إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد

رد الْأَئِمَّة على أَدِلَّة جَوَاز التَّقْلِيد
فَإِن قلت قد ذكر الْعلمَاء أَدِلَّة لجَوَاز التَّقْلِيد وَاسِعَة وطرائق نافعة قلت نعم وَقد ردهَا أَئِمَّة الِاعْتِقَاد وأوضحوا مَا فِيهَا من الْفساد ولنذكر خُلَاصَة كَلَام الْفَرِيقَيْنِ فالدليل الأول قَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} النَّحْل 43 قَالَ فَأمر سُبْحَانَهُ من لَا يعلم أَن يسْأَل من هُوَ أعلم مِنْهُ فَالْجَوَاب أَنا نقُول أَولا أَن الْتِزَام مَذْهَب إِمَام معِين فِي جَمِيع أَقْوَاله بِحَيْثُ لَا يحل الْخُرُوج عَنهُ بِحَال بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة فَمَا معنى الِاسْتِدْلَال على الْبِدْعَة أما كَونه بِدعَة فلأنكم يَا أسراء التَّقْلِيد وغيركم لَا يمكنكم أَن تدعوا أَنه كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة رجل وَاحِد اتخذ رجلا من الصَّحَابَة يقلده فِي كل أَقْوَاله وَلم يتْرك مِنْهَا شَيْئا وَأسْقط أَقْوَال غَيره الْبَتَّةَ فَلم يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا ويتأول مَا ورد من

(1/168)


الْآيَات وَالْأَحَادِيث ليُوَافق مَذْهَب من قَلّدهُ وَهَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يكن فِي الصَّحَابَة وَلَا فِي تابعيهم وَلَا تَابع التَّابِعين وَهَذِه هِيَ الْقُرُون الثَّلَاثَة الَّتِي خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يفشو الْكَذِب الحَدِيث وَمَا حدثت بِدعَة التَّقْلِيد إِلَّا فِي الْقرن الرَّابِع الَّذِي ذمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما الْآيَة الَّتِي ذكرْتُمْ فَإِن الله تَعَالَى أَمر فِيهَا من لَا يعلم أَن يسْأَل أهل الذّكر وَالذكر هُوَ الْقُرْآن وَالسّنة كَمَا ذكره الله فِي قَوْله مُخَاطبا لِنسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة} الْأَحْزَاب 34 وآياته الْقُرْآن وَالْحكمَة السّنة وكما قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة} الْجُمُعَة 2 فَالْأَمْر فِي الْآيَة للجاهل أَن يسْأَل أهل الْقُرْآن والْحَدِيث عَنْهُمَا ليخبروه فَإِذا أَخْبرُوهُ وَجب عَلَيْهِ اتِّبَاع مَا أَخْبرُوهُ بِهِ

(1/169)


وَهَذَا على أظهر الْوُجُوه فِي تَفْسِير الْآيَة لمن لَهُ أدنى إِلْمَام بالتفسير فَكيف يسْتَدلّ على أعظم قَوَاعِد الْأُصُول بِوَجْه مَرْجُوح وَيُؤَيّد هَذَا الْوَجْه الرَّاجِح مَعنا أَن هَذَا كَانَ شَأْن أهل الْعلم فِي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يسْأَل الْجَاهِل الْعَالم أَي عَالم عَن الْآيَات وَالسّنة وَلَيْسَ لَهُم مقلد معِين يتبعونه فِي أَقْوَاله فَكَانَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يسْأَل الصَّحَابَة عَمَّا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو فعله لَا يسْأَله عَن غير ذَلِك وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة كَانُوا يسْأَلُون نِسَاءَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يخفى عَلَيْهِم من سنَنه سِيمَا عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَذَلِكَ التابعون كَانُوا يسْأَلُون الصَّحَابَة عَن أَقْوَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفعاله وسننه وَكَذَلِكَ أَئِمَّة الْفِقْه قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لِأَحْمَد بن حَنْبَل يَا أَبَا عبد الله أَنْت أعلم بِالْحَدِيثِ مني فَإِذا صَحَّ الحَدِيث فَأَعْلمنِي حَتَّى أذهب إِلَيْهِ شاميا كَانَ أَو كوفيا أَو بصريا وَلم يكن أحد قطّ من أهل الْعلم يسْأَل الرجل عَن رَأْي رجل بِعَيْنِه فَيَأْخُذ بِهِ ويطرح مَا سواهُ

(1/170)


الثَّانِي من أَدِلَّة جَوَاز التَّقْلِيد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي قصَّة صَاحب الشَّجَّة أَلا تسألوا إِذا لم تعلمُوا إِنَّمَا شِفَاء العي السوال فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى السوال وَالْجَوَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أرشد الْمُفْتِينَ لصَاحب الشيجة إِلَى السُّؤَال عَن حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسنته فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله يَدْعُو عَلَيْهِم لما أفتوا بِغَيْر علم وَفِي هَذَا تَحْرِيم الافتاء بالتقليد فَإِن الْإِفْتَاء بِهِ لَيْسَ علما بِاتِّفَاق الْأمة وَمَا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فَاعله فَإِنَّهُ حرَام وَهُوَ أحد أَدِلَّة التَّحْرِيم فَالْحَدِيث حجَّة على تَحْرِيم التَّقْلِيد لَا على جَوَازه الثَّالِث من أدلتهم قَالُوا قَالَ أَبُو العسيف الَّذِي زنا بِامْرَأَة مستأجرة وَإِنِّي سَأَلت أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَنما على ابْني جلد مائَة وتغريب عَام وَأَن على امْرَأَة هَذَا الرَّجْم أخرجه البُخَارِيّ قَالُوا فَلم يُنكر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقْلِيد من هُوَ أعلم مِنْهُ

(1/171)


وَالْجَوَاب أَن هَذَا سَأَلَ أهل الْعلم فأفتوه بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعنها سَأَلَ فَهُوَ يصلح عاضدا لِلْآيَةِ وَأَن المُرَاد سُؤال أهل الذّكر عَن الْكتاب وَالسّنة لَا عَن رَأْيهمْ الرَّابِع من أدلتهم قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} التَّوْبَة 100 ومقلدهم تَابع لَهُم فَهُوَ مِمَّن رَضِي الله عَنهُ وَالْجَوَاب صدق الْمُقدمَة الأولى وَكذب الثَّانِيَة فَإِن الأولى ضَرُورِيَّة الصدْق وَأما كذب الثَّانِيَة فَإِن تَفْسِير اتباعهم بالتقليد من تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه كَيفَ وَهَذَا التَّقْلِيد الَّذِي يريدونه بِدعَة حَادِثَة لَا يُفَسر بهَا كَلَام الله واتباعهم إِنَّمَا هُوَ سلوك طريقهم ومنهاجهم وَقد نهوا عَن التَّقْلِيد فَلم يكن فِي السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار يُقَلّد بالِاتِّفَاقِ فَكيف يُقَال من اتباعهم تقليدهم بل التابعون لَهُم بِإِحْسَان هم أهل الْعلم أَئِمَّة الْكتاب وَالسّنة الَّذين لَا يقدمُونَ على كتاب الله رَأيا وَلَا قِيَاسا وَلَا يجْعَلُونَ كَلَام أحد عيارا على الْقُرْآن وَالسّنَن فَالَّذِي اتبعهم هُوَ من اتبع الْحجَّة وانقاد بِالدَّلِيلِ وَلم يتَّخذ رجلا بِعَيْنِه إِمَامًا يَقْتَدِي بأقواله وسننه سوى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} الْأَعْرَاف 3

(1/172)


فَأمر تَعَالَى بِاتِّبَاع الْمنزل خَاصَّة والمنزل هُوَ الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} الْحَشْر 7 فالتقليد لَا يكون اتبَاعا فَإِن الِاتِّبَاع سلوك طَريقَة المتبع والإتيان بِمثل مَا أَتَى بِهِ وَقد عقد أَبُو عمر بن عبد البر بَابا فِي الْفرق بَين الِاتِّبَاع والتقليد وَقَالَ قَالَ عبد الله بن خويز منداد الْبَصْرِيّ الْمَالِكِي التَّقْلِيد مَعْنَاهُ فِي الشَّرْع الرُّجُوع إِلَى قَول لَا حجَّة لقائله عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَمْنُوع مِنْهُ فِي الشَّرِيعَة والاتباع مَا ثَبت عَلَيْهِ حجَّة الْخَامِس من أَدِلَّة المقلدين الحَدِيث الْمَشْهُور أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ

(1/173)


وَالْجَوَاب أَن الحَدِيث قد رُوِيَ عَن عمر من طرق لَا يَصح مِنْهَا شَيْء وَقَالَ الْبَزَّار وَأما مَا يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ فَهَذَا الْكَلَام لَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن صَحَّ فالاتباع غير التَّقْلِيد فَإِن الِاقْتِدَاء فعلك مثل فعل الْغَيْر على الْوَجْه الَّذِي فعله بِالدَّلِيلِ الَّذِي

(1/174)


فعله فَلذَلِك قُلْنَا من أَبْيَات
وشتان مَا بَين الْمُقَلّد فِي الْهدى
وَمن يَقْتَدِي فالضد يعرف بالضد ... فَمن قلد النُّعْمَان أصبح شاربا
نبيذا وَفِيه القَوْل للْبَعْض بِالْحَدِّ ... وَمن يَقْتَدِي أضحى إِمَام معارف
وَكَانَ أويسا فِي الْعِبَادَة والزهد ... فمقتديا فِي الْحق كن لَا مُقَلدًا
وخل أَخا التَّقْلِيد فِي الْأسر بالقد

(1/175)


فالمقلد لأبي حنيفَة وَهُوَ المُرَاد بالنعمان يجوز عِنْده شرب النَّبِيذ وَأَبُو حنيفَة لم يشربه فالاقتداء بِهِ أَن لَا يشربه بل الْمُقْتَدِي بِهِ يكون إِمَامًا فِي الْعلم والزهد كَأبي حنيفَة وَمثله قَول الإِمَام الْكَبِير مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير مؤلف العواصم والقواصم فِي الذب عَن أبي الْقَاسِم من أَبْيَات
هم قلدوهم فاقتديت بهم وَكم
بَين الْمُقَلّد فِي الْهدى والمقتدي ... من قلد النُّعْمَان أصبح شاربا
لمثلث رِجْس خَبِيث مُزْبِد ... وَلَو اقْتدى بِأبي حنيفَة لم يكن
إِلَّا إِمَامًا رَاكِعا فِي الْمَسْجِد
وَقَالَ الله تَعَالَى مُخَاطبا لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَن عد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام نَحوا من بعضة عشر نَبيا {فبهداهم اقتده} الْأَنْعَام 90 قَالَ فِي الْكَشَّاف المُرَاد بهداهم طريقتهم فِي الْإِيمَان بِاللَّه وتوحيده وأصول الدّين اه وَمَعْلُوم يَقِينا أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتقليد رسله فِي أديانهم فَعرفت أَن الِاقْتِدَاء والاتباع ليسَا من التَّقْلِيد فِي وُرُود وَلَا صدر

(1/176)


السَّادِس من أَدِلَّة المقلدين قَالُوا حَدِيث عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي أَبُو بكر وَعمر واهتدوا بِهَدي عمار وتمسكوا بِعَهْد ابْن أم معبد الْجَواب أَن الاهتداء بهم اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وَالْقَبُول لما فيهمَا وَالدُّعَاء إِلَيْهِمَا وَتَحْرِيم التَّقْلِيد إِذْ لم يُؤثر عَنْهُم وَقد صَحَّ عَن ابْن مَسْعُود وَهُوَ ابْن أم معبد النَّهْي عَن التَّقْلِيد وَقَالَ لَا يكون الرجل إمعة لَا بَصِيرَة لَهُ ثمَّ من الْمَعْلُوم أَن أحدا مِنْهُم لم يكن يدع السّنة بقول أَي قَائِل ثمَّ إِن سنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وطريقتهم اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة فالأخذ بسنتهما اتِّبَاع السّنة النَّبَوِيَّة وَالْقُرْآن

(1/177)


ثمَّ يُقَال لكم أَيهَا المقلدون إِنَّكُم لَا تقلدون أَبَا بكر وَعمر وَلَا تَجْعَلُونَ قَوْلهمَا حجَّة بل قلدتم أَئِمَّة من اتِّبَاع الْأَئِمَّة وحرمتم تَقْلِيد غَيرهم فَأَيْنَ أَنْتُم من الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث لَو كَانَ مسوقا للتقليد فَأنْتم أول تَارِك لَهُ السَّابِع من أَدِلَّة التَّقْلِيد أَن فِي كتاب عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى شُرَيْح أَنه يقْضِي بِمَا قضى بِهِ الصالحون إِن لم يجد فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يقْضِي بِهِ وَالْجَوَاب إِن كتاب عمر رَضِي الله عَنهُ فِيهِ دَلِيل على عدم التَّقْلِيد بل أمره بِاتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة والمقلدون لَا يَقُولُونَ بذلك بل لَا ينظرُونَ فِي كتاب الله وَلَا سنة إِنَّمَا ينظرُونَ فِي كتب شيوخهم وأقوالهم ثمَّ إِنَّه قَالَ إِذا لم يجد فِيهَا قضى بِمَا قضى بِهِ الصالحون فأباح لَهُ عِنْد تعذر وجدان الدَّلِيل من الْأَمريْنِ الرُّجُوع إِلَى مَا قضى بِهِ الصالحون الَّذين لَا يقضون إِلَّا عَن دَلِيل من كتاب أَو سنة أَو قِيَاس جلى

(1/178)


فَأجَاز لَهُ هُنَا الْأَخْذ فِي الْقَضَاء بِرَأْي الصَّالِحين فِي الْحَالة الراهنية لَا أَنه يَجْعَل رَأْيه مقدما على الْكتاب وَالسّنة كَمَا جعل المقلدون ثمَّ هَذَا كَلَام عمر رَضِي الله عَنهُ وَلَيْسَ بِحجَّة الثَّامِن قَالُوا كَانَ الصَّحَابَة يفتون فِي عصره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باطلاعه وَهَذَا تَقْلِيد لِلْمُتقين الْجَواب أَن فتواهم كَانَ تبليغا عَن الله وَعَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن إِفْتَاء بآرائهم وَلذَلِك لما أفتوا صَاحب الشَّجَّة بِخِلَاف سنته قَالَ قَتلهمْ الله كَمَا عرفت التَّاسِع من أدلتهم قَالُوا قَالَ الله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} التَّوْبَة 112 فَأوجب قبُول إِنْذَارهم وَذَلِكَ تَقْلِيد لَهُم وَالْجَوَاب أَن هَذَا جهل للفظ الْإِنْذَار إِنَّمَا يقوم بِالْحجَّةِ فَمن لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة لم يكن قد أنذر كَمَا أَن النذير من أَقَامَ الْحجَّة فَمن لم يَأْتِ بِالْحجَّةِ لم يكن نذيرا وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَاد {ولينذروا قَومهمْ} بإخبارهم إيَّاهُم بالحجج والبراهين على مَا يفقهونهم بِهِ من الْأَحْكَام أَلا ترى أَن خَزَنَة النَّار من الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ لمن فِيهَا {ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال كَبِير وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير}

(1/179)


الْملك 8 10 قَالَ الله تَعَالَى {فَاعْتَرفُوا بذنبهم} الْملك 11 فَإِنَّهُم أقرُّوا أَنه أَتَاهُم النذير وَلَا يكون إِلَّا لحجة فكذبوا ضلالا وعنادا وَقَالُوا متأسفين {لَو كُنَّا نسْمع} أَي نعمل بِمَا سمعناه {أَو نعقل} أَي نعمل بِمَا عَقَلْنَاهُ وَإِلَّا فَمن الْمَعْلُوم أَنهم سمعُوا وعقلوا وَلَكِن مَا عمِلُوا فكأنهم لَا سمع لَهُم وَلَا عقل فهم الَّذين يَقُولُونَ سمعنَا وعصينا وَلَو أَنهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا خيرا لَهُم وأقوم فَعرفت أَنه لَا دَلِيل فِي الْآيَة للمقلدين الْعَاشِر من أدلتهم قَالُوا قد أَمر الله تَعَالَى بِقبُول شَهَادَة الشَّاهِد وَذَلِكَ تَقْلِيد لَهُ الْجَواب أَن هَذَا من أبطل الْأَدِلَّة فَإنَّا مَا قبلنَا قَوْلهم إِلَّا بِنَصّ رَبنَا وَقَول نَبينَا وَإِجْمَاع أمة فَلم يقبل قَول الشَّاهِد بِمُجَرَّد كَونه شهد بِهِ بل قبلناه لِأَن الله أَمر بِقبُول شَهَادَته كَمَا أمرنَا بِاتِّبَاع رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن سميتم ذَلِك تقليدا فَلَا يضرنا وَأما أَنْتُم قبلتم قَول من قلدتموه وتركتم قَول من عداهُ وَلَو كَانَ آيَة من

(1/180)


الله أَو حَدِيثا نبويا لتأولتموها وأرجعتموها ناكصين على أعقابكم إِلَى قَول إمامكم وَكَذَلِكَ قبولنا إِقْرَار من أقرّ على نَفسه بِشَيْء وَحكما بِهِ عَلَيْهِ لَا يُسمى تقليدا بل اتبَاعا لقَوْل الله تَعَالَى {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة} الْقِيَامَة 14 وَإِجْمَاع الْأمة وَعَمله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبُول إِقْرَار مَاعِز والغامدية ورجمهما بإقرارهما وَلَا يَقُول اُحْدُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلدهما الْحَادِي عشر من أدلتهم قَالُوا قد جعل الله فِي فطر الْعباد تَقْلِيد المتعلمين للْعَالمين والأستاذين فِي الْعُلُوم والصنائع وَلَا تقوم مصَالح الْخلق إِلَّا بِهَذَا وَذَاكَ عَام فِي كل علم وصناعة وَقد فاوت الله بَين الأذهان كَمَا فاوت بَين القوى فِي الْأَبدَان فَلَا يحسن فِي حكمته وعدله وَرَحمته أَن يفْرض على جَمِيع خلقه معرفَة الْحق بدليله وَالْجَوَاب أَن هَذَا حق لَا يُنكر وَلَا يُنكر أَخذ الْعلم عَن الْعلمَاء وينكر أَخذه من الصُّحُف والقراطيس بِغَيْر تعلم وَلَكنَّا نقتدي بالعالم ونهتدي بتعليمه ونستعين بفهمه ونستضيء بأنوار علومه وَفرق بَين تَقْلِيد الْعَالم فِي جَمِيع مَا قَالَه وَبَين الِاسْتِعَانَة بفهمه وَهُوَ الثَّانِي بِمَنْزِلَة الدَّلِيل فِي الطَّرِيق والخريت الماهر لِابْنِ السَّبِيل فَهُوَ دَلِيل إِلَى دَلِيل فَإِذا وصل إِلَيْهِ اسْتغنى بدلالته عَن الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ وَنَظِيره من اسْتدلَّ بِالنَّجْمِ على الْقبْلَة فَإِذا شَاهد الْقبْلَة لم يبْق لاستدلاله بِالنَّجْمِ معنى

(1/181)


أما قَوْله إِنَّه تَعَالَى فاوت بَين الأذهان فَهَذَا مُسلم وكلا منا فِيمَن لَهُ أَهْلِيَّة الْخطاب وَفهم أَدِلَّة مَا يَحْتَاجهُ من أَدِلَّة السّنة وَالْكتاب وَهُوَ بِحَمْد الله الْوَاحِد الْوَهَّاب أَمر لَيْسَ بالخفي وَلَا بالألغاز الَّذِي لَا يعرفهُ إِلَّا الذكي بل قدمنَا لَك أَن ألفاظهما أقرب تناولا وأسهل أخذا وأوضح معنى وَلَا بُد للمكلف من تفهم مَعَاني مَا كلف بِهِ إِمَّا من كَلَام شُيُوخه أَو من كَلَام ربه وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَرُورَة إِنَّه لَا يتم لَهُ التَّكْلِيف إِلَّا بالفهم وَإِلَّا مَعْذُورًا غير مُخَاطب بِشَيْء من الشرعيات فالفهم الَّذِي يصرفهُ فِي حل عِبَارَات شُيُوخه وَبَيَان مَعَانِيهَا يصرفهُ فِي تفهم كَلَام ربه وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقدر الَّذِي كلف الله بِهِ عباده وَقد سهله {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} الْحَج 78 لَا فِي فهم المُرَاد وَلَا فِي الْأَفْعَال الَّتِي خَاطب الْعباد وَقد قدمنَا أَن الْوَاجِب على كل عبد مَا يَخُصُّهُ من الْأَحْكَام وَمَا يَدعُوهُ إِلَيْهِ حَاجَة وَهُوَ أَمر سهل يسير فَإِن أَكثر الْعُلُوم فضول كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ الْعلم نقطة كثرها الْجُهَّال فَهَذِهِ زبدة أَدِلَّة مجوزي التَّقْلِيد وأجوبتها وَمن لَهُ فهم أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد لَا يخفاه بعد ذَلِك إِذا كَانَ لَهُ مطلبا وإياه يُرِيد وَقد ذكرُوا أَدِلَّة سماعهَا شغل الأسماع بِغَيْر فَائِدَة تعود على سامعها وَلَا انْتِفَاع تركناها لَا نشغل بهَا الاوقات ويستغني بهَا عَمَّا هُوَ أولى بِالنّظرِ بالِاتِّفَاقِ وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل وَعَلِيهِ فِي كل فعل التعويل وَمِنْه

(1/182)


وَمِنْه نستمد الْهِدَايَة فِي البكرة والأصيل إِلَى مَا يقر بِنَا إِلَى جَانِبه وينزلنا فِي ظلّ رَحمته الظليل وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله خير آل وصحابته خير صِحَاب وقبيل

(1/183)