالْأول نَحْو من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَى قَوْله كَانَ لَهُ كَعدْل نسمَة فَإِنَّهُ صلى

(1/304)


الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم دَاخل فِي هَذَا
وَالثَّانِي نَحْو من أَصَابَهُ هم أَو حزن فَلْيقل إِنِّي عَبدك وَابْن عَبدك الحَدِيث فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك قَالُوا وَكَذَا إِذا ورد الْخطاب بِمثل {يَا أَيهَا النَّاس} {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} {قل للْمُؤْمِنين} أَو {بلغ مَا أنزل إِلَيْك} وأمثالهما فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاخل فِي مثل هَذَا وَإِن كَانَ مبلغا لغيره فَهُوَ مُخَاطب اسْم مفعول بِاعْتِبَار تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ ومخاطب اسْم فَاعل بِاعْتِبَار أَنه الْمبلغ الْأَمر الناهي فَهُوَ مَأْمُور بالتبليغ للمكلفين وَهُوَ من جملَة الملكلفين فَهُوَ دَاخل فِي عمومات الْخطاب مَا لم تقم قرينَة على خُرُوجه عَنهُ هَذَا كَلَام الْجُمْهُور وَفِيه طول لَا حَاجَة إِلَيْهِ وخلافات خَارِجَة عَن مَحل النزاع
وَأَقُول تَحْقِيق الْمَسْأَلَة أَن الْمُتَكَلّم لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يتَكَلَّم عَن نَفسه كَقَوْلِه من لَا يكرم نَفسه لَا يكرم وَقَول الآخر من يفعل الْحَسَنَات الله يشكرها
فالمتكلم مشمول بِكَلَامِهِ مخبر لنَفسِهِ وَلغيره وَلَيْسَ الْإِخْبَار محصورا فِي إِفَادَة الْخطاب بل الْمعَانِي المفادة للإخبارات كَثِيرَة فَإِن الْوَاعِظ مُخَاطب غَيره بمواعظه وَهُوَ دَاخل فِي ذَلِك وَإِمَّا أَن يكون الْمُتَكَلّم رَسُولا إِلَى المخاطبين متكلما عَن غَيره فَالظَّاهِر خُرُوجه عَن عُمُوم الْخطاب مثل رسل السُّلْطَان إِذا تَكَلَّمت عَنهُ وَبَلغت أوامره وَمن ذَلِك رسل الله تَعَالَى فَإِنَّهُم مبلغون عَنهُ تَعَالَى وقرينة الْإِرْسَال قاضية بخروجهم عَن اللَّفْظ وَإِن كَانَ اللَّفْظ من حَيْثُ مادته يصدق عَلَيْهِم مثل النَّاس وَالَّذين آمنُوا
إِذا تقرر هَذَا فَقَوْل من قَالَ يدْخل الْمُتَكَلّم فِي عُمُوم خطابه ينظر إِلَى أَمريْن الأول إِلَى مُطلق كَونه متكلما وَهُوَ خطأ فَإِنَّهُ لَا يُسمى الْقُرْآن كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يَصح ذَلِك بل هُوَ كَلَام الله وَإِنَّمَا

(1/305)


هُوَ مبلغ وحاك فَعرفت بِهَذَا أَنه خَارج عَن أصل الْمَسْأَلَة وَمحل نزاعها لِأَن الْمَسْأَلَة معقودة لدُخُول الْمُتَكَلّم فِي كَلَام نَفسه وَالثَّانِي قَوْلهم لتنَاوله لُغَة يتم فِي الْمُتَكَلّم عَن نَفسه لَا الْمبلغ عَن غَيره وَقد عقدوا مَسْأَلَة للمبلغ عَن غَيره وحكموا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاخل فِي عُمُوم مَا بلغه نَحْو {يَا عبَادي} كَمَا قَالُوا بِدُخُولِهِ فِي الأولى وَنَحْو نقُول إِنَّمَا هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغ لَا غير إِذْ الْكتاب وَالسّنة كِلَاهُمَا وَحي فَهُوَ مبلغ لَهما وَلَو حررت الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ هَل يدْخل الْمبلغ فِي عُمُوم كَلَام من بلغ عَنهُ لَكَانَ دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك ظَاهرا وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآن فِي غَايَة الوضوح وَلَعَلَّه هُوَ الَّذِي غر من قصر الْخلاف عَلَيْهِ وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى السّنة فَلَا كَلَام فِي ظُهُور أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاخل فِي عُمُوم كَلَامه
وَالتَّحْقِيق أَنه لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِمَا أَمر بِهِ غَايَته أَن بعضه وَقع بِعِبَارَة الْكتاب السماوي وَبَعضه بعبارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْكل عَن الله تَعَالَى وَهَذَا لم يَشْمَلهُ عُمُوم كَلَامه سَوَاء كَانَ بِعِبَارَة الْكتاب أَو عبارَة السّنة فَالْكل عَن الله تَعَالَى كَمَا يرشد إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} فَكل مَا آتَانَا بِهِ فَهُوَ مبلغ لَهُ عَن الله وَلذَا كَانَ الْحق أَن السّنة أحد الوحيين وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} غَايَة الْفرق بَينهمَا أَن عبارتها لَيْسَ معْجزَة كالقرآن وَأَنه لَا تصح نسبتها إِلَّا إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال فِيهَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يُقَال فِيهَا قَالَ الله وَإِذا عرفت هَذَا علمت أَن الْمَسْأَلَة وَإِن تطابقت عَلَيْهَا كتب الْأُصُول لم تحرر وَأَنه أَدخل فِيهَا الخطابيات القرآنية
وَتَحْقِيق الْحق أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسل إِلَى نَفسه كَمَا أَنه مُرْسل إِلَى غَيره فَهُوَ دَاخل فِي العمومات القرآنية لَا لكَونه متكلما كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامهم بل لكَونه مبلغا لنَفسِهِ عَن ربه مَأْمُورا بِمَا أَمر بِهِ غَيره إِلَّا مَا خص مِنْهَا لدَلِيل خارجي فَهَذَا وَجه دُخُوله فِي العموميات القرآنية وَكَذَا نقُول فِي

(1/306)


رسل الْمُلُوك إِنَّهُم غير داخلين فِي عمومات مَا بلغوه إِلَّا أَن تقوم قرينَة على ذَلِك فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة الأولى
وَأما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فَهِيَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا والمدح هُوَ مُبْتَدأ لَا يُغير خَبره وَدلَالَة الْعُمُوم مفعول لَا يُغير وَضمير وَهُوَ للمصدر الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِفعل التَّغْيِير الْمَنْفِيّ وَهُوَ مُبْتَدأ خَبره الْأَظْهر
وَاعْلَم أَنه اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعَام الْوَارِد فِي معرض مدح نَحْو {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} أَو ذمّ نَحْو {وَإِن الْفجار لفي جحيم} على ثَلَاثَة أَقْوَال
الأول إِنَّه لَا يبطل بِهِ الْعُمُوم وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَإِلَى اخْتِيَاره أَشَارَ النَّاظِم بقوله وَهُوَ الْأَظْهر وَوَجهه وَاضح وَهُوَ أَن صِيغَة الْعُمُوم هِيَ الْمُقْتَضِي لشمولها لإفراد مَا تحتهَا وَلَا يُخرجهَا عَن مقتضاها معنى سيقت لأَجله قلت وَتَخْصِيص النزاع بِمَا سيق لغَرَض مدح أَو ذمّ كَأَن قَالَه الأول وَتَبعهُ الآخر وَإِلَّا فَكل غَرَض سيق لَهُ الْعَام يلْزم فِيهِ الْخلاف وَالْحق أَنه لَا يُغير الْعَام غَرَض سيق لَهُ لِسَلَامَةِ الْمُقْتَضى عَن الْمعَارض ... وَالله لَا آكل عَام فِيمَا ... يُؤْكَل واختاروا هُنَا التحريما ...

هَذِه الْمَسْأَلَة وَهِي هَل الْفِعْل الْمُتَعَدِّي وَغَيره إِذا وَقع فِي سِيَاق النَّفْي أَو مَا فِي مَعْنَاهُ من غير ذكر لمفعوله عَام أَو لَا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء وَذَلِكَ مثل وَالله لَا آكل وَإِن أكلت فَعَبْدي حر فِي الْمُتَعَدِّي وَلَا أقعد فِي غَيره وَهَذَا صرح بِهِ فِي الْفُصُول أَعنِي عُمُوم الْخلاف لَهُ فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه يعم فَيقبل التَّخْصِيص بِالنِّيَّةِ إِذا نوى مَأْكُولا خَاصّا أَو زَمَانا أَو مَكَانا وَلَا يَحْنَث بِغَيْر

(1/307)


مَا نَوَاه وَقَالَت الْحَنَفِيَّة لَا يعم فَلَا يقبل التَّخْصِيص فَأَما إِذا ذكر مُتَعَلق الْفِعْل وأكد بمصدره نَحْو لَا آكل الْعِنَب أَو أكلا فاتفقوا على أَنه لَا يَحْنَث إِلَّا بِمَا تلفظ بِهِ أَو نَوَاه فِي صُورَة التَّأْكِيد بِالْمَصْدَرِ ومنشأ الْخلاف هَل مُتَعَلق الْفِعْل مُقَدّر فَيكون كالملفوظ ملاحظا فِي الْمقَام اَوْ غير مُقَدّر فَلَيْسَ بمقصود وَإِنَّمَا سيق الْكَلَام لنفي حَقِيقَة الْفِعْل فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يَقع مني أكل وَلَا نزاع فِي وُرُود الاعتبارين فِي فصيح الْكَلَام إِنَّمَا الْكَلَام مَا هُوَ الظَّاهِر مِنْهُمَا فَيحمل عَلَيْهِ الْمُحْتَمل لَهما فَذهب الْجُمْهُور إِلَى حمله على تَقْدِير مَفْعُوله قَالُوا لاحتياج الْفِعْل إِلَى مُتَعَلّقه إِمَّا لتوقفه عَلَيْهِ كالمفعول بِهِ أَو لِأَنَّهُ من ضرورياته كالزمان وَالْمَكَان فَهُوَ كالملفوظ فيخصص بِالنِّيَّةِ وَلَا يَحْنَث إِلَّا بِمَا نَوَاه
وَقَالَ الْآخرُونَ الأَصْل عدم التَّقْدِير وَالْكَلَام غير مُحْتَاج إِلَى اعْتِبَار المتعلقات فِي الْمقَام لعدم توقف صِحَة الْكَلَام وَلَا صدقه عَلَيْهِ إِذْ قد ينزل الْفِعْل الْمُتَعَدِّي منزلَة اللَّازِم ومناط ذَلِك ظُهُور مُرَاد الْمُتَكَلّم وحذفه لمتعلقاته قرينَة أَن مُرَاده نفي الْفِعْل من غير نظر إِلَى متعلقاته وَإِن كَانَ فِي قُوَّة وَالله

(1/308)


لَا أوجد آكلا وآكلا نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي لَكِن لَيْسَ الْمَقْصُود إِلَّا نفي الْفِعْل من حَيْثُ هُوَ من غير مُلَاحظَة لذَلِك التَّرْكِيب فَلَيْسَ هُوَ فِي حكم الْمُقدر فَلَا اعْتِبَار بِهِ وَحَاصِله أَن الْعُمُوم مُسلم لكنه على طَرِيق الِالْتِزَام فِي المتعلقات وَلَيْسَ هُوَ بلفظي وَلَا فِي حكم اللَّفْظِيّ الْمُقدر فَلَا يقبل التَّخْصِيص بِالنِّيَّةِ وَأجَاب الْأَولونَ بِأَن تَنْزِيل الْمُتَعَدِّي منزلَة اللَّازِم مجَاز وَالْأَصْل هُوَ الْحَقِيقَة وَلَا نسلم أرجحية الْمجَاز للقرينة الَّتِي ذكرْتُمْ على الْحَقِيقَة فِي الْمقَام وَقَوْلنَا ... أَن يعملوا بِالْعَام قبل الفحص ... عَن خاصه من ظَاهر أَو نَص ...

بِفَتْح الْهمزَة مفعول اخْتَارُوا وَهِي إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث هَل لَهُ مُخَصص من ظَاهر أَو نَص وَهِي مَسْأَلَة خلاف وَالَّذِي فِي النّظم الْجَزْم بِاخْتِيَار تَحْرِيم الْعَمَل قبل الْبَحْث فِي مخصصه وَعبارَة النّظم واصله قاضية بالِاتِّفَاقِ على تَحْرِيم الْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث عَن مخصصه وَهَذَا الِاتِّفَاق صرح بِهِ الْغَزالِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب وَهَذَا إِن حملت ضميرا اخْتَارُوا على الْعلمَاء مُطلقًا السَّابِق ذكرهم وَلَك ان تَجْعَلهُ لِلْجُمْهُورِ من الْعلمَاء لِأَنَّهُ اتِّفَاق لَهُم الْجَمِيع
وَقد ذهب جمَاعَة من محققي الشَّافِعِيَّة كالرازي وَأَتْبَاعه والسبكي والبرماوي وَغَيرهم إِلَى أَنه يجب الْعَمَل بِالْعَام من دون بحث عَن مخصصه قَالُوا لِأَنَّهُ ظَاهر فِي الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ حَقِيقَة كَمَا عرفت فَيجب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ حَتَّى يرد مَا يُغَيِّرهُ وَقَول من قَالَ لَا يعْمل بِهِ حَتَّى يبْحَث عَن مخصصه لِأَنَّهُ قد كثر للعام ذَلِك أَي التَّخْصِيص حَتَّى قيل مَا من عَام إِلَّا وَقد خص إِلَّا مثل {وَالله بِكُل شَيْء عليم} لَا يُوجب عدم الْعَمَل بِالْعَام

(1/309)


لجَوَاز وجود مُخَصص وَإِلَّا لزم أَن لَا يعْمل بِالْحَقِيقَةِ حَتَّى يبْحَث عَن مجازها لِكَثْرَة الْمجَاز وَهَذَا بَاطِل عِنْد اكثر الْعلمَاء وَإِن قيل بِأَن فِيهِ خلافًا وَقَوْلهمْ بِأَن احْتِمَال التَّخْصِيص فِي الْعَام أقوى من احْتِمَال غَيره كالحقائق للمجاز مُسلم وَلَا يَقْتَضِي التَّوَقُّف فِي الْعَام عَن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ فَإِن الْعُمُوم هُوَ الظَّاهِر فَلَا مُقْتَضى لهجره
وَقَالَ الْآخرُونَ غَلَبَة التَّخْصِيص تَنْفِي الظُّهُور وَلَا يُنَافِي القَوْل بِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي الْعُمُوم فَيجب الْبَحْث حَتَّى يظنّ عدم التَّخْصِيص وَأجِيب بِأَنَّهُ مَانع عَن الْعَمَل وَلَا يجب ظن عدم الْمَانِع بل يَكْفِي عدم ظَنّه كَمَا عرف فِي مَوَاضِع
قَالَ الزَّرْكَشِيّ الْوَاجِب الْعَمَل بِالْعَام حَتَّى يبلغهُ الْمُخَصّص لِأَن الأَصْل عدم الْمُخَصّص وَلِأَن احْتِمَال الْخُصُوص مَرْجُوح وَظَاهر صِيغَة الْعُمُوم رَاجِح وَالْعَمَل بالراجح وَاجِب بِالْإِجْمَاع
قلت وَهَذَا هُوَ الَّذِي نختاره ونعمل بِهِ ونراه الْحق لما علم من اسْتِدْلَال الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ بِالْعَام من غير بحث عَن مخصصه وَهِي قضايا كَثِيرَة
وأيها النَّاس لمن قد وجدوا
وَلَا يعم اللَّفْظ من سيوجد ... بل بِالدَّلِيلِ وَالَّذين آمنُوا
وَنَحْوه مِمَّا الذُّكُور باينوا ... فِي لَفظه الْإِنَاث داخلات
نقلا أَو التغليب والأثبات
هَذِه مُشْتَمِلَة على مَسْأَلَتَيْنِ الأولى إِذا ورد الْخطاب الْعَام بِمثل {يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وَالْمرَاد بِهِ خطاب المشافهة هَل يَشْمَل من سيوجد كَمَا يَشْمَل من هُوَ مَوْجُود حَال الْخطاب فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقيل إِنَّه لَا يعم إِلَّا من وجد وَهَذَا قَالَه الْجُمْهُور قَالُوا لأَنا نقطع بِأَنَّهُ لَا يُقَال لمعدومين {يَا أَيهَا النَّاس} وَنَحْو وإنكاره مُكَابَرَة ورد بِأَنَّهُ لَيْسَ النزاع فِي خطأ المعدومين خَاصَّة فِي شُمُول الْخطاب الموجه إِلَى الْمَوْجُودين لَهُم وَأي مَانع من دُخُولهمْ بطرِيق التغليب وَهُوَ شَائِع ذائع فِي فصيح الْكَلَام

(1/310)


وَأَقُول يَنْبَغِي تَحْرِير مَحل النزاع وَهُوَ انه هَل يصدق على الْمَعْدُوم أَنه مشافه ومخاطب أَي وَاقع عَلَيْهِ المشافهة والمخاطبة أَو غير وَاقعَة عَلَيْهِ وَلَا ريب أَنَّهُمَا غير واقعين إِلَّا على من سمع الْخطاب والمشافهة وَلَيْسَ هُوَ كل مَوْجُود بل كل من سمع من الْمُخَاطب اسْم فَاعل وَهُوَ الَّذِي يَصح مِنْهُ أَن يَقُول سَمِعت فلَانا يَقُول
ثمَّ لَا كَلَام أَن الْمُخَاطب اسْم فَاعل نَحْو {يَا أَيهَا النَّاس} وَهُوَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن شافهه وخاطبه كَانَ هُوَ الْمُخَاطب اسْم مفعول والمشافهة وَالسَّامِع هَذَا تَحْرِير مَحل النزاع وَلَيْسَ الْكَلَام فِي عُمُوم الحكم الْوَاقِع فِي سِيَاق الْخطاب فَإِنَّهُ عَام بِعُمُوم الرسَالَة وَبِه يعرف أَن كَلَام بعض الْمُحَقِّقين فِي حَوَاشِيه على ابْن الْحَاجِب وَهُوَ المقبلي رَحمَه الله وَهُوَ قَوْله إِن الْخطاب بِمثل {يَا أَيهَا النَّاس} إِمَّا ان يُرِيد الْمُخَالف بِأَن من سيوجد لَا يُسمى مُخَاطبا بذلك الْخطاب فَلَا يعمه وَإِمَّا أَنه لَا يلْزمه مَدْلُوله مثلا وجوب السَّعْي لصَلَاة الْجُمُعَة مثلا بقوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة} الْآيَة إِنَّمَا يلْزم من سَمعه من الصَّحَابَة وَأما من عداهم فبدليل آخر
وكلا الطَّرفَيْنِ مَحل نظر أما الأول فَلِأَن الْخطاب نوع من الْكَلَام والتكليم مِنْهُ تَعَالَى وَإِن وَقع للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِسْرَاع على مَا قيل فَلَيْسَ هُوَ بِكُل حكم بل الْوَاسِطَة جِبْرِيل فَلم يُخَاطب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقِيقَة وَكَذَا هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاطب من حضر ثمَّ بلغ الْحَاضِر الْغَائِب وَلم يزل كَذَلِك فَكَأَنَّهُ لَا يُقَال للْغَائِب يَا أَيهَا النَّاس كَذَا الْمَعْدُوم فَلَا فرق بَين الْغَائِب والمعدوم فِي امْتنَاع تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ وخطاب كل مَشْرُوط وبارتفاع الْمَوَانِع فَيكون صفة الْحُضُور أَو الْوُجُود وَصفا ملغى لَيْسَ بمعتبر فِي الْمقَام
وَأَقُول قَوْله فَلم يُخَاطب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقِيقَة يُرِيد الله

(1/311)


تَعَالَى وَهَذَا مُسلم وَلَا يحْتَاج إِلَى نَفْيه وَلَا إِلَى إثْبَاته لِأَنَّهُ لَيْسَ من مَحل النزاع أَن الرَّسُول مُخَاطب اسْم مفعول لله تَعَالَى بِكُل حكم بل بِحرف الْمَسْأَلَة إِذْ قَالَ الرَّسُول يَا ايها النَّاس مبلغا عَن ربه اَوْ قَالَ عَن نَفسه هَل يصدق على من غَابَ أَو لم يُوجد أَنه مُخَاطب اسْم مفعول للرسول أَي وَاقع عَلَيْهِ الْخطاب من الْمُخَاطب اسْم فَاعل أَي مُخَاطب كَانَ الْحق أَنه لم يَقع الْخطاب إِلَّا على من سَمعه وَأما ذكره للقسم الآخر وَهُوَ لُزُوم الحكم للْغَائِب وَمن يُوجد فَهَذَا أَمر قد اتّفق عَلَيْهِ الْكل لَا نزاع فِيهِ وَحَاصِله أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخَاطب بالإبلاغ للْأَحْكَام وَقد وَقع عَلَيْهِ الْخطاب مِنْهُ تَعَالَى أَو من جِبْرِيل فَقَوله فَلم يُخَاطب مَبْنِيّ على أَن الْمُدعى أَنه تَعَالَى خاطبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكُل الْأَحْكَام وَلَيْسَ كَذَلِك وَإِلَّا لزم أَن لَا يَصح عقد الْمَسْأَلَة فِي حق الْأمة لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يُخَاطب بشرا من الْأمة فَالْمَسْأَلَة وَاضِحَة وَلَا وَجه لما أَتَى بِهِ من الترديد إِذْ النزاع هَل يدْخل فِي خطاب المشافهة من غَابَ عَنْهَا أَو من عدم أَي هَل يَصح إِيقَاع الْخطاب عَلَيْهِ مَعَ غَيره ويشتق لَهُ اسْم مفعول كَمَا يشتق للحاضر أم لَا من غير نظر إِلَى من هُوَ الْمُخَاطب اسْم فَاعل وَإِذا عرفت هَذَا عرفت انه كَانَ الصَّوَاب أَن تعنون الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ هَل يدْخل غير حَاضر الْمُخَاطب فِي خطاب المشافهة غَائِبا كَانَ أَو مَعْدُوما وَالْحق أَنه غير دَاخل لُغَة وَلذَا قُلْنَا وَلَا يعم اللَّفْظ من سيوجد فعلقنا النَّفْي بِاللَّفْظِ وَلذَا لَا يَصح أَن يَقُول سَمِعت أَو حَدثنِي أَو أَخْبرنِي إِذا كَانَ غير حَاضر مجْلِس الْخطاب وَالسَّمَاع لِأَنَّهُ غير مُخَاطب وَلَا سامع وَأما لُزُوم حكم مَا بعد الْخطاب لكل من غَابَ ومعدوم فبدليل عُمُوم التشريع على أَن عِنْدِي أَن الْمَسْأَلَة قَليلَة الجدوى إِذْ الْفَرَاغ لَفْظِي وَهِي فِي تَسْمِيَة من لم يحضر موقف الْخطاب مُخَاطبا لَا فِي الْأَحْكَام فَإِنَّهَا لَازِمَة بالِاتِّفَاقِ

(1/312)


وَالتَّحْقِيق أَن هُنَا فِي مثل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة} الْآيَة خطابين الأول مطوي وَهُوَ قَول يَا مُحَمَّد فَإِنَّهُ مبلغ فَلَا بُد من تَقْدِيره كَمَا يدل لَهُ التَّصْرِيح فِي آيَات نَحْو {قل لعبادي} فالمخاطب بقل هُوَ الرَّسُول بخطاب جِبْرِيل والمخاطب ب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} الْمُؤْمِنُونَ بخطاب الرَّسُول فجبريل مُخَاطب للرسول حَقِيقَة وَمن غَابَ مبلغ سَوَاء كَانَ غَائِبا أَو مَعْدُوما وَلذَا قَالَ ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَقَالَ بلغُوا عني وَلَو بِآيَة وَمَعَ هَذَا فمسألة لَا فَائِدَة تحتهَا إِذْ عُمُوم التشريع بِكُل حكم وصل إِلَى الْمُكَلف بِأَيّ طَرِيق يجب عَلَيْهِ وَيلْزمهُ
وَاعْلَم أَن الْجُمْهُور على أَن عُمُوم الْأَشْخَاص يسْتَلْزم عُمُوم الْأَزْمِنَة والأمكنة وَالْأَحْوَال فَقَوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} أَمر بقتل كل مُشْرك فِي أَي زمَان وَمَكَان وَحَال وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلهم إِنَّه لَا يَشْمَل خطاب المشافهة بِالْعَام من سيوجد لِأَن المُرَاد أَن من خُوطِبَ يسْتَلْزم خطاه بِالْعَام مَا ذكر من الثَّلَاثَة الْأُمُور وَمَتى بلغه الحكم لزمَه ذَلِك مَعَ استلزامه الثَّلَاثَة فَلَا يتنافى وَقُلْنَا الْجُمْهُور لِأَنَّهُ قد ذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْعَام مُطلق فِي الثَّلَاثَة وَعَلِيهِ ورد إِشْكَال الْقَرَافِيّ الْمَعْرُوف بِأَنَّهُ يلْزم أَن لَا يعْمل بالعمومات الْوَارِدَة فِي الْأَحْكَام فِي هَذِه الْأَزْمِنَة لِأَنَّهُ قد عمل بهَا فِي زمَان مَا وَالْمُطلق يخرج عَن عُهْدَة التَّكْلِيف بِهِ إِذا وَقع الْعَمَل بِهِ فِي صُورَة مَا وَالتَّحْقِيق فِي الْجَواب إِيرَاده وأصل الْمَسْأَلَة أَن من قَالَ إِنَّه مُطلق فِي الثَّلَاثَة فمراده أَن دلَالَة الصِّيغَة أَي صِيغَة الْعُمُوم عَلَيْهَا لَيْسَ بِحَسب الْوَضع وَلَكِن وجوب الْعَمَل بِالْعَام الشَّامِل لأفراده

(1/313)


استغراقا والمحافظة على إِجْرَاء حكمه فِي كل فَرد من أَفْرَاده يسْتَلْزم عُمُوم الثَّلَاثَة كَمَا مثلناه وَلَو أخرجنَا مثلا أهل الذِّمَّة أَو يَوْم السبت أَو سكان بَيت الْمُقَدّس لكَون الْعَام مُطلقًا فِيهَا لَكنا قد أبطلنا الْعَمَل بِالْعَام فِي جملَة من أَفْرَاده الَّتِي دلّ عَلَيْهَا وشملها لَفظه وأخرجنا الْعَام عَن مُقْتَضى وَضعه فَالْحَاصِل أَن الْعَام بِوَضْعِهِ مُطلق فِي الثَّلَاثَة وبإيجاب تَعْمِيم الحكم فِي جَمِيع أَفْرَاده مُسْتَلْزم لَهَا فَلِمَنْ قَالَ إِنَّه مُطلق وَجه وَلمن قَالَ بِعُمُومِهِ استلزاما وَجه
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا شَمله النّظم قَوْلنَا وَالَّذين آمنو وَنَحْوه إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى الْخلاف فِيمَا وضع من الْأَلْفَاظ مُشْتَركا بِحَسب الْمَادَّة بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث كَمَا مثلناه وكالمسلمين فَإِن هَذِه الصِّيَغ مُخْتَصَّة بالمذكر وَإِن كَانَت الْمَادَّة مُشْتَركَة بَينهمَا وَأما إِذا كَانَت الْمَادَّة مُشْتَركَة بَينهمَا وَأما إِذا كَانَت الْمَادَّة مُخْتَصَّة بالذكور فَلَا نزاع فِيهَا كالرجال بِخِلَاف الأول فَإِنَّهُ ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا يدْخل تَحت عُمُومه الْإِنَاث وَاسْتَدَلُّوا بِإِجْمَاع أهل الْعَرَبيَّة على أَن تِلْكَ الصِّيَغ مَوْضُوعَة للذكور فَلَا يَصح دُخُول الْإِنَاث فِيهَا لُغَة
قَالَ الْمُخَالف وهم الْحَنَابِلَة وَبَعض الْحَنَفِيَّة ألستم تنكرون شُمُول الْأَحْكَام عِنْد التَّعْبِير بذلك لِلْفَرِيقَيْنِ قَالُوا مُسلم ذَلِك وَلَكنَّا نقُول إِن دُخُول الْإِنَاث فِي ذَلِك لَيْسَ إِلَّا بِأحد أَمريْن إِمَّا بِالنَّقْلِ من الشَّارِع لَهُ عَن أصل اللُّغَة إِلَى مَا يَشْمَل الْإِنَاث وَدَلِيل النَّقْل عمل الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ الخطابات القرآنية والسنية على الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا نقلا أَي بِالنَّقْلِ وَإِمَّا للتغليب كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ إيضا فِي النّظم
وَأجِيب بأنكم إِن أردتم بِأَنَّهُ اصْطِلَاح لأهل الْعَرَبيَّة فَمُسلم وَلَا يضرنا وَإِن أردتم أَن ذَلِك وضع لغَوِيّ فَمَمْنُوع مُسْندًا بِأَنَّهُ قد صَحَّ إِطْلَاقه على الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا اهبطوا} خطابا لآدَم

(1/314)


وحواء وإبليس {وادخلوا الْبَاب سجدا} أَمر لبني إِسْرَائِيل ذكورهم وَالْإِنَاث وَالْأَصْل الْحَقِيقَة فَيكون مُشْتَركا بَين الْأَحَد الداير فِي عقلاء المذكرين منفردين أَو مَعَ الْإِنَاث ودعواكم النَّقْل أَو التغليب خلاف الأَصْل
وَاسْتدلَّ الْجُمْهُور أَيْضا بِحَدِيث أم سَلمَة بِسَبَب نزُول قَوْله تَعَالَى {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} الْآيَة فَإِنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله مَا لنا لَا نذْكر كَمَا يذكر الرِّجَال فَأنْزل الله الْآيَة على وفْق سؤالها وَهَذَا اسْتِدْلَال حسن إِلَّا أَنه قد علم دُخُولهمْ فِي مثل أقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة اتِّفَاقًا وَالْقَوْل بِأَنَّهُ بِدَلِيل خارجي خلاف ظَاهر الْأَدِلَّة وخروجهن من بعض الْأَحْكَام كَصَلَاة الْجُمُعَة كَانَ بِدَلِيل خارجي من السّنة وَتَخْصِيص السّنة لَهُنَّ بذلك دَلِيل دُخُولهمْ فِي {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وَهَذِه الْمَسْأَلَة قَليلَة الْفَائِدَة للاتفاق فِي أَن الأحكم شَامِلَة لِلْفَرِيقَيْنِ بِأَيّ صِيغَة حكم على الْمَوْضُوع فِي الْعبارَة وَقَوْلنَا فِي عجز الْبَيْت والأثبات بِفَتْح الْهمزَة والمثلثة الساكنة فموحدة جمع ثَبت أَي الْعلمَاء الْأَثْبَات وَهُوَ مُبْتَدأ خَبره قَوْلنَا قَالُوا إِذا الحكم أَتَى فِي الْبَعْض ... فَلَيْسَ بالتخصيص فِيهِ نقضي ...

وَالْمرَاد أَنه قَالَ أثبات الْعلمَاء إِنَّه إِذا ورد حكم وَالْعَام مَحْكُومًا بِهِ على بعض أَفْرَاده فَإِنَّهُ لَا يخصص بِهِ الْعَام فقولنا فِي الْبَعْض أَي بعض أَفْرَاد الْعَام كَمَا أَن قَوْلنَا الحكم أردنَا بِهِ حكم الْعَام وَمِثَال الْمَسْأَلَة الْمَشْهُور حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد مُسلم إِذا دبغ الاهاب فقد طهر فَهَذَا عَام حكم عَلَيْهِ بِطَهَارَتِهِ بالدباغ ثمَّ ورد فِي خَاص وَهُوَ حَدِيث الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيثه

(1/315)


أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِشَاة ميتَة فَقَالَ هلا استمتعتم بإهابها فَقَالُوا إِنَّهَا ميتَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا حرم من الْميتَة أكلهَا وَمثله مَا رَوَاهُ مُسلم عَن ابْن عَبَّاس عَن ميمونه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِشَاة لميمونة مَاتَت فَقَالَ أَلا أخذُوا إهابها فدبغوه فانتفعوا بِهِ الحَدِيث فَحكم هُنَا على جلد الشَّاة بالحكم الَّذِي حكم بِهِ على كل إهَاب فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن هَذَا لَا يخص بِهِ الْعَام وَقَالَ أَبُو ثَوْر بل يخص بِهِ حكم بِأَنَّهُ لَا يطهر الدّباغ إِلَّا جلد الْمَأْكُول وَقَالَ الْجُمْهُور هَذَا عمل بِمَفْهُوم اللقب وَقد مر هُنَا أَنه لَا يعْمل بِهِ وَتقدم الْبَحْث فِيهِ فأغنى عَن إِعَادَته هُنَا وَبِه يعرف ضعف قَول أبي ثَوْر إِنَّمَا قَامَ الدَّلِيل على التَّخْصِيص للْعلم بِالْمَفْهُومِ الْمُعْتَبر وَالْمَسْأَلَة رَاجِعَة إِلَى الْخلاف فِي الْعَمَل بِمَفْهُوم اللقب وَقَوْلنَا ... كَذَا الضَّمِير إِن إِلَيْهِ عادا ... إِذْ لَا يُنَافِي مَا لَهُ أفادا ...

(1/316)


أَي إِن حكم الضَّمِير إِن عَاد إِلَى بعض إِفْرَاد الْعَام لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْعَام فَالضَّمِير فِي قَوْله إِلَيْهِ عَائِد إِلَى الْبَعْض الَّذِي سبق ذكره فِي الْبَيْت الأول والمثال الْمَشْهُور فِي الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} فَإِنَّهُ عَام للبائنات والرجعيات ثمَّ قَالَ {وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك} وَهَذَا خَاص بِبَعْض أَفْرَاد الْعَام وَهن الرجعيات فَإِن الأحقية بالرجعة فِيهِنَّ لَا غير فَهُنَا ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا مُنَافَاة بَين عُمُوم اللَّفْظ وعود الضَّمِير إِلَى بعض أَفْرَاده كَمَا قَالَ النَّاظِم إِذْ لَا يُنَافِي أَي عود الضَّمِير إِلَى بعض أَفْرَاد الْعَام لَا يُخرجهُ عَن عُمُومه بِكُل أَفْرَاد بذلك وَذَهَبت الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه يخصص بِهِ الْعُمُوم بِمَعْنى أَنه يُرَاد بالمطلقات الرجعيات وَغَيرهم من البائنات لَا يدخلن فِي الْآيَة فَلَا يعرف حكمهن من الْآيَة بل من أَدِلَّة أُخْرَى بت وَلذَلِك قَالَت الْحَنَفِيَّة فِي حَدِيث لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل مَعْنَاهُ إِلَّا كَيْلا مِنْهُ بكيل مِنْهُ قَالُوا وَالضَّمِير مَحْذُوف عَائِد إِلَى الْبر الَّذِي يُكَال لَا إِلَى جَمِيع الْبر فَيجوز بيع حفْنَة بحفنتين عِنْدهم لِأَن ذَلِك غير مَكِيل فَيكون الْعَام وَهُوَ الْبر مُخَصّصا بالضمير
قلت وَالتَّحْقِيق أَنه لَيْسَ هُنَا تَخْصِيص وَهُوَ إِخْرَاج مَا دخل بل أُرِيد بِالْعَام ابْتِدَاء بعض أَفْرَاده فَأُرِيد بالمطقات الرجعيات فَقَط فَهُوَ من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَا من الْعَام الْمَخْصُوص وَاخْتَارَ بعض الْمُحَقِّقين كَلَام الْجُمْهُور قَائِلا بِأَن الضَّمِير قد وضع لربط معنى مُتَأَخّر بِمَعْنى مُتَقَدم للدلالة على أَن الْمَعْنى الآخر هُوَ الْمُتَقَدّم سَوَاء كَانَ مَذْكُورا بِلَفْظِهِ أَو دلّت عَلَيْهِ قرينَة كَمَا قَالَ النُّحَاة تقدم ذكره لفظا أَو معنى أَو حكما فَلَا يَأْتِي الضَّمِير مُخَالفا لما قبله بِحَسب وَضعه وَهُوَ أغلب استعمالاته وَقد يخرج عَنهُ بالقرائن إِلَى معنى مجازي مِنْهُ بِأَن يُرَاد بِهِ بعض مَا تقدم كالآية فَإِن ضمير بعولتهن أُرِيد بِهِ بعض مَا شَمله المطلقات بِلَفْظِهِ ظَاهرا وَخُرُوج الضَّمِير عَن أَصله وَضعه للقرينة

(1/317)


والعلاقة مجَاز لَا مَانع عَنهُ كَمَا فِي الْآيَة فَإِن ضمير بعولتهم أُرِيد بِهِ الْبَعْض من معنى المطلقات فَهُوَ من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض إِذْ ظَاهر مُقْتَضى الضَّمِير عوده على الْكل وَقد أطلق هُنَا على الْبَعْض وَهُوَ انْتِقَال صَحِيح مجازي كالاستخدام بالضمير وَغَيره فَهَذَا يُؤَيّد صِحَة كَلَام الْجُمْهُور لِأَن اللَّفْظ بَاقٍ على عُمُومه وَالضَّمِير لبعضه
وَاعْلَم أَن الْمَسْأَلَة اشتهرت بِمَا ذكر من أَن عود الضَّمِير إِلَى بعض إِفْرَاد الْعَام لَا يخصص الْعَام وَهَذَا الحكم جَار فِي الصّفة وَالشّرط وَالِاسْتِثْنَاء كَمَا صرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن وَمثلهَا وَهِي فِي الفواصل مستوفاه بت وَفِي شرح الْغَايَة وَاعْلَم أَنه قد يعبر عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا هُوَ أَعم من عود الضَّمِير على بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام بِأَن يُقَال تعقيب الْعَام بِمَا يكون مُخْتَصًّا بِبَعْضِه هَل يَقْتَضِي تَخْصِيصه أم لَا سَوَاء كَانَ ذَلِك ضميرا كَمَا سبق أَو غَيره إِلَى آخر كَلَامه
وَإِذا عرفت مَا قَررنَا من الْمسَائِل الَّتِي تعلّقت بِالْعَام وَالْخَاص فَاعْلَم أَن التَّخْصِيص منقسم إِلَى مُتَّصِل ومنفصل وَقد شَمله قَوْلنَا ... واقسم إِلَى مُتَّصِل ومنفصل ... مُخَصص الْعَام فَأَما الْمُتَّصِل ...

فَإِنَّهُ بَيَان لقسمي الْمُخَصّص عِنْد أَئِمَّة الْأُصُول فالمتصل هُوَ مَا لَا يسْتَقلّ بالإفادة بل يحْتَاج إِلَى غَيره والمنفصل هُوَ مَا يسْتَقلّ بهَا والمخصص قسم فَاعل هُوَ الدَّلِيل وَقد يُطلق على فَاعل التَّخْصِيص وَكِلَاهُمَا

(1/318)


صَحِيحَانِ وَإِن كَانَ الأَصْل هُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم لَكِن لَا بحث عَنْهَا إِذْ هِيَ أَمر نَفسِي وَبعد فَرَاغه عَن كَلَامه تعرف إِرَادَته بِهِ
وَاعْلَم أَنه قد اخْتلف فِي مَا يجوز التَّخْصِيص إِلَيْهِ من أَفْرَاد الْعَام فَقيل يجوز إِلَى وَاحِد سَوَاء كَانَ الْعَام جمعا أَو لَا وَهَذَا حُكيَ عَن الْجُمْهُور مستدلين بِأَن الْبَاقِي من الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز كَمَا يَأْتِي تَقْرِيره فِي أَوَاخِر بَاب التَّخْصِيص وَهُوَ رَأْي الْجُمْهُور قَالُوا والتخصيص قرينته فالمصحح للاطلاق هُوَ الْقَرِينَة وَقد وجدت فَيجوز وَلَو إِلَى وَاحِد وَقد تقرر أَن الْعَام بدل على كل فَرد من أَفْرَاد مَدْلُوله جمعا كَانَ أَو غَيره وَهُوَ أَيْضا رَأْي الْجُمْهُور
وتقرر جَوَاز التَّخْصِيص وَهُوَ إِخْرَاج بعض إِفْرَاد الْعَام عَن حكمه والإخراج إِلَى أَن يبْقى وَاحِد صَادِق على ذَلِك فالمانع مِنْهُ هُوَ الْمُحْتَاج إِلَى الدَّلِيل وَقد ورد أَيْضا فِي الْقُرْآن {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} وَالْمرَاد بِهِ وَاحِد وَهُوَ نعيم بن مَسْعُود كَمَا عرف فِي سَبَب النُّزُول وَإِن كَانَ هَذَا من الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص لَا من الْعَام الْمَخْصُوص لكنه إِذا جَازَ فِيهِ فليجز فِي الْعَام الْمَخْصُوص فَإِنَّهُ لَا فَارق بَينهمَا إِلَّا الْإِرَادَة فَكَمَا جَازَ أَن يُرَاد وَاحِد من أَفْرَاده ابْتِدَاء من دون مُلَاحظَة الْعُمُوم فِي الْعَام فليجز أَن المُرَاد بِهِ وَاحِد من افراده مَعَ مُلَاحظَة الْعُمُوم وَأي فَارق مصحح لهَذَا دون هَذَا وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الله يبشرك} فَإِن المُرَاد بِهِ جِبْرِيل وَمن ذَلِك {وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة} مَعَ أَن الْقَائِل بَعضهم وَفِيه آيَات أخر فَهَذَا القَوْل أقرب الْأَقْوَال وَهِي خَمْسَة مَقْصُودَة فِي المطولات
فَإِن قلت وَأي فرق بَين الْعَام الْمَخْصُوص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص

(1/319)


قلت قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد يجب أَن يتَنَبَّه لفرق بَينهمَا فالعام الْمَخْصُوص أَعم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص أَلا ترى أَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَولا مَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهره من الْعُمُوم ثمَّ أخرج بعد ذَلِك بعض مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ فَكَانَ عَاما مَخْصُوصًا وَلم يكن عَاما أُرِيد بِهِ الْخُصُوص وَيُقَال إِنَّه مَنْسُوخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض الَّذِي أخرج وَهَذَا مُتَوَجّه إِذا قصد الْعُمُوم وَفرق بَينه وَبَين أَن لَا يقْصد الْخُصُوص بِخِلَاف مَا إِذا نطق بِالْعَام يُرِيد بِهِ بعض مَا تنَاوله انْتهى قَوْله ... فَالشَّرْط والغاية وَالِاسْتِثْنَاء ... وَالْوَصْف والإبدال بَعْضًا وَهنا ...

بَيَان لأقسام الْمُتَّصِل وَالْفَاء جَوَاب أما وَقد قسم فِي النّظم إِلَى خَمْسَة كَمَا ترى وَهُوَ رَأْي الْأَكْثَر وَبَعْضهمْ يسْقط مِنْهَا بدل الْبَعْض فَالْأول الشَّرْط وَالْمرَاد بِهِ اللّغَوِيّ وَهُوَ مَا علق الحكم فِيهِ على شَيْء بأداة شَرط نَحْو أكْرم الْعلمَاء إِن عمِلُوا بِالْعلمِ فَخص الحكم وَهُوَ الْأَمر بالإكرام بِشَرْط وَهُوَ الْعَمَل بِهِ وَالثَّانِي مِنْهُ الْغَايَة وَهِي لُغَة طرف الشَّيْء ومنتهاه وَقد تطلق على الْحَرْف الدَّال على ذَلِك وَتارَة على مدخوله وَهُوَ المُرَاد نَحْو قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَقد اخْتلف فِي دُخُول مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا على أَقْوَال ثَلَاثَة وَقد أَطَالَ الرضي فِي شرح الكافية فِي ذَلِك وَالظَّاهِر أَنه يخْتَلف ذَلِك بِحَسب المقامات وقرائن

(1/320)


الخطابات وَهَذَا فِيمَا إِذا كَانَ حرف الْغَايَة إِلَى وَأما إِذا كَانَ حَتَّى فالجمهور من عُلَمَاء الْعَرَبيَّة على دُخُول مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا وَنسب إِلَى سِيبَوَيْهٍ وَتَبعهُ اكثر الْعلمَاء وَذهب الْأَقَل إِلَى احْتِمَال الدُّخُول عَدمه وَاسْتقر بِهِ الرضي وَقَالَ لَكِن الدُّخُول أَكثر وأغلب وَبِه يعرف أَن كَلَام الْجُمْهُور هُوَ التَّفْرِقَة بَين حَتَّى وَإِلَى وَأَن إِطْلَاق النَّقْل عَنْهُم فِي عدم دُخُول مَا بعد الْغَايَة فِيمَا قبلهَا فِيهِ إِجْمَال لَا يَنْبَغِي ثمَّ هَذَا فِي حَتَّى الجارة لَا فِي العاطفة فَإِن دُخُول مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا اتِّفَاق
وَاعْلَم أَنَّهَا ترد حَتَّى لغير الْغَايَة بل لتأكيد الْعُمُوم نَحْو {سَلام هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} لِأَنَّهُ لَيْسَ مطلعه من اللَّيْل حَتَّى يَشْمَلهُ قَوْله سَلام وَلَيْسَ مثله قِرَاءَة الْقُرْآن من فاتحته إِلَى خاتمته لِأَن مَا بعْدهَا دَاخل فِيمَا قبلهَا إِذْ خاتمته آخر سُورَة مِنْهُ وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} فَإِن زمَان الطُّهْر غير دَاخل فِي زمن النَّهْي عَن القربان وَالْمَقْصُود أَن الْغَايَة الَّتِي نَحن بصدد بَيَانهَا هِيَ الَّتِي يتقدمها عُمُوم يشملها يَنْوِي بهَا إِخْرَاج بعض مَدْلُول الْعَام هَذَا وَلَو قيل إِن التَّخْصِيص بحتى بِمثل قَوْله تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} إِلَى قَوْله {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} من بَاب الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد لَكَانَ لَهُ وَجه أَو هُوَ الْأَوْجه بَيَانه أَن قَوْله {حَتَّى يُعْطوا} تَقْيِيد لِلْقِتَالِ و {إِلَى الْمرَافِق} تَقْيِيد للْغسْل و {إِلَى اللَّيْل} تَقْيِيد للصيام فالتقييد للْأَحْكَام لَا للمحكوم عَلَيْهِ والعموم لَهُ لَا لَهَا هَذَا مَا جنح إِلَيْهِ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين وَهُوَ حسن جدا
وَالثَّالِث مِنْهُ الِاسْتِثْنَاء وَالْمرَاد بِهِ هُنَا مَجْمُوع كلمة الِاسْتِثْنَاء وَلَفظ الْمُسْتَثْنى الَّذِي يَقع بِهِ تَخْصِيص الْعَام
وَاعْلَم أَنه اخْتلف فِي تَحْقِيق دلَالَة الِاسْتِثْنَاء لإيهامه التَّنَاقُض فَإِن قَوْلك عِنْدِي لَهُ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة فَيلْزم مِنْهُ إِثْبَات الثَّلَاثَة فِي ضمن الْعشْرَة ونفيها فِي الِاسْتِثْنَاء فَيلْزم التَّنَاقُض وَكَيف وَهُوَ وَاقع فِي كَلَام الله تَعَالَى وَرَسُوله

(1/321)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقرر الْجُمْهُور من أهل الْأُصُول والعربية وَغَيرهم تَحْقِيق دلَالَته بِأَن قَالُوا المُرَاد بقوله عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة سَبْعَة وَكلمَة إِلَّا قرينَة ذَلِك فالتخصيص لغيره من المخصصات فَإِن المُرَاد بِالْعَام الْمُخَصّص غير مَا أخرج مِنْهُ بالِاتِّفَاقِ ولغيرهم تقارير أُخْرَى فِي دلَالَته هَذَا أَولهَا وَهُوَ الَّذِي وعدنا بِهِ فِيمَا سبق من أَنه مجَاز فِيمَا بَقِي وَبَقِي من إحكام التَّخْصِيص بِالِاسْتِثْنَاءِ مَا يَأْتِي من شَرْطِيَّة الِاتِّصَال وَعَدَمه
الرَّابِع مِنْهُ الْوَصْف وَالْمرَاد مَا أشعر بِمَعْنى يَتَّصِف بِهِ بعض إِفْرَاد الْعَام سَوَاء كَانَ نعتا أَو عطف بَيَان أَو حَالا وَسَوَاء كَانَ مُفردا أَو جملَة أَو شبهها من جَار ومجرور وظرف نَحْو وقفت على أَوْلَادِي الْعلمَاء فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إِخْرَاج من لَيْسَ بعالم عَن الحكم وَمن شَرطه الِاتِّصَال فالمتكلم فِي الْمَوْصُوف إِلَّا بِقدر نفس أَو سعال أَو نَحوه
الْخَامِس مِنْهُ بدل الْبَعْض نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَأخرج من النَّاس من لم يسْتَطع بالإبدال مِنْهُ وَتَقَدَّمت إِشَارَة إِلَى أَن من عُلَمَاء الْأُصُول من لم يعده من المخصصات قَالَ لِأَن الْمُبدل مِنْهُ فِي حكم الطرح فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْإِخْرَاج وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ أَنه كالمهمل فَظَاهر الْفساد كَيفَ وَقد جَاءَ فِي كَلَام الله تَعَالَى وَإِن أَرَادَ أَنه خَارج غير مَقْصُود بالحكم فَهَكَذَا كل أَنْوَاع التَّخْصِيص قَالَ شَارِح التَّحْرِير الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كالزمخشري أَن الْمُبدل مِنْهُ فِي غير بدل الْغَلَط لَيْسَ فِي حكم المهدر بل هُوَ تَوْطِئَة وتمهيد وليفاد بالمجموع فضل تَأْكِيد وتبيين لَا يكون فِي الْإِفْرَاد وَقَوْلنَا فِي آخر الْبَيْت السَّابِق وَهنا أَي فِي هَذَا الْمقَام الَّذِي بَينه مُتَعَلقَة وَهُوَ قَوْلنَا ... يخْتَار فِي الثَّالِث أَن يتصلا ... إِلَّا كبلع الرِّيق فِيمَا مثلا ...

(1/322)


الثَّالِث من الْخَمْسَة وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء وَله شُرُوط ثَلَاثَة
الأول كَونه من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَهُوَ شَأْن الْمُتَّصِل وَقد أغْنى عَن ذكر كَونه شرطا إطلاقنا لَهُ فِيمَا سلف لِأَنَّهُ إِذا أطلق لَا يُرَاد بِهِ إِلَّا هُوَ
وَالثَّانِي أَن لَا يكون مُسْتَغْرقا للمستثنى مِنْهُ نَحْو لَهُ عشرَة إِلَّا عشرَة فَإِنَّهُ يَلْغُو هُنَا وَيَأْتِي فِيهِ الْكَلَام
وَالثَّالِث هُوَ مَا أردناه بقولنَا أَن يتصلا فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهِ اتِّصَاله فِي الْعبارَة بِمَا أخرج مِنْهُ إِلَّا بِمَا لَا يعد فصلا عرفا كبلع الرِّيق وَالنَّفس وَهَذَا رَأْي الْجُمْهُور وينقل عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ يَصح تراخيه إِلَى شهر وَقيل إِلَى سنة وَقيل مُطلقًا وَقد حمل كَلَامه على خِلَافه وَهُوَ أَنه أَرَادَ إِذا نوى الِاسْتِثْنَاء أَولا ثمَّ صرح بِهِ هُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد وَقيل بل أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ لَا مُطلق الِاسْتِثْنَاء كَمَا أخرجه الْحَاكِم بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ إِذا حلف الرجل على غَيره فاستثنى إِلَى سنة وَأَن الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت} أَنه إِذا ذكرت فَاسْتَثْنِ قَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَاسْتدلَّ الْجُمْهُور بِأَنَّهُ لَو صَحَّ الِاسْتِثْنَاء لبطل جَمِيع الإقرارات وَالطَّلَاق وَالْعتاق وَأَيْضًا فَكَانَ يلْزم أَن لَا يعرف الصدْق من الْكَذِب لِإِمْكَان تَعْلِيق الْكَذِب بعد مُدَّة بِمَا يُخرجهُ عَن الْكَذِب وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أخرجه أَحْمد وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه فاقتصر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذكر التَّكْفِير وَلم يقل فليستثن مَعَ اخْتِيَاره لأمته أيسر الْأُمُور وأسهلها
هَذَا وَقد أَشَرنَا آنِفا إِلَى شَرْطِيَّة أَن لَا يكون مُسْتَغْرقا وَلَا أَكثر من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لِأَنَّهُ مَعَهُمَا يلغى الِاسْتِثْنَاء وَيصير كَالْعدمِ فَإِذا قَالَ عَليّ لَهُ عشرَة

(1/323)


إِلَّا عشرَة أَو إِلَّا اثْنَي عشر بَطل حكم الِاسْتِثْنَاء وَلَزِمَه الْعشْرَة وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ قَالَ الْبرمَاوِيّ وَمحل بُطْلَانه مَا لم يتعقبه اسْتثِْنَاء بعضه نَحْو لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة فَإِن فِيهِ وُجُوهًا أَحدهَا يلْزمه عشرَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء الأول لم يَصح وَالثَّانِي مترتب عَلَيْهِ ثَانِيهمَا يلْزمه ثَلَاثَة واستثناء الْكل من الْكل إِنَّمَا لم يَصح إِذا اقْتصر عَلَيْهِ أما إِذا أَتَى بعده باستثناء صَحِيح فَإِنَّهُ يَصح إِذْ الْكل بِآخِرهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَجح وثالثهما يلْزمه سَبْعَة وَالِاسْتِثْنَاء الأول لم يَصح فَسقط من الْبَين
وَأما مَا عدا الْمُسْتَغْرق كالمساوي وَالْأَكْثَر فَهُوَ وَإِن وَقع فِي الْأَكْثَر نزاع فَلَا ينْهض دَلِيل على بُطْلَانه نَحْو عشرَة إِلَّا خَمْسَة فِي الأول إِلَّا تِسْعَة فِي الثَّانِي فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره بِعَدَمِ رجحانه
وَاعْلَم أَنه اشْتهر اشْتِرَاط الِاتِّصَال فِي الِاسْتِثْنَاء بِلَا خلاف فِيهِ وَفِي شهرته وَإِلَّا فَفِي جمع الْجَوَامِع أَن الشَّرْط الْمُخَصّص بِهِ يشْتَرط اتِّصَاله كالاستثناء وَكَذَلِكَ فِي الْعود إِلَى الْكل كَمَا يَأْتِي فِي الِاسْتِثْنَاء نَحْو أكْرم بني تَمِيم واحسن إِلَى ربيعَة وَأكْرم مُضر إِن جاؤوك
وَأَنه نفي من الْإِثْبَات
وَعَكسه أَيْضا وَأما الْآتِي ... بعد الَّذِي تعطفه من الْجمل
فَهُوَ إِلَى الْكل خلافًا للأقل
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَسْأَلَتَيْنِ معروفتين الأولى أَن الِاسْتِثْنَاء بعد الاثبات يُفِيد نفي الحكم عَمَّا بعد كلمة الِاسْتِثْنَاء نَحْو قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا فَإِنَّهُ دَال على إِثْبَات الْقيام للْقَوْم ونفيه عَن زيد وَعَكسه أَيْضا وَهُوَ إِنَّه إِثْبَات من النَّفْي نَحْو لَيْسَ لَهُ عَليّ إِلَّا دِرْهَم فَإِنَّهُ يُفِيد ثُبُوت الدِّرْهَم عَلَيْهِ فِي ذمَّته هَذَا كَلَام الْجُمْهُور فيهمَا وَخَالفهُ الْحَنَفِيَّة فِي ذَلِك فَقيل خلافهم فِي الْأَمريْنِ مَعًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النّظم وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره إِن خلافهم فِي أَنه من النَّفْي إِثْبَات

(1/324)


وَأما إِنَّه من الْإِثْبَات نفي فَلَا يخالفون فِيهِ إِلَّا أَنه خلاف مَا يظْهر من استدلالهم وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي تَحْرِير مَحل النزاع إِنَّه اتّفق الْعلمَاء أَبُو حنيفَة وَغَيره على أَن إِلَّا للإخراج وَأَن الْمُسْتَثْنى مخرج وَأَن كل شَيْء خرج من نقيضه دخل فِي النقيض الآخر فَهَذِهِ ثَلَاثَة أُمُور مُتَّفق عَلَيْهَا وَبَقِي أَمر رَابِع مُخْتَلف فِيهِ وَهُوَ انا إِذا قُلْنَا قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا فهناك أَمْرَانِ الْقيام وَالْحكم بِهِ فَاخْتَلَفُوا هَل الْمُسْتَثْنى مخرج من الْقيام أَو من الحكم بِهِ فَنحْن نقُول من الْقيام فندخل فِي نقيضه وَهُوَ عدم الْقيَاس وَالْحَنَفِيَّة يَقُولُونَ هُوَ مستنثى من الحكم فَيدْخل فَيخرج عَن نقيضه وَهُوَ عدم الحكم فَيكون غير مَحْكُوم عَلَيْهِ فَأمكن أَن يكون وَأَن لَا يكون فعندنا انْتقل إِلَى عدم الْقيام وَعِنْدهم انْتقل إِلَى عدم الحكم وَعند الْجَمِيع هُوَ مخرج وداخل فِي نقيض مَا أخرج مِنْهُ فَافْهَم ذَلِك حَتَّى يتحرر لَك مَحل النزاع
قَالَ وَالْعرْف فِي الِاسْتِعْمَال شَاهد بِأَنَّهُ إِنَّمَا قصد إِخْرَاجه من الْقيام لَا من الحكم بِهِ وَلَا يفهم أهل الْعرف إِلَّا ذَلِك فَيكون هُوَ اللُّغَة فَإِن الأَصْل عدم النَّقْل والتغيير انْتهى
وَيُرِيد بِأَنَّهُ مخرج من الحكم أَن قَول الْقَائِل قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا مَعْنَاهُ أحكم على الْقَوْم بِالْقيامِ سوى زيد فَلَا أحكم عَلَيْهِ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات اسْتدلَّ الْجُمْهُور بِأَنَّهُ قد ثَبت النَّقْل عَن أهل الْعَرَبيَّة أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي وَهُوَ الْمُعْتَمد فِي إِثْبَات المدلولات اللُّغَوِيَّة قَالُوا وَأَيْضًا لَو لم يكن كَذَلِك لم تكن كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله لإِثْبَات التَّوْحِيد وَاللَّازِم بَاطِل من الضَّرُورَة من الدّين بَيَان ذَلِك أَن التَّوْحِيد إِنَّمَا يتم بِإِثْبَات الإلهية لله تَعَالَى ونفيها عَمَّا سواهُ والمفروض على كَلَامهم أَنه إِنَّمَا يُفِيد النَّفْي دون الْإِثْبَات

(1/325)


قَالَت الْحَنَفِيَّة نَحن نقُول إِن كلمة الْإِخْرَاج بِكَلِمَة إِلَّا والإسناد وَوَقع قبل الحكم أَي الْخَارِجِي فَلَا حكم حِينَئِذٍ فِي الْمُسْتَثْنى وأطالوا فِي بَيَان هَذَا بِمَا لَا يَلِيق بالاختصار قَالُوا وَأما كلمة التَّوْحِيد فالتوحيد حصل بالإخبار بِكَلِمَة الشَّهَادَة لِأَن إِنْكَار وَاجِب الْوُجُوب غير مُتَحَقق وَلَا وَاقع فثبوته مُتَحَقق {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} فالمحتاج إِلَيْهِ فِي كلمة الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ نفي الإلهية وَإِذا انْتَفَت استلزم ثُبُوت وحدة الله تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ وَإِن لم يثبت بِحَسب الدّلَالَة الوضعية قَالُوا وَإِثْبَات التَّوْحِيد بِالْعرْفِ الشَّرْعِيّ لَا بمدلول الِاسْتِثْنَاء بِحَسب اللُّغَة على فرض تحقق من يُنكر وَاجِب الْوُجُوب كَمَا فرض فِي الدهري هَذَا خُلَاصَة تكلّف الْحَنَفِيَّة قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي شرح الْإِيمَان وكل هَذَا عِنْدِي تشغيب ومراوغات جدلية وَالشَّرْع خَاطب النَّاس بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأمرهمْ بهَا لإِثْبَات مَقْصُود التَّوْحِيد وَحصل الْفَهم لذَلِك مِنْهُم من غير احْتِيَاج لأمر آخر فَإِن ذَلِك هُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الْإِسْلَام انْتهى وَقد تقدم كَلَام الْقَرَافِيّ بِأَنَّهُ لَا يفهم أهل الْعرف إِلَّا ذَلِك
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة هِيَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا وَأما الْآتِي بعد الَّذِي تعطفه من الْجمل المُرَاد بالآتي هُوَ الِاسْتِثْنَاء الْوَارِد بعد جمل تقدمته متعاطفة فَإِنَّهُ يعود إِلَى جَمِيعهَا إِلَّا لقَرِينَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ بقولنَا إِلَّا لأمر وَقد أَفَادَ أَن مَحل النزاع فِي الْجمل المتعاطفة لَا إِذا كَانَت بِغَيْر عطف لِأَن الْفَصْل إِذا كَانَ لكَمَال الِانْقِطَاع فَهُوَ قرينَة على أَن الِاسْتِثْنَاء لَا يعود إِلَى الْجَمِيع وَإِن كَانَ لكَمَال الِاتِّصَال فَهُوَ قرينَة على عوده إِلَى الْجَمِيع

(1/326)


وَقَوْلنَا من الْجمل بَيَان لِأَنَّهُ فِي تعاطف الْجمل لَا الْمُفْردَات فَإِنَّهُ يعود فِيهَا إِلَى الْجَمِيع وَهُوَ اتِّفَاق كَمَا يفهم من كَلَام ابْن الْحَاجِب وَقَوْلنَا تعطفه شَامِل لأي حرف من حُرُوف النسق من الْوَاو وَالْفَاء وَثمّ
إِذا عرفت هَذَا فَفِي الْمَسْأَلَة خلاف
الأول مَا فِي النّظم وَهُوَ عوده إِلَى الْجَمِيع وَهُوَ كَلَام جُمْهُور الْعلمَاء وَاسْتَدَلُّوا بِأَن التَّخْصِيص بِالْمَشِيئَةِ وَالشّرط يعود إِلَى الْجَمِيع من الْجمل اتِّفَاقًا فَكَذَا الِاسْتِثْنَاء مثله إِذا لكل تَخْصِيص بالمتصل بل قيل الِاسْتِثْنَاء شَرط فِي الْمَعْنى فَإِنَّهُ لَا فرق بَين قَوْلك القذفة فساق إِن لم يتوبوا أَو إِلَّا أَن يتوبوا وَأَيْضًا الأَصْل اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي جَمِيع المتعلقات كالحال وَالشّرط وَالصّفة فَيجب أَن يكون الْمُسْتَثْنى كَذَلِك مَا لم يصرف عَنهُ صَارف كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِي آيَة الْقَذْف فَإِن قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} بعد الثَّلَاث الْجمل لَا يعود إِلَى الأول اتِّفَاقًا أَعنِي سُقُوط جلد الْقَذْف فِي التَّوْبَة وَالْخلاف فِي الْمَسْأَلَة لأبي حنيفَة فَقَالَ بعوده إِلَى الْأَخِيرَة
وَالثَّانِي الْوَقْف وَاسْتدلَّ الْحَنَفِيَّة بِأَن الأَصْل فِيهِ الِاتِّصَال بالمستثنى مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي غير الْجُمْلَة الْآخِرَة وَأجِيب بِأَن ذَلِك يلْزم فِي الْمُفْردَات والاتفاق وَاقع على أَن يعود فِيهَا إِلَى الْجَمِيع وَمِنْهَا أَي من أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة أَن عوده إِلَى مَا يَلِيهِ وَهِي الْآخِرَة يكون حَقِيقَة إِذْ هِيَ الأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء وَالْعود إِلَى الْكل إِمَّا أَن يكون مُشْتَركا أَو مجَازًا والحقيقة أولى من كل مِنْهُمَا وَيُجَاب بِأَن دَعْوَى أَن الأَصْل عوده إِلَى الْآخِرَة مَحل النزاع وَاسْتدلَّ لَهُم بِأَن الْمُسْتَثْنى وَاقع بعد عاملين فَهُوَ من بَاب التَّنَازُع وَقد وَقع الِاتِّفَاق أَن الْمَعْمُول فِي بَاب التَّنَازُع يكون لأَحَدهمَا وَلم يقل أحد بِأَنَّهُ هُنَا يعود إِلَى الأول فَقَط فَيكون الظاهرعوده فِي الْجمل إِلَى الآخيرة وَهُوَ الْمَطْلُوب ورد بِأَن هَذَا إِنَّمَا يتم على قَول من يَقُول الْعَامِل فِي الْمُسْتَثْنى هُوَ مَا تقدمه وَلَيْسَ هُوَ كَلَام الْجُمْهُور

(1/327)


فهم قَائِلُونَ إِن الْعَامِل حرف الِاسْتِثْنَاء فَلَا يكون من بَاب التَّنَازُع وَإِنَّمَا يلْزم من جعل الْعَامِل مَا تقدمه
وَاعْلَم أَن هَذَا كُله مَبْنِيّ على إِرَادَة الظَّاهِر عِنْد الْإِطْلَاق حَيْثُ لَا قرينَة وَأما مَعهَا فيدور الْكَلَام عَلَيْهَا واشتهر أَمر الْخلاف فِي آيَة الْقَذْف فَإِنَّهُ ذهب الْقَائِل بعوده إِلَى الْآخِرَة عدم قبُول شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ فَعِنْدَ غير الحنيفية تقبل شَهَادَته وَعِنْدهم لَا تقبل وَأما الأولى فَلَا يعود إِلَيْهَا اتِّفَاقًا فَلَا يسْقط الْحَد لِأَنَّهُ حق لآدَمِيّ هَذَا وَقد تبين لَك معنى قَوْلنَا فِي صدر الْبَيْت الْآتِي أَعنِي قَوْلنَا ... إِلَّا لأمر وأتاك الْمُنْفَصِل ... وَهُوَ الَّذِي بِمَا أَفَادَ يسْتَقلّ ...

هَذَا هوالقسم الثَّانِي من المخصصات وهوالمنفصل وَقد أَفَادَ النّظم رسمه بِأَنَّهُ الَّذِي يسْتَقلّ بالإفادة بِنَفسِهِ من غير حَاجَة إِلَى ضمه إِلَى غَيره فكلمة مَا مَصْدَرِيَّة فِي قَوْلنَا بِمَا أَفَادَ سَوَاء كَانَ مُتَّصِلا بِمَا قبله مَعَ استقلاله نَحْو أكْرم بني تَمِيم وَلَا تكرم بني فلَان مِنْهُم أَو مُنْفَصِلا عَنهُ وَهُوَ الْأَكْثَر وقوعا فِي المخصصات الْمُنْفَصِلَة وَلذَا سموهُ مُنْفَصِلا وَقد بَينه قَوْلنَا ... يجوز بالأربعة الْأَدِلَّة ... وَالْعقل وَالْمَفْهُوم عِنْد الجلة ...

فالأربعة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَزيد الْعقل وَالْمَفْهُوم وَقَوْلنَا عِنْد الجلة عَائِد إِلَى الْجَمِيع لوُقُوع الْخلاف فِي كل مِنْهَا ثمَّ أَخذ فِي بَيَان الْمُخْتَار فَقَالَ ... واختير تخصيصك للْكتاب ... بِكُل مَا مر لَدَى الْأَصْحَاب ...

أَي وَاخْتَارَ الْجُمْهُور تَخْصِيص عُمُوم الْقُرْآن لكل وَاحِد من الْأَرْبَعَة وبالعقل وَالْمَفْهُوم فَأفَاد أَن رَأْي الْجُمْهُور تَخْصِيص الْكتاب بِهِ وَهُوَ الأول وَنَحْو {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} فَهَذَا عَام لكل مُطلقَة وَقد خصّه قَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} وَخص الله عُمُوم الْآيَة السَّابِقَة الشاملة للمدخولة وَغَيرهَا

(1/328)


بقوله فالمطلقة الْغَيْر المدخولة {فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها}
وَقد نقل الْخلاف عَن بعض الظَّاهِرِيَّة وَقَالُوا لايجوز تَخْصِيص الْقُرْآن بِهِ وَقد ثَبت مَا ذَكرْنَاهُ بِالدَّلِيلِ وإيراد خِلَافه وأدلته وردودها فِي المطولات
وَالثَّانِي تَخْصِيصه بِالسنةِ متواترة أَو آحادية ومثاله حَدِيث لَا مِيرَاث لقَاتل وَلَا وَصِيَّة لوَارث وَالنَّهْي عَن الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَبَينهَا بَين خَالَتهَا بت والتخصيص بهَا متواترة ادعِي فِيهِ الْإِجْمَاع وآحادية قَالَه الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْجُمْهُور وَخَالف فِيهِ آخَرُونَ على تفاصيل فِي المطولات كلهَا مرجوحة
وَدَلِيل الْجُمْهُور أَن الْأَحَادِيث الآحادية قد قَامَ الدَّلِيل على أَنَّهَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة فَيجب الْعَمَل بهَا مَا لم يعارضها أقوى مِنْهَا وَدلَالَة الْعَام هُنَا وَإِن

(1/329)


كَانَت قَطْعِيَّة الْمَتْن فمدلولها ظَنِّي وَالْخَاص هُنَا وَإِن كَانَ مَتنه ظنيا فدلالته قَطْعِيَّة فقد تَعَارضا فِي القطعية والظنية فَكَانَ الْعَمَل بالخاص أرجح للْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ والإعمال خير من الإهمال
وَأَيْضًا فقد أَجمعت الصَّحَابَة على ذَلِك فخصصوا قَوْله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وخالتها أخرجه الْجَمَاعَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَمن ذَلِك تخصيصهم عمومات آيَات الْمَوَارِيث بالآحادية من الْأَحَادِيث كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ قَرِيبا وَبِالْجُمْلَةِ فَمن عرف السّنَن وقضايا الصَّحَابَة علم وُقُوع ذَلِك مِنْهُم بِلَا تردد وللمخالف أَدِلَّة لَا تنهض على مدعى فَلَا يفْتَقر النَّاظر إِلَى سردها وردهَا بعد بَيَان الرَّاجِح
الثَّالِث تَخْصِيصه بِالْإِجْمَاع وَهُوَ قَول الْجُمْهُور بل قد قيل إِنَّه إِجْمَاع ومثاله تَخْصِيص النِّسَاء وَالْعَبِيد من قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} فَإِن سُقُوط السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة عَنْهُمَا ثَابت بِالْإِجْمَاع وَقد نُوقِشَ فِي الْمِثَال وَلكنه لَا يبطل الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ قد تقرر بِأَن الاجماع من الْأَدِلَّة وَالدَّلِيل يجب الْعَمَل بِهِ وَمن الْعَمَل بِهِ تَخْصِيص الْعَام عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَى الْجمع بَين الْأَدِلَّة وإعمالها
الرَّابِع تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ ومثلوه بتنصيف الْحَد على العَبْد قِيَاسا على الْأمة الثَّابِت بقوله تَعَالَى {فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} قَالُوا فَالْعَبْد إِذا زنى فَعَلَيهِ نصف الْحَد قِيَاسا على الْأمة مَعَ شُمُول آيَة وَالزَّانِي لَهُ فخصص عُمُوم الْكتاب بِالْقِيَاسِ وَبَقِي مِثَال تَخْصِيصه بِالْعقلِ وَمثل بقوله تَعَالَى {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} فَإِن الْعقل خصّه بالسماوات وَالْأَرْض وبالمفهوم يَأْتِي مِثَاله قَوْلنَا ... وَهَكَذَا السّنة فِيمَا ذكرا ... وَخص بالآحاد مَا تواترا ...

(1/330)


أَي وكالكتاب الْعَزِيز وَالسّنة النَّبَوِيَّة فِي تخصيصها بالأدلة الْأَرْبَعَة وَالْعقل وَالْمَفْهُوم
الأول تخصيصها فِي الْكتاب مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اصدق ان اقاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا آله الا الله خص من أهل الْكتاب بقول تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} وتخصيصها مَذْهَب الْجُمْهُور وَهُوَ الْوَاضِح دَلِيلا
الثَّانِي بِالسنةِ وَهِي أَرْبَعَة أَقسَام لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون الْعَام متواترا أَو آحادا وَالْخَاص كَذَلِك فَهَذِهِ أَربع صور الْمُتَوَاتر بِمثلِهِ أَو بالآحاد فهاتان صُورَتَانِ وَالثَّانيَِة هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلنَا وَخص بالأحاد مَا تواترا أَي إِن الْآحَاد يخصص الْمُتَوَاتر والثالثه عكسها وَالرَّابِعَة الْآحَاد بالآحاد وَهِي كَثِيرَة الْوُقُوع بل مدَار أَكثر الْعُمُوم وَالْخُصُوص عَلَيْهِ ومثاله حَدِيث فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَخص عُمُومه بِحَدِيث لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة أخرجه السِّتَّة وَهَذَا فِي تخصيصها فِي القَوْل يجْرِي فِيهِ تخصيصها بِالْفِعْلِ والتقرير وأمثلة ذَلِك مبسوطة فِي الفواصل وَغَيره من المطولات
والتخصيص بِالْمَفْهُومِ وَاقع وَجَوَاز القَوْل بِهِ للْأَكْثَر قَالُوا لِأَنَّهُ قد تقرر أَنه مَا عدا اللقب من الْأَدِلَّة فَيجب الْعَمَل بِهِ كَمَا يجب بهَا ومثاله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لي الْوَاجِد يحل عُقُوبَته وَعرضه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ

(1/331)


وَابْن مَاجَه فَإِنَّهُ خص عُمُومه بقوله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} فمفهومها لَا تؤذهما بِحَبْس وَلَا غَيره وَهَذَا من تَخْصِيص السّنة بِمَفْهُوم الْكتاب وتخصيصها بِمَفْهُوم السّنة فِي الْمُخَالفَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره فَإِنَّهُ دَال على أَن جنس المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء وَقد خص عُمُومه بِمَفْهُوم حَدِيث إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل خبثا رَوَاهُ مَالك وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا فَإِنَّهُ دلّ بمفهومه على أَن مَا لم يبلغ قُلَّتَيْنِ حمل الْخبث وَأما التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ فَفِيهِ عشرَة أَقْوَال
الأول لِلْجُمْهُورِ أَنه يجوز وَدَلِيله مَا عَرفته فِي غَيره من التخصيصات وَهُوَ أَن الْقيَاس دَلِيل شَرْعِي وَقد قَامَ الدَّلِيل على الْعَمَل بِهِ فَالْفرق بَين موارده كَمَا وَقع للمخالفين فرق من غير فَارق عِنْد التَّحْقِيق وَاسْتِيفَاء التِّسْعَة الْأَقْوَال فِي المطولات من كتب الْفَنّ وَقد استوفاها فِي الفواصل وَكَذَلِكَ بِالْعقلِ قد قَالَ بِهِ الْجُمْهُور وَسبق بعض أمثلته وَبَعْضهمْ سمى التَّخْصِيص فِي مثل {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} أَن مَا لم تدمره من المشاهدات خص بالحس وَيُسمى مثل {الله خَالق كل شَيْء} أَن تَخْصِيصه بِكَوْنِهِ تَعَالَى لَيْسَ خَالق نَفسه بِالْعقلِ وَهَذَا خلاف لَفْظِي وَوَقع فِيهِ خلاف بِمَعْنى انه لَا يُقَال لَهُ تَخْصِيص بِالْعقلِ بل أَقُول هَذَا من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فَإِن قَوْله {تدمر كل شَيْء} لم يرد بِهِ دُخُول السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَتَّى يحْتَاج إِلَى إخْرَاجهَا بِالْعقلِ فَعَاد النزاع لفظيا
وَاعْلَم أَن هُنَا مسَائِل وَقع فِيهَا الْخلاف هَل يخص بهَا الْعَام أم لَا أَشَرنَا إِلَيْهَا بقولنَا

(1/332)


.. وَالْعَام لَا يقصره عَلَيْهِ ... سَببه ورأي من يرويهِ ...

وَهُوَ إبانة لمسألة عدم قصر الْعَام على سَببه وَهِي من مسَائِل الْخلاف بَين أَئِمَّة الْأُصُول ورأي الْجُمْهُور مَا أَفَادَهُ النَّاظِم من أَنه لَا يقصر على سَببه وَلذَا يَقُولُونَ الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب وَالْمرَاد بِالْعَام المستقل بِنَفسِهِ فِي الإفادة بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى أَن يضم إِلَى مَا قبله وَحَاصِله أَن خطاب الشَّارِع على سَبَب مَخْصُوص وسؤال عَن وَاقعَة مُعينَة إِن كَانَ لَفظه لَا يفْرض مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ مثل أَن يسْأَله الرجل عَن شَيْء معِين قَائِلا أَيحلُّ هَذَا قَالَ نعم أَو لَا فَلَا سَبِيل إِلَى إدعاء الْعُمُوم فِيهِ فَإِن الْعُمُوم فرع اسْتِقْلَال الْكَلَام بِنَفسِهِ بِحَيْثُ يفْرض الِابْتِدَاء بِهِ من غير تَقْدِيم سُؤال فَإِن ذَاك يتَمَسَّك بَعضهم بِاللَّفْظِ وَآخَرُونَ بِالسَّبَبِ فَأَما إِذا كَانَ لَا يثبت الِاسْتِقْلَال من دون تقدم السُّؤَال مُسْتقِلّا فَالْجَوَاب تَتِمَّة لَهُ وكالجزء مِنْهُ فَأَما إِذا كَانَ كَلَام الشَّارِع مُسْتقِلّا وَالسُّؤَال خَاص بِحَيْثُ لَو قدر نطقه بِهِ ابْتِدَاء لَكَانَ ذَلِك شرعا مِنْهُ وافتتاح تأسيس ومثاله فِي السُّؤَال قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة خلق المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ شَيْء ومثاله فِي غير السُّؤَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِشَاة لميمونة وَهِي ميتَة فَقَالَ أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر فَيعم الأول كل مَاء ويعم الثَّانِي كل إهَاب فَهَذَا هُوَ مَوْضُوع الْكَلَام

(1/333)


وَفِي شرح الْعَضُد إِذا كَانَ الْجَواب غير مُسْتَقل فَإِنَّهُ تَابع للسؤال فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والأمثلة مستوفاه فِي المطولات وَهَذِه الْمَسْأَلَة الْخلاف فِيهَا نسب إِلَى الشَّافِعِي فَقَالَ إِنَّه يقصر الْعَام على سَببه وَنقل عَنهُ أَكثر الصَّحَابَة خلاف هَذَا وَهُوَ أَنه يَقُول بقول الْأَكْثَر قَالَ الرَّازِيّ ومعاذ الله ان يَصح هَذَا النَّقْل عَن الشَّافِعِي أَي قصر الْعَامَّة على السَّبَب كَيفَ وَكثير من الْآيَات نزلت فِي أَسبَاب خَاصَّة
وَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال أُخْرَى وأحسنها قَول ابْن دَقِيق الْعِيد أَنه كَانَ يَقْتَضِي السِّيَاق وقرائن الْمقَام التَّخْصِيص فِي السَّبَب خص بِهِ الْعَام إِذْ الْوَاجِب اعْتِبَار مَا دلّ عَلَيْهِ السِّيَاق والقرائن وَإِن لم يقتض الْمقَام التَّخْصِيص فَالْوَاجِب اعْتِبَار الْعَام وَدَلِيل الْجُمْهُور أَن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ مَا زَالُوا يستدلون بالعمومات الْوَارِدَة على أَسبَاب فِي غير سَببهَا وَهِي نزلت فِي خَاص كآية الظِّهَار وَآيَة اللّعان وَغير ذَلِك من الْآيَات القرآنية الْوَارِدَة على أَسبَاب خَاصَّة وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة
وَأَيْضًا فَالْعِبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ ووروده على سَبَب لَا يُنَافِيهِ بل ذَلِك بِمَثَابَة الحكم على بعض أَفْرَاد الْعَام بموافق الْعَام وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا ابو ثَوْر وَأَيْضًا لَو أَرَادَ قصره عَلَيْهِ لما أَتَى بِعِبَارَة عَامَّة
قَالَ المنازع لَو كَانَ الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لجَاز تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ كَغَيْرِهِ من أَفْرَاد الْعَام وَهُوَ لَا يجوز بالِاتِّفَاقِ

(1/334)


وَأجِيب بِالْفرقِ بَين السَّبَب وَغَيره من أَفْرَاد الْعَام بِأَنَّهُ قَطْعِيّ الدُّخُول فِي الْإِرَادَة لوُرُود الْعَام عَلَيْهِ فَكَانَ كالنص الصَّرِيح فِيهِ وَإِلَّا لم يكن جَوَابا عَلَيْهِ فَامْتنعَ التَّخْصِيص بِهِ
وَقَوله وَرَأى من يرويهِ إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة فِيهَا خلاف أَيْضا بَين أَئِمَّة الْأُصُول وَهُوَ تَخْصِيص الْعُمُوم بِرَأْي من يرويهِ صحابيا كَانَ أَو غَيره كَمَا أطلقهُ النّظم وَبَعْضهمْ يَخُصُّهُ بِمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي صحابيا وَالْجُمْهُور على مَا يفِيدهُ النّظم من نفي التَّخْصِيص بِرَأْي الرَّاوِي وَخَالف فِي ذَلِك الْحَنَابِلَة وَالْحَنَفِيَّة اسْتدلَّ الْجُمْهُور بِأَن الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الْعُمُوم وَاجِب وَمذهب الرَّاوِي لَيْسَ بِدَلِيل عِنْدهم فَلَا يخص بِهِ وَإِلَّا لزم ترك الدَّلِيل لغير دَلِيل وَهُوَ غير جَائِز
قَالَ الْمُخَالف عمل الرَّاوِي بِخِلَاف مَا رَوَاهُ دَلِيل على اطِّلَاعه على دَلِيل التَّخْصِيص وَإِلَّا كَانَ فَاسِقًا لمُخَالفَته الدَّلِيل
قُلْنَا الدَّلِيل مَا رَوَاهُ لَا مَا رَآهُ إِذْ قد يكون دَلِيل التَّخْصِيص عِنْده عَن ظن أَو اجْتِهَاد وظنه واجتهاده لَا يجب علينا اتِّبَاعه فيهمَا وَلذَا كَانَ الصَّحَابَة يُخَالف بَعضهم بَعْضًا فِي الاجتهادات وَلَو كَانَ حجَّة لما جَازَ خِلَافه وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الصَّحَابِيّ فبالأولى أَن لَا يعْمل بِرَأْي غَيره
وَمن المخصصات المنفية قَوْله
كَذَلِك الْعَادة لَا تخص
وَلَا بإضمار على مَا نصوا ... قدر فِي الْمَعْطُوف وَالْعَام مَتى
خص فَفِي الْبَاقِي حَقِيقَة أَتَى
اشْتَمَل النّظم على ثَلَاث مسَائِل خلافية بَين أَئِمَّة الْأُصُول وَالرَّاجِح مَا فِي النّظم غَالِبا
الأولى التَّخْصِيص بِالْعَادَةِ وَالْمرَاد بِالْعَادَةِ الفعلية فَلَا يخص بهَا الْعَام وَذَلِكَ كَأَن يكون من الْعَادة أَن يَأْكُل أهل بَلْدَة طَعَاما مَخْصُوصًا كالبر مثلا فَصَارَت عَادَة فعلية ثمَّ يَأْتِي النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ فَهَذَا لَا يخص بهَا

(1/335)


الْعَام فَقَالُوا لِأَن لفظ الْعَام لم يطْرَأ عَلَيْهِ مَا يَنْقُلهُ عَن مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ وَالْعَادَة إِنَّمَا نشأت من اسْتِعْمَال أكل الْبر وَالدّلَالَة اللُّغَوِيَّة بَاقِيَة على حَالهَا فَهَذِهِ هِيَ المنفية فِي النّظم وَأما الْعَادة القولية فَلَا خلاف أَنه يخصص بهَا كَمَا صرح بِهِ أَئِمَّة الْأُصُول وَذَلِكَ كَأَن يُطلق فِي الْعرف الْعَام لفظ الطَّعَام على بعض أَفْرَاده كالشعير بِحَيْثُ إِذا أطلق الْعَام لم يتَبَادَر مِنْهُ إِلَّا ذَلِك الْفَرد فَهَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة وَهِي مُقَدّمَة على اللُّغَوِيَّة فيخص بهَا وَخَالفهُ الْحَنَفِيَّة فَقَالُوا لَا فرق بَين الفعلية فِي أَنه يخص بهما الْجُمْهُور على الْفرق لما عَرفته
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَوْلنَا وَلَا بإضمار على مَا نصوا إِشَارَة إِلَى مَا نَص عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأُصُول أَنه لَا يخص الْعَام بإضمار قدر فِي الْمَعْطُوف اقْتَضَاهُ الْمقَام فَإِنَّهُ لَا يخص بِهِ الْعَام فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هَذَا رَأْي الْجُمْهُور وَخَالفهُ الْحَنَفِيَّة فَقَالُوا يخص بِهِ لوُجُوب الْمُسَاوَاة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ مِثَاله حَدِيث أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا أَلا لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده قَالُوا فَيقدر فِي الْمَعْطُوف وَهُوَ وَلَا ذُو عهد

(1/336)


لفظ بِكَافِر تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ وَكَافِر نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم وتفيد أَن الْمعَاهد لَا يقتل بالذمي لكنه ثَبت الْإِجْمَاع بِأَنَّهُ يقتل الْمعَاهد بالذمي فخصصنا الْكَافِر الَّذِي قدرناه بالحربي أَي جَعَلْنَاهُ خَاصّا بِهِ فَصَارَ معنى الحَدِيث وَلَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر حَرْبِيّ وَهَذَا مرادنا بقولنَا قدر فِي الْمَعْطُوف قَالُوا فَيقدر كَذَلِك فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ ضَرُورَة للاشتراك والمساواة بَين المتعاطفين فَيُفِيد الحَدِيث جَوَاز قتل الْمُسلم بالذمي وَهُوَ رَأْي الْحَنَفِيَّة
وَأجِيب عَن الْحَنَفِيَّة بِأَن اللَّازِم من الْمُشَاركَة بَين المتعاطفين هُوَ الْمُشَاركَة فِي الْجُمْلَة إِن اقْتضى الْمقَام مُقَدرا فِي الْمَعْطُوف كَمَا ذكرْتُمْ فَلَا يلْزم تَقْدِيره فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِذْ لَا يشْتَرط اشتراكهما فِي أصل الحكم وَهُوَ هُنَا منع الْقَتْل وَلَا يلْزم من ذَلِك تَقْدِير من جَمِيع مَا يُمكن اضماره منى احدى الجملتين اذ التَّقْدِير خلاف الأَصْل وَيجب أَن يقْتَصر على قدر الْحَاجة فِيهِ وَهَذَا على تَسْلِيم أَنه لَا بُد من تَقْدِير بحربي وَإِلَّا فلك أَن تَقول لَا حَاجَة إِلَى تَقْدِيره بل يبْقى قَوْله وَلَا ذُو عَهده فِي عَهده بِكَافِر عَاما لكل كَافِر ويخص بِالْإِجْمَاع على قتل الْمعَاهد بالذمي
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَوْلنَا وَالْعَام مَتى خص فَفِي الْبَاقِي حَقِيقَة أَتَى وَهِي مَسْأَلَة الْعَام بعد التَّخْصِيص هَل هُوَ حَقِيقَة أَو مجَاز فَإِنَّهُ اخْتلف عُلَمَاء الْأُصُول هَل يكون حَقِيقَة بعد ذَلِك مجَازًا فالنظم أَفَادَ الَّذِي بعده حَقِيقَة وَهَذَا رَأْي الْحَنَابِلَة ومتأخري الشَّافِعِيَّة وَنقل عَن الشَّافِعِي وَعَن طَائِفَة كَثِيرَة من الْمُحَقِّقين
وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه مجَاز وَهُوَ قَول أَكثر الزيدية ومحققي الأشعرية وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ هما المشهوران وَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال أخر لَا يظْهر الرَّاجِح مِنْهَا بل هِيَ مرجوحة فَنَذْكُر دَلِيل هذَيْن الْقَوْلَيْنِ
قَالَ الْأَولونَ الْبَاقِي بعد التَّخْصِيص من أَفْرَاد الْعُمُوم وَلَفظ الْعَام

(1/337)


يتَنَاوَلهُ حَقِيقَة وَإِرَادَة وَإِخْرَاج بعض أَفْرَاد الْعَام من الحكم لبَيَان مَا أُرِيد من الْعَام بِقَرِينَة التَّخْصِيص وَلَا يلْزم الْمجَاز من ذَلِك فَمَا كل قرينَة تستلزمه إِذْ قرينَة الْمُشْتَرك تعين الْمَعْنى المُرَاد من مَعَانِيه وَلَا تصيره مجَازًا كَذَلِك الْعَام لَا يخرج بِالْقَرِينَةِ عَن مَوْضُوعه إِذْ الِاسْتِغْرَاق الَّذِي هُوَ مَدْلُول الْعَام بَاقٍ فِي الْمقَام غَايَته أَنه طَرَأَ عَلَيْهِ عدم إِرَادَة الْبَعْض وَأجِيب عَنهُ بِأَن تنَاوله للْبَاقِي لَا يُوجب كَونه حَقِيقَة فِيهِ إِذْ قد اسْتعْمل فِي غير مَا مَوضِع لَهُ فَإِنَّهُ مَوْضُوع للأستغراق وَقد خرج عَنهُ بقصره على بعض أَفْرَاد مَدْلُوله بِالْقَرِينَةِ وَهَذَا حَقِيقَة الْمجَاز قلت وَهَذَا الرَّد ناهض وَلَهُم مقاولات لَا تصير كَلَامهم راجحا
قَالَ أهل القَوْل الثَّانِي الْبَاقِي بعض التَّخْصِيص تَمام المُرَاد والتخصيص هُوَ الْقَرِينَة على تِلْكَ الْإِرَادَة وَمَعْلُوم ان مَدْلُول الْعَام هُوَ جَمِيع أَفْرَاده فَلَو كَانَ حَقِيقَة فِي جَمِيعهَا كَمَا اتفقنا عَلَيْهِ وَحَقِيقَة فِي الْبَعْض مِنْهَا كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ مُشْتَركا وَهُوَ خلاف الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإنَّا نقطع بِأَن الْبَاقِي بعد التَّخْصِيص هُوَ تَمام المُرَاد وَهَذَا هُوَ معنى الْمجَاز لِأَنَّهُ اللَّفْظ الْمَفْهُوم مَعْنَاهُ بِوَاسِطَة الْقَرِينَة المعنية للمراد وَلَا يخفى رُجْحَان هَذَا القَوْل لَا على مَا أَفَادَهُ النّظم لِأَن النّظم إِنَّمَا يَحْكِي قَول الأَصْل
وَاعْلَم أَن من مشاهير مسَائِل الْعَام مَسْأَلَة الْخلاف هَل هُوَ حجَّة بعد التَّخْصِيص أَو لَيْسَ بِحجَّة وَهَذِه أَخّرهَا صَاحب الأَصْل إِلَى بَاب الْمُجْمل والمبين وَذكرهَا النَّاظِم هُنَالك فَيَأْتِي تحقيقها إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَوْله ... وَقد جرى التَّخْصِيص فِي الْإِخْبَار ... فِي الْمَذْهَب الْمُهَذّب الْمُخْتَار ...

إِلْمَام بِمَسْأَلَة هَل يجْرِي التَّخْصِيص فِي الْإِخْبَار كَمَا يجْرِي فِي الْإِنْشَاء اتِّفَاقًا فخالفت شرذمة قَليلَة قَالُوا لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الْكَذِب وَهَذِه هِيَ شُبْهَة من منع الْمجَاز وَالْحق أَن الْكل جَائِز بل وَاقع قَالَ الله تَعَالَى {وَأُوتِيت من كل شَيْء} وَمَعْلُوم أَنَّهَا لم تؤت مَا أُوتِيَ سُلَيْمَان من الْأَشْيَاء وَقَالَ الله

(1/338)


تَعَالَى {تدمر كل شَيْء} وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِخْبَار مَخْصُوص كَمَا سبق وَلَا حَاجَة إِلَى الإطالة فِي بَيَان ضعف هَذِه الْمقَالة
وَقَوله ... وَلم يكن تعَارض فِي الْقطعِي ... مابين عَاميْنِ كَمَا فِي الفرعي ...

إبانة لمسألة تعرض لَهَا صَاحب الْفُصُول وَغَيره من أهل رَأْيه وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا العمومات فِي الْمسَائِل القطعية تكون قَطْعِيَّة الدّلَالَة وَذَلِكَ كعموم آيَات الْوَعْد والوعيد قَالُوا لِأَن الْمَطْلُوب من الْعُمُوم إِمَّا الْعَمَل وَإِمَّا الِاعْتِقَاد فَإِذا كَانَ الْمَطْلُوب الأول كفى فِيهِ الظَّن وَإِذا كَانَ الْمَطْلُوب الثَّانِي فَلَا بُد من أَن يكون قَطْعِيّ الدّلَالَة لِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يكون المُرَاد بِهِ غير ظَاهره من الْعُمُوم للَزِمَ أَن يكون الشَّارِع قد طلب منا الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي الِاعْتِقَاد وَالْجهل وَهُوَ قَبِيح لَا يجوز من الله تَعَالَى بِخِلَاف الْعَمَل فَإِنَّهُ لَا يقبح الْعَمَل بِمَا أَفَادَهُ الدَّلِيل الظني
وَأجِيب بِأَن كَونه قَطْعِيا فِي العمليات يسْتَلْزم عدم تَخْصِيصه لَا بظني إِذْ لَا يُعَارض الظني الْقطعِي وَلَا بقطعي للُزُوم تعَارض القواطع لِأَن الْفَرْض أَن هَذَا الْفرق بَين إِفْرَاد الْعُمُوم دَاخل قطعا تَحْتَهُ فإخراجه من الحكم عَن إِفْرَاد الْعُمُوم يُنَافِي دُخُوله تَحْتَهُ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك إِذا كَانَت دلَالَته ظنية لِأَن دُخُول الْفَرد الْمخْرج عَن الْعُمُوم غير مَقْطُوع بِهِ فَيكْشف التَّخْصِيص عَن عدم دُخُوله وَحِينَئِذٍ فقد ناقضتم أَنفسكُم لأنكم خصصتم عمومات الْوَعْد الْمُطلقَة بالعاصي وعمومات الْوَعيد الْمُطلقَة بالتائب وَلَو كَانَت العمومات فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد قَطْعِيَّة لما جَازَ التَّخْصِيص لما عرفت من حُصُول التَّنَافِي بِدُخُول مَا خص تَحت الْعَام قطعا وَخُرُوجه بالتخصيص فَيكون دَاخِلا خَارِجا
فَإِن قلت التَّخْصِيص كشف لنا عَن عدم دُخُوله قلت الْفَرْض أَن دُخُوله مَقْطُوع بِهِ فقد لزم من هَذِه الْقَاعِدَة تنَاقض الحكم حَيْثُ حكمتم بتخصيص بعض الْمسَائِل العلمية وَهُوَ لَا يجوز فَتعين بطلَان هَذِه الْقَاعِدَة الَّتِي

(1/339)


أنجزت إِلَى مَا لَا يجوز وَتعين الحكم باستواء مدلولات الْعَام فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد وَغَيره وَأَيْضًا فَإِن العمليات لَا بُد من حُصُول الِاعْتِقَاد فِيهَا من كَون الحكم حَلَالا أَو حَرَامًا فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِالدَّلِيلِ حَتَّى يعْتَقد الحكم من تَحْلِيل وَتَحْرِيم وَإِلَّا فَيلْزم اعْتِقَاد الْجَهْل كَمَا فِي العلمية وَهُوَ لَا يجوز وَمن هُنَا علمت أَن تفريقهم بَين العمومين غير صَحِيح
والإلزام الَّذِي قَالُوهُ باعتقاد الْجَهْل مَعَ الدَّلِيل الظني بَاطِل لِأَنَّهُ قد قَامَ الدَّلِيل على الْعَمَل بالأمارات الظنية فَيَكْفِي الِاعْتِقَاد الرَّاجِح فِيمَا أمرنَا بِهِ وَالْعَمَل بِمَا ظهر من الأمارات الظنية
وَأما اشْتِرَاط الْقطع فقد قَامَ مَا قَرَّرْنَاهُ على بُطْلَانه للُزُوم التَّنَاقُض مَعَه كَمَا عرفت إِذا عرفت هَذَا عرفت أَن النَّاظِم لَا يخْتَار مَا نظمه من أَنه لَا يَفِي التَّعَارُض بَين العمومين فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد بِنَاء على أَن الْعُمُوم فِيهَا قَطْعِيّ الدّلَالَة وقرينه أَن المُرَاد مسَائِل الِاعْتِقَاد شهرت الْمَسْأَلَة بَين أهل الْفَنّ
وَقَوله
وَصَحَّ فِي الْخَاص وَفِي الْعَام وَمَا
كَانَ أخيرا مِنْهُمَا قد علما ... كَانَ لَهُ الإعمال لَا مَا جهلا
تَارِيخه فَالْكل حتما أهملا
ضمير صَحَّ للتعارض الْمَنْفِيّ آنِفا أَي أَنه تعَارض الْعَام وَالْخَاص وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يعلم تَارِيخ ورودهما أَو يجهل
الأول ذكرت فِيهِ صُورَتَانِ
الأولى مِنْهُمَا أَن يتقاربا أَي يتَّصل أَحدهمَا بِالْآخرِ إِلَّا مَا لَا يعد فاصل كَنَفس وسعال أَو لَا
الثَّانِيَة أَن لايتقاربا وَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يتَأَخَّر أَحدهمَا بِمدَّة تتسع للْعَمَل بِالْأولِ اولا فَهَذِهِ الْأَطْرَاف من الْقسم الأول قد شملها قَوْلنَا

(1/340)


وَمَا كَانَ أخيرا مِنْهُمَا قد علما فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ من جملَة الْأَطْرَاف حَالَة التقارن فَلَيْسَ المُرَاد بالتقارن الْحَقِيقِيّ لِاسْتِحَالَة ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَلَا بُد أَن يتَقَدَّم أَحدهمَا وَيكون مَا اتَّصل بالمتقدم مُتَأَخِّرًا فتشمله عبارَة النّظم وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يجب إِعْمَال الْأَخير مِنْهُمَا وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْله كَانَ لَهُ الإعمال إِلَّا أَن إعماله قد يكون على جِهَة النّسخ وَقد يكون على جِهَة التَّخْصِيص لِأَنَّهُ يتَصَوَّر فِي أَطْرَاف ثَلَاثَة هِيَ إِمَّا أَن يتقارنا أَو يتَأَخَّر الْخَاص أَو يتَأَخَّر الْعَام
الأول تقارنهما نَحْو أَن يرد اقْتُلُوا الْمُشْركين وَلَا تقتلو أهل الذِّمَّة أَو يعكس فَيحكم بِأَن الْأَخير مَعَ التقارن الْعَام فَهَذَا حكمه أَن يَبْنِي الْخَاص على الْعَام بِمَعْنى أَنه يحكم بتخصيص الْعَام وَلَا يَصح الحكم بالنسخ هُنَا لعدم التَّرَاخِي
الثَّانِي أَن يتَأَخَّر الْخَاص فإمَّا أَن يتَأَخَّر بِمدَّة لَا تتسع للْعَمَل فِيهَا كَأَن يُقَال اقْتُلُوا الْمُشْركين عِنْد انسلاخ الشَّهْر الْفُلَانِيّ ثمَّ يَأْتِي النَّهْي عَن قتل أهل الْكتاب قبل انسلاخه فَهَذَا يخصص بِهِ الْعَام عِنْد الْجُمْهُور وَإِمَّا أَن يتَأَخَّر بِمدَّة تتسع للْعَمَل فِيهَا فَلَا يَخْلُو اما ان يكون قد وَقع كَأَن يَنْسَلِخ الشَّهْر الْفُلَانِيّ وَقد وَقع الْقَتْل ثمَّ يرد النَّهْي فَهَذَا نسخ بِلَا خلاف إِذا كملت شُرُوطه أَو لم يكن قد وَقع كَأَن يَنْسَلِخ الشَّهْر قبل وُقُوع الْقَتْل ثمَّ يرد النَّهْي عَن قتل أهل الذِّمَّة فَهُوَ أَيْضا نَاسخ عِنْد الْجُمْهُور المانعين لتأخير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِذْ وَقت الْحَاجة إِلَى الْبَيَان هُنَا هُوَ عِنْد انسلاخ الشَّهْر
الثَّالِث من الْأَطْرَاف هُوَ أَن يتَأَخَّر الْعَام عَن الْخَاص فإمَّا أَن يتَأَخَّر بِمدَّة لَا تتسع للْعَمَل بالخاص بني الْعَام على الْخَاص وَكَانَ تَخْصِيصًا عِنْد الْجُمْهُور وَإِمَّا أَن يتَأَخَّر بِمدَّة تتسع للْعَمَل بالخاص فَإِنَّهُ عِنْدهم يكون الْعَام نَاسِخا للخاص وَلَا يبْقى لَهُ أثر فِيمَا تنَاوله من مَدْلُول الْعَام وَهَذَا هُوَ ظَاهر كَلَام النّظم حَيْثُ قَالَ كَانَ لَهُ الإعمال فَإِنَّهُ إِنَّمَا لَا يتَحَقَّق إِعْمَال الْعَام

(1/341)


الْمُتَأَخر إِلَّا بِإِبْطَال الْخَاص فِيمَا يتَنَاوَلهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور قَالُوا وَدَلِيله أَن الْخَاص دَلِيل مُسْتَقل وَبعد مُضِيّ الْوَقْت الَّذِي اتَّسع للْعَمَل بمدلوله لم يبْق أَي الْخَاص مُوجبا للْعَمَل بِهِ بعد وُرُود الْعَام لظُهُوره فِي جَمِيع أَفْرَاده ولضعف الْخَاص بعد مُضِيّ وَقت الْعَمَل بِهِ وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَنه يكون تَخْصِيصًا للْعُمُوم وَهُوَ قَول طَائِفَة مِنْهُم الشَّافِعِي كَمَا قَالَ النَّاظِم ونجل إِدْرِيس إِلَى آخِره وَاسْتَدَلُّوا بِقُوَّة الْخَاص فِي دلَالَة وتقدمه يكون قرينَة على أَنه لم يرد بِالْعَام جَمِيع أَفْرَاده قَالُوا وَإِن كَانَ الْعَمَل بالدليلين أولى من إبِْطَال الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا
قَالُوا أَيْضا فالتخصيص أغلب من النّسخ وَهَذَا القَوْل رَجحه كثير من الْمُتَأَخِّرين وأشرنا إِلَى تَرْجِيحه بقولنَا
ونجل إِدْرِيس يرى أَن يعملا
بِكُل شَيْء فِي الَّذِي تناولا ... تقدم التَّخْصِيص أَو تأخرا
أَو جهل التَّارِيخ هَذَا مَا يرى ... وَأَنه الأولى إِلَى الصَّوَاب
وَاخْتَارَهُ محققوا الْأَصْحَاب
فَفِي حَوَاشِي الْفُصُول أَنه ذكره الْفَقِيه عبد الله بن زيد للْمَذْهَب قَالَ وَهُوَ اخْتِيَار لوالدي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير رَحمَه الله تَعَالَى انْتهى وَنسبه فِي شرح الْغَايَة إِلَى الْمُؤَيد بِاللَّه وَأَنه صرح بِهِ فِي شرح التَّجْرِيد
ثمَّ إِنَّه لَا يخفى أَن بِنَاء الْعَام على الْخَاص إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَ بَينهمَا عُمُوم وخصوص مُطلق فَأَما إِذا كَانَ بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ مَا سبق من خلاف إِذْ لَيْسَ تَخْصِيص أَحدهمَا بِعُمُوم الآخر بِأولى من الْعَكْس

(1/342)


فَلَا بُد من تطلب التَّرْجِيح بَينهمَا مِثَال ذَلِك حَدِيث من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ مَعَ نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل النِّسَاء فَإِن الأول خَاص بالمرتدين عَام للذكور وَالْإِنَاث وَالثَّانِي خَاص بِالنسَاء عَام فِي الحربيات والمرتدات قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي حَاشِيَة الْإِلْمَام وَكَأن مُرَادهم بالترجيح التَّرْجِيح الْعَام الَّذِي لَا يخص مَدْلُول الْعَام وَذَلِكَ كالترجيح بِكَثْرَة الروَاة وَسَائِر الْأُمُور الخارجية عَن مَدْلُول الْعَام من حَيْثُ هُوَ انْتهى
هَذَا وَقد سبق تَحْقِيق أَقسَام مَا علم تَارِيخه وَبَقِي الْقسم الَّذِي جعل تَارِيخه فَإِنَّهُ لَا يعرف الْمُتَقَدّم من الْمُتَأَخر فالجمهور أَنَّهُمَا يتعارضان فِي الْقدر الَّذِي تنَاوله الْخَاص فَيجب النّظر فِي التَّرْجِيح بَينهمَا فَإِن ظهر فَالْمُرَاد وَإِلَّا فَالْوَاجِب اطراحهما فِيمَا تَعَارضا فِيهِ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ النّظم بقوله لَا مَا جهلا تَارِيخه فَالْكل حتما أهملا أَي من كل من الْعَام وَالْخَاص بِالْقدرِ الَّذِي تنَاوله الْخَاص وَلَيْسَ المُرَاد أَن يطْرَح الْعَام بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يُفِيد ظَاهر الْعبارَة وَهَذَا إِذا تَسَاويا لَا لَو ظهر وَجه تَرْجِيح لأَحَدهمَا عمل بالراجح وَهَذَا قَول

(1/343)


الْأَكْثَر وَقيل بل يبْنى الْعَام على الْخَاص وَهَذَا لأبي طَالب ويروى عَن الشَّافِعِيَّة وَعَن الْمَالِكِيَّة وَذَلِكَ لقُوَّة دلَالَة الْخَاص على مَدْلُوله ولإمكان الْعَمَل بالدليلين إِذا جعل الْخَاص مُخَصّصا للْعُمُوم
وَلما بلغنَا فِي قِرَاءَة شرح الْغَايَة الْمَعْرُوف بالهداية إِلَى هَذَا الْموضع وَقد استوفى المباحث هَذِه فِي شرحها أَنْشدني شَيخنَا رَحمَه الله حَال الْقِرَاءَة لنَفسِهِ فِي ضبط صور بِنَاء الْعَام على الْخَاص فَقَالَ
يبْنى الْعُمُوم على الْخُصُوص بِأَرْبَع
صور على القَوْل لأجل فَقل أجل ... مَعَ جهل تَارِيخ وَعند تقارن
وتفارق زَمنا يضيق عَن الْعَمَل ... وَكَذَا بمتسع يكون عُمُومه
مُتَأَخِّرًا وَالْعَكْس نسخ لم يزل
وَلما انْتهى بِنَاء الْكَلَام إِلَى آخر أبحاث الْعَام وَالْخَاص أَخذنَا فِي الْمُطلق والمقيد بقولنَا
فصل حوى الْمُطلق والمقيدا
فَالْأول الْمُفِيد حَيْثُ وردا ... شيوعه فِي جنسه وَالثَّانِي
مَا دلّ مَعَ قيد فَخذ تبياني
فحقيقة الْمُطلق هُوَ اللَّفْظ الْمُفِيد لشيوع جنسه أَي شيوع مَدْلُوله فِي جنسه فالمفيد صفة مَوْصُوف ومحذوف وَالْمرَاد بالشيوع مَدْلُوله فِي جنسه كَون مَدْلُوله حِصَّة مُحْتَملَة لحصص كَثِيرَة مِمَّا ينْدَرج تَحت أَمر مُشْتَرك من غير تعْيين وَهَذَا يُوَافق قَوْلهم إِن الْمَطْلُوب من الْمُطلق هُوَ الجزئي المطابق للماهية لَا كَمَا زَعمه فِي جمع الْجَوَامِع تبعا لغيره أَن الْمَطْلُوب هُوَ الْمَاهِيّة إِذا عرفت هَذَا فَإِنَّهُ خرج بِقَيْد الشُّيُوع الْعلم والمبهمات والمضمرات لما فِيهَا من التَّعْيِين نَحْو زيد وَهَذَا وَالَّذِي وَأَنا فَهَذَا فَائِدَة قَوْله من غير تعْيين إِذْ لولاه لدخل غير الْعلم من المعارف لاحتمالها حصصا كَثِيرَة تندرج تَحت أَمر مُشْتَرك من حَيْثُ الْوَضع وَخرج نَحْو الْأسد وَأُسَامَة فَإِن كلا مِنْهُمَا يدل على

(1/344)


الْحَيَوَان المفترس مَعَ الْإِشَارَة إِلَى تَعْيِينه وَالْفرق بَين الْمُعَرّف بلام الْجِنْس وَعلم الْجِنْس أَن التَّعْيِين اسْتُفِيدَ من اللَّام فِي الأول واستفيد فِي الثَّانِي من جَوْهَر لَفظه وَخرج الْمُعَرّف بلام الْعَهْد الْخَارِجِي وَخرج كل عَام وَلَو نكرَة نَحْو كل رجل وَلَا رجل لِأَن مَدْلُول الْعَام استغراقي وَعُمُوم الْمُطلق بدلي كَمَا عرفت وَهُوَ يُنَافِي الشُّيُوع بالتفسير الْمَذْكُور فَهَذَا رسم الْمُطلق وفوائد قيوده
وَأما الْمُقَيد فَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلنَا وَالثَّانِي مَا دلّ أَي لفظ دلّ على بعض مَدْلُول الْمُطلق مَعَ قيد زَائِد عَلَيْهِ وَالْمرَاد بالقيد مَا يفهم معنى زَائِدا على مَا فِي الْمُطلق سَوَاء كَانَ معنويا أَو لفظيا فَمثل زيد فِي أكْرم زيدا بعد قَوْلك أكْرم رجلا قد اسْتُفِيدَ مِنْهُ تَقْيِيده بذلك الشَّخْص الدَّال عَلَيْهِ الِاسْم وَمثل رَقَبَة مُؤمنَة بعد قَوْلك أعتق رَقَبَة قد اسْتُفِيدَ من الْمُقَيد الملفوظ بِهِ وَهُوَ مُؤمنَة الْمَعْنى الزَّائِد على الْمُطلق ... وكل مَا فِي الْعَام وَالْخَاص أَتَى ... فَخذه منفيا هُنَا ومثبتا ...

يُرِيد أَن كل مَا مضى من الأبحاث الْعَام وَالْخَاص من مُتَّفق عَلَيْهِ ومختار ومزيف فَإِنَّهُ يَأْتِي هُنَا فَإِن تَقْيِيد الْمُطلق نشيبه بتخصيص الْعَام لكَون التَّقْيِيد كالإخراج بِبَعْض إِفْرَاد الْمُطلق كَمَا أَن التَّخْصِيص لإِخْرَاج بعض إِفْرَاد الْعَام وَإِن كَانَت الصلاحية فِي الْمُطلق على جِهَة الْبَدَل وَفِي الْعَام على جِهَة الشُّمُول والاستغراق فَالْمُرَاد التَّنْبِيه على تشارك الْعَام والمنطلق فِي أَكثر الْأَحْكَام الَّتِي سبقت فِي بَاب الْعَام وَالْخَاص وَإِن كَانَا يفترقان فِي أُمُور كَمَا يَأْتِي وَإِذا عرفت هَذَا فاللمطلق والمقيد حالات فِي النّظر إِلَى الِاتِّحَاد فِي الحكم وَالسَّبَب وَالِاخْتِلَاف فِي أَحدهمَا أَو فيهمَا مَعًا
الْحَالة الأولى اتِّحَاد السَّبَب وَالْحكم إِلَيْهَا اشار قَوْلنَا ... فَإِن يَكُونَا وردا فِي حكم ... يحكم بالتقييد أهل الْعلم ...

أَي إِذا ورد الْمُطلق والمقيد فِي حكم وَاحِد واتحد سببهما فَإِنَّهُ يحكم بالمقيد على الْمُطلق مِثَاله أَن يُقَال فِي الظِّهَار أعتق رَقَبَة ثمَّ يُقَال أعتق رَقَبَة

(1/345)


مُؤمنَة فِي الظِّهَار وَقَوله أهل الْعلم مُرَاده أَكْثَرهم وَإِن كَانَ فِي أصل النّظم أَنه اتِّفَاق وَقد ذكر فِيهِ خلاف النَّادِر والعبارة قاضية فِي أَنه يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد سَوَاء تقارنا أَو تقدم أَحدهمَا أَو تَأَخّر أَو جهل التَّارِيخ
إِذا تقرر هَذَا فَهَذَا الحكم اسْتدلَّ بِهِ الْجُمْهُور بِأَنَّهُ جمع بَين الدَّلِيلَيْنِ إِذْ الْعَمَل بالمقيد عمل بالمطلق فِي ظن الْمُقَيد فَإِنَّهُ تقرر أَن الْمُطلق دَال على أَفْرَاده على جِهَة الْبَدَل فَيصدق الْمُطلق فِي ضمن أَي فَرد مِنْهَا وَيكون الْمُقَيد دَلِيلا على أَنه المُرَاد من الْمَطْلُوب بالمطلق لَا غَيره من الْإِفْرَاد فتحقق كَون الْعَامِل بِهِ عَاملا بالمطلق الَّذِي عينه الْمُقَيد وَلذَا يَقُولُونَ إِنَّه عمل بالمطلق فِي ضمن الْمُقَيد
قَالُوا وَأَيْضًا الْعَمَل بالمقيد خُرُوج عَن الْعهْدَة يَقِينا بِخِلَاف الْعَمَل بالمطلق فقد يكون الْمَطْلُوب هوالمقيد فَلَا يخرج عَن عُهْدَة التَّكْلِيف بالمطلق فَكَانَ الْعَمَل بالمقيد أحوط بل هُوَ الَّذِي يتَعَيَّن وَلَو كَانَ مَفْهُوم الْمُقَيد لقبا لِأَن دلَالَة الْمُطلق على إِفْرَاده بِدَلِيل وَالْمَطْلُوب هُوَ الجزئي المطابق للماهية فأدنى إِمَارَة تَكْفِي فِي تعْيين ذَلِك الجزئي وَتَعْيِين الْمَطْلُوب بالمطلق وَالْمَنْع من الْعَمَل بِمَفْهُوم اللقب إِنَّمَا كَانَ لِئَلَّا تثبت بِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَيجْعَل دَلِيلا مُسْتقِلّا بِخِلَاف الْعَمَل بِهِ هُنَا فَإِنَّمَا هُوَ على جِهَة أَنه قرينَة مُعينَة لما تقرر من أَن الْمَطْلُوب بالمطلق هُوَ الجزئي المطابق للماهية فَلم يسْتَقلّ بالإفادة ومثاله أعتق رَقَبَة أعتق رَقَبَة أُنْثَى فَإِنَّهَا لما كَانَت الرَّقَبَة شائعة بَين الْأَفْرَاد على جِهَة الْبَدَل وَجَاء التَّقْيِيد بِمَا ذكر أَفَادَ تعْيين مَا أُرِيد بالمطلق وَلذَا جَازَ تَقْيِيد الْمُطلق بِالْعَادَةِ وَلم يجز بهَا التَّخْصِيص مَا ذَاك إِلَّا لِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِأَدْنَى إِمَارَة فِي تعْيين الْمُطلق وَهَذَا قد صرح بِهِ الْمُحَقق الْمحلي فِي شرح الْجمع هَذَا كُله إِذا اتحدا حكما وسببا وَهِي الْحَالة الأولى لَا إِذا وَقع الِاخْتِلَاف فَهِيَ الْحَالة الثَّانِيَة فقد أبان حكمه قَوْلنَا

(1/346)


.. لَا إِن أَتَى الحكمان من جِنْسَيْنِ ... إِلَّا قِيَاسا ثمَّ مثل دين ...

أَي لَا إِن اخْتلف الحكمان فَإِنَّهُ لَا يحكم بالتقييد لظُهُور التَّنَافِي بَين الْمُطلق والمقيد من الِاخْتِلَاف فِي الحكم وَهُوَ المُرَاد من قَوْله من جِنْسَيْنِ وَظَاهر عبارَة النّظم أَنه لَا حمل إِذا قد حصل اخْتِلَاف الْحكمَيْنِ سَوَاء اتحدا فِي السَّبَب نَحْو صم يَوْمًا فِي الْكَفَّارَة وَأطْعم طَعَام الْمُلُوك فِي الْكَفَّارَة اَوْ اخْتلفَا نَحْو اهد بَدَنَة عَن الْقرَان وزك بَدَنَة سَائِمَة عَن النّصاب وَقد أَفَادَ فِي المعيار الِاتِّفَاق على أَنه لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد هُنَا وَمثله فِي الْفُصُول وَعليَّة السُّؤَال إِلَّا أَنه قد قيد هَذَا الاطلاق فِي عبارَة النّظم قَوْله إِلَّا قِيَاسا إِلَى آخِره فَإِنَّهُ لَا يحمل عَلَيْهِ لفظا من حَيْثُ الدّلَالَة بِخِلَاف حمله عَلَيْهِ قِيَاسا فَإِنَّهُ ذكر هَذَا الْمهْدي فِي المعيار إِلَّا أَنه قد اسْتشْكل القَوْل بِالْقِيَاسِ هُنَا أَي مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الحكم لِأَنَّهُ لَا قِيَاس مَعَه إِذْ الْقيَاس إِنَّمَا يكون الْإِلْحَاق فِي الحكم
وَالْحَاصِل أَن كَلَام أهل الْأُصُول مُضْطَرب فِي الالحاق بِالْقِيَاسِ فِي هَذِه الْحَال وَإِنَّمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْحَالة الثَّانِيَة الَّتِي أفادها قَوْله ... حكم اخْتِلَاف الْجِنْس فِي الْأَسْبَاب ... هَذَا هُوَ الْمُخْتَار فِي الْكتاب ...

(1/347)


وَهُوَ خبر قَوْله ثمَّ مثل ذين أَي أَن حكم اخْتِلَاف الْجِنْس المتحد فِي الْأَسْبَاب وَإِضَافَة اخْتِلَاف إِلَى الْجِنْس إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار اخْتِلَاف السب وَإِلَّا فالجنس هُنَا مُتحد وَالْإِضَافَة يَكْفِي فِيهَا أدنى مُلَابسَة وقرينة الْمقَام تنادى بالمرام من الْكَلَام وَمِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى فِي الظِّهَار {فَتَحْرِير رَقَبَة} وَفِي الْقَتْل {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} فالجنس مُتحد وَهُوَ الْكَفَّارَة وَالسَّبَب مُخْتَلف وَهُوَ الْقَتْل وَالظِّهَار فَفِي هَذِه الصُّورَة لَا يحكم بالتقييد إِلَّا على جِهَة الْقيَاس وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور قَالُوا إِذْ الْقيَاس دَلِيل شَرْعِي فَإِذا ظهر وَجه الْإِلْحَاق بِشُرُوطِهِ عمل بِهِ هُنَا وَعبارَة الأَصْل هَكَذَا لَا فِي فِي حكمين مُخْتَلفين من جِنْسَيْنِ اتِّفَاقًا إِلَّا قِيَاسا وَلَا حَيْثُ اخْتلف السَّبَب واتحد الْجِنْس على الْمُخْتَار اى وَلَا حَيْثُ اخْتلف السَّبَب واتحد الْجِنْس إِلَّا قِيَاسا على الْمُخْتَار فَقَوله على الْمُخْتَار قيد للْحَمْل على الْقيَاس فِي الْحَالَتَيْنِ وَحِينَئِذٍ يكون رَأْيه رَأْي الْجُمْهُور فِي صِحَة الْحمل قِيَاسا فِي هَذِه الْحَالة وَهَذَا هُوَ اولى فِي حل عِبَادَته لِأَنَّهُ اذا اجيز الحكم بالألحاق قِيَاسا مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الحكم كَمَا سبق فبالأولى مَعَ اتِّحَاد الحكم كَمَا فِي هَذِه الْحَالة الَّتِي نَحن بصددها إِذْ من الْبعيد أَن يَصح الْقيَاس مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الحكم وَلَا يَصح مَعَ الِاتِّحَاد
وَقَوْلنَا هَذَا هُوَ الْمُخْتَار أَي الحكم بِالْقِيَاسِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَقد اخْتلف فِي الْمَسْأَلَة على أَقْوَال
الأول أَنه يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي هَذِه الْحَالة سَوَاء وجد الْجَامِع

(1/348)


أم لَا قَالَ أَئِمَّة من الشَّافِعِيَّة إِنَّه ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابه
الثَّانِي لَا يحمل عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل من قِيَاس أَو غَيره وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من الزيدية والمتكلمين
الثَّالِث للحنفية أَنه لَا يحمل هُنَا الْمُطلق على الْمُقَيد وَلَو وجد الْجَامِع قَالُوا لِأَن أَعمال الدَّلِيلَيْنِ وَاجِب مهما أمكن الْعَمَل فَيعْمل بالمطلق على إِطْلَاقه وبالمقيد على تَقْيِيده بِخِلَاف مَا لَو حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فَإِنَّهُ يلْزم مِنْهُ إبِْطَال الْمُطلق فِي غير مَا دلّ عَلَيْهِ الْقَيْد وَقد أُجِيب عَن دليلهم بِمَا لَا يقوى على رده
وَاسْتدلَّ الْأَولونَ الْقَائِلُونَ بِالْحملِ قِيَاسا بِأَن الْقيَاس دَلِيل شَرْعِي فَإِذا وجد الْجَامِع كَانَ بِمَثَابَة نَص مُقَيّد للمطلق وَأجِيب بِأَن من شَرط الْقيَاس أَن يكون لإِثْبَات حكم شَرْعِي وَهنا الْمُقَيد بِرَقَبَة مُؤمنَة دلّ على إِجْزَاء الرَّقَبَة المؤمنة وَأما عدم إِجْزَاء غَيرهَا فَهُوَ ثَابت بِالْعدمِ الْأَصْلِيّ لَا بِحكم شَرْعِي فتعدية الحكم بِالْقِيَاسِ لم تكن للْحكم الشَّرْعِيّ بل للعدم الْأَصْلِيّ وَهُوَ عدم إِجْزَاء الْكَافِرَة وَلَا يخفي قُوَّة كَلَام الْحَنَفِيَّة فِي الْمَسْأَلَة
وَلما فرغ الْكَلَام من الْمُطلق والمقيد أردفه بالمجمل والمبين فَقَالَ

(1/349)