أدب المفتي والمستفتي
المقدمات
مقدمة التحقيق
...
باب: المقدمات
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا
هادي له.
ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبع هديه وسار
على نهجه إلى يوم الدين.
قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ
لا تَعْلَمُونَ} 1, وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} 2.
أما بعد:
1- فإن موضوع الفتيا وما يتعلق بها من الآداب والشروط يمثل
جانبًا من جوانب علم الأصول ... فلا يكاد كتاب في علم الأصول
يخلو من بحث هذا الجانب والحديث عنه ... ونظرًا لأهمية منزلة
الفتيا وخطرها فقد صنف الأئمة في هذا المجال مصنفات مستقلة
تبين أهمية الفتيا وخطرها، وآداب المفتي والمستفتي ومن هذه
__________
1 النحل آية: "43"، الأنبياء آية: "7".
2 المائدة آية: "49".
(1/5)
المصنفات كتاب "أدب المفتي والمستفتي"
للإمام الحافظ أبي عمرو ابن الصلاح, المتوفى سنة "643هـ" ...
وابن الصلاح -رحمه الله تعالى- ليس هو أول من كتب في هذا
المجال, فقد سبقه أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين بن محمد
القاضي الصيمري "ت 386هـ" في كتابه "أدب المفتي والمستفتي"
والحافظ المؤرخ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "ت 463هـ"
في كتابه "الفقيه والمتفقه"1، والإمام الحافظ يوسف بن عبد البر
"ت 463هـ" في كتابه "جامع بيان العلم وفضله"2 وغير ذلك مما
كتبه أهل الأصول في مصنفاتهم الأصولية كالجويني، والغزالي،
وأبي المظفر السمعاني، وأبي بكر القفال الصغير، وأبي إسحاق
الإسفراييني، وأبي عبد الله الحليمي، وأبي إسحاق الشيرازي،
وإلكيا الهراسي, وغيرهم كثير3 ... وقد استفاد ابن الصلاح -رحمه
الله تعالى- من هذا العمل الطيب المبذول، وأضاف إليه ... وهذه
هي القيمة العلمية الأولى للكتاب ... قيمة التواصل العلمي بين
المتقدمين والمتأخرين ... واستفادة الخلف من جهد السلف
والإضافة إليه ...
إن هذا التواصل العلمي بين أجيال علماء المسلمين، هو الذي دفع
الإمام النووي "ت 676هـ" إلى اقتباس كتاب أبي القاسم الصيمري،
ثم الخطيب البغدادي، ثم الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح والإشادة
بجهودهم ...
قال النووي: "وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة
مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم، وضممت إليها نفائس من متفرقات
كلام الأصحاب, وبالله التوفيق"4 ...
ثم جاء الإمام أحمد بن حمدان الحَرَّاني الحنبلي "ت 695هـ"
فأخذ كتاب
__________
1 "152-205".
2-3 انظر "موارد ابن الصلاح" في دراسة الكتاب.
4 المجموع: 1/ 73.
(1/6)
ابن الصلاح وضمه في كتابه "صفة الفتوى
والمستفتي".
ثم جاء الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي, المعروف
بابن قيم الجوزية "ت 751هـ" فأخذ كتاب ابن الصلاح, وضمه في
كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين".
واستمرت حلقة التواصل العلمية بين الأجيال المتتابعة من علماء
المسلمين, حتى جاء السيوطي "ت 911هـ" فاقتبس من كتاب ابن
الصلاح في كتاب "آداب الفتوى"، وكتاب "الرد على من أخلد إلى
الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"1 ...
إن هذه الروح العلمية بين علماء المسلمين، وهذا التواصل بينهم
يدل على الروح الأخلاقية التي يتخلق بها علماء المسلمين
المبنية على أساس الحب والإخاء والتعاون وتقدير الجهد الطيب
الخير ... والاستفادة منه، ودعوة الله عز وجل بالخير لصاحبه،
دون النظر إلى مذهبه أو جنسه، فابن الصلاح شافعي، وابن حمدان
حنبلي، وكذا ابن القيم ... والأساس الذي قاموا عليه هو المحبة
في الله، والتعاون على فتح آفاق المعرفة وخدمة هذا الدين..
2- ونظرًا لخطورة "الفتيا" وحاجة الناس إلى الاجتهاد، ولكي لا
تصبح "الفتيا" وظيفة حكومية يصدرها نفر وضعوا أنفسهم في خدمة
الحكام الكافرين، والظالمين، والفاسقين، وحتى لا يتجرأ على
"الفتيا" أنصاف المتعلمين.... ولحفظ هذا الدين من يد العابثين
والمبتدعين ... صنف علماء المسلمين في "أدب المفتي والمستفتي"
... ليعرف العالم منزلته قبل أن يصدر "الفتيا"، ويعلم المستفتي
أدب الاستفتاء ولمن يستفتي.
__________
1 انظر فصل "أثر الكتاب فيما بعده واقتباسات الأئمة منه" في
دراسة كتاب "أدب المفتي" لابن الصلاح.
(1/7)
وكتاب ابن الصلاح "أدب المفتي والمستفتي"
هو واحد من هذه المصنفات التي وفَّت هذه الأغراض كلها فخدمت
"المفتي" و"المستفتي" ... وهو حلقة وصل بين الأجيال المتقدِّمة
والأجيال المتأخرة ...
ولقد بذلت في دراستهِ وتحقيقه والتعليق عليه قُصَارى جهدي فإن
أصبت فمن الله تعالى، وإن أخطأت فمني واستغفر الله.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتقدم بخالص شكري ودعائي لكلِّ
من ساعد في إخراج هذا الكتاب القيم إلى حيز الوجود ...
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا
مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ} .
(1/8)
التعريف بالإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن
عبد الرحمن المعروف بابن الصَّلاح الشهرزوري المتوفي سنة 643
هـ:
اسمه ونسبه وكنيته:
هو الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان
بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري
الموصلي الشافعي1.
مولده ونشأته وشيوخه وتلاميذه، ورحلاته العلمية:
ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة2، في شَرَخان قرية من أعمال إرْبل
قريبة من شَهْرَزُور3، وتفقه على والده بشهرزور، ثم اشتغل
بالموصل مدة، وسمع من أبي جعفر عبيد الله بن أحمد البغدادي
المعروف بابن السمين، وهو أقدم شيخ له،
__________
1 ترجمته في: مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي: "8/ 757-758"، ذيل
الروضتين لأبي شامة: 75، وفيات الأعيان: "3/ 243-245"، سير
أعلام النبلاء: 23/ 140، تذكرة الحفاظ: "4/ 1430-1433"، العبر:
"5/ 177-178"، دول الإسلام: 2/ 112، طبقات الشافعية الكبرى
للسبكي "8/ 326-337"، طبقات الإسنوي: 2"133-134"، البداية
والنهاية: "13/ 168-169"، النجوم الزاهرة: 6/ 354، طبقات
الحفاظ للسيوطي؛ 499، طبقات المفسرين للداوودي: "1/ 377-378"،
شذرات الذهب: 5/ 221، ومقدمة كتاب "صيانة صحيح مسلم من الإخلال
والغلط، وحمايته من الإسقاط والسقط" لابن الصلاح بتحقيقنا،
ومقدمة كتاب "النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر
العسقلاني" تحقيق الدكتور: ربيع بن هادي عمير: "1/ 21-26"،
وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 2/ 145.
2 سير أعلام النبلاء: 23/ 140، طبقات الشافعية للسبكي: 8/ 326.
3 طبقات الشافعية للسبكي: 8/ 326، شذرات الذهب: 5/ 221.
(1/11)
ونصر بن سلامة الهيتي، ومحمود بن علي
الموصلي، وأبي المظفر بن البرني، وعبد المحسن ابن الطوسي، وعدة
بالموصل، وارتحل إلى بغداد، فسمع من أبي أحمد بن سكينة، وأبي
حفص بن طبرزد، وطبقتهما، وبهمذان من أبي الفضل بن المعزم،
وبمرو من أبي المظفر ابن السمعاني، وبنيسابور من أبي الفتح
منصور بن عبد المنعم بن الفراوي، والمؤيد بن محمد بن علي
الطوسي، وزينب بنت أبي القاسم الشعرية، والقاسم بن أبي سعد
الصفار، ومحمد بن الحسن الصرام، وأبي المعالي بن ناصر
الأنصاري، وأبي النجيب إسماعيل القارئ، وطائفة بنيسابور. ومن
أبي محمد بن الأستاذ وغيره بحلب، ومن الإمامين فخر الدين بن
عساكر، وموفق الدين بن قدامة، والقاضي أبي القاسم عبد الصمد
الحرستاني، وعدة بدمشق. ومن الحافظ عبد القادر الرهاوي بحران1.
حدث عنه الإمام شمس الدين بن نوح المقدسي، والإمام كمال الدين
سلار، والإمام كمال الدين إسحاق، والقاضي تقي الدين ابن رزين،
وتفقهوا به. وروى عنه أيضًا العلامة تاج الدين عبد الرحمن
الفركاح، وأخوه الخطيب شرف الدين، ومجد الدين ابن المهتار،
وفخر الدين عمر بن يحيى الكرجي، والقاضي شهاب الدين ابن
الخويِّي، والمحدث عبد الله بن يحيى الجزائري، والمفتي جمال
الدين محمد بن أحمد الشريشي، والمفتي فخر الدين عبد الرحمن بن
يوسف البعلبكي، وناصر بن محمد بن عربشاه، ومحمد بن أبي الذكر،
والشيخ أحمد بن عبد الرحمن الشهرزوري الناسخ، وكمال الدين أحمد
بن أبي الفتح الشيباني، والشهاب محمد بن مشرف، والصدر محمد بن
حسن الأرموي، والشرف محمد بن خطيب بيت الأبار، وناصر الدين
محمد بن المجد من المهتار، والقاضي أحمد بن علي الجيلي،
والشهاب أحمد بن العفيف الحنفي، وآخرون2.
__________
1 وفيات الأعيان: "3/ 243-244"، سير أعلام النبلاء: "23/
140-141"، العبر: "5/ 177-178", تذكرة الحفاظ: "4/ 1430-1431"،
طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 327.
2 سير أعلام النبلاء: "23/ 141-421"، وانظر تذكرة الحفاظ "4/
1430-1431"، العبر: "5/ 177-178"، وفيات الأعيان: "3/
243-244"، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 8/ 327.
(1/12)
وتولى المدرسة الناصرية بالقدس الشريف
المنسوبة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأقام بها
مدة، واشتغل الناس عليه، وانتفعوا به، ثم انتقل إلى دمشق وتولى
تدريس المدرسة الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله
بن عبد الواحد بن رواحة الحموي، وهو الذي أنشأ المدرسة
الرواحية بحلب.
ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوب رحمه الله
تعالى، دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه، واشتغل الناس عليه
بالحديث، ثم تولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب1.
أقوال العلماء وثناؤهم على ابن الصَّلاح:
1- قال ابن خلكان: كان أحد فضلاء عصره في التفسير، والحديث،
والفقه وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة،
وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة، وهو أحد
أشياخي الذين انتفعت بهم2.
2- وقال الذهبي: وأشغل، وأفتى، وجمع وألف، تخرج به الأصحاب،
وكان من كبار الأئمة3.
3- وذكره المحدث عمر بن الحاجب في "معجمه" فقال: إمام ورع وافر
العقل، حسن السمت، متبحر في الأصول والفروع، بالغ في الطلب حتى
صار يضرب به المثل، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة4.
4- وقال الذهبي: كان ذا جلالة عجيبة، ووقار وهيبة، وفصاحة،
وعلم نافع، وكان متين الديانة، سلفي الجملة، صحيح النحلة،
كافًّا عن الخوض في مزلات
__________
1 وفيات الأعيان3/ 244، شذرات الذهب: "5/ 221-222".
2 وفيات الأعيان 3/ 243.
3 سير أعلام النبلاء: 23/ 142.
4 سير أعلام النبلاء: 23/ 142، تذكرة الحفاظ: 4/ 1431، طبقات
الشافعية لابن قاضي شهبة: 2/ 145.
(1/13)
الأقدام، مؤمنًا بالله، وبما جاء عن الله
من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، معظمًا عند السلطان
... وكان مع تبحره في الفقه مجودًا لما ينقله، قوي المادة من
اللغة والعربية، متفننًا في الحديث، متصونًا، مكبًا على العلم،
عديم النظير في زمانه1.
5- وقال أيضًا: وصنف التصانيف، مع الثقة والديانة والجلالة2.
6- وقال ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى: وهو في عداد
الفضلاء الكبار، وكان دينًا زاهدًا وربما ناسكًا على طريق
السلف الصالح كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين، مع الفضيلة
التامة في فنون كثيرة، ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت
وفاته3.
7- وقال السبكي: استوطن دمشق يعيد زمان السالفين ورعًا، ويزيد
بهجتها بروضة علم جنى كل طالب جناها ورعًا، ويفيد أهلها، فما
منهم إلا من اغترف من بحره واعترف بدره، وحفظ جانب مثله
ورعًا4.
8- وقال أيضًا: الشيخ العلامة تقي الدين، أحد أئمة المسلمين
علمًا ودينًا5.
9- ونقل السبكي عن ابن الصلاح قوله: ما فعلت صغيرة في عمري
قط6.
10- وقال السخاوي: هو العلامة الفقيه حافظ الوقت مفتي الفرق
شيخ الإسلام ... كان إمامًا بارعًا حجة متبحرًا في العلوم
الدينية، بصيرًا بالمذهب ووجوهه، خبيرًا بأصوله، عارفًا
بالمذاهب ... انتفع به خلق وعولوا على تصانيفه7.
__________
1 سير أعلام النبلاء: "23/ 142-143".
2 العبر: 5/ 178.
3 البداية والنهاية: 13/ 168.
4 طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 327.
5 طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 336.
6 طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 327.
7 فتح المغيث: 1/ 13.
(1/14)
11- وقال ابن العماد: وتفقه وبرع في المذهب
وأصوله، وفي الحديث وعلومه ... وإذا أطلق الشيخ في علماء
الحديث فالمراد به هو وإلى ذلك أشار العراقي صاحب الألفية
بقوله فيها:
وكلما أطلقت لفظ الشيخ ما ... أريد إلا ابن الصلاح مبهما1
12- وقال ابن هداية الله: كان إمامًا في الفقه والحديث عارفًا
بالتفسير والأصول والنحو، ورعًا زاهدًا2.
عقيدته:
كانت عقيدة ابن الصلاح رحمه الله تعالى عقيدة سلفية نظيفة
بعيدة عن علم الكلام والجدل والتأويل، وغير ذلك من الأمور التي
تبعد المسلمين عن الصواب في عقيدتهم.
قال الذهبي: كان متين الديانة، سلفي الجملة، صحيح النخلة،
كافًّا عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمنًا بالله، وبما جاء عن
الله من أسمائه ونعوته3.
وقال الذهبي أيضًا: وكان سلفيًّا حسن الاعتقاد، كافًّا عن
تأويل المتكلمين مؤمنًا بما ثبت من النصوص غير خائض ولا معمق4.
ولقد أوضح ابن الصلاح عقيدته هذه، فقال وهو يتحدث عن المفتي:
"ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي
بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا،
ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل
ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والأخبار المتشابهة: إن
الثابت فيها في نفس الأمر كلها هو اللائق فيها بجلال الله
وكماله وتقديسه المطلقين، وذلك هو معتقدنا فيها وليس علينا
__________
1 شذرات الذهب: 5: 221.
2 طبقات الشافعية لأبي بكر بن هداية الله الحسيني: 220.
3 سير أعلام النبلاء: 23/ 142.
4 تذكرة الحفاظ: 4/ 1431.
(1/15)
تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا
بل نكل علم تفصيله إلى الله تعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا
وألسنتنا، فهذا ونحوه عند أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك، وهو
سبيل سلف الأئمة، وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر الفقهاء
والصالحين، وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم ممن يدغل قلبه
بالخوض في ذلك، ومن كان منهم اعتقد اعتقادًا باطلًا تفصيلا ففي
إلزامه بهذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر
وأسلم، وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة فقد
تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ... والمتكلمون من أصحابنا
معترفون بصحة هذه الطريقة، وأنها أسلم لمن سلمت له، وكان
الغزالي منهم في آخر عمره شديد المبالغة في الدعاء إليها
والبرهنة عليها1.
"ومن فتاويه أنه سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة فأجاب:
الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار
الزيغ والزندقة، ومن تفلسف، عميت بصيرته عن محاسن الشريعة
المؤيدة بالبراهين، ومن تلبس بها، قارنه الخذلان والحرمان،
واستحوذ عليه الشيطان، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم، إلى أن قال: واستعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث
الأحكام الشرعية من المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة،
وليس بالأحكام الشرعية -ولله الحمد- افتقار إلى المنطق أصلا،
هو قعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، فالواجب على
السلطان أعزه الله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم،
ويخرجهم من المدارس ويبعدهم"2. فعقيدة ابن الصلاح رحمه الله
تعالى عقيدة سليمة من كل زيغ وضلال عقيدة سلفية نظيفة بعيدة عن
علم الكلام والجدل والتأويل وغير ذلك من الآفات التي تبعد
المسلمين عن الصواب في عقيدتهم.
__________
1 أدب المفتي والمستفتي: "153-154", وانظر الفقرة العشرين
بطولها.
2 سير أعلام النبلاء: 23/ 143.
(1/16)
مؤلفاته:
قال الذهبي: وأشغل، وأفتى، وجمع وألف1.
وقال ابن كثير: وقد صنف كتبًا كثيرة مفيدة في علوم الحديث
والفقه2.
وقال السبكي: وصنف التصانيف المفيدة3.
وقال السخاوي: انتفع به خلق وعولوا على تصانيفه4.
ومن مؤلفاته:
1- "الأحاديث في فضل الإسكندرية وعسقلان"5.
2- "الأحاديث الكلية": قال ابن رجب الحنبلي: "وأملى الإمام
الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسًا سماه "ألأحاديث الكلية" جمع
فيه الأحاديث الجوامع التي يقال: إن مدار الدين عليها وما كان
في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة فاشتمل مجلسه هذا على
ستة وعشرين حديثًا، ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا
زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي
أملاها ابن الصلاح وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثًا وسمى
كتابه بالأربعين"6.
3- "أدب المفتي والمستفتي"7، وهو كتابنا الذي سنتحدث عنه.
4- "الأمالي"8.
__________
1 سير أعلام النبلاء: 23/ 141.
2 البداية والنهاية: 13/ 168.
3 طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 327 الهامش.
4 فتح المغيث: 1/ 13.
5 مخطوط برلين: 1389، بروكلمان: 6/ 210.
6 جامع العلوم والحكم: 1/ 7.
7 البداية والنهاية: 12/ 43، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة:
2/ 146، طبقات السبكي الكبرى "4/ 200، / 327".
8 الأعلام: "4/ 207-208".
(1/17)
5- جزء فيه حلية الإمام أبي عبد الله محمد
بن إدريس الشافعي1.
6- "حكم صلاة الرغائب"2. وقال الذهبي: وله مسألة ليست من
قواعده شذ فيها وهي صلاة الرغائب قواها ونصرها مع أن حديثها
باطل بلا تردد، ولكن له إصابات وفضائل3.
7- "شرح مشكل الوسيط"4.
8- "رسالة في وصل البلاغات الأربع في الموطأ"5.
8- "شرح الورقات في الأصول"6.
9- "صلة الناسك في صفة المناسك"7 قال ابن خلكان: جمع فيه أشياء
حسنة يحتاج الناس إليها، وهو مبسوط8.
10- "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط
والسقط"9.
11- "طبقات الشافعية"10، واختصره النووي واستدرك عليه، وأهملا
خلائق من المشهورين فإنهما كانا يتبعان التراجم الغريبة، وأما
المشهورة فإلحاقها سهل،
__________
1 مخطوط في المكتبة الظاهرية تحت رقم: 3795 "114-119ق"، انظر
فهرست مخطوطات الظاهرية التاريخ وملحقاته، خالد الريان: 2/
643.
2 صلة الخلف بموصول السلف للروداني تحقيق د/ محمد حجي "ص: 82"
مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد الثامن والعشرون -الجزء
الأول- رمضان 1404هـ. وطبع في المكتب الإسلامي الطبعة الثانية
"1405هـ" بتحقيق زهير شاويش، وناصر الدين الألباني.
3 سير أعلام النبلاء: 23/ 143.
4 وفيات الأعيان: 3/ 244، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: "8/
83، 327"، شذرات الذهب.
5 5/ 222.
حققه أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق 1400هـ.
6 بروكلمان: 6/ 211، أي شرح كتاب الورقات لأبي المعالي عبد
الملك بن يوسف الجويني إمام الحرمين المتوفى سنة "478هـ".
7 ويسمى أيضًا "مناسك الحج" انظر بروكلمان: 6/ 210.
8 وفيات الأعيان: 3/ 244.
9 طبع بتحقيقنا في دار الغرب الإسلامي سنة "1404هـ-1984م".
10 شذرات الذهب: 5/ 222، وتوجد منه نسخ خطبة انظر بروكلمان: 6/
210.
(1/18)
فاخترمتهما المنية رضي الله عنهما. قاله
ابن قاضي شهبة1.
12- "علوم الحديث" ويسمى بـ"مقدمة ابن الصلاح"2، ولو لم يكن
لابن الصلاح مؤلفًا سوى "المقدمة" لكفته شرفًا وفخرًا.
13- "الفتاوى"3، جمعها بعض أصحابه4، وهي أيضًا من محاسنه5.
14- "فوائد الرحلة"6، وهي عبارة عن فوائد جمعها في رحلته إلى
الشرق عظيمة النفع في سائر العلوم، مفيدة جدًّا في مجاميع
عدة7.
15- "المؤلف والمختلف"8.
16- "النكت على المهذب"9.
17- وذكر له بروكلمان: "تاريخ أسطوري للرسول عليه الصلاة
والسلام": فلورنسة "121"10, ولا أعلم مدى صحة نسبة هذا الكتاب
لابن الصلاح.
وفاته:
بعد حياة نظيفة حافة قضاها رحمه الله بالزهد والورع وتقوى الله
عز وجل وخدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى جوار
ربه: "في سنة الخوارزمية في سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين
من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين
__________
1 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 2/ 146.
2 طبع عدة طبعات ومنها بتحقيق الدكتور نور الدين عتر.
3 طبقات ابن قاضي شهبة: 2/ 146، شذرات الذهب: 5/ 22 وهو مطبوع
في القاهرة سنة 1348هـ باسم "فتاوى ابن الصلاح في التفسير
والحديث والأصول".
4 وفيات الأعيان: 3/ 244.
5 طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 327، الهامش، نقلا عن الطبقات
الوسطى للسبكي.
6 طبقات ابن قاضي شهبة: 2/ 146، شذرات الذهب: 5/ 222.
7 طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 327 الهامش نقلا عن طبقات
الشافعية الوسطى.
8 نسخة منه بالظاهرية تحت رقم: "6897", وهي نسخة ناقصة تقع في
أربع ورقات اطلعت عليها.
9 طبقات ابن قاضي شهبة: 2/ 146، شذرات الذهب: 5/ 222.
10 بروكلمان: 6/ 210.
(1/19)
وستمائة، وحمل على الرؤوس، وازدحم الخلق
على سريره، وكان على جنازته هيبة وخشوع، فصلي عليه بجامع دمشق،
وشيعوه إلى داخل باب الفرج فصلوا عليه بداخله ثاني مرة، ورجع
الناس لمكان حصار دمشق بالخوارزمية وبعسكر الملك الصالح نجم
الدين أيوب لعمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فخرج بنعشه
نحو العشرة مشمرين، ودفنوه بمقابر الصوفية ... وعاش ستًّا
وستين سنة1.
__________
1 سير أعلام النبلاء: "23/ 143-144".
(1/20)
|