أصول السرخسي بَاب بَيَان مَعَاني الْحُرُوف المستعملة
فِي الْفِقْه
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكَلَام عِنْد الْعَرَب
اسْم وَفعل وحرف وكما يتَحَقَّق معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال فَكَذَلِك يتَحَقَّق فِي
الْحُرُوف فَمِنْهُ مَا يكون مُسْتَعْملا فِي حَقِيقَته
وَمِنْه مَا يكون مجَازًا عَن غَيره وَكثير من مسَائِل
الْفِقْه تترتب على ذَلِك فَلَا بُد من بَيَان هَذِه الْحُرُوف
وَذكر الطَّرِيق فِي تَخْرِيج الْمسَائِل عَلَيْهَا
فَأولى مَا يبْدَأ بِهِ من ذَلِك حُرُوف الْعَطف
الأَصْل فِيهِ الْوَاو فَلَا خلاف أَنه للْعَطْف (وَلَكِن
عندنَا هُوَ للْعَطْف) مُطلقًا فَيكون مُوجبه الِاشْتِرَاك
بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر من غير أَن
يَقْتَضِي مُقَارنَة أَو ترتيبا وَهُوَ قَول أَكثر أهل
اللُّغَة
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّه مُوجب
للتَّرْتِيب وَقد ذكر ذَلِك الشَّافِعِي فِي أَحْكَام
الْقُرْآن وَكَذَلِكَ جعل التَّرْتِيب ركنا فِي الْوضُوء لِأَن
فِي الْآيَة عطف الْيَد على الْوَجْه بِحرف الْوَاو فَيجب
التَّرْتِيب بِهَذَا النَّص أَلا ترى أَن الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم لما سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عِنْد السَّعْي بِأَيِّهِمَا نبدأ قَالَ ابدؤوا بِمَا
بَدَأَ الله تَعَالَى يُرِيد بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِن
الصَّفَا والمروة} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن مُوجب الْوَاو
التَّرْتِيب وَمَا وَجب تَرْتِيب السُّجُود على الرُّكُوع
إِلَّا بقوله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَلَكنَّا نقُول
هَذَا من بَاب اللِّسَان فطريق مَعْرفَته التَّأَمُّل فِي
كَلَام الْعَرَب وَفِي الْأُصُول الْمَوْضُوعَة عِنْد أهل
اللُّغَة بِمَنْزِلَة مَا لَو وَقعت الْحَاجة إِلَى معرفَة حكم
الشَّرْع يكون طَرِيقه التَّأَمُّل فِي النُّصُوص من الْكتاب
وَالسّنة وَالرُّجُوع إِلَى أصُول الشَّرْع وَعند التَّأَمُّل
فِي كَلَام الْعَرَب وأصول اللُّغَة يتَبَيَّن أَن الْوَاو لَا
توجب التَّرْتِيب فَإِن الْقَائِل يَقُول جَاءَنِي زيد
وَعَمْرو يفهم من هَذَا الْإِخْبَار مجيئهما من غير
(1/200)
مُقَارنَة وَلَا تَرْتِيب حَتَّى يكون
صَادِقا فِي خَبره سَوَاء جَاءَهُ عَمْرو أَولا ثمَّ زيد أَو
زيد ثمَّ عَمْرو أَو جَاءَا مَعًا
وَكَذَلِكَ وضعُوا الْوَاو للْجمع مَعَ النُّون يَقُولُونَ
جَاءَنِي الزيدون أَي زيد وَزيد وَزيد وَالْقَائِل يَقُول لَا
تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن فيفهم مِنْهُ الْمَنْع من الْجمع
بَينهمَا دون التَّرْتِيب على مَا قَالَ الْقَائِل لَا تنه عَن
خلق وَتَأْتِي مثله عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم وَلَو وضع
مَكَان الْوَاو هُنَا الْفَاء لم يكن الْكَلَام مُسْتَقِيمًا
فالفاء توجب ترتيبا من حَيْثُ إِنَّه للتعقيب مَعَ الْوَصْل
فَلَو كَانَ مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب لم يخْتل الْكَلَام
بِذكر الْفَاء مَكَانَهُ وَكَذَلِكَ يتبدل الحكم أَيْضا إِذا
ذكر الْوَاو مَكَان الْفَاء فَإِن من يَقُول لامْرَأَته إِن
دخلت الدَّار وَأَنت طَالِق تطلق فِي الْحَال فَلَو كَانَ
مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب لَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَة الْفَاء
فَيَنْبَغِي أَن يتَأَخَّر الطَّلَاق إِلَى وجود الشَّرْط
وَأما من حَيْثُ الْوَضع لُغَة فلأنهم وضعُوا كل حرف ليَكُون
دَلِيلا على معنى مَخْصُوص كَمَا فعلوا فِي الْأَسْمَاء
وَالْأَفْعَال فالاشتراك لَا يكون إِلَّا لغفلة من الْوَاضِع
أَو لعذر وتكرار اللَّفْظ لِمَعْنى وَاحِد يُوجب إخلاءه عَن
الْفَائِدَة كَمَا قَررنَا فَلَا يَلِيق ذَلِك بالحكمة
ثمَّ إِنَّهُم وضعُوا الْفَاء للوصل مَعَ التعقيب وَثمّ
للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي وَمَعَ للقران
فَلَو قُلْنَا بِأَن الْوَاو توجب الْقرَان أَو التَّرْتِيب
كَانَ تَكْرَارا بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَو قُلْنَا إِنَّه
يُوجب الْعَطف مُطلقًا لَكَانَ لفائدة جَدِيدَة بِاعْتِبَار
أصل الْوَضع ثمَّ يتنوع هَذَا الْعَطف أنواعا لكل نوع مِنْهُ
حرف خَاص
وَنَظِيره من الْأَسْمَاء الْإِنْسَان فَإِنَّهُ للآدمي
مُطلقًا ثمَّ يتنوع أنواعا لكل نوع مِنْهُ اسْم خَاص بِأَصْل
الْوَضع وَالتَّمْر كَذَلِك
وَهُوَ نَظِير مَا قُلْنَا فِي اسْم الرَّقَبَة إِنَّه للذات
مُطلقًا من غير أَن يكون دَالا على معنى التَّقْيِيد بِوَصْف
فَكَذَلِك الْوَاو للْعَطْف (مُطلقًا) بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي آيَة الْوضُوء
الْغسْل وَالْمسح من غير تَرْتِيب وَلَا قرَان ثمَّ كَانَ
التَّرْتِيب بِاعْتِبَار فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَذَلِكَ للإكمال فيتأدى الرُّكْن بِمَا هُوَ
الْمَنْصُوص وتتعلق صفة الْكَمَال بمراعاة التَّرْتِيب فِيهِ
(1/201)
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا
واسجدوا} فَإنَّا مَا عرفنَا التَّرْتِيب بِهَذَا النَّص إِذْ
النُّصُوص فِيهِ متعارضة فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {واسجدي
واركعي مَعَ الراكعين} وَلَكِن مُرَاعَاة ذَلِك التَّرْتِيب
بِكَوْن الرُّكُوع مُقَدّمَة السُّجُود وَالْقِيَام مُقَدّمَة
الرُّكُوع على مَا نبينه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة} فَإِن
مُرَاعَاة التَّرْتِيب بَينهمَا لَيْسَ بِاعْتِبَار هَذَا
النَّص فَفِي النَّص بَيَان أَنَّهُمَا من شَعَائِر الله وَلَا
تَرْتِيب فِي هَذَا وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ابدؤوا بِمَا بَدَأَ الله تَعَالَى على وَجه
التَّقْرِيب إِلَى الأفهام لَا لبَيَان أَن الْوَاو توجب
التَّرْتِيب فَإِن الَّذِي يسْبق إِلَى الأفهام فِي مخاطبات
الْعباد أَن البدائية تدل على زِيَادَة الْعِنَايَة فَيظْهر
بهَا نوع قُوَّة صَالِحَة للترجيح وَلِهَذَا قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن أوصى بِقرب لَا تسع الثُّلُث
لَهَا فَإِنَّهُ يبْدَأ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي إِذا
اسْتَوَت فِي صفة اللُّزُوم لِأَن الْبِدَايَة تدل على
زِيَادَة الاهتمام وَقد زعم بعض مَشَايِخنَا أَن معنى
التَّرْتِيب يتَرَجَّح فِي الْعَطف الثَّابِت بِحرف الْوَاو
فِي قَول أبي حنيفَة وَفِي قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رَحِمهم
الله يتَرَجَّح معنى الْقرَان وَخَرجُوا على هَذَا مَا إِذا
قَالَ لامْرَأَته وَلم يدْخل بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت
طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فَدخلت فَإِنَّهَا تطلق وَاحِدَة
عِنْد أبي حنيفَة بِاعْتِبَار أَنه مترتب وُقُوع الثَّانِيَة
على الأولى وَهِي تبين فِي الأولى لَا إِلَى عدَّة
وَعِنْدَهُمَا تقع الثَّلَاث عَلَيْهَا بِاعْتِبَار أَنَّهُنَّ
يقعن جملَة عِنْد الدُّخُول مَعًا وَهَذَا غلط فَلَا خلاف بَين
أَصْحَابنَا أَن الْوَاو للْعَطْف مُطلقًا إِلَّا أَنَّهُمَا
يَقُولَانِ مُوجبه الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف
عَلَيْهِ فِي الْخَبَر
وَقَوله إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق جملَة تَامَّة وَقَوله
وَطَالِق جملَة نَاقِصَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذكر الشَّرْط
فباعتبار الْعَطف يصير الْخَبَر الْمَذْكُور فِي الْجُمْلَة
التَّامَّة كالمعاد فِي الْجُمْلَة النَّاقِصَة فَيتَعَلَّق كل
تَطْلِيقَة بِالدُّخُولِ بِلَا وَاسِطَة وَعند الدُّخُول ينزلن
جملَة كَمَا لَو كرر ذكر الشَّرْط مَعَ كل تَطْلِيقَة أَلا ترى
أَنه إِذا قَالَ جَاءَنِي زيد وَعَمْرو كَانَ الْمَفْهُوم من
هَذَا مَا هُوَ الْمَفْهُوم من قَوْله جَاءَنِي زيد جَاءَنِي
عَمْرو
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْوَاو للْعَطْف
وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الطَّلَاق بِالشّرطِ كَمَا علقه وَهُوَ
علق الثَّانِيَة بِالشّرطِ بِوَاسِطَة الأولى فَإِن من
ضَرُورَة الْعَطف هَذِه الْوَاسِطَة فَالْأولى تتَعَلَّق
بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة وَالثَّانِي بِوَاسِطَة الأولى
بِمَنْزِلَة الْقنْدِيل الْمُعَلق بالحبل بِوَاسِطَة الْحلق
ثمَّ عِنْد وجود الشَّرْط ينزل مَا تعلق فَينزل كَمَا تعلق
ولكنهما
(1/202)
يَقُولَانِ هَذَا أَن لَو كَانَ
الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ طَلَاقا وَلَيْسَ كَذَلِك بل
الْمُتَعَلّق مَا سيصير طَلَاقا عِنْد وجود الشَّرْط إِذا وصل
إِلَى الْمحل فَإِنَّهُ لَا يكون طَلَاقا بِدُونِ الْمحل
ثمَّ هَذِه الْوَاسِطَة فِي الذّكر فتتفرق بِهِ أزمنة
التَّعْلِيق وَذَلِكَ لَا يُوجب التَّفَرُّق فِي الْوُقُوع
كَمَا لَو كرر الشَّرْط فِي كل تَطْلِيقَة وَبَينهمَا أَيَّام
وَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أقرب إِلَى مُرَاعَاة
حَقِيقَة اللَّفْظ وَمَعْلُوم أَنه عِنْد وجود الشَّرْط ذَلِك
الملفوظ بِهِ يصير طَلَاقا فَإِذا كَانَ من ضَرُورَة الْعَطف
إِثْبَات هَذِه الْوَاسِطَة ذكرا فَإِن عِنْد وجود الشَّرْط
يصير ذَلِك طَلَاقا وَاقعا وَمن ضَرُورَة تفرق الْوُقُوع أَن
لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة فَإِن هَذَا تبين بِهِ لَا إِلَى
عدَّة كَمَا لَو نجز فَقَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق
وَقَالَ مَالك فِي التَّنْجِيز أَيْضا تطلق ثَلَاثًا لِأَن
الْوَاو توجب الْمُقَارنَة أَلا ترى أَنه لَو قَالَ أَنْت
طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار تطلق ثَلَاثًا
عِنْد الدُّخُول جملَة
وَهَذَا غلط فَإِن للقران حرفا مَوْضُوعا وَهُوَ مَعَ فَلَو
حملنَا الْوَاو عَلَيْهِ كَانَ تَكْرَارا وَإِذا أخر الشَّرْط
فِي التَّعْلِيق إِنَّمَا تطلق ثَلَاثًا لَا بِهَذَا الْمَعْنى
بل لِأَن الأَصْل فِي الْكَلَام الْمَعْطُوف أَنه مَتى كَانَ
فِي آخِره مَا يُغير مُوجب أَوله توقف أَوله على آخِره
وَلِهَذَا لَو ذكر اسْتثِْنَاء فِي آخر الْكَلَام بَطل الْكل
بِهِ فَكَذَلِك إِذا ذكر شرطا لِأَن بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ
تبين أَن الْمَذْكُور أَولا لَيْسَ بِطَلَاق وَإِذا توقف أَوله
على آخِره تعلق الْكل بِالشّرطِ جملَة وَإِذا كَانَ الشَّرْط
سَابِقًا فَلَيْسَ فِي آخر الْكَلَام مَا يُغير مُوجب أَوله
وَكَذَلِكَ فِي التَّنْجِيز فَإِن الأول طَلَاق سَوَاء ذكر
الثَّانِي أَو لم يذكر فَإِذا لم يتَوَقَّف أَوله على آخِره
بَانَتْ بِالْأولَى فلغت الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة
لِانْعِدَامِ مَحل الْوُقُوع لَا لفساد فِي التَّكَلُّم أَو
الْعَطف
ثمَّ على قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تقع الأولى قبل أَن يفرغ
من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ وَعند مُحَمَّد عِنْد الْفَرَاغ
من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ تقع الأولى لجَوَاز أَن يلْحق
بِكَلَامِهِ شرطا أَو اسْتثِْنَاء مغيرا
وَمَا قَالَه أَبُو يُوسُف أَحَق فَإِنَّهُ مَا لم يَقع
الطَّلَاق لَا يفوت الْمحل فَلَو كَانَ وُقُوع الأولى بعد
الْفَرَاغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ لوقعا جَمِيعًا
لوُجُود الْمحل مَعَ صِحَة التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ
وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله لَو قَالَ لغير
(1/203)
الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَاحِدَة
وَعشْرين تطلق وَاحِدَة لِأَن الْوَاو للْعَطْف فَتبين
بالواحدة قبل ذكر الْعشْرين
وَلَكنَّا نقُول تِلْكَ كلمة وَاحِدَة حكما لِأَنَّهُ لَا
يُمكنهُ أَن يعبر عَن هَذَا الْعدَد بِعِبَارَة أوجز من هَذَا
وَعطف الْبَعْض على الْبَعْض يتَحَقَّق فِي كَلِمَتَيْنِ لَا
فِي كلمة وَاحِدَة فَإِنَّمَا يَقع هُنَا عِنْد تَمام
الْكَلَام فَتطلق ثَلَاثًا كَمَا لَو قَالَ وَاحِدَة وَنصفا
تطلق اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لما صرح بِهِ عبارَة أوجز
من ذَلِك فَكَانَت كلمة وَاحِدَة حكما وَعند زفر تطلق وَاحِدَة
وعَلى هَذَا الأَصْل مَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو تزوج أمتين
بِغَيْر إِذن مولاهما ثمَّ أعتقهما الْمولى مَعًا جَازَ
نِكَاحهمَا
وَلَو قَالَ أعتقت هَذِه وَهَذِه جَازَ نِكَاح الأولى وَبَطل
نِكَاح الثَّانِيَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخر كَلَامه مَا
يُغير مُوجب أَوله فنكاح الأولى صَحِيح أعتق الثَّانِيَة أَو
لم يعْتق وبنفوذ الْعتْق فِي الأولى تنعدم محلية النِّكَاح فِي
حق الثَّانِيَة لِأَن الْأمة لَيست من المحللات مَضْمُومَة
إِلَى الْحرَّة
وَمثله لَو زوج مِنْهُ رضيعتين فِي عقدين بِغَيْر رِضَاهُ
فأرضعتهما امْرَأَة ثمَّ أجَاز الزَّوْج نِكَاحهمَا مَعًا بَطل
نِكَاحهمَا
وَلَو قَالَ أجزت نِكَاح هَذِه وَهَذِه بَطل نِكَاحهمَا أَيْضا
لِأَن فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله فَإِن بآخر
الْكَلَام يثبت الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ نِكَاحا وَذَلِكَ
مُبْطل لنكاحهما فَيتَوَقَّف أول الْكَلَام على آخِره
وَكَانَ الْفراء يَقُول الْوَاو للْجمع وَالْمَجْمُوع بِحرف
الْوَاو كالمجموع بكناية الْجمع وَعِنْدنَا الْوَاو للْعَطْف
والاشتراك على أَن يصير كل وَاحِد من الْمَذْكُورين كَأَنَّهُ
مَذْكُور وَحده لَا على وَجه الْجمع بَينهمَا ذكرا
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا كَانَ لرجل ثَلَاثَة أعبد فَقَالَ
هَذَا حر أَو هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُ يُخَيّر فِي الْأَوَّلين
وَيعتق الثَّالِث عينا كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حر أَو هَذَا حر
وَعند الْفراء يُخَيّر فَإِن شَاءَ أوقع الْعتْق على (الأول
وَإِن شَاءَ على) الثَّانِي وَالثَّالِث لِأَنَّهُ جمع
بَينهمَا بِحرف الْوَاو فَكَأَنَّهُ جمع بكناية الْجمع فَقَالَ
هَذَا حر وَهَذَانِ
وَاسْتدلَّ بِمَا قَالَ فِي الْجَامِع رجل مَاتَ وَترك
ثَلَاثَة أعبد قيمتهم سَوَاء وَترك ابْنا فَقَالَ الابْن أعتق
وَالِدي هَذَا فِي مَرضه وَهَذَا وَهَذَا يعْتق من كل وَاحِد
مِنْهُم ثلثه بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أعتقهم
وَلَو قَالَ أعتق هَذَا وَسكت ثمَّ قَالَ وَهَذَا
(1/204)
ثمَّ سكت ثمَّ قَالَ هَذَا يعْتق الأول
كُله وَمن الثَّانِي نصفه وَمن الثَّالِث ثلثه
وَلَكنَّا نقُول لَا وَجه لتصحيح كَلَامه على مَا قَالَه
الْفراء لِأَن خبر الْمثنى غير خبر الْوَاحِد يُقَال للْوَاحِد
حر وللاثنين حران وَالْمَذْكُور فِي كَلَامه من الْخَبَر
قَوْله حر فَإِذا لم يَجْعَل كَانَ كل وَاحِد من الآخرين
مُنْفَردا بِالذكر لَا يصلح أَن يكون الْخَبَر الْمَذْكُور
خَبرا لَهما والعطف للاشتراك فِي الْخَبَر لَا لإِثْبَات خبر
آخر وَإِذا جعلنَا الثَّالِث كالمنفرد بِالذكر صَار كَأَنَّهُ
قَالَ أحد هذَيْن حر وَهَذَا فَيكون فِيهِ ضم الثَّالِث إِلَى
الْمُعْتق من الْأَوَّلين لَا إِلَى غير الْمُعْتق فَلهَذَا
عتق الثَّالِث
وَمَسْأَلَة الْجَامِع إِنَّمَا تخرج على الأَصْل الَّذِي
بَينا فَإِن فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله لِأَن
مُوجب أول الْكَلَام عتق الأول مجَّانا بِغَيْر سِعَايَة
ويتغير ذَلِك بآخر كَلَامه عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن
المستسعي بِمَنْزِلَة الْمكَاتب (عِنْده) فيتغير حكم أصل
الْعتْق وَعِنْدَهُمَا يتَغَيَّر حكم الْبَرَاءَة عَن
السّعَايَة فَلهَذَا توقف أَوله على آخِره
وَاخْتلفُوا فِي عطف الْجُمْلَة التَّامَّة على الْجُمْلَة
التَّامَّة بِحرف الْوَاو نَحْو مَا إِذا قَالَ زَيْنَب طَالِق
ثَلَاثًا وَعمرَة طَالِق فَإِنَّمَا تطلق عمْرَة وَاحِدَة وكل
وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ جملَة تَامَّة لِأَنَّهُ ابْتِدَاء
وَخبر فالواو بَينهمَا عِنْد بعض مَشَايِخنَا لِمَعْنى
الِابْتِدَاء يحسن نظم الْكَلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى
{والراسخون فِي الْعلم} وَقَوله تَعَالَى {ويمح الله
الْبَاطِل} وَقَوله تَعَالَى فِي حكم الْقَذْف {وَأُولَئِكَ هم
الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَإِنَّهُ ابْتِدَاء
عندنَا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح أَن هَذَا الْوَاو للْعَطْف
أَيْضا عِنْدِي إِلَّا أَن الِاشْتِرَاك فِي الْخَبَر لَيْسَ
من حكم بِمُجَرَّد الْعَطف بل بِاعْتِبَار حَاجَة الْمَعْطُوف
إِلَيْهِ إِذا لم يذكر خَبرا وَلَا حَاجَة إِذا ذكر لَهُ خَبرا
وَلِهَذَا عِنْد الْحَاجة جعلنَا خبر الْمَعْطُوف عين مَا هُوَ
خبر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِذا أمكن لَا غَيره لِأَن الْحَاجة
ترْتَفع بِعَين ذَلِك حَتَّى إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت
طَالِق إِن دخلت هَذِه الدَّار وَإِن دخلت هَذِه الدَّار
الْأُخْرَى فَإِنَّمَا يتَعَلَّق بِدُخُول الدَّار الثَّانِيَة
تِلْكَ التطليقة لَا غَيرهَا حَتَّى لَو دخلت الدَّاريْنِ لم
تطلق إِلَّا وَاحِدَة فَأَما إِذا تعذر ذَلِك بِأَن يَقُول
فُلَانَة طَالِق وفلانة فَإِنَّهُ يَقع على الثَّانِيَة غير
مَا وَقع على الأولى لِأَن الِاشْتِرَاك بَينهمَا فِي
تَطْلِيقَة وَاحِدَة لَا يتَحَقَّق بِمَنْزِلَة قَوْله
جَاءَنِي زيد
(1/205)
وَعَمْرو فَإِنَّهُ إِخْبَار عَن مَجِيء كل
وَاحِد مِنْهُمَا بِفعل على حِدة لِأَن مجيئهما بِفعل وَاحِد
لَا يتَحَقَّق
وعَلى هَذَا الأَصْل الَّذِي بَينا أَن الْوَاو لَا توجب
التَّرْتِيب يخرج مَا قَالَ فِي كتاب الصَّلَاة وَيَنْوِي
بالتسليمة الأولى من عَن يَمِينه من الْحفظَة وَالرِّجَال
وَالنِّسَاء فَإِن مُرَاده الْعَطف لَا التَّرْتِيب
وَكَذَلِكَ مُرَاده مِمَّا قَالَ فِي الْجَامِع الصَّغِير من
الرِّجَال وَالنِّسَاء والحفظة فَإِن التَّرْتِيب (فِي
النِّيَّة) لَا يتَحَقَّق فَعرفنَا أَن المُرَاد يجمعهُمْ فِي
نِيَّته
وَقد تكون الْوَاو بِمَعْنى الْحَال لِمَعْنى الْجمع أَيْضا
فَإِن الْحَال يُجَامع ذَا الْحَال وَمِنْه قَوْله تَعَالَى
{حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} أَي جاؤوها حَال مَا
تكون أَبْوَابهَا مَفْتُوحَة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْمَأْذُون إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد
إِلَيّ ألفا وَأَنت حر إِنَّه لَا يعْتق مَا لم يؤد لِأَن
الْوَاو بِمَعْنى الْحَال فَإِنَّمَا جعله حرا عِنْد الْأَدَاء
وَقَالَ فِي السّير إِذا قَالَ افتحوا الْبَاب وَأَنْتُم آمنون
لَا يأمنون مَا لم يفتحوا لِأَنَّهُ آمنهم حَال فتح الْبَاب
وَإِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة تطلق
فِي الْحَال لِأَن الْوَاو للْعَطْف فِي الأَصْل فَلَا يكون
شرطا فَإِن قَالَ عنيت إِذا مَرضت يدين فِيمَا بَينه وَبَين
الله تَعَالَى لِأَنَّهُ عني بِالْوَاو الْحَال وَذَلِكَ
مُحْتَمل فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي حَال مَرضهَا
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أَنْت طَالِق وَأَنت تصلين أَو وَأَنت
مصلية
وَقَالَ فِي الْمُضَاربَة إِذا قَالَ خُذ هَذِه الْألف واعمل
بهَا مُضَارَبَة فِي الْبَز فَإِنَّهُ لَا يتَقَيَّد بصرفه فِي
الْبَز وَله أَن يتجر فِيهَا مَا بدا لَهُ من وُجُوه
التِّجَارَات لِأَن الْوَاو للْعَطْف فالإطلاق الثَّابِت بِأول
الْكَلَام لَا يتَغَيَّر بِهَذَا الْعَطف
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَت
الْمَرْأَة لزَوجهَا طَلقنِي وَلَك ألف دِرْهَم فَطلقهَا تجب
الْألف عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الزَّوْج أَنْت طَالِق
وَعَلَيْك ألف دِرْهَم فَقبلت تجب الْألف
وَفِيه طَرِيقَانِ لَهما أَحدهمَا أَنه اسْتعْمل الْوَاو
بِمَعْنى الْبَاء مجَازًا فَإِن ذَلِك مَعْرُوف فِي الْقسم
إِذْ لَا فرق بَين قَوْله وَالله وَبَين قَوْله بِاللَّه
وَإِنَّمَا حملنَا على هَذَا الْمجَاز بِدلَالَة الْمُعَاوضَة
فَإِن الْخلْع عقد مُعَاوضَة فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة مَا
لَو قَالَ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاع إِلَى منزلي وَلَك دِرْهَم
وَالثَّانِي أَن هَذَا الْوَاو للْحَال فَكَأَنَّهَا قَالَت
طَلقنِي فِي حَال مَا يكون لَك عَليّ ألف دِرْهَم وَإِنَّمَا
حملنَا على هَذَا لدلَالَة الْمُعَاوضَة كَمَا فِي قَوْله أد
إِلَيّ ألفا وَأَنت
(1/206)
طَالِق بِخِلَاف الْمُضَاربَة فَلَا معنى
لحرف الْبَاء هُنَاكَ حَتَّى يَجْعَل الْوَاو عبارَة عَنهُ
وَلَا يُمكن حمله على معنى الْحَال لِانْعِدَامِ دلَالَة
الْمُعَاوضَة فِيهِ وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول تطلق
وَلَا شَيْء عَلَيْهَا لِأَن الْوَاو للْعَطْف حَقِيقَة
وَبِاعْتِبَار هَذِه الْحَقِيقَة لَا يُمكن أَن يَجْعَل الْألف
بَدَلا عَن الطَّلَاق فَلَو جعل بَدَلا إِنَّمَا يَجْعَل
بِدلَالَة الْمُعَاوضَة وَذَلِكَ فِي الطَّلَاق زَائِد فَإِن
الطَّلَاق فِي الْغَالِب يكون بِغَيْر عوض أَلا ترى أَن بِذكر
الْعِوَض يصير كَلَام الزَّوْج بِمَعْنى الْيَمين حَتَّى لَا
يُمكنهُ أَن يرجع عَنهُ قبل قبُولهَا وَلَا يجوز ترك
الْحَقِيقَة بِاعْتِبَار دَلِيل زَائِد على مَا وضع لَهُ فِي
الأَصْل بِخِلَاف الْإِجَارَة فَإِنَّهُ عقد مَشْرُوع
بِالْبَدَلِ لَا يَصح بِدُونِهِ فَأمكن حمل اللَّفْظ على
الْمجَاز بِاعْتِبَار معنى الْمُعَاوضَة فِيهِ لِأَنَّهُ أصل
وَإِنَّمَا يَجْعَل الْوَاو للْحَال إِذا كَانَ بِصِيغَة
تحْتَمل ذَلِك كَمَا فِي قَوْله أد وَأَنت حر انْزِلْ وَأَنت
آمن فَإِن صِيغَة كَلَامه للْحَال لِأَنَّهُ خاطبه بِالْأولِ
وَالْآخر بِصِيغَة وَاحِدَة ويتحقق عتقه فِي حَالَة الْأَدَاء
ويتحقق أَمَانه فِي حَالَة النُّزُول لِأَن الْمَقْصُود أَن
يعلم بمحاسن الشَّرِيعَة فَعَسَى يُؤمن وَذَلِكَ حَالَة
النُّزُول
فَأَما قَوْله خُذ هَذِه الْألف واعمل بهَا فِي الْبَز
فَلَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال الْحَال لِأَن الْبَز
لَا يكون حَالا لعمله وَقَوله أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة
للْعَطْف حَقِيقَة وَلَكِن فِيهِ احْتِمَال الْحَال إِذْ
الطَّلَاق يتَحَقَّق فِي حَال الْمَرَض فلاعتبار الظَّاهِر لَا
يدين فِي الْقَضَاء ولاحتمال كَونه مُحْتملا تعْمل نِيَّته
فصل
وَأما الْفَاء فَهُوَ للْعَطْف وموجبه التعقيب بِصفة الْوَصْل
فَيثبت بِهِ تَرْتِيب وَإِن لطف ذَلِك لما بَينا أَن كل حرف
يخْتَص بِمَعْنى فِي أصل الْوَضع إِذْ لَو لم يَجْعَل كَذَلِك
خرج من أَن يكون مُفِيدا فَالْمَعْنى الَّذِي اخْتصَّ بِهِ
الْفَاء مَا بَينا أَلا ترى أَن أهل اللِّسَان وصلوا حرف
الْفَاء بالجزاء وسموه حرف الْجَزَاء لِأَن الْجَزَاء يتَّصل
بِالشّرطِ على أَن يتعقب نُزُوله وجود الشَّرْط بِلَا فصل
وَكَذَلِكَ يسْتَعْمل حرف الْفَاء لعطف الحكم
(1/207)
على الْعلَّة يُقَال جَاءَ الشتَاء فتأهب
وَيُقَال ضرب فأوجع أَي بذلك الضَّرْب وَأطْعم فأشبع أَي بذلك
الطَّعَام وعَلى هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يَجْزِي
ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه أَي
بذلك الشِّرَاء وَلِهَذَا جعلنَا الشِّرَاء إعتاقا فِي
الْقَرِيب بِوَاسِطَة الْملك
وَيَقُول خُذ من مَالِي ألف دِرْهَم فَصَاعِدا أَي فَمَا
يزْدَاد عَلَيْهِ فَصَاعِدا وارتفاعا
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن
قَالَ لغيره بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم وَقَالَ
المُشْتَرِي فَهُوَ حر فَإِنَّهُ يعْتق وَيجْعَل قَابلا ثمَّ
معتقا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ هُوَ حر أَو وَهُوَ حر فَإِنَّهُ
يكون ردا للْإِيجَاب لَا قبولا فَلَا يعْتق
وَلَو قَالَ لخياط انْظُر إِلَى هَذَا الثَّوْب أيكفيني
قَمِيصًا فَقَالَ نعم قَالَ فاقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا
يَكْفِيهِ قَمِيصًا كَانَ الْخياط ضَامِنا لِأَن الْفَاء للوصل
والتعقيب فَكَأَنَّهُ قَالَ فَإِن كفاني قَمِيصًا فاقطعه
بِخِلَاف مَا لَو قَالَ اقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا
يَكْفِيهِ قَمِيصًا فَإِنَّهُ لَا يكون ضَامِنا لوُجُود
الْإِذْن مُطلقًا
وَقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا
إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق فطالق فطالق فَدخلت إِنَّهَا
تطلق وَاحِدَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله بِاعْتِبَار أَن
الْفَاء يَجْعَل مستعارا عَن الْوَاو مجَازًا لقرب أَحدهمَا من
الآخر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن هَاهُنَا تطلق
وَاحِدَة عِنْدهم جَمِيعًا
لِأَن الْفَاء للتعقيب فَيثبت بِهِ تَرْتِيب بَين الثَّانِيَة
وَالْأولَى فِي الْوُقُوع وَمَعَ التَّرْتِيب لَا يُمكن
إِيقَاع الثَّانِيَة لِأَنَّهَا تبين بِالْأولَى وَمَعَ
إِمْكَان اعْتِبَار الْحَقِيقَة لَا معنى للمصير إِلَى
الْمجَاز
وَالدَّلِيل على أَن الصَّحِيح هَذَا مَا قَالَ فِي الْجَامِع
إِن دخلت هَذِه الدَّار فَدخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى
فَأَنت طَالِق فَإِن الشَّرْط أَن تدخل الثَّانِيَة بعد دُخُول
الدَّار الأولى حَتَّى لَو دخلت فِي الثَّانِيَة قبل الأولى
ثمَّ دخلت فِي الأولى لم تطلق بِخِلَاف مَا لَو قَالَ وَدخلت
هَذِه الدَّار
وَقد توصل الْفَاء بِمَا هُوَ عِلّة إِذا كَانَ مُحْتَمل
الامتداد يَقُول الرجل لغيره أبشر فقد أَتَاك الْغَوْث وَهَذَا
على سَبِيل بَيَان الْعلَّة للخطاب بالبشارة وَلَكِن لما كَانَ
ذَلِك ممتدا صَحَّ ذكر حرف الْفَاء مَقْرُونا بِهِ وعَلى هَذَا
الأَصْل لَو قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا فَأَنت حر
فَإِنَّهُ يعْتق وَإِن لم يؤد لِأَنَّهُ لبَيَان الْعلَّة أَي
لِأَنَّك قد صرت حرا وَصفَة الْحُرِّيَّة تمتد
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لحربي انْزِلْ فَأَنت آمن كَانَ آمنا
(1/208)
نزل أَو لم ينزل لِأَن معنى كَلَامه
انْزِلْ لِأَنَّك آمن والأمان ممتد فَأَما مَا قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن يَقُول لفُلَان عَليّ
دِرْهَم فدرهم إِنَّه يلْزمه دِرْهَمَانِ فَذَلِك لتحقيق معنى
الْعَطف إِذْ الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ
وَاعْتِبَار معنى الْوَصْل وَالتَّرْتِيب فِي الْوُجُوب لَا
فِي الْوَاجِب أَو لما تعذر اعْتِبَار حَقِيقَة معنى حرف
الْفَاء جعل عبارَة عَن الْوَاو مجَازًا فَكَأَنَّهُ قَالَ
دِرْهَم وَدِرْهَم
وَالشَّافِعِيّ يَقُول يلْزمه دِرْهَم وَاحِد لِأَن مَا هُوَ
مُوجب حرف الْفَاء لَا يتَحَقَّق هَاهُنَا فَيكون صلَة
للتَّأْكِيد كَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَم فَهُوَ دِرْهَم
وَلَكِن مَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَنَّهُ يضمر ليسقط بِهِ
اعْتِبَار حرف الْفَاء والإضمار لتصحيح مَا وَقع التَّنْصِيص
عَلَيْهِ لَا لإلغائه ثمَّ معنى الْعَطف مُحكم فِي هَذَا
الْحَرْف فَلَا بُد من اعْتِبَاره بِحَسب الْإِمْكَان والمعطوف
غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيلْزمهُ دِرْهَمَانِ لهَذَا
فصل
وَأما حرف ثمَّ فَهُوَ للْعَطْف على وَجه التعقيب مَعَ
التَّرَاخِي هُوَ الْمَعْنى الَّذِي اخْتصَّ بِهِ هَذَا
الْحَرْف بِأَصْل الْوَضع
يَقُول الرجل (جَاءَنِي زيد ثمَّ عَمْرو فَإِنَّمَا يفهم
مِنْهُ مَا يفهم من قَوْله) جَاءَنِي زيد وَبعده عَمْرو إِلَّا
أَن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله صفة هَذَا التَّرَاخِي أَن
يكون بِمَنْزِلَة مَا لَو سكت ثمَّ اسْتَأْنف قولا بعد الأول
لإتمام القَوْل بالتراخي وَعِنْدَهُمَا التَّرَاخِي بِهَذَا
الْحَرْف فِي الحكم مَعَ الْوَصْل فِي التَّكَلُّم لمراعاة
معنى الْعَطف فِيهِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن
دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثمَّ طَالِق ثمَّ طَالِق عِنْد أبي
حنيفَة رَحمَه الله تتَعَلَّق الأولى بِالدُّخُولِ وَتَقَع
الثَّانِيَة فِي الْحَال وتلغو الثَّالِثَة بِمَنْزِلَة قَوْله
أَنْت طَالِق طَالِق طَالِق من غير حرف الْعَطف حَتَّى
يَنْقَطِع بعض الْكَلَام عَن الْبَعْض وَعِنْدَهُمَا يتَعَلَّق
الْكل بِالدُّخُولِ ثمَّ عِنْد الدُّخُول يظْهر التَّرْتِيب
فِي الْوُقُوع فَلَا تقع إِلَّا وَاحِدَة لاعْتِبَار
التَّرَاخِي بِحرف ثمَّ
وَلَو أخر الشَّرْط ذكرا فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تطلق
وَاحِدَة فِي الْحَال وَيَلْغُو مَا سواهَا وَعِنْدَهُمَا لَا
تطلق مَا لم تدخل الدَّار فَإِذا دخلت طلقت وَاحِدَة وَلَو
كَانَت مَدْخُولا بهَا فَإِن أخر الشَّرْط فَعِنْدَ أبي حنيفَة
رَحمَه الله تطلق اثْنَتَيْنِ فِي الْحَال وتتعلق
(1/209)
الثَّالِثَة بِالدُّخُولِ وَعِنْدَهُمَا
مَا لم تدخل لَا يَقع شَيْء فَإِذا دخلت طلقت ثَلَاثًا
وَلَو قدم الشَّرْط فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تقع
الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فِي الْحَال وتتعلق الأولى
بِالدُّخُولِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَقع شَيْء مَا لم تدخل فَإِذا
دخلت طلقت ثَلَاثًا هَكَذَا ذكر مُفَسرًا فِي النَّوَادِر
وَقد يسْتَعْمل حرف ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو مجَازًا قَالَ الله
تَعَالَى {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} وَقَالَ تَعَالَى
{ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} وعَلى هَذَا قُلْنَا
فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حلف على يَمِين وَرَأى
غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير ثمَّ ليكفر
يَمِينه إِن حرف ثمَّ فِي هَذِه الرِّوَايَة مَحْمُول على
الْحَقِيقَة وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي قَالَ فليكفر يَمِينه
ثمَّ ليأت بِالَّذِي هُوَ خير حرف ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو
مجَازًا لِأَن صِيغَة الْأَمر للْإِيجَاب وَإِنَّمَا
التَّكْفِير بعد الْحِنْث لَا قبله فحملنا هَذَا الْحَرْف على
الْمجَاز لمراعاة حَقِيقَة الصِّيغَة فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود
إِذْ لَو حملنَا حرف ثمَّ على الْحَقِيقَة كَانَ الْأَمر
بالتكفير مَحْمُولا على الْمجَاز فَإِنَّهُ لَا يجب تَقْدِيم
التَّكْفِير على الْحِنْث بالِاتِّفَاقِ فَكَانَ الأولى على
هَذَا أَن يَجْعَل حرف ثمَّ بِمَعْنى حرف الْفَاء فَإِنَّهُ
أقرب إِلَيْهِ من حرف الْوَاو وَإِنَّمَا لم نَفْعل ذَلِك
لِأَن حرف الْفَاء يُوجب ترتيبا أَيْضا والحنث غير مُرَتّب على
التَّكْفِير بِوَجْه فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ بِمَعْنى الْوَاو
فصل
وَأما حرف بل هُوَ لتدارك الْغَلَط بِإِقَامَة الثَّانِي مقَام
الأول وَإِظْهَار أَن الأول كَانَ غَلطا فَإِن الرجل يَقُول
جَاءَنِي زيد بل عَمْرو أَو لَا بل عَمْرو فَإِنَّمَا يفهم
مِنْهُ الْإِخْبَار بمجيء عَمْرو خَاصَّة وَهُوَ معنى قَوْله
تَعَالَى {بل كُنْتُم مجرمين}
{بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار إِذْ تأمروننا أَن نكفر
بِاللَّه} وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله إِن من قَالَ
لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم بل أَلفَانِ يلْزمه ثَلَاثَة آلَاف
لِأَن بل لتدارك الْغَلَط فَيكون إِقْرَارا بِأَلفَيْنِ ورجوعا
عَن الْألف وَبَيَان أَنه كَانَ غَلطا وَلَكِن الْإِقْرَار
صَحِيح وَالرُّجُوع
(1/210)
بَاطِل كَمَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت
طَالِق وَاحِدَة بل اثْنَتَيْنِ تطلق ثَلَاثًا وَلَكنَّا نقُول
يلْزمه أَلفَانِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُوده تدارك الْغَلَط
بِنَفْي مَا أقرّ بِهِ أَولا بل تدارك الْغَلَط بِإِثْبَات
الزِّيَادَة الَّتِي نفاها فِي الْكَلَام الأول بطرِيق
الِاقْتِضَاء فَكَأَنَّهُ قَالَ بل مَعَ تِلْكَ الْألف ألف
أُخْرَى فهما أَلفَانِ عَليّ أَلا ترى أَن الرجل يَقُول أَتَى
عَليّ خَمْسُونَ سنة بل سِتُّونَ فَإِنَّهُ يفهم هَذَا من
كَلَامه بل سِتُّونَ لعشرة زَائِدَة على الْخمسين الَّتِي
أخْبرت بهَا أَولا وَلَكِن هَذَا يتَحَقَّق فِي الإخبارات
لِأَنَّهَا تحْتَمل الْغَلَط وَلَا يتَحَقَّق فِي الإنشاءات
فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ موقعا اثْنَتَيْنِ رَاجعا عَن الأولى
ورجوعه لَا يَصح فَتطلق ثَلَاثًا حَتَّى لَو قَالَ كنت طَلقتك
أمس وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ تطلق اثْنَتَيْنِ لِأَن
الْغَلَط فِي الْإِخْبَار يتَمَكَّن وَلَو قَالَ لغير
الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ
تطلق وَاحِدَة لِأَنَّهُ بقوله بل اثْنَتَيْنِ أَولا بل
اثْنَتَيْنِ يروم الرُّجُوع عَن الأولى وَذَلِكَ بَاطِل
وَبَعْدَمَا بَانَتْ بِالْأولَى لم يبْق الْمحل ليَصِح إِيقَاع
الثِّنْتَيْنِ عَلَيْهَا وَلَو قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت
طَالِق وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ فَدخلت تطلق ثَلَاثًا
بالِاتِّفَاقِ لِأَن مَعَ تعلق الأولى بِالشّرطِ بَقِي الْمحل
على حَاله وَهُوَ بِهَذَا الْحَرْف تبين أَنه تعلق
الثِّنْتَيْنِ بِالشّرطِ ابْتِدَاء لَا بِوَاسِطَة الأولى
لِأَنَّهُ رَاجع عَن الأولى فَكَأَنَّهُ أعَاد ذكر الشَّرْط
وَصَارَ كَلَامه فِي حكم يمينين فَعِنْدَ وجود الشَّرْط تقع
الثَّلَاث جملَة لتَعلق الْكل بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة
بِخِلَاف مَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي حرف الْوَاو
فَإِنَّهُ للْعَطْف فَيكون هُوَ مقررا للأولى ومعلقا
الثَّانِيَة بِالشّرطِ بِوَاسِطَة الأولى فَعِنْدَ وجود
الشَّرْط يقعن مُتَفَرقًا أَيْضا فَتبين بِالْأولَى قبل وُقُوع
الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالله أعلم
فصل
وَأما لَكِن فَهُوَ كلمة مَوْضُوعَة للاستدراك بعد النَّفْي
تَقول مَا رَأَيْت زيدا لَكِن عمرا فَالْمَعْنى الَّذِي تخْتَص
بِهِ هَذِه الْكَلِمَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع إِثْبَات مَا
بعْدهَا فَأَما نفي مَا قبلهَا فثابت بدليله بِخِلَاف بل قَالَ
تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت
إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} ثمَّ الْعَطف بهَا إِنَّمَا يكون
عِنْد اتساق الْكَلَام فَإِن وجد ذَلِك كَانَ لتعليق النَّفْي
بالإثبات الَّذِي بعْدهَا وَإِلَّا كَانَت للاستئناف
وَبَيَان هَذَا فِي مسَائِل مَذْكُورَة فِي الْجَامِع مِنْهَا
إِذا قَالَ رجل هَذَا العَبْد فِي يَدي لفُلَان
(1/211)
فَقَالَ الْمقر لَهُ مَا كَانَ لي قطّ
وَلكنه لفُلَان فَإِن وصل كَلَامه فَهُوَ للْمقر لَهُ
الثَّانِي وَإِن فصل فَهُوَ للْمقر لِأَن قَوْله مَا كَانَ لي
قطّ تَصْرِيح بِنَفْي ملكه فِيهِ فَإِذا وصل بِهِ قَوْله لَكِن
لفُلَان كَانَ بَيَانا أَنه نفي ملكه إِلَى الثَّانِي
بِإِثْبَات الْملك لَهُ بقوله لَكِن فَإِن قطع كَلَامه كَانَ
مَحْمُولا على نفي ملكه أصلا كَمَا هُوَ الظَّاهِر وَهُوَ رد
للإقرار ثمَّ قَوْله وَلكنه لفُلَان شَهَادَة بِالْملكِ
للثَّانِي على الْمقر وبشهادة الْفَرد لَا يثبت الْملك
وَلَو أَن الْمقْضِي لَهُ بِالْعَبدِ بِالْبَيِّنَةِ قَالَ مَا
كَانَ لي قطّ وَلكنه لفُلَان فَقَالَ الْمقر لَهُ قد كَانَ
لَهُ فَبَاعَهُ أَو وهبه مني بعد الْقَضَاء لَهُ فَإِنَّهُ
يكون للثَّانِي لِأَنَّهُ حِين وصل الْكَلَام فقد تبين أَنه
نفي ملكه بإثباته للثَّانِي وَذَلِكَ يحْتَمل الْإِنْشَاء
بِسَبَب كَانَ بعد الْقَضَاء فَيحمل على ذَلِك فِي حق الْمقر
لَهُ إِلَّا أَن الْمقر يصير ضَامِنا قِيمَته للمقضي عَلَيْهِ
لِأَن ظَاهر كَلَامه تَكْذِيب لشهوده وَإِقْرَار بِأَن
الْقَضَاء بَاطِل وَهَذَا حجَّة عَلَيْهِ وَلَكِن إِنَّمَا
يُقرر هَذَا الحكم بعد مَا تحول الْملك إِلَى الْمقر لَهُ
فَيضمن قِيمَته للمقضي عَلَيْهِ
وَلَو أَن أمة زوجت نَفسهَا من رجل بِمِائَة دِرْهَم بِغَيْر
إِذن مَوْلَاهَا فَقَالَ الْمولى لَا أجيزه لَكِن أجيزه
بِمِائَة وَخمسين أَو قَالَ لَكِن أجيزه إِن زدتني خمسين
فَالْعقد بَاطِل لِأَن الْكَلَام غير متسق فَإِن نفي
الْإِجَازَة وإثباتها بِعَينهَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى
الْعَطف فيرتد العقد بقوله لَا أجيزه وَيكون قَوْله لَكِن
أجيزه ابْتِدَاء بعد الِانْفِسَاخ
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم قرض فَقَالَ فلَان لَا
وَلكنه غصب فَإِنَّهُ يلْزمه المَال لِأَن الْكَلَام متسق
فيتبين بِآخِرهِ أَنه نفي السَّبَب لَا أصل المَال وَأَنه قد
صدقه فِي الْإِقْرَار بِأَصْل المَال وَلَا تفَاوت فِي الحكم
بَين السببين والأسباب مَطْلُوبَة للْأَحْكَام فَعِنْدَ انعدام
التَّفَاوُت يتم تَصْدِيقه لَهُ فِيمَا أقرّ بِهِ فَيلْزمهُ
المَال وعَلى هَذَا لَو قَالَ لَك عَليّ ألف دِرْهَم ثمن هَذِه
الْجَارِيَة الَّتِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك فَقَالَ الْجَارِيَة
جاريتك مَا بعتها مِنْك وَلَكِن لي عَلَيْك ألف دِرْهَم يلْزمه
المَال لِأَن الْكَلَام متسق وَفِي آخِره بَيَان أَنه مُصدق
لَهُ فِي أصل المَال مكذب فِي السَّبَب وَلَا تفَاوت عِنْد
سَلامَة الْجَارِيَة للْمقر فَيلْزمهُ المَال
(1/212)
فصل
وَأما أَو فَهِيَ كلمة تدخل بَين اسْمَيْنِ أَو فعلين وموجبها
بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يتَنَاوَل أحد الْمَذْكُورين
بَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم
أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} فَإِن الْوَاجِب فِي
الْكَفَّارَة أحد الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة مَعَ إِبَاحَة
التَّكْفِير بِكُل نوع مِنْهَا على الِانْفِرَاد وَلِهَذَا لَو
كفر بالأنواع كلهَا كَانَ مُؤديا للْوَاجِب بِأحد الْأَنْوَاع
فِي الصَّحِيح من الْمَذْهَب بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض النَّاس
وَقد بَينا هَذِه
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْحلق {ففدية
من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} وَفِي جَزَاء الصَّيْد {هَديا
بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل
ذَلِك صياما} وَقد ظن بعض مَشَايِخنَا أَنَّهَا فِي أصل
الْوَضع للتشكيك فَإِن الرجل إِذا قَالَ رَأَيْت زيدا وعمرا
يكون مخبرا بِرُؤْيَة كل وَاحِد مِنْهُمَا عينا وَلَو قَالَ بل
عمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة عَمْرو عينا
وَلَو قَالَ أَو عمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة أَحدهمَا غير عين
على أَنه شَاك فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز أَن يكون قد رَآهُ
وَيجوز أَن يكون لم يره إِلَّا أَن فِي الابتداءات وَالْأَمر
وَالنَّهْي يتَعَذَّر حمله على التشكيك فَإِن ذَلِك لَا يكون
إِلَّا عِنْد التباس الْعلم بالشَّيْء فَيحمل على التَّخْيِير
وَقرر هَذَا الْكَلَام فِي تصنيفه
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا غير صَحِيح لِأَن
الشَّك لَيْسَ بِأَمْر مَقْصُود حَتَّى يوضع لَهُ كلمة فِي أصل
الْوَضع وَلَكِن هَذِه الْكَلِمَة لبَيَان أَن المتناول أحد
الْمَذْكُورين كَمَا ذكرنَا إِلَّا أَن فِي الْإِخْبَار
يُفْضِي إِلَى الشَّك بِاعْتِبَار مَحل الْكَلَام لَا
بِاعْتِبَار هَذِه الْكَلِمَة كَمَا فِي قَوْله رَأَيْت زيدا
أَو عمرا فَأَما فِي الإنشاءات لما تبدل الْمحل وانعدم
الْمَعْنى الَّذِي لأَجله كَانَ معنى الشَّك فالثابت بِهَذِهِ
الْكَلِمَة التَّخْيِير بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَهُوَ
أَنَّهَا تتَنَاوَل أحد الْمَذْكُورين على إِثْبَات صفة
الْإِبَاحَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلِهَذَا قُلْنَا لَو
قَالَ هَذَا العَبْد حر أَو هَذَا فَهُوَ وَقَوله أَحدهمَا حر
سَوَاء يتَنَاوَل الْإِيجَاب أَحدهمَا وَيتَخَيَّر الْمولى فِي
الْبَيَان على أَن يكون بَيَانه من وَجه كابتداء الْإِيقَاع
حَتَّى يشْتَرط لصِحَّة الْبَيَان صَلَاحِية الْمحل للإيقاع
وَمن وَجه هُوَ تعْيين للْوَاقِع وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَو جمع بَين عَبده ودابته وَقَالَ
هَذَا حر أَو هَذَا لَغَا كَلَامه
(1/213)
بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَحدهمَا حر
لِأَن مَحل الْإِيجَاب أَحدهمَا بِغَيْر عينه وَإِذا لم يكن
أحد الْعَبْدَيْنِ محلا صَالحا للْإِيجَاب فَغير الْمعِين
مِنْهُمَا لَا يكون صَالحا وَبِدُون صَلَاحِية الْمحل لَا يَصح
الْإِيجَاب أصلا
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول هَذَا الْإِيجَاب يتَنَاوَل
أَحدهمَا بِغَيْر عينه على احْتِمَال التَّعْيِين أَلا ترى
أَنَّهُمَا لَو كَانَا عَبْدَيْنِ تنَاول أَحدهمَا على
احْتِمَال التَّعْيِين إِمَّا ببيانه أَو بانعدام الْمُزَاحمَة
بِمَوْت أَحدهمَا فَيصح الْإِيجَاب هُنَا بِاعْتِبَار هَذَا
الْمجَاز كَمَا هُوَ أصل أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي الْعَمَل
بالمجاز وَإِن تعذر الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ لعدم صَلَاحِية
الْمحل لَهُ وَعِنْدَهُمَا الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي
الحكم فَإِذا لم يكن الْمحل صَالحا للْحكم حَقِيقَة يسْقط
اعْتِبَار الْعَمَل بالمجاز وَقد بَينا هَذَا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لثلاث نسْوَة لَهُ هَذِه طَالِق أَو
هَذِه وَهَذِه تطلق الثَّالِثَة وَيتَخَيَّر فِي الْأَوليين
بِمَنْزِلَة مَا لَو جمع بَين الْأَوليين فَقَالَ إِحْدَاكُمَا
طَالِق وَهَذِه وَلِهَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله فِي قَوْله
وَالله لَا أكلم فلَانا أَو فلَانا وَفُلَانًا إِنَّه لَا
يَحْنَث إِن كلم الأول وَحده مَا لم يكلم الثَّالِث مَعَه
بِمَنْزِلَة قَوْله لَا أكلم أحد هذَيْن وَهَذَا
وَلَكنَّا نقُول هُنَاكَ إِن كلم الأول وَحده يَحْنَث وَإِن
كلم أحد الآخرين لَا يَحْنَث مَا لم يكلمهما لِأَنَّهُ أشرك
بَينهمَا بِحرف الْوَاو وَالْخَبَر الْمَذْكُور يصلح للمثنى
كَمَا يصلح للْوَاحِد فَإِنَّهُ يَقُول لَا أكلم هَذَا لَا
أكلم هذَيْن فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ لَا أكلم هَذَا أَو هذَيْن
بِخِلَاف الطَّلَاق فهناك الْخَبَر الْمَذْكُور غير صَالح
للمثنى إِذا جمعت بَينهمَا لِأَنَّهُ يُقَال للمثنى طالقان
مَعَ أَن هُنَاكَ يُمكن أَن تجْعَل الثَّالِثَة كالمذكورة
وَحدهَا فَإِن الحكم فِيهَا لَا يخْتَلف سَوَاء ضمت إِلَى
الأولى أَو إِلَى الثَّانِيَة وَهنا الحكم فِي الثَّالِث
يخْتَلف بالانضمام إِلَى الأول أَو الثَّانِي فَكَانَ ضمه
إِلَى مَا يَلِيهِ أولى
وعَلى هَذَا لَو قَالَ وكلت بِبيع هَذَا العَبْد هَذَا الرجل
أَو هَذَا فَإِنَّهُ يَصح التَّوْكِيل اسْتِحْسَانًا
بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ وكلت أَحدهمَا بِبيعِهِ حَتَّى لَا
يشْتَرط اجْتِمَاعهمَا على البيع بِخِلَاف مَا لَو قَالَ
وَهَذَا وَإِذا بَاعَ أَحدهمَا نفذ البيع وَلم يكن للْآخر بعد
ذَلِك أَن يَبِيعهُ وَإِن عَاد إِلَى ملكه وَقبل البيع يُبَاح
لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يَبِيعهُ
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لوَاحِد بِعْ هَذَا العَبْد أَو هَذَا
يثبت لَهُ الْخِيَار على أَن يَبِيع أَحدهمَا أَيهمَا شَاءَ
بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ بِعْ أَحدهمَا فَأَما فِي البيع
إِذا أَدخل كلمة
(1/214)
أَو فِي الْمَبِيع أَو الثّمن فَالْبيع
فَاسد للْجَهَالَة لِأَن مُوجب الْكَلِمَة التَّخْيِير وَمن
لَهُ الْخِيَار مِنْهُمَا غير مَعْلُوم فَإِن كَانَ مَعْلُوما
جَازَ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة اسْتِحْسَانًا وَلم يجز
فِي الزِّيَادَة على ذَلِك لبَقَاء الْحَظْر بعد تعين من لَهُ
الْخِيَار وَلَكِن الْيَسِير من الْحَظْر لَا يمْنَع جَوَاز
العقد والفاحش مِنْهُ يمْنَع جَوَاز العقد
فَأَما فِي النِّكَاح ف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله
تَعَالَى يَقُولَانِ يثبت التَّخْيِير بِهَذِهِ الْكَلِمَة
إِذا كَانَ مُفِيدا بِأَن يَقُول لامْرَأَة تَزَوَّجتك على ألف
دِرْهَم حَالا أَو على أَلفَيْنِ إِلَى سنة أَو تَزَوَّجتك على
ألف دِرْهَم أَو مائَة دِينَار وَلَا يثبت الْخِيَار إِذا لم
يكن مُفِيدا بِأَن يَقُول تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم أَو
أَلفَيْنِ بل يجب الْأَقَل عينا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي
التَّخْيِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي جنس وَاحِد وَصِحَّة
النِّكَاح لَا تتَوَقَّف على تَسْمِيَة الْبَدَل فوجوب المَال
عِنْد التَّسْمِيَة فِي معنى الِابْتِدَاء بِمَنْزِلَة
الْإِقْرَار بِالْمَالِ أَو الْوَصِيَّة أَو الْخلْع أَو
الصُّلْح عَن دم الْعمد على مَال فَإِنَّمَا يثبت الْأَقَل
لكَونه متيقنا بِهِ وَلِهَذَا كل مَا يصلح أَن يكون مُسَمّى
فِي الصُّلْح عَن دم الْعمد يصلح أَن يكون مُسَمّى فِي
النِّكَاح
وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول يُصَار إِلَى تحكيم
مهر الْمثل لِأَن التَّخْيِير الَّذِي هُوَ حكم هَذِه
الْكَلِمَة يمْنَع كَون الْمُسَمّى مَعْلُوما قطعا والموجب
الْأَصْلِيّ فِي النِّكَاح مهر الْمثل وَإِنَّمَا يَنْتَفِي
ذَلِك الْمُوجب عِنْد تَسْمِيَة مَعْلُومَة قطعا فَإِذا
انْعَدم ذَلِك بِحرف أَو وَجب الْمصير إِلَى الْمُوجب
الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْخلْع وَالصُّلْح فَلَيْسَ فِي ذَلِك
العقد مُوجب أُصَلِّي فِي الْبَدَل بل هُوَ صَحِيح من غير بدل
يجب بِهِ فَلهَذَا أَوجَبْنَا الْقدر الميتقن بِهِ وَمَا زَاد
على ذَلِك لكَونه مشكوكا فِيهِ يبطل
وعَلى هَذَا قَالَ مَالك رَحمَه الله فِي حد قطاع الطَّرِيق
إِن الإِمَام يتَخَيَّر فِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى {أَن
يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف} فَإِن
مُوجب الْكَلِمَة التَّخْيِير وَالْكَلَام مَحْمُول على
حَقِيقَته حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز
وَلَكنَّا نقُول فِي أول الْآيَة تنصيص على أَن الْمَذْكُور
جَزَاء على الْمُحَاربَة والمحاربة أَنْوَاع كل نوع مِنْهَا
مَعْلُوم من تخويف أَو أَخذ مَال أَو قتل نفس أَو جمع بَين
الْقَتْل وَأخذ المَال وَهَذِه الْأَنْوَاع تَتَفَاوَت فِي صفة
الْجِنَايَة وَالْمَذْكُور أجزية مُتَفَاوِتَة فِي معنى
التَّشْدِيد فَوَقع
(1/215)
الِاسْتِغْنَاء بِتِلْكَ الْمُقدمَة عَن
بَيَان تَقْسِيم الأجزية على أَنْوَاع الْجِنَايَة نصا وَلَكِن
هَذَا التَّقْسِيم ثَابت بِأَصْل مَعْلُوم وَهُوَ أَن
الْجُمْلَة إِذا قوبلت بِالْجُمْلَةِ يَنْقَسِم الْبَعْض على
الْبَعْض فَلهَذَا كَانَ الْجَزَاء على كل نوع عينا كَيفَ وَقد
نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا التَّقْسِيم فِي أَصْحَاب أبي بردة
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا جمع بَين
الْقَتْل وَأخذ المَال فللإمام الْخِيَار إِن شَاءَ قطع يَده
ثمَّ قَتله وصلبه وَإِن شَاءَ قَتله وصلبه وَلم يقطعهُ لِأَن
نوع الْمُحَاربَة مُتَعَدد صُورَة مُتحد معنى فَيتَخَيَّر
لهَذَا
وَقيل أَو هُنَا بِمَعْنى بل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى
{فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} أَي بل أَشد قسوة فَيكون
المُرَاد بل يصلبوا إِذا اتّفقت الْمُحَاربَة بقتل النَّفس
وَأخذ المَال بل تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف إِذا أخذُوا
المَال فَقَط بل ينفوا من الأَرْض إِذا خوفوا الطَّرِيق
وَقد تستعار كلمة أَو للْعَطْف فَتكون بِمَعْنى الْوَاو قَالَ
تَعَالَى {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} أَي
وَيزِيدُونَ
قَالَ الْقَائِل فَلَو كَانَ الْبكاء يرد شَيْئا بَكَيْت على
زِيَاد أَو عنَاق على المرأين إِذْ مضيا جَمِيعًا لشأنهما بحزن
واحتراق (أَي وعناق) بِدَلِيل قَوْله على المرأين إِذْ مضيا
جَمِيعًا
إِذا عرفنَا هَذَا فَنَقُول إِنَّمَا يحمل على هَذِه
الِاسْتِعَارَة عِنْد اقتران الدَّلِيل بالْكلَام وَمن
الدَّلِيل (على ذَلِك) أَن تكون مَذْكُورَة فِي مَوضِع
النَّفْي قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو
كفورا} مَعْنَاهُ وَلَا كفورا وَالدَّلِيل فِيهِ مَا قدمنَا
أَن النكرَة فِي (مَوضِع) النَّفْي تعم وَلَا يُمكن إِثْبَات
التَّعْمِيم إِلَّا أَن يَجْعَل بِمَعْنى وَاو الْعَطف وَلَكِن
على أَن يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد لَا
على الِاجْتِمَاع كَمَا هُوَ مُوجب حرف الْوَاو وَلِهَذَا
قُلْنَا لَو قَالَ وَالله أكلم فلَانا أَو فلَانا فَإِنَّهُ
يَحْنَث إِذا كلم أَحدهمَا بِخِلَاف قَوْله فلَانا وَفُلَانًا
فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث مَا لم يكلمهما وَلَكِن يتَنَاوَل كل
وَاحِد (مِنْهُمَا) على الِانْفِرَاد حَتَّى لَا يثبت لَهُ
الْخِيَار وَلَو كَانَ فِي الْإِيلَاء بِأَن قَالَ لَا أقرب
(1/216)
هَذِه أَو هَذِه فمضت الْمدَّة بانتا
جَمِيعًا
وَمن ذَلِك أَن يسْتَعْمل الْكَلِمَة فِي مَوضِع الْإِبَاحَة
فَتكون بِمَعْنى الْوَاو حَتَّى يتَنَاوَل معنى الْإِبَاحَة كل
وَاحِد من الْمَذْكُورين فَإِن الرجل يَقُول جَالس الْفُقَهَاء
أَو الْمُتَكَلِّمين فيفهم (مِنْهُ) الْإِذْن بالمجالسة مَعَ
كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ والطبيب يَقُول للْمَرِيض كل
هَذَا أَو هَذَا فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَن كل وَاحِد
مِنْهُمَا صَالح لَك
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا حملت ظهورهما
أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} فالاستثناء من
التَّحْرِيم إِبَاحَة ثمَّ تثبت الْإِبَاحَة فِي جَمِيع هَذِه
الْأَشْيَاء فَعرفنَا أَن مُوجب هَذِه الْكَلِمَة فِي
الْإِبَاحَة الْعُمُوم وَأَنه بِمَعْنى وَاو الْعَطف
وَبَيَان الْفرق بَين الْإِبَاحَة والإيجاب أَن فِي الْإِيجَاب
الِامْتِثَال بالإقدام على أَحدهمَا وَفِي الْإِبَاحَة
تتَحَقَّق الْمُوَافقَة فِي الْإِقْدَام على كل وَاحِد
مِنْهُمَا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لَا أكلم أحدا إِلَّا فلَانا
أَو فلَانا فَإِن لَهُ أَن يكلمهما من غير حنث
وَلَو قَالَ لأَرْبَع نسْوَة لَهُ وَالله لَا أقربكن إِلَّا
فُلَانَة أَو فُلَانَة فَإِنَّهُ لَا يكون موليا مِنْهُمَا
جَمِيعًا حَتَّى لَا يَحْنَث إِن قربهما وَلَا تقع الْفرْقَة
بَينه وَبَينهمَا بِمُضِيِّ الْمدَّة قبل القربان
وَقد تستعار أَو بِمَعْنى حَتَّى قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ لَك
من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} أَي حَتَّى يَتُوب
عَلَيْهِم
وَفِي هَذِه الِاسْتِعَارَة معنى الْعَطف فَإِن غَايَة
الشَّيْء تتصل بِهِ كَمَا يتَّصل الْمَعْطُوف بالمعطوف
عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو قَالَ وَالله
لأدخلن هَذِه الدَّار الْيَوْم أَو لأدخلن هَذِه الدَّار فَأَي
الدَّاريْنِ دخل بر فِي يَمِينه لِأَنَّهُ ذكر الْكَلِمَة فِي
مَوضِع الْإِثْبَات فَيَقْتَضِي التَّخْيِير فِي شَرط الْبر
وَلَو قَالَ لَا أَدخل هَذِه الدَّار أَو لَا أَدخل هَذِه
الدَّار (فَأَي الدَّاريْنِ دخل حنث فِي يَمِينه لِأَنَّهُ
ذكرهَا فِي مَوضِع النَّفْي فَكَانَت بِمَعْنى وَلَا
وَلَو قَالَ وَالله لَا أَدخل هَذِه الدَّار أَو أَدخل هَذِه
الدَّار) الْأُخْرَى فَإِن دخل الأولى حنث فِي يَمِينه وَإِن
دخل الثَّانِيَة أَولا بر فِي يَمِينه حَتَّى إِذا دخل الأولى
بعد ذَلِك لَا يَحْنَث بِمَنْزِلَة قَوْله لَا أَدخل هَذِه
الدَّار حَتَّى أَدخل هَذِه الدَّار فَكَأَن الدُّخُول فِي
الْأُخْرَى غَايَة ليمينه فَإِذا دَخلهَا انْتَهَت الْيَمين
وَإِن لم يدخلهَا حَتَّى دخل الأولى حنث لوُجُود الشَّرْط فِي
فِيهِ للنَّفْي فِي أحد الْجَانِبَيْنِ ويتعذر إِثْبَات معنى
الْعَطف لعدم المجانسة بَين الْمَذْكُورين فَيجْعَل بِمَعْنى
الْغَايَة لِأَن حُرْمَة الدُّخُول الثَّابِت بِالْيَمِينِ
يحْتَمل الامتداد فيليق بِهِ ذكر الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى لَيْسَ لَك حَال بَقَاء الْيَمين وَإِنَّمَا
(1/217)
جَعَلْنَاهُ هَكَذَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر
اعْتِبَار معنى التَّخْيِير {من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب
عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل الْكَلِمَة على الْعَطف
إِذْ الْفِعْل لَا يعْطف على الِاسْم والمستقبل لَا يعْطف على
الْمَاضِي وَنفي الْأَمر يحْتَمل الامتداد فَيجْعَل قَوْله
{أَو يَتُوب} بِمَعْنى الْغَايَة وَلِأَنَّهُ نفي الدُّخُول
فِي الدَّار الأولى فَإِذا دخل فِيهَا أَولا يَجْعَل كَأَن
الْمَذْكُور آخرا من جنسه نفي فَيحنث بِالدُّخُولِ فِيهَا
لهَذَا وَأثبت الدُّخُول فِي الدَّار الثَّانِيَة فَإِذا
دَخلهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْأَخير من جنسه إِثْبَات كَمَا
فِي قَوْله لأدخلن هَذِه الدَّار أَو لأدخلن هَذِه الدَّار
فصل
وَأما حَتَّى فَهِيَ للغاية بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
بِمَنْزِلَة إِلَى هُوَ الْمَعْنى الْخَاص الَّذِي لأَجله وضعت
الْكَلِمَة قَالَ تَعَالَى {هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقَالَ
تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد} وَقَالَ
تَعَالَى {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى
يَأْتِيك الْيَقِين} فَمَتَى كَانَ مَا قبلهَا بِحَيْثُ
يحْتَمل الامتداد وَمَا بعْدهَا يصلح للانتهاء بِهِ كَانَت
عاملة فِي حَقِيقَة الْغَايَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا حلف أَن
يلازم غَرِيمه حَتَّى يَقْضِيه ثمَّ فَارقه قبل أَن يَقْضِيه
دينه حنث لِأَن الْمُلَازمَة تحْتَمل الامتداد وَقَضَاء الدّين
يصلح مَنْهِيّا للملازمة
وَقَالَ فِي الزِّيَادَات لَو قَالَ عَبده حر إِن لم أضربك
حَتَّى تَشْتَكِي يَدي أَو حَتَّى اللَّيْل أَو حَتَّى تصبح
أَو حَتَّى يشفع فلَان ثمَّ ترك ضربه قبل هَذِه الْأَشْيَاء
حنث لِأَن الضَّرْب بطرِيق التّكْرَار يحْتَمل الامتداد
وَالْمَذْكُور بعد الْكَلِمَة صَالح للانتهاء فَيجْعَل غَايَة
حَقِيقَة وَإِذا أقلع عَن الضَّرْب قبل الْغَايَة حنث إِلَّا
فِي مَوضِع يغلب على الْحَقِيقَة عرف فَيعْتَبر ذَلِك لِأَن
الثَّابِت بِالْعرْفِ ظَاهرا بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة حَتَّى
لَو قَالَ إِن لم أضربك حَتَّى أَقْتلك أَو حَتَّى تَمُوت
فَهَذَا على الضَّرْب الشَّديد بِاعْتِبَار الْعرف فَإِنَّهُ
مَتى كَانَ قَصده الْقَتْل لَا يذكر لفظ الضَّرْب وَإِنَّمَا
يذكر ذَلِك إِذا لم يكن قَصده الْقَتْل وَجعل الْقَتْل
(1/218)
غَايَة لبَيَان شدَّة الضَّرْب عَادَة
وَلَو قَالَ حَتَّى يغشى عَلَيْك أَو حَتَّى تبْكي فَهَذَا على
حَقِيقَة الْغَايَة لِأَن الضَّرْب إِلَى هَذِه الْغَايَة
مُعْتَاد
وَقد تسْتَعْمل الْكَلِمَة للْعَطْف فَإِن بَين الْعَطف
والغاية مُنَاسبَة بِمَعْنى التَّعَاقُب وَلَكِن مَعَ وجود
معنى الْغَايَة فِيهَا
يَقُول الرجل جَاءَنِي الْقَوْم حَتَّى زيد وَرَأَيْت الْقَوْم
حَتَّى زيدا فَيكون للْعَطْف مَعَ اعْتِبَار معنى الْغَايَة
لِأَنَّهُ يفهم بِهَذَا أَن زيدا أفضل الْقَوْم أَو أرذلهم
وَقد يدْخل بِمَعْنى الْعَطف على جملَة فَإِن ذكر لَهُ خَبرا
فَهُوَ خَبره وَإِلَّا فخبره من جنس مَا سبق
يَقُول الرجل مَرَرْت بالقوم حَتَّى زيد غَضْبَان وَتقول أكلت
السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا فَهَذَا مِمَّا لم يذكر خَبره
وَهُوَ من جنس مَا سبق على احْتِمَال أَن يكون هُوَ الْأكل أَو
غَيره وَلكنه إِخْبَار بِأَن رَأسهَا مَأْكُول أَيْضا
وَلَو قَالَ حَتَّى رَأسهَا بِالنّصب كَانَ هَذَا عطفا أَي
وأكلت رَأسهَا أَيْضا وَلَكِن بِاعْتِبَار معنى الْغَايَة
وَمثل هَذَا فِي الْأَفْعَال تكون للجزاء إِذا كَانَ مَا
قبلهَا يصلح سَببا لذَلِك وَمَا بعْدهَا يصلح أَن يكون جَزَاء
فَيكون بِمَعْنى لَام كي قَالَ تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا
تكون فتْنَة} أَي لكيلا تكون فتْنَة وَقَالَ تَعَالَى {وزلزلوا
حَتَّى يَقُول الرَّسُول} وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل
الْغَايَة مَعْنَاهُ إِلَى أَن يَقُول الرَّسُول فَيكون قَول
الرَّسُول نِهَايَة من غير أَن يكون بِنَاء على مَا سبق كَمَا
هُوَ مُوجب الْغَايَة أَنه لَا أثر لَهُ فِيمَا جعل غَايَة
لَهُ وَيحْتَمل لكَي يَقُول الرَّسُول وَالْقِرَاءَة
بِالرَّفْع تكون بِمَعْنى الْعَطف أَي وَيَقُول الرَّسُول
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك
غَدا حَتَّى تغديني فَعَبْدي حر فَأَتَاهُ فَلم يغده لَا
يَحْنَث لِأَن الْإِتْيَان لَيْسَ بمستدام فَلَا يحْتَمل
الْكَلِمَة بِمَعْنى حَقِيقَة الْغَايَة وَمَا بعده يصلح
جَزَاء فَيكون الْمَعْنى لكَي تغديني فقد جعل شَرط بره
الْإِتْيَان على هَذَا الْقَصْد وَقد وجد وَكَذَلِكَ لَو قَالَ
إِن لم تأتني حَتَّى أغديك فَأَتَاهُ وَلم يغده لم يَحْنَث
وَقد يستعار للْعَطْف الْمَحْض كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي
الْقِرَاءَة بِالرَّفْع وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْمَذْكُور
بعده لَا يصلح للجزاء فَيعْتَبر مُجَرّد الْمُنَاسبَة بَين
الْعَطف والغاية فِي الِاسْتِعَارَة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك
حَتَّى أتغدى عنْدك الْيَوْم أَو إِن لم تأتني حَتَّى تتغدى
عِنْدِي الْيَوْم فَأَتَاهُ ثمَّ لم يتغد عِنْده فِي ذَلِك
الْيَوْم حنث لِأَن الْكَلِمَة بِمَعْنى الْعَطف فَإِن
الْفِعْلَيْنِ من وَاحِد فَلَا يصلح الثَّانِي أَن يكون جَزَاء
للْأولِ فَحمل على الْعَطف الْمَحْض لتصحيح الْكَلَام وَشرط
الْبر وجود الْأَمريْنِ فِي الْيَوْم فَإِذا لم يوجدا حنث
(1/219)
فَإِن قيل أهل النَّحْو لَا يعْرفُونَ
هَذَا فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ رَأَيْت زيدا حَتَّى عمرا
بِاعْتِبَار الْعَطف قُلْنَا قد بَينا أَن فِي الاستعارات لَا
يعْتَبر السماع وَإِنَّمَا يعْتَبر الْمَعْنى الصَّالح
للاستعارة وَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الْمُنَاسبَة معنى صَالح
لذَلِك فَهِيَ اسْتِعَارَة بديعة بنى عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم
الله جَوَاب الْمَسْأَلَة عَلَيْهَا مَعَ أَن قَول مُحَمَّد
رَحمَه الله حجَّة فِي اللُّغَة فَإِن أَبَا عبيد وَغَيره
احْتج بقوله وَذكر ابْن السراج أَن الْمبرد سُئِلَ عَن معنى
الغزالة فَقَالَ هِيَ الشَّمْس قَالَه مُحَمَّد بن الْحسن
رَحمَه الله وَكَانَ فصيحا فَإِنَّهُ قَالَ لخادم لَهُ يَوْمًا
انْظُر هَل دلكت الغزالة فَخرج ثمَّ دخل فَقَالَ لم أر الغزالة
وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّد هَل زَالَت الشَّمْس فعلى هَذَا
يجوز أَن يَقُول الرجل رَأَيْت زيدا حَتَّى عمرا بِمَعْنى
الْعَطف إِلَّا أَن الأولى أَن يَجْعَل هَذَا بِمَعْنى الْفَاء
دون الْوَاو لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا للْعَطْف وَلَكِن فِي
الْفَاء معنى التعقيب فَهُوَ أقرب إِلَى معنى الْمُنَاسبَة
كَمَا بَينا
فصل
وَأما إِلَى فَهِيَ لانْتِهَاء الْغَايَة وَلِهَذَا تسْتَعْمل
الْكَلِمَة فِي الْآجَال والديون قَالَ تَعَالَى {إِلَى أجل
مُسَمّى} وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِلَى
شهر فَإِن نوى التَّنْجِيز فِي الْحَال تطلق وَيَلْغُو آخر
كَلَامه وَإِن نوى التَّأْخِير يتَأَخَّر الْوُقُوع إِلَى
مُضِيّ الشَّهْر وَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة فعلى قَول زفر
رَحمَه الله يَقع فِي الْحَال لِأَن تَأْخِير الشَّيْء لَا
يمْنَع ثُبُوت أَصله (فَيكون بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل فِي
الدّين لَا يمْنَع ثُبُوت أَصله) وَعِنْدنَا لَا يَقع لِأَن
الْكَلِمَة للتأخير فِيمَا يقرن بِهِ بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
وَقد قرنها بِأَصْل الطَّلَاق وَأَصلهَا يحْتَمل التَّأْخِير
فِي التَّعْلِيق بِمُضِيِّ شهر أَو بِالْإِضَافَة إِلَى مَا
بعد شهر فَأَما أصل الْيَمين لَا يحْتَمل التَّأْخِير فِي
التَّعْلِيق وَالْإِضَافَة فَلهَذَا حملنَا الْكَلِمَة هُنَاكَ
على تَأْخِير الْمُطَالبَة
ثمَّ من الغايات بِهَذِهِ الْكَلِمَة مَا لَا يدْخل كَقَوْلِه
تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَمِنْهَا مَا
يدْخل كَقَوْلِه {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَالْحَاصِل
فِيهِ أَن مَا يكون من الغايات قَائِما بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ
لَا يدْخل لِأَنَّهُ حد وَلَا يدْخل الْحَد فِي الْمَحْدُود
وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا
كَانَ أصل الْكَلَام متناولا للغاية كَانَ ذكر الْغَايَة
لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا فَيبقى مَوضِع الْغَايَة دَاخِلا
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق}
الْحَائِط لَا يدْخل الحائطان فِي الْإِقْرَار
(1/220)
وَمَا لَا يكون قَائِما بِنَفسِهِ فَإِن
فَإِن الِاسْم عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل الْجَارِحَة إِلَى
الْإِبِط فَذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وَإِن
كَانَ أصل الْكَلَام لَا يتَنَاوَل مَوضِع الْغَايَة أَو فِيهِ
شكّ فَذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَى موضعهَا فَلَا تدخل
الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَى اللَّيْل} فَإِن
الصَّوْم عبارَة عَن الْإِمْسَاك ومطلقه لَا يتَنَاوَل إِلَّا
سَاعَة فَذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَى مَوضِع الْغَايَة
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْغَايَة تدخل فِي
الْخِيَار لِأَن مطلقه يَقْتَضِي التَّأْبِيد وَلِأَن فِي
لُزُوم البيع فِي مَوضِع الْغَايَة شكا وَفِي الْآجَال
والإجارات لَا تدخل الغايات لِأَن الْمُطلق لَا يَقْتَضِي
التَّأْبِيد وَفِي تَأْخِير الْمُطَالبَة وتمليك الْمَنْفَعَة
فِي مَوضِع الْغَايَة شكّ وَفِي الْيَمين إِذا حلف لَا يكلم
فلَانا إِلَى وَقت كَذَا تدخل الْغَايَة فِي رِوَايَة الْحسن
عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن مطلقه يَقْتَضِي التَّأْبِيد
فَذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وَلَا تدخل فِي
ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن فِي حُرْمَة الْكَلَام وَوُجُوب
الْكَفَّارَة فِي الْكَلَام فِي مَوضِع الْغَايَة شكا
وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ
من دِرْهَم إِلَى عشرَة أَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق من
وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث لَا تدخل الغايتان لِأَن الْغَايَة حد
والمحدود غير الْحَد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تدخل الغايتان
لِأَن هَذِه الْغَايَة لَا تقوم بِنَفسِهَا فَلَا تكون غَايَة
مَا لم تكن ثَانِيَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْغَايَة الثَّانِيَة لَا
تدخل لِأَن مُطلق الْكَلَام لَا يتَنَاوَلهُ وَفِي ثُبُوته شكّ
وَلَكِن الْغَايَة الأولى تدخل للضَّرُورَة لِأَن الثَّانِيَة
دَاخِلَة فِي الْكَلَام وَلَا تكون ثَانِيَة قبل دُخُول الأولى
فصل
وَأما على فَهُوَ للإلزام بِاعْتِبَار أصل الْوَضع لِأَن معنى
حَقِيقَة الْكَلِمَة من علو الشَّيْء على الشَّيْء وارتفاعه
فَوْقه وَذَلِكَ قَضِيَّة الْوُجُوب واللزوم وَلِهَذَا لَو
قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم أَن مطلقه مَحْمُول على
الدّين إِلَّا
ثمَّ تسْتَعْمل الْكَلِمَة للشّرط بِاعْتِبَار أَن الْجَزَاء
يتَعَلَّق بِالشّرطِ وَيكون لَازِما عِنْد وجوده
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {يبايعنك على أَن لَا
يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا} أَن يصل بِكَلَامِهِ وَدِيعَة
لِأَن
(1/221)
حَقِيقَته اللُّزُوم فِي الدّين وَقَالَ
تَعَالَى {حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق}
وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير إِذا قَالَ رَأس الْحصن آمنوني
على عشرَة من أهل الْحصن إِن الْعشْرَة سواهُ وَالْخيَار فِي
تعيينهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ شَرط ذَلِك لنَفسِهِ بِكَلِمَة على
بِخِلَاف مَا لَو قَالَ آمنوني وَعشرَة أَو فعشرة أَو ثمَّ
عشرَة فَالْخِيَار فِي تعْيين الْعشْرَة إِلَى من آمنهم لِأَن
الْمُتَكَلّم عطف أمانهم على أَمَان نَفسه من غير أَن شَرط
لنَفسِهِ فِي أمانهم شَيْئا
وَقد تستعار الْكَلِمَة بِمَعْنى الْبَاء الَّذِي يصحب الأعواض
لما بَين الْعِوَض والمعوض من اللُّزُوم والاتصال فِي
الْوُجُوب حَتَّى إِذا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الشَّيْء على
ألف دِرْهَم أَو آجرتك شهرا على دِرْهَم يكون بِمَعْنى الْبَاء
لِأَن البيع وَالْإِجَارَة لَا تحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ
فَيحمل على هَذَا الْمُسْتَعَار لتصحيح الْكَلَام وَلِهَذَا
قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَت
الْمَرْأَة لزَوجهَا طَلقنِي ثَلَاثًا على ألف دِرْهَم
فَطلقهَا وَاحِدَة يجب ثلث الْألف بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَت
بِأَلف دِرْهَم لِأَن الْخلْع عقد مُعَاوضَة
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول لَا يجب عَلَيْهَا شَيْء من
الْألف وَيكون الْوَاقِع رَجْعِيًا لِأَن الطَّلَاق يحْتَمل
التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَإِن كَانَ مَعَ ذكر الْعِوَض
وَلِهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَة الْيَمين من الزَّوْج حَتَّى لَا
يملك الرُّجُوع عَنهُ قبل قبُولهَا وَحَقِيقَة الْكَلِمَة
للشّرط فَإِذا كَانَت مَذْكُورَة فِيمَا يحْتَمل معنى الشَّرْط
يحمل عَلَيْهِ دون الْمجَاز وعَلى اعْتِبَار الشَّرْط لَا
يلْزمهَا شَيْء من المَال لِأَنَّهَا شرطت إِيقَاع الثَّلَاث
ليتم رِضَاهَا بِالْتِزَام المَال وَالشّرط يُقَابل
الْمَشْرُوط جملَة وَلَا يُقَابله أَجزَاء وَقد يكون على
بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {إِذا اكتالوا على النَّاس
يستوفون} أَي من النَّاس
فصل
وَكلمَة من للتَّبْعِيض بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَقد تكون
لابتداء الْغَايَة يَقُول الرجل خرجت من الْكُوفَة وَقد تكون
للتمييز يُقَال بَاب من حَدِيد وثوب من قطن وَقد تكون بِمَعْنى
الْبَاء قَالَ تَعَالَى {يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} أَي
بِأَمْر الله وَقد تكون صلَة قَالَ تَعَالَى {يغْفر لكم من
ذنوبكم} وَقَالَ تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان}
(1/222)
وَفِي حمله على الصِّلَة يعْتَبر تعذر حمله
على معنى وضع لَهُ بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة أَو يستعار لَهُ
مجَازًا وَتعْتَبر الْحَاجة إِلَى إتْمَام الْكَلَام بِهِ
لِئَلَّا يخرج من أَن يكون مُفِيدا
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع إِن كَانَ مَا فِي يَدي من
الدَّرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة فَإِذا فِي يَده أَرْبَعَة فَهُوَ
حانث لِأَن الدِّرْهَم الرَّابِع بعض الدَّرَاهِم وَكلمَة من
للتَّبْعِيض
وَلَو قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا اخلعني على مَا فِي يَدي من
الدَّرَاهِم فَإِذا فِي يَدهَا دِرْهَم أَو دِرْهَمَانِ تلزمها
ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَن من هُنَا صلَة لتصحيح الْكَلَام فَإِن
الْكَلَام لَا يَصح إِلَّا بهَا حَتَّى إِذا قَالَت اخلعني على
مَا فِي يَدي دَرَاهِم كَانَ الْكَلَام مختلا وَفِي الأول لَو
قَالَ إِن كَانَ فِي يَدي دَرَاهِم كَانَ الْكَلَام صَحِيحا
فَعمل الْكَلِمَة فِي التَّبْعِيض لَا فِي تَصْحِيح الْكَلَام
وَقد بَينا الْمسَائِل على هَذِه الْكَلِمَة فِيمَا سبق
فصل
وَأما فِي فَهِيَ للظرف بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يُقَال
دَرَاهِم فِي صرة
وعَلى اعْتِبَار هَذِه الْحَقِيقَة قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره
غصبتك ثوبا فِي منديل أَو تَمرا فِي قوصرة يلْزمه رد كليهمَا
لِأَنَّهُ أقرّ (بِغَصب مظروف فِي ظرف فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك
إِلَّا) بغصبه لَهما
ثمَّ الظّرْف أَنْوَاع ثَلَاثَة ظرف الزَّمَان وظرف الْمَكَان
وظرف الْفِعْل
فَأَما ظرف الزَّمَان فبيانه فِيمَا إِذا قَالَ لامْرَأَته
أَنْت طَالِق فِي غَد فَإِنَّهَا تطلق غَدا بِاعْتِبَار أَنه
جعل الْغَد ظرفا وصلاحية الزَّمَان ظرفا للطَّلَاق من حَيْثُ
إِنَّه يَقع فِيهِ فَتَصِير مَوْصُوفَة فِي ذَلِك الزَّمَان
بِأَنَّهَا طَالِق فَعِنْدَ الْإِطْلَاق كَمَا طلع الْفجْر
تطلق فتتصف بِالطَّلَاق فِي جَمِيع الْغَد بِمَنْزِلَة مَا لَو
قَالَ أَنْت طَالِق غَدا وَإِن قَالَ نَوَيْت آخر النَّهَار لم
يصدق عِنْدهمَا فِي الْقَضَاء كَمَا فِي قَوْله غَدا لِأَنَّهُ
نوى التَّخْصِيص فِيمَا يكون مُوجبه الْعُمُوم
وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يدين فِي الْقَضَاء لِأَن
ذكر حرف الظّرْف دَلِيل على أَن المُرَاد جُزْء من الْغَد
فالوقوع إِنَّمَا يكون فِي جُزْء وَلَكِن ذَلِك الْجُزْء
مُبْهَم فِي كَلَامه فَعِنْدَ عدم النِّيَّة قُلْنَا كَمَا وجد
جُزْء من الْغَد تطلق فَإِذا نوى آخر النَّهَار كَانَ هَذَا
بَيَانا للمبهم وَهُوَ مُصدق فِي بَيَان مُبْهَم كَلَامه فِي
الْقَضَاء بِخِلَاف قَوْله غَدا فاللفظ هُنَاكَ
(1/223)
متناول لجَمِيع الْغَد فنية آخر النَّهَار
تكون تَخْصِيصًا وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن صمت الشَّهْر
فَهُوَ على صَوْم جَمِيع الشَّهْر وَلَو قَالَ إِن صمت فِي
الشَّهْر فَهُوَ على صَوْم سَاعَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى
الَّذِي قُلْنَا
وَأما ظرف الْمَكَان فبيانه فِي قَوْله أَنْت طَالِق فِي
الدَّار أَو فِي الْكُوفَة فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا
حَيْثُمَا تكون لِأَن الْمَكَان لَا يصلح ظرفا (للطَّلَاق)
فَإِن الطَّلَاق إِذا وَقع فِي مَكَان فَهُوَ وَاقع فِي
الْأَمْكِنَة كلهَا وَهِي إِذا اتصفت بِالطَّلَاق فِي مَكَان
تتصف بِهِ فِي الْأَمْكِنَة كلهَا إِلَّا أَن يَقُول عنيت إِذا
دخلت فَحِينَئِذٍ لَا يَقع الطَّلَاق مَا لم تدخل بِاعْتِبَار
أَنه كنى بِالْمَكَانِ عَن الْفِعْل الْمَوْجُود فِيهِ أَو
أضمر الْفِعْل فِي كَلَامه فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق فِي
دخولك الدَّار وَهَذَا هُوَ ظرف الْفِعْل على معنى أَن
الْفِعْل لَا يصلح ظرفا للطَّلَاق حَقِيقَة وَلَكِن بَين
الظّرْف وَالشّرط مُنَاسبَة من حَيْثُ الْمُقَارنَة أَو من
حَيْثُ تعلق الْجَزَاء بِالشّرطِ بِمَنْزِلَة قوام المظروف
بالظرف فَتَصِير الْكَلِمَة بِمَعْنى الشَّرْط مجَازًا
ثمَّ إِن كَانَ الْفِعْل سَابِقًا أَو مَوْجُودا فِي الْحَال
يكون تنجيزا وَإِن كَانَ منتظرا يتَعَلَّق الْوُقُوع
بِوُجُودِهِ كَمَا هُوَ حكم الشَّرْط
وعَلى هَذَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق فِي حيضتك وَهِي حَائِض
تطلق فِي الْحَال وَإِن قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَجِيء حيضتك
فَإِنَّهَا لَا تطلق حَتَّى تحيض
وَقَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَجِيء
يَوْم لم تطلق حَتَّى يطلع الْفجْر من الْغَد وَلَو قَالَ فِي
مُضِيّ يَوْم فَإِن قَالَ ذَلِك بِاللَّيْلِ فَهِيَ طَالِق
كَمَا غربت الشَّمْس من الْغَد وَإِن قَالَ ذَلِك بِالنَّهَارِ
لم تطلق حَتَّى يَجِيء مثل هَذِه السَّاعَة من الْغَد
وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ رَأس
الْحصن آمنوني فِي عشرَة فَهُوَ أحد الْعشْرَة لِأَن معنى
الظّرْف فِي الْعدَد بِهَذَا يتَحَقَّق وَالْخيَار فِي
التِّسْعَة إِلَى الَّذِي آمنهم لَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا
شَرط لنَفسِهِ شَيْئا فِي أَمَان من ضمهم إِلَى نَفسه ليكونوا
عشرَة
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم فِي عشرَة تلْزمهُ
عشرَة لِأَن الْعدَد لَا يصلح ظرفا لمثله بِلَا شُبْهَة إِلَّا
أَن يَعْنِي حرف مَعَ فَإِن فِي يَأْتِي بِمَعْنى مَعَ قَالَ
تَعَالَى {فادخلي فِي عبَادي} أَي مَعَ عبَادي فَإِذا قَالَ
ذَلِك فَحِينَئِذٍ
وكما أَن فِي يكون بِمَعْنى مَعَ يكون بِمَعْنى من قَالَ
تَعَالَى {وارزقوهم فِيهَا} يلْزمه عشرُون وَلَكِن
(1/224)
بِدُونِ هَذِه النِّيَّة لَا يلْزمه لِأَن
المَال بِالشَّكِّ لَا يجب أَي مِنْهَا
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة فِي
وَاحِدَة فَهِيَ طَالِق وَاحِدَة إِلَّا أَن يَقُول نَوَيْت
مَعَ فَحِينَئِذٍ تطلق اثْنَتَيْنِ دخل بهَا أم لم يدْخل بهَا
وَإِن قَالَ عنيت الْوَاو فَذَلِك صَحِيح أَيْضا على مَا هُوَ
مَذْهَب أهل النَّحْو أَن أَكثر حُرُوف الصلات يُقَام بَعْضهَا
مقَام بعض فَعِنْدَ هَذِه النِّيَّة تطلق اثْنَتَيْنِ إِن
كَانَ دخل بهَا وَوَاحِدَة إِن لم يدْخل بهَا بِمَنْزِلَة
قَوْله وَاحِدَة وَوَاحِدَة
وَقَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ أَنْت طَالِق فِي
مَشِيئَة الله أَو فِي إِرَادَته لم تطلق بِمَنْزِلَة قَوْله
إِن شَاءَ الله كَمَا جعل قَوْله فِي دخولك الدَّار
بِمَنْزِلَة قَوْله إِن دخلت الدَّار إِلَّا فِي قَوْله فِي
علم الله فَإِنَّهَا تطلق لِأَن الْعلم يسْتَعْمل عَادَة
بِمَعْنى الْمَعْلُوم يُقَال علم أبي حنيفَة وَيَقُول الرجل
اللَّهُمَّ اغْفِر لنا علمك فِينَا أَي معلومك وعَلى هَذَا
الْمَعْنى يَسْتَحِيل جعله بِمَعْنى الشَّرْط
فَإِن قيل لَو قَالَ فِي قدرَة الله لم تطلق وَقد تسْتَعْمل
الْقُدْرَة بِمَعْنى الْمَقْدُور فقد يَقُول من يستعظم شَيْئا
هَذِه قدرَة الله تَعَالَى
قُلْنَا معنى هَذَا الِاسْتِعْمَال أَنه أثر قدرَة الله
تَعَالَى إِلَّا أَنه قد يُقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَام
الْمُضَاف وَمثله لَا يتَحَقَّق فِي الْعلم
وَمن هَذَا الْجِنْس أَسمَاء الظروف وَهِي مَعَ وَقبل وَبعد
وَعند
فَأَما مَعَ فَهِيَ للمقارنة حَقِيقَة وَإِن كَانَ قد
تسْتَعْمل بِمَعْنى بعد قَالَ تَعَالَى {إِن مَعَ الْعسر يسرا}
وعَلى اعْتِبَار حَقِيقَة الْوَضع قُلْنَا إِذا قَالَ
لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة مَعَ وَاحِدَة تطلق
اثْنَتَيْنِ سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا وَكَذَلِكَ لَو
قَالَ مَعهَا وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا تقترنان فِي الْوُقُوع فِي
الْوَجْهَيْنِ
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ مَعَ كل دِرْهَم من هَذِه
الدَّرَاهِم الْعشْرَة دِرْهَم فَعَلَيهِ عشرُون درهما
وَأما قبل فَهِيَ للتقديم قَالَ تَعَالَى {من قبل أَن نطمس
وُجُوهًا} وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته وَقت الضحوة أَنْت
طَالِق قبل غرُوب الشَّمْس تطلق للْحَال بِخِلَاف
(1/225)
الْملك الَّذِي كَانَ للمورث فَإِن الوارثة
خلَافَة وَقد بَينا أَن عِنْده اسْتِصْحَاب الْحَال فِيمَا
يرجع إِلَى الْإِبْقَاء حجَّة على الْغَيْر وَلَكنَّا نقُول
هَذَا الْبَقَاء حق الْمُورث فَأَما فِي حق الْوَارِث فصفة
الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ ابْتِدَاء واستصحاب الْحَال لَا يكون
حجَّة فِيهِ بِوَجْه وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد
رحمهمَا الله إِذا ادّعى عينا فِي يَد إِنْسَان أَنه لَهُ
مِيرَاث من أَبِيه وَأقَام الشَّاهِدين فشهدا أَن هَذَا كَانَ
لِأَبِيهِ لم تقبل هَذِه الشَّهَادَة وَفِي قَول أبي يُوسُف
الآخر تقبل لِأَن الوارثة خلَافَة فَإِنَّمَا يبْقى للْوَارِث
الْملك الَّذِي كَانَ للمورث وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيصير
مغرورا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورث وَمَا ثَبت فَهُوَ بَاقٍ
لاستغناء الْبَقَاء عَن دَلِيل وهما يَقُولَانِ فِي حق
الْوَارِث هَذَا فِي معنى ابْتِدَاء التَّمَلُّك لِأَن صفة
الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ فِي هَذَا المَال بعد أَن لم يكن
مَالِكًا وَإِنَّمَا يكون الْبَقَاء فِي حق الْمُورث أَن لَو
حضر بِنَفسِهِ يدعى أَن الْعين ملكه فَلَا جرم إِذا شهد
الشَّاهِدَانِ أَنه كَانَ لَهُ كَانَت شَهَادَة مَقْبُولَة
كَمَا إِذا شَهدا أَنه لَهُ فَأَما إِذا كَانَ الْمُدعى هُوَ
الْوَارِث وَصفَة الْمَالِكِيَّة للْوَارِث تثبت ابْتِدَاء بعد
موت الْمُورث فَهَذِهِ الشَّهَادَة لَا تكون حجَّة للْقَضَاء
بِالْملكِ لَهُ لِأَن طَرِيق الْقَضَاء بهَا اسْتِصْحَاب
الْحَال وَذَلِكَ غير صَحِيح
فصل
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الإستدلال بتعارض الْأَشْبَاه وَذَلِكَ
نَحْو احتجاج زفر رَحمَه الله فِي أَنه لَا يجب غسل الْمرَافِق
فِي الْوضُوء لِأَن من الغايات مَا يدْخل وَمِنْهَا مَا لَا
يدْخل فَمَعَ الشَّك لَا تثبت فَرضِيَّة الْغسْل فِيمَا هُوَ
غَايَة بِالنَّصِّ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة احتجاج بِلَا
دَلِيل لإِثْبَات حكم فَإِن الشَّك الَّذِي يَدعِيهِ أَمر
حَادث فَلَا يثبت حُدُوثه إِلَّا بِدَلِيل فَإِن قَالَ دَلِيله
تعَارض الْأَشْبَاه قُلْنَا وتعارض الْأَشْبَاه أَيْضا حَادث
فَلَا يثبت إِلَّا بِالدَّلِيلِ فَإِن قَالَ الدَّلِيل
عَلَيْهِ مَا أعده من الغايات مِمَّا يدْخل بِالْإِجْمَاع
وَمَا لَا يدْخل بِالْإِجْمَاع قُلْنَا وَهل تعلم أَن هَذَا
الْمُتَنَازع فِيهِ من أحد النَّوْعَيْنِ بِدَلِيل فَإِن قَالَ
أعلم ذَلِك قُلْنَا فَإِذن عَلَيْك أَن لَا تشك فِيهِ بل
(1/226)
تلْحقهُ بِمَا هُوَ من نَوعه بدليله وَإِن
قَالَ لَا أعلم ذَلِك قُلْنَا قد اعْترفت بِالْجَهْلِ فَإِن
كَانَ هَذَا مِمَّا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالطَّلَبِ
فَإِنَّمَا جهلته عَن تَقْصِير مِنْك فِي طلبه وَذَلِكَ لَا
يكون حجَّة أصلا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف
عَلَيْهِ بعد الطّلب كنت مَعْذُورًا فِي الْوُقُوف فِيهِ
وَلَكِن هَذَا الْعذر لَا يصير حجَّة لَك على غَيْرك مِمَّن
يزْعم أَنه قد ظهر عِنْده دَلِيل إِلْحَاقه بِأحد
النَّوْعَيْنِ فَعرفنَا أَن حَاصِل كَلَامه احتجاج بِلَا
دَلِيل
فصل
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاحْتِجَاج بالاطراد على صِحَة
الْعلَّة إِمَّا وجودا أَو وجودا وعدما فَإِنَّهُ احتجاج بِلَا
دَلِيل فِي الْحَقِيقَة وَمن حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ احتجاج
بِكَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وَقد بَينا أَن كَثْرَة أَدَاء
الشَّهَادَة وتكرارها من الشَّاهِد لَا يكون دَلِيل صِحَة
شَهَادَته ثمَّ الاطراد عبارَة عَن سَلامَة الْوَصْف عَن
النقوض والعوارض والناظر وَإِن بَالغ فِي الإجتهاد بِالْعرضِ
على الْأُصُول الْمَعْلُومَة عِنْده فالخصم لَا يعجز من أَن
يَقُول عِنْدِي أصل آخر هُوَ مُنَاقض لهَذَا الْوَصْف أَو
معَارض فجهلك بِهِ لَا يكون حجَّة لَك على فَتبين من هَذَا
الْوَجْه أَنه احتجاج بِلَا دَلِيل وَلكنه فَوق من تقدم فِي
الإحتجاج بِهِ من حَيْثُ الظَّاهِر لِأَن من حَيْثُ الظَّاهِر
الْوَصْف صَالح وَيحْتَمل أَن يكون حجَّة للْحكم إِذا ظهر
أَثَره عِنْد التَّأَمُّل وَلَكِن لكَونه فِي الْحَقِيقَة
اسْتِدْلَالا على صِحَّته بِعَدَمِ النقوض والعوارض لم يصلح
أَن يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن النُّصُوص بعد ثُبُوتهَا يجب الْعَمَل
بهَا وَاحْتِمَال وُرُود النَّاسِخ لَا يُمكن شُبْهَة فِي
الإحتجاج بهَا قبل أَن يظْهر النَّاسِخ فَكَذَلِك مَا تقدم
قُلْنَا أما بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي كل نَص كَانَ حكمه ثَابتا عِنْد
وَفَاته فَأَما فِي حَال حَيَاته فَهَكَذَا نقُول إِن
الِاحْتِجَاج لَا يكون صَحِيحا لِأَن احْتِمَال بَقَاء الحكم
وَاحْتِمَال قيام دَلِيل النّسخ فِيهِ كَانَ بِصفة وَاحِدَة
وَقد قَررنَا هَذَا فِي بَاب النّسخ
(1/227)
مَبِيعًا وَالْمَبِيع الدّين لَا يكون
إِلَّا سلما وعَلى هَذَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ إِن أَخْبَرتنِي
بقدوم فلَان فَأَنت حر فَهَذَا على الْخَبَر الْحق الَّذِي
يكون بعد الْقدوم لِأَن مفعول الْخَبَر مَحْذُوف هُنَا وَقد
دلّ عَلَيْهِ حرف الْبَاء الَّذِي هُوَ للإلصاق كَقَوْل
الْقَائِل بِسم الله أَي بدأت بِسم الله فَيكون معنى كَلَامه
إِن أَخْبَرتنِي خَبرا مُلْصقًا بقدوم فلَان والقدوم اسْم لفعل
مَوْجُود فَلَا يتَنَاوَل الْخَبَر بِالْبَاطِلِ
وَلَو قَالَ إِن أَخْبَرتنِي أَن فلَانا قد قدم فَهَذَا على
الْخَبَر حَقًا كَانَ أَو بَاطِلا لِأَنَّهُ لما لم يذكر حرف
الْبَاء فالمذكور صَالح لِأَن يكون مفعول الْخَبَر وَأَن وَمَا
بعده مصدر وَالْخَبَر إِنَّمَا يكون بِكَلَام لَا يفعل
فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن أَخْبَرتنِي بِخَبَر قدوم فلَان
وَالْخَبَر اسْم لكَلَام يدل على الْقدوم وَلَا يُوجد عِنْده
الْقدوم لَا محَالة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ أَنْت طَالِق
بِمَشِيئَة الله أَو بإرادته أَو بِحكمِهِ لم تطلق وَكَذَلِكَ
سَائِر أخواتها لِأَن الْبَاء للإلصاق فَيكون دَلِيلا على معنى
الشَّرْط مفضيا إِلَيْهِ
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن
خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا بإذني تحْتَاج إِلَى الْإِذْن
فِي كل مرّة لِأَن الْبَاء للإلصاق فَإِنَّمَا جعل
الْمُسْتَثْنى خُرُوجًا مُلْصقًا بِالْإِذْنِ وَذَلِكَ لَا
يكون إِلَّا بتجديد الْإِذْن فِي كل مرّة قَالَ تَعَالَى
{وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} أَي مأمورين بذلك
وَلَو قَالَ إِن خرجت إِلَّا أَن آذن لَك فَهَذَا على الْإِذْن
مرّة (وَاحِدَة) لِأَنَّهُ يتَعَذَّر الْحمل هَهُنَا على
الِاسْتِثْنَاء لمُخَالفَة الْجِنْس فِي صِيغَة الْكَلَام
فَيحمل على معنى الْغَايَة مجَازًا لما بَينهمَا من
الْمُنَاسبَة وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يحاط
بكم}
{إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم} أَي حَتَّى
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم}
إِن الْبَاء للتَّبْعِيض فَإِنَّمَا يلْزمه مسح بعض الرَّأْس
وَذَلِكَ أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم
وَقَالَ مَالك الْبَاء صلَة للتَّأْكِيد بِمَنْزِلَة قَوْله
تَعَالَى {تنْبت بالدهن} كَأَنَّهُ قَالَ وامسحوا رؤوسكم
فَيلْزمهُ مسح جَمِيع الرَّأْس
وَقُلْنَا أما التَّبْعِيض فَلَا وَجه لَهُ لِأَن الْمَوْضُوع
للتَّبْعِيض حرف من والتكرار والاشتراك لَا يثبت بِأَصْل
الْوَضع وَلَا وَجه لحمله على الصِّلَة لما فِيهِ من معنى
الإلغاء أَو الْحمل على غير فَائِدَة مَقْصُودَة
(1/228)
وَهِي التوكيد
وَلَكنَّا نقُول الْبَاء للإلصاق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
فَإِذا قرنت بِآلَة الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى
مَحل الْمسْح فَيتَنَاوَل جَمِيعه كَمَا يَقُول الرجل مسحت
الْحَائِط بيَدي ومسحت رَأس الْيَتِيم بيَدي فَيتَنَاوَل كُله
وَإِذا قرنت بِمحل الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى
الْآلَة فَلَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَاب وَإِنَّمَا تَقْتَضِي
إلصاق الْآلَة بِالْمحل وَذَلِكَ لَا يستوعب الْكل عَادَة ثمَّ
أَكثر الْآلَة ينزل منزلَة الْكَمَال فيتأدى الْمسْح بإلصاق
ثَلَاثَة أَصَابِع بِمحل الْمسْح وَمعنى التَّبْعِيض إِنَّمَا
يثبت بِهَذَا الطَّرِيق لَا بِحرف الْبَاء
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم الْمسْح ثَبت
بقوله تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ثمَّ
الِاسْتِيعَاب فِيهِ شَرط قُلْنَا أما على رِوَايَة الْحسن عَن
أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهِ
الِاسْتِيعَاب لهَذَا الْمَعْنى وَأما على ظَاهر الرِّوَايَة
فَإِنَّمَا عرفنَا الِاسْتِيعَاب هُنَاكَ إِمَّا بِإِشَارَة
الْكتاب وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَقَامَ التَّيَمُّم فِي
هذَيْن العضوين مقَام الْغسْل عِنْد تعذر الْغسْل والاستيعاب
فِي الْغسْل فرض بِالنَّصِّ فَكَذَلِك فِيمَا قَامَ مقَامه أَو
عرفنَا ذَلِك بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
لعمَّار رَضِي الله عَنهُ يَكْفِيك ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه
وضربة للذراعين
وَمن هَذَا الْفَصْل حُرُوف الْقسم وَالْأَصْل فِيهَا
بِاعْتِبَار الْوَضع الْبَاء حَتَّى يَسْتَقِيم اسْتِعْمَالهَا
مَعَ إِظْهَار الْفِعْل وَمَعَ إضماره فَإِن الْبَاء للإلصاق
وَهِي تدل على مَحْذُوف كَمَا بَينا وَقَول الرجل بِاللَّه
بِمَعْنى أقسم (أَو أَحْلف) بِاللَّه كَمَا قَالَ تَعَالَى
{يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا} وَكَذَلِكَ يَسْتَقِيم
وَصلهَا بِسَائِر الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَبِغير الله إِذا
حلف بِهِ مَعَ التَّصْرِيح بِالِاسْمِ أَو الْكِنَايَة عَنهُ
بِأَن يَقُول بِأبي أَو بك لَأَفْعَلَنَّ أَو بِهِ
لَأَفْعَلَنَّ فَيصح اسْتِعْمَاله فِي جَمِيع هَذِه الْوُجُوه
لمقصود الْقسم بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
ثمَّ قد تستعار الْوَاو مَكَان الْبَاء فِي صلَة الْقسم لما
بَينهمَا من الْمُنَاسبَة صُورَة وَمعنى
أما الصُّورَة فَلِأَن خُرُوج كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْمخْرج
الصَّحِيح بِضَم الشفتين وَأما الْمَعْنى فَلِأَن فِي الْعَطف
إلصاق الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ وحرف الْبَاء للإلصاق
إِلَّا أَن الْوَاو تسْتَعْمل فِي الْمُضمر (دون الْمظهر لَا
يُقَال أَحْلف وَالله لِأَنَّهُ يشبه قسمَيْنِ
(1/229)
لِأَن قَوْله وَالله وَحده قسم ظَاهرا
وَكَذَا أَحْلف أَو أقسم بِخِلَاف قَوْله أَحْلف بِاللَّه
فالباء لصلة الْفِعْل دون الْمُضمر لِأَن هَذَا الإستعمال
لتوسعة صلَة الْقسم لَا لِمَعْنى الإلصاق فَلَو اسْتعْمل
فيهمَا كَانَ مستعارا عَاما وَلَا حَاجَة إِلَى ذَلِك
وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى الإستعارة لصلة الْقسم حَتَّى يشبه
قسمَيْنِ وَلِهَذَا لَا يسْتَعْمل مَعَ الْكِنَايَة نَحْو
الْكَاف وَالْهَاء وَمَعَ الأسم الصَّرِيح يسْتَعْمل فِي
جَمِيع الْأَسْمَاء وَالصِّفَات نَحْو قَوْله والرحمن والرب
ثمَّ التَّاء تسْتَعْمل أَيْضا فِي صلَة الْقسم قَالَ تَعَالَى
{وتالله لأكيدن أصنامكم} وَهَذَا لما بَين حرف التَّاء
وَالْوَاو من الْمُنَاسبَة فَإِنَّهُمَا من حُرُوف الزَّوَائِد
فِي كَلَام الْعَرَب يُقَام أَحدهمَا مقَام الآخر فِي التراث
مَعَ الوراث والتورية والوورية وَمَا أشبه ذَلِك وَلما كَانَ
الْمَقْصُود بِهَذَا الإستعمال توسعة صلَة الْقسم لشدَّة
الْحَاجة إِلَى ذَلِك خَاصَّة كَانَ التَّاء أخص من الْوَاو
لمَكَان أَن الْوَاو مستعار لَيْسَ بِأَصْل فِي صلَة الْقسم
وَلِهَذَا يخْتَص باسم الله حَتَّى لَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول
تالرحمن كَمَا يَسْتَقِيم والرحمن وَمَعَ حذف هَذِه الصلات
يَسْتَقِيم الْقسم أَيْضا لاعْتِبَار معنى التَّخْفِيف
والتوسعه حَتَّى إِذا قَالَ الله يكون يَمِينا وَلَكِن
الْمَذْهَب عِنْد نحويى الْبَصْرَة الذّكر بِالنّصب وَعند
نحويى الْكُوفَة بالخفض وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الْفُقَهَاء
وَمِمَّا هُوَ مَوْضُوع بِمَعْنى الْقسم قَوْله وأيم الله
إِلَّا أَن الْمَذْهَب عِنْد نحويى الْكُوفَة أَن مَعْنَاهُ
أَيمن وَهُوَ جمع يَمِين وَمِنْه قَول الْقَائِل: ... فَقَالَت
يَمِين الله مَالك حِيلَة ... وَمَا إِن أرى عَنْك الغواية
تنجلى ...
وَعند نحويى الْبَصْرَة هَذِه كلمة مَوْضُوعَة فِي صلات الْقسم
لَا اشتقاق لَهَا نَحْو صه ومه والهمزة فِيهَا للوصل أَلا ترى
أَنَّهَا تسْقط إِذا نقدمها حرف بِمَنْزِلَة سَائِر حُرُوف
الْوَصْل وَلَو كَانَت لبِنَاء صِيغَة الْجمع لم تسْقط إِذا
تقدمها حرف وَمِمَّا يُؤدى إِلَى معنى الْقسم قَوْله لعمر الله
قَالَ تَعَالَى {لعمرك} وَاللَّام
(1/230)
للإبتداء وَعمر بِمَعْنى الْبَقَاء فَيكون
الْمَعْنى لبَقَاء الله والبقاء من صِفَات الله تَعَالَى
فَيكون هُوَ بِهَذَا اللَّفْظ مُصَرحًا بِمَا هُوَ مَقْصُود
الْقسم فَيجْعَل قسما بِمَنْزِلَة قَوْله وَالله الباقى أَلا
ترى أَنه لَو قَالَ لغيره جعلت لَك هذت العَبْد ملكا بِأَلف
دِرْهَم كَانَ بيما لتصريحه بِمَا هُوَ مَقْصُود البيع
وَيجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بِلَفْظ البيع
وَمن ذَلِك حُرُوف الشَّرْط وهى إِن وَإِذا وَإِذا مَا وَمَتى
وَمَتى مَا وَكلما وَمن وَمَا وَبِاعْتِبَار أصل الْوَضع حرف
الشَّرْط على الخلوص إِن فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا معنى
الْوَقْت وَإِنَّمَا يتعقبها الْفِعْل دون الأسم وهى عَلامَة
الشَّرْط فَالشَّرْط فعل منتظر فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ على خطر
الْوُجُود يقْصد نَفْيه أَو إثْبَاته أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم
أَن يَقُول إِن زرتنى أكرمتك وَإِن أعطيتنى كافيتك وَلَا
يَسْتَقِيم أَن يَقُول إِن جَاءَ غَدا أكرمتك لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِي مجىء الْغَد معنى الْخطر وَلَا يتعقب الْكَلِمَة اسْم
لِأَن معنى الْخطر فِي الْأَسْمَاء لَا يتَحَقَّق
فَإِن قيل لَا كَذَلِك فقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن امْرُؤ
هلك لَيْسَ لَهُ ولد} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن امْرَأَة خَافت
من بَعْلهَا نُشُوزًا} قُلْنَا ذَلِك على معنى التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير أى إِن هلك امْرُؤ وَإِن خَافت امْرَأَة فَإِن
أهل اللُّغَة مجمعون على أَن الذى يتعقب حرف الشَّرْط الْفِعْل
دون الأسم وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن لم
أطلقك فَأَنت طَالِق إِنَّهَا لَا تطلق حَتَّى يَمُوت الزَّوْج
لِأَنَّهُ جعل الشَّرْط انعدام فعل التَّطْلِيق مِنْهُ
وَذَلِكَ لَا يتَيَقَّن بِهِ مَا دَامَ حَيا وَإِن مَاتَت
الْمَرْأَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تطلق أَيْضا قبل أَن
تَمُوت بِلَا فصل لِأَن فعل التَّطْلِيق لَا يتَحَقَّق بِدُونِ
الْمحل وبفوات الْمحل يتَحَقَّق الشَّرْط وَفِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى لَا تطلق لِأَنَّهَا مَا لم تمت بِفعل التَّطْلِيق
يتَحَقَّق من الزَّوْج وَبعد مَوتهَا لَا يَقع الطَّلَاق
عَلَيْهَا بِخِلَاف الزَّوْج فَإِنَّهُ كَمَا أشرف على
الْهَلَاك فقد وَقع الْيَأْس عَن فعل التَّطْلِيق مِنْهُ ثمَّ
حكم الشَّرْط امْتنَاع ثُبُوت الحكم بِالْعِلَّةِ أصلا مالم
يبطل التَّعْلِيق بِوُجُود الشَّرْط وأمثله هَذَا فِي مسَائِل
الْفِقْه كَثِيرَة
وَأما إِذا فعلى قَول نحويى الْكُوفَة تسْتَعْمل هى للْوَقْت
تَارَة وللشرط تَارَة
(1/231)
فيجازي بهَا مرّة إِذا أُرِيد بهَا
الشَّرْط وَلَا يجازي بهَا مرّة إِذا أُرِيد بهَا الْوَقْت
وَإِذا اسْتعْملت للشّرط لم يكن فِيهَا معنى الْوَقْت وَهَذَا
قَول أبي حنيفَة وعَلى قَول نَحْويي الْبَصْرَة هِيَ للْوَقْت
بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَإِن اسْتعْملت للشّرط فَهِيَ لَا
تَخْلُو عَن معنى الْوَقْت بِمَنْزِلَة مَتى فَإِنَّهَا
للْوَقْت وَإِن كَانَ قد يجازي بهَا فَإِن المجازاة بهَا
لَازِمَة فِي غير مَوضِع الِاسْتِفْهَام والمجازاة بإذا
جَائِزَة غير لَازِمَة وَهَذَا قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد
رحمهمَا الله
وَبَيَان الْمَسْأَلَة مَا إِذا قَالَ إِذا لم أطلقك فَأَنت
طَالِق أَو إِذا مَا لم أطلقك فَإِن عَنى بهَا الْوَقْت تطلق
فِي الْحَال وَإِن عَنى الشَّرْط لم تطلق حَتَّى تَمُوت وَإِن
لم تكن لَهُ نِيَّة فعلى قَول أبي حنيفَة لَا تطلق حَتَّى
يَمُوت وعَلى قَوْلهمَا تطلق فِي الْحَال قَالَا إِن إِذا
تسْتَعْمل للْوَقْت غَالِبا وتقرن بِمَا لَيْسَ فِيهِ معنى
الْخطر فَإِنَّهُ يُقَال الرطب إِذا اشْتَدَّ الْحر وَالْبرد
إِذا جَاءَ الشتَاء وَلَا يَسْتَقِيم مَكَانهَا إِن قَالَ
تَعَالَى {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت}
وَذَلِكَ كَائِن لَا محَالة فَعرفنَا أَنه لَا يَنْفَكّ عَن
معنى الْوَقْت اسْتِعْمَالا
وتستعمل فِي جَوَاب الشَّرْط قَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبهم
سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون} وَمَا يسْتَعْمل
فِي المجازاة لَا يكون مَحْض الشَّرْط فَعرفنَا أَنَّهَا
بِمَعْنى مَتى فَإِنَّهَا لَا تنفك عَن معنى الْوَقْت وَإِن
كَانَ المجازاة بهَا ألزم من المجازاة بإذا
وَإِذا ثَبت هَذَا قُلْنَا قد أضَاف الطَّلَاق إِلَى وَقت فِي
الْمُسْتَقْبل هُوَ خَال عَن إِيقَاع الطَّلَاق فِيهِ
عَلَيْهَا وكما سكت فقد وجد ذَلِك الْوَقْت فَتطلق أَلا ترى
أَنه لَو قَالَ لامْرَأَته إِذا شِئْت فَأَنت طَالِق لم تتوقت
الْمَشِيئَة بِالْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَة قَوْله مَتى شِئْت
بِخِلَاف قَوْله إِن شِئْت وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله اعْتمد
مَا قَالَ أهل الْكُوفَة إِن إِذا قد تسْتَعْمل بمحض الشَّرْط
وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ الْفراء بقول الْقَائِل استغن مَا
أَغْنَاك رَبك بالغنى وَإِذا تصبك خصَاصَة فَتحمل مَعْنَاهُ
إِن تصبك خصَاصَة فَإِن حمل على معنى الشَّرْط لم يَقع
الطَّلَاق حَتَّى يَمُوت
(1/232)
وَإِن حمل على معنى الْوَقْت وَقع
الطَّلَاق فِي الْحَال وَالطَّلَاق بِالشَّكِّ لَا يَقع
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله إِذا شِئْت إِنَّه لَا يتوقت
بِالْمَجْلِسِ لِأَن الْمَشِيئَة صَارَت إِلَيْهَا بِيَقِين
فَلَو جعلنَا الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة إِن خرج الْأَمر من
يَدهَا بِالْقيامِ وَلَو جعلناها بِمَنْزِلَة مَتى لم يخرج
الْأَمر من يَدهَا بِالشَّكِّ
وَأما مَتى فَهِيَ للْوَقْت بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَكِن
لما كَانَ الْفِعْل يَليهَا دون الِاسْم جعلناها فِي معنى
الشَّرْط وَلِهَذَا صَحَّ المجازاة بهَا غير أَنَّهَا لَا تنفك
عَن معنى الْوَقْت بِحَال فَإِذا قَالَ لامْرَأَته مَتى لم
أطلقك فَأَنت طَالِق أَو مَتى مَا لم أطلقك فَأَنت طَالِق طلقت
كَمَا سكت لوُجُود وَقت بعد كَلَامه لم يطلقهَا فِيهِ
وَلِهَذَا لم نذْكر فِي حُرُوف الشَّرْط كلمة كل لِأَن الِاسْم
يَليهَا دون الْفِعْل فَإِنَّهَا تجمع الْأَسْمَاء ويستقيم أَن
يُقَال كل رجل وَلَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال كل دخل وفيهَا معنى
الشَّرْط بِاعْتِبَار أَن الِاسْم الَّذِي يتعقبها يُوصف بِفعل
لَا محَالة ليتم كل الْكَلَام وَذَلِكَ الْفِعْل يصير فِي معنى
الشَّرْط حَتَّى لَا ينزل الْجَزَاء إِلَّا بِوُجُودِهِ
بَيَانه فِيمَا إِذا قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا وكل عبد
أشتريه وَذكرنَا فِي حُرُوف الشَّرْط كلمة كلما لِأَن الْفِعْل
يتعقبها دون الِاسْم
يُقَال كلما دخل وَكلما خرج وَلَا يُقَال كلما زيد
وَقد قدمنَا الْكَلَام فِي بَيَان كلما وَمن وَمَا
وَمِمَّا هُوَ فِي معنى الشَّرْط لَو على مَا يرْوى عَن أبي
يُوسُف أَنه إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق لَو دخلت
الدَّار لم تطلق مَا لم تدخل كَقَوْلِه إِن دخلت لِأَن لَو
تفِيد معنى الترقب فِيمَا يقرن بِهِ مِمَّا يكون فِي
الْمُسْتَقْبل فَكَانَ بِمَعْنى الشَّرْط من هَذَا الْوَجْه
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق لَو حسن خلقك عَسى أَن أراجعك تطلق
فِي الْحَال لِأَن لَو هُنَا إِنَّمَا تقرن بالمراجعة الَّتِي
تترقب فِي الْمُسْتَقْبل فتخلو كلمة الْإِيقَاع عَن معنى
الشَّرْط
وَأما لَوْلَا فَهِيَ بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهَا
تسْتَعْمل لنفي شَيْء بِوُجُود غَيره قَالَ تَعَالَى
{وَلَوْلَا رهطك لرجمناك} وعَلى هَذَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه
الله فِي قَوْله أَنْت طَالِق لَوْلَا دخولك الدَّار إِنَّهَا
لَا تطلق وَتجْعَل هَذِه الْكَلِمَة بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء
ذكره الْكَرْخِي رَحمَه الله فِي الْمُخْتَصر
(1/233)
وبالأخرى إِلَى فروع أخر فَلَا يكون انعدام
الْعلَّة مَعَ بَقَاء الحكم فِي مَوضِع ثَابتا بِالْعِلَّةِ
الْأُخْرَى دَلِيل فَسَاد الْعلَّة
فَأَما الْمُفَارقَة فَمن النَّاس من ظن أَنَّهَا مفاقهة
ولعمري الْمُفَارقَة مفاقهة وَلَكِن فِي غير هَذَا الْموضع
فَأَما على وَجه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل المؤثرة تكون
مجادلة لَا فَائِدَة فِيهَا فِي مَوضِع النزاع
وَبَيَان هَذَا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن شَرط صِحَة
الْقيَاس لتعدية الحكم إِلَى الْفُرُوع تَعْلِيل الأَصْل
بِبَعْض أَوْصَافه لَا بِجَمِيعِ أَوْصَافه وَقد بَينا أَنه
مَتى كَانَ التَّعْلِيل بِجَمِيعِ أَوْصَاف الأَصْل لَا يكون
مقايسة فبيان الْمُفَارقَة بَين الأَصْل وَالْفرع بِذكر وصف
آخر لَا يُوجد ذَلِك فِي الْفَرْع وَيرجع إِلَى بَيَان صِحَة
المقايسة فَأَما أَن يكون ذَلِك اعتراضا على الْعلَّة فَلَا
ثمَّ ذكر وصف آخر فِي الأَصْل يكون ابْتِدَاء دَعْوَى والسائل
جَاهِل مسترشد فِي موقف الْمُنكر إِلَى أَن تتبين لَهُ
الْحجَّة لَا فِي مَوضِع الدَّعْوَى وَإِن اشْتغل بِإِثْبَات
دَعْوَاهُ فَذَلِك لَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم
الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم فِي
الأَصْل وَهُوَ مفروغ عَنهُ وَلَا يتَّصل مَا يُثبتهُ بالفرع
إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه يَنْعَدِم ذَلِك الْمَعْنى فِي
الْفَرْع وبالعدم لَا يثبت الِاتِّصَال وَقد بَينا أَن
الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا فَكَانَ هَذَا
مِنْهُ اشتغالا بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ
وَالثَّالِث مَا بَينا أَن الحكم فِي الأَصْل يجوز أَن يكون
معلولا بعلتين ثمَّ يتَعَدَّى الحكم إِلَى بعض الْفُرُوع
بِإِحْدَى العلتين دون الْأُخْرَى فَبَان انعدام فِي الْفَرْع
الْوَصْف الَّذِي يروم بِهِ السَّائِل الْفرق وَإِن سلم لَهُ
أَنه عِلّة لإِثْبَات الحكم فِي الأَصْل فَذَلِك لَا يمْنَع
الْمُجيب من أَن يعدي حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع بِالْوَصْفِ
الَّذِي يَدعِيهِ أَنه عِلّة للْحكم وَمَا لَا يكون قدحا فِي
كَلَام الْمُجيب فاشتغال السَّائِل بِهِ يكون اشتغالا بِمَا
لَا يُفِيد وَإِنَّمَا المفاقهة فِي الممانعة حَتَّى يبين
الْمُجيب تَأْثِير علته فالفقه حِكْمَة باطنة وَمَا يكون مؤثرا
فِي إِثْبَات الحكم شرعا فَهُوَ الْحِكْمَة الْبَاطِنَة
والمطالبة بِهِ تكون مفاقهة
(1/234)
فَأَما الْإِعْرَاض عَنهُ والاشتغال بِالْفرقِ يكون قبولا لما
فِيهِ احْتِمَال أَن لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم واشتغالا
بِإِثْبَات الحكم بِمَا لَيْسَ بِحجَّة أصلا فِي مَوضِع النزاع
وَهُوَ عدم الْعلَّة فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من المفاقهة فِي
شَيْء وَالله أعلم |