أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب السَّابِع فِي الْمُجْمل الْمَذْكُور فِي الْخطاب
... وَقد أَتَى فِي سَابِع الْأَبْوَاب ... الْمُجْمل الْمَذْكُور فِي الْخطاب ...

الْمُجْمل فِي اللُّغَة يُقَال على الْمَجْمُوع وَمِنْه أجمل الْحساب إِذا جمعه وعَلى الْإِبْهَام من أجمل الْأَمر أَي أبهمه وَهَذَا يُنَاسب أَن يكون الْمُجْمل فِي الِاصْطِلَاح مأخوذا مِنْهُ وَقد رسمه النَّاظِم بقوله ... ورسمه مَا لَيْسَ مِنْهُ يفهم ... مفصلا مَا قصد المكلم ...

أَي رسم الْمُجْمل مَا لَيْسَ يفهم مِنْهُ مَا قصد الْمُتَكَلّم فكلمة مَا مُرَاد بهَا اللَّفْظ كَمَا يشْعر بِهِ قَوْله مَا قصد المكلم وَهَذَا بِنَاء على الْأَغْلَب وَإِلَّا فالإجمال قد يكون فِي الْأَفْعَال كالأقول وَلَك أَن تحمله على مَا يشملهما فيراد بالمكلم من شَأْنه التَّكَلُّم أَعم من أَن يكون بِفِعْلِهِ أَو بقوله وَهَذَا أولى ليشْمل الْأَمريْنِ والإجمال فِي الْأَفْعَال كَأَن يقوم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرَّكْعَة الثَّانِيَة من غير تشهد فَإِنَّهُ مُتَرَدّد بَين أَن يكون على جِهَة الْعمد فَيكون من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَو السَّهْو فَلَا يدْخل فِيهَا هَذَا وَقد خرج من الرَّسْم الْمَذْكُور الْمُبين إِذْ يفهم مِنْهُ مَا قصد المكلم على جِهَة التَّفْصِيل وَخرج المهمل بطرِيق الْمَفْهُوم إِذْ قد أَفَادَ توجه النَّفْي إِلَى الْقَيْد أَعنِي مفصلا أَنه يفهم مِنْهُ شَيْء فِي الْجُمْلَة غير مفصل
إِذا تقرر هَذَا فالمجمل قد يكون فِي الْمُفْرد كعين بِنَاء على أَنه لَا يَصح

(1/350)


حمل الْمُشْتَرك على جَمِيع مَعَانِيه وَمن قَالَ يَصح لم يكن عِنْده الْعين مُجملا وَيكون فِي الْمركب {أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ ولي النِّكَاح المتولى للْعقد أَو الزَّوْج وَيكون فِي الضَّمِير كَمَا رُوِيَ عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَنه سُئِلَ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَيهمَا أفضل وَكَانَ على الْمِنْبَر فَقَالَ من كَانَت ابْنَته تَحْتَهُ وَنزل وَقد يكون فِي الصّفة نَحْو زيد طَبِيب ماهر فَإِنَّهُ يحْتَمل أَنه ماهر فِي الطِّبّ وَيحْتَمل أَنه طَبِيب وَأَنه ماهر وَفرق بَين الْأَمريْنِ فَإِن الأولى تفِيد المهارة فِي الطِّبّ وَالثَّانيَِة أَعم والأمثلة مبسوطة فِي المطولات
وَالْمرَاد معرفَة الضَّابِط فِي الرَّسْم
خِلَافه يَدعُونَهُ مُبينًا
ثمَّ الْبَيَان مَا أَفَادَ مَا عَنى ... من المُرَاد بِالْخِطَابِ الْمُجْمل
وَصَحَّ بِالسَّمْعِ الْبَيَان فاقبل
أَي خلاف الْمُجْمل يسمونه الْمُبين وَهُوَ مَا يفهم مِنْهُ الْمَقْصُود على جِهَة التَّفْصِيل وَهَذَا صَادِق على الْمُبين بِنَفسِهِ نَحْو السَّمَاء وَالْأَرْض {وَالله بِكُل شَيْء عليم} وعَلى الْبَيَان بعد الْإِجْمَال وَلما كَانَ الْمَقْصُود هُوَ الآخر صرح بِهِ قَوْله ثمَّ الْبَيَان إِلَى آخر المصراع الأول من الْبَيْت الثَّانِي أَي الْبَيَان شَيْء أَفَادَ مَا عناه الْمُتَكَلّم بِالدَّلِيلِ الْمُجْمل من مُرَاده فَقَوله شَيْء جنس الْحَد وَقَوله أَفَادَ مَا عَنى يدْخل فِيهِ الْمُجْمل على مَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا من أَنه لَا بُد أَن يُفِيد إِفَادَة مَا وَقَوله بِالدَّلِيلِ أخرج الْمحمل وَأما قَوْله وَصَحَّ

(1/351)


بِالسَّمْعِ الْبَيَان أَي صَحَّ بَيَان الْمُجْمل بِالسَّمْعِ كتابا وَسنة وإجماعا وَقِيَاسًا نَحْو {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَإِنَّهُ مُجمل بَينه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر وَمَا سقِِي بالنضح نصف الْعشْر أخرجه البُخَارِيّ وَغَيره وَهَذَا النَّوْع وَاسع فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَقد يكون بِالسنةِ الفعلية نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي أخرجه البُخَارِيّ وَغَيره وَنَحْو خُذُوا عني مَنَاسِككُم كَمَا فِي حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم قيل وَهُوَ أقوى من الْبَيَان بالْقَوْل كَمَا يدل لَهُ حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح وَابْن حبَان وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَزَاد فَإِن الله أخبر مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام عَمَّا صنع قومه من بعده فَلم يلق الألواح فَلَمَّا عاين ذَلِك ألْقى الألواح
وَأما الْبَيَان بِالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس فَفِيهِ الْخلاف الَّذِي وَقع فِي جَوَاز التَّخْصِيص بهما وَاعْلَم أَنه إِذا ورد بعد الْمُجْمل قَول وَفعل يفيدان بَيَانه فَإِن علم السَّابِق مِنْهُمَا فَهُوَ الْبَيَان وَالثَّانِي تَأْكِيد فعلا كَانَ أَو قولا وَإِن جهل فأحدهما هُوَ الْمُبين لَا على جِهَة التَّعْيِين لعدم الْعلم بالسابق وَالْآخر حكم التَّأْكِيد هَذَا إِن اتفقَا فَإِن اخْتلفَا أَن يَأْمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْحَج بِطواف وَيَطوف طوافين فَقيل الْمُبين هُوَ القَوْل تقدم أَو تَأَخّر أَو جِهَة وَهَذَا رَأْي الْجُمْهُور قَالُوا لِأَن القَوْل يدل على الْبَيَان بِنَفسِهِ بِخِلَاف الْفِعْل فَإِنَّهُ لَا يدل إِلَّا بِوَاسِطَة انضمام القَوْل إِلَيْهِ فَكَانَ بِالْبَيَانِ أولى من الْفِعْل وَيحمل الثَّانِي على النّدب أَو على أَنه خَاص بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/352)


وَاعْلَم أَنه ذكر فِي أصل النّظم أَنه لَا يلْزم أَن تكون شهرته الْبَيَان كشهرة الْمُبين فَلم نذكرهُ هُنَا لِأَنَّهُ قد سبق مَا يفِيدهُ فِي بَاب الْعَام وَالْخَاص حَيْثُ قُلْنَا وَخص بالآحاد مَا تواترا
وَالْحَاصِل أَنه اخْتلف هَل يشْتَرط أَن يكون الْبَيَان أقوى من الْمُبين فَقَالَ الرَّازِيّ لَا يشْتَرط ذَاك فَيجوز بالأدنى فيبين المظنون الْمَعْلُوم قَالَ الْعَضُد بعد كَلَام وَأما الْمُجْمل فَيَكْفِي فِي بَيَانه أدنى دلَالَة وَلَو مرجوحا إِذْ لَا تعَارض انْتهى وَلابْن الْحَاجِب بعض تَخْلِيط
هَذَا وَأما مَسْأَلَة جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة أَو عدم جَوَازه فتأتي الْمَسْأَلَة قَرِيبا
وَلما ذكر أَئِمَّة الْأُصُول مسَائِل وَقع فِيهَا خلاف هَل هِيَ من الْمُجْمل ذَكرنَاهَا هُنَا بقولنَا
والمدح للشَّيْء دَلِيل الْحسنى
لِأَنَّهُ حث على مَا أثنى ... وذمه فِي الْقبْح قَالُوا أوضح
مِمَّا يُفِيد النَّهْي فَهُوَ أقبح
أَي أَن مدح الشَّيْء دَلِيل على أَنه حسن لِأَن فِيهِ حثا وتحريضا على الْعَمَل بِهِ وذم الشَّيْء دَلِيل على أَنه قَبِيح منفر عَنهُ أَشد التنفير من النَّهْي فَإِن النَّهْي قد يكون للكراهة الَّتِي هِيَ دَاخِلَة تَحت الْحسن عِنْد الْأَكْثَر وَهَذَا معنى قَوْله أوضح وَفرع عَلَيْهِ قَوْله فَهُوَ أقبح
وَاعْلَم أَن تَأْخِير هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى هَذَا الْمحل وَقع تبعا لأصل النّظم وَهُوَ تبع الْمهْدي فَإِنَّهُ قَالَ مَا حَاصله إِن الْمَدْح والذم قد يتَرَدَّد بَين تَعْلِيقه بالأشخاص وبالأفعال فَجعل هَذِه الْمَسْأَلَة بعض الْأُصُولِيِّينَ لذَلِك من الْمُجْمل قَالُوا لِأَن قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} الْآيَة يحْتَمل أَنه جَاءَ بِصفة الَّذين لمُجَرّد التَّعْرِيف بِصفة الرجل المذموم لَا لذمه لما أفادته جملَة الصِّلَة فِي الْآيَة وَهُوَ الْكَنْز كَمَا تَقول الَّذِي يلبس الْبيَاض

(1/353)


أضربه فَيحْتَمل أَن ضربه لأجل لبس الْبيَاض أَو لغيره فَكَذَا هُنَا يحْتَمل أَن الذَّم الْمُسْتَفَاد من الْوَعيد لأجل الْكَنْز أَو لأجل غَيره وَكَذَا فِي {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} يحْتَمل أَن نعيمهم لأجل الْبر وَيحْتَمل لغيره فَصَارَ مُجَرّد الْمَدْح والذم على هَذَا مُجملا لَا يدل على حسن وَلَا قبح للاحتمال الْمَذْكُور وَقَالَ الْجُمْهُور لَيْسَ بمجمل بل الْوَصْف إِذا علق الذَّم أَفَادَ قبحه أَو الْمَدْح أَفَادَ حسنه وَيكون ظَاهرا فِي ذَلِك وَإِن احْتمل أَن يكون لمُجَرّد التَّعْرِيف فاحتمال مَرْجُوح انْتهى
وَقد اعْترض الْمهْدي صَاحب القسطاس وَقَالَ النزاع فِي الْمَسْأَلَة للخصم أَنه لَا عُمُوم فِي مَا علق عَلَيْهِ الْمَدْح والذم حَتَّى يسْتَدلّ بِآيَة الْكَنْز مثلا على وجوب الزَّكَاة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة على جِهَة الْعُمُوم فالاحتمال فِيهَا لعدم تعْيين الْكَنْز الَّذِي علق بِهِ الذَّم فالدليل الَّذِي ينْهض على الْخصم إِنَّمَا هُوَ فِي إفادتها الْعُمُوم وَعدم مُنَافَاة الذَّم والمدح لَهُ
قَالُوا وَلَا إِجْمَال فِيمَا نكرا
من الجموع بل يكون ظَاهرا ... فِيمَا يرى الْأَقَل فِي الْمعَانِي
كَذَلِك التَّحْرِيم للأعيان ... يكون للمعتاد عِنْد الأجزل
وَالْعَام إِن خص فَغير مُجمل
اشْتَمَل على ثَلَاث مسَائِل
الأول فِي أَن الْجمع الْمُنكر نَحْو رجال لَيْسَ بمجمل كَمَا قَالَه الْأَكْثَر من أَئِمَّة الْفَنّ بل إِذا ورد وَجب حمله على المتحقق من مَدْلُوله وَهُوَ أقل مَرَاتِب الْجمع وَهَذَا معنى قَوْله بل يكون ظَاهرا إِلَى آخِره أَي هُوَ ظَاهر فِي أقل الْمعَانِي الدَّاخِلَة تَحت مَدْلُوله فَيحمل عَلَيْهِ وَذهب الْأَقَل إِلَى

(1/354)


أَنه مُجمل قَالُوا لِأَن مَرَاتِب الجموع مُتَفَاوِتَة فَلَيْسَ حمله على بعض مِنْهَا أولى من الآخر فَيكون مُجملا وَأجِيب بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ مترددا بَين مراتبها فالترجيح بِحمْلِهِ على مَا هُوَ المتحقق كَاف فِي بَيَان وَجه الْأَوْلَوِيَّة لِلْخُرُوجِ عَن الْإِجْمَال الَّذِي هُوَ خلاف الأَصْل
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَوْله كَذَلِك التَّحْرِيم للأعيان أَي لَا إِجْمَال فِيمَا أَتَى وَمن التَّحْرِيم الْوَاقِع على الْأَعْيَان نَحْو {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} وَهُوَ قَول الْجُمْهُور كَمَا أَفَادَهُ قَول الأجزل وَالدَّلِيل أَن من استقرأ اللُّغَة علم أَنه لَيْسَ المُرَاد تَحْرِيم الْعين بل التَّحْرِيم على مَا يُنَاسِبه مِمَّا سيق لَهُ الْخطاب كَالْأَكْلِ فِي الْمَأْكُول وَالشرب فِي المشروب واللبس فِي الملبوس وَالْوَطْء فِي الموطؤ فَإِذا قيل {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} أَو الْخِنْزِير أَو الْخمر أَو الْحَرِير حمل على مَا سبق إِلَيْهِ الْفَهم عرفا من الْوَطْء وَنَحْوه مِمَّا يتَبَادَر فِيمَا ذكر وَهَذَا مُرَاد النّظم بقوله يكون للمعتاد أَي يكون التَّحْرِيم للأعيان للمعتاد عرفا وَخَالف فِي ذَلِك الْأَقَل وَقَالُوا بل هُوَ مُجمل إِذْ تَحْرِيم الْعين غير مُتَصَوّر فَلَا بُد من إِضْمَار شَيْء يكون مُتَعَلقا للتَّحْرِيم وَالْأَفْعَال كَثِيرَة فَإِنَّهُ يحْتَمل تَحْرِيم الْأُم الْوَطْء وَالنَّظَر والاستخدام وَفِي تَحْرِيم الْحَرِير البيع واللبس واللمس وَكَذَلِكَ سَائِر مَا ذكره
قَالُوا وَلَا سَبِيل إِلَى إِضْمَار الْجَمِيع لِأَن مَا يقدر للضَّرُورَة يقْتَصر فِيهِ على مايدفعها فَيتَعَيَّن إِضْمَار الْبَعْض وَلَا دَلِيل على تعْيين شَيْء من المقدرات إِذْ لَيْسَ حمله على وَاحِد مِنْهَا أولى من الآخر فَيتَوَقَّف فِي ذَلِك وَهُوَ معنى الْإِجْمَال وَأجِيب بِالْمَنْعِ من عدم تعين إِضْمَار بعض معِين بل مَا سبق إِلَى الأذهان من الْعرف هُوَ المُرَاد هَذَا تَقْرِير الْمَسْأَلَة
وَاعْلَم أَن من الْأُصُولِيِّينَ من يذكر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْعُمُوم وَهِي الْمُسَمَّاة بِعُمُوم الْمُقْتَضى وَلم يتَقَدَّم ذكرهَا فِي النّظم وَلَا شَرحه فلنشر إِلَيْهَا وَإِلَى الرَّاجِح فِيهَا ونقول تقدم فِي بَاب الْمَنْطُوق أَن الدّلَالَة إِذا توقفت فِي الصدْق أوالصحة على مُقَدّر مَحْذُوف سميت دلَالَة اقْتِضَاء نَحْو {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم}

(1/355)


وَرفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَلَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب فالمتقضى اسْم فَاعل هُوَ الْمُحْتَاج للإضمار والمقتضى اسْم مفعول هُوَ ذَلِك الْمَحْذُوف وَحَاصِله إِن قَامَ دَلِيل على أحد المحتملات تعين فِي الْمقَام سَوَاء كَانَ الْمُقدر عَاما أَو خَاصّا وَإِن لم يدل دَلِيل على تَقْدِير شَيْء لَا عَام وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال تعدد المقدرات فَهَل نقدر المحتملات كلهَا وهوالمراد بِعُمُوم الْمُقْتَضى أَو لَا يقدر قَولَانِ للْعُلَمَاء الأول أَنه يحمل على جَمِيع المقدرات وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وهوالمتعين لِلْخُرُوجِ عَن التحكم فيضمر لفظ عَام للمقدرات شَامِل لَهَا وَبِهَذَا ينْدَفع مَا قَالَه الْمُخَالف فِي أَنه يلْزم كَثْرَة الإضمارات بِنَاء مِنْهُ على أَنه يقدر كل مَا يُمكن تَقْدِيره وَاحِدًا وَاحِدًا فَإنَّا نقُول الْمُقدر لفظ وَاحِد يعم جَمِيع التَّصَرُّفَات مثل الِانْتِفَاع فِي تَحْرِيم الْميتَة فَإِنَّهُ يعم الْأكل وَالْبيع وَغير ذَلِك
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَوْله وَالْعَام إِن خص فَغير مُجمل وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة هَل يكون الْعَام بعد تَخْصِيصه حجَّة أَو لَا وفيهَا خلاف منتشر وتفاصيل ولنشر إِلَى مَا هُوَ الْمُخْتَار والأقوى حجَّة فَالْقَوْل الأول أَنه حجَّة إِن خص بِمعين لَا إِن خص بمبهم
وَقد قسم الْإِبْهَام إِلَى قسمَيْنِ إِبْهَام فِي اللَّفْظ نَحْو اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم وإبهام فِي الْمَعْنى نَحْو {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} فَإِنَّهُ إِشَارَة إِلَى معِين فِي الْوَاقِع هُوَ مَا يُتْلَى إِذا عرفت هَذَا فَإِنَّهُ

(1/356)


اخْتِيَار الْجُمْهُور من الزيدية وَغَيرهم أَنه إِن خص بِمعين نَحْو اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا أهل الذِّمَّة فَهُوَ حجَّة وَإِن خص بمبهم نَحْو إِلَّا بَعضهم أَو إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم فَلَيْسَ بِحجَّة لإجماله وَاسْتَدَلُّوا على أَنه حجَّة فِي الْبَاقِي بِمَا عرف من اسْتِدْلَال الصَّحَابَة بِظَاهِر العمومات المخصوصات وشاع بَينهم وذاع فَكَانَ إِجْمَاعًا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ متناولا للْبَاقِي بعد إِخْرَاج الْبَعْض وَالْأَصْل بَقَاء تنَاوله على مَا كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يقوم دَلِيل على خِلَافه والتخصيص لَا يُوجب نَقله عَن أَصله وتغييره عَمَّا شَمله بل يزِيدهُ قُوَّة وظهورا فَإِنَّهُ إِذا قيل اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا أهل الذِّمَّة أَفَادَ ثُبُوت الحكم على الْمُشْركين الْمخْرج مِنْهُم أهل الذِّمَّة بعد أَن كَانَ لفظ الْمُشْركين شَامِلًا لأهل الذِّمَّة وَأهل الْحَرْب فازداد تنَاول الْعَام للْبَاقِي قُوَّة
قَالُوا وَأما إِذا خص بمبهم فَإِنَّهُ مَعَ الْإِبْهَام لَا يعلم مَا قصد بالتخصيص فَمَا من فَرد إِلَّا وَهُوَ مُحْتَمل لِأَن يكون هُوَ الْمخْرج فَصَارَ الْبَاقِي مُجملا وَهَذَا صَادِق على الْمُبْهم فِي الْمَعْنى وَفِي اللَّفْظ كَمَا قدمْنَاهُ إِذا تقرر هَذَا فقولنا وَالْعَام إِن خص فَغير مُجمل إِنَّمَا هُوَ رد لقَوْل من يَقُول إِنَّه إِن خص فَإِنَّهُ لَا يبْقى حجَّة سَوَاء خص بِمعين أَو مُبْهَم وَهَذَا يرْوى عَن أبي ثَوْر وَحَكَاهُ الْقفال الشَّاشِي عَن أهل الْعرَاق وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن كثير من الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والمالكية قَالُوا لِأَن لفظ الْعَام مَوْضُوع للاستغراق وَقد صَار بعد التَّخْصِيص للْبَعْض وكل بعض هُوَ فِيهِ مجَاز وَلَا يتَعَيَّن أحد الأبعاض لتَعَدد مجازها إِذْ يحْتَمل أَنه مجَاز فِي كل مَا بَقِي وَفِي كل بعض فَكَانَ مُجملا

(1/357)


وَأجِيب بِأَن ذَلِك فِيمَا إِذا كَانَت المجازات مُتَسَاوِيَة وَلَا دَلِيل على تعْيين أَحدهَا وَهنا الدَّلِيل قَائِم على أَن الْبَاقِي هُوَ المُرَاد بَقَاء على الأَصْل فيصار إِلَيْهِ
وَأما قَوْله ... وَلَا صَلَاة فِي المبينات ... عد كَذَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ...

فَهَذَا مِمَّا قيل بِأَنَّهُ مُجمل فَرده الْجُمْهُور وَقَالُوا بل هُوَ مُبين أَعنِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور وَكَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ لَيْسَ بمجمل وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْأَرْبَعين عَن مَالك وَإِن كَانَ قد نقل النَّوَوِيّ عَن أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ وَأقرهُ عَلَيْهِ بِأَن الَّذِي وَقع فِي الشهَاب بِإِسْقَاط إِنَّمَا لَا يَصح لَهُ الْإِسْنَاد وَلكنه قد رَوَاهُ مَالك وَابْن حبَان كَمَا ذكره فِي تَلْخِيص الحبير وَأما بِزِيَادَة إِنَّمَا فَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ وَالْمرَاد أَنه قد أَشَارَ فِي النّظم إِلَى إِنَّمَا ورد فِيهِ النَّفْي على الذَّات من الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة مثل لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب لَا صِيَام لمن لَا يبيت الصّيام من اللَّيْل وَغير ذَلِك

(1/358)


من الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ لَا إِجْمَال فِيهَا وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء وَهُوَ مَبْنِيّ على إِثْبَات الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة وعَلى أَن الشَّرْعِيّ مَخْصُوص بِالصَّحِيحِ فَيكون التَّقْدِير لَا صَلَاة صَحِيحَة وَلَا صِيَام صَحِيح وَلَا إِجْمَال فِي هَذَا وَلَا يصدق عَلَيْهِ رسمه
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه مُجمل قَالُوا لِأَنَّهُ لَا يَصح نفي الْوُقُوع لكَونه مشاهدا وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ أَمر آخر وَهُوَ غير مَعْلُوم لنا فَكَانَ مُجملا وَلِأَنَّهُ ظَاهر فِي نفي الْوُجُود وَنفي الحكم فَصَارَ مُجملا وَلِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين نفى الْكَمَال وَنفى الصِّحَّة وَالْعَمَل على أَحدهمَا بِغَيْر دَلِيل تحكم
وَأجِيب بِأَن الْحمل على نفي الصِّحَّة أولى لما عرفت وَلِأَنَّهُ قَالَ ابْن تَيْمِية إِنَّه لَا يعرف نفي الْكَمَال فِي كَلَام الْعَرَب وَأَيْضًا فالإجمال خلاف الأَصْل فَلَا يحمل عَلَيْهِ
وَمِمَّا قيل بإجماله وأشير إِلَى رده مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله ... وَمثله رفع الْخَطَأ وَغَيره ... وَاتبع الْأَمْثَال فِي نَظِيره ...

أَي مثل الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ رفع الْخَطَأ بِصِيغَة الْمصدر مَرْفُوع على خبرية مثله وَهُوَ إِشَارَة إِلَى حَدِيث رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَقَوله وَغَيره إِلَى مَا يماثله من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة نَحْو لَا عهد لمن لَا دين لَهُ وَلَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَا رضَاع بعد الْحَوْلَيْنِ وَهُوَ بَاب وَاسع فِي كَلَام الشَّارِع وَغَيره نَحْو لَا ملك إِلَّا بِالرِّجَالِ وَلَا علم إِلَّا مَا نفع وَلَا كَلَام إِلَّا مَا أَفَادَهُ فالجمهور على أَنه لَا إِجْمَال فِي ذَلِك فَيحمل على مَا يَقْتَضِيهِ الْعرف

(1/359)


شرعا أَو لُغَة إِن ثَبت فِيهِ أَيهمَا فَفِي مثل رفع يقدر فِيهِ الْمُؤَاخَذَة وَنَحْوهَا وَمثله غَيره من الْأَمْثِلَة فَيحمل على مَا يَقْتَضِيهِ الْعرف وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه مُجمل وَهُوَ قَول مَرْجُوح
وَقَوله وَاتبع الْأَمْثَال فِي نَظِيره إِشَارَة إِلَى عدَّة أَمْثِلَة ذكرت فِي مطولات الْفَنّ من ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإثنان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة قَالُوا فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْجَمَاعَة اللُّغَوِيَّة أَو الشَّرْعِيَّة الَّتِي يحصل الثَّوَاب بهَا وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا وَالْجُمْهُور على أَنه لَا إِجْمَال فِي ذَلِك بل يحمل على الشَّرْعِيّ لِأَن الشَّارِع بعث لتعريف الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا الْمعَانِي اللُّغَوِيَّة والأمثلة كَثِيرَة
وَمن عرف ضَابِط الْمُجْمل والمبين عرف موقع الْأَمْثِلَة من أَي الْقسمَيْنِ هِيَ
وللبيان يحرم التَّأْخِير
عَن وَقت مَا يَحْتَاجهُ الْمَأْمُور ... وَهَكَذَا التَّخْصِيص وَالتَّقْيِيد
هَذَا اتِّفَاق عِنْد من يُفِيد
هَذِه مَسْأَلَة تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة وَهُوَ حُصُول الْوَقْت الَّذِي طلب من الْمُكَلف فِيهِ تَنْجِيز الْفِعْل فَإِنَّهُ يحرم تَأْخِير الْبَيَان للخطاب الْمُجْمل عَنهُ كَمَا يَأْتِي دَلِيله وَمثله التَّخْصِيص للعام وَالتَّقْيِيد للمطلق أَي يحرم التَّأْخِير لَهما عَن وَقت الْحَاجة إِلَى بَيَان مَا أُرِيد بِالْعَام وَالْمُطلق وَهَذَا اتِّفَاق بَين الْعلمَاء كَمَا أَفَادَهُ النّظم قيل إِلَّا عِنْد من جوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَإِنَّهُ لَا يمْتَنع عِنْده تَأْخِيرهَا عَن وَقت الْحَاجة بل يجوز وَإِلَيْهِ أَشَارَ قَوْله عِنْد من يُفِيد تَقْيِيد للاتفاق لأخراج من ذكر وَإِن وَقع فِي أصل النّظم حِكَايَة الْإِجْمَاع مُطلقَة تبعا للْإِمَام الْمهْدي فِي المعيار

(1/360)


وَالدَّلِيل على مَا ذَكرْنَاهُ من التَّحْرِيم أَفَادَهُ قَوْلنَا
لِأَنَّهُ لَو جَازَ كَانَ يلْزم
من ذَاك تَكْلِيف لما لَا يعلم
أَي لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة لزم مِنْهُ تَكْلِيف مَا لَا يُعلمهُ الْمُكَلف وَهُوَ قَبِيح لَا يجوز من الْحَكِيم
وَجَائِز وفقت للصَّوَاب
تَأْخِيره عَن زمن الْخطاب ... فِي نَهْيه وَأمره لَا فِي الْخَبَر
إِذْ المُرَاد مِنْهُ إفهام الْبشر
الَّذِي سلف تَحْرِيمه هُوَ التَّأْخِير للْبَيَان عَن زمن الْحَاجة أما تَأْخِيره عَن زمن الْخطاب فَفِيهِ أَقْوَال
الأول إِنَّه جَائِز سَوَاء كَانَ الْخطاب مُجملا أَو ظَاهرا أُرِيد بِهِ خلاف ظَاهره كالعام وَالْمُطلق وَهَذَا قَول الْأَكْثَر وَسَوَاء كَانَ أمرا أَو نهيا أَو خَبرا
وَالثَّانِي يجوز تَأْخِيره فِي الْأَمر وَالنَّهْي دون الْخَبَر وَهُوَ الَّذِي أَفَادَهُ النَّاظِم
وَالثَّالِث لَا يجوز مُطلقًا
وَجه القَوْل الثَّانِي وَهُوَ التَّفْصِيل أَن الْخطاب فِي الْأَمر وَالنَّهْي إِذا وَقع من دون بَيَان سَوَاء كَانَ بمجمل أَو ظَاهر أُرِيد بِهِ خِلَافه لم يحصل مِنْهُمَا اعْتِقَاد جهل بِخِلَاف الْخَبَر فَلَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب بِهِ لِأَنَّهُ إِذا وَقع بِظَاهِر وَالْمرَاد خِلَافه اوقع سامعه فِي اعْتِقَاد الْجَهْل وَإِذا كَانَ بمجمل لزم الْعَبَث لعدم الْفَائِدَة بالإخبار فِي الْمُجْمل وَلَيْسَ المُرَاد من الْخَبَر إِلَّا إفهام السَّامع وإفادته فَهَذَا هُوَ الدَّلِيل لأهل التَّفْصِيل وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن اعْتِقَاد الْجَهْل مُشْتَرك الْإِلْزَام فَإِنَّهُ لَا بُد فِي الْأَمر وَالنَّهْي من اعْتِقَاد وجوب الْعَمَل أَو التّرْك وَفِيه أَقْوَال أخر وتفاصيل فِي مطولات الْفَنّ لَا يحتملها الِاخْتِصَار وَقد اسْتدلَّ لمن قَالَ بِجَوَاز تَأَخره عَن وَقت الْخطاب مُطلقًا بِأَنَّهُ قد وَقع والوقوع

(1/361)


فرع الْجَوَاز وَذَلِكَ كآية الْخمس فَإِنَّهُ تَأَخّر بَيَان ذَوي الْقُرْبَى حَتَّى وَقع الْبَيَان بِأَنَّهُم بَنو هَاشم وَبَنُو عبد المطلب وكآية السّرقَة فَإِن ظَاهر عُمُوم الْقطع لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَعُمُوم السّرقَة فِي قَلِيل وَكثير حَتَّى وَردت السّنة بِبَيَان الْأَمريْنِ هَذَا كُله فِي الظَّاهِر وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْمل كالأمر بِالصَّلَاةِ وَالْحج وَإِذا عرفت أَنه يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب فالبحث عَنهُ وَاجِب كَمَا أَفَادَهُ قَوْله
والبحث عَن وَاجِب فِي الْعَمَل فَلَا يجوز أَن يعْمل بِظَاهِر الْعَام وَلَا الْمُطلق وَلَا غَيرهمَا قبل الْبَحْث عَن تَخْصِيص الْعَام وَتَقْيِيد الْمُطلق وَهَذَا قد تقدم فِي بحث الْعَام وَذكرنَا هُنَالك بِأَن هَذَا الحكم يخْتَص بِالْعَام لِكَثْرَة المخصصات حَتَّى إِنَّهَا صيرت ظَاهِرَة مرجوحا فَلَا يعْمل بِهِ إِلَّا بعد الْبَحْث عَن مخصصه بِخِلَاف الْمُطلق
وَلما تمّ المُرَاد بَيَانه من الْكَلَام على الْمُجْمل والمبين أَخذ النَّاظِم فِي الْكَلَام على الظَّاهِر والمؤول فَقَالَ
فصل وللظاهر والمؤول ... رسمان فَالظَّاهِر حَيْثُ يُطلق
على خلاف النَّص وَهُوَ يصدق ... أَيْضا على مُقَابل للمجمل
يُرِيد أَن للظَّاهِر والمؤول رسمين عِنْد أَئِمَّة الْفَنّ
أما رسم الظَّاهِر وَله إطلاقان
الأول أَنه يُطلق على مَا يُقَابل النَّص ورسمه عَلَيْهِ مَا يدل على الْمَعْنى الْمَقْصُود الرَّاجِح بِنَفسِهِ مَعَ احْتِمَاله لِمَعْنى مَرْجُوح وَهَذَا هُوَ الرَّسْم الأول وَهُوَ مُرَاده بقوله حَيْثُ يُطلق على خلاف النَّص وعَلى هَذَا الْمَعْنى فَإِن النَّص قسيم للظَّاهِر وَقد خرج من هَذَا الرَّسْم المؤول فَإِن الْمَعْنى الرَّاجِح

(1/362)


الْمُتَبَادر مِنْهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُود وَخرج الْمجَاز أَيْضا على مُقْتَضى كَلَام النَّاظِم فَإِنَّهُ جعله من المؤول وَكَذَا الْعَام الْمَخْصُوص إِذْ كل مِنْهُمَا لم يدل على الْمَعْنى الْمَقْصُود بِنَفسِهِ بل بعد الْبَيَان بِالْقَرِينَةِ والتخصيص
وَالثَّانِي من إطلاقيه أَنه يُطلق على مَا يُقَابل الْمُجْمل كَمَا أَفَادَهُ قَوْله وَهُوَ يصدق أَيْضا فَالظَّاهِر على هَذَا هُوَ مَا اتضحت دلَالَته فَيكون على هَذَا النَّص قسما من أقسامه وَيدخل فِي المؤول وَالْمجَاز والعموم وَالْخُصُوص وَقد رسم على هَذَا الْمَعْنى بِأَنَّهُ مَا يفهم مِنْهُ المُرَاد تَفْصِيلًا وَلَا شكّ فِي دُخُول النَّص على هَذَا إِلَّا أَنه يخرج مِنْهُ المؤول وَغَيره مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَظَاهر إِطْلَاقهم دُخُول مَدْلُول الْأَلْفَاظ سَوَاء الْمُجْمل تَحت هَذَا الْإِطْلَاق لَكِن بالرسم الأول أَعنِي مَا اتضحت دلَالَته فَيكون أولى فهذان الرسمان للظَّاهِر بِاعْتِبَار إطلاقيه
وَأَشَارَ إِلَى رسم المؤول بقوله
وَبعد ذَا فالرسم للمؤول
بِمَا بِهِ يَعْنِي خلاف الظَّاهِر
هُوَ مُشْتَقّ من آل يؤول إِذا رَجَعَ فَهُوَ مؤول لرجوعه بالتأويل إِلَى الْمَعْنى المُرَاد مِنْهُ ورسمه مَا بِهِ يَعْنِي أَي يُرَاد خلاف الظَّاهِر أَي ظَاهره فالتعريف عوض عَن الضَّمِير وَبِهَذَا يعرف أَنه على هَذَا قسيم للظَّاهِر بِالْإِطْلَاقِ الأول وَلذَا أَتَى برسمه زِيَادَة فِي الْإِيضَاح وَإِلَّا فَإِن كثيرا من أهل الْأُصُول لَا يعرفهُ إِمَّا اكْتِفَاء بتعريف التَّأْوِيل أَو لوضوحه بطرِيق الْمُقَابلَة بَينه وَبَين الظَّاهِر
وَالصرْف للفظ عَن الظَّوَاهِر ... إِلَى الْمجَاز أَو بِأَن يقصر مَا
يفِيدهُ اللَّفْظ إِذا مَا عمما ... وَفِيهِمَا قرينَة للصرف
فَذَلِك التَّأْوِيل فِي ذَا الْعرف
قد عرفت أَن التَّأْوِيل صرف اللَّفْظ عَن ظَاهره بِقَرِينَة فَقَوله وَالصرْف مُبْتَدأ وَقَوله فَذَلِك التَّأْوِيل خَبره وَدخُول الْفَاء فِيهِ من بَاب قَوْله وقائله

(1/363)


قَولَانِ فأنكح فَتَاتهمْ وَقَوله إِلَى الْمجَاز إِلَى آخِره بَيَان لقسمي التَّأْوِيل وَصرح بقوله أَو بِأَن يقصر إِلَخ بِنَاء على مَا سبق من أَن الْبَاقِي من الْعَام بعد تَخْصِيصه حَقِيقَة وعَلى هَذَا فالعمومات المخصصات والمطلقات المقيدات من قسم المؤول كَمَا تَقْتَضِيه عبارَة النَّاظِم وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَئِمَّة الْأُصُول من رسمهم المؤول وَكَذَا المجازات
وَلما كَانَ التَّأْوِيل يخْتَلف فِي الوضوح والخفاء والقرب والبعد بِاعْتِبَار قرائنه والأدلة الصارفة لظاهره انقسم إِلَى أَقسَام أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْله
وَهُوَ قريب وبعيد حَسْبَمَا
يقْضِي الدَّلِيل فاختلاف الْعلمَاء ... فِيهِ على مَا يَقْتَضِي وَمَا أَتَى
تعسفا فَالْمُرَاد حتما ثبتا
أَي أَنه يَنْقَسِم التَّأْوِيل إِلَى قريب وبعيد حَسْبَمَا يقْضِي بِهِ الدَّلِيل فقد يَكْتَفِي فِي بعض الْحَالَات بِأَدْنَى دَلِيل فِي صرفه ورده عَن ظَاهره فَهَذَا هُوَ الْقَلِيل وَقد يحْتَاج إِلَى كَثْرَة مُخَالفَة فِي الظَّاهِر وتطلب المرجحات فَهَذَا هُوَ الْبعيد فَلذَلِك تَجِد الْعلمَاء يَخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيل الْأَدِلَّة وردهَا عَن ظَاهرهَا إِلَى الْقَوَاعِد بِحَسب مَا يظْهر لكل وَاحِد من الْقَرَائِن وَقد يَأْتِي قسم ثَالِث فِي الْحَقِيقَة وَهُوَ مَا فِيهِ تكلّف وتعسف وَيَأْتِي شَيْء من ذَلِك وَإِذا عرفت هَذَا فقد عد الْعلمَاء أَمْثِلَة من الثَّلَاثَة الْأَنْوَاع قَالُوا فَمن الْقَرِيب تَأْوِيل آيَات الصِّفَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِيهَا فَإِن الدَّلِيل الْعقلِيّ والشرعي قَائِم على عدم إِرَادَة ظَاهرهَا فينفق الْخلف وَالسَّلَف على منع حملهَا على ظَاهرهَا إِذا خَالف التَّنْزِيه ذكر هَذَا الْبرمَاوِيّ فِي شرح منظومته وَمثله فِي شرح الْغَايَة إِلَّا أَن فِي كَونه إِجْمَاعًا وَأَنه مَذْهَب السّلف تأملا فَإِن الْمَنْقُول عَن السّلف هُوَ مَا ذكره الله تَعَالَى فِي قَوْله {والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا}

(1/364)


(آل عمرَان 7) وَلَا يلتفتون إِلَى مَا عدا ذَلِك قَالَ المقبلي رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْأَرْوَاح وَهَذَا هُوَ الْحق وَهُوَ الْقدر الضَّرُورِيّ وَمَا عداهُ دَعْوَى وتكلف بِمَا لَا يَعْنِي يحْتَمل الْمَنْع عقلا وَيدخل تَحت قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنا من المتكلفين} {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَنَحْوهَا فِي منع التقول على الله تَعَالَى بِلَا سُلْطَان انْتهى
وَقد عد من الْقَرِيب أَمْثِلَة كَمَا عد من الْبعيد أَمْثِلَة اقتصرنا على بعض من الْأَمريْنِ فَمن الْبعيد تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة لحَدِيث أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا فنكاحها بَاطِل رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره فَقَالُوا المُرَاد بهَا الصَّغِيرَة وَالْأمة وَوجه بعده أَن الصَّغِيرَة لَا يُقَال لَهَا امْرَأَة
وعدوا من الْبعيد تأويلهم وَكثير من الزيدية قَوْله تَعَالَى {فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} بإطعام طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا قَالُوا لِأَن الْقَصْد دفع الْحَاجة وحاجة سِتِّينَ مِسْكينا فِي يَوْم وَاحِد كحاجة وَاحِد فِي سِتِّينَ يَوْمًا فَيصح إِعْطَاء وَاحِد فِي سِتِّينَ يَوْمًا وَوجه بعده أَن تَقْدِير الْمُضَاف خلاف الظَّاهِر وَهَذِه الْعلَّة المستنبطة لَا تقوى قرينَة على ذَلِك
وَأما الْقسم الثَّالِث فَلهُ أَيْضا أَمْثِلَة كَثِيرَة مَرْدُودَة كتأويل الباطنية قَوْله تَعَالَى {وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي} بِأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وتأويلهم قَوْله تَعَالَى {أتأتون الذكران من الْعَالمين} بعلماء الظَّاهِر وإتيانهم لأخذ فتواهم وَأخذ الْعلم عَنْهُم وَمِنْه تَأْوِيل الْخَوَارِج لقَوْله تَعَالَى {حيران لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى} بعلي بن أبي طَالب وأنفسهم وَأَنَّهُمْ الَّذين يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى والأمثلة وَاسِعَة من أهل الضلالات والابتداع وَتَأْويل ابْن عَرَبِيّ الملحد وَأَتْبَاعه الْعَذَاب بالعذوبة وَنَحْوهَا من ضلالاته

(1/365)


وَقد ذكر قسم رَابِع سموهُ متوسطا وأمثلته لَا تخفى وَالْمَقْصُود معرفَة الْقَوَاعِد لَا تعداد الْأَمْثِلَة فَمن عرفهَا عرف مَا تحتهَا من الْأَمْثِلَة

(1/366)