أصول السرخسي فصل فِي بَيَان حكم الْعَام
قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا سلف لَهُم فِي الْقُرُون
الثَّلَاثَة حكمه الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد
مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك أَو الْمُجْمل وَيُسمى
هَؤُلَاءِ الواقفية إِلَّا أَن طَائِفَة مِنْهُم يَقُولُونَ
يثبت بِهِ أخص الْخُصُوص وَفِيمَا وَرَاء ذَلِك الحكم هُوَ
الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ
وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ مجْرى على عُمُومه مُوجب للْحكم
فِيمَا تنَاوله مَعَ ضرب شُبْهَة فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون
المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فَلَا يُوجب الحكم قطعا بل على تجوز
أَن يظْهر معنى الْخُصُوص فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل بِمَنْزِلَة
الْقيَاس فَإِنَّهُ يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة لَا على أَن يكون مَقْطُوعًا بِهِ بل مَعَ تجوز
احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أَو الْغَلَط وَلِهَذَا جوز تَخْصِيص
الْعَام بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاء وبخبر الْوَاحِد فقد جعل
الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد الَّذِي لَا يُوجب الْعلم قطعا مقدما
على مُوجب الْعَام حَتَّى جوز التَّخْصِيص بهما وَجعل الْخَاص
أولى بالمصير إِلَيْهِ من الْعَام على هَذَا دلّت مسَائِله
فَإِنَّهُ رجح خبر الْعَرَايَا على عُمُوم قَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام التَّمْر بِالتَّمْرِ كَيْلا بكيل فِي حكم الْعَمَل
بِهِ وَجعل هَذَا قولا وَاحِدًا لَهُ فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم
وَفِيمَا لَا يحْتَمل الْعُمُوم لِانْعِدَامِ مَحَله فَقَالَ
يجب الْعَمَل فيهمَا بِقدر الْإِمْكَان حَتَّى يقوم دَلِيل
التَّخْصِيص على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا
وَالْمذهب عندنَا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ
قطعا بِمَنْزِلَة الْخَاص مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله
يَسْتَوِي فِي ذَلِك الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر إِلَّا
فِيمَا لَا يُمكن اعْتِبَار الْعُمُوم فِيهِ لِانْعِدَامِ
مَحَله فَحِينَئِذٍ يجب التَّوَقُّف إِلَى أَن يتَبَيَّن مَا
هُوَ المُرَاد بِهِ بِبَيَان ظَاهر بِمَنْزِلَة الْمُجْمل فعلى
هَذَا دلّت مسَائِل عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات إِذا أوصى
بِخَاتم لرجل ثمَّ أوصى بفصه لآخر بعد ذَلِك فِي كَلَام
مَقْطُوع فالحلقة للْمُوصى لَهُ بالخاتم والفص بَينهمَا
نِصْفَانِ لِأَن الْإِيجَاب الثَّانِي فِي عين مَا أوجبه
للْأولِ لَا يكون رُجُوعا
(1/132)
عَن الأول فيجتمع فِي الفص وصيتان
إِحْدَاهمَا بِإِيجَاب عَام وَالْأُخْرَى بِإِيجَاب خَاص ثمَّ
إِذا ثَبت الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي الحكم يَجْعَل الفص
بَينهمَا نِصْفَيْنِ
وَقَالَ فِي الْوَصَايَا لَو كَانَت الوصيتان بِهَذِهِ الصّفة
فِي كَلَام مَوْصُول كَانَ الفص للْمُوصى لَهُ خَاصَّة
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْكَلَام مَوْصُولا كَانَ آخِره بَيَانا
لأوله فَيظْهر بِهِ أَن مُرَاده بِالْإِيجَابِ الْعَام
الْحلقَة دون الفص
وَقَالَ فِي الْمُضَاربَة إِذا اخْتلف الْمضَارب وَرب المَال
فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَالْقَوْل قَول من يَدعِي
الْعُمُوم أَيهمَا كَانَ فلولا الْمُسَاوَاة بَين الْخَاص
وَالْعَام حكما فِيمَا يتَنَاوَلهُ لم يصر إِلَى التَّرْجِيح
بِمُقْتَضى العقد
قَالَ وَإِذا أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَة وأرخ كل مِنْهُمَا
آخرهما تَارِيخا أولى سَوَاء كَانَ مُبينًا للْعُمُوم أَو
الْخُصُوص فقد جعل الْعَام الْمُتَأَخر رَافعا للخاص
الْمُتَقَدّم كَمَا جعل الْخَاص الْمُتَأَخر مُخَصّصا للعام
الْمُتَقَدّم وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بعد الْمُسَاوَاة وَظهر
من مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَرْجِيح الْعَام على
الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ نَحْو حفر بِئْر الناضح فَإِنَّهُ
رجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حفر بِئْرا فَلهُ مِمَّا
حولهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا على الْخَاص الْوَارِد فِي بِئْر
الناضح أَنه سِتُّونَ ذِرَاعا فرجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
مَا أخرجت الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر على الْخَاص الْوَارِد
بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة
وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة وَنسخ الْخَاص
بِالْعَام أَيْضا كَمَا فعله فِي بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه
فَإِنَّهُ جعل الْخَاص من حَدِيث العرنيين فِيهِ مَنْسُوخا
بِالْعَام وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام استنزهوا عَن
الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ وَأكْثر
مَشَايِخنَا رَحِمهم الله يَقُولُونَ أَيْضا إِن الْعَام
الَّذِي لم يثبت خصوصه بِدَلِيل لَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر
الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ فزعموا أَن الْمَذْهَب هَذَا
فَإِن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا صَلَاة
إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب لَا يكون مُوجبا تَخْصِيص الْعُمُوم
فِي قَوْله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} حَتَّى
لَا تتَعَيَّن قِرَاءَة الْفَاتِحَة فرضا
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر
اسْم الله عَلَيْهِ} عَام لم تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَلَا يجوز
تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ (وَكَذَلِكَ
قَوْله {وَمن دخله كَانَ آمنا} عَام لم يثبت تَخْصِيصه وَلَا
يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد يثبت خصومه فَإِن النَّاسِي
جعل
(1/133)
ذَاكِرًا حكما بطريقة إِقَامَة مِلَّته
مقَام التَّسْمِيَة وَلَا بِالْقِيَاسِ) حَتَّى يثبت الْأَمْن
بِسَبَب الْحرم الْمُبَاح الدَّم بِاعْتِبَار الْعُمُوم وَمَتى
ثَبت التَّخْصِيص فِي الْعَام بدليله فَحِينَئِذٍ يجوز
تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس على مَا نبينه إِن
شَاءَ الله تَعَالَى
أما الواقفون استدلوا بالاشتراك فِي الِاسْتِعْمَال فقد
يسْتَعْمل لفظ الْعَام وَالْمرَاد بِهِ الْخَاص قَالَ تَعَالَى
{الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} وَالْمرَاد بِهِ رجل وَاحِد
وَقد يسْتَعْمل لَفْظَة الْجَمَاعَة للفرد قَالَ تَعَالَى
{إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَقَالَ
{رب ارْجِعُونِ} وَهَذَا فِي كَلَام الخطباء ونظم الشُّعَرَاء
مَعْرُوف فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يشْتَرك فِيهِ احْتِمَال
الْعُمُوم وَاحْتِمَال الْخُصُوص فَيكون بِمَنْزِلَة
الْمُشْتَرك يجب الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد أَو
نقُول لفظ الْعَام مُجمل فِي معرفَة المُرَاد بِهِ حَقِيقَة
لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بعض مَا تنَاوله وَذَلِكَ
الْبَعْض لَا يُمكن مَعْرفَته بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة
اللَّفْظ أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه
الْبَيَان وَالتَّفْسِير (مُطلق هَذَا اللَّفْظ) مَا هُوَ
المُرَاد بِهِ من الْعُمُوم بِأَن نقُول جَاءَنِي الْقَوْم
كلهم أَو أَجْمَعُونَ وَلَو كَانَ الْعُمُوم مُوجب مُطلق هَذَا
اللَّفْظ لم يستقم تَفْسِيره بِلَفْظ آخر كالخاص فَإِنَّهُ لَا
يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ مَا يكون ثَابتا بِمُوجبِه بِأَن
يَقُول جَاءَنِي زيد كُله أَو جَمِيعه وَلما استقام ذَلِك فِي
الْعَام عرفنَا أَنه غير مُوجب للإحاطة بِنَفسِهِ وَالْبَعْض
الَّذِي هُوَ مُرَاد مِنْهُ غير مَعْلُوم فَيكون بِمَنْزِلَة
الْمُجْمل
وَالَّذين قَالُوا بأخص الْخُصُوص قَالُوا ذَلِك الْقدر
يتَيَقَّن بِأَنَّهُ مُرَاد سَوَاء كَانَ المُرَاد الْخُصُوص
أَو الْعُمُوم فللتيقن بِهِ جَعَلْنَاهُ مرَادا وَإِنَّمَا
الْوَقْف فِيمَا وَرَاء ذَلِك وَبَيَانه أَن إِرَادَة
الثَّلَاث من لفظ الْجَمَاعَة وَإِرَادَة الْوَاحِد من لفظ
الْجِنْس مُتَيَقن بِهِ فمطلق اللَّفْظ فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة
الْإِحَاطَة عِنْد اقتران الْبَيَان بِاللَّفْظِ وَذَلِكَ
مُوجب الْكَلَام فَكَذَلِك أخص الْخُصُوص مُوجب مُطلق لفظ
الْعَام
{اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} والاتباع لفظ خَاص فِي
اللُّغَة بِمَعْنى
(1/134)
وَالدَّلِيل لعامة الْفُقَهَاء على أَن
الْعَام مُوجب الْعَمَل بِعُمُومِهِ قَوْله تَعَالَى مَعْلُوم
وَفِي الْمنزل عَام وخاص فَيجب بِهَذَا الْخَاص اتِّبَاع
جَمِيع الْمنزل والاتباع إِنَّمَا يكون بالاعتقاد وَالْعَمَل
بِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوَقُّف اتِّبَاع للمنزل فَعرفنَا أَن
الْعَمَل وَاجِب بِجَمِيعِ مَا أنزل على مَا أوجبه صِيغَة
الْكَلَام إِلَّا مَا يظْهر نسخه بِدَلِيل فقد ظهر
الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على وَجه
لَا يُمكن إِنْكَاره فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين
دَعَا أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة
فَلم يجبهُ بَين لَهُ خطأه فِيمَا صنع بالاستدلال بقوله
تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله
وَلِلرَّسُولِ} وَهَذَا عَام فَلَو كَانَ مُوجبه التَّوَقُّف
على مَا زَعَمُوا لم يكن لاستدلاله عَلَيْهِ بِهِ معنى
وَالصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي زمن الصّديق حِين خالفوه
فِي الِابْتِدَاء فِي قتال مانعي الزَّكَاة استدلوا عَلَيْهِ
بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى
يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَهُوَ عَام ثمَّ اسْتدلَّ
عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} فَرَجَعُوا إِلَى
قَوْله وَهَذَا عَام
وَحين أَرَادَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يوظف الْجِزْيَة
وَالْخَرَاج على أهل السوَاد اسْتدلَّ على من خَالفه فِي ذَلِك
بقوله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} وَقَالَ أرى لمن
بعدكم فِي هَذَا الْفَيْء نَصِيبا وَلَو قسمته بَيْنكُم لم
يبْق لمن بعدكم فِيهِ نصيب وَهَذِه الْآيَة فِي هَذَا الحكم
نِهَايَة فِي الْعُمُوم
وَلما هم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجم الْمَرْأَة الَّتِي
ولدت لسِتَّة أشهر اسْتدلَّ عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس فَقَالَ أما
إِنَّهَا لَو خاصمتكم بِكِتَاب الله لخصمتكم قَالَ الله
تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَقَالَ {وفصاله فِي
عَاميْنِ} فَإِذا ذهب للفصال عامان بَقِي للْحَمْل سِتَّة أشهر
وَهَذَا اسْتِدْلَال بِالْعَام
وَحين اخْتلف عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْجمع
بَين الْأُخْتَيْنِ وطئا بِملك الْيَمين قَالَ عَليّ رَضِي
الله عَنهُ أَحَلَّتْهُمَا قَوْله تَعَالَى {أَو مَا ملكت
أَيْمَانكُم} وحرمتهما قَوْله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين
الْأُخْتَيْنِ} فالأخذ بِمَا يحرم أولى احْتِيَاطًا فوافقه
عُثْمَان فِي هَذَا إِلَّا أَنه قَالَ عِنْد تعَارض
الدَّلِيلَيْنِ أرجح الْمُوجب للْحلّ بِاعْتِبَار الأَصْل
وَحين اخْتلف عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي
الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا فَقَالَ
عَليّ رَضِي الله عَنهُ تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ وَاسْتدلَّ
بالآيتين قَوْله تَعَالَى {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} وَقَوله
تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ}
(1/135)
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من
شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى نزلت بعد سُورَة
النِّسَاء الطُّولى يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَأولَات
الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} نزلت بعد قَوْله
تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر
وَعشرا} فاستدل بِهَذَا الْعَام على أَن عدتهَا بِوَضْع الْحمل
لَا غير وَجعل الْخَاص فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا
مَنْسُوخا بِهَذَا الْعَام فِي حق الْحَامِل
وَاحْتج ابْن عمر على ابْن الزبير فِي التَّحْرِيم بالمصة
والمصتين بقوله تَعَالَى {وأخواتكم من الرضَاعَة} وَاحْتج ابْن
عَبَّاس على الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الصّرْف
بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رَبًّا إِلَّا
فِي النَّسِيئَة وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْعُمُومِ الْمُوجب
لحُرْمَة الرِّبَا من الْكتاب وَالسّنة فَرجع إِلَى قَوْلهم
فَبِهَذَا تبين أَنهم اعتقدوا وجوب الْعَمَل بِالْعَام وإجراءه
على عُمُومه
وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِنَّهُم عرفُوا ذَلِك بِدَلِيل
آخر من حَال شاهدوه أَو بِبَيَان سَمِعُوهُ لِأَن الْمَنْقُول
احتجاج بَعضهم على بعض بِصِيغَة الْعُمُوم فَقَط وَفِي القَوْل
بِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل تَعْطِيل الْمَنْقُول والإحالة
على سَبَب آخر لم يعرف
ثمَّ لُزُوم الْعَمَل بالمنزل حكم ثَابت إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة فَلَو كَانَ ذَلِك فِي حَقهم بِاعْتِبَار دَلِيل
آخر مَا وسعهم ترك النَّقْل فِيهِ وَلَو نقلوا ذَلِك لظهر
وانتشر
يُؤَيّد مَا قُلْنَا حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ حِين
بلغه اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي نقل الْأَخْبَار جمعهم فَقَالَ
إِنَّكُم إِذا اختلفتم فَمن بعدكم يكون أَشد اخْتِلَافا
الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ فِيكُم كتاب الله تَعَالَى فأحلوا
حَلَاله وحرموا حرَامه
وَلم يُخَالف أحد مِنْهُم فِي ذَلِك فَعرفنَا أَنهم عرفُوا
المُرَاد بِعَين مَا هُوَ الْمَنْقُول إِلَيْنَا لَا بِدَلِيل
آخر غير مَنْقُول إِلَيْنَا
ثمَّ الْعُمُوم معنى مَقْصُود من الْكَلَام عَام بِمَنْزِلَة
الْخُصُوص فَلَا بُد أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع يعرف
الْمَقْصُود بذلك اللَّفْظ لِأَن الْأَلْفَاظ لَا تقصر عَن
الْمعَانِي وَبَيَان هَذَا أَن الْمُتَكَلّم بِاللَّفْظِ
الْخَاص لَهُ فِي ذَلِك مُرَاد لَا يحصل بِاللَّفْظِ الْعَام
وَهُوَ تَخْصِيص الْفَرد بِشَيْء فَكَانَ لتَحْصِيل مُرَاده
لفظ مَوْضُوع وَهُوَ الْخَاص والمتكلم بِاللَّفْظِ الْعَام
بِمَعْنى الْعَام لَهُ مُرَاد فِي الْعُمُوم لَا يحصل ذَلِك
بِاللَّفْظِ الْخَاص وَلَا يَتَيَسَّر عَلَيْهِ التَّنْصِيص
على كل فَرد بِمَا هُوَ مُرَاد بِاللَّفْظِ فَإِن من أَرَادَ
عتق جَمِيع عبيده فَإِنَّمَا يتَمَكَّن من تَحْصِيل هَذَا
الْمَقْصُود بقوله عَبِيدِي أَحْرَار وَهَذَا لفظ عَام فَمن
جعل مُوجبه الْوَقْف فَإِنَّهُ يشق على الْمُتَكَلّم بِأَن
يحصل مَقْصُوده فِي الْعُمُوم بِاسْتِعْمَال صيغته وَمَا
قَالُوا إِنَّه قد اسْتعْمل الْعَام بِمَعْنى الْخَاص قُلْنَا
وَيسْتَعْمل أَيْضا بِمَعْنى الْإِحَاطَة على وَجه لَا يحْتَمل
غَيره قَالَ تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} وَقَالَ
تَعَالَى {إِن الله} الْعَام فَلَا بُد من أَن يكون
(1/136)
لمراده لفظ مَوْضُوع لُغَة وَذَلِكَ صِيغَة
الْعُمُوم {لَا يظلم مِثْقَال ذرة} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا من
دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} فَهَذَا
الِاسْتِعْمَال يمنعهُم عَن القَوْل بالتوقف فِي مُوجب
الْعُمُوم
ثمَّ الْعُمُوم بِهَذِهِ الصِّيغَة حَقِيقَة وَاحْتِمَال
إِرَادَة الْمجَاز لَا يخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُوجب
مُطلق الْكَلَام أَلا ترى أَن بعد تعين الْإِحَاطَة فِيهِ
بقوله تَعَالَى أَجْمَعُونَ أَو كلهم لَا يَنْتَفِي هَذَا
الِاحْتِمَال من كل وَجه حَتَّى يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ
الِاسْتِثْنَاء قَالَ تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم
أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} وَيَقُول الرجل جَاءَنِي
الْقَوْم كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا فلَانا وَفُلَانًا
ثمَّ هَذَا لَا يمْنَع القَوْل بِأَن مُوجبه الْإِحَاطَة
فِيمَا تنَاوله فَكَذَلِك فِي مُطلق اللَّفْظ مَعَ أَنا لَا
نقُول إِن مَا يقرن بِهِ يكون تَفْسِيرا وَلَكِن نقُول وَإِن
كَانَ مُوجبه الْعُمُوم قطعا فَهُوَ غير مُحكم لاحْتِمَال
إِرَادَة الْخُصُوص فِيهِ فَيصير بِمَا يقرن بِهِ محكما إِذا
أطلق ذَلِك كَمَا فِي قَوْله جَاءَنِي الْقَوْم كلهم فَإِنَّهُ
لَا يَنْفِي احْتِمَال الْخُصُوص بعد هَذَا إِذا لم يقرن بِهِ
اسْتثِْنَاء يكون مغيرا لَهُ وَمثله فِي الْخَاص مَوْجُود
فَإِن قَوْله جَاءَنِي فلَان خَاص مُوجب لما تنَاوله وَلكنه
غير مُحكم فِيهِ لاحْتِمَال الْمجَاز فَإِذا قَالَ جَاءَنِي
فلَان نَفسه يصير محكما وينتفي احْتِمَال الْمجَاز فِي أَن
الَّذِي جَاءَهُ رَسُوله أَو عَبده أَو كِتَابه
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أجعَل مُطلق الْعَام
مُوجبا للْعَمَل فِيمَا تنَاوله وَلَكِن احْتِمَال الْخُصُوص
فِيهِ قَائِم وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يصير مَقْطُوعًا بِهِ
فَلَا أجعله مُوجبا للْعَمَل فِيمَا تنَاوله قطعا
وَلَكنَّا نقُول المُرَاد بِمُطلق الْكَلَام مَا هُوَ
الْحَقِيقَة فِيهِ والحقيقة مَا كَانَت الصِّيغَة مَوْضُوعَة
لَهُ لُغَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لمقصود الْعُمُوم
فَكَانَت حَقِيقَة فِيهَا وَحَقِيقَة الشَّيْء ثَابت
بِثُبُوتِهِ قطعا مَا لم يقم الدَّلِيل على مجازه كَمَا فِي
لفظ الْخَاص فَإِن مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ يكون ثَابتا بِهِ
قطعا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على صرفه إِلَى الْمجَاز
(1/137)
فَإِن قَالَ قَائِل إِن الْخَاص أَيْضا لَا
يُوجب مُوجبه قطعا لاحْتِمَال إِرَادَة الْمجَاز مِنْهُ
وَإِنَّمَا يُوجب مُوجبه ظَاهرا مَا لم يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ
المُرَاد بِهِ الْمجَاز بِدَلِيل آخر بِمَنْزِلَة النَّص فِي
زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن بَقَاء الحكم
الثَّابِت بِالنَّصِّ يكون ظَاهرا لَا مَقْطُوعًا بِهِ
لاحْتِمَال النّسخ وَإِن لم يظْهر النَّاسِخ بعد
قُلْنَا هَذَا فَاسد لِأَن مُرَاد الْمُتَكَلّم بالْكلَام مَا
هُوَ مَوْضُوع لَهُ حَقِيقَة هَذَا مَعْلُوم وَإِرَادَة
الْمجَاز موهوم والموهوم لَا يُعَارض الْمَعْلُوم وَلَا يُؤثر
فِي حكمه وَكَذَلِكَ الْمجَاز لَا يُعَارض الْحَقِيقَة بل
ثُبُوت الْمجَاز بِإِرَادَة الْمُتَكَلّم لَا بِصِيغَة
الْكَلَام وَهِي إِرَادَة ناقلة للْكَلَام عَن حَقِيقَته فَمَا
لم يظْهر النَّاقِل بدليله يثبت حكم الْكَلَام مَقْطُوعًا بِهِ
بِمَنْزِلَة النَّص الْمُطلق يُوجب الحكم قطعا وَإِن احْتمل
التَّغْيِير بِشَرْط تعلقه بِهِ أَو قيد بقيده وَلَكِن ذَلِك
ناقل للْكَلَام عَن حَقِيقَته فَمَا لم يظْهر كَانَ حكم
الْكَلَام ثَابتا قطعا بِخِلَاف النَّص فِي زمن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن النَّص يُوجب الحكم فَأَما
بَقَاء الحكم لَيْسَ من مُوجبَات النَّص وَلَكِن مَا ثَبت
فَالْأَصْل فِيهِ الْبَقَاء حَتَّى يظْهر الدَّلِيل المزيل
فَكَانَ بَقَاؤُهُ لنَوْع من اسْتِصْحَاب الْحَال وَعدم
النَّاسِخ وَهَذَا الْمَعْدُوم غير مَقْطُوع بِهِ فَلهَذَا لَا
يكون بَقَاء الحكم مَقْطُوعًا بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى
إِن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما
انْقَطع احْتِمَال النّسخ كَانَ الحكم الَّذِي لم يظْهر ناسخه
بَاقِيا قطعا
فَإِن قيل فَكَذَلِك عدم إِرَادَة الْمُتَكَلّم للمجاز لَيْسَ
بِمَعْلُوم قطعا بل هُوَ ثَابت بِنَوْع من الظَّاهِر
بِمَنْزِلَة عدم النَّاسِخ فِي ذَلِك الْوَقْت بِخِلَاف
الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء فانعدامهما ثَابت بِالنَّصِّ لِأَن
الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء يكون مُقَارنًا للنَّص فالإطلاق
فِيهِ على وَجه يكون ساكتا عَن ذكر الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء
تنصيص على عدم الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء قُلْنَا نعم وَلَكِن
الْإِرَادَة الْمُغيرَة للخاص عَن حَقِيقَته يكون فِي بَاطِن
الْمُتَكَلّم وَهُوَ غيب عَنَّا وَلَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف
على ذَلِك وَإِنَّمَا يثبت التَّكْلِيف شرعا بِحَسب الوسع
فَمَا لَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف عَلَيْهِ لَا يكون مُعْتَبرا
أصلا إِلَى أَن يظْهر بدليله وَعند ظُهُوره بدليله يَجْعَل
ثَابتا ابْتِدَاء فَقبل الظُّهُور يكون حكم الْخَاص ثَابتا
قطعا وَهُوَ بِمَنْزِلَة خطاب الشَّرْع لَا يُوجب الحكم فِي حق
الْمُخَاطب مَا لم يسمع بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَسعه
الْعَمَل بِهِ قبل
(1/138)
السماع وَعند السماع يثبت الحكم فِي حَقه
ابْتِدَاء كَأَن الْخطاب نزل الْآن وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا
قَالَ لامْرَأَته إِن كنت تحبينني فَأَنت طَالِق أَو قَالَ إِن
كنت تحبين النَّار فَأَنت طَالِق فَقَالَت أَنا أحب ذَلِك يَقع
الطَّلَاق لِأَن حَقِيقَة الْمحبَّة والبغض فِي بَاطِنهَا
وَلَا طَرِيق لنا إِلَى مَعْرفَته فَلَا يتَعَلَّق الطَّلَاق
بحقيقته وَلَكِن طَرِيق معرفتنا فِي الظَّاهِر إخبارها
فَيجْعَل الزَّوْج مُعَلّقا الطَّلَاق بإخبارها حكما فَإِذا
قَالَت أحب يَقع الطَّلَاق لوُجُود مَا هُوَ الشَّرْط حَقِيقَة
وَهُوَ الْخَبَر فَإِن الْخَبَر يحْتَمل الصدْق وَالْكذب
وَإِذا ثَبت هَذَا فِي الْخَاص فَكَذَلِك فِي الْعَام فَإِن
احْتِمَال الْخُصُوص بَاطِن وَهُوَ غيب عَنَّا مَا لم يظْهر
بدليله فَقبل ظُهُوره يكون مُوجبا الحكم فِيمَا تنَاوله قطعا
إِلَّا أَن الشَّافِعِي يَقُول مَعَ هَذَا احْتِمَال إِرَادَة
الْخُصُوص لم يَنْعَدِم وَلَكِن لَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف
عَلَيْهِ عِنْد الْخطاب فَنَجْعَل الْعَام مُوجبا الحكم فِيمَا
تنَاوله عملا وَلَا نجعله مُوجبا للْحكم قطعا فِيمَا يرجع
إِلَى الْعلم بِهِ لبَقَاء احْتِمَال الْخُصُوص
وَهَكَذَا أَقُول فِي الْخَاص الْإِرَادَة الْمُغيرَة فِيهَا
احْتِمَال إِلَّا أَن ذَلِك مَانع عَن ثُبُوت حكم الْحَقِيقَة
عملا بِهِ فَيكون فِي معنى النَّاسِخ الَّذِي هُوَ مبدل للْحكم
أصلا والناسخ لَا يكون مقترنا بِالنَّصِّ الْمُوجب للْحكم بل
إِنَّمَا يرد النّسخ على الْبَقَاء فَكَذَلِك فِي الْخَاص
أجعَل ظُهُور إِرَادَة الْمجَاز بدليله عَاملا ابْتِدَاء فَقبل
ظُهُوره يكون حكم الْخَاص ثَابتا قطعا وَأما إِرَادَة
الْخُصُوص لَا يكون رَافعا للْحكم أصلا فَيبقى مُعْتَبرا مَعَ
وجود الْعَمَل بِالْعَام فَلَا يثبت الْعلم بِمُوجبِه قطعا
وعَلى هَذَا نقُول فِي قَوْله إِن كنت تحبينني إِنَّه يَقع
الطَّلَاق إِذا أخْبرت بِهِ لِأَن مَا لَيْسَ فِي وَسعه
الْوُقُوف عَلَيْهِ وَهُوَ حَقِيقَة الْمحبَّة والبغض بِحَال
فَيسْقط اعْتِبَاره فِي حكم الْعَمَل وَلَو قَالَ إِن كنت
تحبين النَّار فَأَنت طَالِق فَقَالَت أحب لَا يَقع الطَّلَاق
لِأَن كذبهَا هَهُنَا مَعْلُوم قطعا فَإِن أحدا مِمَّن لَهُ
طبع سليم لَا يحب النَّار وَيكون هَذَا بِمَنْزِلَة الْعَام
الَّذِي لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْخُصُوص كَقَوْلِه تَعَالَى
{أَن الله بِكُل شَيْء عليم} فَإِن حَقِيقَة الْمُوجب بِمثل
هَذَا الْعَام مَعْلُوم قطعا بِخِلَاف الْعَام الَّذِي هُوَ
مُحْتَمل الْخُصُوص
وَلَكِن الْجَواب عَنهُ أَن نقُول كَمَا أَن الله تَعَالَى لم
يكلفنا مَا لَيْسَ فِي وسعنا فقد أسقط عَنَّا مَا فِيهِ حرج
علينا كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم
من حرج} وَفِي اعْتِبَار الْإِرَادَة الْبَاطِنَة فِي الْعَام
الَّذِي هُوَ مُحْتَمل لَهَا نوع حرج
(1/139)
فالتمييز بَين مَا هُوَ مُرَاد
الْمُتَكَلّم وَبَين مَا لَيْسَ بِمُرَاد لَهُ قبل أَن يظْهر
دَلِيله فِيهِ حرج عَظِيم وَسقط اعْتِبَاره شرعا ويقام
السَّبَب الظَّاهِر الدَّال على مُرَاده وَهُوَ صِيغَة
الْعُمُوم مقَام حَقِيقَة الْبَاطِن الَّذِي لَا يتَوَصَّل
إِلَيْهِ إِلَّا بحرج أَلا ترى أَن خطاب الشَّرْع يتَوَجَّه
على الْمَرْء إِذا اعتدل حَاله وَلَكِن اعْتِدَال الْحَال أَمر
بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر من حَيْثُ الْعَادة وَهُوَ الْبلُوغ
عَن عقل فَأَقَامَ الشَّرْع هَذَا السَّبَب الظَّاهِر مقَام
ذَلِك الْمَعْنى الْبَاطِن للتيسير ثمَّ دَار الحكم مَعَه
وجودا وعدما حَتَّى إِنَّه وَإِن اعتدل حَاله قبل الْبلُوغ
يَجْعَل ذَلِك كَالْمَعْدُومِ حكما فِي (حق) توجه الْخطاب
عَلَيْهِ وَلَو لم يعتدل حَاله بعد الْبلُوغ عَن عقل كَانَ
الْخطاب مُتَوَجها أَيْضا لهَذَا الْمَعْنى وَمن نظر عَن إنصاف
لَا يشكل عَلَيْهِ أَن الْحَرج فِي التَّأَمُّل فِي إِرَادَة
الْمُتَكَلّم ليتميز بِهِ مَا هُوَ مُرَاد لَهُ مِمَّا لَيْسَ
بِمُرَاد فَوق الْحَرج بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَال الصّبيان
ليتوقف على اعْتِدَال حَالهم وَهَذَا أصل كَبِير فِي الْفِقْه
فَإِن الرُّخْصَة بِسَبَب السّفر تثبت لدفع الْمَشَقَّة كَمَا
قَالَ الله تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد
بكم الْعسر} ثمَّ حَقِيقَة الْمَشَقَّة بَاطِن تخْتَلف فِيهِ
أَحْوَال النَّاس وَله سَبَب ظَاهر وَهُوَ السّير المديد
فَأَقَامَ الشَّرْع هَذَا السَّبَب مقَام حَقِيقَة ذَلِك
الْمَعْنى وَأسْقط وجود حَقِيقَة الْمَشَقَّة فِي حق الْمُقِيم
لِانْعِدَامِ السَّبَب الظَّاهِر إِلَّا إِذا تحققت
الضَّرُورَة عِنْد خوف الْهَلَاك على نَفسه فَذَلِك أَمر
وَرَاء الْمَشَقَّة وَأثبت الحكم عِنْد وجود السَّبَب
الظَّاهِر وَإِن لم تلْحقهُ الْمَشَقَّة حَقِيقَة
وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاء فَإِنَّهُ يجب التَّحَرُّز عَن خلط
الْمِيَاه المحترمة إِلَّا أَن ذَلِك بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر
وَهُوَ استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين لِأَن زَوَال ملك
الْيَمين لَا يُوجب مَا يسْتَدلّ بِهِ على بَرَاءَة الرَّحِم
من عدَّة أَو اسْتِبْرَاء فَأَقَامَ الشَّرْع استحداث ملك
الْوَطْء بِملك الْيَمين مقَام الْمَعْنى الْبَاطِن وَهُوَ
اشْتِغَال الرَّحِم بِالْمَاءِ فِي حق وجوب التَّحَرُّز عَن
الْخَلْط بالاستبراء وَلِهَذَا قُلْنَا لَو اشْتَرَاهَا من صبي
أَو امْرَأَة أَو اشْتَرَاهَا وَهِي بكر أَو حَاضَت عِنْد
البَائِع بعد الْوَطْء قبل أَن يَبِيعهَا يجب الِاسْتِبْرَاء
لاعْتِبَار السَّبَب الظَّاهِر وَلِهَذَا قُلْنَا فِي
النِّكَاح لَا يجب الِاسْتِبْرَاء وَإِن علم أَنَّهَا وطِئت
قبل أَن يَتَزَوَّجهَا وطئا محرما بِأَن تزوج أمة كَانَ قد
وَطئهَا قبل أَن يَتَزَوَّجهَا لِأَن الأَصْل فِي النِّكَاح
الْحرَّة فَإِن الرّقّ عَارض والازدواج بَين الشخصين
(1/140)
بِاعْتِبَار الأَصْل وَبِاعْتِبَار صفة
الْحُرْمَة زَوَال ملك الْوَطْء عَن الْحرَّة يعقب عدَّة
مُوجبَة بَرَاءَة الرَّحِم فَلَا تقع الْحَاجة إِلَى إِقَامَة
استحداث ملك الْوَطْء بِالنِّكَاحِ مقَام حَقِيقَة اشْتِغَال
الرَّحِم فِي إِيجَاب الِاسْتِبْرَاء للتحرز عَن الْخَلْط
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق
السَّاعَة إِن كَانَ فِي علم الله أَن فلَانا يقدم إِلَى شهر
فَقدم فلَان بعد تَمام الشَّهْر يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا
عِنْد الْقدوم ابْتِدَاء بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَنْت
طَالِق السَّاعَة إِن قدم فلَان إِلَى شهر وَمَعْلُوم أَن بعد
قدومه قد تبين أَنه كَانَ فِي علم الله قدومه إِلَى شهر وَأَن
التَّعْلِيق كَانَ بِشَرْط مَوْجُود حَقِيقَة وَلَكِن لما لم
يكن لنا طَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْقدوم صَار
الْقدوم الَّذِي بِهِ يتَبَيَّن لنا شرطا لوُقُوع الطَّلَاق
(فَيَقَع الطَّلَاق) عِنْده ابْتِدَاء بِخِلَاف مَا لَو قَالَ
أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن كَانَ زيد فِي الدَّار ثمَّ علم
بعد شهر أَن زيدا فِي الدَّار يَوْمئِذٍ فَإِنَّهُ يكون
الطَّلَاق وَاقعا من حِين تكلم بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لنا
طَرِيق إِلَى الْوُقُوف على مَا جعله شرطا حَقِيقَة فَلَا
يُقَام ظُهُوره عندنَا مقَام حَقِيقَته وَلَكِن تبين عِنْد
ظُهُوره أَن الطَّلَاق كَانَ وَاقعا لِأَنَّهُ علقه بِشَرْط
مَوْجُود وَالَّذِي تحقق مَا ذكرنَا أَن صَاحب الشَّرْع خاطبنا
بِلِسَان الْعَرَب فَإِنَّمَا يفهم من خطاب الشَّرْع مَا يفهم
من مخاطبات النَّاس فِيمَا بَينهم وَمن يَقُول لعَبْدِهِ أعْط
هَذِه الْمِائَة الدِّرْهَم هَؤُلَاءِ بِالسَّوِيَّةِ وهم
مائَة نفر نعلم قطعا أَن مُرَاده إِعْطَاء كل وَاحِد مِنْهُم
درهما بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أعْط كل وَاحِد مِنْهُم درهما
وَكَذَلِكَ يفهم من الْخَاص وَالْعَام فِي مخاطبات الشَّرْع
الحكم قطعا فِيمَا تنَاوله كل وَاحِد مِنْهُمَا
وَمن قَالَ لغيره لَا تعْتق عَبدِي سالما ثمَّ قَالَ أعتق
الْبيض من عَبِيدِي وَسَالم بِهَذِهِ الصّفة فَإِنَّهُ يكون
لَهُ أَن يعتقهُ وبإعتاقه يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ لَا مرتكبا
للنَّهْي فَكَذَلِك نقُول فِي الْعَام الْمُتَأَخر فِي خطاب
الشَّرْع إِنَّه يكون قَاضِيا فِيمَا تنَاوله على الْخَاص
فَإِذا كَانَ حكم الْخَاص ثَابتا قطعا فِيمَا تنَاوله فَلَا
بُد من أَن يكون الْعَام كَذَلِك ليَكُون قَاضِيا عَلَيْهِ
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ وَخبر
الْوَاحِد جَائِز وَمَعْلُوم أَن الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد لَا
يُوجب الْعلم قطعا فَكيف يكون رَافعا للْحكم الثَّابِت قطعا
بِصِيغَة
(1/141)
الْعُمُوم إِذا كَانَت هَذِه الصِّيغَة
توجب مُوجبهَا قطعا قُلْنَا مثل هَذَا يلزمك فِي الْخَاص فَإِن
صرفه عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز بِالْقِيَاسِ وَخبر
الْوَاحِد جَائِز
ثمَّ الْجَواب على مَا اخْتَارَهُ أَكثر مَشَايِخنَا رَحِمهم
الله أَن تَخْصِيص الْعَام الَّذِي لم يثبت خصوصه ابْتِدَاء
لَا يجوز بِالْقِيَاسِ (وَخبر الْوَاحِد) وَإِنَّمَا يجوز
ذَلِك فِي الْعَام الَّذِي ثَبت خصوصه بِدَلِيل مُوجب من الحكم
مثل مَا يُوجِبهُ الْعَام وَهُوَ خبر متأيد بالاستفاضة أَو
مَشْهُور فِيمَا بَين السّلف أَو إِجْمَاع فَعِنْدَ وجود ذَلِك
يتَبَيَّن بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد مَا هُوَ المُرَاد
بِصِيغَة الْعَام بعد أَن خرج من أَن يكون مُوجبا للْحكم
فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا على مَا نبينه فِي فصل الْعَام إِذا
دخله خُصُوص وَهَذَا لِأَن مَا أوجبه الْقيَاس أَو خبر
الْوَاحِد يحْتَمل أَن يكون فِي جملَة مَا تنَاوله دَلِيل
الْخُصُوص وَيحْتَمل أَن يكون فِي جملَة مَا تنَاوله صِيغَة
الْعَام فَإِنَّمَا يرجح بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد أحد
الِاحْتِمَالَيْنِ
فَإِن قيل مَا ذهبت إِلَيْهِ أولى فَإِن الأَصْل هُوَ وجوب
الْعَمَل بالأدلة الشَّرْعِيَّة مَا أمكن وَذَلِكَ فِي
تَرْتِيب الْعَام على الْخَاص كَمَا قلت لَا فِي رفع الْخَاص
بِالْعَام كَمَا قُلْتُمْ فَإِن من أثبت التَّعَارُض بَين
الْخَاص وَالْعَام ترك الْعَمَل بالخاص أصلا وببعض مَا تنَاوله
الْعَام وَمن قَالَ بترتيب الْعَام على الْخَاص هُوَ عَامل
بِحَقِيقَة الْخَاص وبالعام أَيْضا فِيمَا تنَاوله بِحَسب
الْإِمْكَان فَيكون هَذَا أولى بالمصير إِلَيْهِ
قُلْنَا هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم بعد ثُبُوت الْإِمْكَان
وَبعد مَا قَررنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجب فِيمَا
تنَاوله الحكم قطعا لَا إِمْكَان أَرَأَيْت لَو قَالَ قَائِل
أَنا أعمل بِالْعَام فِي كل مَا تنَاوله وأحمل الْخَاص على
الْمجَاز فأعمل بِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيق يكون هَذَا عملا
مِنْهُ بالدليلين لَا فَكَذَلِك قَوْلك أَنا أعمل بالخاص وأترك
مُوجب الْعَام فِيمَا تنَاوله (لَا يكون) عملا بهما مَعَ أَن
مُوجب الدَّلِيل لَيْسَ كُله الْعَمَل بِهِ بل الْعَمَل بِهِ
والمدافعة بِهِ عِنْد
(1/142)
التَّعَارُض بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات فِي
الْخُصُومَات بَين الْعباد فإثبات المدافعة عِنْد الْمُعَارضَة
بَين الْخَاص وَالْعَام على مَا اقْتَضَاهُ مُوجب كل وَاحِد
مِنْهُمَا لَا يكون تركا للْعَمَل بِأَحَدِهِمَا ثمَّ سوى
الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا أثْبته من حكم الْعُمُوم بَين
مَا يحْتَمل الْعُمُوم وَبَين مَا لَا يحْتَملهُ لعدم مَحَله
فِيمَا هُوَ الْمُحْتَمل فَجعل كل وَاحِد مِنْهُمَا حجَّة
لإِثْبَات الحكم مَعَ ضرب شُبْهَة
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب
النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَن كَانَ
مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} وَقَالَ تَعَالَى {قل
هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} فَإِن
نفي الْمُسَاوَاة بَينهمَا على الْعُمُوم غير مُحْتَمل لعلمنا
بالمساواة بَينهمَا فِي حكم الْوُجُود والإنسانية والبشرية
وَالصُّورَة فَقَالَ مَعَ هَذَا الْعلم يكون هَذَا الْعَام
حجَّة فِيمَا هُوَ الْمُمكن حَتَّى لَا يسوى بَين الْكَافِر
وَالْمُؤمن فِي حكم الْقصاص وَفِي حكم شِرَاء العَبْد الْمُسلم
وَلَا يشاكله لِأَن الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ وَاجِب
بِحَسب الْإِمْكَان وانعدام الْإِمْكَان فِيمَا لَا يحْتَملهُ
بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص شرعا فَكَمَا أَن دَلِيل
الْخُصُوص فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم لَا يخرج الْعَام بِصِيغَة
الْعَام من الحكم فِيمَا يثبت من أَن يكون حجَّة فِيمَا وَرَاء
ذَلِك فَكَذَلِك عدم احْتِمَال الْعُمُوم حسا لَا يخرج الْعَام
من أَن يكون حجَّة فِيمَا يحْتَملهُ
وَحَاصِل مذْهبه أَنه يُسَوِّي بَين مُحْتَمل الْحَال وَبَين
مُحْتَمل اللَّفْظ فِيمَا يثبت بِصِيغَة الْعَام من الحكم
وَفِيمَا يثبت من الشُّبْهَة الْمَانِعَة من الْعلم بِهِ قطعا
وَنحن نقُول فِيمَا ذهب إِلَيْهِ تحقق الْحَرج الَّذِي هُوَ
مَدْفُوع وَهُوَ الْوُقُوف على مُرَاد الْمُتَكَلّم ليعْمَل
بِهِ فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم وَاعْتِبَار الْإِرَادَة
الْمُغيرَة للْعُمُوم عَن حَقِيقَتهَا فِيمَا يحْتَمل
الْعُمُوم حَتَّى لَا يكون مُوجبا قطعا فِيمَا تنَاوله وَقد
بَينا أَن ذَلِك لَا يجوز شرعا وَبِه تبين فَسَاد التَّسْوِيَة
بَين مُحْتَمل الْحَال وَبَين مُحْتَمل اللَّفْظ وَتبين أَن
مُوجب الْعُمُوم لَا يثبت فِيمَا لَا يُمكن الْعَمَل
بِعُمُومِهِ لِانْعِدَامِ مَحل الْعُمُوم وسنقرر هَذَا فِي
الْفَصْل الَّذِي يَأْتِي وَهُوَ الْعَام إِذا خصص مِنْهُ
شَيْء وَإِنَّمَا سوينا فِي مُوجب الْعَام بَين الْخَبَر
وَالْأَمر وَالنَّهْي لِأَن ذَلِك حكم صِيغَة الْعُمُوم
وَهَذِه الصِّيغَة متحققة فِي الْأَخْبَار كَمَا فِي الْأَمر
وَالنَّهْي وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
(1/143)
فصل فِي بَيَان حكم الْعَام إِذا خصص
مِنْهُ شَيْء
قَالَ رَضِي الله عَنهُ (وَعَن وَالِديهِ كَانَ أَبُو الْحسن
الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول من عِنْد نَفسه لَا على سَبِيل
الْحِكَايَة عَن السّلف الْعَام إِذا لحقه خُصُوص لَا يبْقى
حجَّة بل يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى الْبَيَان سَوَاء كَانَ
دَلِيل الْخُصُوص مَعْلُوما أَو مَجْهُولا إِلَّا أَنه يجب
بِهِ أخص الْخُصُوص إِذا كَانَ مَعْلُوما
وَقَالَ بَعضهم إِذا خص مِنْهُ شَيْء مَجْهُول فَكَذَلِك
الْجَواب وَإِن خص مِنْهُ شَيْء مَعْلُوم فَإِنَّهُ يبْقى
مُوجبا الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص قطعا
وَقَالَ بَعضهم هَكَذَا فِيمَا إِذا خص شَيْء مَعْلُوم وَإِن
خص مِنْهُ شَيْء مَجْهُول يسْقط دَلِيل الْخُصُوص وَيبقى
الْعَام مُوجبا حكمه كَمَا كَانَ قبل دَلِيل الْخُصُوص
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن الْمَذْهَب
عِنْد عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فِي الْعَام إِذا لحقه خُصُوص
يبْقى حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص سَوَاء كَانَ
الْمَخْصُوص مَجْهُولا أَو مَعْلُوما إِلَّا أَن فِيهِ شُبْهَة
حَتَّى لَا يكون مُوجبا قطعا ويقينا بِمَنْزِلَة مَا قَالَ
الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مُوجب الْعَام قبل الْخُصُوص
وَالدَّلِيل على أَن الْمَذْهَب هَذَا أَن أَبَا حنيفَة رَضِي
الله عَنهُ اسْتدلَّ على فَسَاد البيع بِالشّرطِ بنهي النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع وَشرط وَهَذَا عَام دخله
خُصُوص وَاحْتج على اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة بالجوار إِذا كَانَ
عَن ملاصقة بقول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْجَار أَحَق
بصقبه وَهَذَا عَام قد دخله خُصُوص وَاسْتدلَّ مُحَمَّد على
فَسَاد بيع الْعقار قبل الْقَبْض بنهيه عَلَيْهِ السَّلَام عَن
بيع مَا لم يقبض وَهُوَ عَام لحقه خُصُوص وَأَبُو حنيفَة
رَحمَه الله خص هَذَا الْعَام بِالْقِيَاسِ فَعرفنَا أَنه
حجَّة للْعَمَل من غير أَن يكون مُوجبا قطعا لِأَن الْقيَاس
لَا يكون مُوجبا قطعا فَكيف يصلح أَن يكون مُعَارضا لما يكون
مُوجبا قطعا وَتبين أَن هَذَا الْعَام دون الْخَبَر الْوَاحِد
لِأَن الْقيَاس لَا يصلح مُعَارضا للْخَبَر الْوَاحِد عندنَا
وَلِهَذَا أَخذنَا بالْخبر الْوَاحِد الْمُوجب للْوُضُوء عِنْد
القهقهة فِي الصَّلَاة وَتَركنَا الْقيَاس بِهِ وَأَبُو حنيفَة
أَخذ
(1/144)
بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْوضُوء بنبيذ
التَّمْر وَترك الْقيَاس بِهِ ثمَّ إِن خبر الْوَاحِد لَا
يُوجب الْعلم قطعا فَمَا هُوَ دونه أولى
وَأما الْكَرْخِي احْتج وَقَالَ الْخُصُوص الَّذِي يلْحق
الْعَام يسلب حَقِيقَته فَيصير مجَازًا ومجازه فِي مُرَاد
الْمُتَكَلّم وَذَلِكَ لَا يتَبَيَّن إِلَّا بِبَيَان من
جِهَته فَصَارَ مُجملا يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى الْبَيَان
بِمَنْزِلَة صِيغَة الْعُمُوم فِيمَا لَا يحْتَمل الْعُمُوم
نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير}
فَإِنَّهُ لما انْتَفَى حَقِيقَة الْعُمُوم فِيهِ لم يكن حجَّة
بِدُونِ الْبَيَان فَكَذَلِك هَذَا وَهَذَا لِأَنَّهُ لَو
بَقِي حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص كَانَ حَقِيقَة وَلَا
وَجه للْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد
إِلَّا أَن يكون أخص الْخُصُوص مِنْهُ مَعْلُوما فَيكون ثَابتا
بِهِ لكَونه متيقنا كَالَّذي يقوم فِيهِ دَلِيل الْبَيَان
فِيمَا لَا يُمكن الْعَمَل فِيهِ بِحَقِيقَة الْعُمُوم وَلِأَن
دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ
يتَبَيَّن بِهِ أَن الْمَخْصُوص لم يكن دَاخِلا فِيمَا هُوَ
المُرَاد بالْكلَام كَمَا يتَبَيَّن بِالِاسْتِثْنَاءِ أَن
الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاءه وَلِهَذَا لَا يكون دَلِيل
الْخُصُوص إِلَّا مُقَارنًا فَأَما مَا يكون طارئا فَهُوَ
دَلِيل النّسخ لَا دَلِيل الْخُصُوص وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى
مَجْهُولا يصير مَا وَرَاءه بجهالته مَجْهُولا كَمَا أَن
الْمُسْتَثْنى إِذا تمكن فِيهِ شكّ يصير مَا وَرَاءه مشكوكا
فِيهِ حَتَّى إِذا قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا سالما وبزيغا
لم يعْتق وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى أَحدهمَا
لِأَنَّهُ مَشْكُوك فِيهِ فَيثبت حكم الشَّك فيهمَا وَإِذا
صَار مَا بَقِي مَجْهُولا لم يصلح حجَّة بِنَفسِهِ بل يجب
الْوَقْف فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي
الْأَعْمَى والبصير} وَكَذَلِكَ إِن كَانَ دَلِيل الْخُصُوص
مَعْلُوما لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون معلولا وَهُوَ الظَّاهِر
فَإِن دَلِيل الْخُصُوص نَص على حِدة فَيكون قَابلا
للتَّعْلِيل مَا لم يمْنَع مَانع من ذَلِك وبالتعليل لَا
نَدْرِي أَن حكم الْخُصُوص إِلَى أَي مِقْدَار يتَعَدَّى
فَيبقى مَا وَرَاءه مَجْهُولا أَيْضا وعَلى مَا قَالَه
الْكَرْخِي يسْقط الِاحْتِجَاج بِأَكْثَرَ العمومات لِأَن
أَكثر العمومات قد خص مِنْهَا شَيْء وَهَذَا خلاف مَا حكينا من
مَذْهَب السّلف فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُم احْتَجُّوا
بالعمومات الَّتِي يلْحقهَا (خُصُوص كَمَا احْتَجُّوا
بالعمومات الَّتِي لم يلْحقهَا خُصُوص ودعواه أَنه
(1/145)
يصير بِهِ مجَازًا كَلَام لَا) معنى لَهُ
فَإِن الْحَقِيقَة مَا يكون مُسْتَعْملا فِي مَوْضُوعه
وَالْمجَاز مَا يكون معدولا بِهِ عَن مَوْضُوعه وَإِذا كَانَ
صِيغَة الْعُمُوم يتَنَاوَل الثَّلَاثَة حَقِيقَة كَمَا
يتَنَاوَل الْمِائَة وَالْألف وَأكْثر من ذَلِك فَإِذا خص
الْبَعْض من هَذِه الصِّيغَة كَيفَ يكون مجَازًا فِيمَا
وَرَاءه وَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ فَإِن قيل الْبَعْض غير الْكل
من هَذِه الصِّيغَة وَإِذا كَانَ حَقِيقَة هَذِه الصِّيغَة
للْكُلّ فَإِذا أُرِيد بِهِ الْبَعْض كَانَ مجَازًا فِيهِ ثمَّ
هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على مَا يَقُوله بعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص من
الْعُمُوم إِلَى أَن يبْقى مِنْهُ مَا دون الثَّلَاث فَأَما
على أصلكم فَيجوز التَّخْصِيص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ
أَكثر من وَاحِد وَلَا شكّ أَن صِيغَة الْجمع لَا تتَنَاوَل
الْوَاحِد حَقِيقَة قُلْنَا نعم وَلَكِن مَا وَرَاء
الْمَخْصُوص يتَنَاوَلهُ مُوجب الْكَلَام على أَنه كل لَا بعض
بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِن الْكَلَام يصير عبارَة
عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بطرِيق أَنه كل لَا بعض وَلِهَذَا
إِذا لم يبْق شَيْء بعد دَلِيل الْخُصُوص كَانَ نسخا لَا
تَخْصِيصًا كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ إِذا لم يبْق
شَيْء بعد الِاسْتِثْنَاء بِحَال لَا يكون ذَلِك اسْتثِْنَاء
صَحِيحا وَإِذا كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ دون الثَّلَاث فَهُوَ
كل أَيْضا وَإِن كَانَا بِصِيغَة الْعُمُوم لِأَنَّهُ لَا
يحْتَمل أَن يكون الْبَاقِي أَكثر من ذَلِك على وَجه يكون
الْبَاقِي جمعا حَقِيقَة فَبِهَذَا الطَّرِيق صححنا
التَّخْصِيص كَمَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل بِهَذَا الطَّرِيق
فَإِنَّهُ لَو قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا فلَانا
وَفُلَانًا وَلَيْسَ لَهُ سواهُمَا كَانَ الِاسْتِثْنَاء
صَحِيحا لاحْتِمَال أَن يكون الْمُسْتَثْنى بَعْضًا إِذا كَانَ
لَهُ سواهُمَا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا
مماليكي وَأما وَجه القَوْل الثَّانِي مَا بَينا أَن دَلِيل
الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِذا كَانَ
الْمَخْصُوص مَجْهُولا كَانَ مَا وَرَاءه مَجْهُولا أَيْضا
والمجهول لَا يكون دَلِيلا مُوجبا وَأما إِذا كَانَ مَعْلُوما
فَمَا وَرَاءه يكون مَعْلُوما أَيْضا وكما أَن الْكَلَام
الْمُقَيد بِالِاسْتِثْنَاءِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء
الْمُسْتَثْنى وَيكون مَقْطُوعًا بِهِ إِذا
(1/146)
كَانَ الْمُسْتَثْنى مَعْلُوما فَكَذَلِك
الْعَام إِذا لحقه خُصُوص مَعْلُوم يصير عبارَة عَمَّا وَرَاءه
وَيكون مُوجبا فِيهِ مَا هُوَ حكم الْعَام لِأَن دَلِيل
الْخُصُوص لَا يتَعَرَّض لما وَرَاءه فَيبقى الْعَام فِيمَا
وَرَاءه حجَّة مُوجبَة قطعا وَلَا معنى لما قَالَ الْكَرْخِي
رَحمَه الله إِنَّه يحْتَمل التَّعْلِيل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ
بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء لَا يحْتَمل التَّعْلِيل فَإِن
الْمُسْتَثْنى مَعْدُوم على معنى أَنه لم يكن مرَادا بالْكلَام
أصلا والعدم لَا يُعلل وعَلى هَذَا القَوْل يسْقط الِاحْتِجَاج
بِآيَة السّرقَة لِأَنَّهُ لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ ثمن
الْمِجَن على مَا رُوِيَ كَانَت الْيَد لَا تقطع على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا دون ثمن الْمِجَن
وَكَذَلِكَ بِآيَة البيع فَإِنَّهُ لحقها خُصُوص مَجْهُول
وَهُوَ حُرْمَة الرِّبَا وَكَذَلِكَ بالعمومات الْمُوجبَة
للعقوبة وَقد لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ السُّقُوط
بِاعْتِبَار تمكن الشُّبْهَة على مَا قَالَ رَسُول الله
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ادرؤوا الْحُدُود
بِالشُّبُهَاتِ
وَوجه القَوْل الثَّالِث أَن التَّخْصِيص إِنَّمَا يكون
بِكَلَام مُبْتَدأ بِصِيغَة على حِدة تتَنَاوَل بعض مَا
تنَاوله الْعَام على خلاف مُوجبه مِمَّا لَو كَانَ طارئا كَانَ
رَافعا على وَجه النّسخ فَإِذا كَانَ مُقَارنًا كَانَ ثَابتا
وَمثل هَذَا لَا يصلح مغيرا صفة الْكَلَام الأول فَكيف يصلح
مغيرا لَهُ وَهُوَ غير مُتَّصِل بِتِلْكَ الصِّيغَة فَبَقيَ
الْكَلَام الأول صادرا من أَهله فِي مَحَله فَيكون مُوجبا حكمه
وَحكم الْعَام أَنه كَانَ مُوجبا قطعا فَإِذا كَانَ
الْمَخْصُوص مَعْلُوما بَقِي الْعَام فِيمَا وَرَاءه مُوجبا
قطعا وَلَا يكون مُوجبا فِي مَوضِع الْخُصُوص لتحَقّق
الْمُعَارضَة بَين دَلِيل الْخُصُوص والعموم فِيهِ فَإِذا
كَانَ مَجْهُولا فِي نَفسه فالمجهول لَا يصلح مُعَارضا للمعلوم
وَقد بَينا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله قطعا
بِمَنْزِلَة الْخَاص فِيمَا تنَاوله فَإِذا لم تستقم
الْمُعَارضَة بِكَوْن الْمعَارض مَجْهُولا سقط دَلِيل
الْخُصُوص وَبَقِي حكم الْعَام على مَا كَانَ فِي جَمِيع مَا
تنَاوله وَهَذَا بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ دَاخل على
صِيغَة الْكَلَام أَلا ترى أَنه لَا يَسْتَقِيم بِدُونِ أصل
الْكَلَام فَإِن قَول الْقَائِل إِلَّا زيدا لَا يكون مُفِيدا
شَيْئا فَإِذا دخل على صِيغَة الْكَلَام كَانَ مغيرا لَهَا
فَيكون أصل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى
وَذَلِكَ مَجْهُول عِنْد جَهَالَة الْمُسْتَثْنى والجهالة
(1/147)
فِي الْمُسْتَثْنى لَا تمنع صِحَة
الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ يبين أَن صِيغَة الْكَلَام لم
تتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا وَمَا لم يتَنَاوَلهُ الْكَلَام
فَلَا أثر للْجَهَالَة فِيهِ وَهَذَا بِخِلَاف صِيغَة الْعَام
فِيمَا لَا يحْتَملهُ الْعُمُوم لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا يكون
مُفِيدا حكمه إِذا صدر من أَهله فِي مَحَله فَإِن البيع كَمَا
لَا يَصح من الْمَجْنُون لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة لَا يَصح
فِي الْحر لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّة فَكَذَلِك صِيغَة
الْعُمُوم فِي مَحل لَا يقبل الْعُمُوم بِمَنْزِلَة الصَّادِر
من غير أَهله فَلَا يكون مُوجبا حكم الْعُمُوم وَإِذا لم
ينْعَقد مُوجبا حكم الْعَام وَلَيْسَ وَرَاءه شَيْء مَعْلُوم
يُمكن أَن يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ بَقِي مُجملا فِيمَا
هُوَ المُرَاد فَأَما إِذا صدر من أَهله فِي مَحَله كَانَ
مُوجبا حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع والمجهول لَا يصلح
أَن يكون مَانِعا فَبَقيَ أصل الْكَلَام مُعْتَبرا فِي مُوجبه
أَلا ترى أَن البَائِع بعد تَمام البيع إِذا أجل المُشْتَرِي
فِي الثّمن أَََجَلًا مَجْهُولا من غير أَن يشْتَرط ذَلِك فِي
أصل البيع يبْقى البيع مُوجبا حَالا للثّمن لِأَنَّهُ انْعَقَد
مُوجبا لذَلِك وَهَذَا الْمَانِع وَهُوَ الْأَجَل لَا يصلح أَن
يكون مُؤَخرا للمطالبة فَيبقى الحكم الأول على حَاله
وَأما وَجه القَوْل الرَّابِع وَهُوَ الصَّحِيح أَن دَلِيل
الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فِي حق الحكم وبمنزلة
النَّاسِخ بِاعْتِبَار الصِّيغَة لِأَن بِدَلِيل الْخُصُوص
يتَبَيَّن بِأَن المُرَاد إِثْبَات الحكم فِيمَا وَرَاء
الْمَخْصُوص لَا أَن يكون المُرَاد رفع الحكم عَن الْموضع
الْمَخْصُوص بعد أَن كَانَ ثَابتا وَلِهَذَا لَا يكون إِلَّا
مُقَارنًا حَتَّى لَو كَانَ طارئا يَجْعَل نسخا لَا خُصُوصا
لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل مُبينًا أَن المُرَاد مَا
وَرَاءه وَمن حَيْثُ الصِّيغَة هُوَ كَلَام مُبْتَدأ مَفْهُوم
بِنَفسِهِ مُفِيد للْحكم وَإِن لم تتقدمه صِيغَة الْعَام
فَعرفنَا أَنه من حَيْثُ الصِّيغَة مُعْتَبر بِدَلِيل النّسخ
لِأَنَّهُ مُنْفَصِل عَن الْعَام وَمن حَيْثُ الحكم هُوَ
بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ مُتَّصِل بِهِ حكما
حَتَّى لَا يجوز إِلَّا مُقَارنًا لَهُ فَلم يجز إِلْحَاقه
بِأَحَدِهِمَا خَاصَّة بل يعْتَبر فِي كل حكم بنظيره كَمَا
هُوَ الأَصْل فِيمَا تردد بَين شَيْئَيْنِ وَأخذ حظا مُعْتَبرا
من كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يعْتَبر بهما فَنَقُول إِذا
كَانَ الْمُسْتَثْنى مَجْهُولا فاعتبار جَانب الصِّيغَة فِيهِ
يسْقط دَلِيل الْخُصُوص وَيبقى حكم الْعَام فِي جَمِيع مَا
تنَاوله وَاعْتِبَار جَانب الحكم فِيهِ وَهُوَ أَنه
بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء يمْنَع ثُبُوت الحكم فِيمَا وَرَاء
الْمَخْصُوص لكَونه مَجْهُولا فَلَا
(1/148)
نبطل وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالشَّكِّ وَمعنى
هَذَا أَنا لَا نسقط دَلِيل الْخُصُوص لكَونه مَجْهُولا
بِالشَّكِّ وَلَا نخرج مَا وَرَاءه من أَن يكون صِيغَة الْعَام
حجَّة فِيهِ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمَخْصُوص
مَعْلُوما فَإِنَّهُ من حَيْثُ الصِّيغَة هُوَ نَص على حِدة
قَابل للتَّعْلِيل وبالتعليل مَا نَدْرِي مَا يتَعَدَّى
إِلَيْهِ حكم الْخُصُوص مِمَّا تنَاوله صِيغَة الْعَام
وَبِاعْتِبَار الحكم لَا يقبل التَّعْلِيل لِأَنَّهُ مُوجب
للْحكم على أَنه تبين بِهِ أَن المُرَاد مَا وَرَاءه
كالاستثناء وَهَذَا لَا يقبل التَّعْلِيل فاعتبار الصِّيغَة
يخرج الْعَام من أَن يكون حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص
وَبِاعْتِبَار الحكم يُوجب أَن يكون الْعَام مُوجبا للْحكم
قطعا فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص فَلَا يبطل معنى الْحجَّة
بِالشَّكِّ وَلَكِن يتَمَكَّن فِيهِ ضرب شُبْهَة فَإِن مَا
يكون ثَابتا من وَجه دون وَجه لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ
وَالْحكم إِنَّمَا نثبت بِحَسب الدَّلِيل وَلِهَذَا كَانَ
حجَّة مُوجبَة الْعَمَل بهَا وَلَا يكون مُوجبه الْعلم قطعا
وَهَذَا بِخِلَاف دَلِيل النّسخ فَإِن عمله فِي رفع الحكم
بِاعْتِبَار الْمُعَارضَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا فِيمَا
تنَاوله النَّص بِعَيْنِه فَإِن التَّعْلِيل فِيهِ يُؤَدِّي
إِلَى إِثْبَات الْمُعَارضَة بَين النَّص وَالْعلَّة المستنبطة
بِالرَّأْيِ والرأي لَا يكون مُعَارضا للنَّص وَلِهَذَا لَا
نشتغل بِالتَّعْلِيلِ فِي إِثْبَات النّسخ فَأَما دَلِيل
الْخُصُوص وَإِن كَانَ نصا على حِدة فَإِنَّمَا يُوجب الحكم
على الْوَجْه الَّذِي يُوجِبهُ الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ فِي
معنى الحكم بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء كَمَا قَررنَا فَلَا
يخرج من أَن يكون مُحْتملا للتَّعْلِيل وبطريق التَّعْلِيل
تتمكن الشُّبْهَة فِيمَا يبْقى وَرَاء الْمَخْصُوص مِمَّا يكون
الْعَام مُوجبا للْحكم فِيهِ وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَخْصِيص
هَذَا الْعَام بِالْقِيَاسِ لِأَن ثُبُوت الحكم بِهِ فِيمَا
وَرَاء الْمَخْصُوص مَعَ شكّ فِي أَصله وَاحْتِمَال فَيجوز أَن
يكون الْقيَاس مُعَارضا لَهُ بِخِلَاف خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ
لَا شكّ فِي أَصله وَإِنَّمَا الِاحْتِمَال فِي طَرِيقه
بِاعْتِبَار توهم غلط الرَّاوِي أَو ميله عَن الصدْق إِلَى
الْكَذِب فَمن حَيْثُ إِنَّه لَا شكّ فِيهِ مَتى ثَبت عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أقوى من الْقيَاس
فَلَا يصلح أَن يكون الْقيَاس مُعَارضا لَهُ
وَبَيَان هَذِه الْأُصُول من الْفُرُوع أَن من جمع بَين حر
وَعبد فباعهما بِثمن وَاحِد أَو بَين ميتَة وذكية أَو بَين خل
وخمر لم يجز البيع أصلا لِأَن الْحر وَالْميتَة وَالْخمر لَا
يَتَنَاوَلهَا العقد
(1/149)
أصلا فَيكون بَائِعا لما هُوَ مَال
مُتَقَوّم مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ من الْألف إِذا قسم
عَلَيْهِمَا وَالْبيع بِالْحِصَّةِ لَا ينْعَقد صَحِيحا
ابْتِدَاء كَمَا لَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِمَا
يَخُصُّهُ من الْألف إِذا قسم على قِيمَته وعَلى قيمَة هَذَا
العَبْد الآخر فَبِهَذَا الْفَصْل يتَبَيَّن مَا يكون
بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء أَنه يَجْعَل الْكَلَام عبارَة
عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى حكما وَلَو بَاعَ مِنْهُ
عَبْدَيْنِ فَهَلَك أَحدهمَا قبل الْقَبْض أَو اسْتحق أَحدهمَا
أَو كَانَ أَحدهمَا مُدبرا أَو مكَاتبا يبْقى العقد صَحِيحا
فِي الآخر لِأَن العقد يتناولهما بِاعْتِبَار صفة الْمَالِيَّة
والتقوم فيهمَا وَهُوَ الْمُعْتَبر فِي الْمحل لتناول العقد
إِيَّاه ثمَّ خرج أَحدهمَا لصيانة حق مُسْتَحقّ إِمَّا للْعَبد
فِي نَفسه أَو للْغَيْر أَو لتعذر التَّسْلِيم بهلاكه فَيبقى
العقد فِي الآخر صَحِيحا بِحِصَّتِهِ وَهَذَا نَظِير دَلِيل
النّسخ فَإِنَّهُ يرفع الحكم الثَّابِت فِي مِقْدَار مَا
تنَاوله النَّص الَّذِي هُوَ نَاسخ وَيبقى مَا وَرَاء ذَلِك من
حكم الْعَام على مَا كَانَ قبل وُرُود النَّاسِخ
وَنَظِير دَلِيل الْخُصُوص البيع بِشَرْط الْخِيَار فَإِنَّهُ
ينْعَقد صَحِيحا بِمَنْزِلَة مَا لَو لم يكن فِيهِ خِيَار
وَفِي حق الحكم كَانَ غير مُنْعَقد على معنى أَن الحكم
مُتَعَلق بِسُقُوط الْخِيَار على مَا يَأْتِيك بَيَانه فِي
مَوْضِعه أَن شَرط الْخِيَار لَا يدْخل فِي أصل السَّبَب
وَإِنَّمَا يدْخل على الحكم فَيجب اعْتِبَاره فِي كل جَانب
بنظيره حَتَّى إِن بِاعْتِبَار السَّبَب إِذا سقط الْخِيَار
اسْتحق المُشْتَرِي بزوائده الْمُتَّصِلَة أَو الْمُنْفَصِلَة
وَبِاعْتِبَار الحكم إِذا أعتق المُشْتَرِي وَالْخيَار
مَشْرُوط البَائِع ثمَّ سقط الْخِيَار لم ينفذ الْعتْق وعَلى
هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات لَو بَاعَ من رجل عَبْدَيْنِ
وَشرط الْخِيَار فِي أَحدهمَا دون الآخر للْبَائِع أَو
المُشْتَرِي فَإِن لم يكن ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى لم
يجز العقد فِي وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ ثمن كل وَاحِد
مِنْهُمَا مُسَمّى جَازَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن لم يعين
الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار مِنْهُمَا لم يجز العقد أَيْضا
وَإِن عينا ذَلِك جَازَ العقد فِي الآخر وَلزِمَ بِالثّمن
الْمُسَمّى لَهُ لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِاعْتِبَار الحكم
يعْدم العقد فِي الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار فَإِذا كَانَ
مَجْهُولا كَانَ العقد فِي الآخر ابْتِدَاء فِي الْمَجْهُول
وَإِن كَانَ مَعْلُوما وَلم يكن ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا
مُسَمّى كَانَ العقد فِي الآخر ابْتِدَاء بِالْحِصَّةِ فَلَا
ينْعَقد صَحِيحا وَبِاعْتِبَار السَّبَب كَانَ متناولا لَهما
بِصفة الصِّحَّة فَإِذا كَانَ الَّذِي لَا خِيَار فِيهِ
مِنْهُمَا مَعْلُوما وَكَانَ ثمنه مُسَمّى لزم العقد فِيهِ
وَلم يَجْعَل العقد فِي الآخر بِمَنْزِلَة شَرط فَاسد فِي
الَّذِي لَا خِيَار فِيهِ بِخِلَاف مَا قَالَه أَبُو حنيفَة
رَحمَه الله فِيمَا إِذا بَاعَ حرا وعبدا وسمى ثمن كل وَاحِد
مِنْهُمَا لم ينْعَقد البيع فِي العَبْد صَحِيحا
(1/150)
لِأَن اشْتِرَاط قبُول العقد فِي الْحر
شَرط فَاسد فقد جعله مَشْرُوطًا فِي قبُوله العقد فِي الْقِنّ
حِين جمع بَينهمَا فِي الْإِيجَاب وَالْبيع يبطل بِالشُّرُوطِ
الْفَاسِدَة وَأما اشْتِرَاط قبُول العقد فِي الَّذِي فِيهِ
الْخِيَار لَا يكون شرطا فَاسِدا لِأَن البيع بِشَرْط
الْخِيَار مُنْعَقد شرطا صَحِيحا من حَيْثُ السَّبَب فَكَانَ
العقد فِي الآخر لَازِما وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان أَلْفَاظ الْعُمُوم
أَلْفَاظ الْعُمُوم قِسْمَانِ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ وَقسم
فَرد بصيغته عَام بِمَعْنَاهُ
فَأَما مَا هُوَ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ فَكل لفظ هُوَ للْجمع
نَحْو الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْمُسْلِمين وَالْمُشْرِكين
وَالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهَا عَام صِيغَة لِأَن وَاضع
اللُّغَة وضع هَذِه الصِّيغَة للْجَمَاعَة قَالَ رجل ورجلان
وَرِجَال وَامْرَأَة وَامْرَأَتَانِ وَنسَاء وَهُوَ عَام
بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ شَامِل لكل مَا تنَاوله عِنْد
الْإِطْلَاق فأدنى مَا يُطلق عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظ
الثَّلَاثَة لِأَن أدنى الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة نَص
عَلَيْهِ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي السّير الْكَبِير فِي
الْأَنْفَال وَغَيرهَا وَمن قَالَ لفُلَان على دَرَاهِم يلْزمه
الثَّلَاثَة وَالْمَرْأَة إِذا اخْتلعت من زَوجهَا بِمَا فِي
يَدهَا من دَرَاهِم فَإِذا لَيْسَ فِي يَدهَا شَيْء يلْزمهَا
ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَن أدنى الْجمع مُتَيَقن بِهِ عِنْد ذكر
الصِّيغَة وَفِيمَا زَاد عَلَيْهِ شكّ وَاحْتِمَال فَلَا يجب
إِلَّا الْمُتَيَقن فَظن بعض أَصْحَابنَا رَحِمهم الله أَن على
قَول أبي يُوسُف أدنى الْجمع اثْنَان على قِيَاس مَسْأَلَة
الْجُمُعَة وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن عِنْده الْجمع الصَّحِيح
ثَلَاثَة إِلَّا أَنه يَجْعَل الإِمَام من جملَة الْجمع
الَّذِي تتأدى بهم الْجُمُعَة على قِيَاس سَائِر الصَّلَوَات
فَإِن الإِمَام من جملَة الْجَمَاعَة وَلِهَذَا يقدم الإِمَام
إِذا كَانَ خَلفه رجلَانِ فَصَاعِدا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله الشَّرْط فِي
الْجُمُعَة الْجَمَاعَة وَالْإِمَام جَمِيعًا فَلَا يكون
الإِمَام محسوبا من عدد الْجَمَاعَة فَيشْتَرط ثَلَاثَة سواهُ
وَفِي سَائِر الصَّلَوَات الإِمَام لَيْسَ بِشَرْط لأدائها
فَيمكن أَن يَجْعَل الإِمَام من جملَة الْجَمَاعَة فَإِذا
كَانَ مَعَ الإِمَام رجلَانِ اصطفا خَلفه
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحِمهم الله يَقُولُونَ
الْجَمَاعَة هِيَ الْمثنى فَصَاعِدا وَاسْتَدَلُّوا بقوله
عَلَيْهِ السَّلَام الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة
وَلِأَن اسْم الْجَمَاعَة
(1/151)
حَقِيقَة فِيمَا فِيهِ معنى الِاجْتِمَاع
وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الِاثْنَيْنِ أَلا ترى أَن فِي
الْوَصَايَا والمواريث جعل للمثنى حكم الْجَمَاعَة حَتَّى لَو
أوصى لأقرباء فلَان يتَنَاوَل الْمثنى فَصَاعِدا وللاثنين من
الْمِيرَاث مَا للثلاث فَصَاعِدا والأخوان يحجبان الْأُم من
الثُّلُث إِلَى السُّدس بقوله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لَهُ
إخْوَة} وَفِي كتاب الله تَعَالَى إِطْلَاق عبارَة الْجمع على
الْمثنى لقَوْله تَعَالَى {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا} وَقَالَ
تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان} إِلَى قَوْله {وَكُنَّا لحكمهم
شَاهِدين} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب} إِلَى
قَوْله تَعَالَى {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض} وَكَذَلِكَ فِي
اسْتِعْمَال النَّاس فَإِن الِاثْنَيْنِ يَقُولَانِ نَحن
فعلنَا كَذَا بِمَنْزِلَة الثَّلَاثَة
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْوَاحِد شَيْطَان والاثنان شيطانان وَالثَّلَاثَة ركب ثمَّ
يَسْتَقِيم نفي صِيغَة الْجَمَاعَة عَن الْمثنى بِأَن يَقُول
مَا فِي الدَّار رجال إِنَّمَا فِيهَا رجلَانِ وَقد بَينا أَن
اللَّفْظ إِذا كَانَ حَقِيقَة فِي الشَّيْء لَا يَسْتَقِيم
نَفْيه عَنهُ وَإِجْمَاع أهل اللُّغَة يشْهد بذلك فَإِنَّهُم
يَقُولُونَ الْكَلَام ثَلَاثَة أَقسَام وحدان وتثنية وَجمع
ثمَّ للوحدان أبنية مُخْتَلفَة وَكَذَلِكَ للْجمع وَلَيْسَ
ذَلِك للتثنية إِنَّمَا لَهَا عَلامَة مَخْصُوصَة فَعرفنَا أَن
الْمثنى غير الْجَمَاعَة وَلما وضعُوا للمثنى لفظا على حِدة
فَلَو قُلْنَا بِأَن للمثنى حكم الْجَمَاعَة لَكَانَ اللَّفْظ
الْمَوْضُوع للثَّلَاثَة على خلاف الْمَوْضُوع للمثنى
تَكْرَارا مَحْضا وكل لفظ مَوْضُوع لفائدة جَدِيدَة أَلا ترى
أَن بعد الثَّلَاث لم يوضع لما زَاد عَلَيْهَا لفظ على حِدة
لما كَانَت صِيغَة الْجَمَاعَة تجمعها وَكَذَلِكَ اللَّفْظ
الْمُفْرد والتثنية يذكر من غير عدد يُقَال رجل ورجلان (ثمَّ
يذكر مَقْرُونا بِالْعدَدِ بعد ذَلِك فَيُقَال ثَلَاثَة رجال
وَأَرْبَعَة رجال) وَلَا يُقَال وَاحِد رجل وَلَا اثْنَان
رجلَانِ وَتَسْمِيَة الثَّلَاثَة جمَاعَة بِمَعْنى
الِاجْتِمَاع كَمَا قَالُوا وَلَكِن اجْتِمَاع بِصفة وَهُوَ
اجْتِمَاع لَا يتَحَقَّق أحد الْجَانِبَيْنِ يُقَابله الْمثنى
من جَانب آخر فَأَما فِي الِاثْنَيْنِ يتعارض الْإِفْرَاد على
التَّسَاوِي من حَيْثُ إِن كل وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ فَرد
فَعِنْدَ الانضمام يكون اسْم الْمثنى حَقِيقَة فيهمَا لَا اسْم
الْجَمَاعَة وَتَأْويل الحَدِيث أَن فِي حكم الاصطفاف خلف
الإِمَام الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة فقد بَينا
الْمَعْنى فِيهِ فَأَما فِي الْمَوَارِيث فاستحقاق
الِاثْنَيْنِ الثُّلثَيْنِ لَيْسَ بِالنَّصِّ الْوَارِد
بِعِبَارَة الْجَمَاعَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَهُنَّ
ثلثا مَا ترك} إِنَّمَا ذَلِك للثلاث فِيهِ معنى يُعَارض
الْإِفْرَاد على
(1/152)
التَّسَاوِي كَمَا فِي الثَّلَاثَة فَإِن
الْفَرد من فَصَاعِدا وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاق الِاثْنَيْنِ
الثُّلثَيْنِ بِإِشَارَة النَّص فِي قَوْله {للذّكر مثل حَظّ
الْأُنْثَيَيْنِ} فَإِن نصيب الابْن مَعَ الِابْنَة
الثُّلُثَانِ فَيثبت بِهِ أَن ذَلِك حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَمَا بعده لبَيَان أَنَّهُنَّ وَإِن كن أَكثر من اثْنَتَيْنِ
لَا يكون لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَانِ عِنْد الِانْفِرَاد
والحجب بالأخوين عَرفْنَاهُ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم على مَا رُوِيَ أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْإِخْوَة فِي لِسَان
قَوْمك لَا يتَنَاوَل الِاثْنَيْنِ فَقَالَ نعم وَلَكِن لاستحي
أَن أخالفهم فِيمَا رَأَوْا
أَلا ترى أَن الْحجب ثَبت بالأخوات الْمُفْردَات بِهَذَا
الطَّرِيق فَإِن اسْم الْإِخْوَة لَا يتَنَاوَل الْأَخَوَات
الْمُفْردَات على أَن الِاسْم قد يتَنَاوَل الْمثنى مجَازًا
لاعْتِبَار معنى الِاجْتِمَاع مُطلقًا فَبِهَذَا الطَّرِيق
أثبتنا حكم الْحجب والتوريث للمثنى وَالْوَصِيَّة أُخْت
الْمِيرَاث فَيكون مُلْحقًا بِهِ
وَقَول الْمثنى نَحن فعلنَا كَذَا إِخْبَار عَن كل وَاحِد
مِنْهُمَا عَن نَفسه وَعَن غَيره على أَن جعله تبعا لنَفسِهِ
مجَازًا وَمثل هَذَا قد يكون من الْوَاحِد أَيْضا يَقُول قد
فعلنَا كَذَا وأمرنا بِكَذَا وَهَذَا لَا يدل على أَن اسْم
الْجَمَاعَة يتَنَاوَل الْفَرد حَقِيقَة
وَفِيمَا تلونا من الْآيَات بَيَان أَن المتخاصمين كَانَا
اثْنَيْنِ وَيحْتَمل أَن يكون الْحُضُور مَعَهُمَا جمَاعَة
وَصِيغَة الْجَمَاعَة تَنْصَرِف إِلَيْهِم جَمِيعًا وعَلى
هَذَا قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} فَإِن أَكثر
الْأَعْضَاء المنتفع بهَا فِي الْبدن زوج فَمَا يكون فَردا
لعظم الْمَنْفَعَة فِيهِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة مَا هُوَ زوج
فتستقيم الْعبارَة عَن تثنيته بِالْجمعِ وَيبين أَن أدنى
الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة صُورَة أَو معنى وعَلى هَذَا لَو
قَالَ إِن اشْتريت عبيدا فعلي كَذَا أَو إِن تزوجت نسَاء
فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدا إِلَّا
أَنه إِذا دخل الْألف وَاللَّام فِي هَذِه الصِّيغَة
نَجْعَلهَا للْجِنْس مجَازًا لِأَن اللَّام لتعريف الرجل
بِعَيْنِه وَقَالَ تَعَالَى {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن
رَسُولا فعصى فِرْعَوْن} الْمَعْهُود
(1/153)
فِي الأَصْل فَإِن الرجل يَقُول رَأَيْت
رجلا ثمَّ كلمت الرجل أَي ذَلِك الرَّسُول {فلولا نفر من كل
فرقة مِنْهُم طَائِفَة} إِنَّه الْوَاحِد فَصَاعِدا وَقَالَ
قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة من
الْمُؤمنِينَ} إِنَّه الْوَاحِد فَصَاعِدا وَهَذَا لاعْتِبَار
صِيغَة الْفَرد وجعلوه بِمَنْزِلَة الْجِنْس بِغَيْر حرف
اللَّام كَمَا يكون مَعَ حرف اللَّام الَّذِي هُوَ للْعهد
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو حلف لَا يشرب مَاء يَحْنَث بِشرب
الْقَلِيل كَمَا
(1/154)
لَو قَالَ المَاء لِأَن صيغته صِيغَة
الْفَرد وَالْمرَاد بِهِ الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْقَلِيل
وَالْكثير سَوَاء قرن بِهِ اللَّام أَو لم يقرن لِأَنَّهُ لما
خلا عَن معنى الْجَمَاعَة صِيغَة إِذْ لَيْسَ لَهُ وحدان كَانَ
جِنْسا فإدخال الْألف وَاللَّام فِيهِ يكون للتَّأْكِيد
كَالرّجلِ يَقُول رَأَيْت قوما وافدين وَرَأَيْت الْقَوْم
الوافدين على فلَان كَانَ ذَلِك كتأكيد معنى الْجِنْس
ثمَّ اسْم الْجِنْس يتَنَاوَل الْأَدْنَى حَقِيقَة من الْوَجْه
الَّذِي قَررنَا أَنه لَو تصور أَن لَا يبْقى من المَاء إِلَّا
ذَلِك الْقَلِيل كَانَ اسْم المَاء لَهُ حَقِيقَة وَلَا
يتَغَيَّر ذَلِك بِكَثْرَة الْجِنْس
وَقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله إِن الْحَالِف
إِنَّمَا يمْنَع نَفسه بِيَمِينِهِ عَمَّا فِي وَسعه وَفِي
وَسعه شرب الْقَلِيل من الْجِنْس وَلَيْسَ فِي وَسعه شرب
الْجَمِيع فلعلمنا بِأَنَّهُ لم يرد جَمِيع الْجِنْس صرفناه
إِلَى أقل مَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْجِنْس على احْتِمَال أَن
يكون مُرَاده الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ
وَمن هَذَا الْقسم كلمة من فَإِنَّهَا كلمة مُبْهمَة وَهِي
عبارَة عَن ذَات من يعقل وَهِي تحْتَمل الْخُصُوص والعموم أَلا
ترى أَنه إِذا قيل من فِي الدَّار يَسْتَقِيم فِي جَوَابه
فِيهَا فلَان وَفُلَان وَفُلَان وَإِذا قَالَ من أَنْت
يَسْتَقِيم فِي جَوَابه أَنا فلَان فَمَتَى وصلت هَذِه
الْكَلِمَة بمعهود كَانَت للخصوص وَإِذا وصلت بِغَيْر
الْمَعْهُود تحْتَمل الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَالْأَصْل فِيهَا
الْعُمُوم قَالَ الله تَعَالَى {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك}
وَقَالَ {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} إِلَى قَوْله تَعَالَى
{وَلَو كَانُوا لَا يبصرون} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن شهد
مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} وَالْمرَاد الْعُمُوم وَقَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه وَمن دخل دَار
أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا
قَالَ من شَاءَ من عَبِيدِي الْعتْق فَهُوَ حر فشاؤوا جَمِيعًا
عتقوا لِأَن كلمة من تَقْتَضِي الْعُمُوم وَإِنَّمَا أضَاف
الْمَشِيئَة إِلَى من دخل تَحت كلمة من فيتعمم بِعُمُومِهِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا قَالَ من شِئْت من
عَبِيدِي عتقه فَهُوَ حر فشاء عتقهم جَمِيعًا عتقوا أَيْضا
لِأَن كلمة من تعم العبيد وَمن لتمييز هَذَا الْجِنْس من
سَائِر الْأَجْنَاس بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا
الرجس من الْأَوْثَان} وَإِضَافَة الْمَشِيئَة إِلَى خَاص لَا
يُغير الْعُمُوم الثَّابِت بِكَلِمَة من كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى {ترجي من
تشَاء مِنْهُنَّ} وَلَكِن أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ لَهُ
أَن يعتقهم جَمِيعًا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم لِأَن كلمة من
للتعميم وَمن للتَّبْعِيض وَهُوَ الْحَقِيقَة فَإِذا أضَاف
الْمَشِيئَة إِلَى خَاص يبْقى معنى الْخُصُوص مُعْتَبرا فِيهِ
مَعَ الْعُمُوم فَيتَنَاوَل بَعْضًا عَاما وَذَلِكَ فِي أَن
يتناولهم إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم
وَإِنَّمَا رجحنا معنى الْعُمُوم فِيمَا تلونا من الْآيَتَيْنِ
بِالْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَة فِيهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى
{واستغفر لَهُم الله} وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك أدنى أَن}
(1/155)
إِلَى الْعَام الدَّاخِل تَحت كلمة من يرجح
جَانب الْعُمُوم فِيهِ فَإِذا أضافها {تقر أعينهن} وعَلى
احْتِمَال الْخُصُوص فِي هَذِه الْكَلِمَة قَالَ فِي السّير
الْكَبِير إِذا قَالَ من دخل مِنْكُم هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ
من النَّفْل كَذَا فَدخل رجلَانِ مَعًا لم يسْتَحق وَاحِد
مِنْهُمَا شَيْئا لِأَن الأول اسْم لفرد سَابق فَإِذا وَصله
بِكَلِمَة من وَهُوَ تَصْرِيح بالخصوص يرجح معنى الْخُصُوص
فِيهِ فَلَا يسْتَحق النَّفْل إِلَّا وَاحِد دخل سَابِقًا على
الْجَمَاعَة
ونظيرها كلمة مَا فَإِنَّهَا تسْتَعْمل فِي ذَات مَا لَا يعقل
وَفِي صِفَات مَا يعقل حَتَّى إِذا قيل مَا زيد يَسْتَقِيم فِي
جَوَابه عَالم أَو عَاقل وَإِذا قيل مَا فِي الدَّار
يَسْتَقِيم فِي جَوَابه فرس وكلب وحمار وَلَا يَسْتَقِيم فِي
الْجَواب رجل وَامْرَأَة فَعرفنَا أَنه يسْتَعْمل فِي ذَات مَا
لَا يعقل بِمَنْزِلَة كلمة من فِي ذَات من يعقل أَلا ترى أَن
فِرْعَوْن عَلَيْهِ اللَّعْنَة حِين قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام وَمَا رب الْعَالمين وَقَالَ مُوسَى رب السَّمَوَات
وَالْأَرْض أظهر التَّعَجُّب من جَوَابه حَتَّى نسبه إِلَى
الْجُنُون يَعْنِي أَنا أسأله عَن الْمَاهِيّة وَهُوَ
السُّؤَال عَن ذَات الشَّيْء أجوهر هُوَ أم عرض وَهُوَ يجيبني
عَن الْمنية أَلا إِن الله تَعَالَى يتعالى عَمَّا سَأَلَ
اللعين وَمن شَأْن الْحَكِيم إِذا سمع لَغوا أَن يعرض عَنهُ
ويشتغل بِمَا هُوَ مُفِيد قَالَ تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا
اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ وَقَالُوا لنا أَعمالنَا وَلكم
أَعمالكُم} وَهَذَا لَيْسَ جَوَابا عَن اللَّغْو وَلَكِن
إِعْرَاض عَنهُ وإتمام لذَلِك الْإِعْرَاض بالاشتغال بِمَا
هُوَ مُفِيد وَكَذَلِكَ فعل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
فَإِنَّهُ أظهر الْإِعْرَاض عَن اللَّغْو بالاشتغال بِمَا هُوَ
مُفِيد وَهُوَ أَن الصَّانِع جلّ وَعلا إِنَّمَا يعرف
بِالتَّأَمُّلِ فِي مصنوعاته وبمعرفة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته
وَفِي هَذَا بَيَان أَن اللعين أَخطَأ فِي طلب طَرِيق
الْمعرفَة بالسؤال عَن الْمَاهِيّة
وَقد تَأتي كلمة مَا بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {وَمَا بناها}
(1/156)
مَعْنَاهُ وَمن بناها إِلَّا أَن
الْحَقِيقَة فِي كل كلمة مَا بَينا وعَلى هَذَا الأَصْل كَانَ
الِاخْتِلَاف فِي قَوْله لامْرَأَته اخْتَارِي من الثَّلَاث
مَا شِئْت فَاخْتَارَتْ الثَّلَاث فَإِن عِنْدهمَا تطلق
ثَلَاثًا وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله ثِنْتَيْنِ بِمَنْزِلَة
قَوْله أعتق من عَبِيدِي من شِئْت ولاحتمال معنى الْعُمُوم فِي
كلمة مَا قُلْنَا إِذا قَالَ لأمته إِن كَانَ مَا فِي بَطْنك
غُلَاما فَأَنت حرَّة فَولدت غُلَاما وَجَارِيَة إِنَّهَا لَا
تعْتق لِأَن الشَّرْط أَن يكون جَمِيع مَا فِي بَطنهَا غُلَاما
وَنَظِير هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ كلمة الَّذِي فَإِنَّهَا
مُبْهمَة مستعملة فِيمَا يعقل وَفِيمَا لَا يعقل وفيهَا معنى
الْعُمُوم على نَحْو مَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ حَتَّى إِذا
قَالَ إِن كَانَ الَّذِي فِي بَطْنك غُلَاما كَانَ بِمَنْزِلَة
قَوْله إِن كَانَ فِي بَطْنك غُلَاما
وَكلمَة أَيْن وَحَيْثُ للتعميم فِي الْأَمْكِنَة قَالَ الله
تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره}
وَقَالَ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت}
وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَيْن شِئْت
وَحَيْثُ شِئْت يقْتَصر على الْمجْلس لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
لَفظه مَا يُوجب تَعْمِيم الْأَوْقَات
وَأما مَتى كلمة مُبْهمَة لتعميم الْأَوْقَات وَلِهَذَا لَو
قَالَ أَنْت طَالِق مَتى شِئْت لم يتَوَقَّف ذَلِك على
الْمجْلس
وَأما كلمة كل فَإِنَّهَا توجب الْإِحَاطَة على وَجه
الْإِفْرَاد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه
بِقدر} وَمعنى الْإِفْرَاد أَن كل وَاحِد من المسميات الَّتِي
توصل بهَا كلمة كل يصير مَذْكُورا على سَبِيل الِانْفِرَاد
كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَه غَيره لِأَن هَذِه الْكَلِمَة صلَة فِي
الِاسْتِعْمَال حَتَّى لَا تسْتَعْمل وَحدهَا لخلوها عَن
الْفَائِدَة وَهِي تحْتَمل الْخُصُوص نَحْو كلمة من إِلَّا أَن
معنى الْعُمُوم فِيهَا يُخَالف معنى الْعُمُوم فِي كلمة من
وَلِهَذَا استقام وَصلهَا بِكَلِمَة من قَالَ الله تَعَالَى
{كل من عَلَيْهَا فان} حَتَّى لَو وصلت باسم نكرَة تَقْتَضِي
الْعُمُوم فِي ذَلِك الِاسْم فَأَما إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أعْط
كل رجل من هَؤُلَاءِ درهما كَانَت مُوجبَة للْعُمُوم فيهم
وَلِهَذَا لَو قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق
فِي الْمرة الثَّانِيَة لِأَنَّهَا توجب الْعُمُوم فِيمَا وصلت
بِهِ من الِاسْم دون الْفِعْل إِلَّا أَن توصل بِمَا
فَحِينَئِذٍ مَا يتعقبها الْفِعْل دون الِاسْم لِأَنَّهُ
يُقَال كلما ضرب وَلَا يُقَال كلما رجل فَيَقْتَضِي
التَّعْمِيم فِيمَا يُوصل بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {كلما
نَضِجَتْ جُلُودهمْ} فَإِذا قَالَ كلما تزوجت امْرَأَة فَتزَوج
تطلق كل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا على الْعُمُوم وَلَو تزوج
امْرَأَة
(1/157)
مرَّتَيْنِ لم تطلق امْرَأَة مرَارًا تطلق
فِي كل مرّة
وَبَيَان الْفرق بَين كلمة من وَبَين كلمة كل فِيمَا يرجع
إِلَى الْخُصُوص بِمَا ذكره مُحَمَّد فِي السّير الْكَبِير
إِذا قَالَ من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل
رجلَانِ مَعًا لم يكن لوَاحِد مِنْهُمَا شَيْء وَلَو قَالَ كل
من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل عشرَة مَعًا
اسْتحق كل وَاحِد مِنْهُم النَّفْل تَاما لأجل الْإِحَاطَة فِي
كلمة كل على وَجه الْإِفْرَاد وكل وَاحِد من الداخلين
كَأَنَّهُ فَرد لَيْسَ مَعَه غَيره وَهُوَ أول من النَّاس من
الَّذين لم يدخلُوا فَاسْتحقَّ النَّفْل كَامِلا وَلَو دخل
الْعشْرَة على التَّعَاقُب كَانَ النَّفْل للْأولِ خَاصَّة فِي
الْفَصْلَيْنِ لاحْتِمَال الْخُصُوص فِي كلمة كل فَإِن الأول
اسْم لفرد سَابق وَهَذَا الْوَصْف تحقق فِيهِ دون من دخل بعده
وَكلمَة الْجَمِيع بِمَنْزِلَة كلمة كل فِي أَنَّهَا توجب
الْإِحَاطَة وَلَكِن على وَجه الِاجْتِمَاع لَا على وَجه
الْإِفْرَاد حَتَّى لَو قَالَ جَمِيع من دخل مِنْكُم الْحصن
أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل عشرَة مَعًا استحقوا نفلا وَاحِدًا
بِخِلَاف قَوْله كل من دخل لِأَن لفظ الْجَمِيع للإحاطة على
وَجه الِاجْتِمَاع وهم سَابِقُونَ بِالدُّخُولِ على سَائِر
النَّاس وَكلمَة كل للإحاطة على وَجه الْإِفْرَاد فَكل وَاحِد
مِنْهُم كالمنفرد بِالدُّخُولِ سَابِقًا على سَائِر النَّاس
مِمَّن لم يدْخل وَلَو قَالَ جمَاعَة من أهل الْحَرْب آمنونا
على بنينَا ولأحدهم ابْن وَبَنَات وللباقين بَنَات فَقَط ثَبت
الْأمان لَهُم جَمِيعًا وَلَو قَالَ آمنُوا كل وَاحِد منا على
بنيه فَإِنَّمَا الْأمان لأَوْلَاد الرجل الَّذِي لَهُ ابْن
خَاصَّة دون الآخرين لِأَن الْإِحَاطَة فِي الأول على وَجه
الِاجْتِمَاع وباختلاط الذّكر الْوَاحِد بجماعتهم بتناولهم
اسْم الْبَنِينَ وَفِي الثَّانِي الْإِحَاطَة على سَبِيل
الْإِفْرَاد فَإِنَّمَا يتَنَاوَل لفظ الْبَنِينَ أَوْلَاد
الرجل الَّذِي لَهُ ابْن دون أَوْلَاد الَّذين لَهُم بَنَات
فَقَط وَهَذِه الْكَلِمَات مَوْضُوعَة لِمَعْنى الْعُمُوم
لُغَة غير معلولة
وَنَوع آخر مِنْهَا النكرَة فَإِن النكرَة من الِاسْم للخصوص
فِي أصل الْوَضع
قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا
عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا} لِأَن
(1/158)
الْمَقْصُود بِهِ تَسْمِيَة فَرد من
الْأَفْرَاد {إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} وَالْمرَاد رَسُول
وَاحِد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خمس من الْإِبِل
شَاة وَفِي الْعَادة يُقَال عبد من العبيد وَرجل من الرِّجَال
وَلَا يُقَال رجال من الرِّجَال
ثمَّ هَذِه النكرَة عِنْد الْإِطْلَاق لَا تعم عندنَا وَعند
الشَّافِعِي رَحمَه الله تكون عَامَّة وَبَيَانه فِي قَوْله
تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} فَهُوَ يَقُول هَذِه رَقَبَة
عَامَّة يدْخل فِيهَا الصَّغِيرَة والكبيرة وَالذكر
وَالْأُنْثَى والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وَقد خص
مِنْهَا الزمنة والمدبرة بِالْإِجْمَاع فَيجوز تَخْصِيص
الْكَافِرَة مِنْهَا بِالْقِيَاسِ على كَفَّارَة الْقَتْل
وَنحن نقُول هَذِه رَقَبَة مُطلقَة غير مُقَيّدَة بِوَصْف
فالتقييد بِالْوَصْفِ يكون زِيَادَة وَلَا يكون تَخْصِيصًا
فَيكون نسخا ورفعا لحكم الْإِطْلَاق إِذْ الْمُقَيد غير
الْمُطلق وَبِهَذَا النَّص وَجب عتق رَقَبَة لَا عتق رِقَاب
ثمَّ جَوَاز الْعتْق فِي جَمِيع مَا ذكره بِاعْتِبَار
صَلَاحِية الْمحل لما وَجب بِالْأَمر وَهَذِه الصلاحية مَا
ثبتَتْ بِهَذَا النَّص فقد كَانَت صَالِحَة للتحرير قبل وجوب
الْعتْق بِهَذَا النَّص وَإِنَّمَا الثَّابِت بِهَذَا النَّص
الْوُجُوب فَقَط وَلَيْسَ فِيهِ معنى الْعُمُوم كمن نذر أَن
يتَصَدَّق بدرهم فَأَي دِرْهَم تصدق بِهِ خرج عَن نَذره لِأَن
صَلَاحِية الْمحل للتصدق لم تكن بنذره إِنَّمَا الْوُجُوب
بِالنذرِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُوب معنى الْعُمُوم وَاشْتِرَاط
الْملك فِي الرَّقَبَة لضَرُورَة التَّحْرِير الْمَنْصُوص
عَلَيْهِ فَإِن التَّحْرِير لَا يَصح من الْمَرْء إِلَّا فِي
ملكه وَاشْتِرَاط صفة السَّلامَة لإِطْلَاق الرَّقَبَة لِأَن
الْإِطْلَاق يَقْتَضِي الْكَمَال والزمنة قَائِمَة من وَجه
مستهلكة من وَجه فَلَا تكون قَائِمَة مُطلقًا حَتَّى تتناولها
اسْم الرَّقَبَة مُطلقًا وَلِهَذَا شَرط كَمَال الرّقّ أَيْضا
لِأَن التَّحْرِير مَنْصُوص عَلَيْهِ مُطلقًا وَذَلِكَ
إِعْتَاق كَامِل ابْتِدَاء وَفِي الْمُدبر وَأم الْوَلَد هَذَا
من وَجه تَعْجِيل لما صَار مُسْتَحقّا لَهما مُؤَجّلا فَلَا
يكون إعتاقا مُبْتَدأ مُطلقًا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْمُنكر
إِذا أُعِيد مُنْكرا فَالثَّانِي غير الأول لِأَن اسْم النكرَة
يتَنَاوَل فَردا غير معِين وَفِي صرف الثَّانِي إِلَى مَا
يتَنَاوَلهُ الأول نوع تعْيين فَلَا يكون نكرَة مُطلقًا وَهُوَ
معنى قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لن يغلب عسر
يسرين فَإِن الله تَعَالَى ذكر الْيُسْر مُنْكرا وَأَعَادَهُ
مُنْكرا وَذكر الْعسر مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام وَلَو كَانَ
إِطْلَاق اسْم النكرَة يُوجب الْعُمُوم لم يكن الثَّانِي غير
الأول بِمَنْزِلَة اسْم الْجِنْس وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو
حنيفَة إِذا أقرّ بِمِائَة دِرْهَم فِي موطن وَأشْهد شَاهِدين
ثمَّ أقرّ بِمِائَة فِي موطن آخر وَأشْهد شَاهِدين كَانَ
الثَّانِي غير الأول وَلَو كتب صكا فِيهِ إِقْرَار بِمِائَة
وَأشْهد شَاهِدين فِي مجْلِس ثمَّ شَاهِدين فِي مجْلِس آخر
كَانَ المَال وَاحِدًا لِأَنَّهُ حِين أضَاف الْإِقْرَار إِلَى
مَا فِي الصَّك صَار الثَّانِي مُعَرفا فَيتَنَاوَل مَا
يتَنَاوَلهُ الأول فَقَط كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فعصى
فِرْعَوْن الرَّسُول} وَلَو كَانَ فِي مجْلِس وَاحِد أقرّ
مرَّتَيْنِ فَإِن الْعَام إِذا أُعِيد بصيغته فَالثَّانِي
(1/159)
لَا يتَنَاوَل إِلَّا مَا يتَنَاوَلهُ
الأول فَالْمَال وَاحِد اسْتِحْسَانًا لِأَن للمجلس تَأْثِيرا
فِي جمع الْكَلِمَات المتفرقة وَجعلهَا ككلمة وَاحِدَة
فباعتباره يكون الثَّانِي مُعَرفا من وَجه وَقَالَ أَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد فِي المجلسين كَذَلِك بِاعْتِبَار الْعَادة
لِأَن الْإِنْسَان يُكَرر الْإِقْرَار الْوَاحِد بَين يَدي كل
فريق من الشُّهُود لِمَعْنى الاستيثاق وَالْمَال مَعَ الشَّك
لَا يجب فلاحتمال الْإِعَادَة بطرِيق الْعَادة لم يلْزمه
إِلَّا مَال وَاحِد
ثمَّ هَذِه النكرَة تحْتَمل معنى الْعُمُوم إِذا اتَّصل بهَا
دَلِيل الْعُمُوم وَذَلِكَ أَنْوَاع مِنْهَا النكرَة فِي
مَوضِع النَّفْي فَإِنَّهَا تعم قَالَ تَعَالَى {فَلَا تدعوا
مَعَ الله أحدا} وَالرجل يَقُول مَا رَأَيْت رجلا الْيَوْم
فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ نفي هَذَا الْجِنْس على الْعُمُوم
وَهَذَا التَّعْمِيم لَيْسَ بِصِيغَة النكرَة بل لمقتضاها
وَبِه تبين معنى الْفرق بَين النكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة
فِي النَّفْي لِأَن فِي مَوضِع الْإِثْبَات الْمَقْصُود
إِثْبَات الْمُنكر وَفِي مَوضِع النَّفْي الْمَقْصُود نفي
الْمُنكر فالصيغة فِي الْمَوْضِعَيْنِ تعْمل فِيمَا هُوَ
الْمَقْصُود إِلَّا أَن من ضَرُورَة نفي رُؤْيَة رجل مُنكر نفي
رُؤْيَة جنس الرِّجَال فَإِنَّهُ بعد رُؤْيَة رجل وَاحِد لَو
قَالَ مَا رَأَيْت الْيَوْم رجلا كَانَ كَاذِبًا أَلا ترى أَنه
لَو أخبر بضده فَقَالَ رَأَيْت الْيَوْم رجلا كَانَ صَادِقا
وَلَيْسَ من ضَرُورَة إِثْبَات رُؤْيَة رجل وَاحِد إِثْبَات
رُؤْيَة غَيره فَهَذَا معنى قَوْلنَا النكرَة فِي النَّفْي تعم
وَفِي الْإِثْبَات تخص
وَمِمَّا يدل على الْعُمُوم فِي النكرَة الْألف وَاللَّام إِذا
اتصلا بنكرة لَيْسَ فِي جِنْسهَا مَعْهُود قَالَ تَعَالَى {إِن
الْإِنْسَان لفي خسر} وَقَالَ تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة}
(1/160)
وَقَالَ تَعَالَى {الزَّانِيَة
وَالزَّانِي} لما اتَّصل الْألف وَاللَّام بنكرة لَيْسَ فِي
جِنْسهَا مَعْهُود أوجب الْعُمُوم وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ
الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق تطلق كل امْرَأَة
يَتَزَوَّجهَا وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي يدْخل الدَّار من
عَبِيدِي حر يعْتق كل عبد يدْخل الدَّار وَهَذَا لِأَن الْألف
وَاللَّام للمعهود وَلَيْسَ هُنَا مَعْهُود فَيكون بِمَعْنى
الْجِنْس مجَازًا كَالرّجلِ يَقُول فلَان يحب الدِّينَار
وَمرَاده الْجِنْس وَفِي الْجِنْس معنى الْعُمُوم كَمَا بَينا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت الطَّلَاق أَو أَنْت
طَالِق الطَّلَاق يحْتَمل معنى الْعُمُوم فِيهِ حَتَّى إِذا
نوى الثَّلَاث تقع الثَّلَاث وَلَكِن بِدُونِ النِّيَّة
يتَنَاوَل الْوَاحِدَة لِأَنَّهَا أدنى الْجِنْس وَهِي
الْمُتَيَقن بهَا وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات لَو وكل
وَكيلا بشرَاء الثِّيَاب يَصح التَّوْكِيل بِدُونِ بَيَان
الْجِنْس لِأَن عِنْد ذكر الْألف وَاللَّام يصير هَذَا
بِمَعْنى الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْأَدْنَى بِخِلَاف مَا لَو
قَالَ ثيابًا أَو أثوابا فَإِن التَّوْكِيل لَا يكون صَحِيحا
لجَهَالَة الْجِنْس فِيمَا يتَنَاوَلهُ التَّوْكِيل
وَمن الدَّلِيل على التَّعْمِيم فِي النكرَة إِلْحَاق وصف عَام
بهَا حَتَّى إِذا قَالَ وَالله لَا أكلم إِلَّا رجلا عَالما
كَانَ لَهُ أَن يكلم كل عَالم لِأَن الْمُسْتَثْنى نكرَة فِي
الْإِثْبَات وَلكنهَا مَوْصُوفَة بِصفة عَامَّة بِخِلَاف مَا
لَو قَالَ إِلَّا رجلا فَكلم رجلَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْنَث وَلَو
قَالَ لامرأتين لَهُ وَالله لَا أقربكما إِلَّا يَوْمًا
فالمستثنى يَوْم وَاحِد وَلَو قَالَ إِلَّا يَوْم أقربكما
فِيهِ فَكل يَوْم يقربهما فِيهِ يكون مُسْتَثْنى لَا يَحْنَث
بِهِ لِأَنَّهُ وصف النكرَة بِصفة عَامَّة
وَمن جنس النكرَة كلمة أَي فَإِنَّهَا للخصوص بِاعْتِبَار أصل
الْوَضع يَقُول أَي رجل أَتَاك وَأي دَار تريدها وَالْمرَاد
الْفَرد فَقَط وَقَالَ تَعَالَى {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا}
وَالْمرَاد الْفَرد من المخاطبين بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى
{يأتيني} فَإِنَّهُ لم يقل يأتوني وعَلى هَذَا لَو قَالَ لرجل
أَي عَبِيدِي ضَربته فَهُوَ حر فضربهم لم يعْتق إِلَّا وَاحِد
مِنْهُم لِأَن كلمة أَي يتَنَاوَل الْفَرد مِنْهُم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ أَي عَبِيدِي ضربك فَهُوَ
حر فضربوه عتقوا جَمِيعًا قُلْنَا نعم وَلَكِن كلمة أَي
تتَنَاوَل الْفَرد مِمَّا يقرن بِهِ من النكرَة فَإِذا قَالَ
ضربك فَإِنَّمَا يتَنَاوَل نكرَة مَوْصُوفَة بِفعل الضَّرْب
وَهَذِه الصّفة عَامَّة إِلَى الْمُخَاطب لَا إِلَى النكرَة
الَّتِي تتناولها كلمة أَي فَبَقيت نكرَة غير مَوْصُوفَة
فَلهَذَا لَا تتَنَاوَل إِلَّا الْوَاحِد مِنْهُم وَنَظِيره
قَوْله تَعَالَى أَي فيتعمم بتعميم
(1/161)
الصّفة فيعتقون جَمِيعًا وَإِذا قَالَ
ضَربته فَإِنَّمَا أضَاف الضَّرْب الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن
وَالْمرَاد أَحدهمَا بِدَلِيل قَوْله {الَّذين آمنُوا وَلم
يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} وَقَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ
أَيّكُم أحسن عملا} وَالْمرَاد بِهِ الْعُمُوم لِأَنَّهُ وصف
النكرَة بِحسن الْعَمَل وَهِي صفة عَامَّة
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لعبيده أَيّكُم حمل هَذِه
الْخَشَبَة فَهُوَ حر فحملوها جَمِيعًا مَعًا والخشبة يُطيق
حملهَا وَاحِد لم يعْتق وَاحِد مِنْهُم وَقد وصف النكرَة هُنَا
بِصفة عَامَّة وَهُوَ الْحمل قُلْنَا مَا وصف النكرَة بِصفة
الْحمل مُطلقًا بل بِحمْل الْخَشَبَة وَإِذا حملوها مَعًا فَكل
وَاحِد مِنْهُم إِنَّمَا حمل بَعْضهَا وبوجود بعض الشَّرْط لَا
ينزل شَيْء من الْجَزَاء حَتَّى لَو حملوها على التَّعَاقُب
عتقوا جَمِيعًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم حمل الْخَشَبَة
والنكرة الموصوفة تكون عَامَّة
فَإِن قيل إِذا كَانَت الْخَشَبَة بِحَيْثُ لَا يُطيق حملهَا
وَاحِد مِنْهُم عتقوا جَمِيعًا إِذا حملوها وَإِنَّمَا حمل كل
وَاحِد مِنْهُم بَعْضهَا قُلْنَا إِذا كَانَت لَا يُطيق حملهَا
وَاحِد فَقَط علمنَا أَنه وصف النكرَة بِأَصْل الْحمل لَا
بِحمْل الْخَشَبَة وَإِنَّمَا علمنَا هَذَا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنه إِنَّمَا يحث العبيد على مَا يتَحَقَّق مِنْهُم
دون مَا لَا يتَحَقَّق وَالثَّانِي أَن مَقْصُوده إِذا كَانَت
بِحَيْثُ يحملهَا وَاحِد معرفَة جلادتهم وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك
بِحمْل الْوَاحِد الْخَشَبَة لَا بِمُطلق الْحمل وَإِذا كَانَت
بِحَيْثُ لَا يحملهَا وَاحِد فمقصوده أَن تصير الْخَشَبَة
مَحْمُولَة إِلَى مَوضِع حَاجته وَإِنَّمَا يحصل هَذَا بِمُطلق
فعل الْحمل من كل وَاحِد مِنْهُم فَهَذَا وَجه الْفرق بَين
هَذِه الْفُصُول
فصل
وَأما حكم الْمُشْتَرك فالتوقف فِيهِ إِلَى أَن يظْهر المُرَاد
بِالْبَيَانِ على اعْتِقَاد أَن مَا هُوَ المُرَاد حق
وَيشْتَرط أَن لَا يتْرك طلب المُرَاد بِهِ إِمَّا
بِالتَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَة أَو الْوُقُوف على دَلِيل آخر
بِهِ يتَبَيَّن المُرَاد لِأَن كَلَام الْحَكِيم لَا يَخْلُو
عَن فَائِدَة وَإِذا كَانَ الْمُشْتَرك
(1/162)
مَا يحْتَمل مَعَاني على وَجه التَّسَاوِي
فِي الِاحْتِمَال مَعَ علمنَا أَن المُرَاد وَاحِد مِنْهَا لَا
جَمِيعهَا فَإِن الِاشْتِرَاك عبارَة عَن التَّسَاوِي وَذَلِكَ
إِمَّا فِي الِاجْتِمَاع فِي التَّنَاوُل أَو فِي احْتِمَال
التَّنَاوُل وَقد انْتَفَى معنى التَّسَاوِي فِي التَّنَاوُل
فَتعين معنى التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال وَوَجَب اعْتِقَاد
الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد لِأَن ذَلِك فَائِدَة كَلَام
الْحَكِيم ثمَّ يجب الِاشْتِغَال بِطَلَبِهِ ولطلبه طَرِيقَانِ
إِمَّا التَّأَمُّل بالصيغة ليتبين بِهِ المُرَاد أَو طلب
دَلِيل آخر يعرف بِهِ المُرَاد وبالوقوف على المُرَاد يَزُول
معنى الِاحْتِمَال على التَّسَاوِي فَلهَذَا يجب ذَلِك بِحكم
الصِّيغَة الْمُشْتَركَة وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله غصبت من
فلَان شَيْئا فَإِن أصل الْإِقْرَار يَصح وَيجب بِهِ حق للْمقر
لَهُ على الْمقر إِلَّا أَن فِي اسْم الشَّيْء احْتِمَالا فِي
كل مَوْجُود على التَّسَاوِي وَلَكِن بِالتَّأَمُّلِ فِي
صِيغَة الْكَلَام يعلم أَن مُرَاده المَال لِأَنَّهُ قَالَ
غصبت وَحكم الْغَصْب لَا يثبت شرعا إِلَّا فِيمَا هُوَ مَال
وَلَكِن لَا يعرف جنس ذَلِك المَال وَلَا مِقْدَاره
بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة الْكَلَام فَيرجع فِيهِ إِلَى
بَيَان الْمقر حَتَّى يجْبر على الْبَيَان وَيقبل قَوْله إِذا
بَين مَا هُوَ مُحْتَمل
وَأما حكم المؤول فوجوب الْعَمَل بِهِ على حسب وجوب الْعَمَل
بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَن وجوب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ ثَابت
قطعا وَوُجُوب الْعَمَل بالمؤول ثَابت مَعَ احْتِمَال السَّهْو
والغلط فِيهِ فَلَا يكون قطعا بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخَبَر
الْوَاحِد لِأَن طَرِيقه غَالب الرَّأْي وَذَلِكَ لَا يَنْفَكّ
عَن احْتِمَال السَّهْو والغلط وَبَيَان هَذَا فِيمَن أَخذ
مَاء الْمَطَر فِي إِنَاء فَإِنَّهُ يلْزمه التَّوَضُّؤ بِهِ
وَيحكم بِزَوَال الْحَدث بِهِ قطعا وَلَو وجد مَاء فِي مَوضِع
فغلب على ظَنّه أَنه طَاهِر يلْزمه التَّوَضُّؤ بِهِ على
احْتِمَال السَّهْو والغلط حَتَّى إِذا تبين أَن المَاء نجس
يلْزمه إِعَادَة الْوضُوء وَالصَّلَاة وَأكْثر مسَائِل
التَّحَرِّي على هَذَا
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَسمَاء صِيغَة
الْخطاب فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاء وأحكامها - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْأَسْمَاء أَرْبَعَة
الظَّاهِر وَالنَّص والمفسر والمحكم وَلها أضداد أَرْبَعَة
الْخَفي والمشكل والمجمل والمتشابه
أما الظَّاهِر فَهُوَ مَا يعرف المُرَاد مِنْهُ بِنَفس السماع
من غير تَأمل وَهُوَ الَّذِي يسْبق
(1/163)
إِلَى الْعُقُول والأوهام لظُهُوره
مَوْضُوعا فِيمَا هُوَ المُرَاد مِثَاله قَوْله تَعَالَى {يَا
أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَأحل الله
البيع} وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَهَذَا
وَنَحْوه ظَاهر يُوقف على المُرَاد مِنْهُ بِسَمَاع الصِّيغَة
وَحكمه لُزُوم مُوجبه قطعا عَاما كَانَ أَو خَاصّا
وَأما النَّص فَمَا يزْدَاد وضوحا بِقَرِينَة تقترن
بِاللَّفْظِ من الْمُتَكَلّم لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يُوجب
ذَلِك ظَاهرا بِدُونِ تِلْكَ الْقَرِينَة وَزعم بعض
الْفُقَهَاء أَن اسْم النَّص لَا يتَنَاوَل إِلَّا الْخَاص
وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن اشتقاق هَذِه الْكَلِمَة من قَوْلك
نصصت الدَّابَّة إِذا حملتها على سير فَوق السّير الْمُعْتَاد
مِنْهَا بِسَبَب باشرته وَمِنْه المنصة فَإِنَّهُ اسْم للعرش
الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْعَرُوس فَيَزْدَاد ظهورا بِنَوْع
تكلّف فَعرفنَا أَن النَّص مَا يزْدَاد وضوحا لِمَعْنى من
الْمُتَكَلّم يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة بِالظَّاهِرِ
عَاما كَانَ أَو خَاصّا إِلَّا أَن تِلْكَ الْقَرِينَة لما
اخْتصّت بِالنَّصِّ دون الظَّاهِر جعل بَعضهم الِاسْم للخاص
فَقَط
وَقَالَ بَعضهم النَّص يكون مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ الَّذِي
كَانَ السِّيَاق لَهُ فَلَا يثبت بِهِ مَا هُوَ مُوجب
الظَّاهِر وَلَيْسَ كَذَلِك عندنَا فَإِن الْعبْرَة لعُمُوم
الْخطاب لَا لخُصُوص السَّبَب عندنَا على مَا نبينه فَيكون
النَّص ظَاهرا لصيغة الْخطاب نصا بِاعْتِبَار الْقَرِينَة
الَّتِي كَانَ السِّيَاق لأَجلهَا وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله
تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} فَإِنَّهُ ظَاهر
فِي إِطْلَاق البيع نَص فِي الْفرق بَين البيع والربا بِمَعْنى
الْحل وَالْحُرْمَة لِأَن السِّيَاق كَانَ لأَجله لِأَنَّهَا
نزلت ردا على الْكَفَرَة فِي دَعوَاهُم الْمُسَاوَاة بَين
البيع والربا كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا
إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا} وَقَوله تَعَالَى {فانكحوا مَا
طَابَ لكم من النِّسَاء} ظَاهر فِي تَجْوِيز نِكَاح مَا
يستطيبه الْمَرْء من النِّسَاء نَص فِي بَيَان الْعدَد لِأَن
سِيَاق الْآيَة لذَلِك بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {مثنى
وَثَلَاث وَربَاع} وَقَوله تَعَالَى {فطلقوهن لعدتهن} نَص فِي
الْأَمر بمراعاة وَقت السّنة عِنْد إِرَادَة الْإِيقَاع لِأَن
السِّيَاق كَانَ لأجل ذَلِك ظَاهر فِي الْأَمر بِأَن لَا يزِيد
على تَطْلِيقَة وَاحِدَة (فَإِن امْتِثَال هَذِه الصِّيغَة
يكون بقوله طلقت وَبِهَذَا اللَّفْظ لَا يَقع الطَّلَاق إِلَّا
وَاحِدَة وَالْأَمر مُوجب)
(1/164)
الِامْتِثَال ظَاهرا فَتبين بِهَذَا أَن
مُوجب النَّص مَا هُوَ مُوجب الظَّاهِر وَلكنه يزْدَاد على
الظَّاهِر فِيمَا يرجع إِلَى الوضوح وَالْبَيَان بِمَعْنى عرف
من مُرَاد الْمُتَكَلّم وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك عِنْد
الْمُقَابلَة وَيكون النَّص أولى من الظَّاهِر
وَأما الْمُفَسّر فَهُوَ اسْم للمكشوف الَّذِي يعرف المُرَاد
بِهِ مكشوفا على وَجه لَا يبْقى مَعَه احْتِمَال التَّأْوِيل
فَيكون فَوق الظَّاهِر وَالنَّص لِأَن احْتِمَال التَّأْوِيل
قَائِم فيهمَا مُنْقَطع فِي الْمُفَسّر سَوَاء كَانَ ذَلِك
مِمَّا يرجع إِلَى صِيغَة الْكَلَام بِأَن لَا يكون مُحْتملا
إِلَّا وَجها وَاحِدًا وَلكنه لُغَة عَرَبِيَّة أَو
اسْتِعَارَة دقيقة فَيكون مكشوفا بِبَيَان الصِّيغَة أَو يكون
بِقَرِينَة من غير الصِّيغَة فيتبين بِهِ المُرَاد بالصيغة لَا
لِمَعْنى من الْمُتَكَلّم فَيَنْقَطِع بِهِ احْتِمَال
التَّأْوِيل إِن كَانَ خَاصّا وَاحْتِمَال التَّخْصِيص إِن
كَانَ عَاما مِثَاله قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة
كلهم أَجْمَعُونَ} فَإِن اسْم الْمَلَائِكَة عَام فِيهِ
احْتِمَال الْخُصُوص فبقوله {كلهم} يَنْقَطِع هَذَا
الِاحْتِمَال وَيبقى احْتِمَال الْجمع والافتراق فبقوله
{أَجْمَعُونَ} يَنْقَطِع احْتِمَال تَأْوِيل الِافْتِرَاق
وَتبين أَن الْمُفَسّر حكمه زَائِد على حكم النَّص وَالظَّاهِر
فَكَانَ ملزما مُوجبه قطعا على وَجه لَا يبْقى فِيهِ احْتِمَال
التَّأْوِيل وَلَكِن يبْقى احْتِمَال النّسخ
وَأما الْمُحكم فَهُوَ زَائِد على مَا قُلْنَا بِاعْتِبَار
أَنه لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النّسخ والتبديل وَهُوَ مَأْخُوذ
من قَوْلك بِنَاء مُحكم أَي مَأْمُون الانتقاض وأحكمت
الصِّيغَة أَي أمنت نقضهَا وتبديلها وَقيل بل هُوَ مَأْخُوذ من
قَول الْقَائِل أحكمت فلَانا عَن كَذَا أَي رَددته قَالَ
الْقَائِل أبني حنيفَة أحكموا سفهاءكم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم
أَن أغضبا أَي امنعوا وَمِنْه حِكْمَة الْفرس لِأَنَّهَا
تَمنعهُ من العثار وَالْفساد فالمحكم مُمْتَنع من احْتِمَال
التَّأْوِيل وَمن أَن يرد عَلَيْهِ النّسخ والتبديل وَلِهَذَا
سمى الله تَعَالَى المحكمات أم الْكتاب أَي الأَصْل الَّذِي
يكون الْمرجع إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْأُم للْوَلَد فَإِنَّهُ
يرجع إِلَيْهَا وَسميت مَكَّة أم الْقرى لِأَن النَّاس
يرجعُونَ إِلَيْهَا لِلْحَجِّ وَفِي آخر الْأَمر نَحْو قَوْله
تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} فقد علم أَن هَذَا (وصف)
دَائِم
(1/165)
والمرجع مَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال
التَّأْوِيل وَلَا احْتِمَال النّسخ والتبديل وَذَلِكَ لَا
يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَإِنَّمَا يظْهر التَّفَاوُت فِي
مُوجب هَذِه الْأَسَامِي عِنْد التَّعَارُض وَفَائِدَته ترك
الْأَدْنَى بالأعلى وترجيح الْأَقْوَى على الأضعف وَلِهَذَا
أَمْثِلَة فِي الْآثَار إِذا تَعَارَضَت نذكرها فِي بَيَان
أَقسَام الْأَخْبَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأَمْثَاله من مسَائِل الْفِقْه مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحِمهم الله فِيمَن تزوج امْرَأَة شهرا فَإِنَّهُ يكون ذَلِك
مُتْعَة لَا نِكَاحا لِأَن قَوْله تزوجت نَص للنِّكَاح وَلَكِن
احْتِمَال الْمُتْعَة قَائِم فِيهِ وَقَوله شهرا مُفَسّر فِي
الْمُتْعَة لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النِّكَاح فَإِن النِّكَاح
لَا يحْتَمل التَّوْقِيت بِحَال فَإِذا اجْتمعَا فِي الْكَلَام
رجحنا الْمُفَسّر وحملنا النَّص على ذَلِك الْمُفَسّر فَكَانَ
مُتْعَة لَا نِكَاحا
وَقَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ الرجل لآخر لي عَلَيْك ألف
دِرْهَم فَقَالَ الْحق أَو الصدْق أَو الْيَقِين كَانَ
إِقْرَارا وَلَو قَالَ الْبر أَو الصّلاح لَا يكون إِقْرَارا
فَإِن قَالَ الْبر الْحق أَو الْبر الصدْق أَو الْبر الْيَقِين
كَانَ إِقْرَارا وَلَو قَالَ الصّلاح الْحق أَو الصّلاح الصدْق
أَو الصّلاح الْيَقِين يكون ردا لكَلَامه وَلَا يكون إِقْرَارا
لِأَن الْحق والصدق وَالْيَقِين صفة للْخَبَر ظَاهرا فَإِذا
ذكره فِي مَوضِع الْجَواب كَانَ مَحْمُولا على الْخَبَر
الَّذِي هُوَ تَصْدِيق بِاعْتِبَار الظَّاهِر مَعَ احْتِمَال
فِيهِ وَهُوَ إِرَادَة ابْتِدَاء الْكَلَام أَي الصدْق أولى بك
أَو الْحق أَو الْيَقِين أولى بالاشتغال من دَعْوَى الْبَاطِل
فَأَما الْبر فَهُوَ اسْم لجَمِيع أَنْوَاع الْإِحْسَان لَا
يخْتَص بالْخبر فَهُوَ وَإِن ذكر فِي مَوضِع الْجَواب يكون
بِمَنْزِلَة الْمُجْمل لَا يفهم مِنْهُ الْجَواب عِنْد
الِانْفِرَاد فَإِن قرن بِهِ مَا يكون ظَاهره للجواب وَذَلِكَ
الصدْق أَو الْحق أَو الْيَقِين حمل ذَلِك الْمُجْمل على هَذَا
الْبَيَان الظَّاهِر فَيكون إِقْرَارا فَأَما الصّلاح لَيْسَ
فِيهِ احْتِمَال الْخَبَر بل هُوَ مُحكم فِي أَنه ابْتِدَاء
كَلَام لَا جَوَاب فَيحمل مَا يقرن بِهِ من الظَّاهِر على
هَذَا الْمُحكم وَيجْعَل ذَلِك ردا لكَلَامه وَابْتِدَاء أَمر
لَهُ بِاتِّبَاع الصّلاح وَترك دَعْوَى الْبَاطِل
(1/166)
وَأما الْخَفي فَهُوَ اسْم لما اشْتبهَ
مَعْنَاهُ وخفي المُرَاد مِنْهُ بِعَارِض فِي الصِّيغَة يمْنَع
نيل المُرَاد بهَا إِلَّا بِالطَّلَبِ مَأْخُوذ من قَوْلهم
اختفى فلَان إِذا استتر فِي وَطنه وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُوقف
عَلَيْهِ بِعَارِض حِيلَة أحدثه إِلَّا بالمبالغة فِي الطّلب
من غير أَن يُبدل نَفسه أَو مَوْضِعه وَهُوَ ضد الظَّاهِر وَقد
جعل بَعضهم ضد الظَّاهِر الْمُبْهم وَفَسرهُ بِهَذَا الْمَعْنى
أَيْضا مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل ليل بهيم إِذا عَم الظلام
فِيهِ كل شَيْء حَتَّى لَا يهتدى فِيهِ إِلَّا بِحَدّ
التَّأَمُّل
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَلَكِنِّي اخْتَرْت الأول لِأَن اسْم
الْمُبْهم يتَنَاوَل الْمُطلق لُغَة تَقول الْعَرَب فرس بهيم
أَي مُطلق اللَّوْن
وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أبهموا مَا أبهم
الله تَعَالَى أَي أطْلقُوا مَا أطلق الله تَعَالَى وَلَا
تقيدوا الْحُرْمَة فِي أُمَّهَات النِّسَاء بِالدُّخُولِ
بالبنات
وَبَيَان مَا ذكرنَا من معنى الْخَفي فِي قَوْله تَعَالَى
{وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِنَّهُ
ظَاهر فِي السَّارِق الَّذِي لم يخْتَص باسم آخر سوى السّرقَة
يعرف بِهِ خَفِي فِي الطرار والنباش فقد اختصا باسم آخر هُوَ
سَبَب سرقتهما يعرفان بِهِ فَاشْتَبَهَ الْأَمر أَن اختصاصهما
بِهَذَا الِاسْم لنُقْصَان فِي معنى السّرقَة أَو زِيَادَة
فِيهَا وَلأَجل ذَلِك اخْتلف الْعلمَاء
قَالَ أَبُو يُوسُف اخْتِصَاص النباش باسم هُوَ سَبَب سَرقته
لَا يدل على نُقْصَان فِي سَرقته كالطرار وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَمُحَمّد رحمهمَا الله السّرقَة اسْم لأخذ المَال على وَجه
مسارقة عين حافظه مَعَ كَونه قَاصِدا إِلَى حفظه باعتراض
غَفلَة لَهُ من نوم أَو غَيره والنباش يسارق عين من عَسى يهجم
عَلَيْهِ مِمَّن لَيْسَ بحافظ للكفن وَلَا قَاصد إِلَى حفظه
فَهُوَ يبين أَن اخْتِصَاصه بِهَذَا الِاسْم لنُقْصَان فِي
معنى السّرقَة وَكَذَلِكَ فِي اسْم السّرقَة مَا ينبىء عَن خطر
الْمَسْرُوق بِكَوْنِهِ محرزا مَحْفُوظًا وَفِي اسْم النباش
مَا يَنْفِي هَذَا الْمَعْنى بل ينبىء عَن ضِدّه من الهوان
وَترك الْإِحْرَاز والتعدية فِي مثل هَذَا لإِيجَاب الْعقُوبَة
الَّتِي تدرأ بِالشُّبُهَاتِ بَاطِلَة فَأَما الطرار فاختصاصه
بذلك الِاسْم لزِيَادَة حذق ولطف مِنْهُ فِي جِنَايَته
فَإِنَّهُ يسارق عين من يكون مُقبلا على الْحِفْظ قَاصِدا
لذَلِك بفترة تعتريه فِي لَحْظَة فَذَلِك ينبىء عَن مُبَالغَة
فِي جِنَايَة السّرقَة وتعدية الحكم بِمثلِهِ مُسْتَقِيم فِي
الْحُدُود لِأَنَّهُ إِثْبَات حكم النَّص بطرِيق الأولى
بِمَنْزِلَة حُرْمَة الشتم وَالضَّرْب بِالنَّصِّ الْمحرم
للتأفيف
(1/167)
ثمَّ حكم الْخَفي اعْتِقَاد الحقية فِي
المُرَاد وَوُجُوب الطّلب إِلَى أَن يتَبَيَّن المُرَاد وفوقه
الْمُشكل وَهُوَ ضد النَّص مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل أشكل
على كَذَا أَي دخل فِي أشكاله وَأَمْثَاله كَمَا يُقَال أحرم
أَي دخل فِي الْحرم وأشتى أَي دخل فِي الشتَاء وأشأم أَي دخل
الشَّام وَهُوَ اسْم لما يشْتَبه المُرَاد مِنْهُ بِدُخُولِهِ
فِي أشكاله على وَجه لَا يعرف المُرَاد إِلَّا بِدَلِيل
يتَمَيَّز بِهِ من بَين سَائِر الأشكال والمشكل قريب من
الْمُجْمل وَلِهَذَا خَفِي على بَعضهم فَقَالُوا الْمُشكل
والمجمل سَوَاء وَلَكِن بَينهمَا فرق فالتمييز بَين الأشكال
ليوقف على المُرَاد قد يكون بِدَلِيل آخر وَقد يكون بالمبالغة
فِي التَّأَمُّل حَتَّى يظْهر بِهِ الرَّاجِح فيتبين بِهِ
المُرَاد فَهُوَ من هَذَا الْوَجْه قريب من الْخَفي وَلكنه
فَوْقه فهناك الْحَاجة إِلَى التَّأَمُّل فِي الصِّيغَة وَفِي
أشكالها وَحكمه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد ثمَّ
الإقبال على الطّلب والتأمل فِيهِ إِلَى أَن يتَبَيَّن
المُرَاد فَيعْمل بِهِ
وَأما الْمُجْمل فَهُوَ ضد الْمُفَسّر مَأْخُوذ من الْجُمْلَة
وَهُوَ لفظ لَا يفهم المُرَاد مِنْهُ إِلَّا باستفسار من
الْمُجْمل وَبَيَان من جِهَته يعرف بِهِ المُرَاد وَذَلِكَ
إِمَّا لتوحش فِي معنى الِاسْتِعَارَة أَو فِي صِيغَة
عَرَبِيَّة مِمَّا يُسَمِّيه أهل الْأَدَب لُغَة غَرِيبَة
والغريب اسْم لمن فَارق وَطنه وَدخل فِي جملَة النَّاس فَصَارَ
بِحَيْثُ لَا يُوقف على أَثَره إِلَّا بالاستفسار عَن وَطنه
مِمَّن يعلم بِهِ وموجبه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ
المُرَاد والتوقف فِيهِ إِلَى أَن يتَبَيَّن بِبَيَان
الْمُجْمل ثمَّ استفساره ليبينه بِمَنْزِلَة من ضل عَن
الطَّرِيق وَهُوَ يَرْجُو أَن يُدْرِكهُ بالسؤال مِمَّن لَهُ
معرفَة بِالطَّرِيقِ أَو بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا ظهر لَهُ
مِنْهُ فَيحْتَمل أَن يدْرك بِهِ الطَّرِيق
وَتبين أَن الْمُجْمل فَوق الْمُشكل فَإِن المُرَاد فِي
الْمُشكل قَائِم وَالْحَاجة إِلَى تَمْيِيزه من أشكاله
وَالْمرَاد فِي الْمُجْمل غير قَائِم وَلَكِن فِيهِ توهم
معرفَة المُرَاد بِالْبَيَانِ وَالتَّفْسِير وَذَلِكَ
الْبَيَان دَلِيل آخر غير مُتَّصِل بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَّا
أَن يكون لفظ الْمُجْمل فِيهِ غَلَبَة الِاسْتِعْمَال لِمَعْنى
فَحِينَئِذٍ يُوقف على المُرَاد بذلك الطَّرِيق بِمَنْزِلَة
الْغَرِيب الَّذِي تأهل فِي غير بلدته وَصَارَ مَعْرُوفا
فِيهَا فَإِنَّهُ يُوقف على أَثَره بِالطَّلَبِ فِي ذَلِك
الْموضع
وَبَيَان مَا ذكرنَا من الْمُجْمل فِي قَوْله تَعَالَى {وَحرم
الرِّبَا} فَإِنَّهُ مُجمل لِأَن الرِّبَا عبارَة عَن
الزِّيَادَة فِي أصل الْوَضع وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد
ذَلِك فَإِن البيع مَا شرع إِلَّا للاسترباح وَطلب الزِّيَادَة
(1/168)
وَلَكِن المُرَاد حُرْمَة البيع بِسَبَب
فضل خَال عَن الْعِوَض مَشْرُوط فِي العقد وَذَلِكَ فضل مَال
أَو فضل حَال على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَمَعْلُوم أَن
بِالتَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَة لَا يعرف هَذَا بل بِدَلِيل آخر
فَكَانَ مُجملا فِيمَا هُوَ المُرَاد وَكَذَلِكَ الصَّلَاة
وَالزَّكَاة فهما مجملان لِأَن الصِّيغَة فِي أصل الْوَضع
للدُّعَاء والنماء وَلَكِن بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال شرعا فِي
أَعمال مَخْصُوصَة يُوقف على المُرَاد بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ
وَأما الْمُتَشَابه فَهُوَ اسْم لما انْقَطع رَجَاء معرفَة
المُرَاد مِنْهُ لمن اشْتبهَ فِيهِ عَلَيْهِ وَالْحكم فِيهِ
اعْتِقَاد الحقية وَالتَّسْلِيم بترك الطّلب والاشتغال
بِالْوُقُوفِ على المُرَاد مِنْهُ سمي متشابها عِنْد بَعضهم
لاشتباه الصِّيغَة بهَا وتعارض الْمعَانِي فِيهَا وَهَذَا غير
صَحِيح فالحروف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور من المتشابهات
عِنْد أهل التَّفْسِير وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنى
وَلَكِن معرفَة المُرَاد فِيهِ مَا يشبه لَفظه وَمَا يجوز أَن
يُوقف على المُرَاد فِيهِ وَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك لانْقِطَاع
احْتِمَال معرفَة المُرَاد فِيهِ وَأَنه لَيْسَ لَهُ مُوجب سوى
اعْتِقَاد الحقية فِيهِ وَالتَّسْلِيم كَمَا قَالَ تَعَالَى
{وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} فالوقف عندنَا فِي هَذَا
الْموضع ثمَّ قَوْله تَعَالَى {والراسخون فِي الْعلم}
ابْتِدَاء بِحرف الْوَاو لحسن نظم الْكَلَام وَبَيَان أَن
الراسخ فِي الْعلم من يُؤمن بالمتشابه وَلَا يشْتَغل بِطَلَب
المُرَاد فِيهِ بل يقف فِيهِ مُسلما هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى
{يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} وَهَذَا لِأَن
الْمُؤمنِينَ فريقان مبتلي بالإمعان فِي الطّلب لضرب من
الْجَهْل فِيهِ ومبتلي عَن الْوُقُوف فِي الطّلب لكَونه مكرما
بِنَوْع من الْعلم
وَمعنى الِابْتِلَاء من هَذَا الْوَجْه رُبمَا يزِيد على معنى
الِابْتِلَاء فِي الْوَجْه الأول فَإِن فِي الِابْتِلَاء
بِمُجَرَّد الِاعْتِقَاد مَعَ التَّوَقُّف فِي الطّلب بَيَان
أَن مُجَرّد الْعقل لَا يُوجب شَيْئا وَلَا يدْفع شَيْئا
فَإِنَّهُ يلْزمه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا لَا مجَال لعقله
فِيهِ ليعرف أَن الحكم لله يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى فِي الِابْتِلَاء بِهَذِهِ الْأَسَامِي
الَّتِي فِيهَا تفَاوت يَعْنِي الْمُجْمل والمشكل والخفي فَإِن
الْكل لَو كَانَ ظَاهرا جليا بَطل معنى الامتحان ونيل
الثَّوَاب بالجهد بِالطَّلَبِ وَلَو كَانَ الْكل مُشكلا خفِيا
لم يعلم مِنْهُ شَيْء حَقِيقَة فَأثْبت الشَّرْع هَذَا
التَّفَاوُت فِي صِيغَة الْخطاب لتحقيق الْقُلُوب إِلَى محبتهم
لحاجتهم إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِم وَالْأَخْذ بقَوْلهمْ
والاقتداء بهم
وَبَيَان مَا ذكرنَا من معنى الْمُتَشَابه من مسَائِل
الْأُصُول أَن رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار فِي الْآخِرَة
حق مَعْلُوم ثَابت بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وُجُوه}
(1/169)
معنى الامتحان وَإِظْهَار فَضِيلَة الراسخين فِي الْعلم وتعظيم
حرمتهم وَصرف {يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} ثمَّ هُوَ
مَوْجُود بِصفة الْكَمَال وَفِي كَونه مرئيا لنَفسِهِ وَلغيره
معنى الْكَمَال إِلَّا أَن الْجِهَة مُمْتَنع فَإِن الله
تَعَالَى لَا جِهَة لَهُ فَكَانَ متشابها فِيمَا يرجع إِلَى
كَيْفيَّة الرُّؤْيَة والجهة مَعَ كَون أصل الرُّؤْيَة ثَابتا
بِالنَّصِّ مَعْلُوما كَرَامَة للْمُؤْمِنين فَإِنَّهُم أهل
لهَذِهِ الْكَرَامَة والتشابه فِيمَا يرجع إِلَى الْوَصْف لَا
يقْدَح فِي الْعلم بِالْأَصْلِ وَلَا يبطل وَكَذَلِكَ الْوَجْه
وَالْيَد على مَا نَص الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن مَعْلُوم
وَكَيْفِيَّة ذَلِك من الْمُتَشَابه فَلَا يبطل بِهِ الأَصْل
الْمَعْلُوم
والمعتزلة خذلهم الله لاشتباه الْكَيْفِيَّة عَلَيْهِم
أَنْكَرُوا الأَصْل فَكَانُوا معطلة بإنكارهم صِفَات الله
تَعَالَى وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة نَصرهم الله أثبتوا مَا
هُوَ الأَصْل الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ وتوقفوا فِيمَا هُوَ
الْمُتَشَابه وَهُوَ الْكَيْفِيَّة فَلم يجوزوا الِاشْتِغَال
بِطَلَب ذَلِك كَمَا وصف الله تَعَالَى بِهِ الراسخين فِي
الْعلم فَقَالَ {يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا
وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} |