أدب المفتي والمستفتي

القول: في كيفية الفتوى وآدابها
وفيه مسائل:
الأولى: يجب على المفتي حيث يجب عليه الجواب أن يبينه بيانًا مُزيحًا للإشكال، ثم له أن يجيب شفاهًا باللسان، وإذا لم يعلم لسان المستفتي أجزأت ترجمة الواحد لأن طريقه الخبر، وله أن يجيب بالكتابة مع1 ما في الفتوى من الرقاع من الحظر، وكان القاضي أبو حامد المروروذي الإمام فيما بلغنا عنه كثير
__________
1 في ف وج: "معًا".

(1/134)


الهرب من الفتوى في الرقاع.
قال أبو القاسم الصيمري: وليس1 من الأدب للمفتي أن يكون السؤال بخطه، فأما بإملائه وتهذيبه فواسع.
وبلغنا عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله: أنه كان قد يكتب للمستفتي السؤال على ورق من عنده, ثم يكتب الجواب2، والله أعلم.
الثانية: إذا كانت المسألة فيها تفصيل لم يطلق الجواب3، فإنه خطأ، ثم له أن يستفصل السائل إن حضر ويقيد السؤال في رقعة الاستفتاء ثم يجيب عنه، وهذا أولى وأسلم، وكثيرًا ما نتحراه نحن ونفعله، وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنها الواقع للسائل، ولكن يقول: هذا إذا كان كذا وكذا، وله أن يفصل الأقسام في جوابه، ويذكر حكم كل قسم، وهذا قد كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية، وقال: هذا ذريعة إلى تعليم الناس الفجور، ونحن نكرهه أيضًا لما ذكره: من أنه يفتح للخصوم باب التمحل والاحتيال الباطل، ولأن ازدحام الأقسام بأحكامها على فهم العامي يكاد يضيعه، وإذا لم يجد المفتي من يستفسره في ذلك كان مدفوعًا إلى التفصيل، فليتثبت وليجتهد في استيفاء الأقسام وأحكامها وتحريرها4. والله أعلم.
الثالثة: إذا كان المستفتي بعيد الفهم، فينبغي للمفتي أن يكون رفيقًا به صبورًا عليه، حسن التأني في التفهم منه. والتفهيم له حسن الإقبال عليه5، لا سيما إذا كان ضعيف الحال، محتسبًا أجر ذلك فإنه جزيل.
__________
1 في الأصل: "ليس" وما أثبته هو الموافق لـ"ف وج وش".
2 المجموع: 1/ 84، صفة المفتي: 57.
3 إعلام الموقعين: "4/ 187-194".
4 المجموع: 1/ 84، صفة الفتوى: 57.
5 المجموع: 1/ 85، صفة الفتوى: 58.

(1/135)


أخبرت عن أبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه النيسابوري1، قال: أخبرنا الأستاذ أبو القاسم القشيري2، قال: سمعت أبا سعيد الشحام3، يقول: "رأيت الشيخ الإمام أبا الطيب سهلا الصعلوكي4 في المنام فقلت: أيها الشيخ.
فقال: دع التشييخ.
فقلت: وتلك الأحوال التي شاهدتها؟
فقال: لم تغن عنا.
فقلت: ما فعل الله بك؟
فقال: غفر لي بمسائل كان يسأل5 عنها العجز"6.
العجز7: بضم العين والجيم، العجائز. والله أعلم.
__________
1 هو "أبو الفتوح عبد الوهاب بن شاه بن أحمد بن عبد الله الشاذياخي. قال السمعاني: شيخ صالح، سديد السيرة، يسكن باب عزرة بنيسابور. توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة"، ترجمته في: الأنساب: 7/ 241، تذكرة الحفاظ: 4/ 1281.
2 هو "زين الدين الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الله القشيري النيسابوري الصوفي، صاحب "الرسالة"، قال عبد الغافر بن إسماعيل: الإمام مطلقًا، الفقيه المتكلم الأصولي، المفسر الأديب النحوي توفي سنة خمس وستين وأربعمائة". ترجمته في: المنتظم: 8/ 280، تبيين كذب المفتري: 271، العبر: 3/ 159، البداية والنهاية: 2/ 107، طبقات الشافعية الكبرى: 5/ 153، طبقات ابن الصلاح: 116ب، طبقات الإسنوي: 2/ 313، المختصر في أخبار البشر: 2/ 199.
3 انظر تبيين كذب المفتري: 214، طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 396.
4 هو "الأستاذ الفقيه الأديب مفتي نيسابور أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان الصعلوكي: بضم الصاد المهملة وسكون العين المهملة وضم اللام، وسكون الواو، وفي آخرها الكاف. قال الحاكم: الفقيه الأديب، مفتي نيسابور، وابن مفتيها، وأكتب من رأيناه من علمائها، وأنظرهم، توفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وقيل غير ذلك". ترجمته في: تبيين كذب المفتري: 211، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 238، وفيات الأعيان: 2/ 435، العبر: 3/ 88، البداية والنهاية: 12/ 347، طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 393، شذرات الذهب: 3/ 172.
5 في تبيين كذب المفتري: 214 "كانت تسل"، وفي طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 397 "كنت تسأل".
6 الرواية في تبيين كذب المفتري: 214، طبقات الشافعية الكبرى: "4/ 396، 397".
7 في ج: "والعجز".

(1/136)


الرابعة: ليتأمل رقعة الاستفتاء تأملا شافيًا، كلمة بعد كلمة ولتكن "عنايته"1 بتأمل آخرها أكثر، فإنه في آخرها يكون السؤال، وقد يتقيد الجميع بكلمة "في"2 آخر الرقعة، ويغفل عنها القارئ لها، وهذا من أهم ما ينبغي أن يراعيه، فإذا مر "فيها"3 بمشتبه سأل عنه4 المستفتي، ونقطه وشكله مصلحة لنفسه ونيابة عمن يفتي بعده، وكذا إن رأى لحنًا فاحشًا، أو خطأ يحيل معنى أصلحه5.
قطع بذلك أبو القاسم الصيمري من أئمة أصحابنا في كتابه "في أدب المفتي والمستفتي".
وقال الخطيب أبو بكر أحمد بن علي الحافظ: "رأيت القاضي أبا الطيب الطبري يفعل هذا في الرقاع التي ترفع إليه للاستفتاء"6.
قلت7: ووجهه إلحاق بقبيل المأذون فيه بلسان الحال، فإن الرقعة إنما قدمها صاحبها إليه ليكتب فيها ما يرى وهذا منه، وكذلك إذا رأى بياضًا في أثناء بعض السطور، أو في آخرها، خط عليه وشغله على نحو "ما يفعله"8 الشاهد في كتب الوثاق ونحوها، لأنه ربما قصد المفتي9 فكتب10 في ذلك البياض بعد فتواه
__________
1 من ف وج وش وفي الأصل: "عايته".
2 من ف وج وش وفي الأصل: "إلى". وفي ش "تكون في" غير أن الناسخ ضرب خطا على كلمة "تكون".
3 من ف وج وش.
4 في ف وج: "عنها".
5 المجموع: 1/ 85، صفة الفتوى: 58.
6 الفقيه والمتفقه: 2/ 183.
7 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".
8 من ف وج وش وفي الأصل: "نقله".
9 في صفة الفتوى حيث اقتبس كلام ابن الصلاح: 58 "المفتي أحد بسوء فكتب".
10 في ف وج "فيكتب".

(1/137)


ما يفسدها1.
"كما يلي القاضي أبو حامد المروروذي بمثل ذلك إذ2 قصد مساءته "بعض الناس"3 فكتب: ما تقول في رجل مات وخلف ابنة وأختًا لأم؟ ثم ترك بياضًا في آخر السطر موضع كلمة، ثم كتب في أول السطر الذي يليه: وترك ابن عم؟ فأفتى المفتي4: للبنت النصف، "والباقي"5 لابن العم. فلما أخذ خطه بذلك ألحق في موضع البياض: وأب. وشنع عليه6 بذلك"7.
وكان ذلك سبب فتنة ثارت بين طائفتين من رؤساء البصرة8. والله أعلم.
الخامسة: يستحب له أن يقرأ ما في الرقعة على من "بحضرته"9 ممن هو أهل لذلك، ويشاورهم في الجواب ويباحثهم فيه وإن كانوا دونه وتلامذته، لما في ذلك من البركة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح رضي الله عنهم.
اللهم إلا أن يكون في الرقعة ما لا يحسن إبداؤه، أو ما لعل السائل يؤثر ستره، أو في إشاعته مفسدة لبعض الناس، فينفرد هو بقراءتها وجوابها10. والله أعلم11.
السادسة: ينبغي أن يكتب الجواب بخط واضح وسط ليس بالدقيق الخافي،
__________
1 المجموع: 1/ 85، صفة الفتوى 58.
2 من ف وج وش, في الأصل: "إذا".
3 من ف وج وش.
4 سقطت من ش.
5 من ف وج وش وفي الأصل: "والثاني".
6 سقطت من ف وج.
7 الرواية في الفقيه والمتفقه: 2/ 183.
8 انظر هذه الفقرة في الفقيه والمتفقه: 2/ 183.
9 من ف وش, وفي الأصل: "يحضره".
10 المجموع: 1/ 85، صفة الفتوى: 58.
11 انظر الفقيه والمتفقه: "2/ 184-186".

(1/138)


ولا بالغليظ الجافي، وكذلك1 يتوسط في سطوره "بين"2 "توسيعها"3 وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة بحيث يفهمها العامة، ولا تزدريها الخاصة، واستحب بعضهم أن لا تتفاوت أقلامه، ولا يختلف خطه خوفًا من التزوير عليه، وكيلا يشتبه خطه.
قال الصيمري: وقل ما وجد4 التزوير على المفتي، وذلك أن الله تعالى حرس أمر الدين5.
وإذا كتب الجواب "أعاد"6 نظره فيه خوفًا من أن يكون قد أخل بشيء منه7، والله أعلم.
السابعة: إذا كان هو المبتدئ بالإفتاء فيها، فالعادة جارية قديمًا وحديثًا بأن يكتب فتواه في الناحية اليسرى من الورقة؛ لأن ذلك أمكن له، ولو كتب في غيرها فلا عيب عليه، إلا أن يرتفع إلى أعلاها ترفعًا، ولا سيما فوق البسملة.
وفيما وجدناه عن أبي القاسم الصيمري: أن كثيرًا من الفقهاء يبدأ في فتواه بأن يقول: الجواب وبالله التوفيق. وحذف ذلك آخرون. قال: ولو عمل فيما طال من المسائل وحذف فيما سوى ذلك لكان وجهًا، ولكن لا يدع أن يختم جوابه بأن يقول: وبالله التوفيق، أو والله الموفق، أو والله أعلم.
قال: وكان بعض السلف إذا أفتى يقول: "إن كان هذا8 صوابًا فمن الله، وإن
__________
1 في ف وج وش: "وكذا".
2 من ف وج وش وفي الأصل: "من".
3 من ف وج وش وفي الأصل: "توسعها".
4 في الأصل: "في التزوير".
5 المجموع: "1/ 85-86".
6 من ف وج وش وفي الأصل: "عاد".
7 المجموع: "1/ 85-86"، صفة الفتوى: 59.
8 سقطت من ف وج وش.

(1/139)


كان خطأ فمني"1، قال: وهذا معنى كره في هذا الزمان لأن إضعاف نفس السائل، وإدخال قلبه الشك في الجواب.
قال: وليس يقبح منه أن يقول: الجواب عندنا، أو الذي عندنا، أو يقول: الذي نراه، كذا وكذا، لأنه من جملة أصحابه وأرباب مقالته2. والله أعلم.
الثامنة: روي عن مكحول3، ومالك رضي الله عنهما: أنهما كانا لا يفتيان حتى يقولا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"4.
ونحن نستحب للمفتي ذلك5 مع غيره، فليقل إذا أراد الإفتاء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 6 {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية7.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} 8. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سبحانك اللهم، وحنانيك
__________
1 أخرج ابن سعد وابن عبد البر في العلم، عن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أهيب لما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد لها في كتاب الله تعالى أصلا، وفي السنة أثرًا فقال: أجتهد رأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمني، وأستغفر الله، كذا في كنز العمال الطبعة الهندية: 5/ 241, وانظر أقوال عمر رضي الله عنه في مصنف عبد الرزاق الأثر رقم "19045".
2 المجموع: 1/ 86، صفة الفتوى: 59.
3 هو "أبو عبد الله مكحول الدمشقي، عالم أهل الشام، الفقيه قال أبو حاتم: ما بالشام أحد أفقه من مكحول. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة وقيل غير ذلك". ترجمته في طبقات ابن سعد: 7/ 453، طبقات خليفة: 310، تاريخ خليفة: 345، الجرح: 8/ 407، حلية الأولياء: 5/ 177، تهذيب الكمال: 1368، تذكرة الحفاظ: 1/ 107.
4 طبقات الفقهاء للشيرازي: 84، المجموع: 1/ 76، صفة الفتوى: 60، إعلام الموقعين: "4/ 257، 258".
5 سقطت من ف وج.
6 البقرة الآية: 32.
7 الأنبياء الآية: 79.
8 سورة طه الآيات: "25-28".

(1/140)


اللهم، اللهم لا تَنسني ولا تُنسني، الحمد لله أفضل الحمد، اللهم صل على محمد وعلى آله وسائر النبيين، والصالحين1، "وسلم"2، اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان آمين.
فإن3 لم يأت بذلك عند كل فتوى، فليأت به عند أول فتيا يفتيها في يومه لما يفتيه في سائر يومه مضيفًا إليه قراءة الفاتحة وآية الكرسي، وما تيسر، فإن من ثابر على ذلك كان حقيقًا بأن يكون موفقًا في فتاويه4. والله أعلم.
التاسعة: بلغنا عن القاضي أبي الحسن الماوردي صاحب كتاب "الحاوي"، قال: إن المفتي عليه أن يختصر جوابه فيكتفي فيه بأن يجوز أو لا يجوز، أو حق أو باطل، ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرق بين الفتوى والتصنيف، قال: ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرسًا، ولكل مقام مقال5.
وذكر شيخه أبو القاسم الصيمري، عن شيخه القاضي أبي حامد "المرورذي"6: "أنه كان يختصر في فتواه غاية ما يمكنه، واستفتي في مسألة، قيل في آخرها: أيجوز ذلك أم لا؟ فكانت فتواه: لا، وبالله التوفيق"7.
قلت8: الاقتصار على لا أو نعم لا يليق بغي العامة، وإنما يحسن بالمفتي الاختصار الذي "لا يخل بالبيان المشترط عليه دون ما يخل به، فلا يدع إطالة"9 لا يحصل البيان بدونها، فإذا كانت فتياه فيما يوجب القود أو الرجم مثلا فليذكر الشروط
__________
1 ساقطة من ف.
2 من ف وج وش.
3 في ف وج: "وإن".
4 المجموع: 1/ 86، صفة الفتوى: "59-60".
5 صفة الفتوى: "60-61".
6 من ف وج وش وفي الأصل "المروذي", وفي حاشية ج "المروذي اختصار من المرورذي"
7 المجموع: 1/ 158، صفة الفتوى: "60-61".
8 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".
9 سقطت من ف.

(1/141)


التي يتوقف عليها القود والرجم.
وإذا استفتي فيمن قال قولا يكفر به، بأن قال: الصلاة لعب، أو الحج عبث، أو نحو ذلك. فلا يبادر بأن يقول: هذا حلال الدم ويُقتل1. بل يقول: إذا ثبت عليه ذلك بالبينة أو بالإقرار2، استتابه السلطان، فإن تاب قبلت توبته، وإن أصر ولم يتب قتل وفعل به كذا وكذا، وبالغ في تغليظ أمره، وإن كان الكلام الذي قاله يحتمل أمورًا لا يكفر3 ببعضها، فلا يطلق جوابه، وله أن يقول: ليسأل عما أراد بقوله، فإن أراد كذا فالجواب كذا، وإن أراد كذا فالحكم فيه كذا، وقد سبق الكلام فيما شأنه التفصيل. وإذا استفتي عما4 يوجب التعزير، فليذكر قدر ما يعزره به السلطان فيقول: يضرب ما بين كذا إلى كذا ولا يزاد على كذا، خوفًا من أن يضرب بفتواه إذا أطلق القول ما لا يجوز ضربه5، ذكره الصيمري.
قلت: وإذا قال: عليه التعزير بشرطه، أو القصاص بشرطه. فليس بإطلاق، وتقييده بشرطه يبعث من لا يعرف الشرط من ولاة الأمر على6 السؤال عن شرطه، والبيان7 أولى. والله أعلم.
العاشرة: إذا سئل عن مسألة ميراث، فالعادة غير جارية بأن يشترط في جوابه في الورثة عدم الرق، والكفر والقتل، وغيرها من الموانع، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق السائل ذكر الأخوة والأخوات والأعمام وبنيهم، فلا بد أن يشترط في الجواب، فيقول: من أبٍ وأم, أو من أبٍ، أو من أم.
__________
1 في ش: "أو يقتل".
2 في ف وج وش: "الإقرار".
3 في ف وج "يكفر".
4 في ف وج: "فيما".
5 انظر: الفقيه والمتفقه: 2/ 190، المجموع: 1/ 87، صفة الفتوى: "60-61".
6 في ش: "عن".
7 المجموع: "1/ 87-88"، صفة الفتوى: 61.

(1/142)


وإذا سئل عن مسألة فيها عول كالمنبرية1، وهي: زوجة وأبوان وبنتان. فلا يقل للزوجة الثمن، ولا للزوجة التسع، لأن أحدًا من السلف لم يقله. بل إما أن يقول: للزوجة ثمن عائل، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهمًا. أو2 يقول ما قاله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "صار ثُمُنُها تِسعًا"3، أو يقول4: لها سهمًا5 من كذا وكذا، وإذا6 كان في المذكورين في السؤال من لا يرث أفصح بسقوطه، فقال: وسقط فلان، وإن كان سقوطه في صورة دون صورة، قال: وسقط7 فلان في هذه المسألة، أو نحو ذلك, وإذا سئل عن أخوة وأخوات، أو بنين وبنات،
__________
1 المسألة "المنبرية" "هي ما اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يخطب على منبر الكوفة فقال: "الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعًا ويجزئ كل نفس بما تسعى، وإليه الم آل والرجعى ... " فقطع عليه ابن الكواء خطبته ليسأله عن رجل توفي وترك زوجة وبنتين وأمًّا وأبًا، فأدرك علي رضي الله عنه أن القصد من السؤال هو التأكد من نصيب الزوجة. فبادره علي بالجواب وقال متابعًا خطبته دون توقف: "صار ثمنها تسعًا" ومضى في خطبته ... وكأنه أراد أن يقول رضي الله عنه: إن المسألة قد عالت ولذلك نقص نصيب الزوجة من الثمن إلى التسع وهذه صورتها:
انظر: موسوعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. د/ محمد رواس قلعجي، دار الفكر بدمشق الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. "ص72-73". مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 183، ومصنف عبد الرزاق: 10/ 258، سنن البيهقي: 6/ 253، مسند زيد: 5/ 66، المغني: 6/ 193.
2 في ف وج: "ويقول".
3 مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 183، ومصنف عبد الرزاق: 10/ 258، سنن البيهقي: 6/ 253، مسند زيد: 5/ 66، المغني: 6/ 193، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: "72-73".
4 في ف وج: "ويقول".
5 في ف وج: "سهمان", وفي ش: "لها كذا أسهمًا".
6 في ف وج: "فإذا".
7 في ف وج: "سقط".

(1/143)


فلا ينبغي إلا أن يقول: يقتسمون التركة على كذا وكذا سهمًا، لكل ذكر كذا سهمًا، ولكل أنثى كذا سهمًا، ولا يقل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 1، فإن ذلك يشكل على العامي، هذا رأي الإمام أبي القاسم الصيمري. ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس لكونه2 لفظ القرآن العظيم، وأنه قل ما يخفى معناه على أحد. وسبيله أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز والتحفظ، وليقل فيها: لفلان كذا وكذا، من ذلك كذا من3 ميراثه من فلان، وكذا بميراثه من فلان، وحسن أن يقول في قسمة المواريث: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا4. والله أعلم.
الحادية عشرة5: ليس للمفتي أن يبني6 ما يكتبه من جوابه على ما يعلمه7 من صورة الواقعة المستفتي عنها إذا لم يكن في الرقعة8 تعرض له، وكذا إذا زاد9 السائل شفاهًا ما ليس في الرقعة تعرض له ولا له به تعلق، فليس للمفتي أن يكتب جوابه في الرقعة، ولا بأس بأن يضيفه إلى السؤال بخطه، وإن لم يكن من الأدب كون السؤال جميعه بخط المفتي على ما سبق، ولا بأس أيضًا لو كتب بعد جوابه عما في الرقعة: زاد السائل من لفظه كذا وكذا، والجواب عنه كذا وكذا، وإذا كان المكتوب في الرقعة على خلاف الصورة الواقعة وعلم المفتي بذلك، فليفتِ على ما وجد في
__________
1 النساء آية: "11".
2 في ف وج: "لكون".
3 في ش: "بميراثه".
4 نقل النووي هذه الفقرة بنصها وعزاها لابن الصلاح في المجموع: "1/ 89-90". صفة الفتوى: 62.
5 في ج: "عشر".
6 في صفة الفتوى: 62 "يبين".
7 في ف: "لا ما يعلم".
8 في ف وج: "الواقعة".
9 في ف وج "أراد".

(1/144)


الرقعة1، وليقل: هذا إن كان الأمر على ما ذكر. وإن كان كيت وكيت، ويذكر2 ما علمه من "الصورة"3، فالحكم كذا وكذا.
قلت: وإذا زاد المفتي على جواب المذكور في السؤال ما له به تعلق ويحتاج إلى التنبيه عليه "فذلك حسن، والله أعلم4.
الثانية عشرة5: لا ينبغي إذا ضاق موضع الفتوى عنها أن يكتب الجواب في رقعة أخرى، خوفًا من الحيلة عليه"6. ولهذا انبغى أن يكون جوابه موصولا آخر سطر في الرقعة، ولا يدع بينهما فرجة خوفًا من أن يثبت السائل فيها غرضًا "آخر"7 له ضارًّا، وكذا إذا كان في موضع الجواب ورقة ملزقة8 كتب على موضع الإلزاق وشغله بشيء، وإذا أجاب على ظهر الرقعة فينبغي أن يكون الجواب في أعلاها لا ذيلها، اللهم إلا أن يبتدئ الجواب في أسفلها متصلا بالاستفتاء فيضيق عليه الموضع فيتمه وراء هذا مما يلي أسفلها ليتصل جوابه، واختار بعضهم أن يكتب9 على ظهرها ولا يكتب على حاشيتها بطولها، والمختار أن حاشيتها أولى بذلك من ظهرها، والأمر في ذلك قريب10. والله أعلم.
الثالثة عشرة11: إذا رأى المفتي رقعة الاستفتاء قد سبق الجواب فيها من ليس أهلا للفتوى، فعن الإمام أبي القاسم الصيمري رضي الله عنه: "أنه لا يفتي معه،
__________
1 سقط من ف.
2 في ف وج: "ويذكر فيها ما علمه".
3 من ف وج وش، وجاء في الأصل: "الصواب".
4 صفة الفتوى: "62-63" حيث اقتبس الفقرة الحادية عشرة بنصها من ابن الصلاح رحمه الله تعالى، المجموع: "1/ 84-85".
5 في ج: "عشر".
6 من ف وج وش.
7 من ش.
8 في ف وج: "ملصقة".
9 في ج: "لا يكتب".
10 المجموع: 1/ 88، صفة الفتوى: 63، إعلام الموقعين: 4/ 256.
11 في ج: "عشر".

(1/145)


لأن فيه تقريرًا لمنكر، بل يضرب على ذلك بإذن صاحب الرقعة، ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز، لكن ليس له احتباس الرقعة إلا بإذن صاحبها، وله انتهار السائل وزجره، وتعريفه قبح ما أتاه، وأنه قد كان واجبًا عليه البحث "عن"1 أهل الفتوى، وطلب من يستحق ذلك، "وإن"2 رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه، فإن لم يعرفه فواسع أن يمتنع من الفتوى معه خوفًا مما قلناه. قال: وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها, والأولى في هذه المواضع أن يشار على صاحبها بإبدالها، فإن أبى ذلك أجابه شفاهًا"3.
قلت: وإذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم للأهلية، ولم تكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه، وإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو "تلبيس"4 أو غير ذلك، بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا معه ضارًّا بالمستفتين5، فليفتِ معه، فإن ذلك أهون الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله6، والله أعلم.
الرابعة عشرة7: إذا ظهر له أن الجواب على خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتبه ورقته، فليقتصر على مشافهته بالجواب8.
حدثني الشيخ أبو المظفر عبد الرحيم9 ابن الحافظ أبي سعد10 عبد الكريم
__________
1 من ف وج وش وفي الأصل: "من".
2 من ف وش وفي الأصل "فإن".
3 المجموع: 1/ 90، صفة الفتوى: 64.
4 من ف وج وش وفي الأصل: "تدريس".
5 في ف وج: "للمستفتين".
6 المجموع: 1/ 90، صفة الفتوى: 64.
7 في ج: "عشر".
8 المجموع: 1/ 88، صفة الفتوى: 164.
9 هو "أبو المظفر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، أسمعه والده، وطاف به بلاد خراسان، وما وراء النهر، وخرج له والده "معجمًا لمشايخه"، توفي سنة سبع عشرة وستمائة". ترجمته في: وفيات الأعيان: 2/ 381، العبر: 2/ 68، اللسان: 4/ 6.
10 في ف وج: "سعيد".

(1/146)


السمعاني بمدينة مرو، والده1 "رحمهما الله"2، قال: سمعت أبا السعادات المبارك بن الحسين الشاهد3 بواسط يقول: دخلت على قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني4 وكان معي رقعة فيها مسألة، فسألته الجواب عنها، فأخذ الرقعة وشرع يكتب الجواب، وكنت أدعو له، فقال: المعنى إذا وافق جوابه غرض المستفتي يدعو له، وإذا لم يوافق سكت، ثم قال: غرم شيخنا أبو الحسين ابن القدوري5 لرجل ورقة أفتى يومًا في مسألة استفتي عنها، فاتفق الجواب على خلاف غرض المستفتي، فقال له: يا شيخ أتلفت ورقتي. قال: فأخرج شيخنا ورقة من عنده، وقال: هاك عوضها. والله أعلم.
__________
1 هو "تاج الإسلام الحافظ العلامة أبو سعد عبد الكريم بن منصور المروزي، صنف "الدليل" على تاريخ بغداد للخطيب، و"تاريخ مرو" و"الأنساب"، وغير ذلك، توفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة" ترجمته في البداية والنهاية: 12/ 175، المنتظم: 10/ 224، تذكرة الحفاظ: 4/ 1316، العبر: 4/ 178، مرآة الجنان: 14/ 371.
2 سقطت من ف وج.
3 كذا في النسخ، ولعله: "مبارك بن الحسين أبو الخير الغسال المقرئ، تكلم فيه ابن ناصر، ومشاه غير واحد، رحل إلى واسط، روى عنه أبو طاهر السبخي، وابن السمعاني إجازة. قال ابن السمعاني: كان أديبًا ماهرًا صالحًا ثقة حسن الصوت، مات سنة عشرة وخمسمائة، والغسال بغين معجمة". ترجمته في: المنتظم: 9/ 190، تذكرة الحفاظ: 4/ 1261، العبر: 4/ 21، المشتبه: 2/ 457، ميزان الاعتدال: 3/ 430، معرفة القراء الكبار: 1/ 465، غاية النهاية: 2/ 40، لسان الميزان: 5/ 8، شذرات الذهب: 4/ 27.
4 هو "قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الدامغاني: بالدال المفتوحة المشددة المهملة، والميم المفتوحة والغين المنقوطة بلدة من بلاد قومس، ولي القضاء ببغداد مدة، وكان إليه الرئاسة والتقدم، وكان فقيهًا فاضلا، توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد". ترجمته في تاريخ بغداد: 3/ 109، والأنساب: 5/ 259.
5 هو "الفقيه أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان المعروف بالقدوري، من أهل بغداد، كان فقيهًا صدوقًا، انتهت إليه بالعراق رياسة أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة"، ترجمته في: تاريخ بغداد: 4/ 377، الأنساب: 10/ 76، والجواهر المضية ترجمة رقم: "179".

(1/147)


الخامسة عشرة1: إذا وجد في رقعة2 الاستفتاء فتيا غيره، هي خطأ "قطعًا إما"3 خطأ مطلقًا لمخالفتها الدليل القاطع، وإما خطأ على مذهب من يفتي ذلك الغير على مذهبه قطعًا، فلا يجوز له الامتناع من الإفتاء تاركًا للتنبيه على "خطتها"4 إذا لم يكفه ذلك غيره، بل عليه "الضرب"5 عليها عند تيسره، أو الإبدال وتقطيع6 الرقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك. وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ، ثم إن كان المخطئ أهلا للفتوى فحسن أن تعاد إليه بإذن صاحبها، وأما إذا وجد فيها فتيا ممن هو أهل للفتوى وهي على خلاف ما يراه هو، غير أنه لا يقطع "بخطئها"7، فليقصر على أن يكتب جواب نفسه، ولا يتعرض لفتيا غير بتخطئة8 ولا اعتراض عليه9.
وبلغنا: أن الملك الملقب بجلال الدولة من ملوك الديلم المتسلطين على الخلفاء لما زيد في ألقابه شاها نشاه الأعظم، ملك الملوك، وخطب10 له بذلك ببغداد على المنبر، جرى في ذلك ما أحوج إلى استفتاء فقهاء بغداد في جواز ذلك وذلك في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فأفتى غير واحد من أئمة العصر بجواز ذلك منهم:
__________
1 في ج: "عشر".
2 في ش: "كتاب".
3 ساقطة من ف.
4 في الأصل: "خطائه"، وفي ف وج وش:"خطائها" وما أثبته هو الموافق للمجموع، وصفة الفتوى حيث اقتبسوا كلام ابن الصلاح هذا بنصه.
5 من ف وج, وش وفي الأصل: "ضرر".
6 في ف وج "يقطع".
7 كذا كتبت في النسخ: "بخطائها". والمثبت من المجموع، وصفة الفتوى.
8 في ف وج: "بتخطئته".
9 المجموع: "1/ 90-91"، صفة الفتوى: 65.
10 في ف وج: "وخطبت".

(1/148)


القاضي الإمام أبو الطيب الطبري، وأبو القاسم الكرخي1، وابن البيضاوي2، الشافعيون. والقاضي أبو عبد الله الصيمري3، الحنفي، وأبو محمد التميمي الحنبلي4، ولم يفت معهم القاضي أبو الحسن الماوردي، فكتب إليه كاتب الخليفة يخصه بالاستفتاء في ذلك، فأفتى بأن ذلك لا يجوز5، ولقد أصاب في تحريمه
__________
1 هو "الشيخ أبو القاسم منصور بن عمر بن علي البغدادي الكرخي، تفقه على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، روى عنه الخطيب البغدادي. توفي سنة سبع وأربعين وأربعمائة". ترجمته في تاريخ بغداد: 13/ 87، طبقات الفقهاء للشيرازي: 129، طبقات الشافعية الكبرى: 5/ 334.
2 قال السبكي: "واعلم أن البيضاوي في هذه الطبقة من أصحابنا ثلاثة: هذا القاضي "محمد بن أحمد بن العباس الفارسي القاضي" وختن القاضي أبي الطيب الطبري، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد ... " الطبقات الكبرى: 4/ 97. قلت: أما "محمد بن أحمد بن العباس الفارسي القاضي، أبو بكر البيضاوي" "توفي سنة468هـ" كذا في معجم المؤلفين: 8/ 273، ولعله وهم نشأ من الترجمة الآتية. ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 96 ولم يذكر سنة وفاته.
والثاني هو: "القاضي أبو الحسن محمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد البيضاوي، ختن القاضي أبي الطيب، توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة"، ترجمته في تاريخ بغداد: 3/ 239، طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 196 وجاء فيها "توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة" وفي نسخ أخرى "ثمان وستين"، الأنساب: 2/ 368.
والثالث هو "القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد البيضاوي، توفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة"، ترجمته في تاريخ بغداد: 5/ 476، طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 152، الأنساب: 2/ 368، فأما "أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد البيضاوي" فهو ليس بصاحب الفتوى قطعًا لأنه توفي قبل وقوعها ولم تصرح المصادر التي ذكرت الحادثة باسم البيضاوي صاحب الفتوى والله تعالى أعلم.
3 هو "أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد بن جعفر الصيمري، أحد الفقهاء المذكورين من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وروى عنه أبو بكر الخطيب، وقال: كان صدوقًا، وافر العقل، جميل المعاشرة، عارفًا بحقوق أهل العلم. توفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة"، ترجمته في تاريخ بغداد: 8/ 78، الأنساب: 8/ 128.
4 هو "ابو محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي، توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة", ترجمته ومصادرها في سير أعلام النبلاء: 18/ 609.
5 انظر الحادثة وامتناع الإمام الماوردي عن الفتوى في الكامل لابن الأثير: "9/ 459-460"، البداية والنهاية: "12/ 43-44" وذكر كلام ابن الصلاح رحمه الله تعالى وسمى كتابه "أدب المفتي"، طبقات الشافعية الكبرى: "5/ 270-272".

(1/149)


ذلك، وأخطئوا في تجويزه1. فلما وقفوا على جوابه تصدوا لنقضه، وأطال القاضيان أبو "الطيب"2 الطبري، وأبو عبد الله الصيمري في التشنيع عليه، فأجاب الماوردي عن كلامهما بجواب طويل يذكر فيه أنهما أخطآ من وجوه منها: أنه لا يسوغ لمفت إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة، ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة، فقد يفتي أصحاب الشافعي بما يخالفهم فيه أصحاب أبي حنيفة، فلا يتعرض أحد منهم لرد على صاحبه4 والله أعلم.
السادسة عشرة5: إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلًا ولم يحضر صاحب الواقعة، فعن القاضي أبي القاسم الصيمري الشافعي: "رحمه الله"6: "أن له أن يكتب: يزاد في الشرح لنجيب عنه، أو لم أفهم ما فيها7 فأجيب عنه8"9.
__________
1 هذا هو الحق والصواب، فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك" , زاد في رواية: لا مالك إلا الله، قال سفيان: مثل: "شاهان شاه". وأخنع أذل. رواه البخاري: 10/ 486 في الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله حديث رقم "6205، 6206"، ومسلم في الأدب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك، حديث رقم: "2143"، والترمذي في الأدب، باب "65" حديث رقم: "2839"، وأبو داود في الأدب، باب تغيير الأسماء حديث رقم: "4961", وأحمد في المسند: 2/ 244.
قال الحافظ ابن الحجر في الفتح: 10/ 590 "وشاهان شاه: بسكون النون وبهاء في آخره، وقد تنون وليست هاء تأنيث، فلا يقال بالمثناة أصلا، وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية، وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده وذلك أن على الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك، بل كل ما أدى معناه بأي لسان فهو مراد الذم ... وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك ... ".
2 من ف وج وش.
3 في ف وج: "بعض أصحاب".
4 المجموع: 1/ 91، صفة الفتوى: 65.
5 في ج: "عشر".
6 ساقطة من ج.
7 في الأصل "أفهم عنه" غير أنه وضع خطًّا صغيرًا على "عنه".
8 في ش: "عنها".
9 المجموع: 1/ 91، صفة الفتوى: 65.

(1/150)


وقال بعضهم: لا يكتب شيئًا أصلا.
قال: ورأيت بعضهم كتب في مثل هذا: يحضر السائل لنخاطبه شفاهًا1. وإذا اشتملت الرقعة على مسائل فهم بعضها دون بعض، أو فهمها كلها ولم يرد الجواب عن بعضها، أو احتاج في بعضها إلى مطالعة رأيه أو كتبه، سكت عن ذلك البعض "وأجاب"2 عن البعض الآخر.
وعن الصيمري: أنه يقول في جوابه: فأما باقي المسائل فلنا فيه نظر، أو يقول: مطالعة، أو يقول: زيادة تأمل3.
قلت4: وإذا فهم من5 السؤال صورة وهو يحتلم غيرها، فلينص عليها في أول جوابه، فيقول: إن كان قد قال: كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا6، أو ما أشبه هذا، ثم يذكر حكم ذلك. والله أعلم.
السابعة عشرة7: ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا مثل أن يسأل عن عدة الآية، فحسن أن يكتب في فتواه: قال الله "تبارك و"8 تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} 9. أو يسأل: هل يطهر جلد الميتة "بالدباغ"10؟ فيكتب: نعم
__________
1 الفقيه والمتفقه: "2/ 176-187"، المجموع: 1/ 91، صفة الفتوى: 65.
2 من ف وج وش، وفي الأصل: "أجاب".
3 الفقيه والمتفقه: 2/ 187، المجموع: 1/ 91، صفة الفتوى: 66.
4 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".
5 في ف وج "عن".
6 صفة الفتوى: 66.
7 في ج: "عشر".
8 من ف وج وش.
9 الطلاق آية: "4".
10 من ف وج وش وفي الأصل: "الدباغ".

(1/151)


يطهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب 1 دبغ فقد طهر" 2. وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له ذكر شيء منها.
وفيما وجدناه عن الصيمري قال: لم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ولا وجه القياس والاستدلال، اللهم إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد، ويلوح بالنكتة التي عليها بنى الجواب، أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيها عنده، فيلوح بالنكتة التي أوجبت خلافه ليقم3 عذره في مخالفته4.
قلت5: وكذلك لو كان فيما يفتي به غموض فحسن أن يلوح بحجته، وهذا التفصيل أولى مما سبق قريبًا ذكره عن القاضي الماوردي من إطلاقه القول: بالمنع من تعرضه للاحتجاج, وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: هذا6 إجماع المسلمين, أو: لا أعلم في هذا خلافًا, أو: فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب, أو: فقد أثم وفسق, أو: على ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر, وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقضيه المصلحة وتوجبه الحال7، والله أعلم.
__________
1 "الجلد، وقيل: إنما يقال للجلد إهاب قبل الدبغ، فأما بعده فلا، وقيل: هو كل جلد دبغ أو لم يدبغ"، انظر النهاية: 1/ 83، تاج العروس مادة "أهب".
2 رواه مسلم في الحيض، باب طهارة جلود الميتة، حديث رقم: "366"، وأبو داود في اللباس، باب أهمية الميتة، حديث رقم "4123"، والترمذي في اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت حديث رقم: "1728"، والنسائي: 7/ 173 في الفروع والعتيرة، باب جلود الميتة. ومالك في الموطأ: 2/ 498 في الصيد، باب ما جاء في جلود الميتة، والشافعي كما في ترتيب المسند: 1/ 26، وأحمد في المسند: "1/ 219، 227، 237 و261-262" وغير ذلك من الصفحات.
3 في ف وج: "ليفهم".
4 الفقيه والمتفقه: "2/ 191-192"، المجموع: 1/ 90، صفة الفتوى: 66، وانظر إعلام الموقعين: 4/ 161-163، 260".
5 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".
6 في ش: "وهذا".
7 الفقيه والمتفقه: 2/ 192، المجموع: "1/ 91-92"، صفة الفتوى: "66-67"، إعلام الموقعين: 4/ 260.

(1/152)


الثامنة عشرة1: يجب على المفتي عند اجتماع الرقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق، كما يفعله القاضي عند اجتماع الخصوم، وذلك فيما يجب عليه فيه الإفتاء، وعند التساوي، أو الجهل بالسابق يقدم بالقرعة، والصحيح أنه يجوز له تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله، وفي تأخيره تخلفه عن رفقته2 على من سبقهما، إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم من تقديمهم ضرر كبير فيعود بالتقديم3 إلى السبق4 أو القرعة، ثم لا يقدم من يقدمه إلا في5 فتيا واحدة6، والله أعلم.
التاسعة عشرة7: ليحذر أن يميل في فتياه مع المستفتي أو مع خصمه، ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها: أن يكتب في جوابه ما هو له، ويسكت عما هو عليه.
وليس له أن يبتدئ في مسائل الدعاوي والبينات بذكر وجوه المخالص منها. وإذا سأله أحدهم وقال: بأي شيء تندفع دعوى كذا وكذا، أو بينة كذا وكذا؟ لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق، وله أن يسأله عن حاله فيما ادعي عليه، فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع8. والله أعلم.
العشرون: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلا، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل، ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات
__________
1 في ج: "عشر".
2 في المجموع: 1/ 89 "وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته".
3 في ف وج وش: "إلى التقديم".
4 في ف وج وش: "بالسبق".
5 سقطت من ف وج.
6 المجموع: 1/ 89، صفة الفتوى: 67.
7 في ج "عشر".
8 صفة الفتوى: 67.

(1/153)


والأخبار المتشابهة1: إن الثابت فيها في نفس الأمر كل ما هو اللائق فيها بجلال الله وكماله وتقديسه المطلقين، وذلك هو معتقدنا فيها، وليس "علينا"2 تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا، بل نكل علم تفصيله إلى الله "تبارك و"2 تعالى، ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا، فهذا ونحوه عند أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة، وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر الفقهاء والصالحين، وهو أصون4 وأسلم للعامة وأشباههم، ممن يدغل قلبه بالخوض في ذلك، ومن كان منهم اعتقد اعتقادًا باطلا تفصيلا، ففي إلزامه بهذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم5.
وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة، فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزيره صبيغ6 بن عسل7 الذي كان يسأل عن المتشابهات8 على ذلك.
__________
1 ف ف وج: "المتشابهات".
2 من ف وج وش، وفي الأصل: "عليها".
3 من ف وج وش.
4 في ف وج: "أصوب".
5 المجموع: 1/ 92، صفة الفتوى: "44-45".
6 في الإكمال: 5/ 221 "صبيغ: بالصاد المهملة، وغين معجمة ... "، وفي المجموع: 1/ 92 "بفتح الصاد المهملة"، وفي التوضيح: 2/ 238 "واسمه بصاد مهملة مفتوحة، ثم موحدة مكسورة، ثم المثناة تحت تليها غين معجمة". ومثله المشتبه: 2/ 414، والتبصير: 3/ 855، وفي الإصابة: 3/ 458 "صبيغ، بوزن عظيم، وآخره معجمة، ابن عسل، بمهملتين الأولى مكسورة والثانية ساكنة، ويقال بالتصغير، ويقال: ابن سهل الحنظلي، له إدراك وقصته مع عمر مشهورة ... " انظر ترجمته في الإكمال: "5/ 221، 6/ 207، 208"، المشتبه: 2/ 412، التوضيح: 2/ 238، التبصير: 3/ 585، الإصابة: "3/ 458-460", والاشتقاق: 228، معجم البلدان: 4/ 124، تهذيب تاريخ ابن عساكر: 6/ 386.
7 ويقال فيه: "عسيل: بضم العين وفتح السين"، الإكمال 69/ 207.
8 الرواية: "عن نافع مولى عبد الله -يعني ابن عمر- أن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناده من المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه =

(1/154)


والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له، وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء والبرهنة عليها1.
وذكر شيخه الشيخ أبو المعالي في كتابه "الغياثي": أن الإمام يحرص ما
__________
= الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر به أين يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة؟ فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عادله، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت فأذن له إلى أرضه, وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر: أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته". سنن الدارمي: 1/ 51، رقم "146 و150"، وأخرج روايته ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمته وانظر تهذيب ابن عساكر: "6/ 386-387"، والإصابة: "3/ 458-460".
1 دعا الإمام الغزالي رحمه الله تعالى إلى الإيمان بصفات الله تعالى كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، من غير تشبيه ولا تعطيل، ولا حلول، ولا اتحاد، ودعا إلى نبذ وترك علم الكلام، وأنه بدعة. وأن العقيدة الحقة لا يمكن أن تؤخذ إلا من الكتاب والسنة. فقال: "وقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار". المنقذ من الضلال: 98 وقال أيضًا يدعو إلى تنزيه الله تعالى والإيمان بصفاته "التنزيه" وأنه ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر ... وليس كمثله شيء، ولا هو مثل شيء ... وأنه استوى على العرش، على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده ... وأنه لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء ... وأنه حي قادر، جبار قاهر ... وأنه عالم بجميع المعلومات ... وأنه مريد للكائنات مدبر للحوادث ... فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن ... وكل ذلك مما وردت به الأخبار، وشهدت به الآثار، فمن اعتقد جميع ذلك موقنًا به كان من أهل الحق وعصابة السنة، وفارق رهط الضلال والبدعة ... "، انظر كتاب تبيين كذب المفتري: "299-306"، إحياء علوم الدين: 1/ 89، طبقات الشافعية الكبرى: "6/ 230-240" وذم علم الكلام قائلا: "وأما منفعته -أي علم الكلام- فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، هيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف ... وأن الطريق إلى حقائق المعرفة في هذا الوجه مسدود"، المنقذ من الضلال: 101، إحياء علوم الدين: 1/ 22 وانظر ما كتبه الأستاذ على محيي الدين القره داغي عن عقدة الإمام الغزالي في تحقيقه لكتاب "الوسيط في المذهب" للإمام الغزالي: "1/ 158، 159، 169، 170"، وسينقل ابن الصلاح عن الغزالي ما فيه الكفاية.

(1/155)


أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك1. واستفتي الغزالي في كلام الله تبارك وتعالى فكان من جوابه: وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة2، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين3، وإنما4 هو من المضلين، ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يعرفون السباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزمن المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب5.
وقال في "رسالة" له: الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنتين، سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل، والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله تعالى، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير بحث وتفتيش، والاشتغال بالتقوى6 ففيه شغل شاغل7.
"وفي كتاب "أدب المفتي والمستفتي" للصيمري أبي القاسم: إن مما أجمع عليه أهل الفتوى8 أن من كان موسومًا9 بالفتوى"10 في الفقه، لم ينبغ أن يضع
__________
1 الغياثي: "ص: 190"، المجموع: 1/ 92، صفة الفتوى: 47.
2 انظر القول في مسألة كلام الله تعالى وافتراق الناس في ذلك في مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية: "12/ 502-533".
وقال القاضي علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي المتوفى سنة "792هـ" في شرح العقيدة الطحاوية: "أنه تعالى لم يزل متكلمًا، إذ شاء، ومتى شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة". شرح العقيدة الطحاوية: 137. وانظره بالتفصيل صفحة "136-162".
3 انظر أقوال الغزالي في تبيين كذب المفتري: 302، طبقات الشافعية الكبرى: "6/ 234-235".
4 في ش: "إنما".
5 المجموع: 1/ 92، صفة الفتوى: 46.
6 في وج: "الفتوى".
7 المجموع: 1/ 92، صفة الفتوى: 46.
8 كذا في النسخ، ومثله في صفة الفتوى: 47، وفي المجموع: 1/ 93 "التقوى".
9 في ف وج: "منسوبًا"، وفي ش: "موسومًا" ومثله في المجموع: 1/ 93.
10 من ف وج وش، وفي الأصل وفي كتاب "أدب الفتوى والمستفتي" للصيمري أبي القاسم: إن مما أجمع عليه أهل الفتوى من كان موسومًا بالفتوى فقيه شغل شغل شاغل، وفي كتاب "أدب المفتي والمستفتي" للصيمري أبي القاسم: إن مما أجمع عليه أهل الفتوى، أن من كان موسومًا بالفتوى", وهذا خلط وتكرار.

(1/156)


خطة بفتوى في مسألة من الكلام، كالقضاء والقدر، والرؤية، وخلق القرآن، وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة1.
وحكى أبو عمر ابن عبد البر الفقيه الحافظ الأندلسي: الامتناع من الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث والفتوى، وقال: إنما خالف ذلك أهل البدع2.
قلت3: فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلا، وذلك بأن يكون جوابها مختصرًا مفهومًا، فما ليس له أطراف يتجاذبها المتنازعون، والسؤال عنه صادر من مسترشد خاص منقاد، أو من عامة قليلة التنازع والمماراة، والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا، وعلى هذا ونحوه يخرج ما جاء عن بعض السلف من بعض الفتوى في بعض المسائل، الكلامية، وذلك منهم قليل نادر4، والله أعلم5.
__________
1 المجموع: 1/ 93، صفة الفتوى: "47-48".
2 انظر جامع بيان العلم وفضله: "2/ 133-150"، المجموع: 1/ 93، صفة الفتوى: 48.
3 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".
4 المجموع: 1/ 93 حيث اقتبس النووي رحمه الله تعالى الفقرة "العشرون" بنصها وغزاها إلى ابن الصلاح رحمه الله تعالى، صفة الفتوى: 48.
5 في ج "والله أعلم بالصواب".

(1/157)