أصول السرخسي فصل فِي بَيَان مُقْتَضى مُطلق الْأَمر فِي
حكم التّكْرَار
الصَّحِيح من مَذْهَب عُلَمَائِنَا أَن صِيغَة الْأَمر لَا
توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله وَلَكِن الْأَمر بِالْفِعْلِ
يَقْتَضِي أدنى مَا يكون من جنسه على احْتِمَال الْكل وَلَا
يكون مُوجبا للْكُلّ إِلَّا بِدَلِيل
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا هَذَا إِذا لم يكن مُعَلّقا بِشَرْط
وَلَا مُقَيّدا بِوَصْف فَإِن كَانَ فمقتضاه التّكْرَار
بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِي مطلقه لَا يُوجب التّكْرَار وَلَكِن
يحْتَملهُ وَالْعدَد أَيْضا إِذا اقْترن بِهِ دَلِيل
وَقَالَ بَعضهم مطلقه يُوجب التّكْرَار إِلَّا أَن يقوم دَلِيل
يمْنَع مِنْهُ ويحكى هَذَا عَن الْمُزنِيّ وَاحْتج صَاحب هَذَا
الْمَذْهَب بِحَدِيث أَقرع بن حَابِس رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ
سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَج أَفِي
كل عَام أم مرّة فَقَالَ بل مرّة وَلَو قلت فِي كل عَام
لَوَجَبَتْ وَلَو وَجَبت مَا قُمْتُم بهَا فَلَو لم تكن صِيغَة
الْأَمر فِي قَوْله حجُّوا مُحْتملا التّكْرَار أَو مُوجبا
لَهُ لما أشكل عَلَيْهِ ذَلِك فقد كَانَ من أهل اللِّسَان
ولكان يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
سُؤَاله عَمَّا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ فحين اشْتغل
بِبَيَان معنى دفع الْحَرج فِي الِاكْتِفَاء بِمرَّة وَاحِدَة
عرفنَا أَن مُوجب هَذِه الصِّيغَة التّكْرَار
ثمَّ الْمرة من التّكْرَار بِمَنْزِلَة الْخَاص من الْعَام
وَمُوجب الْعَام الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص
وَبَيَان هَذَا أَن قَول الْقَائِل افْعَل طلب الْفِعْل بِمَا
هُوَ مُخْتَصر من الْمصدر الَّذِي هُوَ نِسْبَة الِاسْم وَهُوَ
الْفِعْل وَحكم الْمُخْتَصر مَا هُوَ حكم المطول وَالِاسْم
يُوجب إِطْلَاقه الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص
فَكَذَلِك الْفِعْل لِأَن للْفِعْل كلا وبعضا كَمَا
للْمَفْعُول فمطلقه يُوجب الْكل ويحتمله ثمَّ الْكل لَا
يتَحَقَّق إِلَّا بالتكرار
واعتبروا الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن النَّهْي يُوجب إعدام
الْمنْهِي عَنهُ عَاما فَكَذَلِك الْأَمر يُوجب إيجاده تَمامًا
حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص وَذَلِكَ يُوجب التّكْرَار لَا
محَالة
(1/20)
وَأما الشَّافِعِي رَحمَه الله فاحتج
بِنَحْوِ هَذَا أَيْضا وَلَكِن على وَجه يتَبَيَّن بِهِ الْفرق
بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَيثبت بِهِ الِاحْتِمَال دون
الْإِيجَاب وَذَلِكَ أَن قَوْله افْعَل يَقْتَضِي مصدرا على
سَبِيل التنكير أَي افْعَل فعلا
بَيَانه فِي قَوْله طلق أَي طلق طَلَاقا وَإِنَّمَا
أَثْبَتْنَاهُ على سَبِيل التنكير لِأَن ثُبُوته بطرِيق
الِاقْتِضَاء للْحَاجة إِلَى تَصْحِيح الْكَلَام وبالمنكر يحصل
هَذَا الْمَقْصُود فَيكون الثَّابِت بِمُقْتَضى هَذِه
الصِّيغَة مَا هُوَ نكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة فِي
الْإِثْبَات تخص كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة}
وَلَكِن احْتِمَال التّكْرَار وَالْعدَد فِيهِ لَا يشكل لِأَن
ذَلِك الْمُنكر مُتَعَدد فِي نَفسه
أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه التَّفْسِير
وَتقول طَلقهَا اثْنَتَيْنِ أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا
وَيكون ذَلِك نصبا على التَّفْسِير وَلَو لم يكن اللَّفْظ
مُحْتملا لَهُ لم يستقم تَفْسِيره بِهِ بِخِلَاف النَّهْي
فصيغة النَّهْي عَن الْفِعْل تَقْتَضِي أَيْضا مصدرا على
سَبِيل التنكير أَي لَا تفعل فعلا وَلَكِن النكرَة فِي
النَّفْي تعم
قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا}
وَمن قَالَ لغيره لَا تَتَصَدَّق من مَالِي يتَنَاوَل النَّهْي
كل دِرْهَم من مَاله بِخِلَاف قَوْله تصدق من مَالِي فَإِنَّهُ
لَا يتَنَاوَل الْأَمر إِلَّا الْأَقَل على احْتِمَال أَن يكون
مُرَاده كل مَاله وَلِهَذَا قَالَ إِن مُطلق الصِّيغَة لَا
توجب التّكْرَار لِأَن ثُبُوت الْمصدر فِيهِ بطرِيق
الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى يُوضحهُ أَن هَذِه
الصِّيغَة أحد أَقسَام الْكَلَام فَتعْتَبر بِسَائِر
الْأَقْسَام
وَقَول الْقَائِل دخل فلَان الدَّار إِخْبَار عَن دُخُوله على
احْتِمَال أَن يكون دخل مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو مرَارًا
فَكَذَلِك قَوْله ادخل يكون طلب الدُّخُول مِنْهُ على
احْتِمَال أَن يكون المُرَاد مرّة أَو مرَارًا ثمَّ الْمُوجب
مَا هُوَ الْمُتَيَقن بِهِ دون الْمُحْتَمل
وَأما الَّذين قَالُوا فِي الْمُعَلق بِالشّرطِ أَو الْمُقَيد
بِالْوَصْفِ إِنَّه يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الشَّرْط وَالْوَصْف
استدلوا بالعبادات الَّتِي أَمر الشَّرْع بهَا مُقَيّدا
بِوَقْت أَو حَال وبالعقوبات الَّتِي أَمر الشَّرْع بإقامتها
مُقَيّدا بِوَصْف أَن ذَلِك يتَكَرَّر بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن هَذَا لَيْسَ
بِمذهب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فَإِن من قَالَ لامْرَأَته
إِذا دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق لم تطلق بِهَذَا اللَّفْظ
إِلَّا مرّة وَإِن تكَرر مِنْهَا الدُّخُول
(1/21)
وَلم تطلق إِلَّا وَاحِدَة وَإِن نوى أَكثر
من ذَلِك وَهَذَا لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ عِنْد وجود
الشَّرْط كالمنجز وَهَذِه الصِّيغَة لَا تحْتَمل الْعدَد
والتكرار عِنْد التَّنْجِيز فَكَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق
بِالشّرطِ إِذا وجد الشَّرْط وَإِنَّمَا يحْكى هَذَا الْكَلَام
عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فَإِنَّهُ أوجب التَّيَمُّم لكل
صَلَاة وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم
إِلَى الصَّلَاة} إِلَى قَوْله {فَتَيَمَّمُوا} وَقَالَ ظَاهر
هَذَا الشَّرْط يُوجب الطَّهَارَة عِنْد الْقيام إِلَى كل
صَلَاة غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صلى
صلوَات بِوضُوء وَاحِد ترك هَذَا فِي الطَّهَارَة بِالْمَاءِ
لقِيَام الدَّلِيل فَبَقيَ حكم التَّيَمُّم على مَا اقْتَضَاهُ
أصل الْكَلَام
وَهَذَا سَهْو فَالْمُرَاد بقوله {إِذا قُمْتُم إِلَى
الصَّلَاة} أَي وَأَنْتُم محدثون عَلَيْهِ اتّفق أهل
التَّفْسِير وَبِاعْتِبَار إِضْمَار هَذَا السَّبَب يَسْتَوِي
حكم الطَّهَارَة بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّم وَهَذَا هُوَ
الْجَواب عَمَّا يستدلون بِهِ من الْعِبَادَات والعقوبات فَإِن
تكررها لَيْسَ بِصِيغَة مُطلق الْأَمر وَلَا بِتَكَرُّر
الشَّرْط بل بتجدد السَّبَب الَّذِي جعله الشَّرْع سَببا
مُوجبا لَهُ فَفِي قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك
الشَّمْس} أَمر بِالْأَدَاءِ وَبَيَان للسبب الْمُوجب وَهُوَ
دلوك الشَّمْس فقد جعل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا مُوجبا
للصَّلَاة إِظْهَارًا لفضيلة ذَلِك الْوَقْت بِمَنْزِلَة قَول
الْقَائِل أد الثّمن للشراء وَالنَّفقَة للنِّكَاح يفهم مِنْهُ
الْأَمر بِالْأَدَاءِ وَالْإِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب
لما طُولِبَ بِأَدَائِهِ
وَلما أشكل على الْأَقْرَع بن حَابِس رَضِي الله عَنهُ حكم
الْحَج حَتَّى سَأَلَ فقد كَانَ من الْمُحْتَمل أَن يكون وَقت
الْحَج هُوَ السَّبَب الْمُوجب لَهُ بِجعْل الشَّرْع إِيَّاه
لذَلِك بِمَنْزِلَة الصَّوْم وَالصَّلَاة وَمن الْمُحْتَمل أَن
يكون السَّبَب مَا هُوَ غير متكرر وَهُوَ الْبَيْت وَالْوَقْت
شَرط الْأَدَاء وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام بَين لَهُ
بقوله بل مرّة أَن السَّبَب هُوَ الْبَيْت وَفِي قَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ دَلِيل
على أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار لِأَنَّهُ لَو
كَانَ مُوجبا لَهُ كَانَ الْوُجُوب فِي كل عَام بِصِيغَة
الْأَمر لَا بِهَذَا القَوْل مِنْهُ وَقد نَص على أَنَّهَا
كَانَت تجب بقوله لَو قلت فِي كل عَام
ثمَّ الْحجَّة لنا فِي أَن هَذِه الصِّيغَة لَا توجب
التّكْرَار وَلَا تحتمله أَن قَوْله افْعَل
(1/22)
لطلب فعل مَعْلُوم بحركات تُوجد مِنْهُ
وتنقضي وَتلك الحركات لَا تبقى وَلَا يتَصَوَّر عودهَا
إِنَّمَا المتصور تجدّد مثلهَا وَلِهَذَا يُسمى تَكْرَارا
مجَازًا من غير أَن يشكل على أحد أَن الثَّانِي غير الأول
وَبِهَذَا تبين أَنه لَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال
الْعدَد وَلَا احْتِمَال التّكْرَار أَلا ترى أَن من يَقُول
لغيره اشْتَرِ لي عبدا لَا يتَنَاوَل هَذَا أَكثر من عبد
وَاحِد وَلَا يحْتَمل الشِّرَاء مرّة بعد مرّة أَيْضا
وَكَذَلِكَ قَوْله زَوجنِي امْرَأَة لَا يحْتَمل إِلَّا
امْرَأَة وَاحِدَة وَلَا يحْتَمل تزويجا بعد تَزْوِيج إِلَّا
أَن مَا بِهِ يتم فعله عِنْد الحركات الَّتِي تُوجد مِنْهُ
لَهُ كل وَبَعض فَيثبت بالصيغة الْيَقِين الَّذِي هُوَ
الْأَقَل للتيقن بِهِ وَيحْتَمل الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه عملت
نِيَّته فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْعدَد أصلا فَلَا
تعْمل نِيَّته فِي الْعدَد وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ
لامْرَأَته طَلِّقِي نَفسك أَو لأَجْنَبِيّ طَلقهَا إِنَّه
يتَنَاوَل الْوَاحِد إِلَّا أَن يَنْوِي الثَّلَاث فتعمل
نِيَّته لِأَن ذَلِك كل فِيمَا يتم بِهِ فعل الطَّلَاق وَلَو
نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل نِيَّته لِأَنَّهُ مُجَرّد نِيَّة
الْعدَد إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة أمة فَتكون نِيَّته
الثِّنْتَيْنِ فِي حَقّهَا نِيَّة كل الطَّلَاق وَكَذَلِكَ لَو
قَالَ لعَبْدِهِ تزوج يتَنَاوَل امْرَأَة وَاحِدَة إِلَّا أَن
يَنْوِي اثْنَتَيْنِ فتعمل نِيَّته لِأَنَّهُ كل النِّكَاح فِي
حق العَبْد لَا لِأَنَّهُ نوى الْعدَد وَلَا معنى لما قَالُوا
إِن صِحَة اقتران الْعدَد والمرات بِهَذِهِ الصِّيغَة على
سَبِيل التَّفْسِير لَهَا دَلِيل على أَن الصِّيغَة تحْتَمل
ذَلِك لِأَن هَذَا الْقرَان عمله فِي تَغْيِير مُقْتَضى
الصِّيغَة لَا فِي التَّفْسِير لما هُوَ من محتملات تِلْكَ
الصِّيغَة بِمَنْزِلَة اقتران الشَّرْط وَالْبدل بِهَذِهِ
الصِّيغَة
أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا
لَا يحْتَمل وُقُوع الثِّنْتَيْنِ بِهِ مَعَ قيام الثَّلَاث
فِي ملكه وَلَا التَّأْخِير إِلَى مُدَّة وَلَو قرن بِهِ
إِلَّا وَاحِدَة إِلَى شهر أَو اثْنَتَيْنِ كَانَ صَحِيحا
وَكَانَ عَاملا فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا أَن يكون
مُفَسرًا لَهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قرن بالصيغة ذكر
الْعدَد فِي الْإِيقَاع يكون الْوُقُوع بِلَفْظ الْعدَد لَا
بِأَصْل الصِّيغَة حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته طَلقتك
ثَلَاثًا أَو قَالَ وَاحِدَة فَمَاتَتْ الْمَرْأَة قبل ذكر
الْعدَد لم يَقع شَيْء
(1/23)
فَبِهَذَا تبين أَن عمل هَذَا الْقرَان فِي
التَّغْيِير وَالتَّفْسِير يكون مقررا للْحكم الْمُفَسّر لَا
مغيرا يُحَقّق مَا ذَكرْنَاهُ أَن قَول الْقَائِل اضْرِب أَي
اكْتسب ضربا وَقَوله طلق أَي أوقع طَلَاقا وَهَذِه صِيغَة فَرد
فَلَا تحْتَمل الْجمع وَلَا توجبه وَفِي التّكْرَار وَالْعدَد
جمع لَا محَالة والمغايرة بَين الْجمع والفرد على سَبِيل
المضادة فَكَمَا أَن صِيغَة الْجمع لَا تحْتَمل الْفَرد
حَقِيقَة فَكَذَا صِيغَة الْفَرد لَا تحْتَمل الْجمع حَقِيقَة
بِمَنْزِلَة الِاسْم الْفَرد نَحْو قَوْلنَا زيد لَا يحْتَمل
الْجمع وَالْعدَد فالبعض مِمَّا تتناوله هَذِه الصِّيغَة فَرد
صُورَة وَمعنى وكل فَرد من حَيْثُ الْجِنْس معنى فَإنَّك إِذا
قابلت هَذَا الْجِنْس بِسَائِر الْأَجْنَاس كَانَ جِنْسا
وَاحِدًا وَهُوَ جمع صُورَة فَعِنْدَ عدم النِّيَّة لَا
يتَنَاوَل إِلَّا الْفَرد صُورَة وَمعنى وَلَكِن فِيهِ
احْتِمَال الْكل لكَون ذَلِك فَردا معنى بِمَنْزِلَة
الْإِنْسَان فَإِنَّهُ فَرد لَهُ أَجزَاء وأبعاض وَالطَّلَاق
أَيْضا فَرد جِنْسا وَله أَجزَاء وأبعاض فتعمل نِيَّة الْكل
فِي الْإِيقَاع وَلَا تعْمل نِيَّة الثِّنْتَيْنِ أصلا
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ معنى الفردية صُورَة وَلَا معنى فَلم
يكن من محتملات الْكَلَام أصلا وعَلى هَذَا الأَصْل تخرج
أَسمَاء الْأَجْنَاس مَا يكون مِنْهَا فَردا صُورَة أَو حكما
أما الصُّورَة فكالماء وَالطَّعَام إِذا حلف لَا يشرب مَاء أَو
لَا يَأْكُل طَعَاما يَحْنَث بِأَدْنَى مَا يتَنَاوَلهُ
الِاسْم على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نوى ذَلِك لم يَحْنَث
أصلا
وَلَو نوى مِقْدَارًا من ذَلِك لم تعْمل نِيَّته لخلو
الْمَنوِي عَن صِيغَة الفردية صُورَة وَمعنى والفرد حكما كاسم
النِّسَاء إِذا حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء فَهَذِهِ صِيغَة
الْجمع وَلَكِن جعلت عبارَة عَن الْجِنْس مجَازًا لأَنا لَو
جعلناها جمعا لم يبْق لحرف اللَّام الَّذِي هُوَ للمعهود فِيهِ
فَائِدَة وَلَو جَعَلْنَاهُ جِنْسا كَانَ حرف الْعَهْد فِيهِ
مُعْتَبرا فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الْمَعْهُود من ذَلِك الْجِنْس
وَيبقى معنى الْجمع مُعْتَبرا فِيهِ أَيْضا بِاعْتِبَار
الْجِنْس فَيتَنَاوَل أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْجِنْس
على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ وعَلى
هَذَا لَو حلف لَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم بني آدم أَو
وكل وَكيلا بِأَن يَشْتَرِي لَهُ الثِّيَاب فَإِن التَّوْكِيل
صَحِيح بِخِلَاف مَا لَو وَكله بِأَن يَشْتَرِي لَهُ أثوابا
على مَا بَيناهُ فِي الزِّيَادَات
(1/24)
وَحكي عَن عِيسَى بن أبان رَحمَه الله أَنه
كَانَ يَقُول صِيغَة مُطلق الْأَمر فِيمَا لَهُ نِهَايَة
مَعْلُومَة تحْتَمل التّكْرَار وَإِن كَانَ لَا يُوَجه إِلَّا
بِالدَّلِيلِ وَفِيمَا لَيست لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة لَا
تحْتَمل التّكْرَار لِأَن فِيمَا لَا نِهَايَة لَهُ يعلم
يَقِينا أَن الْمُخَاطب لم يرد الْكل فَإِن ذَلِك لَيْسَ فِي
وسع الْمُخَاطب وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته وَهَذَا
نَحْو قَوْله صم وصل فَلَيْسَ لهَذَا الْجِنْس من الْفِعْل
نِهَايَة مَعْلُومَة وَإِنَّمَا يعجز العَبْد عَن إِقَامَته
بِمَوْتِهِ فَعرفنَا يَقِينا أَن المُرَاد بِهَذَا الْخطاب
الْفَرد مِنْهُ خَاصَّة وَأما فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة
كَالطَّلَاقِ وَالْعدة فَالْكل من محتملات الْخطاب وَذَلِكَ
تَارَة يكون بتكرار التَّطْلِيق وَتارَة يكون بِالْجمعِ بَين
التطليقات فِي اللَّفْظ فَيكون صِيغَة الْكَلَام مُحْتملا لَهُ
كُله
وَخرج على هَذَا الأَصْل قَول الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق
للسّنة أَو للعدة فَإِنَّهُ يحْتَمل نِيَّة الثَّلَاث فِي
الْإِيقَاع جملَة وَاحِدَة وَنِيَّة التّكْرَار فِي أَن
يَنْوِي وُقُوع كل تَطْلِيقَة فِي طهر على حِدة
وَفِيمَا قَرَّرْنَاهُ من الْكَلَام دَلِيل على ضعف مَا ذهب
إِلَيْهِ إِذا تَأَمَّلت
وَالْكَلَام فِي مُقْتَضى صِيغَة الْفَرد دون مَا إِذا قرن
بِهِ مَا يدل على التَّغْيِير من قَوْله للسّنة أَو للعدة
وَاسْتدلَّ الْجَصَّاص رَحمَه الله على بطلَان قَول من يَقُول
إِن مُطلق صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِي التّكْرَار فَقَالَ
بالامتثال مرّة وَاحِدَة يستجيز كل أحد أَن يَقُول إِنَّه
أَتَى بالمأمور بِهِ وَخرج عَن مُوجب الْأَمر وَكَانَ مصيبا
فِي ذَلِك فَلَو كَانَ مُوجبه التّكْرَار لَكَانَ آتِيَا
بِبَعْض الْمَأْمُور بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول فَإِذا
أَتَى بِهِ ثَانِيًا وثالثا يُقَال أَيْضا فِي الْعَادة أَتَى
بالمأمور بِهِ لِأَن قَائِل هَذَا لَا يكون مصيبا فِي ذَلِك
فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْمُخَاطب فِي الْمرة الثَّانِيَة
مُتَطَوّع من عِنْده بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ لَا أَن
يكون آتِيَا بالمأمور بِهِ بِمَنْزِلَة الْمُصَلِّي أَربع
رَكْعَات فِي الْوَقْت بعد صَلَاة الظّهْر يكون مُتَطَوعا
بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ إِلَّا أَن الَّذِي يُسَمِّيه
آتِيَا بالمأمور بِهِ إِنَّمَا يُسَمِّيه بذلك توسعا ومجازا
فَلهَذَا لَا نُسَمِّيه كَاذِبًا وَالله أعلم
(1/25)
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حكم
الْوَقْت
الْأَمر نَوْعَانِ مُطلق عَن الْوَقْت ومقيد بِهِ فنبدأ
بِبَيَان الْمُطلق قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَصح
عِنْدِي فِيهِ من مَذْهَب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله أَنه على
التَّرَاخِي فَلَا يثبت حكم وجوب الْأَدَاء على الْفَوْر
بِمُطلق الْأَمر نَص عَلَيْهِ فِي الْجَامِع فَقَالَ فِيمَن
نذر أَن يعْتَكف شهرا يعْتَكف أَي شهر شَاءَ وَكَذَلِكَ لَو
نذر أَن يَصُوم شهرا
وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَاجِب بِمُطلق الْأَمر
وَفِي كتاب الصَّوْم أَشَارَ فِي قَضَاء رَمَضَان إِلَى أَنه
يقْضِي مَتى شَاءَ وَفِي الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر
الْمَذْهَب مَعْلُوم فِي أَنه لَا يصير مفرطا بِتَأْخِير
الْأَدَاء وَأَن لَهُ أَن يبْعَث بهَا إِلَى فُقَرَاء قرَابَته
فِي بَلْدَة أُخْرَى
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول مُطلق
الْأَمر يُوجب الْأَدَاء على الْفَوْر وَهُوَ الظَّاهِر من
مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فقد ذكر فِي كِتَابه إِنَّا
استدللنا بِتَأْخِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْحَج مَعَ الْإِمْكَان على أَن وقته موسع وَهَذَا مِنْهُ
إِشَارَة إِلَى أَن مُوجب مُطلق الْأَمر على الْفَوْر حَتَّى
يقوم الدَّلِيل
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُول هُوَ مَوْقُوف على
الْبَيَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا ينبىء عَن
الْوَقْت فَيكون مُجملا فِي حَقه وَهَذَا فَاسد جدا فَإِنَّهُم
يوافقونا على ثُبُوت أصل الْوَاجِب بِمُطلق الْأَمر وَذَلِكَ
يُوجب الْأَدَاء عِنْد الْإِمْكَان وَلَا إِمْكَان إِلَّا
بِوَقْت فَثَبت بِدَلِيل الْإِشَارَة إِلَى الْوَقْت بِهَذَا
الطَّرِيق
ثمَّ بِهَذَا الْكَلَام يسْتَدلّ الْكَرْخِي فَيَقُول وَقت
الْأَدَاء ثَابت بِمُقْتَضى الْحَال وَمُقْتَضى الْحَال دون
مُقْتَضى اللَّفْظ وَلَا عُمُوم لمقْتَضى اللَّفْظ فَكَذَلِك
لَا عُمُوم لما ثَبت بِمُقْتَضى الْحَال وَأول أَوْقَات
إِمْكَان الْأَدَاء مُرَاد بالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَو أدّى
فِيهِ كَانَ ممتثلا لِلْأَمْرِ فَلَا يثبت مَا بعده مرَادا
إِلَّا بِدَلِيل يُوضحهُ أَن التَّخْيِير يَنْتَفِي بِمُطلق
الْأَمر بَين الْأَدَاء وَالتّرْك
(1/26)
فَيثبت هَذَا الحكم وَهُوَ انْتِفَاء
التَّخْيِير فِي أول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء كَمَا ثَبت
حكم الْوُجُوب والتفويت حرَام بالِاتِّفَاقِ وَفِي هَذَا
التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أيقدر على
الْأَدَاء فِي الْوَقْت الثَّانِي أَو لَا يقدر وبالاحتمال
الثَّانِي لَا يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء على وَجه يكون
مُعَارضا للمتيقن بِهِ فَيكون تَأْخِيره عَن أول أَوْقَات
الْإِمْكَان تفويتا وَلِهَذَا اسْتحْسنَ ذمه على ذَلِك إِذا
عجز عَن الْأَدَاء وَلِأَن الْأَمر بِالْأَدَاءِ يفيدنا الْعلم
بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء وَتلك الْمصلحَة تخْتَلف
باخْتلَاف الْأَوْقَات وَلِهَذَا جَازَ النّسخ فِي الْأَمر
وَالنَّهْي وبمطلق الْأَمر يثبت الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي
الْأَدَاء فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان وَلَا يثبت
الْمُتَيَقن بِهِ فِيمَا بعده
ثمَّ الْمُتَعَلّق بِالْأَمر اعْتِقَاد الْوُجُوب وَأَدَاء
الْوَاجِب وَأَحَدهمَا وَهُوَ الِاعْتِقَاد يثبت بِمُطلق
الْأَمر للْحَال فَكَذَلِك الثَّانِي وَاعْتبر الْأَمر
بِالنَّهْي والانتهاء الْوَاجِب بِالنَّهْي يثبت على الْفَوْر
فَكَذَلِك الائتمار الْوَاجِب بِالْأَمر
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن قَول الْقَائِل لعَبْدِهِ افْعَل
كَذَا السَّاعَة يُوجب الائتمار على الْفَوْر وَهَذَا أَمر
مُقَيّد وَقَوله افْعَل مُطلق وَبَين الْمُطلق والمقيد
مُغَايرَة على سَبِيل الْمُنَافَاة فَلَا يجوز أَن يكون حكم
الْمُطلق مَا هُوَ حكم الْمُقَيد فِيمَا يثبت التَّقْيِيد بِهِ
لِأَن فِي ذَلِك إِلْغَاء صفة الْإِطْلَاق وَإِثْبَات
التَّقْيِيد من غير دَلِيل فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا
يدل على التَّقْيِيد فِي وَقت الْأَدَاء فإثباته يكون زِيَادَة
وَهُوَ نَظِير تَقْيِيد الْمحل فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ تصدق
بِهَذَا الدِّرْهَم على أول فَقير يدْخل يلْزمه أَن يتَصَدَّق
على أول من يدْخل إِذا كَانَ فَقِيرا وَلَو قَالَ تصدق بِهَذَا
الدِّرْهَم لم يلْزمه أَن يتَصَدَّق بِهِ على أول فَقير يدْخل
وَكَانَ لَهُ أَن يتَصَدَّق بِهِ على أَي فَقير شَاءَ لِأَن
الْأَمر مُطلق فتعيين الْمحل فِيهِ يكون زِيَادَة وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ أَنه يتَحَقَّق الِامْتِثَال بِالْأَدَاءِ فِي أَي
جُزْء عينه من أَوْقَات الْإِمْكَان فِي عمره وَلَو تعين
للْأَدَاء الْجُزْء الأول لم يكن ممتثلا بِالْأَدَاءِ بعده
وَفِي اتِّفَاق الْكل
(1/27)
على أَنه مؤدي الْوَاجِب مَتى أَدَّاهُ
إِيضَاح لما قُلْنَا
وَبِهَذَا تبين فَسَاد مَا قَالَ إِن الْمصلحَة فِي الْأَدَاء
غير مَعْلُوم إِلَّا فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان فَإِن
الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وامتثال الْأَمر لَا يحصل إِلَّا
بِهِ أَلا ترى أَن بعد الانتساخ لَا يبْقى ذَلِك فَعرفنَا أَن
بِمُطلق الْأَمر يصير معنى الْمصلحَة فِي الْأَدَاء مَعْلُوما
لَهُ فِي أَي جُزْء أَدَّاهُ من عمره مَا لم يظْهر ناسخه
والتفويت حرَام كَمَا قَالَ إِلَّا أَن الْفَوات لَا يتَحَقَّق
إِلَّا بِمَوْتِهِ وَلَيْسَ فِي مُجَرّد التَّأْخِير تَفْوِيت
لِأَنَّهُ مُتَمَكن من الْأَدَاء فِي كل جُزْء يُدْرِكهُ من
الْوَقْت بعد الْجُزْء الأول حسب تمكنه فِي الْجُزْء الأول
وَمَوْت الْفجأَة نَادِر وَبِنَاء الْأَحْكَام على الظَّاهِر
دون النَّادِر
فَإِن قيل فوقت الْمَوْت غير مَعْلُوم لَهُ وبالإجماع بعد
التَّمَكُّن من الْأَدَاء إِذا لم يؤد حَتَّى مَاتَ يكون مفرطا
مفوتا آثِما فِيمَا صنع فبه يتَبَيَّن أَنه لَا يَسعهُ
التَّأْخِير
قُلْنَا الْوُجُوب ثَابت بعد الْأَمر وَالتَّأْخِير فِي
الْأَدَاء مُبَاح لَهُ بِشَرْط أَن لَا يكون تفويتا وَتَقْيِيد
الْمُبَاح بِشَرْط فِيهِ خطر مُسْتَقِيم فِي الشَّرْع كالرمي
إِلَى الصَّيْد مُبَاح بِشَرْط أَن لَا يُصِيب آدَمِيًّا
وَهَذَا لِأَنَّهُ مُتَمَكن من ترك هَذَا التَّرَخُّص
بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يُنكر كَونه مَنْدُوبًا للمسارعة إِلَى
الْأَدَاء
قَالَ الله تَعَالَى {فاستبقوا الْخيرَات} فَقُلْنَا بِأَنَّهُ
يتَمَكَّن من الْبناء على الظَّاهِر من التَّأْخِير مَا دَامَ
يَرْجُو أَن يبْقى حَيا عَادَة وَإِن مَاتَ كَانَ مفرطا لتمكنه
من ترك التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ
ثمَّ هَذَا الحكم إِنَّمَا يثبت فِيمَا لَا يكون مُسْتَغْرقا
لجَمِيع الْعُمر فَأَما مَا يكون مُسْتَغْرقا لَهُ فَلَا
يتَحَقَّق فِيهِ هَذَا الْمَعْنى واعتقاد الْوُجُوب مُسْتَغْرق
جَمِيع الْعُمر وَكَذَلِكَ الِانْتِهَاء الَّذِي هُوَ مُوجب
النَّهْي يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر
فَأَما أَدَاء الْوَاجِب فَلَا يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر فَلَا
يتَعَيَّن للْأَدَاء جُزْء من الْعُمر إِلَّا بِدَلِيل فَإِن
جَمِيع الْعُمر فِي أَدَاء هَذَا الْوَاجِب كجميع وَقت
الصَّلَاة لأَدَاء الصَّلَاة وَهُنَاكَ لَا يتَعَيَّن الْجُزْء
الأول من الْوَقْت للْأَدَاء فِيهِ على وَجه لَا يَسعهُ
التَّأْخِير عَنهُ فَكَذَلِك هَهُنَا
وَمن أَصْحَابنَا من جعل هَذَا الْفَصْل على الْخلاف
الْمَشْهُور بَين أَصْحَابنَا فِي الْحَج
(1/28)
أَنه على الْفَوْر أم على التَّرَاخِي
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا غلط من قَائِله
فَالْأَمْر بأَدَاء الْحَج لَيْسَ بِمُطلق بل هُوَ موقت بأشهر
الْحَج وَهِي شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة
وَقد بَينا أَن الْمُطلق غير الْمُقَيد بِوَقْت وَلَا خلاف أَن
وَقت أَدَاء الْحَج أشهر الْحَج
ثمَّ قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تتَعَيَّن أشهر الْحَج من
السّنة الأولى للْأَدَاء إِذا تمكن مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّد
رَحمَه الله لَا تتَعَيَّن ويسعه التَّأْخِير وَعَن أبي حنيفَة
رَضِي الله عَنهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ ف مُحَمَّد يَقُول الْحَج
فرض الْعُمر وَوقت أَدَائِهِ أشهر الْحَج من سنة من سني
الْعُمر وَهَذَا الْوَقْت متكرر فِي عمر الْمُخَاطب فَلَا يجوز
تعْيين أشهر الْحَج من السّنة الأولى إِلَّا بِدَلِيل
وَالتَّأْخِير عَنْهَا لَا يكون تفويتا بِمَنْزِلَة تَأْخِير
قَضَاء رَمَضَان
وَتَأْخِير صَوْم الشَّهْرَيْنِ فِي الْكَفَّارَة فالأيام
والشهور تَتَكَرَّر فِي الْعُمر وَلَا يكون مُجَرّد
التَّأْخِير فِيهَا تفويتا فَكَذَلِك الْحَج أَلا ترى أَنه
مَتى أدّى كَانَ مُؤديا للْمَأْمُور
وَأَبُو يُوسُف يَقُول أشهر الْحَج من السّنة الأولى بعد
الْإِمْكَان مُتَعَيّن الْأَدَاء لِأَنَّهُ فَرد فِي هَذَا
الحكم لَا مُزَاحم لَهُ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّعَارُض
وينعدم التَّعْيِين بِاعْتِبَار الْمُزَاحمَة وَلَا يدْرِي
أَنه هَل يبْقى إِلَى السّنة الثَّانِيَة ليَكُون أشهر الْحَج
مِنْهَا من جملَة عمره أم لَا وَمَعْلُوم أَن الْمُحْتَمل لَا
يُعَارض المتحقق فَإِذا ثَبت انْتِفَاء الْمُزَاحمَة كَانَت
هَذِه الْأَشْهر متعينة للْأَدَاء فالتأخير عَنْهَا يكون
تفويتا كتأخيرة الصَّلَاة عَن الْوَقْت وَالصَّوْم عَن
الشَّهْر إِلَّا أَنه إِذا بَقِي حَيا إِلَى أشهر الْحَج من
السّنة الثَّانِيَة فقد تحققت الْمُزَاحمَة الْآن وَتبين أَن
الأولى لم تكن متعينة فَلهَذَا كَانَ مُؤديا فِي السّنة
الثَّانِيَة وَقَامَ أشهر الْحَج من هَذِه السّنة مقَام الأولى
فِي التَّعْيِين لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الْأَدَاء فِي وَقت
مَاض وَلَا يدْرِي أيبقى بعد هَذَا أم لَا وَهَذَا بِخِلَاف
الْأَمر الْمُطلق فبالتأخير عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان لَا
يَزُول تمكنه من الْأَدَاء هُنَاكَ وَهَهُنَا يَزُول تمكنه من
الْأَدَاء بِمُضِيِّ يَوْم عَرَفَة إِلَى أَن يدْرك هَذَا
الْيَوْم من السّنة الثَّانِيَة وَلَا يدْرِي أيدركه أم لَا
وَبِخِلَاف قَضَاء رَمَضَان فتأخيره عَن الْيَوْم الأول لَا
يكون تفويتا أَيْضا لتمكنه مِنْهُ فِي الْيَوْم الثَّانِي
وَلَا يُقَال بمجيء اللَّيْل يَزُول تمكنه ثمَّ لَا يدْرِي
أيدرك الْيَوْم الثَّانِي أم لَا لِأَن الْمَوْت فِي لَيْلَة
وَاحِدَة قبل
(1/29)
ظُهُور علاماته يكون فَجْأَة وَهُوَ نَادِر
وَلَا يبْنى الحكم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يبْنى على الظَّاهِر
بِمَنْزِلَة موت الْمَفْقُود فَإِنَّهُ إِذا لم يبْق أحد من
أقرانه حَيا يحكم بِمَوْتِهِ بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَن
بَقَاءَهُ بعد موت أقرانه نَادِر فَأَما مَوته فِي سنة لَا
يكون نَادرا فَيثبت احْتِمَال الْمَوْت والحياة فِي هَذِه
الْمدَّة على السوَاء فَلهَذَا كَانَ التَّأْخِير تفويتا وعَلى
هَذَا صَوْم الْكَفَّارَة وَالتَّأْخِير هُنَاكَ لَا يكون
تفويتا لِأَن تمكنه من الْأَدَاء لَا يَزُول بِمُضِيِّ بعض
الشُّهُور
فَأَما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الموقت فَإِنَّهُ يَنْقَسِم
على ثَلَاثَة أَقسَام فَالْأول مَا يكون الْوَقْت ظرفا
للْوَاجِب بِالْأَمر وَلَا يكون معيارا وَالثَّانِي مَا يكون
الْوَقْت معيارا لَهُ وَالثَّالِث مَا هُوَ مُشكل مشتبه
فنبدأ بِبَيَان الْقسم الأول وَذَلِكَ وَقت الصَّلَاة فَإِن
الله تَعَالَى قَالَ {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ
كتابا موقوتا} ثمَّ الْوَقْت يكون ظرفا للْأَدَاء وشرطا لَهُ
وسببا للْوُجُوب وَبَيَانه أَنه ظرف للْأَدَاء لصِحَّته فِي
أَي جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت أدّى وَهَذَا لِأَن الصَّلَاة
عبَادَة مَعْلُومَة بأركانها فَإِذا لم يطول أَرْكَانهَا يصير
مُؤديا فِي جُزْء قَلِيل من الْوَقْت فَإِذا طول مِنْهَا ركنا
يخرج الْوَقْت قبل أَن يصير مُؤديا لَهَا فَعرفنَا أَن
الْوَقْت لَيْسَ بمعيار وَلكنه ظرف للْأَدَاء وَهُوَ شَرط
أَيْضا
فالأداء إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْوَقْت وَالتَّأْخِير عَنهُ
يكون تفويتا وَمَعْلُوم أَن الْأَدَاء بأركان يتَحَقَّق من
الْمُؤَدِّي قبل خُرُوج الْوَقْت فَعرفنَا أَن خُرُوج الْوَقْت
مفوت بِاعْتِبَار أَنه يفوت بِهِ شَرط الْأَدَاء
وَبَيَان أَنه سَبَب للْوُجُوب أَنه لَا يجوز تَعْجِيلهَا قبله
وَأَن الْوَاجِب تخْتَلف صفته باخْتلَاف الْأَوْقَات فَهَذَا
عَلامَة كَون الْوَقْت سَببا لوُجُوبهَا فَأَما مَا هُوَ
الدَّلِيل على ذَلِك نذكرهُ فِي بَيَان أَسبَاب الشَّرَائِع
فِي مَوْضِعه ثمَّ لَا يُمكن جعل جَمِيع الْوَقْت سَببا
للْوُجُوب لِأَنَّهُ ظرف للْأَدَاء فَلَو جعل جَمِيع الْوَقْت
سَببا لحصل الْأَدَاء قبل وجود السَّبَب أَولا يتَحَقَّق
الْأَدَاء فِيمَا هُوَ ظرف للْأَدَاء فَإِن شُهُود جَمِيع
الْوَقْت لَا يكون إِلَّا بعد مُضِيّ الْوَقْت فَلَا بُد أَن
يَجْعَل جُزْء من الْوَقْت سَببا للْوُجُوب لِأَنَّهُ لَيْسَ
بَين الْكل والجزء الَّذِي هُوَ أدنى
(1/30)
مِقْدَار مَعْلُوم وَإِذا تقرر هَذَا
قُلْنَا الْجُزْء الأول من الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب فبإدراكه
يثبت حكم الْوُجُوب وَصِحَّة أَدَاء الْوَاجِب
هَذَا معنى مَا نقل عَن مُحَمَّد بن شُجَاع رَحمَه الله أَن
الصَّلَاة تجب بِأول جُزْء من الْوَقْت وجوبا موسعا وَهُوَ
الْأَصَح
وَأكْثر الْعِرَاقِيّين من مَشَايِخنَا يُنكرُونَ هَذَا
وَيَقُولُونَ الْوُجُوب لَا يثبت فِي أول الْوَقْت وَإِنَّمَا
يتَعَلَّق الْوُجُوب بآخر الْوَقْت ويستدلون على ذَلِك بِمَا
لَو حَاضَت الْمَرْأَة فِي آخر الْوَقْت فَإِنَّهَا لَا
يلْزمهَا قَضَاء تِلْكَ الصَّلَاة إِذا طهرت والمقيم إِذا
سَافر فِي آخر الْوَقْت يُصَلِّي صَلَاة الْمُسَافِرين وَلَو
ثَبت الْوُجُوب بِأول جُزْء من الْوَقْت لَكَانَ الْمُعْتَبر
حَاله عِنْد ذَلِك وَكَذَلِكَ لَو مَاتَ فِي الْوَقْت لَقِي
الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو ثَبت الْوُجُوب فِي أول
الْوَقْت لكَانَتْ الرُّخْصَة فِي التَّأْخِير بعد ذَلِك
مُقَيّدَة بِشَرْط أَلا يفوتهُ كَمَا بَينا فِي الْأَمر
الْمُطلق
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي صفة الْمُؤَدِّي فِي أول الْوَقْت
فَمنهمْ من يَقُول هُوَ نفل يمْنَع لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه
فِي آخر الْوَقْت إِذا كَانَ على صفة يلْزمه الْأَدَاء فِيهَا
بِحكم الْخطاب قَالَ لِأَنَّهُ يتَمَكَّن من ترك الْأَدَاء فِي
أول الْوَقْت لَا إِلَى بدل وَهَذَا حد النَّفْل وَلَكِن
بِأَدَائِهِ يحصل مَا هُوَ الْمَطْلُوب وَهُوَ إِظْهَار
فَضِيلَة الْوَقْت فَيمْنَع لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر
الْوَقْت أَو يُغير صفة ذَلِك الْمُؤَدِّي حِين أدْرك آخر
الْوَقْت بِمَنْزِلَة مصلي الظّهْر فِي بَيته يَوْم الْجُمُعَة
إِذا شهد الْجُمُعَة مَعَ الإِمَام تَتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى
قبلهَا فَيصير نفلا بعد أَن كَانَ فرضا وَهَذَا غلط بَين
فَإِنَّهُ لَا تتأدى لَهُ هَذِه الصَّلَاة إِلَّا بنية الظّهْر
وَالظّهْر اسْم للْفَرض دون النَّفْل وَلَو نوى النَّفْل كَانَ
مُؤديا للصَّلَاة وَلَا يمْنَع ذَلِك لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه
فِي آخر الْوَقْت وَلَا تَتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى إِلَى صفة
الْفَرْضِيَّة وَهَذَا لِأَن بِاعْتِبَار آخر الْوَقْت يجب
الْأَدَاء وَلَيْسَ لوُجُوب الْأَدَاء أثر فِي الْمُؤَدى فَكيف
يكون مغيرا صفة الْمُؤَدى وَمن يَقُول بِهَذَا القَوْل لَا يجد
بدا من أَن يَقُول إِذا أدّيت الْجُمُعَة فِي أول الْوَقْت
كَانَ الْمُؤَدى نفلا والتنفل بِالْجمعَةِ غير مَشْرُوع وَفِي
قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/31)
وَإِن أول وَقت الظّهْر حِين تَزُول
الشَّمْس مَا يبطل مَا قَالُوا لِأَن المُرَاد وَقت الْأَدَاء
وَوقت الْوُجُوب فعلى مَا قَالَ هَذَا الْقَائِل لَا يكون
هَذَا وَقت الْوُجُوب وَلَا وَقت أَدَاء الظّهْر فَهُوَ
مُخَالف للنَّص
وَمِنْهُم من قَالَ الْمُؤَدى فِي أول الْوَقْت مَوْقُوف على
مَا يظْهر من حَاله فِي آخر الْوَقْت وَهَكَذَا القَوْل فِي
الزَّكَاة إِذا عجلها قبل الْحول وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا
قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات إِذا عجل شَاة
أَرْبَعِينَ وَدفعهَا إِلَى السَّاعِي ثمَّ تمّ الْحول وَفِي
يَده ثَمَان وَثَلَاثُونَ فَلهُ أَن يسْتَردّ الْمَدْفُوع من
السَّاعِي وَإِن كَانَ السَّاعِي تصدق بِهِ كَانَ تَطَوّعا
لَهُ وَلَو تمّ الْحول وَفِي يَده تسع وَثَلَاثُونَ وَجَبت
عَلَيْهِ الزَّكَاة إِذا كَانَ الْمُؤَدى قَائِما فِي يَد
السَّاعِي بِعَيْنِه وَجَاز عَن الزَّكَاة وَهَذَا ضَعِيف
أَيْضا فالأداء لَا يَصح إِلَّا بنية الظّهْر وَالظّهْر اسْم
للْفَرض خَاصَّة وَلَو نوى الْفَرْض صحت نِيَّته وَلَو نوى
النَّفْل لم تصح نِيَّته فِي حق أَدَاء الْفَرِيضَة فَلَو
كَانَ حكم الْمُؤَدى التَّوَقُّف لاستوت فِيهِ النيتان ولتأدى
بِمُطلق نِيَّة الصَّلَاة وَالْقَوْل بالتوقف فِي فعل قد
أَمْضَاهُ لَا يكون قَوِيا فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة جَمِيعًا
وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول الْمُؤَدى فرض على أَن
يكون الْوُجُوب مُتَعَلقا بآخر الْوَقْت أَو بِالْفِعْلِ لِأَن
الْوُجُوب إِنَّمَا لَا يثبت بِأول الْوَقْت لِانْعِدَامِ
الدَّلِيل الْمعِين لذَلِك الْجُزْء فِي كَونه سَببا وبفعل
الْأَدَاء يحصل التَّعْيِين فَيكون الْمُؤَدى وَاجِبا
بِمَنْزِلَة مَا لَو بَاعَ قَفِيزا من صبرَة يتَعَيَّن البيع
فِي قفيز بِالتَّسْلِيمِ وَلَو أدّى شَاة من أَرْبَعِينَ فِي
الزَّكَاة يتَعَيَّن الْمُؤَدى وَاجِبا بِالْأَدَاءِ والحانث
بِالْيَمِينِ إِذا كفر بِأحد الْأَشْيَاء يتَعَيَّن ذَلِك
وَاجِبا بِأَدَائِهِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة رُجُوع إِلَى مَا
قُلْنَا فَفِي هَذِه الْفُصُول الْوُجُوب ثَابت بِأَصْل
السَّبَب قبل تعين الْوَاجِب بِالْأَدَاءِ فَكَذَلِك هُنَا
الْوُجُوب ثَابت بِإِدْرَاك الْجُزْء الأول من الْوَقْت
وَالتَّعْيِين يحصل بِالْأَدَاءِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن
إِثْبَات حكم الْوُجُوب بعد الْأَدَاء مَقْصُورا على الْحَال
لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب على الْمَرْء مَا يَفْعَله لَا مَا قد
فعله وَإِذا تقدم الْوُجُوب على الْفِعْل ضَرُورَة يتَحَقَّق
بِهِ مَا قُلْنَا إِن الْوُجُوب وَصِحَّة الْأَدَاء يثبت
بالجزء الأول من الْوَقْت
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما تقرر الْوُجُوب لزمَه
الْأَدَاء على وَجه لَا يتَغَيَّر بِتَغَيُّر حَاله بعد ذَلِك
بِعَارِض من حيض أَو سفر وَقُلْنَا
(1/32)
نَحن الْأَدَاء إِنَّمَا يجب بِالطَّلَبِ
أَلا ترى أَن الرّيح إِذا هبت بِثَوْب إِنْسَان وألقته فِي حجر
غَيره فالثوب ملك لصَاحبه وَلَا يجب على من فِي حجره أَدَاؤُهُ
إِلَيْهِ قبل طلبه لِأَن حُصُوله فِي حجره كَانَ بِغَيْر صنعه
فَكَذَلِك هَهُنَا الْوُجُوب تسببه كَانَ جبرا إِذْ لَا صنع
للْعَبد فِيهِ فَإِنَّمَا يلْزمه أَدَاء الْوُجُوب عِنْد طلب
من لَهُ الْحق وَقد خَيره من لَهُ الْحق فِي الْأَدَاء مَا لم
يتضيق الْوَقْت يقرره أَن وجوب الْأَدَاء لَا يتَّصل بِثُبُوت
حكم الْوُجُوب لَا محَالة فَإِن البيع بِثمن مُؤَجل يُوجب
الثّمن فِي الْحَال إِذْ لَو كَانَ وجوب الثّمن مُتَأَخِّرًا
إِلَى مُضِيّ الْأَجَل لم يَصح البيع ثمَّ وجوب الْأَدَاء يكون
مُتَأَخِّرًا إِلَى حُلُول الْأَجَل فههنا أَيْضا وجوب
الْأَدَاء يتَأَخَّر إِلَى توجه الْمُطَالبَة وَذَلِكَ
بِاعْتِبَار استطاعة تكون مَعَ الْفِعْل فَقبل فعل الْأَدَاء
لم تثبت الْمُطَالبَة على وَجه يَنْقَطِع بِهِ الْخِيَار
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ فِي
جَمِيع الْوَقْت يثبت حكم الْوُجُوب فِي حَقّهمَا ثمَّ الْخطاب
بِالْأَدَاءِ يتَأَخَّر إِلَى مَا بعد الانتباه والإفاقة
وَالْحَاصِل أَنه يتَعَيَّن للسَّبَبِيَّة الْجُزْء الَّذِي
يتَّصل بِهِ الْأَدَاء من الْوَقْت فَإِن اتَّصل بالجزء الأول
كَانَ هُوَ السَّبَب وَإِلَّا تنْتَقل السَّبَبِيَّة إِلَى آخر
الْجُزْء الثَّانِي ثمَّ إِلَى الثَّالِث هَكَذَا لمعنيين
أَحدهمَا أَن فِي الْمُجَاوزَة عَن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل
بِهِ الْأَدَاء فِي جعله سَببا لَا ضَرُورَة وَلَيْسَ بَين
الْأَدْنَى وَالْكل مِقْدَار يُمكن الرُّجُوع إِلَيْهِ
وَالثَّانِي أَنه إِذا لم يتَّصل الْأَدَاء بالجزء الَّذِي
تتَعَيَّن بِهِ السَّبَبِيَّة يكون تفويتا كَمَا إِذا لم
يتَّصل الْأَدَاء بالجزء الْأَخير من الْوَقْت يكون تفويتا
حَتَّى يصير دينا فِي الذِّمَّة وَلَا وَجه لجعله مفوتا مَا
بَقِي الْوَقْت لِأَن الشَّرْع خَيره فِي الْأَدَاء فَعرفنَا
أَن هَذَا الْمَعْنى تَخْيِير لَهُ فِي نقل السَّبَبِيَّة من
جُزْء إِلَى جُزْء مَا بَقِي الْوَقْت وَاسِعًا يبْقى هَذَا
الْخِيَار لَهُ فَلَا يكون مفرطا وَلِهَذَا لَا يلْزمه شَيْء
إِذا مَاتَ وَلَا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة لِأَن الِانْتِقَال
يتَحَقَّق فِي حَقّهَا لبَقَاء خِيَارهَا والجزء الَّذِي
تُدْرِكهُ من الْوَقْت بعد الْحيض لَا يُوجب عَلَيْهَا
الصَّلَاة والجزء الَّذِي يُدْرِكهُ الْمُسَافِر بَعْدَمَا
صَار مُسَافِرًا لَا يُوجب عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ
(1/33)
ثمَّ قَالَ زفر رَحمَه الله إِذا تضيق
الْوَقْت على وَجه لَا يفصل عَن الْأَدَاء تتَعَيَّن
السَّبَبِيَّة فِي ذَلِك الْجُزْء أَلا ترى أَنه يَنْقَطِع
خِيَاره وَلَا يَسعهُ التَّأْخِير بعد ذَلِك فَلَا يتَغَيَّر
بِمَا يعْتَرض بعد ذَلِك من سفر أَو مرض وَقُلْنَا نَحن
إِنَّمَا لَا يَسعهُ التَّأْخِير كي لَا يفوت شَرط الْأَدَاء
وَهُوَ الْوَقْت على مَا بَينا أَن الْوَقْت ظرف للْأَدَاء
وَمَا بعده من آخر الْوَقْت صَالح لانتقال السَّبَبِيَّة
إِلَيْهِ فَيحصل الِانْتِقَال بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا
إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت فتتعين السَّبَبِيَّة
فِيهِ ضَرُورَة إِذا لم يبْق بعده مَا يحْتَمل انْتِقَال
السَّبَبِيَّة إِلَيْهِ فَيتَحَقَّق التفويت بمضيه وَيعْتَبر
صفة ذَلِك الْجُزْء وحاله عِنْد ذَلِك الْجُزْء حَتَّى إِذا
كَانَت حَائِضًا لَا يلْزمهَا الْقَضَاء وَإِذا طهرت عَن
الْحيض عِنْد ذَلِك الْجُزْء وأيامها عشرَة تلزمها الصَّلَاة
نَص عَلَيْهِ فِي نَوَادِر أبي سُلَيْمَان فَإِذا أسلم
الْكَافِر أَو أدْرك الصَّبِي عِنْد ذَلِك الْجُزْء يلْزمهُمَا
الصَّلَاة وَإِذا كَانَ مُسَافِرًا عِنْد ذَلِك الْجُزْء
يلْزمه صَلَاة السّفر وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه إِذا طلعت
الشَّمْس وَهُوَ فِي خلال الْفجْر يفْسد الْفَرْض لِأَن
الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ طُلُوع الشَّمْس من الْوَقْت
سَبَب صَحِيح تَامّ فَثَبت الْوُجُوب بِصفة الْكَمَال فَلَا
يتَأَدَّى فِي الْأَدَاء مَعَ النُّقْصَان بِخِلَاف مَا إِذا
غربت الشَّمْس وَهُوَ فِي خلال صَلَاة الْعَصْر فَإِن الْجُزْء
الَّذِي يتَّصل بِهِ الْغُرُوب من الْوَقْت فِي الْمَعْنى
سَبَب فَاسد للنَّهْي الْوَارِد عَن الصَّلَاة بعد مَا تحمر
الشَّمْس فَيثبت الْوُجُوب مَعَ النُّقْصَان بِحَسب السَّبَب
وَقد وجد الْأَدَاء بِتِلْكَ الصّفة وَلَا يدْخل على هَذَا مَا
إِذا انْعَدم مِنْهُ الْأَدَاء أصلا ثمَّ أدّى فِي الْيَوْم
الثَّانِي بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس فَإِنَّهُ لَا يجوز
لِأَنَّهُ إِذا لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ حَتَّى مُضِيّ
الْوَقْت فَحكم السَّبَبِيَّة يكون مُضَافا إِلَى جَمِيع
الْوَقْت وَهُوَ سَبَب صَحِيح تَامّ وَإِنَّمَا يتَأَدَّى
بِصفة النُّقْصَان عِنْد ضعف السَّبَب إِذا لم يصر دينا فِي
الذِّمَّة واشتغاله بِالْأَدَاءِ يمْنَع صَيْرُورَته دينا فِي
ذمَّته فَأَما إِذا لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ حَتَّى تحقق
التفويت بِمُضِيِّ الْوَقْت صَار دينا فِي ذمَّته فَيثبت بِصفة
الْكَمَال وَهَذَا هُوَ الِانْفِصَال عَن الْإِشْكَال الَّذِي
يُقَال على هَذَا وَهُوَ مَا إِذا أسلم الْكَافِر بَعْدَمَا
احْمَرَّتْ الشَّمْس وَلم يصل ثمَّ أَدَّاهَا فِي الْيَوْم
(1/34)
الثَّانِي بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس
فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ مَعَ تمكن النُّقْصَان فِي
السَّبَبِيَّة إِذا مضى الْوَقْت صَار الْوَاجِب دينا فِي
ذمَّته بِصفة الْكَمَال
وَمَا ذهب إِلَيْهِ زفر ضَعِيف فَإِن من تذكر صَلَاة الظّهْر
وَقد بَقِي إِلَى وَقت تغير الشَّمْس مِقْدَار مَا يُمكنهُ أَن
يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ يمْنَع من
الِاشْتِغَال بِالْأَدَاءِ وَإِن كَانَ وَقت التَّذَكُّر وقتا
للفائتة بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْأَدَاء قبل
تغير الشَّمْس وَإِذا تَغَيَّرت فَسدتْ صلَاته فَكَذَلِك عِنْد
تضيق الْوَقْت يُؤمر بِالْأَدَاءِ وَلَا يَسعهُ التَّأْخِير
لَا بِاعْتِبَار أَن السَّبَبِيَّة تتَعَيَّن فِي ذَلِك
الْجُزْء وَلَكِن ليتَمَكَّن من الْأَدَاء فِيمَا هُوَ ظرف
للْأَدَاء وَهُوَ الْوَقْت وَهَذَا التَّمَكُّن يفوت
بِالتَّأْخِيرِ بعْدهَا
وَمن حكم هَذَا الْوَقْت أَن التَّعْيِين لَا يثبت بقوله
حَتَّى لَو قَالَ عينت هَذَا الْجُزْء إِن لم يشْتَغل
بِالْأَدَاءِ بعده لَا يتَعَيَّن لِأَن خِيَاره لم يَنْقَطِع
وَله أَن يُؤَخر الْأَدَاء بعد هَذَا القَوْل وَالتَّعْيِين من
ضَرُورَة انْقِطَاع خِيَاره فِي نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء
إِلَى جُزْء وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بِفعل الْأَدَاء كالمكفر
إِذا قَالَ عينت الطَّعَام للتكفير بِهِ لَا يتَعَيَّن مَا لم
يُبَاشر التَّكْفِير بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن نقل
السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء تصرف فِي المشروعات
وَلَيْسَ ذَلِك إِلَى العَبْد لِأَن الشَّرْع لما خَيره فقد
جعل لَهُ هَذِه الْولَايَة فَيثبت لَهُ حق التَّصَرُّف
بِهَذِهِ الصّفة لِأَن الشَّرْع قد ولاه ذَلِك كَمَا ثَبت لَهُ
ولَايَة الْإِيجَاب فِيمَا كَانَ مَشْرُوعا غير وَاجِب بنذره
وَمن حكمه أَنه لَا يمْنَع صِحَة أَدَاء صَلَاة أُخْرَى فِيهِ
لِأَن الْوَقْت ظرف للْأَدَاء وللواجب أَرْكَان مَعْلُومَة
يُؤَدِّيهَا بمنافع هِيَ حَقه وَبعد الْوُجُوب بقيت
الْمَنَافِع حَقًا لَهُ أَيْضا فَكَانَ لَهُ أَن يتَصَرَّف
فِيهَا بِالصرْفِ إِلَى أَدَاء وَاجِب آخر بِمَنْزِلَة من دفع
ثوبا إِلَى خياط ليخيطه فِي هَذَا الْيَوْم فَإِنَّهُ يسْتَحق
على الْخياط إِقَامَة الْعَمَل وَلَا يتَعَذَّر عَلَيْهِ
خياطَة ثوب آخر فِي ذَلِك الْيَوْم لِأَن مَنَافِعه بقيت حَقًا
لَهُ بعد مَا اسْتحق عَلَيْهِ خياطَة الثَّوْب بِالْإِجَارَة
(1/35)
وَمن حكمه أَنه لَا يتَأَدَّى إِلَّا
بِالنِّيَّةِ لِأَن صرف مَا هُوَ حَقه من الْمَنَافِع إِلَى
أَدَاء الْوَاجِب عَلَيْهِ لَا يكون إِلَّا بِالنِّيَّةِ
وَمن حكمه اشْتِرَاط تعْيين النِّيَّة فِيهِ لِأَن مَنَافِعه
لما بقيت على صفة يصلح لأَدَاء فرض الْوَقْت وَغَيره من
الصَّلَوَات بهَا لم يتَعَيَّن فرض الْوَقْت مَا لم يُعينهُ
بِالنِّيَّةِ وَاشْتِرَاط تعْيين الْوَقْت لإصابة فرض الْوَقْت
حكم ثَبت شرعا فَلَا يسْقط ذَلِك بتقصير يكون من العَبْد فِي
الْأَدَاء حَتَّى إِذا تضيق الْوَقْت على وَجه لَا يسع إِلَّا
لأَدَاء الْفَرْض أَو لَا يسع لَهُ أَيْضا لَا يسْقط اعْتِبَار
نِيَّة التَّعْيِين فِيهِ بِهَذَا الْمَعْنى
وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ مَا يكون الْوَقْت معيارا لَهُ
كَصَوْم رَمَضَان لِأَن ركن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك ومقداره
لَا يعرف إِلَّا بوقته فَكَانَ الْوَقْت معيارا لَهُ
بِمَنْزِلَة الْكَيْل فِي المكيلات
وَمن حكمه أَن الْإِمْسَاك الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي
الْأَيَّام من شهر رَمَضَان لما تعين لأَدَاء الْفَرْض لم يبْق
غَيره مَشْرُوعا فِيهِ إِذْ لَا تصور لأَدَاء صَومينِ بإمساك
وَاحِد وَمَا يتَصَوَّر فِي هَذَا الْوَقْت لَا يفضل عَن
الْمُسْتَحق بِحَال فَلَا يكون غَيره مَشْرُوعا فِيهِ
مُسْتَحقّا وَلَا مُتَصَوّر الْأَدَاء شرعا
ثمَّ قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يَسْتَوِي فِي
هَذَا الحكم الْمُسَافِر والمقيم لِأَن وجوب صَوْم الشَّهْر
يثبت بِشُهُود الشَّهْر فِي حق الْمُسَافِر وَلِهَذَا صَحَّ
الْأَدَاء إِلَّا أَن الشَّرْع مكنه من التَّرَخُّص بِالْفطرِ
لدفع الْمَشَقَّة عَنهُ فَإِذا ترك التَّرَخُّص كَانَ هُوَ
والمقيم سَوَاء فَيكون صَوْمه عَن فرض رَمَضَان فتلغو نِيَّته
لتطوع أَو لواجب آخر
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول إِذا نوى الْمُسَافِر
وَاجِبا آخر صَحَّ صَوْمه عَمَّا نوى لِأَن انْتِفَاء صَوْم
آخر فِي هَذَا الزَّمَان لَيْسَ من حكم الْوُجُوب
وَاسْتِحْقَاق الْأَدَاء بمنافعه فَذَلِك مَوْجُود فِيمَا
كَانَ الْوَقْت ظرفا لَهُ بل هُوَ من حكم تعينه مُسْتَحقّا
للْأَدَاء فِيهِ وَلَا تعين فِي حق الْمُسَافِر فَهُوَ مُخَيّر
بَين الْأَدَاء أَو التَّأْخِير إِلَى عدَّة من أَيَّام أخر
فَلَا تَنْفِي صِحَة أَدَاء صَوْم آخر مِنْهُ بِهَذَا
الْإِمْسَاك وَلِأَن الْوُجُوب وَإِن ثَبت فِي حَقه وَلَكِن
التَّرَخُّص بِتَأْخِير أَدَاء الْوَاجِب ثَابت فِي حَقه
أَيْضا وَهُوَ مَا ترك التَّرَخُّص حِين
(1/36)
مَا صرف الْإِمْسَاك إِلَى مَا هُوَ دين
فِي ذمَّته فَإِن ذَلِك أهم عِنْده وَإِذا كَانَ هُوَ
بِالْفطرِ مترخصا لِأَن فِيهِ رفقا بِبدنِهِ فَلِأَن يكون فِي
صرفه إِلَى وَاجِب آخر مترخصا لِأَنَّهُ نظر مِنْهُ لدينِهِ
كَانَ أولى وعَلى الطَّرِيق الأول إِذا نوى النَّفْل كَانَ
صَائِما عَن النَّفْل وعَلى الطَّرِيق الثَّانِي يكون صَائِما
عَن الْفَرْض لِأَنَّهُ فِي نِيَّة النَّفْل لَا يكون مترخصا
بِالصرْفِ إِلَى مَا هُوَ الأهم وَفِيه رِوَايَتَانِ عَن أبي
حنيفَة رَحمَه الله
فَأَما الْمَرِيض إِذا صَامَ كَانَ صَوْمه عَن صَوْم رَمَضَان
وَإِن نوى عَن وَاجِب آخر أَو نوى النَّفْل لِأَن الرُّخْصَة
فِي حق الْمَرِيض إِنَّمَا تثبت إِذا تحقق عَجزه عَن أَدَاء
الصَّوْم وَإِذا صَامَ فقد انْعَدم دَلِيل سَبَب الرُّخْصَة
فِي حَقه فَكَانَ هُوَ كَالصَّحِيحِ وَأما الرُّخْصَة فِي حق
الْمُسَافِر بِاعْتِبَار سَبَب ظَاهر قَامَ مقَام الْعذر
الْبَاطِن وَهُوَ السّفر وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِم بِفعل
الصَّوْم فَيبقى لَهُ حق التَّرَخُّص وَهُوَ فِي نِيَّته
وَاجِبا آخر مترخص كَمَا بَيناهُ
وَقَالَ زفر رَحمَه الله وَلما تعين صَوْم الْفَرْض مَشْرُوعا
فِي هَذَا الزَّمَان وركن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك فَالَّذِي
يتَصَوَّر فِيهِ من الْإِمْسَاك مُسْتَحقّ الصّرْف إِلَيْهِ
فَلَا يتَوَقَّف الصِّحَّة على عَزِيمَة مِنْهُ بل على أَي
وَجه أَتَى بِهِ يكون من الْمُسْتَحق كمن اسْتَأْجر خياط 8
اليخيط لَهُ ثوبا بِعَيْنِه بِيَدِهِ فَسَوَاء خاطه على قَصده
الْإِعَانَة أَو غَيره يكون من الْوَجْه الْمُسْتَحق وَمن
عَلَيْهِ الزَّكَاة فِي نِصَاب بِعَيْنِه إِذا وهبه للْفَقِير
يكون مُؤديا لِلزَّكَاةِ وَإِن لم ينْو لهَذَا الْمَعْنى
وَلَكنَّا نقُول مَعَ تعين الصَّوْم مَشْرُوعا مَنَافِعه
الَّتِي تُوجد فِي الْوَقْت بَاقِيَة حَقًا لَهُ وَهُوَ
مَأْمُور بِأَن يُؤَدِّي بِمَا هُوَ حَقه مَا هُوَ مُسْتَحقّ
عَلَيْهِ من الْعِبَادَة وَذَلِكَ بأَدَاء يكون مِنْهُ على
اخْتِيَار فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك بِدُونِ الْعَزِيمَة
لِأَنَّهُ مَا لم يعزم على الصَّوْم لَا يكون صارفا مَاله
إِلَى مَا هُوَ مُسْتَحقّ عَلَيْهِ فَإِن عدم الْعَزْم لَيْسَ
بِشَيْء وَإِنَّمَا لَا يتَحَقَّق مِنْهُ صرف مَنَافِعه إِلَى
أَدَاء صَوْم آخر لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت
كَمَا لَا يتَحَقَّق مِنْهُ أَدَاء صَوْم بِاللَّيْلِ
لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِيهِ بِخِلَاف الْأَجِير فَفِي أجِير
الْوَاحِد الْمُسْتَحق مَنَافِعه بِعَيْنِه وَفِي الْأَجِير
الْمُشْتَرك الْمُسْتَحق هُوَ الْوَصْف
(1/37)
الَّذِي يحدث فِي الثَّوْب بِعَمَلِهِ
وَذَلِكَ لَا يتَوَقَّف على عزم يكون مِنْهُ وَبِخِلَاف
الزَّكَاة فالمستحق صرف جُزْء من المَال إِلَى الْمُحْتَاج
ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى وَقد تحقق ذَلِك
فالهبة صَارَت عبارَة عَن الصَّدَقَة فِي حَقه مجَازًا لِأَن
المبتغى بهَا وَجه الله تَعَالَى دون الْعِوَض من المصروف
إِلَيْهِ
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يتَحَقَّق صرف مَاله إِلَى مَا هُوَ
مَشْرُوع فِي الْوَقْت مُسْتَحقّا مَا لم يُعينهُ فِي عزيمته
لِأَن معنى الْقرْبَة مُعْتَبر فِي الصّفة كَمَا هُوَ مُعْتَبر
فِي الأَصْل فَكَمَا تشْتَرط عزيمته فِي أَدَاء أصل الصَّوْم
ليتَحَقَّق معنى الْعِبَادَة يشْتَرط ذَلِك فِي وَصفه ليَكُون
لَهُ اخْتِيَار فِي الصّفة كَمَا فِي الأَصْل وَمن قَالَ بنية
النَّفْل يصير مصيبا للمشروع فقد أبعد لِأَنَّهُ لَو اعْتقد
هَذِه الصّفة فِي الْمَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت كفر بربه
فَكيف يصير بِهَذِهِ الْعَزِيمَة مصيبا للمشروع وَلَكنَّا
نقُول لما كَانَ الْمَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت من الصَّوْم
الَّذِي يتَصَوَّر أَدَاؤُهُ مِنْهُ وَاحِدًا عينا كَانَ هُوَ
بِالْقَصْدِ إِلَى الصَّوْم مصيبا لَهُ فالواحد الْمعِين فِي
زمَان أَو مَكَان يصاب باسم جنسه كَمَا يصاب باسم نَوعه
وَكَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَة منا قولا بِمُوجب الْعلَّة أَن
تعْيين الْمُسْتَحق فِي الْعَزِيمَة لَا بُد مِنْهُ وَلَكِن
هَذَا التَّعْيِين يحصل بنية الصَّوْم لَا أَن نقُول
التَّعْيِين غير مُعْتَبر وَلَكِن لَا يشْتَرط عزيمته فِي
الْوَصْف مَقْصُودا لِأَن بعد وجود أصل الصَّوْم مِنْهُ فِي
هَذَا الزَّمَان لَا اخْتِيَار لَهُ فِي صفته وَلِهَذَا لَا
يتَصَوَّر أَدَاؤُهُ بِصفة أُخْرَى شرعا فَأَما إِذا نوى
النَّفْل فَهَذَا الْوَصْف من نِيَّته لَغْو لِأَن النَّفْل
غير مَشْرُوع فِيهِ كَمَا تلغو نِيَّة أَدَاء الصَّوْم فِي
اللَّيْل لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِيهِ وكما تلغو نِيَّة
الْفَرْض خَارج رَمَضَان مِمَّن لَا فرض عَلَيْهِ وَإِنَّمَا
يعْتَبر من نِيَّته عَزِيمَة أصل الصَّوْم وَهُوَ مَأْمُور
بِأَن يعْتَقد فِي صَوْم الْمَشْرُوع أَنه صَوْم فبه يكون
مصيبا للمشروع وعَلى هَذَا نقُول فِيمَن نذر الصَّوْم فِي وَقت
بِعَيْنِه خَارج رَمَضَان إِنَّه يتَأَدَّى مِنْهُ بِمُطلق
النِّيَّة وَنِيَّة النَّفْل لِأَن الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت
قبل نَذره عين وَهُوَ النَّفْل وَقد جعل لَهُ الشَّرْع ولَايَة
جعل الْمَشْرُوع وَاجِبا بنذره فبمطلق النِّيَّة يكون مصيبا
للمشروع وَهُوَ الْمَنْذُور بِعَيْنِه وَنِيَّة النَّفْل
مِنْهُ بعد النّذر لَغْو
(1/38)
لِأَنَّهُ لما صَار وَاجِبا بنذره لم يبْق
نفلا فِي حَقه فَأَما إِذا نوى وَاجِبا آخر كَانَ عَن ذَلِك
الْوَاجِب لِأَن الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت قبل نَذره كَانَ
صَالحا لأَدَاء وَاجِب آخر بِهِ إِذا صرفه إِلَيْهِ بعزمه
وَتلك الصلاحية لَا تنعدم بنذره لِأَن تصرف النَّاذِر صَحِيح
فِي مَحل حَقه وَذَلِكَ فِي جعل مَا كَانَ مَشْرُوعا لَهُ نفلا
وَاجِبا بنذره فَأَما نفي الصلاحية فَلَيْسَ من حَقه فِي شَيْء
فَلَا يعْتَبر تصرفه فِيهِ وَإِذا بقيت الصلاحية تأدي
الْوَاجِب الآخر بِهِ عِنْد عزمه بِخِلَاف شهر رَمَضَان فقد
انْتَفَى فِيهِ صَلَاحِية الْإِمْسَاك لأَدَاء صَوْم آخر سوى
الْفَرْض شرعا فتلغو نِيَّته لواجب آخر كَمَا تلغو نِيَّة
النَّفْل
وَقَالَ الشَّافِعِي صرف الْإِمْسَاك الَّذِي يتَصَوَّر مِنْهُ
فِي نَهَار رَمَضَان إِلَى صَوْم الْفَرْض مُسْتَحقّ عَلَيْهِ
من أول النَّهَار إِلَى آخِره وَلَا يتَحَقَّق هَذَا الصّرْف
إِلَّا بعزيمته فَإِذا انعدمت الْعَزِيمَة فِي أول النَّهَار
لم يكن ذَلِك الْجُزْء مصروفا إِلَى الصَّوْم وَهُوَ بالعزيمة
بعد ذَلِك إِنَّمَا يكون صارفا لما بَقِي لَا لما مضى
وَالصَّوْم مِنْهُ لَا يتَحَقَّق فِيمَا مضى وَلِهَذَا لَو نوى
بعد الزَّوَال لَا يَصح وَلَا صِحَة لما بَقِي بِدُونِ مَا مضى
أَلا ترى أَن الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الْفَرَائِض تشرط من أول
النَّهَار إِلَى آخِره فرجحت الْمُفْسد على الْمُصَحح إِذا
انعدمت النِّيَّة فِي أول النَّهَار أخذا بِالِاحْتِيَاطِ فِي
الْعِبَادَة بِخِلَاف النَّفْل فَهُوَ غير مُقَدّر شرعا وأداؤه
موكول إِلَى نشاطه فيتأدى بِقدر مَا يُؤَدِّيه مَعَ أَن
هُنَاكَ لَو رجحنا الْمُفْسد فَاتَهُ الْأَدَاء لَا إِلَى خلف
فرجحنا الْمُصَحح لكيلا يفوتهُ أصلا وَهَهُنَا يفوتهُ
الْأَدَاء إِلَى خلف وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا قدم النِّيَّة
فَإِن مَا تقدم مِنْهُ من الْعَزِيمَة يكون قَائِما حكما إِذا
جَاءَ وَقت الْأَدَاء وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَوله وَآخره
سَوَاء فتقترن الْعَزِيمَة بأَدَاء الْكل حكما أَلا ترى أَن
صَوْم
(1/39)
الْقَضَاء بِهِ يتَأَدَّى وَلَا يتَأَدَّى
بالعزيمة قبل الزَّوَال وَلَكنَّا نقُول مَا يتَأَدَّى بِهِ
هَذَا الصَّوْم فِي حكم شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل
التجزي فِي الْأَدَاء وبالاتفاق لَا يشْتَرط اقتران النِّيَّة
بأَدَاء جَمِيعه فَإِنَّهُ لَو أُغمي عَلَيْهِ بعد الشُّرُوع
فِي الصَّوْم يتَأَدَّى صَوْمه وَلَا يشْتَرط اقترانه بِأول
حَالَة الْأَدَاء فَإِنَّهُ لَو قدم النِّيَّة تأدى صَوْمه
وَإِن كَانَ غافلا عَنهُ عِنْد ابْتِدَاء الْأَدَاء
بِالنَّوْمِ فَأَما أَن يكون ابْتِدَاء حَال الصَّوْم فِي أَنه
يسْقط اعْتِبَار الْعَزِيمَة فِيهِ بِمَنْزِلَة الدَّوَام فِي
الصَّلَاة أَو يكون حَال الِابْتِدَاء مُعْتَبرا بِحَال
الدَّوَام وَكَانَ ذَلِك لدفع الْحَرج فوقت الشُّرُوع فِي
الْأَدَاء هَهُنَا مشتبه بحرج الْمَرْء فِي الانتباه فِي ذَلِك
الْوَقْت ثمَّ لَا ينْدَفع هَذَا الْحَرج بِجَوَاز تَقْدِيم
النِّيَّة فِي جنس الصائمين ففيهم صبي يبلغ وَمَجْنُون يفِيق
فِي آخر اللَّيْل وَفِي يَوْم الشَّك هُوَ مَمْنُوع من نِيَّة
الْفَرْض قبل أَن يتَبَيَّن وَنِيَّة النَّفْل عِنْده لَا
تتأدى إِذا تبين وَإِذا بَقِي معنى الْحَرج قُلْنَا لما صَحَّ
الْأَدَاء بنية مُتَقَدّمَة وَإِن لم تقارن حَالَة الشُّرُوع
وَلَا حَالَة الْأَدَاء فَلِأَن تصح بنية مُتَأَخِّرَة
لاقترانها بِمَا هُوَ ركن الْأَدَاء كَانَ أولى
وَتبين بِهَذَا أَن الْمَوْجُود من الْإِمْسَاك فِي أول
النَّهَار لم يتَعَيَّن للفطر لِأَنَّهُ بَقِي مُتَمَكنًا من
جعل الْبَاقِي صوما بعزيمته وَالْوَاحد الَّذِي لَا يتجزى فِي
حكم لَا ينْفَصل بعضه من بعض فَمن ضَرُورَة بَقَاء الْإِمْكَان
فِيمَا بَقِي بَقَاؤُهُ فِيمَا مضى حكما بِأَن تستند
الْعَزِيمَة إِلَيْهِ لتوقف الْإِمْسَاك عَلَيْهِ وَلَكِن
هَذَا إِذا وجدت الْعَزِيمَة فِي أَكثر الرُّكْن لِأَن
الْأَكْثَر بِمَنْزِلَة الْكَمَال من وَجه فَكَمَا أَنه مَا
بَقِي الْإِمْكَان فِي صرف جَمِيع الرُّكْن إِلَى مَا هُوَ
الْمُسْتَحق بعزيمته يبْقى حكم صِحَة الْأَدَاء فَكَذَلِك إِذا
بَقِي الْإِمْكَان فِي صرف أَكثر الرُّكْن إِلَى مَا هُوَ
الْمُسْتَحق عَلَيْهِ بعزيمته لِأَن الْكل من وَجه يجوز
إِقَامَته مقَام الْكل من جَمِيع الْوُجُوه حكما وَفِيه أَدَاء
الْعِبَادَة فِي وَقتهَا فَيكون
(1/40)
الْمصير إِلَيْهِ أولى من الْمصير إِلَى
التفويت لِانْعِدَامِ صفة الْكَمَال من جَمِيع الْوُجُوه
وَهَذَا التَّرْجِيح أولى من التَّرْجِيح بِصفة الْعِبَادَة
فَهِيَ حَالَة تبتنى على وجود الأَصْل وَالتَّرْجِيح بإيجاد
أصل الشَّيْء أولى بالمصير إِلَيْهِ من التَّرْجِيح بِالصّفةِ
وَالصّفة تتبع الأَصْل وَلَا يتبع الأَصْل الصّفة وعَلى هَذَا
نقُول فِي الْمَنْذُور فِي وَقت بِعَيْنِه إِنَّه يتَأَدَّى
بِمثل هَذِه الْعَزِيمَة لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَة يكون
مُؤديا للمشروع قبل نَذره والمشروع فِي الْوَقْت بعد نَذره على
مَا كَانَ عَلَيْهِ من قبل فَيصير مُؤديا لَهُ بِهَذِهِ
الْعَزِيمَة أَيْضا وَفِي أَدَائِهِ وَفَاء بالمنذور
وَكَذَلِكَ فِي صَوْم الْقَضَاء يصير مُؤديا للمشروع فِي
الْوَقْت بِهَذِهِ الْعَزِيمَة وَهُوَ النَّفْل
وَأما الْقَضَاء فَهُوَ مُسْتَحقّ فِي ذمَّته لَا اتِّصَال
لَهُ بِالْوَقْتِ قبل أَن يعزم على صرف الْمَشْرُوع فِي
الْوَقْت إِلَيْهِ فَلم يتَوَقَّف إِمْسَاكه فِي أول النَّهَار
عَلَيْهِ وَلم يزل تمكنه من أَدَاء مَا فِي ذمَّته بعزيمة
تقترن بِالْجَمِيعِ من كل وَجه وَلِهَذَا لَا نصير إِلَى
اعْتِبَار الْكل من وَجه وَاحِد فِيهِ وَلِهَذَا شرطنا
الْأَهْلِيَّة فِي جَمِيع النَّهَار لِأَن مَعَ انعدام
الْأَهْلِيَّة فِي أول النَّهَار لَا يثبت اسْتِحْقَاق
الْأَدَاء والمصير إِلَى طلب الْكَمَال من وَجه لتقرر
اسْتِحْقَاق الْأَدَاء فَإِذا لم تُوجد تِلْكَ الْأَهْلِيَّة
فِي أول النَّهَار لم نشتغل بِطَلَب الْكَمَال من وَجه أَلا
ترى أَنه يشْتَرط وجود الْأَهْلِيَّة لِلْعِبَادَةِ عِنْد
النِّيَّة وَإِن سبقت وَقت الْأَدَاء وَلم يدل ذَلِك على
اشْتِرَاط اقتران النِّيَّة بِرُكْن الْأَدَاء وعَلى هَذَا
الأَصْل قُلْنَا فِي صَوْم النَّفْل إِنَّه لَا يتَأَدَّى
بِدُونِ الْعَزِيمَة قبل الزَّوَال لِأَن الرُّكْن الَّذِي
بِهِ يتَأَدَّى الصَّوْم كَمَا لَا يتجزى وجوبا لَا يتجزى
وجودا وَلَا يتَصَوَّر الْأَدَاء إِلَّا بِكَمَالِهِ وَصفَة
الْكَمَال لَا تثبت بِالنِّيَّةِ بعد الزَّوَال حَقِيقَة وَلَا
حكما وَتثبت بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال حكما بِاعْتِبَار
إِقَامَة الْأَكْثَر مقَام الْكل وَلم يرد على مَا قُلْنَا
الْإِمْسَاك الَّذِي ينْدب إِلَيْهِ الْمَرْء فِي يَوْم
الْأَضْحَى إِلَى أَن يفرغ من الصَّلَاة فَإِن ذَلِك لَيْسَ
بِصَوْم وَإِنَّمَا ندب إِلَيْهِ ليَكُون أول مَا يتَنَاوَلهُ
فِي هَذَا الْيَوْم من القربان وَالنَّاس أضياف الله تَعَالَى
يتَنَاوَل
(1/41)
القربان فِي هَذَا الْيَوْم وَإِلَّا حسن
أَن يكون أول مَا يتَنَاوَل مِنْهُ الضَّيْف طَعَام
الضِّيَافَة وَلِهَذَا ثَبت هَذَا الحكم فِي حق أهل
الْأَمْصَار دون أهل السوَاد فَلهم حق التَّضْحِيَة بعد طُلُوع
الْفجْر وَلَيْسَ لأهل الْمصر أَن يضحوا إِلَّا بعد الصَّلَاة
وَمن هَذَا الْجِنْس صَوْم الْكَفَّارَة وَالْقَضَاء فالوقت
معيار لَهُ على معنى أَن مِقْدَاره يعرف بِهِ وَلكنه لَيْسَ
بِسَبَب لوُجُوبه بِخِلَاف صَوْم رَمَضَان فالوقت هُنَاكَ
معيار وَسبب الْوُجُوب على مَا نبينه فِي بَابه وَلِهَذَا لَا
يتَحَقَّق قَضَاء صَوْم يَوْمَيْنِ فِي يَوْم وَاحِد وَأَدَاء
كفارتين بِالصَّوْمِ فِي شَهْرَيْن لِأَن الْوَقْت معيار
بِمَنْزِلَة الْكَيْل للمكيل فَكَمَا لَا يتَحَقَّق قفيزان فِي
قفيز وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة لَا يتَحَقَّق صَوْم
يَوْمَيْنِ فِي يَوْم وَاحِد
وَمن حكم هَذَا النَّوْع أَنه لَا يتَأَدَّى بِدُونِ
الْعَزِيمَة مِنْهُ على الْأَدَاء فِي جَمِيع الْوَقْت وَأَنه
لَا يتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ مَا بَقِي حَيا وَقد قَررنَا
هَذَا فِيمَا سبق
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْمُشكل فوقت الْحَج وَبَيَان
الْإِشْكَال فِيهِ أَن الْحَج عبَادَة تتأدى بأركان مَعْلُومَة
وَلَا يسْتَغْرق الْأَدَاء جَمِيع الْوَقْت فَمن هَذَا
الْوَجْه (يشبه الصَّلَاة وَلَا يتَصَوَّر من الْأَدَاء فِي
الْوَقْت فِي سنة وَاحِدَة إِلَّا حجَّة وَاحِدَة فَمن هَذَا
الْوَجْه) يشبه الصَّوْم الَّذِي يكون الْوَقْت معيارا لَهُ
وَفِي وقته اشْتِبَاه أَيْضا فالحج فرض الْعُمر وَوَقته أشهر
الْحَج من سنة من سني الْعُمر وَأشهر الْحَج من السّنة الأولى
تتَعَيَّن على وَجه لَا تفضل عَن الْأَدَاء وَبِاعْتِبَار أشهر
الْحَج من السنين الَّتِي يَأْتِيهَا الْوَقْت تفضل عَن
الْأَدَاء وَكَون ذَلِك من عمره مُحْتَمل فِي نَفسه فَكَانَ
مشتبها ثمَّ يَتَرَتَّب على مَا قُلْنَا حكمان صِحَة الْأَدَاء
بِاعْتِبَار الْوَقْت وَوُجُوب التَّعْجِيل بِكَوْن الْوَقْت
مُتَعَيّنا وَفِي أحد الْحكمَيْنِ اتِّفَاق حَتَّى إِنَّه يكون
مُؤديا فِي أَي سنة أَدَّاهُ للتيقن بِكَوْن ذَلِك من عمره
ولاتساع الْوَقْت بإدراكه وَفِي الحكم الثَّانِي اخْتِلَاف
فَعِنْدَ أبي يُوسُف رَحمَه الله الْوَقْت مُتَعَيّن قبل
إِدْرَاك السّنة الثَّانِيَة فَلَا يَسعهُ التَّأْخِير وَعند
مُحَمَّد رَحمَه الله الْوَقْت غير مُتَعَيّن مَا بَقِي حَيا
فيسعه التَّأْخِير بِشَرْط أَن لَا يفوتهُ
(1/42)
وَمن حكمه أَنه بَعْدَمَا لزمَه الْأَدَاء
بالتمكن مِنْهُ يصير مفوتا بِالْمَوْتِ قبل الْأَدَاء حَتَّى
يُؤمر بِالْوَصِيَّةِ بِأَن يحجّ عَنهُ بِخِلَاف الصَّلَاة
فَإِن هُنَاكَ بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء لَا يصير مفوتا
إِذا مَاتَ فِي الْوَقْت قبل الْأَدَاء لِأَن الْوَقْت هُنَا
مُقَدّر بعمره فبموته يتَحَقَّق مُضِيّ الْوَقْت وَقد تمكن من
الْأَدَاء فَإِذا أخر حَتَّى مُضِيّ الْوَقْت كَانَ مفوتا
وَهُنَاكَ الْوَقْت مُقَدّر بِزَمَان لَا يَنْتَهِي ذَلِك
بِمَوْتِهِ فَلَا يكون هُوَ مفوتا بِتَأْخِير الْأَدَاء وَإِن
مَاتَ لبَقَاء الْوَقْت فَلهَذَا لَا يلْزمه شَيْء وَيكون
آثِما هُنَا إِذا مَاتَ بعد التَّمَكُّن بِتَأْخِير الْأَدَاء
أما عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله فَلِأَن وَقت الْأَدَاء
كَانَ مُتَعَيّنا فالتأخير عَنهُ كَانَ تفويتا وَعند مُحَمَّد
رَحمَه الله إِبَاحَة التَّأْخِير لَهُ كَانَ مُقَيّدا بِشَرْط
وَهُوَ أَن يُؤَدِّيه فِي عمره فَإِذا انْعَدم هَذَا الشَّرْط
كَانَ آثِما فِي التَّأْخِير لِأَنَّهُ تبين بِمَوْتِهِ أَن
الْوَقْت كَانَ عينا وَأَن التَّأْخِير مَا كَانَ يَسعهُ بعد
التَّمَكُّن من الْأَدَاء
وَمن حكمه أَنه لَا يتَأَدَّى الْفَرْض بنية النَّفْل
أما عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله فَلِأَن وَقت الْأَدَاء من
عمره متسع يفضل عَن الْأَدَاء فَهُوَ كوقت الصَّلَاة وَعند أبي
يُوسُف رَحمَه الله وَقت الْأَدَاء وَإِن كَانَ مُتَعَيّنا
فالأداء يكون بأركان مَعْلُومَة فَيكون بِمَنْزِلَة الصَّلَاة
بعد مَا تضيق الْوَقْت بهَا ثمَّ وَقت أَدَاء النَّفْل وَوقت
أَدَاء الْفَرْض فِي الْحَج غير مُخْتَلف فَتَصِح مِنْهُ
الْعَزِيمَة على أَدَاء النَّفْل فِيهِ وَبِه تنعدم
الْعَزِيمَة على أَدَاء الْفَرْض وَبِدُون الْعَزِيمَة لَا
يتَأَدَّى بِخِلَاف الصَّوْم فَلَا تصور لأَدَاء النَّفْل
هُنَاكَ فِي الْوَقْت الْمعِين لأَدَاء الْفَرْض فتلغو نِيَّة
النَّفْل هُنَاكَ وَيكون مُؤديا للْفَرض بعزيمة أصل النِّيَّة
وَقَالَ الشَّافِعِي أَنا ألغي نِيَّته النَّفْل مِنْهُ أَيْضا
لِأَنَّهُ نوع سفه فالحج لَا يتَأَدَّى إِلَّا بتحمل
الْمَشَقَّة وَقطع الْمسَافَة وَلِهَذَا لم يجب فِي الْعُمر
إِلَّا مرّة فنية النَّفْل قبل أَدَاء الْفَرْض تكون سفها
وَالسَّفِيه عِنْدِي مَحْجُور عَلَيْهِ فتلغو نِيَّة النَّفْل
بِهَذَا الطَّرِيق وَلَكِن بإلغاء نِيَّة النَّفْل لَا
يَنْعَدِم أصل نِيَّته الْحَج لِأَن الصّفة تنفصل عَن الأَصْل
فِي هَذِه الْعِبَادَة أَلا ترى أَن بانعدام صفة الصِّحَّة لَا
يَنْعَدِم أصل الْإِحْرَام بِخِلَاف الصَّوْم فالصفة هُنَاكَ
لَا تنفصل عَن الأَصْل أَلا ترى أَن بانعدام صفة الصِّحَّة
يَنْعَدِم أصل الصَّوْم مَعَ أَن الْحَج قد يتَأَدَّى من غير
عَزِيمَة كالمغمى عَلَيْهِ يحرم عَنهُ أَصْحَابه فَيصير هُوَ
محرما
(1/43)
وَالرجل يحرم عَن أَبَوَيْهِ فَيصح وَإِن لم تُوجد الْعَزِيمَة
مِنْهُمَا
وَلَكنَّا نقُول الْوَاجِب عَلَيْهِ أَدَاء مَا هُوَ عبَادَة
والمؤدى يكون عبَادَة وَقد بَينا أَن هَذَا الْوَصْف لَا
يتَحَقَّق بِدُونِ اخْتِيَار يكون مِنْهُ بالعزم على الْأَدَاء
وإعراضه عَن أَدَاء الْفَرْض بالعزم على أَدَاء النَّفْل يكون
أبلغ من إعراضه عَن أَدَاء الْفَرْض بترك أصل الْعَزِيمَة
وَفِي إِثْبَات الْحجر بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَه انْتِفَاء
اخْتِيَاره وَجعله مجبورا فِيهِ وَهَذَا يُنَافِي أَدَاء
الْعِبَادَة فَيَعُود هَذَا القَوْل على مَوْضُوعه بِالنَّقْضِ
وَأما الْإِحْرَام فعندنا شَرط الْأَدَاء بِمَنْزِلَة
الطَّهَارَة للصَّلَاة وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَقْدِيمه على وَقت
الْحَج أَو أَقَمْنَا هُنَاكَ دلَالَة الِاسْتِعَانَة مقَام
حَقِيقَة الِاسْتِعَانَة عِنْد الْحَاجة اسْتِحْسَانًا فَيصير
الْعَزْم بِهِ على أَدَاء الْفَرْض مَوْجُودا حكما وَهَذَا
الْمَعْنى يَنْعَدِم عِنْد الْعَزْم على النَّفْل
وَمن حكمه أَنه يتَأَدَّى بِمُطلق نِيَّة الْحَج لَا
بِاعْتِبَار أَنه يسْقط اشْتِرَاط نِيَّة التعين فِيهِ فَإِن
الْوَقْت لما كَانَ قَابلا لأَدَاء الْفَرْض وَالنَّفْل فِيهِ
لَا بُد من تعْيين الْفَرْض ليصير مؤدى وَلَكِن هَذَا
التَّعْيِين ثَبت بِدلَالَة الْحَال فَإِن الْإِنْسَان فِي
الْعَادة لَا يتَحَمَّل الْمَشَقَّة الْعَظِيمَة ثمَّ يشْتَغل
بأَدَاء حجَّة أُخْرَى قبل أَدَاء حجَّة الْإِسْلَام وَدلَالَة
الْعرف يحصل التَّعْيِين بهَا وَلَكِن إِذا لم يُصَرح
بغَيْرهَا فَأَما مَعَ التَّصْرِيح يسْقط اعْتِبَار الْعرف كمن
اشْترى بِدَرَاهِم مُطلقَة يتَعَيَّن نقد الْبَلَد بِدلَالَة
الْعرف فَإِن صرح بِاشْتِرَاط نقد آخر عِنْد الشِّرَاء سقط
اعْتِبَار ذَلِك الْعرف وَينْعَقد العقد بِمَا صرح بِهِ |