أصول السرخسي فصل فِي بَيَان حكم الْخَاص
قَالَ رَضِي الله عَنهُ حكم الْخَاص معرفَة المُرَاد
بِاللَّفْظِ وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ
لُغَة لَا يَخْلُو خَاص عَن ذَلِك وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن
تغير اللَّفْظ عَن مَوْضُوعه عِنْد قيام الدَّلِيل فَيصير
عبارَة عَنهُ مجَازًا وَلكنه غير مُحْتَمل للتَّصَرُّف فِيهِ
بَيَانا فَإِنَّهُ مُبين فِي نَفسه عَامل فِيمَا هُوَ مَوْضُوع
لَهُ بِلَا شُبْهَة وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم
الله فِي قَوْله تَعَالَى {ثَلَاثَة قُرُوء} إِن المُرَاد
الْحيض لأَنا لَو حملناه على الْأَطْهَار كَانَ الِاعْتِدَاد
بقرأين وَبَعض الثَّالِث وَلَو حملناه على الْحيض كَانَ
التَّرَبُّص بِثَلَاثَة قُرُوء كوامل وَاسم الثَّلَاث مَوْضُوع
لعدد مَعْلُوم لُغَة لَا يحْتَمل النُّقْصَان عَنهُ
بِمَنْزِلَة اسْم الْفَرد فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل الْعدَد وَاسم
الْوَاحِد لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْمثنى فَفِي حمله على
الْأَطْهَار ترك الْعَمَل بِلَفْظ الثَّلَاث فِيمَا هُوَ
مَوْضُوع لَهُ لُغَة وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَقُلْنَا فِي
قَوْله {ارْكَعُوا واسجدوا} إِن فرض الرُّكُوع يتَأَدَّى
بِأَدْنَى الانحطاط لِأَن اللَّفْظ لُغَة مَوْضُوع للميل عَن
الاسْتوَاء يُقَال ركعت النَّخْلَة إِذا مَالَتْ وَركع
الْبَعِير إِذا طأطأ رَأسه فإلحاق صفة الِاعْتِدَال بِهِ
ليَكُون فرضا ثَابتا بِهَذَا النَّص لَا يكون عملا بِمَا وضع
لَهُ هَذَا الْخَاص لُغَة وَلَكِن إِنَّمَا يكون وَفِي
العثمانية إِنَّمَا يثبت بِصفة الِاعْتِدَال بِخَبَر الْوَاحِد
فَيكون مُوجبا للْعَمَل مُمكنا للنقصان فِي الصَّلَاة إِذا
تَركه وَلَا يكون مُفْسِدا للصَّلَاة لِأَن ذَلِك حكم ترك
الثَّابِت بِالنَّصِّ وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} فالطواف مَوْضُوع لُغَة لِمَعْنى
مَعْلُوم لَا شُبْهَة فِيهِ وَهُوَ الدوران حول الْبَيْت ثمَّ
إِلْحَاق شَرط الطَّهَارَة بالدوران ليَكُون فرضا لَا يعْتد
الطّواف بِدُونِهِ لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون نسخا
لَهُ وَجعل الطَّهَارَة وَاجِبا فِيهِ حَتَّى يتَمَكَّن
النُّقْصَان بِتَرْكِهِ يكون عملا بِمُوجب كل دَلِيل فَإِن
ثُبُوت شَرط الطَّهَارَة بِخَبَر الْوَاحِد وَهُوَ مُوجب
للْعَمَل فبتركه يتَمَكَّن النُّقْصَان فِي الْعَمَل شرعا
فَيُؤْمَر بِالْإِعَادَةِ أَو الْجَبْر بِالدَّمِ ليرتفع بِهِ
النُّقْصَان وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا
وُجُوهكُم}
(1/128)
الْآيَة فَإِن اللَّفْظ مَوْضُوع لُغَة
لغسل هَذِه الْأَعْضَاء ففرضية الْغسْل فِي المغسولات وَالْمسح
فِي الممسوحات ثَابت بِهَذَا النَّص وَاشْتِرَاط النِّيَّة
والموالاة وَالتَّرْتِيب وَالتَّسْمِيَة ليَكُون فرضا لَا
يَزُول الْحَدث بِدُونِهَا مَعَ وجود الْغسْل وَالْمسح لَا
يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون نسخا لَهُ وَجعل ذَلِك
وَاجِبا أَو سنة للإكمال كَمَا هُوَ مُوجب خبر الْوَاحِد يكون
عملا بِكُل دَلِيل ومراعاة لمرتبة كل دَلِيل
فَتبين أَن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم حط دَرَجَة النَّص عَن
مرتبته أَو رفع دَرَجَة خبر الْوَاحِد فَوق مرتبته فَلَا يكون
القَوْل بِهِ صَحِيحا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق
والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِن الْقطع لفظ خَاص
لِمَعْنى مَعْلُوم فإبطال عصمَة المَال والتقوم الَّذِي كَانَ
ثَابتا قبل فعل السّرقَة أَو بعده قبل الْقطع لَا يكون عملا
بِهَذَا الْخَاص بل يكون زِيَادَة أثبتموه بِالرَّأْيِ أَو
بِخَبَر الْوَاحِد فقد دَخَلْتُم فِيمَا أَبَيْتُم
وَلَكنَّا نقُول مَا أثبتنا ذَلِك إِلَّا بِلَفْظ خَاص فِي
الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من
الله} فاسم الْجَزَاء يُطلق على مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى
بِمُقَابلَة أَفعَال الْعباد فَثَبت بِهَذَا اللَّفْظ الْخَاص
أَن الْقطع حق الله تَعَالَى خَالِصا وَتبين بِهِ أَن سَببه
جِنَايَة على حق الله تَعَالَى وَلَا يجب الْقطع إِلَّا
بِاعْتِبَار الْعِصْمَة والتقوم فِي الْمَسْرُوق فبه يتَبَيَّن
أَن الْعِصْمَة والتقوم عِنْد فعل السّرقَة صَار حَقًا لله
تَعَالَى حَيْثُ وَجب الْقطع بِاعْتِبَارِهِ حَقًا لَهُ وَيتم
ذَلِك بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَن مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى
فتمامه يكون بِالِاسْتِيفَاءِ إِذْ الْمَقْصُود بِهِ الزّجر
وَذَلِكَ يحصل بِالِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا التَّحْقِيق تبين
أَن الْعِصْمَة والتقوم لم يبْق حَقًا للْعَبد فَلَا يجب
الضَّمَان بِهِ أَو عرفنَا ذَلِك من قَوْله تَعَالَى {جَزَاء
بِمَا كسبا} فَإِن الْجَزَاء لُغَة يَسْتَدْعِي الْكَمَال من
قَوْلهم جزى أَي قضى أَو جزأ بِالْهَمْزَةِ أَي كفى وَكَمَال
الْجَزَاء بِاعْتِبَار كَمَال السَّبَب وَهُوَ أَن يكون
(1/129)
الْفِعْل حَرَامًا لعَينه فَمَعَ بَقَاء
التقوم والعصمة حَقًا للْمَالِك لَا يكون الْفِعْل حَرَامًا
لعَينه بل لغيره وَهُوَ حق الْمَالِك فَعرفنَا أَنه لم يبْق
الْعِصْمَة والتقوم فِي الْمحل حَقًا للْعَبد عندنَا
بِاعْتِبَار خَاص مَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا يدْخل عَلَيْهِ
الْملك فَإِنَّهُ يبْقى للْمَالِك حَتَّى يسْتَردّهُ إِن كَانَ
قَائِما بِعَيْنِه لِأَن مَعَ بَقَاء الْملك لَهُ لَا تنعدم
صفة الْكَمَال فِي السَّبَب وَهُوَ كَون الْفِعْل حَرَامًا
لعَينه أَلا ترى أَن الْعصير إِذا تخمر يبْقى مَمْلُوكا وَيكون
الْفِعْل فِيهِ حَرَامًا لعَينه حَتَّى يجب الْحَد بشربه
وَلَكِن لم يبْق مَعْصُوما مُتَقَوّما لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ
يكون بِمَنْزِلَة عصير الْغَيْر فَلَا يكون شربه حَرَامًا
لعَينه
ثمَّ وجوب الْقطع بِاعْتِبَار الْعِصْمَة والتقوم فِي مَحل
مَمْلُوك فَأَما الْمَالِك فَهُوَ غير مُعْتَبر فِيهِ لعَينه
بل ليظْهر السَّبَب بخصومته عِنْد الإِمَام وَلِهَذَا لَو ظهر
بخصومة غير الْمَالِك نُقِيم الْحَد بخصومة الْمكَاتب
وَالْعَبْد الْمَأْذُون الْمُسْتَغْرق بِالدّينِ فِي كَسبه
وَالْمُتوَلِّيّ فِي مَال الْوَقْف وَنحن إِنَّمَا جعلنَا مَا
وَجب الْقطع بِاعْتِبَارِهِ حَقًا لله تَعَالَى لضَرُورَة كَون
الْوَاجِب مَحْض حق الله تَعَالَى وَذَلِكَ فِي الْعِصْمَة
والتقوم دون أصل الْملك
وَمن هَذِه الْجُمْلَة قَوْله تَعَالَى {أَن تَبْتَغُوا
بأموالكم} فالابتغاء مَوْضُوع لِمَعْنى مَعْلُوم وَهُوَ الطّلب
بِالْعقدِ وَالْبَاء للإلصاق فَثَبت لَهُ اشْتِرَاط كَون
المَال مُلْصقًا بِهِ بالابتغاء تَسْمِيَة أَو وجوبا
وَالْقَوْل بتراخيه عَن الابتغاء إِلَى وجود حَقِيقَة
الْمَطْلُوب كَمَا قَالَه الْخصم فِي المفوضة أَنه لَا يجب
الْمهْر لَهَا إِلَّا بِالْوَطْءِ يكون ترك الْعَمَل بالخاص
فَيكون فِي معنى النّسخ لَهُ وَلَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ
بِالرَّأْيِ
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم
فِي أَزوَاجهم} فالفرض لِمَعْنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ
التَّقْدِير وَالْكِتَابَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَرضنَا}
لِمَعْنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم نَفسه
فَالْقَوْل بِأَن الْمهْر غير مُقَدّر شرعا بل يكون إِيجَاب
أَصله بِالْعقدِ وَبَيَان مِقْدَاره مفوضا إِلَى رَأْي
الزَّوْجَيْنِ يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص فَإِنَّمَا
الْعَمَل بِهِ فِيمَا قُلْنَا إِن وجوب أَصله وَأدنى
الْمِقْدَار فِيهِ ثَابت شرعا لَا خِيَار لَهُ فِيهِ للزوجين
وَمن هَذَا النَّوْع مَا قَالَ مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ فِي
قَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى
تنْكح زوجا غَيره} إِن كلمة حَتَّى مَوْضُوع لِمَعْنى لُغَة
وَهُوَ الْغَايَة وَالنِّهَايَة فَجعله لِمَعْنى مُوجب حلا
حَادِثا يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص وَإِنَّمَا
الْعَمَل بِهِ فِي أَن يَجْعَل غَايَة للْحُرْمَة الْحَاصِلَة
فِي الْمحل وَلَا حُرْمَة قبل اسْتِيفَاء عدد الطَّلَاق وَلَا
تصور للغاية قبل وجود أصل الشَّيْء فَإِن الْمُنْتَهى بالغاية
بعض الشَّيْء فَكيف يتَحَقَّق قبل وجود أَصله بل يكون وجود
الزَّوْج الثَّانِي فِي هَذِه الْحَالة كَعَدَمِهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله مَا تنَاوله
هَذَا الْخَاص فَهُوَ غَايَة لما وضع
(1/130)
اللَّفْظ لَهُ وَهُوَ عقد الزَّوْج
الثَّانِي فَإِن النِّكَاح وَإِن كَانَ حَقِيقَة للْوَطْء فقد
يُطلق بِمَعْنى العقد وَالْمرَاد العقد هُنَا بِدَلِيل
الْإِضَافَة إِلَى الْمَرْأَة وَإِنَّمَا يُضَاف إِلَيْهَا
العقد لتحَقّق مُبَاشَرَته مِنْهَا وَلَا يُضَاف إِلَيْهَا
الْوَطْء حَقِيقَة لِأَنَّهَا مَحل الْفِعْل لَا مُبَاشرَة
للْوَطْء فَأَما شَرط الدُّخُول فأثبتناه بِحَدِيث مَشْهُور
وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن امْرَأَة رِفَاعَة جَاءَت إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِن رِفَاعَة طَلقنِي
فَبت طَلَاقي فَتزوّجت بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير فَلم أجد
مَعَه إِلَّا مثل هَذِه وأشارت إِلَى هدبة ثوبها كَانَت تتهمه
بالعنة فَقَالَ أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة
فَقَالَت نعم فَقَالَ لَا حَتَّى تَذُوقِي من عُسَيْلَته
وَيَذُوق من عُسَيْلَتك فَفِي اشْتِرَاط الْوَطْء للعود
إِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب للْحلّ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ
وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الْوَطْء من الزَّوْج الثَّانِي
شَرط لحل الْعود إِلَى الأول بِهَذِهِ الْآثَار فَنحْن عَملنَا
بِمَا هُوَ مُوجب أصل هَذَا الدَّلِيل بِصفتِهِ فجعلناه مُوجبا
للْحلّ وهم أسقطوا اعْتِبَار هَذَا الْوَصْف من هَذَا
الدَّلِيل اسْتِدْلَالا بِنَصّ لَيْسَ فِيهِ بَيَان أصل هَذَا
الشَّرْط وَلَا صفته فَيكون هَذَا ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ
الْمُوجب لَهُ لَا عملا بِكُل خَاص فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ
لُغَة
وَمن ذَلِك قَوْلنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا فَلَا
تحل لَهُ} لِأَن الْفَاء مَوْضُوع لُغَة للوصل والتعقيب فَذكره
بعد الْخلْع الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {فِيمَا افتدت
بِهِ} يكون بَيَانا خَاصّا أَن إِيقَاع التطليقتين بعد الْخلْع
مُتَّصِلا بِهِ يكون عَاملا مُوجبا حُرْمَة الْمحل بِخِلَاف
مَا يَقُوله الْخصم إِن المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} إِلَى
قَوْله تَعَالَى {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}
فَفِي الْإِضَافَة إِلَيْهَا ثمَّ تَخْصِيص جَانبهَا بِالذكر
بَيَان أَن الَّذِي يكون من جَانب الزَّوْج فِي الْخلْع عين
مَا تنَاوله أول الْآيَة وَهُوَ الطَّلَاق لَا غَيره وَهُوَ
الْفَسْخ فَجعل الْخلْع فسخا يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا
الْخَاص وَجعله طَلَاقا كَمَا هُوَ مُوجب هَذَا الْخَاص يكون
عملا بالمنصوص هَذَا بَيَان الطَّرِيق فِيمَا يكون من هَذَا
الْجِنْس
(1/131)
|