أصول السرخسي مُقَدّمَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد شمس الْأَئِمَّة
أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي سهل السَّرخسِيّ إملاء فِي يَوْم
السبت سلخ شَوَّال سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِي
زَاوِيَة من حِصَار أوزجند الْحَمد لله الحميد الْمجِيد
المبدىء المعيد الفعال لما يُرِيد ذِي الْبَطْش الشَّديد
وَالْأَمر الحميد وَالْحكم الرشيد والوعد والوعيد
نحمده على مَا أكرمنا بِهِ من مِيرَاث النُّبُوَّة ونشكره على
مَا هدَانَا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ أصل فِي الدّين والمروة
وَهُوَ الْعلم الَّذِي هُوَ أنفس الأعلاق وَأجل مكتسب فِي
الْآفَاق
فَهُوَ أعز عِنْد الْكَرِيم من الكبريت الْأَحْمَر والزمرد
الْأَخْضَر ونثارة الدّرّ والعنبر ونفيس الْيَاقُوت والجوهر من
جمعه فقد جمع الْعِزّ والشرف وَمن عَدمه فقد عدم مجامع
الْخَيْر واللطف يُقَوي الضَّعِيف وَيزِيد عز الشريف يرفع
الخامل الحقير ويمول العائل الْفَقِير بِهِ يطْلب رضَا
الرَّحْمَن وتستفتح أَبْوَاب الْجنان وينال الْعِزّ فِي الدّين
وَالدُّنْيَا والمحمدة فِي البدء والعقبى لأَجله بعث الله
النَّبِيين وختمهم بِسَيِّد الْمُرْسلين وَإِمَام
الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله
الطيبين
وَبعد فَإِن من أفضل الْأُمُور وَأَشْرَفهَا عِنْد الْجُمْهُور
بعد معرفَة أصل الدّين الِاقْتِدَاء بالأئمة الْمُتَقَدِّمين
فِي بذل المجهود لمعْرِفَة الْأَحْكَام فبها يَتَأَتَّى
الْفَصْل بَين الْحَلَال وَالْحرَام وَقد سمي الله تَعَالَى
ذَلِك فِي مُحكم تَنْزِيله الْخَيْر الْكثير فَقَالَ {وَمن
يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} فسر ابْن عَبَّاس
رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره الْحِكْمَة بِعلم الْفِقْه
وَهُوَ المُرَاد بقوله عز وَجل {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك
بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} أَي بِبَيَان الْفِقْه
ومحاسن الشَّرِيعَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من يرد الله
بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خياركم
فِي الْجَاهِلِيَّة خياركم فِي الْإِسْلَام إِذا تفقهوا
وَإِلَى ذَلِك دَعَا الله الصَّحَابَة الَّذين هم
(1/9)
أَعْلَام الدّين وقدوة الْمُتَأَخِّرين
فَقَالَ {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي
الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم
يحذرون} وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عبد الله بِشَيْء أفضل
من الْفِقْه فِي الدّين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من
ألف عَابِد وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَلِيل من
الْفِقْه خير من كثير من الْعَمَل
غير أَن تَمام الْفِقْه لَا يكون إِلَّا باجتماع ثَلَاثَة
أَشْيَاء الْعلم بالمشروبات والإتقان فِي معرفَة ذَلِك
بِالْوُقُوفِ على النُّصُوص بمعانيها وَضبط الْأُصُول بفروعها
ثمَّ الْعَمَل بذلك
فتمام الْمَقْصُود لَا يكون إِلَّا بعد الْعَمَل بِالْعلمِ
وَمن كَانَ حَافِظًا للمشروبات من غير إتقان فِي الْمعرفَة
فَهُوَ من جملَة الروَاة وَبعد الإتقان إِذا لم يكن عَاملا
بِمَا يعلم فَهُوَ فَقِيه من وَجه دون وَجه فَأَما إِذا كَانَ
عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ الْفَقِيه الْمُطلق الَّذِي
أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ هُوَ
أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَهُوَ صفة المقدمين من
أَئِمَّتنَا أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد رَضِي الله
عَنْهُم وَلَا يخفى ذَلِك على من يتَأَمَّل فِي أَقْوَالهم
وأحوالهم عَن إنصاف
فَذَلِك الَّذِي دَعَاني إِلَى إملاء شرح فِي الْكتب الَّتِي
صنفها مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله بآكد إِشَارَة وأسهل
عبارَة
وَلما انْتهى الْمَقْصُود من ذَلِك رَأَيْت من الصَّوَاب أَن
أبين للمقتسبين أصُول مَا بنيت عَلَيْهَا شرح الْكتب ليَكُون
الْوُقُوف على الْأُصُول معينا لَهُم على فهم مَا هُوَ
الْحَقِيقَة فِي الْفُرُوع ومرشدا لَهُم إِلَى مَا وَقع
الْإِخْلَال بِهِ فِي بَيَان الْفُرُوع
فالأصول مَعْدُودَة والحوادث ممدودة والمجموعات فِي هَذَا
الْبَاب كَثِيرَة للْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وَإِنَّا فِيمَا
قصدته بهم من المقتدين رَجَاء أَن أكون من الْأَشْبَاه فَخير
الْأُمُور الِاتِّبَاع وشرها الابتداع
(1/10)
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ
أتكل وَإِلَيْهِ أبتهل وَبِه أَعْتَصِم وَله أستسلم وبحوله
أعتضد وإياه أعْتَمد فَمن اعْتصمَ بِهِ فَازَ بالخيرات سَهْمه
ولاح فِي الصعُود نجمه
فأحق مَا يبْدَأ بِهِ فِي الْبَيَان الْأَمر والنهى لِأَن
مُعظم الِابْتِلَاء بهما وبمعرفتهما تتمّ معرفَة الْأَحْكَام
ويتميز الْحَلَال من الْحَرَام
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْأَمر - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم
أَن الْأَمر أحد أَقسَام الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْخَبَر
والاستخبار وَهُوَ عِنْد أهل اللِّسَان قَول الْمَرْء لغيره
افْعَل وَلَكِن الْفُقَهَاء قَالُوا هَذِه الْكَلِمَة إِذا
خَاطب الْمَرْء بهَا من هُوَ مثله أَو دونه فَهُوَ أَمر وَإِذا
خَاطب بهَا من هُوَ فَوْقه لَا يكون أمرا لِأَن الْأَمر
يتَعَلَّق بالمأمور
فَإِن كَانَ الْمُخَاطب مِمَّن يجوز أَن يكون مَأْمُور
الْمُخَاطب كَانَ أمرا وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يجوز أَن يكون
مأموره لَا يكون أمرا كَقَوْل الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي
وارحمني يكون سؤالا وَدُعَاء لَا أمرا
ثمَّ المُرَاد بِالْأَمر يعرف بِهَذِهِ الصِّيغَة فَقَط وَلَا
يعرف حَقِيقَة الْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة فِي قَول
الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ يعرف حَقِيقَة
المُرَاد بِالْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة
وعَلى هَذَا يبتني الْخلاف فِي أَفعَال رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مُوجبَة أم لَا وَاحْتَجُّوا فِي
ذَلِك بقوله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي
عَن سمته وطريقته فِي أَفعاله وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمر
فِرْعَوْن برشيد} وَالْمرَاد فعله وطريقته وَقَالَ تَعَالَى
{وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} أَي أفعالهم وَقَالَ تَعَالَى
{وتنازعتم فِي الْأَمر} أَي فِيمَا تقدمون عَلَيْهِ من
الْفِعْل وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الْأَمر كُله لله}
(1/11)
المُرَاد الشَّأْن وَالْفِعْل وَالْعرب
تَقول أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أَي حَاله وأفعاله وَإِذا
ثَبت أَن الْأَمر يعبر بِهِ عَن الْفِعْل كَانَ حَقِيقَة فِيهِ
يُوضحهُ أَن الْعَرَب تفرق بَين جمع الْأَمر الَّذِي هُوَ
القَوْل فَقَالُوا فِيهِ أوَامِر وَالْأَمر الَّذِي هُوَ
الْفِعْل فَقَالُوا فِي جمعه أُمُور فَفِي التَّفْرِيق بَين
الجمعين دلَالَة على أَن كل وَاحِد مِنْهُ حَقِيقَة وَمن
يَقُول إِن اسْتِعْمَال الْأَمر فِي الْفِعْل بطرِيق الْمجَاز
والاتساع فَلَا بُد لَهُ من بَيَان الْوَجْه الَّذِي اتَّسع
فِيهِ لأَجله لِأَن الاتساع وَالْمجَاز لَا يكون إِلَّا بطرِيق
مَعْلُوم يستعار اللَّفْظ بذلك الطَّرِيق لغير حَقِيقَته
مجَازًا
وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذُوا عني مَنَاسِككُم
وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي تنصيص على وجوب اتِّبَاعه
فِي أَفعاله
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن المُرَاد بِالْأَمر من أعظم
الْمَقَاصِد فَلَا بُد من أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع هُوَ
حَقِيقَة يعرف بِهِ اعْتِبَارا بِسَائِر الْمَقَاصِد من
الْمَاضِي والمستقبل وَالْحَال وَهَذَا لِأَن الْعبارَات لَا
تقصر عَن الْمَقَاصِد وَلَا يتَحَقَّق انْتِفَاء الْقُصُور
إِلَّا بعد أَن يكون لكل مَقْصُود عبارَة هُوَ مَخْصُوص بهَا
ثمَّ قد تسْتَعْمل تِلْكَ الْعبارَة لغيره مجَازًا بِمَنْزِلَة
أَسمَاء الْأَعْيَان فَكل عين مُخْتَصّ باسم هُوَ مَوْضُوع
لَهُ وَقد يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا نَحْو أَسد فَهُوَ فِي
الْحَقِيقَة اسْم لعين وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي غَيره
مجَازًا يُوضحهُ أَن قَوْلنَا أَمر مصدر والمصادر لَا بُد أَن
تُوجد عَن فعل أَو يُوجد عَنْهَا فعل على حسب اخْتِلَاف أهل
اللِّسَان فِي ذَلِك ثمَّ لَا تَجِد أحدا من أهل اللِّسَان
يُسَمِّي الْفَاعِل للشَّيْء آمرا أَلا ترى أَنهم لَا
يَقُولُونَ للآكل والشارب آمرا فَبِهَذَا تبين أَن اسْم
الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْفِعْل حَقِيقَة وَلَا يُقَال الْأَمر
اسْم عَام يدْخل تَحْتَهُ الْمُشْتَقّ وَغَيره لِأَن الْأَمر
مُشْتَقّ فِي الأَصْل فَإِنَّهُ يُقَال أَمر يَأْمر أمرا
فَهُوَ آمُر وَمَا كَانَ مشتقا فِي الأَصْل لَا يُقَال إِنَّه
يتَنَاوَل الْمُشْتَقّ وَغَيره حَقِيقَة وَإِنَّمَا يُقَال
ذَلِك فِيمَا هُوَ غير مُشْتَقّ فِي الأَصْل
(1/12)
كاللسان وَنَحْوه وَفِي قَول الْقَائِل
رَأَيْت فلَانا يَأْمر بِكَذَا وَيفْعل بِخِلَافِهِ دَلِيل
ظَاهر على أَن الْفِعْل غير الْأَمر حَقِيقَة
فَأَما مَا تلوا من الْآيَات فَنحْن لَا ننكر اسْتِعْمَال
الْأَمر فِي غير مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ لِأَن ذَلِك فِي
الْقُرْآن على وُجُوه مِنْهَا الْقَضَاء قَالَ الله تَعَالَى
{يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى
{أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} وَمِنْهَا الدّين قَالَ الله
تَعَالَى {حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله} وَمِنْهَا
القَوْل قَالَ الله تَعَالَى {يتنازعون بَينهم أَمرهم}
وَمِنْهَا الْوَحْي قَالَ الله تَعَالَى {يتنزل الْأَمر
بَينهُنَّ} وَمِنْهَا الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى {أَتَى أَمر
الله} وَمِنْهَا الْعَذَاب قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا أغنت
عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما
جَاءَ أَمر رَبك وَمَا زادوهم غير تتبيب} وَمِنْهَا الذَّنب
قَالَ الله تَعَالَى {فذاقت وبال أمرهَا} فإمَّا أَن نقُول كل
ذَلِك يرجع إِلَى شَيْء وَاحِد وَهُوَ أَن تَمام ذَلِك كُله
بِاللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل إِن الْأَمر كُله
لله} ثمَّ فهمنا ذَلِك بِمَا هُوَ صِيغَة الْأَمر حَقِيقَة
فَقَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ
كن فَيكون} وكما قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء
إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} أَو نقُول مَا كَانَ
حَقِيقَة لشَيْء لَا يجوز نَفْيه عَنهُ بِحَال وَمَا كَانَ
مُسْتَعْملا بطرِيق الْمجَاز لشَيْء يجوز نَفْيه عَنهُ كاسم
الْأَب فَهُوَ حَقِيقَة للْأَب الْأَدْنَى فَلَا يجوز نَفْيه
عَنهُ ومجاز للْجدّ فَيجوز نَفْيه عَنهُ بِإِثْبَات غَيره ثمَّ
يجوز نفي هَذِه الْعبارَة عَن الْفِعْل وَغَيره مِمَّا لَا
يُوجد فِيهِ هَذِه الصِّيغَة فَإِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ مَا
أمرت الْيَوْم بِشَيْء كَانَ صَادِقا وَإِن كَانَ قد فعل
أفعالا فَعرفنَا أَن الِاسْتِعْمَال فِيهِ مجَاز وَطَرِيق
هَذَا الْمجَاز أَنهم فِي قَوْلهم أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم
أجروا اسْم الْمصدر على الْمَفْعُول بِهِ كَقَوْلِهِم هَذَا
الدِّرْهَم ضرب الْأَمِير وَهَذَا الثَّوْب نسج الْيمن وأيد
مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لما خلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة خلع النَّاس نعَالهمْ
فَلَمَّا فرغ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا حملكم على مَا
صَنَعْتُم وَلَو كَانَ فعله يُوجب الِاتِّبَاع مُطلقًا لم يكن
لهَذَا السُّؤَال مِنْهُ معنى
وَلما وَاصل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل أَصْحَابه فَأنْكر
عَلَيْهِم وَقَالَ إِنِّي لست
(1/13)
كأحدكم إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني
وَفِي اسْتِعْمَال صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله خُذُوا عني
مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي بَيَان أَن
نفس الْفِعْل لَا يُوجب الِاتِّبَاع لَا محَالة فقد كَانُوا
مشاهدين لذَلِك وَلَو ثَبت بِهِ وجوب الِاتِّبَاع خلا هَذَا
اللَّفْظ عَن فَائِدَة وَذَلِكَ لَا يجوز اعْتِقَاده فِي
كَلَام صَاحب الشَّرْع فِيمَا يرجع إِلَى إحكام الْبَيَان
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر الَّذِي يذكر فِي مُقَدّمَة
هَذَا الْفَصْل
اعْلَم أَن صِيغَة الْأَمر تسْتَعْمل على سَبْعَة أوجه على
الْإِلْزَام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {آمنُوا بِاللَّه
وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا
الزَّكَاة} وعَلى النّدب كَقَوْلِه تَعَالَى {وافعلوا
الْخَيْر} وَقَوله تَعَالَى {وأحسنوا} وعَلى الْإِبَاحَة
كَقَوْلِه تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} وعَلى
الْإِرْشَاد إِلَى مَا هُوَ الأوثق كَقَوْلِه تَعَالَى
{وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} وعَلى التقريع كَقَوْلِه تَعَالَى
{فَأتوا بِسُورَة من مثله} وعَلى التوبيخ كَقَوْلِه تَعَالَى
{واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك} وعَلى السُّؤَال
كَقَوْلِه تَعَالَى {رَبنَا تقبل منا}
وَلَا خلاف أَن السُّؤَال والتوبيخ والتقريع لَا يتَنَاوَلهُ
اسْم الْأَمر وَإِن كَانَ فِي صُورَة الْأَمر وَلَا خلاف أَن
اسْم الْأَمر يتَنَاوَل مَا هُوَ للإلزام حَقِيقَة ويختلفون
فِيمَا هُوَ للْإِبَاحَة أَو الْإِرْشَاد أَو النّدب فَذكر
الْكَرْخِي والجصاص رحمهمَا الله أَن هَذَا لَا يُسمى أمرا
حَقِيقَة وَإِن كَانَ الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا وَاخْتلف
فِيهِ أَصْحَاب الشَّافِعِي فَمنهمْ من يَقُول اسْم الْأَمر
يتَنَاوَل ذَلِك كُله حَقِيقَة وَمِنْهُم من يَقُول مَا كَانَ
للنَّدْب يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر حَقِيقَة لِأَنَّهُ يُثَاب
على فعله ونيل الثَّوَاب يكون بِالطَّاعَةِ وَالطَّاعَة فِي
الائتمار بِالْأَمر وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي فَإِن نيل الثَّوَاب
بِفعل النَّوَافِل من الصَّوْم
(1/14)
وَالصَّلَاة لِأَنَّهُ عمل بِخِلَاف هوى
النَّفس الأمارة بالسوء على قصد ابْتِغَاء مرضاة الله تَعَالَى
كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس
عَن الْهوى} وَلَيْسَ من ضَرُورَة هَذَا كَون الْعَمَل
مَأْمُورا بِهِ
والفريق الثَّانِي يَقُولُونَ مَا يُفِيد الْإِبَاحَة
وَالنَّدْب فموجبه بعض مُوجب مَا هُوَ الْإِيجَاب لِأَن
بِالْإِيجَابِ هَذَا وَزِيَادَة فَيكون هَذَا قاصرا لَا مغايرا
وَالْمجَاز مَا جَاوز أَصله وتعداه
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الِاسْم فِيهِ حَقِيقَة وَهَذَا
ضَعِيف أَيْضا فَإِن مُوجب الْأَمر حَقِيقَة الْإِيجَاب وَقطع
التَّخْيِير لِأَن ذَلِك من ضَرُورَة الْإِيجَاب وبالإباحة
وَالنَّدْب لَا يَنْقَطِع التَّخْيِير
عرفنَا أَن مُوجبه غير مُوجب الْأَمر حَقِيقَة وَإِنَّمَا
يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر مجَازًا
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْعَرَب تسمي تَارِك الْأَمر
عَاصِيا وَبِه ورد الْكتاب قَالَ الله تَعَالَى {أفعصيت
أَمْرِي} وَقَالَ الْقَائِل أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني
وَكَانَ من التَّوْفِيق قتل ابْن هَاشم وَقَالَ دُرَيْد بن
الصمَّة أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوى فَلم يستبينوا الرشد
إِلَّا ضحى الْغَد فَلَمَّا عصوني كنت فيهم وَقد أرى غوايتهم
فِي أنني غير مهتدي وتارك الْمُبَاح وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ
لَا يكون عاصبا فَعرفنَا أَن الِاسْم لَا يتَنَاوَلهُ حَقِيقَة
ثمَّ حد الْحَقِيقَة فِي الْأَسَامِي مَا لَا يجوز نَفْيه
عَمَّا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ ورأينا أَن الْإِنْسَان لَو قَالَ
مَا أَمرنِي الله بِصَوْم سِتَّة من شَوَّال كَانَ صَادِقا
وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم رَمَضَان كَانَ كَاذِبًا
وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الضُّحَى كَانَ صَادِقا
وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الظّهْر كَانَ كَاذِبًا
فَفِي تَجْوِيز نفي صِيغَة الْأَمر عَن الْمَنْدُوب دَلِيل
ظَاهر على أَن الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا لَا حَقِيقَة
فَأَما الْكَلَام فِي مُوجب الْأَمر فَالْمَذْهَب عِنْد
جُمْهُور الْفُقَهَاء أَن مُوجب مطلقه الْإِلْزَام إِلَّا
بِدَلِيل
وَزعم ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن مُوجبه
الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ وَادّعى أَن
هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي فقد ذكر فِي أَحْكَام الْقُرْآن فِي
قَوْله {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} أَنه يحْتَمل
أَمريْن
وَأنكر هَذَا أَكثر أَصْحَابه وَقَالُوا مُرَاده أَنه يحْتَمل
أَن يكون بِخِلَاف الْإِطْلَاق وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعُمُوم
إِنَّه يحْتَمل الْخُصُوص بِأَن يرد دَلِيل يَخُصُّهُ وَإِن
كَانَ الظَّاهِر عِنْده الْعُمُوم
(1/15)
وَزَعَمُوا أَنه جزم على أَن الْأَمر
للْوُجُوب فِي سَائِر كتبه
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك إِن مُوجب مطلقه الْإِبَاحَة
وَقَالَ بَعضهم مُوجبه النّدب
أما الواقفون فَيَقُولُونَ قد صَحَّ اسْتِعْمَال هَذِه
الصِّيغَة لمعان مُخْتَلفَة كَمَا بَينا فَلَا يتَعَيَّن شَيْء
مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة فِي
الِاحْتِمَال وَهَذَا فَاسد جدا فَإِن الصَّحَابَة امتثلوا
أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا سمعُوا مِنْهُ
صِيغَة الْأَمر من غير أَن اشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر
للْعَمَل وَلَو لم يكن مُوجب هَذِه الصِّيغَة مَعْلُوما بهَا
لاشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَا يُقَال إِنَّمَا
عرفُوا ذَلِك بِمَا شاهدوا من الْأَحْوَال لَا بِصِيغَة
الْأَمر لِأَن من كَانَ غَائِبا مِنْهُم عَن مَجْلِسه اشْتغل
بِهِ كَمَا بلغه صِيغَة الْأَمر حسب مَا اشْتغل بِهِ من كَانَ
حَاضرا ومشاهدة الْحَال لَا تُوجد فِي حق من كَانَ غَائِبا
وَحين دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبي بن كَعْب
رَضِي الله عَنهُ فَأخر الْمَجِيء لكَونه فِي الصَّلَاة
فَقَالَ لَهُ أما سَمِعت الله يَقُول {اسْتجِيبُوا لله
وَلِلرَّسُولِ} فاستدل عَلَيْهِ بِصِيغَة الْأَمر فَقَط وَعرف
النَّاس كلهم دَلِيل على مَا قُلْنَا فَإِن من أَمر من تلْزمهُ
طَاعَته بِهَذِهِ الصِّيغَة فَامْتنعَ كَانَ ملاما معاتبا
وَلَو كَانَ الْمَقْصُود لَا يصير مَعْلُوما بهَا للاحتمال لم
يكن معاتبا
ثمَّ كَمَا أَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمعَانِي فَكَذَلِك
كل عبارَة تكون لِمَعْنى خَاص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَا
يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض وَصِيغَة الْأَمر أحد
تصاريف الْكَلَام فَلَا بُد من أَن يكون لِمَعْنى خَاص فِي أصل
الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض مغير
لَهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام
وَمن يَقُول بِأَن مُوجب مُطلق الْأَمر الْوَقْف لَا يجد بدا
من أَن يَقُول مُوجب مُطلق النَّهْي الْوَقْف أَيْضا للاحتمال
فَيكون هَذَا قولا باتحاد موجبهما وَهُوَ بَاطِل وَفِي القَوْل
بِأَن مُوجب الْأَمر الْوَقْف إبِْطَال حقائق الْأَشْيَاء
وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرُوهُ
نعتبره فِي أَن لَا نجعله محكما بِمُجَرَّد الصِّيغَة لَا فِي
أَن لَا يثبت مُوجبه أصلا أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره إِن
شِئْت فافعل كَذَا وَإِن شِئْت فافعل كَذَا كَانَ مُوجب
كَلَامه التَّخْيِير عِنْد الْعُقَلَاء وَاحْتِمَال غَيره
وَهُوَ الزّجر قَائِم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَمن شَاءَ
فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر}
(1/16)
وَأما الَّذين قَالُوا مُوجبه الْإِبَاحَة
اعتبروا الِاحْتِمَال لكِنهمْ قَالُوا من ضَرُورَة الْأَمر
ثُبُوت صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ فَإِن الْحَكِيم لَا
يَأْمر بالقبيح فَيثبت بمطلقه مَا هُوَ من ضَرُورَة هَذِه
الصِّيغَة وَهُوَ التَّمْكِين من الْإِقْدَام عَلَيْهِ
وَالْإِبَاحَة وَهَذَا فَاسد أَيْضا فصفة الْحسن بِمُجَرَّدِهِ
تثبت بِالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة
لِمَعْنى خَاص فَلَا بُد أَن تثبت بمطلقها حسنا بِصفة
وَيعْتَبر الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن مُطلق النَّهْي
يُوجب قبح الْمنْهِي عَنهُ على وَجه يجب الِانْتِهَاء عَنهُ
فَكَذَلِك مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ على
وَجه يجب الائتمار
وَالَّذين قَالُوا بالندب ذَهَبُوا إِلَى أَن الْأَمر لطلب
الْمَأْمُور بِهِ من الْمُخَاطب وَذَلِكَ يرجح جَانب
الْإِقْدَام عَلَيْهِ ضَرُورَة
وَهَذَا التَّرْجِيح قد يكون بالإلزام وَقد يكون بالندب فَيثبت
أقل الْأَمريْنِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن بِهِ حَتَّى يقوم
الدَّلِيل على الزِّيَادَة وَهَذَا ضَعِيف فَإِن الْأَمر لما
كَانَ لطلب الْمَأْمُور بِهِ اقْتضى مطلقه الْكَامِل من الطّلب
إِذْ لَا قُصُور فِي الصِّيغَة وَلَا فِي ولَايَة الْمُتَكَلّم
فَإِنَّهُ مفترض الطَّاعَة بِملك الْإِلْزَام
ثمَّ إِمَّا أَن يكون الْأَمر حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب خَاصَّة
فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يحمل على حَقِيقَة أَو يكون حَقِيقَة فِي
الْإِيجَاب وَالنَّدْب جَمِيعًا فَيثبت بمطلقه الْإِيجَاب
لتَضَمّنه النّدب وَالزِّيَادَة لَا يجوز أَن يُقَال هُوَ
للنَّدْب حَقِيقَة وللإيجاب مجَازًا لِأَن هَذَا يُؤَدِّي
إِلَى تصويب قَول من قَالَ إِن الله لم يَأْمر بِالْإِيمَان
وَلَا بِالصَّلَاةِ وَبطلَان هَذَا لَا يخفى على ذِي لب
وَمَا قَالُوا يبطل بِلَفْظ الْعَام فَإِنَّهُ يتَنَاوَل
الثَّلَاثَة فَمَا فَوق ذَلِك ثمَّ عِنْد الْإِطْلَاق لَا يحمل
على الْمُتَيَقن وَهُوَ الْأَقَل وَإِنَّمَا يحمل على الْجِنْس
لتكثير الْفَائِدَة بِهِ
وَكَذَا صِيغَة الْأَمر وَلَو لم يكن فِي القَوْل بِمَا
قَالُوا إِلَّا ترك الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لَكَانَ ذَلِك
كَافِيا فِي وجوب الْمصير إِلَى مَا قُلْنَا فَإِن الْمَنْدُوب
بِفِعْلِهِ يسْتَحق الثَّوَاب وَلَا يسْتَحق بِتَرْكِهِ
الْعقَاب وَالْوَاجِب يسْتَحق بِفِعْلِهِ الثَّوَاب وَيسْتَحق
بِتَرْكِهِ الْعقَاب فَالْقَوْل بِأَن مُقْتَضى مُطلق الْأَمر
الْإِيجَاب وَفِيه معنى الِاحْتِيَاط من كل وَجه أولى
(1/17)
ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة قَوْلنَا من
الْكتاب قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة
إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من
أَمرهم} فَفِي نفي التَّخْيِير بَيَان أَن مُوجب الْأَمر
الْإِلْزَام ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَمن يعْص الله وَرَسُوله}
وَلَا يكون عَاصِيا بترك الِامْتِثَال إِلَّا أَن يكون مُوجبه
الْإِلْزَام وَقَالَ {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} أَي
أَن تسْجد فقد ذمه على الِامْتِنَاع من الِامْتِثَال والذم
بترك الْوَاجِب وَقَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن
أمره أَن تصيبهم فتْنَة} وَخَوف الْعقُوبَة فِي ترك الْوَاجِب
وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول ترك الائتمار لَا يكون خلافًا
فَإِن الْمَأْمُور فِي الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك وَلَا شكّ
فِي أَن ترك الائتمار بِالْفطرِ من غير عذر يكون خلافًا فِيمَا
هُوَ الْمَأْمُور بِهِ
ثمَّ الْأَمر يطْلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه يشْهد بِهِ
الْكتاب وَالْإِجْمَاع والمعقول
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء
وَالْأَرْض بأَمْره} فإضافة الْوُجُود وَالْقِيَام إِلَى
الْأَمر ظَاهره يدل على أَن الإيجاد يتَّصل بِالْأَمر
وَكَذَلِكَ قَوْله {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن
يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَالْمُرَاد حَقِيقَة هَذِه الْكَلِمَة
عندنَا لَا أَن يكون مجَازًا عَن التكوين كَمَا زعم بَعضهم
فَإنَّا نستدل بِهِ على أَن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا
مَخْلُوق لِأَنَّهُ سَابق على المحدثات أجمع وحرف الْفَاء
للتعقيب
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذِه الصِّيغَة لطلب الْمَأْمُور
بآكد الْوُجُوه وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ فَإِن من
أَرَادَ أَن يطْلب عملا من غَيره لَا يجد لفظا مَوْضُوعا
لإِظْهَار مَقْصُوده سوى قَوْله افْعَل وَبِهَذَا يثبت أَن
هَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لهَذَا الْمَعْنى خَاصَّة كَمَا
أَن اللَّفْظ الْمَاضِي مَوْضُوع للمضي والمستقبل للاستقبال
وَكَذَلِكَ الْحَال
ثمَّ سَائِر الْمعَانِي الَّتِي وضعت
(1/18)
الْأَلْفَاظ لَهَا كَانَت لَازِمَة لمطلقها
إِلَّا أَن يقوم الدَّلِيل بِخِلَافِهِ فَكَذَلِك معنى طلب
الْمَأْمُور بِهَذِهِ الصِّيغَة وَلِأَن قَوْلنَا أَمر فعل
مُتَعَدٍّ لَازمه ائتمر والمتعدي لَا يتَحَقَّق بِدُونِ
اللَّازِم فَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون أمرا بِدُونِ
الائتمار كَمَا لَا يكون كسرا بِدُونِ الانكسار وَحَقِيقَة
الائتمار بِوُجُود الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا أَن الْوُجُود لَو
اتَّصل بِالْأَمر وَلَا صنع للمخاطب فِيهِ سقط التَّكْلِيف
وَهَذَا لَا وَجه لَهُ لِأَن فِي الائتمار للمخاطب ضرب
اخْتِيَار بِقدر مَا يَنْتَفِي بِهِ الْجَبْر وَيسْتَحق
الثَّوَاب بالإقدام على الائتمار وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِذا
اتَّصل الْوُجُود بِصِيغَة الْأَمر فَلم تثبت حَقِيقَة
الْوُجُود بِهَذِهِ الصِّيغَة تَحَرُّزًا عَن القَوْل بالجبر
فأثبتنا بِهِ آكِد مَا يكون من وُجُوه الطّلب وَهُوَ
الْإِلْزَام أَلا ترى أَن بِمُطلق النَّهْي يثبت آكِد مَا يكون
من طلب الإعدام وَهُوَ وجوب الِانْتِهَاء وَلَا يثبت الانعدام
بِمُطلق النَّهْي وَكَذَلِكَ بِالْأَمر لِأَن إِحْدَى الصيغتين
لطلب الإيجاد وَالْأُخْرَى لطلب الإعدام
وَمن فروع هَذَا الْفَصْل الْأَمر بعد الْحَظْر فَالصَّحِيح
عندنَا أَن مطلقه للْإِيجَاب أَيْضا لما قَررنَا أَن
الْإِلْزَام مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة عِنْد الْإِمْكَان
إِلَّا أَن يقوم دَلِيل مَانع
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ مُقْتَضَاهُ
الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ لإِزَالَة الْحَظْر وَمن ضَرُورَته
الْإِبَاحَة فَقَط فَكَأَن الْآمِر قَالَ كنت منعتك عَن هَذَا
فَرفعت ذَلِك الْمَنْع وأذنت لَك فِيهِ
فاستدلوا على هَذَا بقوله تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة
فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله}
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَلَكنَّا
نقُول إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للْحَلَال بقوله {أحل لكم
الطَّيِّبَات} الْآيَة لَا بِصِيغَة الْأَمر مَقْصُودا بِهِ
وَكَذَلِكَ إِبَاحَة البيع بعد الْفَرَاغ من الْجُمُعَة بقوله
{وَأحل الله البيع} لَا بِصِيغَة الْأَمر ثمَّ صِيغَة الْأَمر
لَيست لإِزَالَة الْحَظْر وَلَا لرفع الْمَنْع بل لطلب
الْمَأْمُور بِهِ وارتفاع الْحَظْر وَزَوَال الْمَنْع من
ضَرُورَة هَذَا الطّلب فَإِنَّمَا يعْمل مُطلق اللَّفْظ فِيمَا
يكون مَوْضُوعا لَهُ حَقِيقَة
(1/19)
|