أدب المفتي والمستفتي

القول في أحكام المفتين:
وفيه مسائل:
الأولى: لا يشترط في المفتي الحرية، والذكورة، كما في الراوي، وينبغي أن يكون كالراوي أيضًا في أنه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة، وجر النفع، ودفع الضرر، لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص. فكان في ذلك كالراوي، لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف، القاضي1، ووجدت عن القاضي الماوردي فيما جاوب به القاضي أبا الطيب الطبري2 عن رده عليه في
__________
1 اقتبس الإمام النووي رحمه الله تعالى كلام ابن الصلاح هذا بنصه في المجموع: 1/ 75.
2 هو "الإمام القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن عمر الطبري. قال الخطيب: كان أبو الطيب ورعًا، عارفًا بالأصول والفروع، محققًا حسن الخلق، صحيح المذهب. وقال السبكي: فإذا أطلق الشيخ أبو إسحاق وشبهه من العراقيين لفظ القاضي مطلقًا في فن الفقه فإياه يعنون، كما أن إمام الحرمين وغيره، من الخراسانيين يعنون بالقاضي القاضي الحسين، والأشعرية في الأصول يعنون القاضي أبا بكر بن الطيب الباقلاني، والمعتزلة يعنون عبد الجبار الأسد أباذي.
توفي سنة خمسين وأربعمائة"، ترجمته في: تاريخ بغداد: 9/ 358، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 247، العبر: 3/ 222، طبقات الشافعية الكبرى: 5/ 12.

(1/106)


فتواه: بالمنع عن التلقيب بملك الملوك. ما معناه: إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصًا معينًا صار خصمًا معاندًا ترد فتواه على من1 عاداه، كما ترد شهادته2.
ولا بأس بأن يكون المفتي أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبًا، والله أعلم.
الثانية: لا تصح فتيا الفاسق، وإن كان مجتهدًا مستقلا، غير أنه لو وقعت له في نفسه واقعة عمل فيها باجتهاد نفسه ولم يستفت غيره3.
وأما المستور: وهو من كان ظاهره العدالة ولم تعرف عدالته الباطنية ففي وجه لا تجوز فتياه كالشهادة، والأطهر أنها تجوز لأن العدالة الباطنة4 تعسر5 معرفتها على غير الحكام6 ففي اشتراطها في المفتين حرج على المستفتين، والله أعلم.
الثالثة: من كان من أهل الفتيا قاضيًا فهو فيها كغيره7. وبلغنا عن أبي بكر ابن المنذر8 أنه يكره للقضاة أن تفتي في مسائل الأحكام دون ما لا مجرى لأحكام
__________
1 في ش: "على ذلك من عاداه".
2 اقتبس النووي نص كلام ابن الصلاح هذا في المجموع: 1/ 75.
3 المجموع: 1/ 76، وانظر: المستصفى للغزالي: 2/ 350، إعلام الموقعين: 4/ 220، جمع الجوامع لابن السبكي وشرحه للجلال، وحاشية البناني: 2/ 385، مسلم الثبوت للبهاري: 2/ 463.
4 في ف وج: "الباطنية".
5 في ف "يعسر".
6 في ف "الحاكم".
7 انظر: "الإحكام للإمام القرافي: "29-42"، و"الفروق" للقرافي: "2/ 104-106، 4/ 53-54" و"إعلام الموقعين": 4/ 220.
8 هو "الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري قال الذهبي: كان على نهاية من معرفة الحديث والاختلاف، وكان مجتهدًا، لا يقلد أحدًا، قال ابن العماد: توفي سنة ثمان عشرة وثلاثمائة". ترجمته في: تذكرة الحفاظ: 3/ 4، طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 102، شذرات الذهب: 2/ 280.

(1/107)


القضاء فيه، كمسائل الطهارة، والعبادات. وقال: قال شريح1: "أنا أقضي ولا أفتي"2.
ووجدت في بعض "تعاليق الشيخ أبي حامد3 الإسفراييني"4: أن له أن يفتي في العبادات، وما لا يتعلق به الحكم. وأما فتياه في5 الأحكام فلأصحابنا فيه جوابان:
أحدهما: ليس له أن يفتي فيهما، لأن لكلام الناس عليه مجالا، ولأحد الخصمين عليه مقالا.
والثاني: له ذلك، لأنه أهل لذلك6، والله أعلم.
الرابعة: إذا7 استفتي المفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب، وإن كان في الناحية غيره، فإن حضر هو وغيره واستفتيا معًا فالجواب عليهما على الكفاية،
__________
1 هو "شريح بن الحارث بن قيس الكوفي النخعي القاضي، أبو أمية، مخضرم، ثقة، وقيل: له صحبة، مات قبل الثمانين أو بعدها، وله مائة وثمان سنين، أو أكثر، قال بعضهم: حكم سبعين سنة"، التقريب: 1/ 349، وأخباره في أخبار القضاة لوكيع: "2/ 189-402"، طبقات بن سعد: 6/ 131، تهذيب الكمال: 576.
2 طبقات ابن سعد: 6/ 138، المجموع: 1/ 76، صفة الفتوى: 29.
3 هو "الشيخ أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني. قال الخطيب: سمعت من يذكر أنه كان يحضر مجلسه سبعمائة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به: توفي سنة ست وأربعمائة". ترجمته في: تاريخ بغداد: 4/ 368، البداية والنهاية: 12/ 2 طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 61، شذرات الذهب: 3/ 178.
4 نقل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: "4/ 68، 69، 70، 71، 72" نماذج من "تعليقة" أبي حامد الإسفراييني. وقال: 4/ 68" وقفت على أكثر "تعليقة" الشيخ أبي حامد بخط سليم الرازي، وهي الموقوفة بخزانة المدرسة الناصرية، بدمشق، والتي علقها البندنيجي عنه، ونسخ أخر منها ... ".
5 سقطت من ج.
6 نقل الإمام النووي هذه الفقرة عن ابن الصلاح في المجموع: 1/ 76، إعلام الموقعين: 4/ 221.
7 في ج "لو".

(1/108)


وإن لم يحضر غيره فعند الحليمي: تعين عليه بسؤاله جوابه، وليس له أن يحيله على غيره.
والأظهر أنه لا يتعين عليه بذلك، وقد سبقت روايتنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال:
"أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول".
وإذا سأل العامي عن مسألة لم تقع لم تجب مجاوبته1، والله أعلم.
الخامسة: إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه، نظرت فإن أعلم2 المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول بعد لم يجز له العمل به، وكذلك لو نكح بفتواه أو استمر على نكاح, ثم رجع لزمه مفارقتها. كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته3، فإنه يتحول، وإن كان المستفتي قد عمل به قبل رجوعه، فإن كان خالفًا لدليل قاطع لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل الاجتهاد لم يلزمه نقضه4.
قلت5: وإذا كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين فإذا رجع لكونه
__________
1 صفة الفتوى: 30، إعلام الموقعين: 4/ 221. وفي سن الدارمي: 1/ 50 " ... جاء رجل يومًا إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو فقال له ابن عمر لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن"، والآثار في ذلك كثيرة انظر سنن الدارمي: "1/ 50-51".
2 كتبت في الأصل "أعلم" غير أن الألف لم تكتب بصورة واضحة، وفي ف وج "أعلم" الألف واضحة.
3 في الأصل: "صلوته" وفي ش "الصلاة".
4 انظر صفة الفتوى والمفتي: "30-31", إعلام الموقعين: 4/ 244 وللاطلاع على الآراء في نقض الاجتهاد راجع: المستصفى: 2/ 382، المحصول: "2/ 3/ 9190"، الإحكام للآمدي: 4/ 203، شرح مختصر ابن الحاجب: 2/ 300، وفصول البدائع: 2/ 428، شرح جمع الجوامع بحاشية البناني: 2/ 391، المدخل لمذهب الإمام أحمد: 190، تيسير التحرير: 4/ 34".
5 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".

(1/109)


بان له قطعًا أنه خالف في فتواه نص مذهب إمامه، فإنه يجب نقضه، وإن كان ذلك في محل الاجتهاد، لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل1، على ما سبق تأصيله. وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه فحال المستفتي في عمله به2 على ما كان، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل، وكذا بعد العمل حيث يجب النقض.
ولقد أحسن الحسن بن زياد اللؤلؤي3، صاحب أبي حنيفة فيما بلغنا عنه: "أنه استفتي في مسألة فأخطأ فيها ولم يعرف الذي أفتاه، فاكترى مناديًا فنادى: إن الحسن بن زياد استفتى يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ، فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه.
فلبث أيامًا لا يفتي حتى وجد صاحب الفتوى فأعلمه: أنه أخطأ، وإن الصواب، كذا وكذا"4. والله أعلم.
السادسة: إذا عمل المستفتي بفتيا المفتي في إتلاف، ثم بان خطأه، وأنه
__________
1 اقتبس ابن حمدان في "صفة الفتوى": "30-31" كلام ابن الصلاح هذا. وكذا ابن القيم في "إعلام الموقعين": "4/ 232". وقال: "أما قول أبي عمرو بن الصلاح، وأبي عبد الله بن حمدان من أصحابنا -ونقل نص كلام ابن الصلاح- فليس كما قالا، ولم ينص على هذه المسألة أحد من الأئمة، ولا تقتضيها أصول الشريعة، ولو كان نص إمامه بمنزلة نص الشارع لحرم عليه وعلى غيره مخالفته، وفسق بخلافه. ولم يوجب أحد من الأئمة نقض حكم الحاكم ولا إبطال فتوى المفتي بكونه خلاف قول زيد أو عمرو، ولا سوغ النقض بذلك من الأئمة والمتقدمين من أتباعهم ... ". انظر الرد بطوله في "إعلام الموقعين": "4/ 223-224".
2 سقطت من ف وج.
3 هو "الحسن بن زياد اللؤلؤي، صاحب الإمام أبي حنيفة قال يحيى بن آدم: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد. وهو ضعيف في الحديث. توفي سنة أربع ومائتين" ترجمته في تاريخ يحيى بن معين: 3/ 363، الضعفاء والمتروكين للدارقطني الترجمة: "187"، تاريخ بغداد: 7/ 314، الجواهر المضية: 2/ 56.
4 الفقيه والمتفقه: 1/ 201، ونقل الإمام النووي في المجموع: 1/ 81 هذه الفقرة عن ابن الصلاح باختصار، وكذا إعلام الموقعين: "4/ 224-225".

(1/110)


خالف فيها القاطع، فعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: أنه يضمن إن كان أهلًا للفتوى، ولا يضمن إن لم يكن أهلا، لأن المستفتي قصر، والله أعلم1.
السابعة: لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتي. وذلك "قد"2 يكون بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولئن يبطئ ولا يخطئ أكمل3 به من أن يعجل فيضل ويضل.
فإن تقدمت معرفته بما سئل عنه على السؤال فبادر عند السؤال بالجواب فلا بأس عليه، وعلى مثله يحمل ما ورد عن الأئمة الماضين من هذا القبيل.
وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو الكراهة، والتمسك بالشبه طلبًا "للترخيص"4 على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره5، ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه، ونسأل الله "تعالى"6 العافية والعفو.
وأما إذا صح قصده، فاحتسب في تطلب حيلة لا شبهة فيها. ولا تجر إلى مفسدة ليخلص بها المستفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل يشهد له قول الله "تبارك و"7 تعالى لأيوب8 صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا، لما حلف ليضربن امرأته
__________
1نقل الإمام النووي في المجموع هذه الفقرة عن ابن الصلاح وقال: 1/ 81 "كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه، وهو مشكل وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروفين في بابي الغصب والنكاح وغيرهما، أو يقطع بعدم الضمان، إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء"، وانظر صفة الفتوى: 31، وإعلام الموقعين: 4/ 225.
2 من ف وج وش.
3 في ف وج "أجمل".
4 كذا في سائر النسخ وفي الأصل "للترخص".
5 المجموع: 1/ 81.
6 من ج وش.
7 من ش.
8 ورد عن ابن عباس قوله: "لا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء"، راجع الدر المنثور: 5/ 317.
وقال القرطبي في أحكام القرآن: 15/ 213 "وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة". وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك. راجع الأحكام: 2/ 210، وقال سفيان الثوري في تفسيره: 259: "لم يجعل لأحد بعد"، وانظر أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن عربي: "4/ 1651-1652".

(1/111)


مائة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا 1 فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} 2.
ورد عن سفيان الثوري3 رضي الله عنه أنه قال: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد"4.
وهذا خارج على الشرط الذي ذكرناه، فلا يفرحن به من يفتي بالحيل الجارة5 إلى المفاسد، أو بما فيه شبهة بأن يكون في النفس من القول به شيء أو نحو ذلك، وذلك كمن يفتي بالحيلة السريجية6 في سد باب الطلاق، ويعلمها وأمثال ذلك7،
__________
1 الضغث: قبضة ريحان، أو حشيش، أو قضبان، وجمعه أضغاث"، المفردات للراغب الأصبهاني: 297.
2 سورة ص آية: "44".
3 هو "سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، قال الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ فقيه، عابد إمام، توفي سنة إحدى وستين ومائة", ترجمته في تاريخ بغداد: 9/ 151، تذكرة الحفاظ 1/ 203، تهذيب التهذيب: 4/ 111، التقريب: 1/ 311.
4 جامع بيان العلم: 2/ 44، المجموع: 1/ 81، صفة الفتوى: 32.
5 في ف وج "الجارة لمن يستفتي بالحيل السريجية إلى المفاسد".
6 سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ما قولكم في العمل "بالسريجية" وهو أن يقول الرجل لامرأته: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا. وهذه المسألة تسمى "مسألة ابن سريج "الجواب: هذه المسألة لم يفت بها أحد من سلف الأمة، ولا أئمتها لا من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المذاهب المتبوعين، كأبي حنيفة، ومالك والشافعي، وأحمد، ولا أصحابهم الذين أدركوهم: كأبي يوسف، ومحمد، والمزني، والبويطي ... لم يفت أحد منهم بهذه المسألة، وإنما أفتى بها طائفة من الفقهاء، وأنكر ذلك عليهم جمهور الأمة كأصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وكثير من أصحاب الشافعي، وكان الغزالي يقول بها، ثم رجع عنها وبين فسادها ... وابن سريج بريء مما نسب إليه فيها قاله الشيخ عز الدين"، انظر مجموع الفتاوى الكبرى: "33/ 242، 243، 244". وطبقات الإسنوي: "2/ 614-615".
7 صفة الفتوى والمفتي: "31- 32" حيث اقتبس كلام ابن الصلاح هذا دون الإشارة إليه، النووي في المجموع: 1/ 81، وانظر إعلام الموقعين: "4/ 222، 229-231". جمع الجوامع: 2/ 400، إرشاد الفحول: 272.

(1/112)


والله أعلم.
الثامنة: ليس له أن يفتي في كل حالة تغير خلقه، وتشغل قلبه، وتمنعه من التثبت والتأمل، كحالة الغضب "أو الجوع"1، أو العطش، أو الحزن، أو الفرح الغالب، أو النعاس، أو الملالة، أو المرض، أو الحر المزعج، أو البرد المؤلم، أو مدافعة الأخبثين، وهو أعلم بنفسه، فمهما أحس باشتغال قلبه وخروجه عن حد الاعتدال أمسك عن الفتيا، فإن أفتى في شيء من هذه الأحوال وهو يرى أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب، صحت فتياه، وإن خاطر بها2.
ومن أعجب ذلك ما وجدته بخط بعض أصحاب القاضي الإمام حسين بن محمد3 المروروذي4، عنه: أنه سمع الإمام أبا عاصم العبادي5 يذكر أنه كان عند
__________
1 في الأصل "والجوع".
2 المجموع: 1/ 82، صفة الفتوى: 34، وانظر إعلام الموقعين: 4/ 227.
3 هو "الإمام القاضي أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروروذي، قال عبد الغافر في السياق: فقيه خراسان، وقال الرافعي: وكان يقال له حبر الأمة. توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة". ترجمته في وفيات الأعيان: 2/ 134، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 164، طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 356.
4 "بفتح الميم وسكون الراء المهملة، وفتح الواو وتشديد الراء المهملة المضمومة، وبعد الواو ذال معجمة ... مدينة مبنية على نهر وهي أشهر مدن خراسان، بينها وبين مرو الشاهجان أربعون فرسخًا"، وفيات الأعيان: 1/ 69، وانظر الأنساب:12/ 200.
5 هو الإمام القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد الهروي العبادي صاحب "الزيادات" و"زيادات الزيادات" وغير ذلك. قال أبو سعد الروي: لقد كان أرفع أبناء عصره في غزارة نكت الفقه، والإحاطة بغرائبه عمادًا، وأعلاهم فيه إسنادًا، توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة". ترجمته في: وفيات الأعيان: 4/ 214، العبر: 3/ 343، طبقات الشافعية الكبرى:4/ 104.

(1/113)


الأستاذ أبي طاهر وهو الإمام الزيادي1 شيخ خراسان حين احتضر فسئل عن ضمان الدرك2, وكان في النزع، فقال: إن قبض الثمن فيصح، وإن لم يقبض فلا يصح، قال: لأنه بعد قبض الثمن يكون ضمان ما وجب3. والله أعلم.
التاسعة: الأولى بالمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك4، ويجوز له أن يرتزق على ذلك من بيت المال، إذا تعين عليه وله كفاية، فظاهر المذهب أنه لا يجوز، وإذا كان له رزق فلا يجوز له أخذ أجرة أصلًا، وإن لم يكن له رزق في بيت المال فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه كالحاكم على الأصح.
واحتال له الشيخ أبو حاتم القزويني5 في "حِيَلهِ"6، فقال: لو قال
__________
1 هو "الفقيه الشيخ أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش -بفتح الميم بعدها حاء مهملة ساكنة، ثم ميم مكسورة ثم شين معجمة- بن علي بن داود الزيادي. قال السبكي: إمام المحدثين، والفقهاء بنيسابور في زمانه. توفي سنة عشر وأربعمائة"، ترجمته في: العبر: 3/ 103، الوافي بالوفيات: 1/ 271، طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 198، طبقات الإسنوي: 1/ 609, طبقات الشافعية لابن الصلاح: 94أ، شذرات الذهب: 3/ 921، سير أعلام النبلاء: 17/ 276.
2 في المصباح المنير: 229 "الدرك: بفتحتين، وسكون الراء لغة: اسم من أدركت الشيء، ومنه ضمان الدرك".
3 نقل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: 4/ 200 كلام ابن الصلاح هذا وسمي الكتاب "أدب الفتيا". وقال: "قلت: وهذا هو الصحيح في المذهب، ولم يرد بحكايته أنه غريب، بل حضور ذهن هذا الأستاذ عند النزع لمسائل الفقه. ولذلك قال ابن الصلاح: إن هذه الحكاية من أعجب ما يحكى".
4 انظر إعلام الموقعين: 4/ 231.
5 هو "أبو حاتم محمود بن الحسن بن محمد بن يوسف القزويني. قال السبكي: له المصنفات الكثيرة، والوجوه المسطورة، ومن مصنفاته "تجريد التجريد" الذي ألفه رفيقه المحاملي. واختلف في وفاته فذكر الشيرازي في طبقاته أنه توفي سنة أربع عشرة أو خمس عشر وأربعمائة، وذكر ابن هداية الله أنه توفي سنة أربعين وأربعمائة، ترجمته في: تبيين كذب المفتري: 260، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 207، طبقات الفقهاء للشيرازي: 130، طبقات ابن هداية الله: "145-146"، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 312.
6 كذا شكلت في ش. وفي بعض النسخ "حيلة".

(1/114)


للمستفتي: إنما يلزمني أن "أفتيك"1 قولًا، وأما بذل الخط فلا، فإذا استأجره على2 أن يكتب له ذلك كان جائزًا3.
وذكر أبو القاسم الصيمري: أنه لو اجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقًا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز ذلك، وأما الهدية، فقد أطلق السمعاني الكبير أبو المظفر4: أنه يجوز له قبول الهدية، بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمه. قلت5: ينبغي أن يقال: يحرم عليها قبولها إذا كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض6. والله أعلم7.
العاشرة: لا يجوز له أن يفتي في الأيمان والأقارير، ونحو ذلك مما يتعلق بالألفاظ إلا8 إذا كان من أهل بلد اللافظ بها، أو متنزلا منزلتهم في الخبرة بمراداتهم من ألفاظهم وتعارفهم فيها، لأنه إذا لم يكن كذلك كثر خطؤه عليهم في ذلك كما شهدت به التجربة9، والله أعلم.
الحادية عشرة10: لا يجوز لمن كانت فتياه نقلا لمذهب إمامه إذا اعتمد في نقله على الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته، وجاز ذلك كما جاز اعتماد
__________
1 من ف وج وش وفي الأصل: "أقيك".
2 سقطت من ف وج.
3 نقل الإمام ابن القيم كلام ابن الصلاح في "إعلام الموقعين": 4/ 231 وقال 4/ 232: "والصحيح خلاف ذلك، وأنه يلزمه الجواب مجانًا بلفظه وخطه، ولكن لا يلزمه الورق ولا الحبر ... ".
4 هو "الإمام أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد السمعاني طرازه، توفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة" ترجمته في: الأنساب: 7/ 139، وفيات الأعيان: 3/ 211، طبقات الشافعية الكبرى: 5/ 335، طبقات ابن هداية الله: 179، شذرات الذهب:3/ 393.
5 في ش: "قال المصنف".
6 المجموع: 1/ 82، صفة الفتوى: 35، وانظر إعلام الموقعين: 4/ 232.
7 سقطت من ج.
8 كررت في ج مرتين.
9 المجموع: 1/ 82، صفة الفتوى: 36، إعلام الموقعين: 4/ 228.
10 في ف وج "عشر".

(1/115)


الراوي على كتابه، واعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي ويحصل له الثقة بما يجده في1 نسخة غير موثوق بصحتها، بأن يجده في نسخ عدة من أمثالها، وقد تحصل له الثقة بما يجده في النسخة غير الموثوق بها بأن يراه كلامًا منتظمًا وهو خبير2 فطن لا يخفى عليه في الغالب مواقع الإسقاط والتغيير3، وإذا لم يجده إلا في موضع لم يثق بصحته نظر:
فإن وجده موافقًا لأصول4 المذهب وهو أهل التخريج مثله على المذهب، لو لم يجده منقولا فله أن يفتي به. فإن أراد أن يحكيه عن إمامه فلا يقل: قال الشافعي مثلا كذا وكذا. وليقل: وجدت عن الشافعي كذا وكذا. أو بلغني5 عنه، أو ما أشبه هذا من العبارات.
وأما إذا لم يكن أهلا لتخريج مثله، فلا يجوز له ذلك فيه وليس له أن يذكره بلفظ جازم مطلق. فإن سبيل مثله النقل المحض، ولم يحصل له فيه ما يجوز له مثل ذلك، ويجوز له أن يذكره في غير6 مقام الفتوى مفصحًا بحاله فيه، فيقول: وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني، أو من كتاب فلان، لا أعرف صحتها، أو وجدت عن فلان كذا وكذا، أو بلغني7 عنه كذا وكذا8، وما ضاهى ذلك من العبارات9، والله أعلم10.
__________
1 في ف "من" والعبارة "في نسخة غير موثوق بصحتها بأن يجده" سقطت من ج.
2 في ف وج "خير".
3 في ف وج "التغير".
4 في ف وج "أصل".
5 في ف وج "وبلغني".
6 في ف وج "غيره".
7 في ج وش "وبلغني".
8 سقطت من ج.
9 المجموع: "1/ 82-83"، صفة الفتوى: "36-37".
10 نقل الإمام النووي كلام ابن الصلاح هذا في المجموع، وقال: 1/ 83 "قلت: لا يجوز لمفتٍ على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح ... "، وأما ابن حمدان رحمه الله تعالى فقد اقتبس كلام ابن الصلاح هذا في كتابه "صفة الفتوى"، ولم ينسبه لابن الصلاح.

(1/116)


الثانية عشرة1: إذا أفتى في حادثة ثم وقعت مرة أخرى، فإن كان ذاكرًا لفتياه الأولى ومستندها إما بالنسبة إلى أصل2 الشرع إن كان مستقلا، أو بالنسبة إلى مذهبه إن كان منتسبًا إلى مذهب ذي مذهب أفتى بذلك، وإن تذكرها ولم يتذكر مستندها، ولم يطرأ ما يوجب رجوعه عنها، فقد قيل: له أن يفتي بذلك، والأصح أنه لا يفتي حتى يجدد النظر3.
وبلغنا عن أبي الحسين4 ابن القطان5 أحد أئمة المذهب: أنه كان لا يفتي في شيء من المسائل حتى يلحظ الدليل6, وهكذا ينبغي لمن هو دونه، ومن لم تكن فتواه حكاية عن غيره، ولم7 يكن له بد من استحضار الدليل فيها. والله أعلم.
الثالثة8 عشرة9: روينا عن الشافعي رضي الله عنه10، أنه قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلته"11.
__________
1 في ف وج: "عشر".
2 في ش: "إلى مذهبه إن كان".
3 انظر إعلام الموقعين: "4/ 232-233".
4 في ف وج "الحسن".
5 هو "أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن القطان البغدادي، الفقيه الشافعي، درس ببغداد، وأخذ عنه العلماء، وله مصنفات كثيرة، توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة"، ترجمته في وفيات الأعيان: 1/ 70، فوات الوفيات: 7/ 321.
6 المجموع: 1/ 83، صفة الفتوى: 37.
7 في ف، وج، وش: "لم".
8 في ف "الثالث".
9 في ج "عشر".
10 في ج "رحمه الله".
11 مناقب الشافعي للبيهقي: "1/ 472-473"، وتوالي التأسيس: 67, وتاريخ ابن عساكر: 15/ 10أ, سير أعلام النبلاء: 10/ 34، إعلام الموقعين: 4/ 233.

(1/117)


وهذا وما هو1 في معناه مشهور عنه2، فعمل بذلك كثير من أئمة أصحابنا، وكان من ظفر منهم بمسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عمل بالحديث وأفتى به قائلا: مذهب الشافعي ما وافق الحديث، ولم يتفق ذلك إلا نادرًا.
ومنه ما نقل عن الشافعي رضي الله عنه فيه قول على وفق الحديث وممن حكي عنه منهم أنه أفتى بالحديث في مثل ذلك: أبو يعقوب البويطي3، وأبو القاسم الداركي4، وهو الذي قطع به5 أبو الحسن إلكيا الطبري6 في كتابه: "في أصول الفقه"، وليس هذا بالهين، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي
__________
1 في ف وج: "ما هو".
2 انظر آداب الشافعي ومناقبه: "67-68"، وتوالي التأسيس: 63، وإيقاظ الهمم: 50، والبداية والنهاية: "10/ 253-254"، وإيقاظ الوسنان:25.
3 هو "الإمام أبو يعقوب بن يحيى البويطي المصري، تفقه على الشافعي، واختص بصحبته، قال الحافظ ابن حجر: ثقة، فقيه، من أهل السنة، مات في المحنة ببغداد، توفي سنة إحدى أو اثنين وثلاثين ومائتين"، ترجمته في: تاريخ بغداد: 14/ 299، العبر: 1/ 411، وفيات الأعيان: 7/ 61، طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 162، تهذيب التهذيب: 9/ 427، التقريب: 2/ 383.
4 هو "أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز الداركي. قال الخطيب: كان ثقة، انتفى عليه الدارقطني، توفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة. ودارك: قرية من عمل أصبهان، ترجمته في تاريخ بغداد: 10/ 463، طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 330، وفيات الأعيان: 3/ 188، العبر: 2/ 370، معجم البلدان: 4/ 12.
5 ساقطة من ف وج.
6 هو "الإمام عماد الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي إلكيا الهراسي. قال فيه عبد الغافر: الإمام البالغ في النظر مبلغ الفحول. والهراسي: براء مشددة وسين مهملة، قال ابن العماد: لا تعلم نسبته لأي شيء. وقال ابن خلكان: ولم أعلم لأي معنى قيل له الكيا، وفي اللغة العجمية الكيا هو الكبير القدر المقدم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف. توفي سنة أربع وخمسمائة". ترجمته في وفيات الأعيان: 3/ 286، المنتظم: 9/ 167، تبيين كذب المفتري: 288، العبر: 4/ 8، طبقات الشافعية الكبرى: 7/ 231، شذرات الذهب: 4/ 8، مرآة الزمان: 8/ 37.

(1/118)


عمدًا على علم منه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على غيره، كأبي الوليد1 موسى بن أبي2 الجارود3 ممن صحب الشافعي "رضي الله عنه"4، وروي عنه أنه روى عن الشافعي "رضي الله عنه"5 أنه قال: "إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وقلت قولا، فأنا راجع عن قولي قائل بذلك"6.
قال أبو الوليد: وقد صح حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" 7 فأنا أقول
__________
1 في ف وج "وليد".
2 ساقطعة من ج.
3 هو "أبو الوليد موسى بن أبي الجارود المكي، قال أبو عاصم: يرجع إليه عند اختلاف الرواية. قال ابن الصلاح: توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة" ترجمته في طبقات الشافعية لابن الصلاح، الورقة: 7أ، طبقات الشيرازي: 100، طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 161، تهذيب التهذيب: 10/ 339, التقريب: 2/ 281.
4 من ش.
5 من ف وج.
6 نحوه في طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 161، وتقدم مثل هذا القول عن الشافعي وتخريجه. وللإمام تقي الدين السبكي رسالة سماها: "معنى قول المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي", وقد شرح هذه الكلمة وما يجب أن تحمل عليه وتقيد به. وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية: "3/ 89، 114", ونقل عنها الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس": 63.
7 ورد الحديث من رواية شداد بن أوس. أخرجه أبو داود في الصوم، باب في الصائم يحتجم، حديث رقم: "2368 و2369"، وابن ماجه في الصوم، حديث رقم "1681"، والدرامي: 2/ 14، والشافعي في مسنده: 1/ 255، وعبد الرزاق في المصنف رقم: "7520"، والحاكم في المستدرك: 1/ 428، والبيهقي في السنن: 4/ 265 وابن حبان كما في موارد الظمآن رقم "900" و"901" وأحمد في المسند: "4/ 122، 123، 124، 125"، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 2/ 99، وإسناده صحيح، ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نسخة قال الحافظ في "الفتح": 4/ 155: "صح حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة للصائم وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة، سواء كان حاجمًا أو محجومًا ... "، وانظر نص الراية: "2/ 472، 473"، والفتح: "4/ 153، 156"، وتلخيص الحبير: "2/ 191، 194". وورد حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" من رواية "رافع بن خديج رضي الله عنه"، رواه الترمذي في الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم، =

(1/119)


قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم. فرد على أبي الوليد ذلك من حديث أن الشافعي تركه مع صحته لكونه منسوخًا عنده، وقد دل رضي الله عنه1 على ذلك وبينه2 وروينا عن ابن خزيمة3 الإمام البارع في الحديث والفقه، أنه قيل له: "هل
__________
= وإسناده صحيح، والحاكم في المستدرك: 1/ 428، والبيهقي في السنن: 4/ 265، وعبد الرزاق في المصنف رقم: "7523"، وابن حبان كما في موارد الظمآن رقم: "902". ومن حديث "ثوبان رضي الله عنه"، أخرجه أبو داود في الصوم، باب في الصائم يحتجم حديث رقم: "2367 و2370 و2371"، وابن ماجه في الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، حديث رقم: "1680"، وابن الجارود في المنتقى حديث رقم: "386"، والدارمي: "2/ 14، 15"، والطحاوي في مشكل الآثار: 2/ 98، وابن حبان كما في موارد الظمآن، حديث رقم: "899" وعبد الرزاق في المصنف رقم: "7522" والحاكم في المستدرك:1/ 427. وانظر تعدد الروايات واختلافها في سنن الدارقطني: "2/ 182-183"، وشرح معاني الآثار: "2/ 98-99"، وأحمد في المسند: "5/ 276، 277، 285، 282، 283". وأما الأحاديث التي تبيح الاحتجام للصائم. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، والاحتلام". رواه الترمذي، حديث رقم: "719" في الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء.
وحديث "زيد بن أسلم رضي الله عنه" رواه أبو داود في الصوم، باب في الصائم يحتلم نهارًا في شهر رمضان، حديث رقم: "2376"، وعبد الرزاق في المصنف رقم "7543".
وحديث "ابن عباس رضي الله عنه": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم". رواه البخاري: 4/ 155 في الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، وفي الطب، باب أي ساعة يحتجم، ومسلم في الحج، باب جواز الحجامة للمحرم، حديث رقم: "1202"، وأبو داود في الصوم، باب الرخصة للصائم أن يحتجم، الأحاديث: "2372، 2374"، والترمذي في الصوم، باب ما جاء في الرخصة بالحجامة للصائم، حديث رقم: "775-777"، وانظر سنن الدارقطني: "1/ 182-183"، وشرح معاني الآثار: "2/ 99-102"، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي: "262-270".
1 سقطت من ش.
2 تقدم بيان الأحاديث في هذه المسألة، وانظر الاعتبار في الناسخ والمنسوخ لأبي بكر الحازمي: "262-270".
3 هو "إمام الأئمة شيخ الإسلام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، السلمي، النيسابوري، قال الدارقطني: كان إمامًا ثبتًا معدوم النظير. توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة". ترجمته في: البداية والنهاية: 11/ 149، تذكرة الحفاظ: 2/ 720، طبقات القراء للجزري: 2/ 97، الوافي بالوفيات: 2/ 196.

(1/120)


تعرف سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي في كتبه1؟ قال: لا"2.
وعند هذا أقول: من وجد من الشافعيين حديثًا يخالف مذهبه نظر، فإن كملت آلات الاجتهاد فيه إما مطلقًا، وإما في ذلك الباب؛ أو في تلك المسألة على ما سبق بيانه كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل آلته ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفيه عنه جوابًا شافيًا فلينظر:
هل عمل بذلك3 الحديث إمام مستقل؟ فإن وجده فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث، ويكون ذلك4 عذرًا له5 في ترك6 مذهب إمامه في ذلك7، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
الرابعة عشرة8: هل للمفتي المنتسب إلى مذهب الشافعي مثلا أن يفتي تارة بمذهب آخر9؟
فيه تفصيل: وهو أنه إذا كان ذا اجتهاد "فأداه"10 اجتهاده11 إلى مذهب إمام
__________
1 في ف وج وش "الشافعي كتابه".
2 مناقب الشافعي للبيهقي: 1/ 477، تاريخ دمشق لابن عساكر: 14/ 407، سير أعلام النبلاء: 10/ 54.
3 في ش: "هذا".
4 و5 سقطت من ف وج.
6 في ف: "تركه".
7 صفة الفتوى: "37-38" حيث اقتبس كلام ابن الصلاح كله.
8 في ج "عشر".
9 انظر إعلام الموقعين: "4/ 236-327".
10 كذا في ج وش. وفي الأصل: "فأدى".
11 في ف وج "اجتهاد".

(1/121)


آخر اتبع1 اجتهاده، وإن كان اجتهاده مقيدًا مشوبًا بشيء من التقليد نقل ذلك الشوب من التقليد إلى ذلك الإمام الذي أداه اجتهاده إلى مذهبه، ثم إذا أفتى بين ذلك في فتياه.
وكان2 الإمام أبو بكر القفال المروزي؛ يقول: لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، فأقول: مذهب الشافعي كذا وكذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة، لأنه جاء ليستفتي على مذهب الشافعي، فلا بد من أن أعرفه بأني أفتي بغيره. وحدثني أحد المفتين بخراسان أيام مقامي بها عن بعض مشايخه: أن الإمام أحمد الخوافي3، قال للغزالي في مسألة أفتى فيها4: أخطأت في الفتوى. فقال له الغزالي: من أين والمسألة ليست مسطورة؟
فقال له5: بلى في "المذهب الكبير". فقال له الغزالي: ليست فيه، ولم تكن في الموضع الذي يليق بها. فأخرجها له الخوافي من موضع قد أجراها فيه المصنف استشهادًا.
فقال له الغزالي عند ذلك: لا أقبل هذا واجتهادي ما قلت.
فقال له الخوافي: هذا شيء آخر, أنت إنما تسأل عن مذهب الشافعي، لا عن6 اجتهادك، فلا يجوز أن تفتي على اجتهادك، أو كما قال. و"المذهب الكبير"
__________
1 في ف وج "فاتبع".
2 في ش "كان".
3 هو "الإمام أبو المظفر أحمد بن محمد بن المظفر الخوافي، وخواف بفتح الخاء المعجمة وآخرها فاء بعد الواو والألف، قرية من أعمال نيسابور. قال السبكي: كان في المناظرة أسدًا لا يصطلى له بنار، قادرًا على قهر الخصوم، وإرهاقهم إلى الانقطاع. توفي بطوس، سنة خمسمائة"، ترجمته في الأنساب: 5/ 199، تبيين كذب المفتري: 288، البداية والنهاية: 2/ 168، طبقات الشافعية الكبرى: 6/ 63.
4 سقطت من ج.
5 سقطت من ش.
6 في ف: "أن اجتهادك".

(1/122)


هو "نهاية المطلب"1 تأليف الشيخ أبي المعالي ابن الجويني، وكان الخوافي مع الغزالي من أكابر أصحابه.
وأما إذا لم يكن ذلك بناء على اجتهاد، فإن ترك مذهبه إلى مذهب هو أسهل عليه وأوسع. فالصحيح امتناعه، وإن تركه لكون الآخر أحوط المذهبين، فالظاهر جوازه، ثم عليه بيان ذلك في فتواه على ما تقدم2، والله أعلم.
الخامسة عشرة3: ليس للمنتسب إلى مذهب الشافعي في المسألة ذات القولين أو الوجهين أن يتخير، فيعمل أو يفتي بأيهما شاء4. بل عليه في القولين إن علم المتأخر منهما كما في الجديد مع القديم، أن يتبع المتأخر، فإنه ناسخ للمتقدم. وإن ذكرهما الشافعي جميعًا ولم يتقدم5 أحدهما لكن رجح أحدهما كان الاعتماد على الذي رجحه، وإن جمع بينهما في حالة واحدة من غير ترجيح منه لأحدهما، وقد قيل: إنه لم يوجد منه ذلك إلا في ستة عشر، أو سبعة عشر موضعًا، أو نقل عنه قولان ولم يعلم حالهما فيما ذكرناه، فعليه البحث عن الأرجح الأصح منهما متعرفًا ذلك من أصول مذهبه غير متجاوز في الترجيح قواعد مذهبه إلى غيرها، هذا "إن"6 كان ذا اجتهاد في مذهبه أهلا للتخريج عليه، فإن لم يكن أهلا لذلك فلينقله عن بعض أهل التخريج من أئمة المذهب، وإن لم يجد شيئًا من ذلك
__________
1 اسمه الكامل "نهاية المطلب في دراية المذهب" جمعه بمكة وأتمه بنيسابور. قال ابن خلكان: "ما صنف في الإسلام مثله" وفيات الأعيان: 2/ 168، كشف الظنون: 2/ 1990.
2 صفة الفتوى: 39.
3 في ج "عشر".
4 انظر: اللمع: "131-131"، الإحكام للآمدي: "4/ 269-273"، شرح رسوم المفتي: 21، التحرير لابن الهمام. 4/ 232، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 187 روضة الناظر وجنة المناظر: 337, ومسلم الثبوت: 2/ 395، ومختصر ابن الحاجب وشرحه للعضد: 2/ 300. إعلام الموقعين: 4/ 239.
5 في ش: "تتقدم".
6 كذا في النسخ وفي الأصل: "إذا".

(1/123)


فليتوقف. قال القاضي الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله في: مسألة فعل المحلوف عليه على نسيان "ذات"1 القولين. قال "لي"2 شيخنا أبو القاسم الصيمري: ما أفتيت في يمين الناسي بشيء قط.
وحكى3 عن شيخه أبي الفياض4: أنه لم يفت فيها بشيء قط. وحكى أبو الفياض عن شيخه أبي حامد المروروذي: أنه لم يفت فيها بشيء قط.
وقال5 "المروروذي"6: فاقتديت بهذا السلف، ولم أفت فيها بشيء، لأن استعمال التوقي أحوط من فرطات الإقدام. وأما الوجهان، فلا بد من ترجيح أحدهما، وتعرف الصحيح منهما عند العمل والفتوى، بمثل الطريق المذكور، ولا عبرة7 فيهما8 بالتقدم والتأخر، سواء وقعا معًا في حالة واحدة من إمام من أئمة المذهب، أو من إمامين واحد بعد واحد، لأنهما انتسبا إلى المذهب انتسابًا واحدا وتقدم أحدهما لا يجعله بمنزلة تقدم أحد القولين من صاحب المذهب، "وليس ذلك أيضًا من قبيل اختلاف المفتيين على المستفتي، بل كل ذلك اختلاف راجع إلى
__________
1 من ف وج وش وفي الأصل: "كان".
2 من ش.
3 في ش: "وحكاه".
4 هو "أبو الفياض محمد بن الحسن بن المنتظر البصري، من أعيان تلامذة القاضي أبو حامد المروروذي أحمد بن عامر بن بشر العامري، وتفقه عليه صاحبه عبد الواحد بن الحسين بن محمد القاضي أبو القاسم الصيمري". انظر طبقات ابن الصلاح: 18ب، طبقات الشافعية الكبرى: "3/ 12، 339". طبقات الشيرازي: 125.
5 في ف وج "قال".
6 من ف وج وش وفي الأصل: "المرورذي" وهو "القاضي أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر العامري، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: ابن عامر ابن بشر، قال أبو حيان التوحيدي: كان أبو حامد كثير العلم، غزير الحفظ، توفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة" ترجمته في: البصائر والذخائر لأبي حيان: "1/ 60، 61"، العبر: 2/ 326، وفيات الأعيان: 1/ 69, طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 12، طبقات الفقهاء للشيرازي: 114.
7 في ف: "غيره".
8 في ف وج: "فيها".

(1/124)


شخص واحد، وهو صاحب المذهب"1 فيلتحق باختلاف الروايتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه يتعين العمل بأصحهما عنه، وإذا كان أحد الرأيين منصوصًا "عنه"2، والآخر مخرجًا، فالظاهر أن3 الذي نص عليه منهما يقدم كما يقدم ما رجحه من القولين المنصوصين على الآخر لأنه أقوى نسبة إليه منه، إلا إذا كان القول المخرج مخرجًا من نص آخر لتعذر الفارق، فاعلم ذلك.
واعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافقًا لقول أو وجه في المسألة، ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا تقيد به فقد جهل وخرق الإجماع، وسبيله سبيل الذي حكى عنه أبو الوليد الباجي المالكي4 من فقهاء أصحابه، أنه كان يقول: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة5 أن أفتيه بالرواية التي توافقه. وحكى عن من يثق به: أنه وقعت له واقعة وأفتى فيها وهو غائب جماعة من فقهائهم من أهل الصلاح بما يضره، فلما عاد سألهم فقالوا: ما علمنا أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه6. قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز.
قلت: وقد قال إمامهم مالك رضي الله عنه في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله7 عنهم8: "مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد"9. وقال:
__________
1 من ف وج وش.
2 كذا في ف وج وش وفي الأصل: "عليه".
3 سقطت من ف وج.
4 هو "القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي. قال القاضي عياض: وحاز الرئاسة بالأندلس، فسمع منه خلق كثير، وتفقه عليه خلق. توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة"، ترجمته في الصلة: 1/ 197، المدارك: 4/ 802، بغية الملتمس: 289، الديباج المذهب: 1/ 377، وفيات الأعيان: 2/ 408.
5 في أعلام الموقعين: 4/ 211 "أو فتيا أن ... ".
6 صفة الفتوى: "40-41".
7 سقطت من ج.
8 من ش.
9 انظر ترتيب المدارك: "1/ 192-193"، إعلام الموقعين: 4/ 211، صفة الفتوى: 41.

(1/125)


ليس كما قال ناس: فيه توسعة. قلت: لا توسعة فيه بمعنى "أنه يتخير بين أقوالهم من غير توقف على ظهور الراجح، وفيه توسعة"1 بمعنى أن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد مجالا فيما بين أقوالهم، وأن ذلك ليس مما يقطع فيه بقول واحد متعين لا مجال للاجتهاد في خلافه2، والله أعلم.
فرعان، أحدهما: إذا وجد من ليس أهلا للترجيح والتخريج2 بالدليل اختلافًا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين فينبغي أن يفزع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم، فيعمل بقول الأكثر والأعلم والأورع، وإذا اختص واحد منهم بصفة منها، والآخر بصفة أخرى، قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة. فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم، واعتبرنا ذلك إذا وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد من أئمته بيان للأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما وقائليهما، فما رواه المزني، أو الربع المرادي4، مقدم عند أصحابنا على ما حكاه الإمام أبو سليمان الخطابي5، عنهم على ما رواه حرملة6، أو الربيع
__________
1 سقطت من ف.
2 اقتبس ابن حمدان في صفة الفتوى معظم هذه الفقرة عن ابن الصلاح: "39-41".
3 في ف وج "وللترجيح".
4 هو "الشيخ أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي، مولاهم المؤذن، صاحب الشافعي، وراوية كتبه، قال الحافظ ابن حجر: ثقة. توفي سنة سبعين ومائتين"، ترجمته في: وفيات الأعيان: 2/ 291، طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 132، تذكرة الحفاظ: 2/ 148، العبر: 2/ 45 تهذيب التهذيب: 3/ 245، التقريب: 1/ 245.
5 هو "الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي، قال السمعاني: إمام فاضل، كبير الشأن، جليل القدر، توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. أو سنة ست وثمانين وثلاثمائة". ترجمته في يتيمة الدهر للثعالبي: 4/ 334، المنتظم: 6/ 397، الأنساب للسمعاني: 5/ 158، معجم الأدباء لياقوت: 10/ 268، طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 282.
6 هو "أبو حفص حرملة بن يحيى بن حرملة بن عمران التجيبي المصري صاحب الشافعي. قال ابن حجر: صدوق. توفي سنة ثلاث، أو أربع، وأربعين ومائتين". ترجمته في وفيات الأعيان: 2/ 64، طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 127، تذكرة الحفاظ: 2/ 63، تهذيب التهذيب: 2/ 229، التقريب: 1/ 158.

(1/126)


الجيزي1، وأشباههما ممن لم يكن قوي الأخذ عن الشافعي "رضي الله عنه"2.
ويرجح ما وافق منهما أكثر أئمة المذاهب المتبوعة، أو أكثر العلماء، وفيما استفدته3 من الغرائب بخراسان عن الشيخ حسين بن مسعود4، صاحب "التهذيب" عن شيخه القاضي حسين بن محمد، قال: إذا اختلف قول الشافعي في مسألة وأخذ القولين يوافق مذهب أبي حنيفة فأيهما أولى بالفتوى؟
قال الشيخ أبو حامد: ما يخالف قول أبي حنيفة أولى لأنه لولا أن الشافعي عرف فيه معنى خفيًّا لكان لا يخالف أبا حنيفة.
وقال الشيخ القفال: ما يوافق قول أبي حنيفة أولى.
قال: وكان القاضي يذهب إلى الترجيح بالمعنى، ويقول: كل قول كان معناه أرجح فذلك أولى وأفتى به.
قلت5: وقول القفال6 المروزي المذكور أظهر من قول أبي حامد الإسفراييني،
__________
1 هو "أبو محمد الربيع بن سليمان بن داود الجيزي الأزدي مولاهم. قال السبكي: كان رجلًا فقيهًا صالحا. توفي سنة ست وخمسين ومائتين، وقيل: سنة سبع وخمسين"، ترجمته في المؤلف للدارقطني954، وفيات الأعيان: 2/ 292، طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 132، تهذيب التهذيب 3/ 245.
2 من ج.
3 في ف: "مما استقل".
4 هو "الشيخ أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، صاحب "التهذيب" و"شرح السنة" وله "فتاوى" مشهورة، غير "فتاوى القاضي الحسين" التي علقها هو عنه، وغير ذلك، قال السبكي: كان إمامًا جليلًا ورعًا زاهدًا، محققًا مفسرًا، توفي سنة ست عشرة وخمسمائة"، ترجمته في: وفيات الأعيان: 2/ 134، البداية والنهاية: 12/ 193، تذكرة الحفاظ: 4/ 1257، العبر: 4/ 37 طبقات الشافعية الكبرى: 7/ 75.
5 في ش: "قال المصنف رضي الله عنه".
6 في ف "القاضي".

(1/127)


وكلامهما محمول على ما إذا لم يعارض ذلك من جهة القول الآخر ترجيح آخر مثله أو أقوى منه.
وهذه الأنواع من الترجيح معتبرة أيضًا بالنسبة إلى أئمة المذهب غير أن ما يرجحه الدليل عندهم مقدم على ذلك1، والله أعلم.
الثاني: كل مسألة فيها قولان، قديم وجديد، فالجديد أصح وعليه الفتوى إلا في نحو عشرين مسألة أو أكثر يفتي فيها على2 القديم على خلاف في ذلك بين3 أئمة الأصحاب في أكثرها، وذلك مفرق في مصنفاتهم.
وقد قال الإمام أبو المعالي ابن الجويني في "نهايته": قال الأئمة: كل قولين أحدهما جديد فهو أصح من القديم إلا في ثلاث مسائل، وذكر منها: مسألة التثويب في آذان الصبح4.
__________
1 اقتبس ابن حمدان في "صفة الفتوى": "42-43" وهذه الفقرة عن ابن الصلاح رحمه الله تعالى، وانظر إعلام الموقعين: "4/ 237-238".
2 في ف وج: "بالقديم".
3 في ف وج: "من".
4 "التثويب: الأصل في التثويب: أن يجيء الرجل مستصرخًا فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمي الدعاء تثويبًا لذلك. وقيل: إنما سمي تثويبًا من ثاب يثوب إذا رجع، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة ... ومنه حديث بلال قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر"، وهو قوله: الصلاة خير من النوم مرتين"، الناهية: "1/ 226-227"، وانظر تاج العروس مادة "ثوب". قلت حديث بلال المذكور أخرجه الترمذي في الصلاة، باب التثويب في الفجر، حديث رقم: "198". وهو ضعيف. غير أن معناه صحيح. فقد ورد حديث التثويب في أذان الصبح رواه "أبو محذورة رضي الله عنه". " ... فإن كان صلاة الصبح قلت: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم ... الحديث"، رواه مسلم في الصلاة، باب صفة الأذان، حديث رقم "1379", وأبو داود في الصلاة، باب كيف الأذان، حديث رقم: "500-505" والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان، حديث رقم: "191"، والنسائي: 2/ 4 في الأذان، باب خفض الصوت في الترجيع في الأذان، وباب كم الأذان من كلمة، وباب كيف الأذان، وباب الأذان في السفر. وانظر سنن ابن ماجه: 1/ 237، والدارمي: 1/ 215، وتلخيص الحبير: "1/ 201-202"، وانظر مسألة "التثويب" في المجموع: 3/ 91".

(1/128)


ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير1.
ولم ينص على الثالثة، غير أنه لما ذكر القول بعدم2 استحباب قراءة السورة بعد الركعتين الأوليين3، وهو القول القديم ذكر: أن عليه العمل. وفي هذا4 إشعار بأن عليه الفتوى، فصاروا إلى ذلك في ذلك مع أن القديم لم يبق قولا للشافعي لرجوعه عنه، فيكون5 اختيارهم إذن للقديم6 فيها من قبل ما ذكرناه من اختيار7 أحدهم مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه كما سبق، وبل أولى لكون القديم قد
__________
1 وجوب البعد عن النجاسة بقدر القلتين هو الجديد في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، والقديم لا يوجبه. "فمثلا: إذا وقعت نجاسة جامدة في ماء كثير راكد، وأراد واحد أن يغترف منه أو يغتسل فيه، فعلى الجديد لا يجوز الاغتراف منه إلا إذا كان يغترف من موضع يبعد عن النجاسة قدر قلتين، فعلى هذا إذا كان الماء قلتين فقط يجوز الاغتراف منه. وأما القديم فلم يشترط التباعد منها مطلقًا. وهذه من المسألة من المواضع التي رجح فيها القديم على الجديد. قال إمام الحرمين في "النهاية": القديم هنا أصح. وقال الرافعي: القديم هنا ظاهر المذهب. وقد استدل لرجحان القديم بعدة وجوه:
1- عموم حديث القلتين.
2- ولأن مجموع الماء الراكد ماء واحد لا يمكن أن يوصف بعضه بالنجاسة، وبعضه بالطهارة.
3- ولأنه لو قلنا بنجاسة ما حول النجاسة لأثر فيما حوله، وما حوله فيما حوله فيتسلسل، وهو باطل، فينبغي القول بالقديم". الغاية القصوى في دراية الفتوى، مع تعليق الأستاذ علي القره داغي محقق الكتاب. وانظر المجموع: "1/ 160-166"، روضة الطالبين: 1/ 23، وفتح العزيز: 1/ 961.
2 في ف وج "بعد".
3 قال النووي رحمه الله تعالى: "هل يسن قراءة السورة في الركعة الثالثة والرابعة؟ فيه قولان مشهوران "أحدهما": وهو في القديم لا يستحب. قال القاضي أبو الطيب، ونقله البويطي والمزني عن الشافعي. "والثاني": يستحب وهو نصه في الأم ونقله الشيخ أبو حامد، وصاحب الحاوي عن الإملاء أيضًا، واختلف الأصحاب في الأصح منهما، فقال أكثر العراقيين: الأصح الاستحباب، ممن صححه الشيخ أبو حامد والمحاملي، وصاحب العدة، والشيخ نصر المقدسي والشاشي. وصححت طائفة عدم الاستحباب وهو الأصح، وبه أفتى الأكثرون، وجعلوا المسألة من المسائل التي يفتي فيها على القديم ... ", المجموع: "3/ 321"، وانظر إعلام الموقعين: 4/ 239".
4 في ف وج: "وفي هذه المسألة إشعار".
5 في ف وج: "ويكون".
6 في ف: "القديم".
7 في ف وش: "اختيارهم".

(1/129)


"كان"1 قولا له منصوصًا، ويلتحق بذلك ما اختار أحدهم القول المخرج على القول المنصوص، أو اختار من القولين اللذين رجح الشافعي أحدهما غير ما رجحه، وبل أولى من القول القديم، ثم حكم من لم يكن أهلا للتخريج2 من المتبعين لمذهب الشافعي رضي الله عنه: أن لا يتبعوا شيئًا من اختياراتهم هذه المذكورة، لأنهم مقلدون للشافعي دون من خالفه3، والله أعلم.
المسألة السادسة عشرة4: إذا اقتصر في جوابه على حكاية الخلاف بأن قال: فيها قولان أو وجهان، أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح، فحاصل أمره أنه لم يفت بشيء5.
وأذكر أني حضرت بالموصل الشيخ الصدر المصنف أبا السعادات ابن الأثير الجزري6 رحمه الله، فذكر بعض الحاضرين عنده، عن بعض المدرسين: أنه أفتى في مسألة، فقال: فيها قولان، وأخذ يزري عليه.
فقال الشيخ ابن الأثير: كان الشيخ أبو القاسم بن البزري7، وهو علامة زمانه في المذهب إذا كان في المسألة خلاف واستفتى عنها بذكر الخلاف في الفتيا، ويقال
__________
1 من ف وج وش. وكتبت في الأصل غير أنه ضرب عليها.
2 في ف وج: "الترجيح".
3 صفة الفتوى: "43-44"، حيث اقتبس هذه الفقرة من ابن الصلاح رحمه الله تعالى.
4 في ج "عشر".
5 صفة الفتوى: 44، إعلام الموقعين: "4/ 177-179".
6 هو "العلامة مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، المعروف بابن الأثير، صاحب "جامع الأصول" و"النهاية في غريب الحديث والأثر" و"شرح مسند الشافعي"، وغير ذلك. توفي سنة ست وستمائة"، ترجمته في البداية والنهاية: 13/ 114، العبر: 5/ 97، طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 366.
7 هو "الشيخ أبو القاسم عمر بن محمد بن عكرمة الجزري، البزري، والبزر المنسوب إليه: بفتح الباء الموحدة، وسكون الزاي المنقوطة، ثم راء مهملة: اسم للدهن المستخرج من بزر الكتان به يستصبح أهل تلك البلاد. إمام جزيرة ابن عمر ومفتيها ومدرسها، توفي سنة ستين وخمسمائة"، ترجمته في: طبقات الشافعية لابن الصلاح: 126أ، طبقات الشافعية الكبرى: 7/ 251، العبر: 4/ 171، معجم البلدان: 2/ 79، شذرات الذهب: 4/ 189.

(1/130)


له في ذلك، فيقول: لا أتقلد العهدة مختارًا لأحد الرأيين مقتصرًا عليه، وهذا حيد عن غرض الفتوى، وإذا لم يذكر شيئًا أصلًا فلم يتقلد العهدة أيضًا، ولكنه لم يأت بالمطلوب حيث لم يخلص السائل من عمايته1. وهذا في ذلك كذلك، ولا اقتداء بأبي بكر محمد بن داود الأصبهاني الظاهري في فتياه التي أخبرني بها أبو أحمد الوهاب بن علي2 شيخ الشيوخ ببغداد، قال: أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز3، قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، قال: حدثني القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، حدثني أبو العباس الخضري4. ح5 وأخبرني
__________
1 نقل ابن القيم، هذه الحكاية عن ابن الصلاح في إعلام الموقعين: 4/ 178 وقال: "قلت: وهذا فيه تفصيل، فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم، وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل، وكثيرًا ما يسأل الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول: فيها قولان، أو قد اختلفوا فيها، وهذا كثير في أجوبة الإمام أحمد لسعة علمه وورعه، وهو كثير في كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، يذكر المسألة ثم يقول: فيها قولان ... ".
2 هو "مسند العراق ومحدثه ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي بن عبيد الله الصوفي الفقيه، قال ابن النجار: شيخ وقته في علو الإسناد، والمعرفة، والإنفاق، والزهد، والعبادة، توفي سنة سبع وستمائة"، ترجمته في ذيل تاريخ بغداد لابن النجار: 1/ 354، ذيل الروضتين: 70، طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 324، العبر: 5/ 23.
3 هو "أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد الشيباني، القزاز البغدادي، يعرف بابن زريق، كان صالحًا كثير الرواية، توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة"، ترجمته في: تذكرة الحفاظ: 4/ 1281، المشتبه: 1/ 315، التوضيح: 2/ 56، شذرات الذهب: 4/ 106.
4 "بخاء معجمة مضمومة، وضاد معجمة مفتوحة ... وأبو العباس: الخضري، قال: حضرت مجلس أبي بكر بن أبي داود، سمع منه القاضي أبو الطيب، لا أعرف اسمه"، الإكمال: "3/ 255، 256"، وتعقبه ابن ناصر الدين في التوضيح: "1/ 411" فقال: "وفي قوله: أبي بكر بن أبي داود نظر، وكذا وقفت عليه في نسختين بالإكمال، وقاله ابن الجوزي في المحتسب: روى عن أبي بكر بن أبي داود انتهى. وهذا غلط من قائله، إنما هو أبو بكر بن داود بن علي الظاهري، فقال الخطيب أبو بكر في تاريخه: حدثني القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري ... " ونقل نص الرواية التي ذكرها ابن الصلاح رحمه الله تعالى. قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 5/ 257 "قال لي القاضي أبو الطيب: كان الخضري شافعي المذهب، إلا أنه كان يعجب بابن داود يقرظه ويصف فضله"، والخضري: "نسبة إلى بيع البقل"، المشتبه: 1/ 238.
5 ساقطة من ف وج.

(1/131)


أيضًا الشيخ أبو العباس أحمد بن الحسين1 المقرئ2 ببغداد، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام3، قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزَأبادي، قال: "سمعت شيخنا القاضي أبا الطيب الطبري، قال: سمعت أبا العباس الخضري، قال: كنت جالسًا عند أبي بكر بن داود4، فجاءته امرأة فقالت له: ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها، ولا هو مطلقها؟
فقال أبو بكر: اختلف في ذلك أهل العلم. فقال قائلون: تؤمر بالصبر والاحتساب، ويبعث على التطلب5 والاكتساب. وقال قائلون6: يؤمر بالإنفاق وإلا يحمل على الطلاق. فلم تفهم المرأة قوله، فأعادت وقالت: رجل له زوجة لا هو ممسكها، ولا هو مطلقها؟
فقال لها: يا هذه قد أجبتك عن مسألتك وأرشدتك إلى طلبتك، ولست
__________
1 في الأصل: "الحسن".
2 هو "أبو العباس أحمد بن الحسين بن محمد بن أحمد البغدادي المقرئ المعروف بالعراقي، نزيل دمشق. قال الشيخ موفق الدين: كان إمامًا في السنة داعيًا إليها إمامًا في القراءة. توفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة". ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 376، التكملة لوفيات النقلة: 1/ 180، غاية النهاية: 1/ 50، الوافي بالوفيات: 5/ 352، شذرات الذهب: 4/ 292.
3 هو "أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام، الكاتب البغدادي، سمع الكثير بنفسه، وكتب وجمع وحدث عن الصريفيني، وابن النفور، توفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة"، ترجمته في شذرات الذهب: 4/ 122.
4 هو "أبو بكر محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني المعروف بالظاهري قال الخطيب: كان عالمًا أديبًا شاعرًا ظريفًا. توفي سنة سبع وتسعين ومائتين"، ترجمته مطولة في تاريخ بغداد: "5/ 256-263"، وفيات الأعيان: 4/ 259، العبر: 2/ 108، فوات الوفيات: 3/ 58، شذارت الذهب: 2/ 226.
5 في ف وج: "الطلب". وما جاء في الأصل هو الموافق للرواية في تاريخ بغداد.
6 سقطت من ف وج.

(1/132)


بسلطان فأمضي، ولا قاض فأقضي، ولا زوج فأرضي، انصرفي1، قال: فانصرفت المرأة ولم تفهم جوابه2. قلت: التصحيف شين، فاعلم أن أبا العباس الخضري، هذا هو بخاء معجمة مضمومة، وبضاد معجمة مفتوحة3.
وقوله: تؤمر بالصبر "والاحتساب"4: في أوله التاء التي للمؤنث.
وقوله: يبعث على التطلب5: في أوله الياء6 التي هي للمذكر.
وقولها: لا هو7 ممسكها: أي ليس ينفق عليها.
ولقد وقع ابن داود بعيدًا عن مناهج المفتين في تعقيده "هذا"] 8 وتسجيعه وتحبيره من استرشده وتضييعه، وهكذا إذا قال المفتي في موضع الخلاف: يرجع إلى رأي الحاكم. فقد عدل عن نهج الفتوى، ولم يفت أيضًا بشيء، وهو كما إذا استفتي فلم يجب، وقال: استفتوا غيري. وحضرت بالموصل شيخها9 المفتي أبا حامد محمد بن يونس10، وقد استفتي في مسألة فكتب في جوابها: إن فيها خلافًا. فقال بعض من حضر: كيف يعمل المستفتي؟
فقال: يختار له القاضي أحد المذهبين، ثم قال: هذا يبنى على أن العامل إذا
__________
1 في تاريخ بغداد: 5/ 257، "انصرفي رحمك الله".
2 تاريخ بغداد: "5/ 256-257"، التوضيح: 1/ 411, إعلام الموقعين: 4/ 179.
3 الإكمال: 3/ 256، المشتبه: 1/ 238، التوضيح: 1/ 411.
4 من ش.
5 في ف وج: "الطلب".
6 و7 ناقصة من ف وج.
8 من ف وج وش.
9 في ف: "شيخنا".
10 هو "الشيخ عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الإربلي، أحد الأئمة من علماء الموصل. قال ابن خلكان: كان إمام وقته في المذهب والأصول والخلاف. توفي سنة ثمان وستمائة". ترجمته في تاريخ إربل: "1/ 117، 119"، وفيات الأعيان: 4/ 353، العبر: 5/ 28، طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 109، شذرات الذهب: 5/ 34.

(1/133)


اختلف عليه اجتهاد اثنين فبماذا يعمل1؟ وفيه خلاف مشهور، وهذا غير مستقيم.
أما قوله أولا: يختار له الحاكم. فهو فاسد لما ذكرناه، ولأن الحاكم إذا لم يكن أهلا للفتوى، وذلك هو الغالب في زمان من ذكرنا عنه ما ذكرناه، فقد رده إلى رأي من لا رأيَ له، وأحاله على عاجز حاجته في ذلك إلى فتياه كحاجة من استفتاه.
وأما قوله ثانيًا: يبنى ذلك على الخلاف فيما إذا اختلف عليه اجتهاد مفتيين في2 فتواهما فهل يتخير بين فتويهما3، أو يأخذ بالأخف، وبالأغلظ؟
فهذا فيه إحواج للمستفتي إلى أن يستفتي مرة أخرى ويسأل عن هذا أيضًا لأنه لا يدري أن حكمه التخيير، أو الأخذ بالأخف أو الأغلظ؟
فلم يأت إذن بما يكشف عن عمايته، بل زاده عماية وحيرة، على أن الصحيح في ذلك على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى: إنه يجب عليه الأخذ بقول الأوثق منهما، وإذا قال: فيه خلاف، ولم يعين القائلين لم يتهيأ له فيه، وهذه حالته4 البحث عن الأوثق من القائلين. والله أعلم.
__________
1 سيأتي تفصيل ذلك في "القول في صفة المستفتي وأحكامه": "158-160".
2 من الأصل فقط. وفي ش: "وفتواهما".
3 في ف وج: "فتواهما".
4 في ج: "خاليته".

(1/134)