إجمال الإصابة في أقوال الصحابة الطّرف الرَّابِع أَن يخْتَلف الصَّحَابَة
فِي الحكم على قَوْلَيْنِ فَأكْثر
قَالَ الْآمِدِيّ فِي الإحكام اتَّفقُوا على أَن مَذْهَب
الصَّحَابِيّ فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد لَا يكون حجَّة على
غَيره الصَّحَابَة الْمُجْتَهدين وَتَبعهُ على نقل هَذَا
الِاتِّفَاق جمَاعَة من المصنفين
وَلَا ريب فِي ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى آحادهم بَعضهم على
بعض
وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى من بعدهمْ إِذا اخْتلفُوا فقد ظن
قوم أَن حجية قَول الصَّحَابِيّ تَزُول إِذا خَالفه غَيره من
الصَّحَابَة لِأَنَّهُ لَيْسَ اتِّبَاع قَول أَحدهمَا أولى من
الآخر
وَرُبمَا تعلق الْقَائِل بِمَا تقدم من الْإِجْمَاع وَهُوَ
ضَعِيف فقد تقدم قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْجَدِيد
أَنه يرجح قَول أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة على من بعدهمْ
وَفِي مَوضِع آخر أَنه يرجح قَول من مَعَه قِيَاس
وَهَذَا ظَاهر لِأَن غَايَة اخْتلَافهمْ إِذا ثَبت ذَلِك
عَنْهُم وَقيل إِن قَول الْوَاحِد مِنْهُم حجَّة أَن يكون
كالخبرين إِذا تَعَارضا وَعند ذَلِك يرجع إِلَى التَّرْجِيح
بِأحد المرجحات الْمُتَّصِلَة أَو الْمُنْفَصِلَة فَكَذَلِك
هُنَا على القَوْل بحجية
(1/78)
أَقْوَالهم يفزع إِلَى التَّرْجِيح وَمن
جملَة ذَلِك إِذا كَانَ الْقيَاس مَعَ أَحدهمَا كَمَا قَالَ
الشَّافِعِي رَحمَه الله
وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي الرَّوْضَة إِذا اخْتلف
الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ لم يجز للمجتهد بقول بَعضهم من غير
دَلِيل خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة وَبَعض الْمُتَكَلِّمين
أَنه يجوز ذَلِك مَا لم يُنكر على الْقَائِل قَوْله لِأَن
اخْتلَافهمْ دَلِيل على تسويغ الْخلاف وَالْأَخْذ بِكُل وَاحِد
من الْقَوْلَيْنِ وَلِهَذَا رَجَعَ عمر إِلَى قَول معَاذ رَضِي
الله عَنْهُمَا
قَالَ وَهَذَا فَاسد فَإِن قَول الصَّحَابِيّ لَا يزِيد على
الْكتاب وَالسّنة وَلَو تعَارض دليلان من كتاب أَو سنة لم يجز
الْأَخْذ بِوَاحِد مِنْهُمَا بِدُونِ التَّرْجِيح ولأنا نعلم
أَن أحد الْقَوْلَيْنِ صَوَاب وَالْآخر خطأ وَلَا نعلم ذَلِك
إِلَّا بِدَلِيل وَإِنَّمَا يدل اخْتلَافهمْ على تسويغ
الِاجْتِهَاد فِي كلا الْقَوْلَيْنِ أما على الْأَخْذ بِهِ
يَعْنِي بِدُونِ مُرَجّح فَلَا وَأما رُجُوع عمر إِلَى قَول
معَاذ فَلِأَنَّهُ بَان لَهُ الْحق بدليله فَرجع إِلَيْهِ
انْتهى كَلَامه
ويتحصل فِيمَا إِذا اخْتلفت أَقْوَال الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا سُقُوط الحجية وَأَنه لَا يعْتَمد قَول مِنْهَا
وَالثَّانِي أَن يُؤْخَذ بِأَيّ قَول مِنْهَا يُغير تَرْجِيح
وَالثَّالِث أَنه يعدل إِلَى التَّرْجِيح وَهُوَ الْأَظْهر
وَقد حكى ابْن عبد الْبر القَوْل بالتخيير فِي الرُّجُوع إِلَى
أَي قَول شَاءَ الْمُجْتَهدين من أَقْوَالهم عَن الْقَاسِم بن
مُحَمَّد وَعمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ وَعَن سُفْيَان
(1/79)
الثَّوْريّ إِن صَحَّ عَنهُ
ثمَّ روى عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد من غير وَجه أَنه قَالَ
لقد وسع الله على النَّاس باخْتلَاف أَصْحَاب مُحَمَّد صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَي ذَلِك أخذت لم يكن فِي نَفسِي مِنْهُ
شَيْء
وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ مَا أحب أَن أَصْحَاب
مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَخْتَلِفُوا لِأَنَّهُ
لَو كَانَ قولا وَاحِدًا كَانَ النَّاس فِي ضيق وَإِنَّهُم
أَئِمَّة يقْتَدى بهم وَإِذا أَخذ الرجل بقول أحدهم كَانَ فِي
سَعَة
وَعَزاهُ بَعضهم أَيْضا إِلَى أبي حنيفَة رَحمَه الله
فَإِنَّهُ قَالَ مَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فعلى الرَّأْس وَالْعين وَإِذا اخْتلف الصَّحَابَة
تخيرنا من أَقْوَالهم وَأما إِذا جَاءَ عَن التَّابِعين فَنحْن
رجال وهم رجال
وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله تخيرنا من أَقْوَالهم
أَي مَا كَانَ الدَّلِيل يَقْتَضِي تَرْجِيحه كَمَا تقدم عَن
الإِمَام الشَّافِعِي
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي شرح اللمع
إِذا اخْتلف الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ فَإِن قُلْنَا إِن
قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة لم يكن قَول بَعضهم حجَّة
على الْبَعْض وَلم يجز لأحد الْفَرِيقَيْنِ تَقْلِيد الآخر
وَإِن قُلْنَا إِن قَول الصَّحَابِيّ حجَّة فهما حجتان
تَعَارَضَتَا فيرجح أحد الْقَوْلَيْنِ على الآخر بِكَثْرَة
الْعدَد فَإِن كَانَ أحد الْقَوْلَيْنِ أَكثر الصَّحَابَة
وعَلى الآخر أقلهم مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر
فَإِن اسْتَويَا فِي الْعدَد قدم الْأَئِمَّة فَإِن كَانَ على
أَحدهمَا إِمَام وَلَيْسَ على الآخر إِمَام قدم الَّذِي
عَلَيْهِ الإِمَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم
بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي
(1/80)
فَإِن كَانَ على أَحدهمَا الْأَكْثَر وعَلى
الآخر الْأَقَل إِلَّا أَن الإِمَام مَعَ الْأَقَل تَسَاويا
فَإِن اسْتَويَا فِي الْعدَد وَالْأَئِمَّة وَمَعَ أَحدهمَا
أحد الشَّيْخَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنَّهُمَا سَوَاء لحَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ
وَالثَّانِي أَن الَّذِي مَعَه أحد الشَّيْخَيْنِ أولى لحَدِيث
اقتدوا باللذين من بعدِي
ثمَّ ذكر أَن الْفرق بَين اخْتِلَاف أَقْوَال الصَّحَابَة
وَاخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِي أَنه لَا يجمع بَين أَقْوَال
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بتنزيل الْمُطلق على الْمُقَيد
وَتَخْصِيص الْعَام بالخاص وَتَأْويل مَا يحْتَمل وَنَحْو
ذَلِك مِمَّا يجمع بِهِ بَين الْأَخْبَار الْمُخْتَلفَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن جَمِيع الْأَخْبَار
صادرة عَن وَاحِد وَهُوَ مَعْصُوم صلوَات الله وَسَلَامه
عَلَيْهِ فَلَا يجوز فِيهَا الِاخْتِلَاف والتضاد من كل وَجه
فَيجمع بَينهَا مَا أمكن حَتَّى لَا يكون أَحدهَا مُخَالفا
للْآخر وَإِذا لم يُمكن ذَلِك كَانَ الثَّانِي نَاسِخا للْأولِ
وَأما أَقْوَال الصَّحَابَة إِذا اخْتلف فَلَيْسَتْ كَذَلِك
لاخْتِلَاف مقاصدهم وَأَن ذَلِك لَيْسَ صادرا عَن مُتَكَلم
وَاحِد
وَاحْتج ابْن عبد الْبر لما ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه لَا
يتَخَيَّر بَين أَقْوَال الصَّحَابَة عِنْد اخْتلَافهمْ بل
يرجع إِلَى مَا يتَرَجَّح بِهِ من خَارج بِاتِّفَاق أَصْحَاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تخطئة بَعضهم بَعْضًا
وَرُجُوع بَعضهم إِلَى قَول غَيره عِنْد مُخَالفَته إِيَّاه
كَمَا روى فِي قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي بعث إِلَيْهَا عمر
رَضِي الله عَنهُ ففرعت فأجهضت جَنِينا فَمَاتَ فَشَاور
أَصْحَابه فِي ذَلِك فَقَالُوا مَا نرى
(1/81)
عَلَيْك شَيْئا مَا أردْت بِهَذَا إِلَّا
الْخَيْر فَقَالَ لَهُ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ
هَؤُلَاءِ اجتهدوا رَأْيهمْ فقد قضوا مَا عَلَيْهِم وَإِن
كَانُوا قاربوك فقد غشوك أما الْإِثْم فأرجو أَن يَضَعهُ الله
عَنْك بنيتك وَأما الْغُلَام فَإِن عَلَيْك ضَمَانه فَقَالَ
لَهُ عمر أَنْت وَالله صدقتني
وَكَذَلِكَ رَجَعَ أَيْضا عمر إِلَى قَول معَاذ رَضِي الله
عَنهُ لما أَرَادَ رجم الْحَامِل فَقَالَ لَهُ معَاذ لَيْسَ
لَك سَبِيل على مَا فِي بَطنهَا فَتَركهَا حَتَّى وضعت وَقَالَ
لَوْلَا معَاذ هلك عمر
وَرجع أَيْضا إِلَى قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الَّتِي
ولدت لسِتَّة أشهر لما احْتج لَهُ بالآيتين فِي أَن أقل مُدَّة
الْحمل سِتَّة أشهر وَأنكر أَبُو مُوسَى وَابْن عَبَّاس على
عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تحريقه الغالية وأنكروا على ابْن
عَبَّاس فِي الصّرْف
(1/82)
وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى
وَذَلِكَ كُله دَلِيل وَاضح على أَن اخْتلَافهمْ عِنْدهم خطأ
وصواب وَلَوْلَا ذَلِك كَانَ يَقُول كل وَاحِد مِنْهُم جَائِز
مَا قلت أَنا وَجَائِز مَا قلت أَنْت وكلانا نجم يهتدى بِهِ
فَلَا علينا شَيْء من اختلافنا
قلت وبهذه النُّكْتَة تمسك من يَقُول بِأَن مُطلق قَول
الصَّحَابِيّ لَيْسَ حجَّة وَقد تقدم مَعَ الْجَواب عَنهُ
وَالله أعلم هَذَا تَمام الْكَلَام فِي أَقْوَال الصَّحَابَة
إِذا انْفَرَدت عَن معَارض من السّنة
قَول الصَّحَابِيّ الْمُخَالف للْحَدِيث
واختتام الْكتاب بِمَا إِذا كَانَ قَول الصَّحَابِيّ يتَضَمَّن
لحَدِيث رَوَاهُ هُوَ أَو رَوَاهُ غَيره وَذَلِكَ يَنْقَسِم
على أَقسَام
لِأَن ذَلِك الحَدِيث إِمَّا أَن يكون نصا قَاطع الدّلَالَة
أَو ظَاهرا فِي دلَالَته فيحمله الصَّحَابِيّ على غير ذَلِك
أَو مُحْتملا لأمرين فَأكْثر هُوَ فِيهَا على السوَاء فيحمله
على أَحدهمَا
وَالظَّاهِر إِمَّا أَن يكون عَاما فيخصه الصَّحَابِيّ بِبَعْض
أَفْرَاده أَو مُطلقًا يعم أَفْرَاده عُمُوم فيقيده
الصَّحَابِيّ بأحدها أَو حَقِيقَة فيحمله الصَّحَابِيّ على
مجازه أَو يؤوله على معنى مَرْجُوح
(1/83)
فَنَذْكُر مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ
الْأَنْوَاع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن يكن على مساق هَذَا
التَّقْسِيم
الْقسم الأول التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ
أَن يكون الْخَبَر عَاما فيخصه الصَّحَابِيّ بِأحد أَفْرَاده
سَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو لم يكن هُوَ رَاوِي ذَلِك
الحَدِيث
فمثال الأول حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من بدل دينه
فَاقْتُلُوهُ فَإِن لفظ من عَام يَشْمَل الْمُذكر والمؤنث
عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه
قَالَ فِي النِّسَاء إِذا ارتددن عَن الْإِسْلَام يحبس وَلَا
يقتلن فَخص الحَدِيث بِالرِّجَالِ
وَحَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن معمر بن عبد الله بن نَضْلَة
رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لَا يحتكر إِلَّا خاطىء أخرجه مُسلم وَفِيه
(1/84)
وَكَانَ سعيد بن الْمسيب يحتكر فَقيل لَهُ
فَإنَّك تحتكر فَقَالَ إِن معمرا الَّذِي كَانَ يحدث هَذَا
الحَدِيث كَانَ يحتكر قَالَ ابْن عبد الْبر كَانَا يحتكران
الزَّيْت وحملا الحَدِيث على احتكار الْقُوت عِنْد الْحَاجة
إِلَيْهِ والغلاء
وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ على الْمُسلم
فِي عَبده وَلَا فرسه صَدَقَة وَفِي حَدِيث عَليّ رَضِي الله
عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قد عَفَوْت
لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ تَخْصِيص الْخَيل
بِمَا يغزى عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله فَأَما غَيرهَا فَفِيهَا
الزَّكَاة وَعَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ تَخْصِيصه أَيْضا
بالسائمة وَأخذ من المعلوفة الزَّكَاة وَعَن عمر رَضِي الله
عَنهُ نَحوه أَيْضا
فَاخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك وَأطلق بعض المصنفين الْخلَافَة
التَّرْجِيح وَلم يفصل
قَالَ الشَّيْخ فَخر الدّين فِي الْمَحْصُول الْحق أَنه لَا
يجوز التَّخْصِيص بِمذهب الرَّاوِي وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي الإحكام مَذْهَب الشَّافِعِي فِي
الْجَدِيد وَأكْثر الْفُقَهَاء والأصوليين أَن مَذْهَب
الصَّحَابِيّ إِذا كَانَ على خلاف ظَاهر الْعُمُوم
(1/85)
وَسَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو لم يكن
لَا يكون تَخْصِيصًا للْعُمُوم خلافًا لأَصْحَاب أبي حنيفَة
والحنابلة وَعِيسَى بن أبان وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء
وَوَافَقَهُمَا فِي تَجْوِيز ذَلِك سَائِر أصحابهما
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي شرح اللمع أما قَول
الصَّحَابِيّ هَل يجوز التَّخْصِيص بِهِ ينظر فِيهِ فَإِن
كَانَ قد انْتَشَر فِي ذَلِك وسكتوا عَن مُخَالفَته فَهُوَ
حجَّة يجب الْمصير إِلَيْهِ وَفِي تَسْمِيَته إِجْمَاعًا
وَجْهَان فَيجوز التَّخْصِيص بِهِ
وَإِن لم ينتشر فِي الصَّحَابَة فَهَل يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم
بِهِ إِن قُلْنَا بقوله الْجَدِيد إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة لم
يجز التَّخْصِيص بِهِ
وَإِن قُلْنَا بقوله الْقَدِيم إِنَّه حجَّة يقدم على الْقيَاس
فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ لِأَن
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يتركون أَقْوَالهم
لعُمُوم الْكتاب وَالسّنة
قَالَ وَالْمذهب أَنه يجوز تَخْصِيصه بِهِ لِأَنَّهُ على هَذَا
القَوْل حجَّة يقدم على الْقيَاس وَتَخْصِيص الْعُمُوم
بِالْقِيَاسِ جَائِز فَلِأَن يجوز بِمَا يقدم عَلَيْهِ أولى
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك مَا إِذا الصَّحَابِيّ هُوَ الرَّاوِي
للْحَدِيث وَجزم بِأَن مذْهبه لَا يخصص عُمُوم الحَدِيث خلافًا
لأبي حنيفَة وَمثله بِحَدِيث لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده
وَلَا فرسه صَدَقَة وَأَن الْحَنَفِيَّة حملوه على فرس
الْغَازِي لقَوْل زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ مثل ذَلِك
وَفِي هَذَا نظر من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن زيد بن ثَابت لَيْسَ هُوَ الرَّاوِي للْحَدِيث
وَلَا يعرف من طَرِيقه
وَالثَّانِي أَن تخرج الْمَسْأَلَة على أَن قَول الصَّحَابِيّ
حجَّة أملا لَا يفرق
(1/86)
فِيهِ بَين أَن يكون هُوَ الرَّاوِي
للْحَدِيث أم لَا كَمَا صرح بِهِ بَعضهم لِأَن تَخْصِيصه يدل
على أَنه اطلع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
قَرَائِن حَالية تَقْتَضِي تَخْصِيص ذَلِك الْعَام فَهُوَ أقوى
من التَّخْصِيص بِمذهب صَحَابِيّ آخر لم يرو الْخَبَر
وَلَعَلَّه لم يبلغهُ لَو بلغه لم يُخَالِفهُ بِإِخْرَاج بعضه
وَإِلَى هَذِه الْأَوْلَوِيَّة يرشد كَلَام ابْن الْحَاجِب
بقوله فِي الْمُخْتَصر مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَا يخصص وَلَو
كَانَ هُوَ الرَّاوِي خلافًا للحنفية والحنابلة نعم مَسْأَلَة
التَّخْصِيص بقول الرَّاوِي لَا تخْتَص بالصحابي عِنْد
الْحَنَفِيَّة فَقَط بل وَلَا بِصُورَة التَّخْصِيص بل
الرَّاوِي مُطلقًا من الصَّحَابِيّ وَمن بعده إِذا خَالف
الْخَبَر بتخصيص أَو غَيره حَتَّى لَو تَركه بِالْكُلِّيَّةِ
كَانَ مذْهبه عِنْدهم مقدما على الْخَبَر كَمَا سَيَأْتِي
وَلذَلِك لم يُقيد فَخر الدّين كَلَامه الْمُتَقَدّم فِي
الْمَحْصُول بالصحابي بل الرَّاوِي مُطلقًا لكنه قيد
الْمُخَالفَة بِحَالَة التَّخْصِيص وَلَا تتقيد بذلك عِنْدهم
كَمَا بَينا
وَإِذا تقرر تَخْصِيص الصَّحَابِيّ الحَدِيث بتخريج على
القَوْل بِأَن مذهبَة حجَّة لم يحْتَج إِلَى نصب اسْتِدْلَال
فِيهَا من الطَّرفَيْنِ لظُهُور الْمدْرك
وَأما تَفْصِيل الشَّيْخ أبي إِسْحَاق رَحمَه الله
الْمُتَقَدّم وَأَن قَول الصَّحَابِيّ إِذا انْتَشَر وَسكت
الْجَمِيع عَنهُ يكون مُخَصّصا فَهُوَ قوي بِنَاء على مَا تقدم
أَن ذَلِك يكون إِجْمَاعًا أَو حجَّة
وَهَذِه الصُّورَة وَارِدَة على قَول من أطلق الْكَلَام فِي
هَذِه الْمَسْأَلَة
وَسَيَأْتِي تَتِمَّة الْكَلَام فِي مثل ذَلِك إِذا كَانَ قَول
الصَّحَابِيّ الْمُنْتَشِر على مُخَالفَة الْخَبَر
بِالْكُلِّيَّةِ وان ذَلِك هَل يتَضَمَّن نَاسِخا أم لَا إِن
شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما تَقْيِيد الصَّحَابِيّ الْخَبَر الْمُطلق فَهُوَ كتخصيصه
الْعَام من غير فرق وَذَلِكَ ظَاهر
وَأما تَخْرِيج الشَّيْخ أبي إِسْحَق القَوْل بِكَوْنِهِ
تَخْصِيصًا على الْقَدِيم فَذَلِك لما هُوَ مُسْتَقر عِنْدهم
أَن مَذْهَب الشَّافِعِي الْجَدِيد أَن قَول الصَّحَابِيّ
لَيْسَ بِحجَّة
(1/87)
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه مَنْصُوص لَهُ
فِي الْجَدِيد فِي غير مَوضِع وَلذَلِك اعْتمد مَذْهَب معمر بن
نَضْلَة رَضِي الله عَنهُ فِي تَخْصِيصه الاحتكار بِالطَّعَامِ
حَالَة الضّيق على النَّاس وَلم يعْتَمد قَول ابْن عَبَّاس فِي
تَخْصِيص الْمُرْتَد بِالرجلِ دون الْمَرْأَة وَلَا قَول من
خصص نفي الزَّكَاة عَن الْخَيل بِبَعْض أصنافها إِمَّا على
القَوْل الآخر الْمَشْهُور لَهُ فِي الْجَدِيد أَن قَول
الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة أَو لِأَن غير هَؤُلَاءِ من
الصَّحَابَة خالفوهم فِي ذَلِك فقد رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي
الله عَنهُ أَنه قتل الْمُرْتَدَّة أَو قَالَ تقتل إِذا لم
ترجع إِلَى الْإِسْلَام وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه
امْتنع من أَخذ الزَّكَاة من الْخَيل لما سَأَلَهُ أَرْبَابهَا
ذَلِك وَقَالَ حِين أَخذهَا مِنْهُم مَا لم تكن سنة راتبة
وَإِذا اخْتلف الصَّحَابَة أَو تَعَارَضَت أَقْوَالهم فَيبقى
الْعَام على عُمُومه وَالله أعلم
الْقسم الثَّانِي أَن يكون لخَبر مُحْتملا لأمرين فيحمله
الصَّحَابِيّ الرَّاوِي أَو المطلع عَلَيْهِ على أَحدهمَا وَقد
مثل ذَلِك جمَاعَة بمثالين
أَحدهمَا حمل ابْن عمر وَأبي بَرزَة رَضِي الله عَنْهُمَا
التَّفَرُّق الْمُوجب للْبيع على التَّفَرُّق بالأبدان
وَالثَّانِي قَول عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَضِيَّة
المصارفة وَالله لَا تُفَارِقهُ وَبَيْنك وَبَينه شَيْء ثمَّ
احْتج بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الذَّهَب بالورق
رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء على الْمجْلس دون المقابضة على
الْفَوْر وَفِي كل من هذَيْن المثالين نظر
أما الأول فَلِأَن الظَّاهِر من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حَتَّى يَتَفَرَّقَا التَّفَرُّق بالأبدان
(1/88)
وَلَا إِشْعَار لَهُ بالتفرق بالأقوال فضلا
عَن أَن يكون احْتِمَال كل مِنْهُمَا على السوَاء فالصحابي
هُنَا إِنَّمَا حمل مَا رَوَاهُ على ظَاهره الْمَفْهُوم مِنْهُ
وَلَيْسَ ذَلِك هُوَ الْمَفْرُوض
وَأما الثَّانِي فَهُوَ أقرب من الأول بِدَلِيل قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الآخر إِنَّمَا الرِّبَا فِي
النَّسِيئَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ عمر لما
سَأَلَهُ عَن اقْتِضَاء الذَّهَب عَن الْوَرق وَبِالْعَكْسِ
لَا بَأْس إِذا لم تفترقا وَبَيْنك وَبَينه شَيْء فَفِي هذَيْن
الْحَدِيثين مَا يَقْتَضِي أَن المُرَاد بقوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا هَاء وهاء مَا هُوَ الْأَعَمّ من
التَّقَابُض على الْفَوْر أَو فِي الْمجْلس فَيكون حمل رَضِي
الله عَنهُ لَهُ على الْمجْلس مُبينًا للمراد مِنْهُ
لَكِن لقَائِل أَن لَوْلَا هَذَانِ الحديثان لَكَانَ الظَّاهِر
مِنْهُ التَّقَابُض على الْفَوْر فَيكون عمر رَضِي الله عَنهُ
على خلاف الظَّاهِر مِنْهُ وَلَكِن مَعَ الْحَدِيثين تبين
وَكَانَا هما الْعُمْدَة فِي تَأْوِيل قَوْله هَاء وهاء
فَالْمَسْأَلَة مُحْتَملَة فِي التَّمْثِيل بهَا
وَقد قَالَ الْآمِدِيّ فِي هَذِه الصُّورَة أَعنِي مَا إِذا
حمل الصَّحَابِيّ مَا رَوَاهُ من الْمُجْمل على أحد محمليه
إِنَّا إِذا قُلْنَا إِن اللَّفْظ الْمُشْتَرك ظَاهر فِي
جَمِيع محامله كالعام فتعود الْمَسْأَلَة إِلَى التَّخْصِيص
بقول الصَّحَابِيّ وَإِن قُلْنَا بامتناع حمله على ذَلِك فَلَا
نَعْرِف خلافًا فِي وجوب حمل الْخَبَر على مَا حمله الرَّاوِي
عَلَيْهِ لِأَن الظَّاهِر من حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَنه لَا ينْطق بِاللَّفْظِ الْمُجْمل بِقصد التشريع
وتعريف الْأَحْكَام ويخليه عَن قرينَة حَالية أَو مقالية تعين
الْمَقْصُود من الْكَلَام والصحابي الرَّاوِي الْمشَاهد
للْحَال أعرف بذلك من غَيره فَوَجَبَ الْحمل عَلَيْهِ
ثمَّ أود على وَجه الِاحْتِمَال أَن تَعْيِينه لَيْسَ أولى من
تعْيين غَيره من
(1/89)
الْمُجْتَهدين حَتَّى ينظر فَإِن انقدح
لَهُ وَجه يُوجب تعْيين غير ذَلِك الِاحْتِمَال وَجب ابتاعه
وَإِلَّا فتعيين الرَّاوِي صَالح للترجيح فَيجب اتِّبَاعه
قلت وَهَذَا الِاحْتِمَال ضَعِيف لِأَن ظَاهر الْحَال أَن
تعْيين الصَّحَابِيّ الْمشَاهد للْحَال إِنَّمَا يكون عَن
قرينَة حَالية اَوْ مقالية شَاهدهَا فَلَا يعدل عَن هَذَا
الظَّاهِر إِلَّا عِنْد قيام مَا يرجح عَلَيْهِ لَا لمُجَرّد
كَونه مُجْتَهدا وَالله أعلم
الْقسم الثَّالِث أَن يكون الْخَبَر ظَاهرا فِي شَيْء فيحمله
الصَّحَابِيّ على غير ظَاهره إِمَّا بِصَرْف اللَّفْظ عَن
حَقِيقَته إِلَى مجازه أَو بِغَيْر ذَلِك من وُجُوه
التَّأْوِيل
فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء أَن يعْمل بِظَاهِر
الحَدِيث وَلَا يخرج عَنهُ لمُجَرّد عمل الصَّحَابِيّ أَو
قَوْله
وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة إِلَى اتِّبَاع قَول الرَّاوِي فِي
ذَلِك لما سَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة إِن كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يُمكن
أَن يدْرك إِلَّا بشواهد الْأَحْوَال والقرائن الْمُقْتَضِيَة
لذَلِك وَلَيْسَ للإجتهاد مساغ فِي ذَلِك اتبع قَوْله وَإِن
كَانَ صرفه عَن ظَاهره يُمكن أَن يكونى بِضَرْب من
الِاجْتِهَاد تعْيين الرُّجُوع إِلَى ظَاهر الْخَبَر
لاحْتِمَال أَن لَا يكون اجْتِهَاده مطابقا لما فِي نفس
الْأَمر فَلَا يتْرك الظَّاهِر للمحتمل حَكَاهُ عَنْهُم
القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي مخلصه
وَقَالَ القَاضِي عبد الْجَبَّار وَأَبُو الْحُسَيْن
الْبَصْرِيّ من الْمُعْتَزلَة إِن علم أَنه لم يكن لمَذْهَب
الرَّاوِي وتأويله وَجه سوى علمه بِقصد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك التَّأْوِيل وَجب الْمصير إِلَيْهِ
وَإِن لم يعلم ذَلِك بل جَوَاز أَن يكون قد صَار إِلَيْهِ
لدَلِيل ظهر لَهُ من نَص أَو قِيَاس وَجب النّظر فِي ذَلِك
الدَّلِيل فَإِن كَانَ مقتضيا لما ذهب إِلَيْهِ وَجب الْمصير
إِلَيْهِ وَإِلَّا عمل بالْخبر وَلم يكن لمُخَالفَة
الصَّحَابِيّ أثر وَهَذَا قوي أَيْضا
(1/90)
ولإمام الْحَرَمَيْنِ تَفْصِيل آخر يَأْتِي
فِي الْقسم الَّذِي بعد هَذَا وَهُوَ
الْقسم الرَّابِع أَن تكون الْمُخَالفَة بترك مَدْلُول
الحَدِيث بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا
ولغَ الْكُلِّي فِي إِنَاء أحدكُم فاغسلوه سبع مرار الحَدِيث
وَجَاء عَن أبي هُرَيْرَة نَفسه أَنه يغسل الْإِنَاء من ولوغ
الْكَلْب ثَلَاثًا
وَهَذَا ذكره فَخر الدّين ابْن الْخَطِيب مِثَالا لتخصيص
الرَّاوِي عُمُوم الْخَبَر وَهُوَ تَمْثِيل ضَعِيف لِأَن
الْأَعْدَاد نُصُوص لَا تقبل التَّجَوُّز وَلَيْسَت من
الْأَلْفَاظ الْعَامَّة حَتَّى تكون الثَّلَاثَة أحد أَفْرَاد
السَّبْعَة بل هَذَا مُخَالفَة مَحْضَة لمدلول الْخَبَر
وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه لَا يعدل عَن
الْخَبَر الظَّاهِر أَو النَّص إِلَى مَذْهَب الرَّاوِي وَإِن
قُلْنَا إِن مَذْهَب الصَّحَابِيّ حجَّة لِأَن مَذْهَب
الصَّحَابِيّ إِنَّمَا يكون حجَّة إِذا لم يُعَارضهُ قَول
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَظن كَونه اطلع على نَاسخ
أَو دَلِيل يتَرَجَّح على هَذَا الْخَبَر وَإِن كَانَ منقدحا
فَهُوَ مَرْجُوح لما سَيَأْتِي من الِاحْتِمَالَات الَّتِي
تعارضه وَالظَّن الْمُسْتَفَاد من الْخَبَر أرجح مِنْهُ وعمدة
الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا الْمقَام أَن هَذَا الرَّاوِي إِمَّا
أَن تكون مُخَالفَته لدَلِيل رَاجِح على هَذَا الْخَبَر أَولا
لدَلِيل
فَإِن كَانَ لَا لدَلِيل لزم فسقه وَخرج عَن أَهْلِيَّة من
تقبل رِوَايَته فَيسْقط الْعَمَل بِالْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ
وَالْأَصْل خلاف ذَلِك فَتعين أَن تكون الْمُخَالفَة لدَلِيل
رَاجِح على هَذَا الْخَبَر وَحِينَئِذٍ فَيجب الْمصير إِلَيْهِ
(1/91)
وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه لَا يلْزم إِذا
كَانَت الْمُخَالفَة لدَلِيل رَاجِح أَن يكون ذَلِك
بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفس الْأَمر بل راجحا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
ظَنّه وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم أَن يكون ذَلِك مطابقا لما فِي
نفس الْأَمر بل جَازَ أَن يكون مرجوحا وَهُوَ يَظُنّهُ راجحا
وَهَذَا احْتِمَال لَا مدفع لَهُ فَلَا يتْرك ظَاهر هَذَا
الْخَبَر لهَذَا الْمُحْتَمل
وايضا فالاتفاق على أَن الصَّحَابِيّ غير الرَّاوِي للْحَدِيث
إِذا خَالفه بِالْكُلِّيَّةِ لَا يعْتد بمخالفته وَلَا يُعلل
بهَا الْخَبَر بل يعْمل بِهِ ويعدل عَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ
وَمن الْجَائِز الْقوي أَن يكون ذَلِك الصَّحَابِيّ قد اطلع
على هَذَا الْخَبَر وَإِنَّمَا خَالفه لمعارض ظَنّه راجحا
عَلَيْهِ فَيلْزم على أصلهم اتِّبَاع أَقْوَال الصَّحَابَة
الْمُخَالفَة للْأَخْبَار والعدول إِلَيْهَا دون الْأَخْبَار
لعين مَا قَالُوهُ من غير فرق بَين الرَّاوِي وَغَيره وَذَلِكَ
بَاطِل فَيلْزم مثله فِي الرَّاوِي أَيْضا
وَقَوْلهمْ إِنَّه يكون فَاسِقًا إِذا ترك الْعَمَل بالْخبر من
غير معَارض رَاجِح قلت إِنَّمَا يلْزم إِذا تَركه من غير
معَارض بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا ندعي ذَلِك بل يجوز لَهُ تَركه
لمعارض رَاجِح فِي ظَنّه وَلَا يلْزم فسقه إِذا لم يكن راجحا
فِي نفس الْأَمر
واختارإمام الْحَرَمَيْنِ تَفْصِيلًا فِي ذَلِك وَهُوَ أَنه
إِن تحققنا أَن مُخَالفَة الرَّاوِي كَانَت لنسيان الْخَبَر
أَو لعدم فهمه لَهُ فَلَا شكّ فِي وجوب اتِّبَاع الْخَبَر
وَلذَلِك إِذا كَانَ لورع فِي الرَّاوِي بِأَن يكون الْخَبَر
يَقْتَضِي ترخصا والراوي شَدِيد الْوَرع فَإِنَّهُ تحمل
الْمُخَالفَة على أَخذه بِالِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالغَة فِي
الْوَرع
(1/92)
وَإِن خَفِي عَنَّا سَبَب الْمُخَالفَة
وَلَكِن علمنَا أَنه خَالف مَا رَوَاهُ عمدا فالرجوع هُنَا
إِلَى قَوْله لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يرتكب مثل هَذِه
الْمُخَالفَة إِلَّا لمسوغ يَقْتَضِي مُخَالفَة مَا رَوَاهُ
وَإِن خَفِي عَنَّا أَن الْمُخَالفَة وَقعت عمدا أَو لسَبَب من
الْأَسْبَاب وَلم نحط بِهِ علما فَالْوَاجِب اتِّبَاع الْخَبَر
وَترك مَا ذهب إِلَيْهِ الصَّحَابِيّ الرَّاوِي
وَهَذَا التَّفْصِيل يرد عَلَيْهِ فِي قَوْله إِن الْمُخَالفَة
مني كَانَت عمدا فَالظَّاهِر أَنه لَا يرتكبها إِلَّا المسوغ
يقتضيها (ل) مَا تقدم ان ذَلِك المسوغ يحْتَمل أَن يكون راجحا
فِي نفس الْأَمر وَأَن يكون كَذَلِك فِي ظَنّه وَلَا يكون
مطابقا لما ظَنّه فَلَا يتْرك ظَاهر الْخَبَر لهَذَا
الِاحْتِمَال وَأما تَفْصِيل من تقدم ذكره فَلَا يخفي وَجهه
والمتبع فِي ذَلِك غَلَبَة الظَّن فَمَتَى كَانَ الظَّن راجحا
من جِهَة تعين اتباعها
وَهَذَا كُله إِذا لم ينتشر قَول الصَّحَابِيّ الْمُخَالف
للْخَبَر فَأَما إِذا انْتَشَر الْجَمِيع وَعمِلُوا بِهِ
وسكتوا عَنهُ مَعَ علمهمْ بالْخبر فَإِنَّهُ يَنْبَنِي على مَا
تقدم أول الْكتاب من الْأَقْوَال فَإِذا قيل بِأَنَّهُ
إِجْمَاع أَو حجَّة كَانَ ذَلِك راجحا على الْخَبَر ومتضمنا
وجود نَاسخ لَهُ كَانَ سَبَب مخالفتهم لَهُ وَإِن لم نطلع على
ذَلِك النَّاسِخ وَذَلِكَ كَمَا تقدم فِي الصَّحِيحَيْنِ مثله
وَكَذَلِكَ فِي الْحمل على الْمجَاز والعدول عَن الظَّاهِر
وَالله الْمُوفق للصَّوَاب
(1/93)
فَائِدَة نذنب بهَا مَا تقدم
فِي تعداد الصَّحَابَة الَّذين نقلت فتاواهم فِي الإحكام
الشَّرْعِيَّة أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب الإحكام لَهُ
على تَرْتِيب الْأَكْثَر مِنْهُم فَتْوَى فالأكثر
عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب ابْنه عبد الله عَليّ
بن أبي طَالب عبد الله بن الْعَبَّاس عبد الله بن مَسْعُود زيد
بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم قَالَ فَهَؤُلَاءِ السَّبْعَة
فَقَط يُمكن 4 أَن يجمع من فتيا كل وَاحِد مِنْهُم سفر ضخم
والمتوسطون مِنْهُم فِيمَا رُوِيَ عَنْهُم أم سَلمَة أم
الْمُؤمنِينَ أنس بن مَالك أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَبُو
هُرَيْرَة عُثْمَان بن عَفَّان عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
عبد الله بن الزبير أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ سعيد بن أبي
وَقاص سلمَان الْفَارِسِي جَابر بن عبد الله معَاذ بن جبل
أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم قَالَ فهم ثَلَاثَة عشر
يُمكن أَن يجمع من فتيا كل امرىء مِنْهُم جُزْء صَغِير جدا
ويضاف إِلَيْهِم أَيْضا طَلْحَة بن عبيد الله وَالزُّبَيْر بن
الْعَوام وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعمْرَان بن الْحصين
وَأَبُو بكرَة وَعبادَة بن الصَّامِت وَمُعَاوِيَة بن أبي
سُفْيَان رَضِي الله عَنْهُم
قَالَ وَالْبَاقُونَ مِنْهُم مقلون جدا فِي الْفتيا لَا يرْوى
عَن الْوَاحِد مِنْهُم إِلَّا الْمَسْأَلَة والمسألتان
وَالزِّيَادَة الْيَسِيرَة على ذَلِك فَقَط يُمكن أَن يجمع من
(1/94)
فتيا جَمِيعهم جُزْء صَغِيرَة بعد التفصي
والبحث وهم أَبُو الدَّرْدَاء أَبُو الْيُسْر السّلمِيّ أَبُو
سَلمَة المَخْزُومِي أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح سعيد بن زيد
الْحسن وَالْحُسَيْن ابْنا عَليّ النُّعْمَان بن بشير أَبُو
مَسْعُود البدري أبي بن كَعْب أَبُو أَيُّوب أَبُو طَلْحَة
أَبُو ذَر أم عَطِيَّة صَفِيَّة أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة أم
الْمُؤمنِينَ أم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ أُسَامَة بن زيد
جَعْفَر بن أبي طَالب الْبَراء ابْن عَازِب قرظة بن كَعْب
أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ نَافِع أَخُو أبي بكرَة لأمه
الْمِقْدَاد بن الْأسود أَبُو السنابل بن بعكك الْجَارُود
الْعَبْدي ليلى بنت قانف أَبُو مَحْذُورَة أَبُو شُرَيْح
الكعبي أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ أَسمَاء بنت أبي بكر أم
شريك الحولاء بنت تويت أسيد بن الْحضير الضَّحَّاك بن قيس حبيب
بن مسلمة عبد الله بن أنيس حُذَيْفَة بن الْيَمَان ثُمَامَة بن
أَثَال عمار بن يَاسر عَمْرو بن الْعَاصِ أَبُو العادية
السّلمِيّ أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى الضَّحَّاك بن خَليفَة
الْمَازِني الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ وابصة بن معبد عبد
الله بن جَعْفَر عَوْف بن مَالك عدي بن حَاتِم عبد الله بن أبي
أوفى عبد الله بن سَلام عَمْرو بن عبسة عتاب بن أسيد عُثْمَان
بن أبي الْعَاصِ عبد الله بن سرجس عبد الله بن رَوَاحَة عقيل
بن أبي طَالب عَائِذ بن عَمْرو أَبُو قَتَادَة عبد الله بن
معمر الْعَدوي عُمَيْر بن سعد عبد الله بن أبي بكر عبد الرحمن
اخوه عَاتِكَة بنت زيد
(1/95)
ابْن عَمْرو عبد الله بن عَوْف الزُّهْرِيّ
سعد بن معَاذ أَبُو منيب سعد بن عبَادَة قيس ابْنه عبد الرحمن
بن سهل سَمُرَة بن جُنْدُب سهل بن سعد مُعَاوِيَة بن مقرن
أَخُوهُ سُوَيْد بن مقرن مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ سهلة
بنت سُهَيْل أَبُو حُذَيْفَة بن عتبَة سَلمَة بن الْأَكْوَع
زيد بن أَرقم جرير ابْن عبد الله البَجلِيّ جَابر بن سَمُرَة
جوَيْرِية أم الْمُؤمنِينَ حسان بن ثَابت حبيب بن عدي قدامَة
بن مَظْعُون مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ مَالك بن الْحُوَيْرِث
أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ مُحَمَّد بن مسلمة خباب بن
الْأَرَت خَالِد بن الْوَلِيد ضَمرَة بن الْعيص طَارق بن شهَاب
ظهير بن رَافع رَافع بن خديج فَاطِمَة بنت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَاطِمَة بنت قيس هِشَام بن حَكِيم بن حزَام
أَبوهُ حَكِيم شُرَحْبِيل بن السمط أم سليم دحْيَة بن خَليفَة
الْكَلْبِيّ ثَابت بن قيس بن الشماس ثَوْبَان سرق الْمُغيرَة
بن شُعْبَة بُرَيْدَة بن الْحصيب رويفع بن ثَابت فضَالة بن
عبيد أَبُو حميد أَبُو أسيد أَبُو مُحَمَّد الَّذِي رُوِيَ
عَنهُ وجوب الْوتر زَيْنَب ابْنه أم سَلمَة عتبَة بن مَسْعُود
بِلَال الْمُؤَذّن عُرْوَة بن الْحَارِث سياه بن روح أَو روح
بن سياه أَبُو سعيد بنت الْمُعَلَّى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب
بسر بن أَرْطَاة صُهَيْب بن سِنَان أم أَيمن أم يُوسُف
(1/96)
ماغر الغامدية رَضِي الله عَنْهُم قَالَ
وَمَا فاتنا إِن كَانَ فاتنا مِنْهُم إِلَّا يسير جدا مِمَّن
لم يرو عَنهُ إِلَّا مَسْأَلَة وَاحِدَة أَو مَسْأَلَتَانِ
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فَجَمِيع من ذكرهم من المكثرين
والمقلين مائَة وَتِسْعَة وَأَرْبَعُونَ نفسا رَضِي الله عَنهُ
أَجْمَعِينَ
(1/97)
|