إجمال الإصابة في أقوال الصحابة الْمرتبَة الْخَامِسَة قَول الصَّحَابِيّ
إِذا خَالف الْقيَاس
وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن قَول الصَّحَابِيّ إِنَّمَا يكون
حجَّة إِذا خَالف الْقيَاس بِأَنَّهُ فِي هَذِه الْحَالة لَا
يكون قَوْله إِلَّا عَن تَوْقِيف إِذْ لَا مجَال لِلْعَقْلِ
فِي ذَلِك
وَإِن كَانَ لَهُ فِيهِ مجَال لكنه عدل عَمَّا يَقْتَضِيهِ
الْقيَاس فعدوله عَنهُ إِنَّمَا يكون لخَبر عِنْده فِيهِ
وَإِلَّا يلْزم أَن يكون قَائِلا فِي الدّين بالتشهي من غير
مُسْتَند وَذَلِكَ يقْدَح فِي دينه وَعلمه وَلَا يَنْبَغِي
الْمصير إِلَيْهِ فَيتَعَيَّن اتِّبَاع قَوْله وَهُوَ قوي
إِلَّا أَنه لَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون قَوْله حجَّة فِي غير
هَذِه الصُّورَة نعم إِذا تعَارض قَول صحابين وَقُلْنَا
بالترجيح كَمَا سَيَأْتِي فَيظْهر أَن القَوْل الْمُخَالف
للْقِيَاس يكون أرجح من الْمُوَافق لَهُ لهَذَا الْمَعْنى
(1/73)
وَقد اعْترض على هَذَا الدَّلِيل من أَصله
بِأَنَّهُ يجوز أَن تكون مُخَالفَته للْقِيَاس لنَصّ ظَنّه
دَلِيلا مَعَ أَنه لَيْسَ كَذَلِك فِي نفس الْأَمر وبالنقض
بِمذهب التَّابِعِيّ وَمن بعده فَإِن جَمِيع مَا ذَكرُوهُ
فِيهِ آتٍ فِيهِ بِعَيْنِه
وَيُمكن الْجَواب عَن الأول أَن هَذَا الِاحْتِمَال وَإِن
كَانَ منقدحا فَالظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ ومعرفته
وَشدَّة ورعه أَنه لَا يتبع الظَّن الْمَرْجُوح بِحَيْثُ يكون
مَا ظَنّه دَلِيلا لَيْسَ مطابقا لظَنّه فَنحْن نتمسك بِهَذَا
الظَّاهِر إِلَى أَن يُعَارضهُ مَا هُوَ أرجح مِنْهُ
كَالظَّاهِرِ الْخَبَر الصَّحِيح إِذا خَالفه الصَّحَابِيّ
فَإنَّا نتبع ظَاهر الْخَبَر ونقدمه على قَول الصَّحَابِيّ
كَمَا سَيَأْتِي لِأَن هَذَا الظَّاهِر أرجح من هَذَا
الْمُحْتَمل وَأما هُنَا فَلم يُعَارض الظَّاهِر من حَال
الصَّحَابِيّ مَا هُوَ أرجح مِنْهُ
وَأما النَّقْض بِمذهب التَّابِعِيّ فقد تقدم الْفرق بَين
الصَّحَابِيّ وَمن بعده بِمَا فِيهِ كِفَايَة
وَمِمَّا يُؤَيّد مَا تقدم أَن جمَاعَة من الْعلمَاء قَالُوا
فِي تَفْسِير الصَّحَابِيّ الْآيَة فِيمَا لَا مجَال للإجتهاد
فِيهِ أَنه يكون مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَو فِي حكم الْمسند لِأَن الظَّاهِر أَنه لم يقل ذَلِك
إِلَّا عَن تَوْقِيف فَكَذَلِك يَجِيء هُنَا فِي قَوْله إِذا
كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس أَو لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ
(1/74)
وَقد تقدم أَن هَذَا يُؤْخَذ من قَول
الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي صَلَاة عَليّ رَضِي الله عَنهُ
سِتّ رَكْعَات فِي كل رَكْعَة سِتّ سَجدَات إِن ثَبت ذَلِك عَن
عَليّ قلت بِهِ وَأَن الْغَزالِيّ قَالَ لِأَن رأى أَن القَوْل
بذلك لَا يكون إِلَّا عَن تَوْقِيف إِذْ لَا مجَال للْقِيَاس
فِيهِ وَالله سُبْحَانَهُ أعلم
قَول الصَّحَابِيّ إِذا اعتضد بِالْقِيَاسِ
وَأما إِذا انْضَمَّ إِلَى قَول الصَّحَابِيّ قِيَاس
فَالْكَلَام فِي مقامين
أَحدهمَا فِيمَا إِذا تعَارض قَول صحابيين واعتضد أَحدهمَا
بِالْقِيَاسِ وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالثَّانِي فِيمَا إِذا تعَارض قياسان واعتضد أَحدهمَا بقول
الصَّحَابِيّ فَمن يرى أَن قَول الصَّحَابِيّ بمفرده حجَّة
مُقَدّمَة على الْقيَاس يكون احتجاجه هُنَا بقول الصَّحَابِيّ
بطرِيق الأولى
وَأما على القَوْل بِأَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ حجَّة
فإمَّا أَن يكون القياسان صَحِيحَيْنِ متساويين أَولا
فَإِن كَانَا كَذَلِك وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر بمرجح
فِي الأَصْل أَو حكمه أَو فِي الْعلَّة أَو دليلها أَو فِي
الْفَرْع فَالظَّاهِر أَن الْقيَاس المعتضد بقول الصَّحَابِيّ
يقدم وَيكون ذَلِك من الترجيحات بالأمور الخارجية كَمَا يرجح
أحد الْخَبَرَيْنِ المعتارضين بِعَمَل بعض الصَّحَابَة بِهِ
دون الآخر
أما إِن كَانَ أحد القياسين يتَرَجَّح على الآخر فِي شَيْء
مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَمَعَ الْمَرْجُوح قَول بعض الصَّحَابَة
فَهَذَا مَحل النّظر على القَوْل بِأَن مَذْهَب
(1/75)
الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة
وَالِاحْتِمَال منقدح
وَقد تقدم حِكَايَة ابْن الصّباغ عَن بعض أَصْحَابنَا أَن
الْقيَاس الضَّعِيف إِذا اعتضد بقول صَحَابِيّ يقدم على
الْقيَاس الْقوي وَذَلِكَ هُنَا بطرِيق الأولى
وَتقدم أَيْضا نقل القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ عَن الإِمَام
الشَّافِعِي أَنه يرى فِي الْجَدِيد أَن قِيَاس التَّقْرِيب
إِذا انْضَمَّ إِلَى قَول الصَّحَابِيّ كَانَ أولى من قِيَاس
التَّحْقِيق وَمثل الْمَاوَرْدِيّ قِيَاس التَّقْرِيب بِمَا
ذكره الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة البيع بِشَرْط
الْبَرَاءَة من الْعُيُوب أَن الْحَيَوَان يُفَارق مَا سواهُ
لِأَنَّهُ يَعْتَرِيه الصِّحَّة والسقم وتحول طبائعه وقلما
يَخْلُو من عيب وَإِن خَفِي فَلَا يُمكن الِاحْتِرَاز من عيوبه
الْخفية بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوف عَلَيْهَا
وَلَيْسَ كَذَلِك غير الْحَيَوَان لِأَنَّهُ قد يَخْلُو من
الْعُيُوب وَيُمكن الِاحْتِرَاز مِنْهَا بِالْإِشَارَةِ
إِلَيْهَا لظهورها فَدلَّ على افْتِرَاق الْحَيَوَان وَغَيره
من جِهَة الْمَعْنى مَعَ مَا رُوِيَ من قصَّة عُثْمَان رَضِي
الله عَنهُ
وَقد ذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ قِيَاس التَّقْرِيب بِكَلَام
طَوِيل حَاصله يرجع إِلَى أَنه الِاسْتِدْلَال من غير بِنَاء
فرع على أصل وَمن جملَة كَلَامه قَالَ قد تثبت أصُول معللة
اتّفق القائسون على عللها فَقَالَ الشَّافِعِي أَتَّخِذ تِلْكَ
الْأُصُول معتبري وَأَجْعَل الاستدلالات قريبَة مِنْهَا فَإِن
لم تكن بِأَعْيَانِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا أصُول مُعْتَمدَة
مثلا وَالِاسْتِدْلَال مُعْتَبر بهَا وَاعْتِبَار الْمَعْنى
بِالْمَعْنَى تَقْرِيبًا أولى من اعْتِبَار صُورَة بِصُورَة
لِمَعْنى جَامع
ثمَّ مثل الإِمَام ذَلِك بِتَحْرِيم وَطْء الرَّجْعِيَّة
فَإِنَّهُ مُعَلل عِنْد الشَّافِعِي بِأَنَّهَا متربصة فِي
تبرئة الرَّحِم وتسليط الزَّوْج على شغل رَحمهَا فِي الزَّمَان
الَّذِي تُؤمر فِيهِ بالتربص للتبرئة متناقض وَهَذَا معنى
مَعْقُول فَإِن الْمَرْأَة لَو تربصت قبل الطَّلَاق واعتزلها
الزَّوْج لم يعْتد بذلك عدَّة
قَالَ وَلَو طلب الشَّافِعِي لهَذَا الْمَعْنى أصلا لم يجده
وَلكنه قريب من
(1/76)
الْقَوَاعِد وَمن قَاس الرَّجْعِيَّة على
الْبَائِن لم يتم لَهُ ذَلِك لِأَن الْمُخَالف يَقُول
الْبَيْنُونَة هِيَ المستقلة بِتَحْرِيم الْوَطْء والرجعية
لَيست مثلهَا هَذَا تَخْلِيص كَلَام الإِمَام رَحمَه الله
وَحَاصِله على مَا نَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن الْجَدِيد من
مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْقيَاس الْمَرْجُوح إِذا اعتضد بقول
الصَّحَابِيّ كَانَ مقدما على الْقيَاس الرَّاجِح فَيحْتَمل
أَن يكون هَذَا تَفْرِيعا مِنْهُ على أَن قَول الصَّحَابِيّ
حجَّة كَمَا تقدم عَنهُ فِي الرسَالَة الجديدة وَكتاب اختلافه
مَعَ مَالك وَيحْتَمل أَن يكون على القَوْل الآخر الَّذِي
اشْتهر عِنْد الْأَصْحَاب عَن الْجَدِيد أَنه لَيْسَ بِحجَّة
وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم
(1/77)
|