إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد منع الِاجْتِهَاد كفران لنعمة الله عز وَجل
على الْعباد
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ مَعَ المانعين لذَلِك إِلَّا مُجَرّد
الاستبعاد واستعظام من وارته اللحود من الْعلمَاء الأمجاد
وَأَنه لَا يكون إِلَّا لَهُم الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ للمتأخرين
إِلَّا جعل أَقْوَال القدماء لأذهانهم كالأصفاد لَا يخرجُون
عَنْهَا وَإِن ناطحت علومهم الأفلاك وجاوزت معارفهم أهل
الْكَمَال والإدراك وَمَا أرى هَذَا وَالله إِلَّا من كفران
النِّعْمَة وجحود الْمِنَّة فَإِن الله سُبْحَانَهُ
(1/158)
كمل عقول الْعباد ورزقهم فهم كَلَامه وَمَا
أَرَادَ وَفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحفظ
تَعَالَى كِتَابه وَسنة رَسُوله إِلَى يَوْم التناد بِأَن
كثيرا من الْآيَات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة لَا
يحْتَاج فِي مَعْنَاهَا إِلَى علم النَّحْو وَإِلَى علم
الْأُصُول بل فِي الأفهام والطباع والعقول مَا سارع بِهِ إِلَى
معرفَة المُرَاد مِنْهَا عِنْد قرعها الأسماع من دون نظر إِلَى
شَيْء من تِلْكَ الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة وَالْأُصُول
النحوية فَإِن من قرع سَمعه قَوْله تَعَالَى {وَمَا تقدمُوا
لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله} الْبَقَرَة 110 يفهم
مَعْنَاهُ من دون أَن يعرف أَن مَا كلمة شَرط وتقدموا مجزوم
بهَا لِأَنَّهُ شَرطهَا وتجدوه مجزوم بهَا لِأَنَّهُ جَزَاؤُهُ
وَمثلهَا {يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا وَمَا
عملت من سوء تود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا} آل
عمرَان 30 وَمثلهَا {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء
وَالْمُنكر وَالْبَغي} النَّحْل 90 يفهم من الْكل مَا أُرِيد
مِنْهَا من غير أَن يعرف أسرار الْعُلُوم الْعَرَبيَّة ودقائق
الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة وَلذَا ترى الْعَامَّة يستفتون
الْعَالم ويفهمون كَلَامه وَجَوَابه وَهُوَ كَلَام غير مُعرب
فِي الْأَغْلَب بل تراهم يسمعُونَ الْقُرْآن فيفهمون مَعْنَاهُ
ويبكون لقوارعه وَمَا حواه وَلَا يعْرفُونَ إعرابا وَلَا غَيره
مِمَّا سقناه بل رُبمَا كَانَ موقع مَا يسمعُونَ فِي قُلُوبهم
أعظم من موقعه فِي قُلُوب من حقق قَوَاعِد الِاجْتِهَاد وَبلغ
غَايَة الذكاء والانتقاد وَهَؤُلَاء الْعَامَّة يحْضرُون
الْخطب فِي الْجمع والأعياد ويذوقون الْوَعْظ ويفهمونه ويفتت
مِنْهُ الأكباد وتدمع مِنْهُ الْعُيُون ويدركون من ذَلِك مَا
لَا يُدْرِكهُ الْعلمَاء الْمُحَقِّقُونَ ويسمعون أَحَادِيث
التَّرْغِيب والترهيب فيكثر مِنْهُم الْبكاء والنحيب
(1/159)
وَأَنت تراهم يقرؤون كتبا مؤلفة من
الْفُرُوع الفهية كالأزهار للهادوية والمنهاج للشَّافِعِيَّة
وَالْكَبِير للحنفية ومختصر خَلِيل للمالكية ويفهمون مَا
فِيهَا ويعرفون مَعَانِيهَا ويعتمدون عَلَيْهَا ويرجعون فِي
الْفَتْوَى والخصومات إِلَيْهَا فليت شعري مَا الَّذِي خص
الْكتاب وَالسّنة بِالْمَنْعِ عَن معرفَة مَعَانِيهَا وَفهم
تراكيبها ومبانيها والإعراض عَن اسْتِخْرَاج مَا فِيهَا حَتَّى
جعلت مَعَانِيهَا كالمقصورات فِي الْخيام قد ضربت دونهَا
السجوف وَلم يبْق لنا إِلَيْهَا إِلَّا ترديد ألفاظها والحروف
وَإِن استنباط معانهيا قد صَار حجرا مَحْجُورا وحرما محرما
محصورا
حَدِيث اجْتِهَاد الْحَاكِم وَبَيَان أَن كَلَام الله وَكَلَام
رَسُوله أقرب إِلَى الأفهام
وَقَالَ بعض الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين فِي شرح بُلُوغ المرام
فِي شرح حَدِيث إِن الْحَاكِم إِذا اجْتهد فَأصَاب فَلهُ
أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر مَا لَفظه
إِنَّه اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ على اشْتِرَاط أَن يكون
الْحَاكِم مُجْتَهدا قَالَ وَهُوَ المتمكن من أَخذ الاحكام من
الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة قَالَ وَلكنه يعز وجوده بل كَاد
يعْدم بِالْكُلِّيَّةِ
(1/160)
وَمَعَ تعذره فَمن شَرطه أَي الْحَاكِم أَن
يكون مُقَلدًا مُجْتَهدا فِي مَذْهَب إِمَامه وَمن شَرطه أَن
يُحَقّق أصُول إِمَامه وأدلته وَينزل أَحْكَامه عَلَيْهَا
فِيمَا لَا يجده مَنْصُوصا فِي مَذْهَب إِمَامه اه وَقد
نَقَلْنَاهُ فِي شرحنا سبل السَّلَام وتعقباه بقولنَا قلت
وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الْكَلَام من الْبطلَان وَإِن تتَابع
عَلَيْهِ الْأَعْيَان وَمَا أرى هَذِه الدَّعْوَى الَّتِي
تطابق عَلَيْهَا الأنظار إِلَّا من كفران نعْمَة الله
عَلَيْهِم فَإِنَّهُم أَعنِي المدعين لهَذِهِ الدَّعْوَى
والمقررين لَهَا وَهِي دَعْوَى عزة وجود الْمُجْتَهدين فِي
الاحكام بِالْكُلِّيَّةِ أَو كيدودة عَدمه مجتهدون يعرف أحدهم
من الْقَوَاعِد الَّتِي يُمكنهُ بهَا الاستنباط واستخراج
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْأَدِلَّة النَّبَوِيَّة مَا
لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قَاضِي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على مَكَّة وَلَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
قَاضِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْيمن وَلَا
معَاذ بن جبل قاضيه فِيهَا وعامله عَلَيْهَا وَلَا شُرَيْح
قَاضِي عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُم فِي الْكُوفَة من هَذِه
الشَّرَائِط الَّتِي أفادها قَول ذَلِك الشَّارِح رَحمَه الله
إِن من شَرط الْحَاكِم أَن يكون مُجْتَهدا فِي مَذْهَب إِمَامه
وَأَن يُحَقّق أُصُوله وأدلته إِلَى آخِره هِيَ شَرَائِط
الْمُجْتَهد فِي الْكتاب وَالسّنة فَإِن هَذَا هُوَ
الِاجْتِهَاد الَّذِي قَالَ بعزة وجوده أَو كيدودة عَدمه
بِالْكُلِّيَّةِ وَسَماهُ متعذرا هلا جعل هَذَا الْمُقَلّد
الْمُجْتَهد أَمَامه كتاب الله وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عوضا عَن كَلَام إِمَامه وتتبع نُصُوص الْكتاب وَالسّنة
عوضا عَن تتبع نُصُوص إِمَامه
(1/161)
والعبارات كلهَا أَلْفَاظ دَالَّة على
مَعَانِيهَا فَهَلا استبدل بِأَلْفَاظ إِمَامه ومعانيها
أَلْفَاظ الشَّارِع ومعانيها وَنزل الْأَحْكَام عَلَيْهَا إِذا
لم يجده نصا شَرْعِيًّا عوضا عَن تنزيلها على مَذْهَب إِمَامه
فِيمَا لم يجده مَنْصُوصا تالله لقد استبدل الَّذِي هُوَ أدنى
بِالَّذِي هُوَ خير من معرفَة السّنة وَالْكتاب إِلَى معرفَة
كَلَام الشُّيُوخ وَالْأَصْحَاب وتفهم مرامهم والتفتيش عَن
كَلَامهم وَمن الْمَعْلُوم يَقِينا أَن كَلَام الله وَكَلَام
رَسُوله أقرب إِلَى الأفهام وَأدنى إِلَى إِصَابَة بُلُوغ
المرام فَإِنَّهُ أبلغ الْكَلَام بِالْإِجْمَاع وأعذبه فِي
الأفواه والأسماع وأقربه إِلَى الْفَهم وَالِانْتِفَاع وَلَا
يُنكر هَذَا إِلَّا جلمود الطباع وَمن لَا حَظّ لَهُ فِي
النَّفْع وَالِانْتِفَاع والأفهام الَّتِي فهم بهَا
الصَّحَابَة الْكَلَام الإلهي وَالْخطاب النَّبَوِيّ هِيَ
كأفهامنا وأحلامهم كأحلامنا إِذْ لَو كَانَت الأفهام
مُتَفَاوِتَة تَفَاوتا يسْقط مَعَه فهم الْعبارَات الإلهية
وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة لما كُنَّا مكلفين وَلَا مأمورين
وَلَا منهيين لَا اجْتِهَادًا وَلَا تقليدا أما الأول
فلاستحالته وَأما الثَّانِي فلأنا لَا نقلد حَتَّى نفهم
جَوَازه وأدلته وَلَا يفهم ذَلِك إِلَّا من أَدِلَّة الْكتاب
وَالسّنة وَقد تعذر ذَلِك كَمَا قُلْتُمْ وَقد سبق بسط هَذَا
(1/162)
على أَنا لَا نشرط فِي هَذَا مَا سلف من الشَّرَائِط فِي
الْمُجْتَهد الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن مؤلف العواصم والقواصم
إِنَّمَا نقُول إِنَّه يستروي عَن الْعَالم الْآيَة والْحَدِيث
فِي الحكم الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ فِي الْحَالة الراهنة ثمَّ
يعْمل بِهِ بعد فهمه إِنَّمَا يشْتَرط أَن تُؤْخَذ الرِّوَايَة
عَمَّن يوثق بصدقه وَدينه وورعه وشهرته بِالْعلمِ النافع من
الْكتاب وَالسّنة وَألا يسْأَله عَن مَذْهَب فلَان وَلَا فلَان
وَكَيف وَفِي كتب الْأُصُول نقل الْإِجْمَاع على تَحْرِيم
تَقْلِيد الْأَمْوَات |