أصول السرخسي

فصل الممانعة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الممانعة أصل الِاعْتِرَاض على الْعلَّة المؤثرة من حَيْثُ إِن الْخصم الْمُجيب يَدعِي أَن حكم الْحَادِثَة مَا أجَاب بِهِ فَإِذا لم يسلم لَهُ ذَلِك يذكر وَصفا يَدعِي أَنه عِلّة مُوجبَة للْحكم فِي الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ وَأَن هَذَا الْفَرْع نَظِير ذَلِك الأَصْل فيتعدى ذَلِك الحكم بِهَذَا الْوَصْف إِلَى الْفَرْع وَفِي هَذَا الحكم دعويان فَهُوَ أظهر فِي الدَّعْوَى من الأول أَي حكم الْحَادِثَة وَإِن كَانَت المناظرة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع دَعْوَى السَّابِق عرفنَا أَنَّهَا لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع هَذِه الدَّعَاوَى أَيْضا فَيكون هُوَ مُحْتَاجا إِلَى إِثْبَات دعاويه بِالْحجَّةِ والسائل مُنكر فَلَيْسَ عَلَيْهِ سوى الْمُطَالبَة لإِقَامَة الْحجَّة بِمَنْزِلَة الْمُنكر فِي بَاب الدَّعَاوَى والخصومات وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ للْمُدَّعِي (أَلَك بَيِّنَة) وبالممانعة يتَبَيَّن الْعَوَارِض وَيظْهر الْمُدَّعِي من الْمُنكر والملزم من الدَّافِع بَعْدَمَا ثَبت شرعا أَن حجَّة أَحدهمَا غير حجَّة الآخر
ثمَّ الممانعة على أَرْبَعَة أوجه ممانعة فِي نفس الْعلَّة وممانعة فِي الْوَصْف الَّذِي يذكر الْعِلَل أَنه عِلّة وممانعة فِي شَرط صِحَة الْعلَّة أَنه مَوْجُود فِي ذَلِك الْوَصْف وممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم
أما الممانعة فِي نفس الْعلَّة فَكَمَا بَينا أَن كثيرا من الْعِلَل إِذا تَأَمَّلت فِيهَا تكون احتجاجا بِلَا دَلِيل وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة على الْخصم الْإِثْبَات // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // //

(1/235)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب بَيَان الْأَحْكَام الثَّابِتَة بِظَاهِر النَّص دون الْقيَاس والرأي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَحْكَام تَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص وَالثَّابِت بإشارته وَالثَّابِت بدلالته وَالثَّابِت بِمُقْتَضَاهُ
فَأَما الثَّابِت بالعبارة فَهُوَ مَا كَانَ السِّيَاق لأَجله وَيعلم قبل التَّأَمُّل أَن ظَاهر النَّص متناول لَهُ وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ مَا لم يكن السِّيَاق لأَجله لكنه يعلم بِالتَّأَمُّلِ فِي معنى اللَّفْظ من غير زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان وَبِه تتمّ البلاغة وَيظْهر الإعجاز
وَنَظِير ذَلِك من المحسوس أَن ينظر الْإِنْسَان إِلَى شخص هُوَ مقبل عَلَيْهِ وَيدْرك آخَرين بلحظات بَصَره يمنة ويسرة وَإِن كَانَ قَصده رُؤْيَة الْمقبل إِلَيْهِ فَقَط وَمن رمى سَهْما إِلَى صيد فَرُبمَا يُصِيب الصيدين بِزِيَادَة حذقه فِي ذَلِك للْعَمَل فإصابته الَّذِي قصد مِنْهُمَا مُوَافق للْعَادَة وإصابة الآخر فضل على مَا هُوَ الْعَادة حصل بِزِيَادَة حذقه وَمَعْلُوم أَنه يكون مباشرا فعل الِاصْطِيَاد فيهمَا فَكَذَلِك هُنَا الحكم الثَّابِت بِالْإِشَارَةِ والعبارة كل وَاحِد مِنْهُمَا يكون ثَابتا بِالنَّصِّ وَإِن كَانَ عِنْد التَّعَارُض قد يظْهر بَين الْحكمَيْنِ تفَاوت كَمَا نبينه
وَبَيَان هذَيْن النَّوْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} فالثابت بالعبارة فِي هَذِه الْآيَة نصيب من الْفَيْء لَهُم لِأَن سِيَاق الْآيَة لذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أول الْآيَة {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} الْآيَة وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَن الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة قد زَالَت أملاكهم عَمَّا خلفوا بِمَكَّة لاستيلاء الْكفَّار عَلَيْهَا فَإِن الله تَعَالَى سماهم فُقَرَاء وَالْفَقِير حَقِيقَة من لَا يملك المَال لَا من بَعدت يَده عَن المَال لِأَن الْفقر ضد الْغنى والغني من يملك حَقِيقَة المَال لَا من قربت يَده من المَال حَتَّى لَا يكون الْمكَاتب غَنِيا حَقِيقَة وَإِن كَانَ فِي يَده أَمْوَال وَابْن السَّبِيل غَنِي حَقِيقَة وَإِن بَعدت يَده عَن المَال لقِيَام ملكه وَمُطلق الْكَلَام مَحْمُول على حَقِيقَته وَهَذَا حكم ثَابت بِصِيغَة الْكَلَام من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان فَعرفنَا أَنه ثَابت بِإِشَارَة النَّص وَلَكِن لما كَانَ لَا يتَبَيَّن ذَلِك إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ لاختلافهم فِي التَّأَمُّل وَلِهَذَا قيل الْإِشَارَة من الْعبارَة بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة للْعلم قطعا بِمَنْزِلَة الثَّابِت بالعبارة وَمِنْه مَا لَا يكون مُوجبا للْعلم وَذَلِكَ عِنْد اشْتِرَاك معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الِاحْتِمَال مرَادا بالْكلَام
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} فالثابت بالعبارة والتعريض من التَّصْرِيح أَو بِمَنْزِلَة الْمُشكل من الْوَاضِح فَمِنْهُ مَا يكون

(1/236)


مُوجبا ظُهُور الْمِنَّة للوالدة على الْوَلَد لِأَن السِّيَاق يدل على ذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَن أدنى مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فقد ثَبت بِنَصّ آخر أَن مُدَّة الفصال حولان كَمَا قَالَ تَعَالَى {وفصاله فِي عَاميْنِ} فَإِنَّمَا يبْقى للْحَمْل سِتَّة أشهر وَلِهَذَا خَفِي ذَلِك على أَكثر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم واختص بفهمه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَلَمَّا ذكر لَهُم ذَلِك قبلوا مِنْهُ واستحسنوا قَوْله
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} فالثابت بالعبارة وجوب نَفَقَتهَا على الْوَالِد فَإِن السِّيَاق لذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَحْكَام مِنْهَا أَن نِسْبَة الْوَلَد إِلَى الْأَب لِأَنَّهُ أضَاف الْوَلَد إِلَيْهِ بِحرف اللَّام فَقَالَ {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ} فَيكون دَلِيلا على أَنه هُوَ الْمُخْتَص بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ دَلِيل على أَن للْأَب تَأْوِيلا فِي نفس الْوَلَد وَمَاله فَإِن الْإِضَافَة بِحرف اللَّام دَلِيل الْملك كَمَا يُضَاف العَبْد إِلَى سَيّده فَيُقَال هَذَا العَبْد لفُلَان وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَنْت وَمَالك لأَبِيك ولثبوت التَّأْوِيل لَهُ فِي نَفسه وَمَاله قُلْنَا لَا يسْتَوْجب الْعقُوبَة بِإِتْلَاف نَفسه وَلَا يحد بِوَطْء جَارِيَته وَإِن علم حرمتهَا عَلَيْهِ والمسائل على هَذَا كَثِيرَة وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على أَن الْأَب لَا يُشَارِكهُ فِي النَّفَقَة على الْوَلَد غَيره لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَص بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ وَالنَّفقَة تبتني على هَذِه الْإِضَافَة كَمَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي الْآيَة بِمَنْزِلَة نَفَقَة العَبْد فَهِيَ إِنَّمَا تجب على سَيّده لَا يُشَارِكهُ غَيره فِيهَا وَفِيه دَلِيل أَيْضا على أَن اسْتِئْجَار الْأُم على الْإِرْضَاع فِي حَال قيام النِّكَاح بَينهمَا لَا يجوز لِأَنَّهُ جعل النَّفَقَة لَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَار عمل الْإِرْضَاع بقوله تَعَالَى {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} فَلَا يسْتَوْجب بدلين بِاعْتِبَار عمل وَاحِد وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على مَا يسْتَحق بِعَمَل الْإِرْضَاع من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة لَا يشْتَرط فِيهِ إِعْلَام الْجِنْس وَالْقدر وَإِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ الْمَعْرُوف فَيكون دَلِيلا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فِي جَوَاز اسْتِئْجَار الظِّئْر بطعامها وكسوتها // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // //

(1/237)


فصل الْقلب وَالْعَكْس
قَالَ رَضِي الله عَنهُ تَفْسِير الْقلب لُغَة جعل أَعلَى الشَّيْء أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ
من قَول الْقَائِل قلبت الْإِنَاء إِذا نكسه أَو هُوَ جعل بطن الشَّيْء ظهرا وَالظّهْر بَطنا
من قَول الْقَائِل قلبت الجراب إِذا جعل بَاطِنه ظَاهرا وَظَاهره بَاطِنا وقلبت الْأَمر إِذا جعله ظهرا لبطن
وقلب الْعلَّة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ
وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا وَهَذَا مُبْطل لِلْعِلَّةِ لِأَن الْعلَّة هِيَ الْمُوجبَة شرعا والمعلول هُوَ الحكم الْوَاجِب بِهِ فَيكون فرعا وتبعا لِلْعِلَّةِ وَإِذا جعل التبع أصلا وَالْأَصْل تبعا كَانَ ذَلِك دَلِيل بطلَان الْعلَّة
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الذِّمِّيّ إِنَّه يجب عَلَيْهِ الرَّجْم لِأَنَّهُ من جنس من يجلد بكره مائَة فيرجم ثيبه كَالْمُسلمِ
فيقلب عَلَيْهِ فَنَقُول فِي الأَصْل إِنَّمَا يجلد بكره لِأَنَّهُ يرْجم ثيبه فَيكون ذَلِك قلبا مُبْطلًا لعلته بِاعْتِبَار أَن مَا جعل فرعا صَار أصلا وَمَا جعله أصلا صَار تبعا
وَكَذَلِكَ قَوْله الْقِرَاءَة ركن يتَكَرَّر فرضا فِي الْأَوليين فيتكرر أَيْضا فرضا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كالركوع
وَهَذَا النَّوْع من الْقلب إِنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْد التَّعْلِيل بِحكم لحكم فَأَما إِذا كَانَ التَّعْلِيل بِوَصْف لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا الْقلب إِذْ الْوَصْف لَا يكون حكما شَرْعِيًّا يثبت بِحكم آخر
وَطَرِيق المخلص عَن هَذَا الْقلب أَن لَا يذكر هَذَا على سَبِيل التَّعْلِيل بل على سَبِيل الِاسْتِدْلَال بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر فَإِن الِاسْتِدْلَال بِحكم على حكم طَرِيق السّلف فِي الْحَوَادِث روينَا ذَلِك عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَكِن شَرط هَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يثبت أَنَّهُمَا نظيران متساويان فَيدل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه هَذَا على ذَاك فِي حَال وَذَاكَ على هَذَا فِي حَال بِمَنْزِلَة التوأم فَإِنَّهُ يثبت حريَّة الأَصْل لأَحَدهمَا أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَيثبت الرّقّ فِي أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن الصَّوْم عبَادَة تلْزم بِالنذرِ فتلزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم علينا لِأَن الْحَج إِنَّمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَنَّهُ يلْزم بِالشُّرُوعِ

(1/238)


لأَنا نستدل بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا من حَيْثُ إِن الْمَقْصُود بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَحْصِيل عبَادَة زَائِدَة هِيَ مَحْض حق الله تَعَالَى على وَجه يكون الْمَعْنى فِيهَا لَازِما وَالرُّجُوع عَنْهَا بعد الْأَدَاء حرَام وإبطالها بعد الصِّحَّة جِنَايَة فَبعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا يَجْعَل هَذَا دَلِيلا على ذَاك تَارَة وَذَاكَ على هَذَا تَارَة
وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة من يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كالبكر وَفِي الْبكر الْبَالِغَة من لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كَالرّجلِ يكون اسْتِدْلَالا صَحِيحا بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر إِذْ الْمُسَاوَاة قد تثبت بَين التصرفين من حَيْثُ إِن ثُبُوت الْولَايَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْمولى عَلَيْهِ وعجزه عَن التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم إِذا ذكرنَا هَذَا على وَجه الِاسْتِدْلَال لِأَن جَوَاز الِاسْتِدْلَال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر يدل على قُوَّة المشابهة والمساواة وَهُوَ الْمَقْصُود بالاستدلال بِخِلَاف مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاة بَين الْجلد وَالرَّجم أما من حَيْثُ الذَّات فَالرَّجْم عُقُوبَة غَلِيظَة تَأتي على النَّفس وَالْجَلد لَا وَمن حَيْثُ الشَّرْط الرَّجْم يَسْتَدْعِي من الشَّرَائِط مَا لَا يَسْتَدْعِي عَلَيْهِ الْجلد كالثيوبة
وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين ركن الْقِرَاءَة وَبَين الرُّكُوع فَإِن الرُّكُوع فعل هُوَ أصل فِي الرَّكْعَة وَالْقِرَاءَة ذكر هُوَ زَائِد حَتَّى إِن الْعَاجِز عَن الْأَذْكَار الْقَادِر على الْأَفْعَال يُؤَدِّي الصَّلَاة وَالْعَاجِز عَن الْأَفْعَال الْقَادِر على الْأَذْكَار لَا يُؤَدِّيهَا وَيسْقط ركن الْقِرَاءَة بالاقتداء عندنَا وَعند خوف فَوت الرَّكْعَة بالِاتِّفَاقِ وَلَا يسْقط ركن الرُّكُوع
وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين الشفع الثَّانِي وَالشَّفْع الأول فِي الْقِرَاءَة فَإِنَّهُ يسْقط فِي الشفع الثَّانِي شطر مَا كَانَ مَشْرُوعا فِي الشفع الأول وَهُوَ قِرَاءَة السُّورَة وَالْوَصْف الْمَشْرُوع فِيهِ فِي الشفع الأول وَهُوَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ وَمَعَ انعدام الْمُسَاوَاة لَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا على الآخر وَالْقلب يبطل التَّعْلِيل على وَجه المقايسة
وَالنَّوْع الثَّانِي من الْقلب هُوَ جعل الظَّاهِر بَاطِنا بِأَن يَجْعَل الْوَصْف الَّذِي // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // //

(1/239)


فِي المصروف إِلَيْهِ وَهِي المسكنة وَجعل الْوَاجِب فعل الْإِطْعَام فَيكون ذَلِك دَلِيلا على أَنه مَشْرُوع لاعْتِبَار حَاجَة الْمحل ثمَّ هَذِه الْحَاجة تتجدد بتجدد الْأَيَّام فَجعلنَا الْمِسْكِين الْوَاحِد فِي عشرَة أَيَّام بِمَنْزِلَة عشرَة مَسَاكِين فِي جَوَاز الصّرْف إِلَيْهِ وَلِهَذَا لم نجوز صرف جَمِيع الْكَفَّارَة إِلَى مِسْكين وَاحِد دفْعَة وَاحِدَة
فَإِن قيل فقد جوزتم صرف الْكسْوَة أَيْضا إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي عشرَة أَيَّام وَالْحَاجة إِلَى الْكسْوَة لَا تتجدد (فِي) كل يَوْم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي كل سِتَّة أشهر أَو أَكثر
قُلْنَا قد بَينا أَن التَّكْفِير فِي الْكسْوَة يحصل بالتمليك وَالْحَاجة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار التَّمْلِيك لَا نِهَايَة لَهَا فتجعل متجددة حكما بتجدد الْأَيَّام وَلِهَذَا قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا فرق الْإِطْعَام فِي يَوْم وَاحِد يجوز أَيْضا وَإِن أدّى الْكل مِسْكينا وَاحِدًا لِأَن تجدّد الْحَاجة بتجدد الْوَقْت مَعْلُوم وحقيقتها يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيجْعَل بِاعْتِبَار كل سَاعَة كَأَن الْحَاجة متجددة حكما وَلَكِن هَذَا فِي التَّمْلِيك فَأَما فِي التَّمْكِين لَا يتَحَقَّق هَذَا وَأَكْثَرهم على أَن فِي الْكسْوَة يعْتَبر هَذَا الْمَعْنى الْحكمِي فَأَما فِي الطَّعَام يعْتَبر بتجدد الْأَيَّام لِأَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ الْإِطْعَام وَحَقِيقَته فِي التَّمْكِين من الطَّعَام وَمعنى تجدّد الْحَاجة إِلَى ذَلِك لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتجدد الْأَيَّام
وَمن ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم فالثابت بالعبارة وجوب أَدَاء صَدَقَة الْفطر فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْفَقِير والسياق لذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَحْكَام مِنْهَا أَنَّهَا لَا تجب إِلَّا على الْغَنِيّ لِأَن الإغناء إِنَّمَا يتَحَقَّق من الْغَنِيّ وَمِنْهَا أَن الْوَاجِب الصّرْف إِلَى الْمُحْتَاج لِأَن إغناء الْغَنِيّ لَا يتَحَقَّق وَإِنَّمَا يتَحَقَّق إغناء الْمُحْتَاج وَمِنْهَا أَنه يَنْبَغِي أَن يعجل أداءها قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى ليستغني عَن الْمَسْأَلَة ويحضر الْمُصَلِّي فارغ الْقلب من قوت الْعِيَال فَلَا يحْتَاج إِلَى السُّؤَال وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف لَا يجوز صرفهَا إِلَّا إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين فَفِي قَوْله (فِي مثل هَذَا الْيَوْم) إِشَارَة إِلَى ذَلِك يَعْنِي أَنه يَوْم عيد للْفُقَرَاء والأغنياء جَمِيعًا وَإِنَّمَا يتم ذَلِك للْفُقَرَاء إِذا استغنوا عَن السُّؤَال فِيهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى النّدب أَن الأولى أَن يصرفهُ إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين كَمَا أَن

(1/240)


الأولى أَن يعجل أداءها قبل الصَّلَاة وَإِن كَانَ التَّأْخِير جَائِزا وَمِنْهَا أَن وجوب الْأَدَاء يتَعَلَّق بِطُلُوع الْفجْر لِأَن الْيَوْم اسْم للْوَقْت من طُلُوع الْفجْر إِلَى غرُوب الشَّمْس وَإِنَّمَا يُغْنِيه عَن الْمَسْأَلَة فِي ذَلِك الْيَوْم أَدَاء فِيهِ وَمِنْهَا أَنه يتَأَدَّى الْوَاجِب بِمُطلق المَال لِأَنَّهُ اعْتبر الإغناء وَذَلِكَ يحصل بِالْمَالِ الْمُطلق وَرُبمَا يكون حُصُوله بِالنَّقْدِ أتم من حُصُوله بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير وَالتَّمْر وَمِنْهَا أَن الأولى أَن يصرف صدقته إِلَى مِسْكين وَاحِد لِأَن الإغناء بذلك يحصل وَإِذا فرقها على الْمَسَاكِين كَانَ هَذَا فِي الإغناء دون الأول وَمَا كَانَ أكمل فِيمَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فَهُوَ أفضل فَهَذِهِ أَحْكَام عرفناها بِإِشَارَة النَّص وَهُوَ معنى جَوَامِع الْكَلم الَّذِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي اختصارا هَذَا مِثَال بَيَان الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص وإشارته من الْكتاب وَالسّنة
فَأَما الثَّابِت بِدلَالَة النَّص فَهُوَ مَا ثَبت بِمَعْنى النّظم لُغَة لَا استنباطا بِالرَّأْيِ لِأَن للنظم صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى هُوَ الْمَقْصُود بِهِ فالألفاظ مَطْلُوبَة للمعاني وَثُبُوت الحكم بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوب بِاللَّفْظِ بِمَنْزِلَة الضَّرْب لَهُ صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى هُوَ الْمَطْلُوب بِهِ وَهُوَ الإيلام ثمَّ ثُبُوت الحكم بِوُجُود الْمُوجب لَهُ فَكَمَا أَن فِي الْمُسَمّى الْخَاص ثُبُوت الحكم بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمَعْلُوم بالنظم لُغَة فَكَذَلِك فِي الْمُسَمّى الْخَاص الَّذِي هُوَ غير مَنْصُوص عَلَيْهِ يثبت الحكم بذلك الْمَعْنى وَيُسمى ذَلِك دلَالَة النَّص فَمن حَيْثُ إِن الحكم غير ثَابت فِيهِ بتناول صُورَة النَّص إِيَّاه لم يكن ثَابتا بِعِبَارَة النَّص وَمن حَيْثُ إِنَّه ثَابت بِالْمَعْنَى الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ لُغَة كَانَ دلَالَة النَّص وَلم يكن قِيَاسا فَالْقِيَاس معنى يستنبطه بِالرَّأْيِ مِمَّا ظهر لَهُ أثر فِي الشَّرْع ليتعدى بِهِ الحكم إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ لَا استنباط بِاعْتِبَار معنى النّظم لُغَة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ مثل بِمثل جعلنَا الْغلَّة هِيَ الْكَيْل وَالْوَزْن بِالرَّأْيِ فَإِن ذَلِك لَا تتناوله صُورَة النّظم وَلَا مَعْنَاهَا لُغَة وَلِهَذَا اخْتصَّ الْعلمَاء بِمَعْرِِفَة الاستنباط بِالرَّأْيِ ويشترك فِي معرفَة دلَالَة النَّص كل من لَهُ بصر فِي معنى الْكَلَام لُغَة فَقِيها أَو غير فَقِيه
وَمِثَال مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فَإِن للتأفيف صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى

(1/241)


لأَجله ثبتَتْ الْحُرْمَة وَهُوَ الْأَذَى حَتَّى إِن من لَا يعرف هَذَا الْمَعْنى من هَذَا اللَّفْظ أَو كَانَ من قوم هَذَا فِي لغتهم إكرام لم تثبت الْحُرْمَة فِي حَقه ثمَّ بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى الْمَعْلُوم لُغَة تثبت الْحُرْمَة فِي سَائِر أَنْوَاع الْكَلَام الَّتِي فِيهَا هَذَا الْمَعْنى كالشتم وَغَيره وَفِي الْأَفْعَال كالضرب وَنَحْوه وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ لِأَن قدر مَا فِي التأفيف من الْأَذَى مَوْجُود فِيهِ وَزِيَادَة
وَمِثَال هَذَا مَا رُوِيَ أَن ماعزا زنى وَهُوَ مُحصن فرجم وَقد علمنَا أَنه مَا رجم لِأَنَّهُ مَاعِز بل لِأَنَّهُ زنى فِي حَالَة الْإِحْصَان فَإِذا ثَبت هَذَا الحكم فِي غَيره كَانَ ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ
وَكَذَلِكَ أوجب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَفَّارَة على الْأَعرَابِي بِاعْتِبَار جِنَايَته لَا لكَونه أَعْرَابِيًا فَمن وجدت مِنْهُ مثل تِلْكَ الْجِنَايَة يكون الحكم فِي حَقه ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَهَذَا لِأَن الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ لُغَة بِمَنْزِلَة الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا شرعا على مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْهِرَّة إِنَّهَا لَيست بنجسة إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ثمَّ هَذَا الحكم يثبت فِي الْفَأْرَة والحية بِهَذِهِ الْعلَّة فَلَا يكون ثَابتا بِالْقِيَاسِ بل بِدلَالَة النَّص
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للمستحاضة إِنَّه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صَلَاة ثمَّ ثَبت ذَلِك الحكم فِي سَائِر الدِّمَاء الَّتِي تسيل من الْعُرُوق فَيكون ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا جعلنَا الثَّابِت بِدلَالَة النَّص كَالثَّابِتِ بِإِشَارَة النَّص وَإِن كَانَ يظْهر بَينهمَا التَّفَاوُت عِنْد الْمُقَابلَة وكل وَاحِد مِنْهُمَا ضرب من البلاغة أَحدهمَا من حَيْثُ اللَّفْظ وَالْآخر من حَيْثُ الْمَعْنى وَلِهَذَا جَوَّزنَا إِثْبَات الْعُقُوبَات وَالْكَفَّارَات بِدلَالَة النَّص وَإِن كُنَّا لَا نجوز ذَلِك بِالْقِيَاسِ فأوجبنا حد قطاع الطَّرِيق على الردء بِدلَالَة النَّص لِأَن عبارَة النَّص الْمُحَاربَة وَصُورَة ذَلِك بِمُبَاشَرَة الْقِتَال وَمَعْنَاهَا لُغَة قهر الْعَدو والتخويف على وَجه يَنْقَطِع بِهِ الطَّرِيق وَهَذَا معنى مَعْلُوم بالمحاربة لُغَة والردء مبَاشر لذَلِك كالمقاتل وَلِهَذَا اشْتَركُوا فِي الْغَنِيمَة فيقام الْحَد على الردء بِدلَالَة النَّص من هَذِه الْوُجُوه
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يجب الْحَد فِي اللواطة على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ بِدلَالَة نَص الزِّنَا فالزنا اسْم لفعل معنوي لَهُ غَرَض وَهُوَ اقْتِضَاء الشَّهْوَة على قصد سفح المَاء بطرِيق حرَام لَا شُبْهَة فِيهِ وَقد وجد هَذَا كُله فِي اللواطة فاقتضاء الشَّهْوَة بِالْمحل المشتهي وَذَلِكَ بِمَعْنى الْحَرَارَة واللين أَلا ترى أَن الَّذين لَا يعْرفُونَ الشَّرْع لَا يفصلون بَينهمَا وَالْقَصْد مِنْهُ السفاح

(1/242)


لِأَن النَّسْل لَا تصور لَهُ فِي هَذَا الْمحل وَالْحُرْمَة هُنَا أبلغ من الْحُرْمَة فِي الْفِعْل الَّذِي يكون فِي الْقبل فَإِنَّهَا حُرْمَة لَا تنكشف بِحَال وَإِنَّمَا يُبدل اسْم الْمحل فَقَط فَيكون الحكم ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بطرِيق الْقيَاس
وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول هُوَ قَاصِر فِي الْمَعْنى الَّذِي وَجب الْحَد بِاعْتِبَارِهِ فَإِن الْحَد مَشْرُوع زجرا وَذَلِكَ عِنْد دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ وَدُعَاء الطَّبْع إِلَى مُبَاشرَة هَذَا الْفِعْل فِي الْقبل من الْجَانِبَيْنِ فَأَما فِي الدبر دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ من جَانب الْفَاعِل لَا من جَانب الْمَفْعُول بِهِ وَفِي بَاب الْعُقُوبَات تعْتَبر صفة الْكَمَال لما فِي النُّقْصَان من شُبْهَة الْعَدَم ثمَّ فِي الزِّنَا إِفْسَاد الْفراش وَإِتْلَاف الْوَلَد حكما فَإِن الْوَلَد الَّذِي يتخلق من المَاء فِي ذَلِك الْمحل لَا يعرف لَهُ وَالِد لينفق عَلَيْهِ وبالنساء عجز عَن الِاكْتِسَاب والإنفاق وَلَا يُوجد هَذَا الْمَعْنى فِي الدبر فَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرّد تَضْييع المَاء بالصب فِي غير مَحل منبت وَذَلِكَ قد يكون مُبَاحا بطرِيق الْعَزْل فَعرفنَا أَنه دون الزِّنَا فِي الْمَعْنى الَّذِي لأَجله أوجب الْحَد وَلَا مُعْتَبر بتأكد الْحُرْمَة فِي حكم الْعقُوبَة أَلا ترى أَن حُرْمَة الدَّم وَالْبَوْل آكِد من حُرْمَة الْخمر ثمَّ الْحَد يجب بِشرب الْخمر وَلَا يجب بِشرب الدَّم وَالْبَوْل للتفاوت فِي معنى دُعَاء الطَّبْع من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ إِن الْقصاص يجب إِذا حصل الْقَتْل بِالرُّمْحِ أَو النشابة لِأَن لعبارة النَّص معنى مَعْلُوما فِي اللُّغَة وَذَلِكَ الْمَعْنى كَامِل فِي الْقَتْل بِالرُّمْحِ والنشابة وَقد عرفنَا أَن المُرَاد بِذكر السَّيْف الْقَتْل بِهِ لَا قَبضه وَإِنَّمَا السَّيْف آلَة يحصل بِهِ الْقَتْل فَإِذا حصل بِآلَة أُخْرَى مثل ذَلِك الْقَتْل تعلق حكم الْقصاص بِهِ بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ
ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِذكر السَّيْف لُغَة أَنه نَاقض للبنية بِالْجرْحِ وَظُهُور أَثَره فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَلَا يثبت هَذَا الحكم فِيمَا لَا يماثله فِي هَذَا الْمَعْنى وَهُوَ الْحجر والعصا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِهِ لُغَة أَن النَّفس لَا تطِيق احْتِمَاله وَدفع أَثَره فَيثبت الحكم بِهَذَا الْمَعْنى فِي الْقَتْل بالمثقل وَيكون ثَابتا بِدلَالَة النَّص قَالَا لِأَن الْقَتْل نقض البنية وَذَلِكَ بِفِعْلِهِ لَا تحتمله البنية مَعَ صفة السَّلامَة وَهَذَا الْمَعْنى فِي المثقل أظهر فَإِن إِلْقَاء حجر الرَّحَى والاسطوانة على إِنْسَان لَا تحتمله البنية بِنَفسِهَا وَالْقَتْل بِالْجرْحِ لَا تحتمله البنية بِوَاسِطَة السَّرَايَة وَإِذا كَانَ هَذَا أتم فِي الْمَعْنى الْمُعْتَبر كَانَ ثُبُوت الحكم فِيهِ

(1/243)


بِدلَالَة النَّص كَمَا فِي الضَّرْب مَعَ التأفيف
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْمُعْتَبر فِي بَاب الْعُقُوبَات صفة الْكَمَال فِي السَّبَب لما فِي النُّقْصَان من شُبْهَة الْعَدَم والكمال فِي نقض البنية بِمَا يكون عَاملا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا فاعتبار مُجَرّد عدم احْتِمَال البنية إِيَّاه مَعَ صفة السَّلامَة ظَاهرا لتعدية الحكم غير مُسْتَقِيم فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم ذَلِك فِيمَا يثبت بِالشُّبُهَاتِ كالدية وَالْكَفَّارَة فَأَما مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَيعْتَبر فِيهِ الْمُمَاثلَة فِي الِاسْتِيفَاء بِالنَّصِّ لَا بُد من اعْتِبَار صفة الْكَمَال فِيهِ وَدَلِيل النُّقْصَان حكم الذَّكَاة فَإِنَّهُ يخْتَص بِمَا ينْقض البنية ظَاهرا وَبَاطنا وَلَا يعْتَبر فِيهِ مُجَرّد عدم احْتِمَال البنية إِيَّاه وَمَا قَالَه إِن الْجرْح وَسِيلَة كَلَام لَا معنى لَهُ فإننا لَا نعني بِفعل الْقَتْل الْجِنَايَة على الْجِسْم وَلَا على الرّوح إِذْ لَا تتَصَوَّر بِالْجِنَايَةِ على الرّوح من الْعباد والجسم تبع وَالْمَقْصُود هُوَ النَّفس الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الطبائع فالجناية عَلَيْهَا إِنَّمَا تتمّ بإراقة الدَّم وَذَلِكَ بِعَمَل يكون جارحا مؤثرا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا وَلِهَذَا كَانَ الغرز بالإبرة مُوجبا للْقصَاص لِأَنَّهُ مسيل للدم مُؤثر فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن إِلَّا أَنه لَا يكون مُوجبا الْحل فِي الذَّكَاة لِأَن الْمُعْتَبر هُنَا تسييل جَمِيع الدَّم المسفوح ليتميز بِهِ الطَّاهِر من النَّجس وَلِهَذَا اخْتصَّ بِقطع الْحُلْقُوم والأوداج عِنْد التيسر وَلم يثبت حكم الْحل بالنَّار أَيْضا لِأَنَّهَا تُؤثر فِي الظَّاهِر حسما فَلَا يتَمَيَّز بِهِ الطَّاهِر من النَّجس بل يمْتَنع بِهِ من سيلان الدَّم
وَمن ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما أوجب الْكَفَّارَة على الْأَعرَابِي بِجِنَايَتِهِ الْمَعْلُومَة بِالنَّصِّ لُغَة أَوجَبْنَا على الْمَرْأَة أَيْضا مثل ذَلِك بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ فَإِن الْأَعرَابِي سَأَلَ عَن جِنَايَته بقوله هَلَكت وأهلكت
وَقد علمنَا أَنه لم يرد الْجِنَايَة على الْبضْع لِأَن فعل الْجِمَاع حصل مِنْهُ فِي مَحل مَمْلُوك لَهُ فَلَا يكون جِنَايَة لعَينه أَلا ترى أَنه لَو كَانَ نَاسِيا لصومه لم يكن ذَلِك مِنْهُ جِنَايَة أصلا فَعرفنَا أَن جِنَايَته كَانَ على الصَّوْم بِاعْتِبَار تَفْوِيت رُكْنه الَّذِي يتَأَدَّى بِهِ وَقد علم أَن ركن الصَّوْم الْكَفّ

(1/244)


عَن اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن و (شَهْوَة) الْفرج وَوُجُوب الْكَفَّارَة للزجر عَن الْجِنَايَة على الصَّوْم ثمَّ دُعَاء الطَّبْع إِلَى اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن أظهر مِنْهُ إِلَى اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج وَوقت الصَّوْم وَقت اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن عَادَة يَعْنِي النَّهر فَأَما اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج يكون بالليالي عَادَة فَكَانَ الحكم ثَابتا بِدلَالَة النَّص من هَذَا الْوَجْه فَإِن الْجِمَاع آلَة لهَذِهِ الْجِنَايَة كَالْأَكْلِ وَقد بَينا أَنه لَا مُعْتَبر بالآلة فِي الْمَعْنى الَّذِي يَتَرَتَّب الحكم عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه وكما يصير معتقا بِالشِّرَاءِ يصير معتقا بِقبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فِيهِ لِأَن الشِّرَاء سَبَب لما يتم بِهِ عِلّة الْعتْق وَهُوَ الْملك وَقبُول الْهِبَة مثل الشِّرَاء فِي ذَلِك ثمَّ الْجِنَايَة على الصَّوْم بِهَذِهِ الصّفة تتمّ مِنْهَا بالتمكين كَمَا تتمّ بِهِ من الرجل بالإيلاج وَمعنى دُعَاء الطَّبْع فِي جَانبهَا كَهُوَ فِي جَانب الرجل فالكفارة تلزمها بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ
وَمن ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للَّذي أكل نَاسِيا فِي شهر رَمَضَان إِن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك ثمَّ أثبتنا هَذَا الحكم فِي الَّذِي جَامع نَاسِيا بِدلَالَة النَّص فَإِن تَفْوِيت ركن الصَّوْم حَقِيقَة لَا يخْتَلف بِالنِّسْيَانِ والعمد وَلَكِن النسْيَان معنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ أَنه مَحْمُول عَلَيْهِ طبعا على وَجه لَا صنع لَهُ فِيهِ وَلَا لأحد من الْعباد فَكَانَ مُضَافا إِلَى من لَهُ الْحق وَالْجِمَاع فِي حَالَة النسْيَان مثل الْأكل فِي هَذَا الْمَعْنى فَيثبت الحكم فِيهِ بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ إِذْ الْمَخْصُوص من الْقيَاس لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره
فَإِن قيل الْجِمَاع لَيْسَ نَظِير الْأكل من كل وَجه فَإِن وَقت أَدَاء الصَّوْم وَقت الْأكل عَادَة وَوقت الْأَسْبَاب المفضية إِلَى الْأكل من التَّصَرُّف فِي الطَّعَام وَغير ذَلِك فيبتلى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ غَالِبا وَهُوَ لَيْسَ بِوَقْت الْجِمَاع عَادَة وَالصَّوْم أَيْضا يُضعفهُ عَن الْجِمَاع وَلَا يزِيد فِي شَهْوَته كَمَا يزِيد فِي شَهْوَة الْأكل فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْجِمَاع من النَّاسِي فِي الصَّوْم بِمَنْزِلَة الْأكل من النَّاسِي فِي الصَّلَاة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا نَادِر

(1/245)


قُلْنَا نعم فِي الْجِمَاع هَذَا النَّوْع من التَّقْصِير وَلَكِن فِيهِ زِيَادَة فِي دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ من حَيْثُ إِن الشبق قد يغلب على الْمَرْء على وَجه لَا يصبر عَن الْجِمَاع وَعند غَلَبَة الشبق يذهب من قلبه كل شَيْء سوى ذَلِك الْمَقْصُود وَلَا يُوجد مثل هَذَا الشبق فِي الْأكل فَتكون هَذِه الزِّيَادَة بِمُقَابلَة ذَلِك الْقُصُور حَتَّى تتَحَقَّق الْمُسَاوَاة بَينهمَا وَلَكِن لَا تعْتَبر هَذِه الزِّيَادَة عِنْد ذكر الصَّوْم فِي حق الْكَفَّارَة لِأَن غَلَبَة الشبق بِهَذِهِ الصّفة تنعدم بِإِبَاحَة الْجِمَاع لَيْلًا وَلِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا نَادرا وَصفَة الْكَمَال لَا تبتنى على مَا هُوَ نَادِر وَإِنَّمَا تبتنى على مَا هُوَ الْمُعْتَاد وَإِنَّمَا طَرِيق الْقيَاس فِي هَذَا مَا سلكه الشَّافِعِي رَحمَه الله حَيْثُ جعل الْمُكْره والخاطىء بِمَنْزِلَة النَّاسِي بِاعْتِبَار وصف الْعذر فَإِن الكره وَالْخَطَأ غير النسْيَان صُورَة وَمعنى فَالْحكم الثَّابِت بِالنِّسْيَانِ لَا يكون ثَابتا بالْخَطَأ والكره بِدلَالَة النَّص بل يكون بطرِيق الْقيَاس وَهُوَ قِيَاس فَاسد فَإِن الكره مُضَاف إِلَى غير من لَهُ الْحق وَهُوَ الْمُكْره وَالْخَطَأ مُضَاف إِلَى المخطىء أَيْضا وَهُوَ مِمَّا يَتَأَتَّى عَنهُ التَّحَرُّز فِي الْجُمْلَة فَلم يكن فِي معنى مَا لَا صنع للعباد فِيهِ أصلا أَلا ترى أَن الْمَرِيض يُصَلِّي قَاعِدا ثمَّ لَا تلْزمهُ الْإِعَادَة إِذا برأَ بِخِلَاف الْمُقَيد
ث وَمن ذَلِك أَن الله تَعَالَى لما أوجب الْقَضَاء على الْمُفطر فِي رَمَضَان بِعُذْر وَهُوَ الْمَرِيض وَالْمُسَافر أَوجَبْنَا على الْمُفطر بِغَيْر عذر بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ فَإِن فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَنْعَدِم أَدَاء الصَّوْم الْوَاجِب فِي الْوَقْت وَالْمَرَض وَالسّفر عذر فِي الْإِسْقَاط لَا فِي الْإِيجَاب فَعرفنَا أَن وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَدَاء فِي الْوَقْت بِالْفطرِ لُغَة وَقد وجد هَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه إِذا أفطر من غير عذر فَيلْزمهُ الْقَضَاء بِدلَالَة النَّص
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِهَذَا الطَّرِيق أوجبت الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد لِأَن النَّص جَاءَ بِإِيجَاب الْكَفَّارَة فِي قتل الْخَطَأ وَلَكِن الْخَطَأ عذر مسْقط فَعرفنَا أَن وجوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار أصل الْقَتْل دون صفة الْخَطَأ وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعمد وَزِيَادَة فَتجب الْكَفَّارَة فِي الْعمد بِدلَالَة النَّص وَبِهَذَا الطَّرِيق أوجبت الْكَفَّارَة فِي الْغمُوس لِأَن فِي الْمَعْقُود على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل وَجَبت الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار جِنَايَته لما فِي الْإِقْدَام على الْحِنْث من هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْغمُوس وَزِيَادَة فَإِنَّهَا محظورة لأجل الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى كَاذِبًا وَهَذَا هُوَ صفة الْحَظْر فِي المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل بعد الْحِنْث
وَلَكنَّا نقُول هَذَا الِاسْتِدْلَال

(1/246)


فَاسد لِأَن الْوَاجِب بِالنَّصِّ الْكَفَّارَة وَهِي اسْم لعبادة فِيهَا معنى الْعقُوبَة تبعا من حَيْثُ إِنَّهَا أوجبت جَزَاء وَلكنهَا تتأدى بِفعل هُوَ عبَادَة وَالْمَقْصُود بهَا نيل الثَّوَاب ليَكُون مكفرا للذنب وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك بِمَا هُوَ عبَادَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} فيستدعي سَببا مترددا بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة لِأَن الْعُقُوبَات الْمَحْضَة سَببهَا مَحْظُور مَحْض والعبادات الْمَحْضَة سَببهَا مَا لَا حظر فِيهِ فالمتردد يَسْتَدْعِي سَببا مترددا وَذَلِكَ فِي قتل الْخَطَأ فَإِنَّهُ من حَيْثُ الصُّورَة رمى إِلَى الصَّيْد أَو إِلَى الْكَافِر وَهُوَ الْمُبَاح وَبِاعْتِبَار الْمحل يكون مَحْظُورًا لِأَنَّهُ أصَاب آدَمِيًّا مُحْتَرما فَأَما الْعمد فَهُوَ مَحْظُور مَحْض فَلَا يصلح سَببا لِلْكَفَّارَةِ وَكَذَلِكَ المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل فِيهَا تردد فَإِن تَعْظِيم الْمقسم بِهِ فِي الِابْتِدَاء وَذَلِكَ مَنْدُوب إِلَيْهِ وَلِهَذَا شرعت فِي بيعَة نصْرَة الْحق وفيهَا معنى الْحَظْر أَيْضا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم} وَقَالَ تَعَالَى {واحفظوا أَيْمَانكُم} وَالْمرَاد الْحِفْظ بالامتناع عَن الْيَمين فلكونها دَائِرَة بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة تصلح سَببا لِلْكَفَّارَةِ فَأَما الْغمُوس مَحْظُور مَحْض لِأَن الْكَذِب بِدُونِ الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى حرَام لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة فَمَعَ الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى أولى فَكَانَ الْغمُوس بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى كَالزِّنَا وَالرِّدَّة فَلَا يصلح سَببا لوُجُوب الْكَفَّارَة
وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْقَتْل بالمثقل على قَول أبي حنيفَة فَإِنَّهُ مُوجب لكفارة وَإِن كَانَ مَحْظُورًا مَحْضا لِأَن المثقل لَيْسَ بِآلَة للْقَتْل بِأَصْل الْخلقَة وَإِنَّمَا هُوَ آلَة للتأديب أَلا ترى أَن إجراءه للتأديب بِهِ وَالْمحل قَابل للتأديب مُبَاح فلتمكن الشُّبْهَة من حَيْثُ الْآلَة يصير الْفِعْل فِي معنى الدائر وَلِهَذَا لم يَجعله مُوجبا للعقوبة فَجعله مُوجبا لِلْكَفَّارَةِ وَلَا يدْخل على هَذَا قتل الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن (عمدا) فَإِنَّهُ غير مُوجب لِلْكَفَّارَةِ وَإِن لم تمكن فِيهِ شُبْهَة حَتَّى لم يكن مُوجبا للْقصَاص لِأَن امْتنَاع وجوب الْقصاص هُنَاكَ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثلَة بَين المحلين لَا لشُبْهَة وَلِهَذَا يجب الْقصاص على الْمُسْتَأْمن بقتل الْمُسْتَأْمن
نَص عَلَيْهِ فِي السّير الْكَبِير
وَإِن كَانَ امْتنَاع وجوب الْقصاص لأجل الشُّبْهَة فَتلك الشُّبْهَة فِي الْمحل لَا فِي الْفِعْل وَفِي الْقصاص مُقَابلَة الْمحل بِالْمحل وَلِهَذَا لَا تجب الدِّيَة مَعَ وجوب الْقصاص فَأَما الْكَفَّارَة جَزَاء الْفِعْل وَلَا شُبْهَة فِي الْفِعْل هُنَاكَ بل هُوَ مَحْظُور

(1/247)


مَحْض فَلم يكن مُوجبا لِلْكَفَّارَةِ فَأَما فِي المثقل الشُّبْهَة فِي الْفِعْل بِاعْتِبَار أَن الْآلَة لَيست بِآلَة الْقَتْل وَالْفِعْل لَا يَتَأَتَّى بِدُونِ الْآلَة فاعتبرنا هَذِه الشُّبْهَة فِي الْقصاص وَالْكَفَّارَة جَمِيعًا
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا يجب سُجُود السَّهْو على من زَاد أَو نقص فِي صلَاته عمدا لِأَن وجوب السُّجُود عَلَيْهِ عِنْد السَّهْو بِاعْتِبَار تمكن النُّقْصَان فِي صلَاته وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعمد وَزِيَادَة فَيثبت الحكم فِيهِ بِدلَالَة النَّص
وَقُلْنَا هَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لِأَن السَّبَب الْمُوجب بِالنَّصِّ شرعا هُوَ السَّهْو على مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لكل سَهْو سَجْدَتَانِ بعد السَّلَام والسهو يَنْعَدِم إِذا كَانَ عَامِدًا
فَهَذَا هُوَ الْمِثَال فِي بَيَان الثَّابِت بِدلَالَة النَّص
وَالنَّوْع الرَّابِع وَهُوَ الْمُقْتَضى وَهُوَ عبارَة عَن زِيَادَة على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ يشْتَرط تَقْدِيمه ليصير المنظوم مُفِيدا أَو مُوجبا للْحكم وبدونه لَا يُمكن إِعْمَال المنظوم فَكَانَ الْمُقْتَضى مَعَ الحكم مضافين إِلَى النَّص ثابتين بِهِ الحكم بِوَاسِطَة الْمُقْتَضى بِمَنْزِلَة شِرَاء الْقَرِيب يثبت بِهِ الْملك وَالْعِتْق على أَن يَكُونَا مضافين إِلَى الشِّرَاء الْعتْق بِوَاسِطَة الْملك فَعرفنَا أَن الثَّابِت بطرِيق الِاقْتِضَاء بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِدلَالَة النَّص لَا بِمَنْزِلَة الثَّابِت بطرِيق الْقيَاس إِلَّا أَن عِنْد الْمُعَارضَة الثَّابِت بِدلَالَة النَّص أقوى لِأَن النَّص يُوجِبهُ بِاعْتِبَار الْمَعْنى لُغَة والمقتضى لَيْسَ من موجباته لُغَة وَإِنَّمَا ثَبت شرعا للْحَاجة إِلَى إِثْبَات الحكم بِهِ وَلَا عُمُوم للمقتضى عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي للمقتضى عُمُوم لِأَن الْمُقْتَضى بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص فِي ثُبُوت الحكم بِهِ حَتَّى كَانَ الحكم الثَّابِت بِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَكَذَلِك فِي إِثْبَات صفة الْعُمُوم فِيهِ فَيجْعَل كالمنصوص
وَلَكنَّا نقُول ثُبُوت الْمُقْتَضى للْحَاجة والضرورة حَتَّى إِذا كَانَ الْمَنْصُوص مُفِيدا للْحكم بِدُونِ الْمُقْتَضى لَا يثبت الْمُقْتَضى لُغَة وَلَا شرعا وَالثَّابِت بِالْحَاجةِ يتَقَدَّر بِقَدرِهَا وَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات صفة الْعُمُوم للمقتضى فَإِن الْكَلَام مُفِيد بِدُونِهِ وَهُوَ نَظِير تنَاول الْميتَة لما أُبِيح للْحَاجة تتقدر بِقَدرِهَا وَهُوَ سد الرمق وَفِيمَا وَرَاء ذَلِك من الْحمل والتمول والتناول إِلَى الشِّبَع لَا يثبت حكم الْإِبَاحَة فِيهِ بِخِلَاف الْمَنْصُوص فَإِنَّهُ عَامل بِنَفسِهِ فَيكون بِمَنْزِلَة حل الذكية يظْهر فِي حكم التَّنَاوُل وَغَيره مُطلقًا يُوضحهُ أَن الْمُقْتَضى تبع للمقتضي

(1/248)


فَإِنَّهُ شَرطه ليَكُون مُفِيدا وَشرط الشَّيْء يكون تبعه وَلِهَذَا يكون ثُبُوته بشرائط الْمَنْصُوص فَلَو جعل هُوَ كالمنصوص خرج من أَن يكون تبعا والعموم حكم صِيغَة النَّص خَاصَّة فَلَا يجوز إثْبَاته فِي الْمُقْتَضى
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَأعْتقهُ وَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَعَلِيهِ الْألف لِأَن الْأَمر بِالْإِعْتَاقِ عَنهُ يَقْتَضِي تمْلِيك الْعين مِنْهُ بِالْبيعِ ليتَحَقَّق الْإِعْتَاق عَنهُ وَهَذَا الْمُقْتَضى يثبت مُتَقَدما وَيكون بِمَنْزِلَة الشَّرْط لِأَنَّهُ وصف فِي الْمحل وَالْمحل للتَّصَرُّف كالشرط فَكَذَا مَا يكون وَصفا للمحل وَإِنَّمَا يثبت بِشَرْط الْعتْق لَا بِشَرْط البيع مَقْصُودا حَتَّى يسْقط اعْتِبَار الْقبُول فِيهِ وَلَو كَانَ الْآمِر مِمَّن لَا يملك الْإِعْتَاق لم يثبت البيع بِهَذَا الْكَلَام وَلَو صرح الْمَأْمُور بِالْبيعِ بِأَن قَالَ بِعته مِنْك بِأَلف دِرْهَم وأعتقته لم يجز عَن الْآمِر وَبِهَذَا تبين أَن الْمُقْتَضى لَيْسَ كالمنصوص عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاء مَوضِع الْحَاجة
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قَالَ أعتق عَبدك عني بِغَيْر شَيْء فَأعْتقهُ يَقع الْعتْق عَن الْآمِر لِأَن الْملك بطرِيق الْهِبَة يثبت هُنَا بِمُقْتَضى الْعتْق فَيثبت على شَرَائِط الْعتْق وَيسْقط اعْتِبَار شَرطه مَقْصُودا وَهُوَ الْقَبْض كَمَا يسْقط اعْتِبَار الْقبُول فِي البيع بل أولى لِأَن الْقبُول ركن فِي البيع وَالْقَبْض شَرط فِي الْهِبَة فَلَمَّا سقط اعْتِبَار مَا هُوَ الرُّكْن لكَونه ثَابتا بِمُقْتَضى الْعتْق فَلِأَن يسْقط اعْتِبَار مَا هُوَ شَرط أولى وَلِهَذَا لَو قَالَ أعتق عَبدك عني على ألف (دِرْهَم) ورطل من خمر يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَلَو أكره الْمَأْمُور على أَن يعْتق عَبده عَنهُ بِأَلف دِرْهَم يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَبيع الْمُكْره فَاسد وَالْقَبْض شَرط لوُقُوع الْملك فِي البيع الْفَاسِد ثمَّ سقط اعْتِبَاره إِذا كَانَ بِمُقْتَضى الْعتْق
وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله قَالَا الْمُقْتَضى تبع للمقتضي وَالْقَبْض فعل لَيْسَ من جنس القَوْل وَلَا هُوَ دونه حَتَّى يُمكن إثْبَاته تبعا لَهُ وَبِدُون الْقَبْض الْملك لَا يحصل بِالْهبةِ فَلَا يُمكن تَنْفِيذ الْعتْق عَن الْآمِر وَلَا وَجه لجعل العَبْد قَابِضا نَفسه للْآمِر لِأَنَّهُ لَا يسلم لَهُ بِالْعِتْقِ شَيْء من ملك الْمولى وَإِنَّمَا يبطل ملك الْمولى ويتلاشى بِالْإِعْتَاقِ وَلَا وَجه لإِسْقَاط الْقَبْض هُنَا بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَن الْعَمَل بالمقتضى شَرْعِي

(1/249)


فَإِنَّمَا يعْمل فِي إِسْقَاط مَا يحْتَمل السُّقُوط دون مَا لَا يحْتَمل وَشرط الْقَبْض لوُقُوع الْملك فِي الْهِبَة لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال بِخِلَاف الْقبُول فِي البيع فقد يحْتَمل السُّقُوط أَلا ترى أَن الْإِيجَاب وَالْقَبُول جَمِيعًا يحْتَمل السُّقُوط حَتَّى ينْعَقد البيع بالتعاطي من غير قَول فَلِأَن يحْتَمل مُجَرّد الْقبُول السُّقُوط كَانَ أولى
وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْب بِعشْرَة فاقطعه فَقَطعه وَلم يقل شَيْئا كَانَ البيع بَينهمَا تَاما وَالْفَاسِد من البيع مُعْتَبر بالجائز فِي الحكم لِأَن الْفَاسِد لَا يُمكن أَن يَجْعَل أصلا يتعرف حكمه من نَفسه وَإِذا كَانَ مَا ثَبت الْملك بِهِ فِي البيع الْجَائِز يحْتَمل السُّقُوط إِذا كَانَ ضمنا لِلْعِتْقِ فَكَذَلِك مَا يثبت بِهِ الْملك فِي البيع الْفَاسِد
وَبَيَان مَا ذكرنَا من الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي فِيمَا إِذا قَالَ إِن أكلت فَعَبْدي حر وَنوى طَعَاما دون طَعَام عِنْده تعْمل نِيَّته لِأَن الْأكل يَقْتَضِي مَأْكُولا وَذَلِكَ كالمنصوص عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن أكلت طَعَاما وَلما كَانَ للمقتضي عُمُوم على قَوْله عمل فِيهِ نِيَّته التَّخْصِيص وَعِنْدنَا لَا تعْمل لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضى وَنِيَّة التَّخْصِيص فِيمَا لَا عُمُوم لَهُ لَغْو بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن أكلت طَعَاما وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن شربت أَو قَالَ إِن لبست أَو قَالَ إِن ركبت
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو قَالَ إِن اغْتَسَلت اللَّيْلَة وَنوى الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة لم تعْمل نِيَّته بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن اغْتَسَلت غسلا فَإِن هُنَاكَ نِيَّته تعْمل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن اغْتسل اللَّيْلَة فِي هَذِه الدَّار وَقَالَ عنيت فلَانا لم تعْمل نِيَّته لِأَن الْفَاعِل لَيْسَ فِي لَفظه وَإِنَّمَا يثبت بطرِيق الِاقْتِضَاء بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن اغْتسل أحد فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته اعْتدي وَنوى الطَّلَاق فَإِن وُقُوع الطَّلَاق بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَنَّهَا لَا تَعْتَد قبل تقدم الطَّلَاق فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ طَلقتك فاعتدي وَلَكِن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع رَجْعِيًا وَلَا تعْمل نِيَّته الثَّلَاث فِيهِ وَبعد الْبَيْنُونَة والشروع فِي الْعدة يَقع الطَّلَاق بِهَذَا اللَّفْظ
وَرُبمَا يسْتَدلّ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِهَذَا فِي أَن الْمُقْتَضى كالمنصوص عَلَيْهِ وَهُوَ خَارج على مَا ذكرنَا فَإنَّا نجعله كالمنصوص عَلَيْهِ بِقدر الْحَاجة وَهُوَ أَن يصير الْمَنْصُوص مُفِيدا مُوجبا للْحكم فَأَما فِيمَا وَرَاء ذَلِك فَلَا

(1/250)


قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت لبَعض من صنف فِي هَذَا الْبَاب أَنه ألحق الْمَحْذُوف بالمقتضى وَسوى بَينهمَا فَخرج على هَذَا الأَصْل قَوْله تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة} وَقَالَ المُرَاد الْأَهْل يثبت ذَلِك بِمُقْتَضى الْكَلَام لِأَن السُّؤَال للتبيين فَإِنَّمَا ينْصَرف إِلَى من يتَحَقَّق مِنْهُ الْبَيَان ليَكُون مُفِيدا دون من لَا يتَحَقَّق مِنْهُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَلم يرد بِهِ الْعين لِأَنَّهُ يتَحَقَّق مَعَ هَذِه الْأَعْذَار فَلَو حمل عَلَيْهِ كَانَ كذبا وَلَا إِشْكَال أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن ذَلِك فَعرفنَا بِمُقْتَضى الْكَلَام أَن المُرَاد الحكم
ثمَّ حمله الشَّافِعِي على الحكم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قولا بِالْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضى وَجعل ذَلِك كالمنصوص عَلَيْهِ وَلَو قَالَ رفع عَن أمتِي حكم الْخَطَأ كَانَ ذَلِك عَاما وَلِهَذَا الأَصْل قَالَ لَا يَقع طَلَاق الخاطىء وَالْمكْره وَلَا يفْسد الصَّوْم بِالْأَكْلِ مكْرها
وَقُلْنَا لَا عُمُوم للمقتضي وَحكم الْآخِرَة وَهُوَ الْإِثْم مُرَاد بِالْإِجْمَاع وَبِه ترْتَفع الْحَاجة وَيصير الْكَلَام مُفِيدا فَيبقى مُعْتَبرا فِي حكم الدُّنْيَا
كَذَلِك قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ لَيْسَ المُرَاد عين الْعَمَل فَإِن ذَلِك مُتَحَقق بِدُونِ النِّيَّة وَإِنَّمَا المُرَاد الحكم ثَبت ذَلِك بِمُقْتَضى الْكَلَام
فَقَالَ الشَّافِعِي يعم ذَلِك حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِيمَا يَسْتَدْعِي الْقَصْد والعزيمة من الْأَعْمَال قولا بِعُمُوم الْمُقْتَضى
وَقُلْنَا المُرَاد حكم الْآخِرَة وَهُوَ أَن ثَوَاب الْعَمَل بِحَسب النِّيَّة لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى
وَعِنْدِي أَن هَذَا سَهْو من قَائِله فَإِن الْمَحْذُوف غير الْمُقْتَضى لِأَن من عَادَة أهل اللِّسَان حذف بعض الْكَلَام للاختصار إِذا كَانَ فِيمَا بَقِي مِنْهُ دَلِيل على الْمَحْذُوف ثمَّ ثُبُوت هَذَا الْمَحْذُوف من هَذَا الْوَجْه يكون لُغَة وَثُبُوت الْمُقْتَضى يكون شرعا لَا لُغَة وعلامة الْفرق بَينهمَا أَن الْمُقْتَضى تبع يَصح بِاعْتِبَارِهِ الْمُقْتَضِي إِذا صَار كالمصرح بِهِ والمحذوف لَيْسَ بتبع بل عِنْد التَّصْرِيح بِهِ ينْتَقل الحكم إِلَيْهِ لَا أَن يثبت مَا هُوَ الْمَنْصُوص وَلَا شكّ أَن مَا ينْقل غير مَا يصحح الْمَنْصُوص
وَبَيَان هَذَا أَن فِي قَوْله أعتق عَبدك عني محذوفا وَيثبت التَّمْلِيك بطرِيق الِاقْتِضَاء ليَصِح الْمَنْصُوص وَفِي قَوْله {واسأل الْقرْيَة} الْأَهْل مَحْذُوف للاختصار

(1/251)


فَإِن فِيمَا بَقِي من الْكَلَام دَلِيل عَلَيْهِ وَعند التَّصْرِيح بِهَذَا الْمَحْذُوف يتَحَوَّل السُّؤَال عَن الْقرْيَة إِلَى الْأَهْل لَا أَن يتَحَقَّق بِهِ الْمَنْصُوص
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ فَإِن عِنْد التَّصْرِيح بالحكم يتَحَوَّل الرّفْع إِلَى الحكم لَا إِلَى مَا وَقع التَّنْصِيص عَلَيْهِ مَعَ الْمَحْذُوف
وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لم يثبت الْعُمُوم هُنَا لِأَن الْمَحْذُوف بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك فِي أَنه يحْتَمل كل وَاحِد من الْأَمريْنِ على الِانْفِرَاد وَلَا عُمُوم للمشترك فَأَما أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف ثَابتا بِمُقْتَضى الْكَلَام فَلَا
ويتبين من هَذَا أَن مَا كَانَ محذوفا لَيْسَ بطرِيق الِاقْتِضَاء فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة الثَّابِت لُغَة فَإِن كَانَ بِحَيْثُ يحْتَمل الْعُمُوم يثبت فِيهِ صفة الْعُمُوم
وعَلى هَذَا مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَو طَلقتك وَنوى ثَلَاثًا فَإِن على قَول الشَّافِعِي تعْمل نِيَّته لِأَن قَوْله طَالِق يَقْتَضِي طَلَاقا وَذَلِكَ كالمنصوص عَلَيْهِ فتعمل نِيَّته الثَّلَاث فِيهِ قولا بِالْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضى
وَقُلْنَا نَحن إِن قَوْله طَالِق نعت فَرد ونعت الْفَرد لَا يحْتَمل الْعدَد وَالنِّيَّة إِنَّمَا تعْمل إِذا كَانَ الْمَنوِي من محتملات اللَّفْظ وَلَا يُمكن إِعْمَال نِيَّة الْعدَد بِاعْتِبَار الْمُقْتَضى لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضي وَلِأَن الْمُقْتَضى لَا يَجْعَل كالمصرح بِهِ فِي أصل الطَّلَاق فَكيف يَجْعَل كالمصرح بِهِ فِي عدد الطَّلَاق وَبَيَانه أَنه إِذا قَالَ لامْرَأَته زوري أَبَاك أَو حجي وَنوى بِهِ الطَّلَاق لم تعْمل نِيَّته وَمَعْلُوم أَن مَا صرح بِهِ يَقْتَضِي ذَهَابًا لَا محَالة ثمَّ لم يَجْعَل بِمَنْزِلَة قَوْله اذهبي حَتَّى تعْمل نِيَّته الطَّلَاق فِيهِ يقرره أَن قَوْله طَالِق نعت للْمَرْأَة فَإِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ من الْمُقْتَضى مَا يكون قَائِما بالموصوف وَالطَّلَاق من هَذَا اللَّفْظ مُقْتَضى هُوَ ثَابت بالواصف شرعا فَإِنَّهُ لَا يكون صَادِقا فِي هَذَا الْوَصْف بِدُونِ طَلَاق يَقع عَلَيْهَا فَيجْعَل موقعا ليتَحَقَّق هَذَا الْوَصْف مِنْهُ صدقا وَمثل هَذَا الْمُقْتَضى لَا يكون كالمصرح بِهِ شرعا بِمَنْزِلَة الْحَال الَّذِي هُوَ قَائِم بالمخاطب وَهُوَ بعده عَن مَوضِع الْحَج وَعَن الزِّيَارَة فَإِن اقْتِضَاء الذّهاب لما كَانَ لذَلِك الْمَعْنى لَا لما هُوَ قَائِم بالمنصوص لَا يَجْعَل كالمصرح بِهِ بِخِلَاف قَوْله أَنْت بَائِن فَإِن ذَلِك نعت فَرد نصا حَتَّى لَا يسع نِيَّة الْعدَد فِيهِ لَو نوى اثْنَتَيْنِ وَلَكِن الْبَيْنُونَة تتصل بِالْمحل فِي الْحَال وَهِي نَوْعَانِ قَاطِعَة للْملك وقاطعة للْحلّ

(1/252)


الَّذِي هُوَ وصف الْمحل فنية الثَّلَاث إِنَّمَا تميز أحد نَوْعي مَا تنَاوله نَص كَلَامه فَأَما الطَّلَاق لَا يتَّصل بِالْمحل مُوجبا حكمه فِي الْحَال بل حكم انْقِطَاع الْملك بِهِ يتَأَخَّر إِلَى انْقِضَاء الْعدة وَحكم انْقِطَاع الْحل بِهِ يتَأَخَّر إِلَى تَمام الْعدة وَإِنَّمَا يُوصف الْمحل للْحَال بِهِ لانعقاد الْعلَّة (فِيهِ) مُوجبا للْحكم فِي أَوَانه وانعقاد الْعلَّة لَا يتنوع فَلم يكن الْمَنوِي من محتملات لَفظه أصلا
وعَلى هَذَا قَوْله طَلقتك فَإِن صِيغَة الْخَبَر عَن فعل مَاض بِمَنْزِلَة قَوْله ضربتك فالمصدر الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّيغَة يكون مَاضِيا أَيْضا فَلَا يسع فِيهِ معنى الْعُمُوم بِوَجْه بِخِلَاف قَوْله طَلِّقِي نَفسك فَإِن صيغته أَمر بِفعل فِي الْمُسْتَقْبل لطلب ذَلِك الْفِعْل مِنْهَا فالمصدر الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّيغَة يكون مُسْتَقْبلا أَيْضا وَذَلِكَ الطَّلَاق فَيكون بِمَنْزِلَة غَيره من أَسمَاء الْأَجْنَاس فِي احْتِمَال الْعُمُوم وَالْخُصُوص فبدون النِّيَّة يثبت بِهِ أخص الْخُصُوص على احْتِمَال الْكل فَإِذا نوى الثَّلَاث عملت نِيَّته لِأَنَّهُ من محتملات كَلَامه وَإِذا نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال للعدد فِي صِيغَة كَلَامه وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن خرجت وَنوى الْخُرُوج إِلَى مَكَان بِعَيْنِه لم تعْمل نِيَّته وَلَو نوى السّفر تعْمل نِيَّته لِأَن السّفر نوع من أَنْوَاع الْخُرُوج وَهُوَ ثَابت بِاعْتِبَار صِيغَة كَلَامه أَلا ترى أَن الْخُرُوج لغير السّفر بِخِلَاف الْخُرُوج للسَّفر فِي الحكم فَأَما الْمَكَان فَلَيْسَ من صِيغَة كَلَامه فِي شَيْء وَإِن كَانَ الْخُرُوج يكون إِلَى مَكَان لَا محَالة فَلم تعْمل نِيَّة التَّخْصِيص فِيهِ لما لم يكن من مُقْتَضى صِيغَة الْكَلَام بِخِلَاف الأول
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن ساكنت فلَانا وَنوى المساكنة فِي مَكَان بِعَيْنِه لم تعْمل نِيَّته أصلا وَلَو نوى المساكنة فِي بَيت وَاحِد تعْمل نِيَّته بِاعْتِبَار أَنه نوى أتم مَا يكون من المساكنة فَإِن أَعم مَا يكون من المساكنة فِي بَلْدَة وَالْمُطلق من المساكنة فِي عرف النَّاس فِي دَار وَاحِدَة وَأتم مَا يكون من المساكنة فِي بَيت وَاحِد فَهَذِهِ النِّيَّة ترجع إِلَى بَيَان نوع المساكنة الثَّابِتَة بِصِيغَة كَلَامه بِخِلَاف تعين الْمَكَان
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لولد لَهُ أم مَعْرُوفَة وَهُوَ فِي يَده هَذَا ابْني ثمَّ جَاءَت أمه بعد موت الْمُدَّعِي فصدقته وَادعت مِيرَاثهَا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يقْضى لَهَا بِالْمِيرَاثِ

(1/253)


وَمَعْلُوم أَن النِّكَاح بَينهمَا بِمُقْتَضى دَعْوَى النّسَب ثمَّ يَجْعَل كالتصريح بِهِ حَتَّى يثبت النِّكَاح صَحِيحا وَيجْعَل قَائِما إِلَى موت الزَّوْج فَيكون لَهَا الْمِيرَاث فَلَو كَانَ ثُبُوت الْمُقْتَضى بِاعْتِبَار الْحَاجة فَقَط لما ثبتَتْ هَذِه الْأَحْكَام لِانْعِدَامِ الْحَاجة فِيهَا قُلْنَا ثُبُوت النِّكَاح هُنَا بِدلَالَة النَّص لَا بِمُقْتَضَاهُ فَإِن الْوَلَد اسْم مُشْتَرك إِذْ لَا يتَصَوَّر ولد فِينَا إِلَّا بوالد ووالدة فالتنصيص على الْوَلَد يكون تنصيصا على الْوَالِد والوالدة دلَالَة بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص على الْأَخ يكون كالتنصيص على أَخِيه إِذْ الْأُخوة لَا تتَصَوَّر إِلَّا بَين شَخْصَيْنِ وَقد بَينا أَن الثَّابِت بِدلَالَة النَّص يكون ثَابتا بِمَعْنى النَّص لُغَة لَا أَن يكون ثَابتا بطرِيق الِاقْتِضَاء مَعَ أَن اقْتِضَاء النِّكَاح هُنَا كاقتضاء الْملك فِي قَوْله أعتق عَبدك عني على ألف (دِرْهَم) وَبَعْدَمَا ثَبت العقد بطرِيق الِاقْتِضَاء يكون بَاقِيا لَا بِاعْتِبَار دَلِيل يبْقى بل لِانْعِدَامِ دَلِيل المزيل فَعرفنَا أَنه منته بَينهمَا بالوفاة وانتهاء النِّكَاح بِالْمَوْتِ سَبَب لاسْتِحْقَاق الْمِيرَاث
وَبَعْدَمَا بَينا هَذِه الْحُدُود نقُول الثَّابِت بِمُقْتَضى النَّص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص لِأَنَّهُ لَا عُمُوم لَهُ والتخصيص فِيمَا فِيهِ احْتِمَال الْعُمُوم وَالثَّابِت بِدلَالَة النَّص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص أَيْضا لِأَن التَّخْصِيص بَيَان أَن أصل الْكَلَام غير متناول لَهُ وَقد بَينا أَن الحكم الثَّابِت بِالدّلَالَةِ ثَابت بِمَعْنى النَّص لُغَة وَبَعْدَمَا كَانَ معنى النَّص متناولا لَهُ لُغَة لَا يبْقى احْتِمَال كَونه غير متناول لَهُ وَإِنَّمَا يحْتَمل إِخْرَاجه من أَن يكون موبجا للْحكم فِيهِ بِدَلِيل يعْتَرض وَذَلِكَ يكون نسخا لَا تَخْصِيصًا
وَأما الثَّابِت بِإِشَارَة النَّص فَعِنْدَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله لَا يحْتَمل الْخُصُوص أَيْضا لِأَن معنى الْعُمُوم فِيمَا يكون سِيَاق الْكَلَام لأَجله فَأَما مَا تقع الْإِشَارَة إِلَيْهِ من غير أَن يكون سِيَاق الْكَلَام لَهُ فَهُوَ زِيَادَة على الْمَطْلُوب بِالنَّصِّ وَمثل هَذَا لَا يسع فِيهِ معنى الْعُمُوم حَتَّى يكون مُحْتملا للتخصيص
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه يحْتَمل ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْإِشَارَةِ كَالثَّابِتِ بالعبارة من حَيْثُ إِنَّه ثَابت بِصِيغَة الْكَلَام والعموم بِاعْتِبَار الصِّيغَة فَكَمَا أَن الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص يحْتَمل التَّخْصِيص فَكَذَلِك الثَّابِت بإشارته

(1/254)


فصل
وَقد عمل قوم فِي النُّصُوص بِوُجُوه هِيَ فَاسِدَة عندنَا
فَمِنْهَا مَا قَالَ بَعضهم إِن التَّنْصِيص على الشَّيْء باسم الْعلم يُوجب التَّخْصِيص وَقطع الشّركَة بَين الْمَنْصُوص وَغَيره من جنسه فِي الحكم لِأَنَّهُ لَو لم يُوجب ذَلِك لم يظْهر للتخصيص فَائِدَة وحاشا أَن يكون شَيْء من كَلَام صَاحب الشَّرْع غير مُفِيد وأيد هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء من المَاء فالأنصار فَهموا التَّخْصِيص من ذَلِك حَتَّى استدلوا بِهِ على نفي وجوب الِاغْتِسَال بالإكسال وهم كَانُوا أهل اللِّسَان
وَهَذَا فَاسد عندنَا بِالْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} وَلَا يدل ذَلِك على إِبَاحَة الظُّلم فِي غير الْأَشْهر الْحرم وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} ثمَّ لَا يدل ذَلِك على تَخْصِيص الِاسْتِثْنَاء بالغد دون غَيره من الْأَوْقَات فِي الْمُسْتَقْبل
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَلَا يغتسلن فِيهِ من الْجَنَابَة ثمَّ لَا يدل ذَلِك على التَّخْصِيص بالجنابة دون غَيرهَا من أَسبَاب الِاغْتِسَال والأمثلة لهَذَا تكْثر
ثمَّ إِن عنوا بقَوْلهمْ إِن التَّخْصِيص يدل على قطع الْمُشَاركَة وَهُوَ أَن الحكم يثبت بِالنَّصِّ فِي الْمَنْصُوص خَاصَّة فأحد لَا يخالفهم فِي هَذَا فَإِن عندنَا فِيمَا هُوَ من جنس الْمَنْصُوص الحكم يثبت بعلة النَّص لَا بِعَيْنِه وَإِن عنوا أَن هَذَا التَّخْصِيص يُوجب نفي الحكم فِي غير الْمَنْصُوص فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير متناول لَهُ أصلا فَكيف يُوجب نفيا أَو إِثْبَاتًا للْحكم فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ ثمَّ سِيَاق النَّص لإِيجَاب الحكم وَنفي الحكم ضِدّه فَلَا يجوز أَن يكون من وَاجِبَات نَص الْإِيجَاب وَلِأَن الْمَذْهَب عِنْد فُقَهَاء الْأَمْصَار جَوَاز تَعْلِيل النُّصُوص لتعدية الحكم بهَا إِلَى الْفُرُوع فَلَو كَانَ التَّخْصِيص مُوجبا نفي الحكم فِي غير الْمَنْصُوص لَكَانَ التَّعْلِيل بَاطِلا لِأَنَّهُ يكون ذَلِك قِيَاسا فِي مُقَابلَة النَّص وَمن لَا يجوز

(1/255)


الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَإِنَّمَا لَا يجوزه لاحْتِمَال فِيهِ بَين أَن يكون صَوَابا أَو خطأ لَا لنَصّ يمْنَع مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخَبَر الْفَاسِق فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِخَبَرِهِ لضعف فِي سَنَده لَا لنَصّ فِي خَبره مَانع من الْعَمَل بِهِ وَالْأَنْصَار إِنَّمَا استدلوا بلام التَّعْرِيف الَّتِي هِيَ مستغرقة للْجِنْس أَو الْمَعْهُود فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام المَاء من المَاء وَنحن نقُول بِهِ فِي الحكم الثَّابِت لعين المَاء وَفَائِدَة التَّخْصِيص عندنَا أَن يتَأَمَّل المستنبطون فِي عِلّة النَّص فيثبتون الحكم بهَا فِي غير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من الْمَوَاضِع لينالوا بِهِ دَرَجَة المستنبطين وثوابهم وَهَذَا لَا يحصل إِذا ورد النَّص عَاما متناولا للْجِنْس
ويحكى عَن الثَّلْجِي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول هَذَا إِذا لم يكن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ باسم الْعلم محصورا بِعَدَد نصا نَحْو خبر الرِّبَا فَإِن كَانَ محصورا بِعَدَد فَذَلِك يدل على نفي الحكم فِيمَا سواهَا لِأَن فِي إِثْبَات الحكم فِيمَا سواهَا إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص وَذَلِكَ لَا يجوز فبهذه الْوَاسِطَة يكون مُوجبا للنَّفْي
وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم وَبِقَوْلِهِ أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ فَإِن ذَلِك يدل على نفي الحكم فِيمَا عدا الْمَذْكُور
وَالصَّحِيح أَن التَّنْصِيص لَا يدل على ذَلِك فِي شَيْء من الْمَوَاضِع لما بَينا من الْمعَانِي
ثمَّ ذكر الْعدَد لبَيَان الحكم بِالنَّصِّ ثَابت فِي الْعدَد الْمَذْكُور فَقَط وَقد بَينا أَن فِي غير الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت الحكم بعلة النَّص لَا بِالنَّصِّ فَلَا يُوجب ذَلِك إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص
وَمِنْهَا مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن التَّنْصِيص على وصف فِي الْمُسَمّى لإِيجَاب الحكم يُوجب نفي ذَلِك الحكم عِنْد عدم ذَلِك الْوَصْف بِمَنْزِلَة مَا لَو نَص على نفي الحكم عِنْد عدم الْوَصْف
وَعِنْدنَا النَّص مُوجب للْحكم عِنْد وجود ذَلِك الْوَصْف وَلَا يُوجب نفي ذَلِك الحكم عِنْد انعدامه أصلا
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} فَإِن عِنْده إِبَاحَة نِكَاح الْأمة (لما كَانَ مُقَيّدا بِصفة الْإِيمَان بِالنَّصِّ أوجب النَّفْي بِدُونِ هَذَا الْوَصْف فَلَا يجوز نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك وَلِهَذَا جَوَّزنَا نِكَاح الْأمة) الْكِتَابِيَّة وَقَالَ تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} فَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما ورد حُرْمَة الربيبة بِسَبَب الدُّخُول بِامْرَأَة مُقَيّدَة بِوَصْف وَهِي أَن تكون من نِسَائِهِ أوجب ذَلِك نفي الْحُرْمَة عِنْد عدم

(1/256)


ذَلِك الْوَصْف فَلَا تثبت الْحُرْمَة بِالزِّنَا
وَعِنْدنَا لَا يُوجب النَّص نفي الحكم عِنْد انعدام الْوَصْف فَتثبت الْحُرْمَة بِالزِّنَا وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض صَدَقَة الْفطر على كل حر وَعبد من الْمُسلمين فعلى مذْهبه أوجب هَذَا النَّص نفي الحكم عِنْد عدم الْوَصْف فَلَا تجب الصَّدَقَة عَن العَبْد الْكَافِر
وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن النَّص المختتم بِهَذَا الْوَصْف لَا يتَنَاوَل الْكفَّار وَالنَّص الْمُطلق وَهُوَ قَوْله أَدّوا عَن كل حر وَعبد يتناولهم لِأَنَّهُ غير مختتم بِهَذَا التَّقْيِيد فَيجب الْأَدَاء عَن العَبْد الْكَافِر بذلك النَّص وَهُوَ بِمَنْزِلَة من يَقُول لغيره أعتق عَبِيدِي ثمَّ يَقُول أعتق الْبيض من عَبِيدِي فَلَا يُوجب ذَلِك النَّهْي عَن إِعْتَاق غير الْبيض بَعْدَمَا كَانَ ثَابتا بِاللَّفْظِ الْمُطلق
وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي رَحمَه الله لإِثْبَات مذْهبه عَلَيْهِ السَّلَام فِي خمس من الْإِبِل السَّائِمَة شَاة فَإِن ذَلِك يُوجب نفي الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا زَكَاة فِي غير السَّائِمَة إِذْ لَو لم يَجْعَل كَذَلِك فَلَا بُد من إِيجَاب الزَّكَاة فِي العوامل بِخَبَر الْمُطلق وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي خمس من الْإِبِل شَاة وبالإجماع بَيْننَا وَبَيْنكُم لَا تجب الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة وَلما نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربح مَا لم يضمن أفهمنا ذَلِك إِبَاحَة ربح مَا قد ضمن كَأَنَّهُ نَص عَلَيْهِ وَلِأَن النَّص لما أوجب الحكم فِي الْمُسَمّى الْمُشْتَمل على أَوْصَاف مُقَيّدا بِوَصْف من تِلْكَ الْأَوْصَاف صَار ذَلِك الْوَصْف بِمَنْزِلَة الشَّرْط لإِيجَاب الحكم على معنى أَنه لَا يثبت الحكم بِالنَّصِّ بعد وجود الْمُسَمّى مَا لم يُوجد ذَلِك الْوَصْف فلولا ذكر الْوَصْف لَكَانَ الحكم ثَابتا قبل وجوده وَهَذَا أَمارَة الشَّرْط فَإِن قَوْله لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار لَا يكون مُوجبا وُقُوع الطَّلَاق مَا لم تدخل وَبِدُون هَذَا الشَّرْط كَانَ مُوجبا للطَّلَاق قبل الدُّخُول
وَقد يكون الْوَصْف بِمَنْزِلَة الشَّرْط حَتَّى لَو قَالَ لَهَا إِن دخلت الدَّار راكبة فَأَنت طَالِق كَانَ الرّكُوب شرطا وَإِن كَانَ مَذْكُورا على سَبِيل الْوَصْف لَهَا
قَالَ وَقد ثَبت من أُصَلِّي أَن التَّقْيِيد بِالشّرطِ يفهمنا نفي الحكم عِنْد عدم الشَّرْط

(1/257)


فَكَذَلِك التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ وَهَذَا بِخِلَاف الِاسْم فَإِنَّهُ مَذْكُور للتعريف لَا لتعليق الحكم بِهِ (فَأَما الْوَصْف الَّذِي هُوَ ذكر للْحَال وَهُوَ معنوي يصلح أَن يكون لتعليق الحكم بِهِ) فَيكون مُوجبا نفي الحكم عِنْد عَدمه دلَالَة وَلِأَن بِالِاسْمِ يثبت الحكم ابْتِدَاء كَمَا ثَبت بِالْعِلَّةِ بِخِلَاف الْوَصْف الَّذِي هُوَ فِي معنى الشَّرْط
وسنقرر هَذَا الْفرق فِي الْفَصْل الثَّانِي
وَاسْتدلَّ عُلَمَاؤُنَا بقوله تَعَالَى {وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} ثمَّ التَّقْيِيد بِهَذَا الْوَصْف لَا يُوجب نفي الْحل فِي اللَّاتِي لم يهاجرن مَعَه بالِاتِّفَاقِ وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا} ثمَّ التَّقْيِيد بِهَذَا الْوَصْف لَا يُفِيد إِبَاحَة الْأكل بِدُونِ هَذَا الْوَصْف وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها}
{إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر} وَهُوَ نَذِير للبشر فَعرفنَا أَن التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ لَا يفهمنا نفي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ عِنْد عدم ذَلِك الْوَصْف ثمَّ أَكثر مَا فِيهِ أَن الْوَصْف الْمُؤثر بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم وَلَا خلاف أَن الحكم يثبت بِالْعِلَّةِ إِذا وجدت فَإِن الْعلَّة لَا توجب نفي الحكم عِنْد انعدامها فَكَذَلِك الْوَصْف الْمَذْكُور فِي النَّص يُوجب ثُبُوت الحكم عِنْد وجوده وَلَا يُوجب نفي الحكم عِنْد عَدمه وَلِهَذَا جعلنَا الْوَصْف الْمُؤثر إِذا كَانَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ فَقُلْنَا صفة السّوم بِمَنْزِلَة الْعلَّة لإِيجَاب الزَّكَاة فِي خمس من الْإِبِل وَلِهَذَا يُضَاف الزَّكَاة إِلَيْهَا فَيُقَال زَكَاة السَّائِمَة والواجبات تُضَاف إِلَى أَسبَابهَا حَقِيقَة بِمَنْزِلَة من يَقُول لغيره أعتق عَبدِي الصَّالح أَو طلق امْرَأَتي البذيئة فَإِن ذكر هَذَا الْوَصْف دَلِيل على أَنه هُوَ الْمُؤثر للْحكم
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوَصْف لَيْسَ فِي معنى الشَّرْط كَمَا زعم وَقَوله إِن دخلت راكبة إِنَّمَا جعلنَا الرّكُوب شرطا لكَونه مَعْطُوفًا على الشَّرْط فَإِن حكم الْمَعْطُوف حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَأَما الْوَصْف المقرون بِالِاسْمِ يكون بِمَنْزِلَتِهِ وَالِاسْم لَيْسَ فِي معنى الشَّرْط لإِثْبَات الحكم فَكَذَلِك الْوَصْف المقرون بِهِ
وَلَو كَانَ شرطا فعندنا تَعْلِيق الحكم بِالشّرطِ يُوجب وجود الحكم

(1/258)


عِنْد وجود الشَّرْط وَلَا يُوجب النَّفْي عِنْد عدم الشَّرْط بل ذَلِك بَاقٍ على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق على مَا نبينه وَإِنَّمَا لَا نوجب الزَّكَاة فِي الْحَوَامِل بِاعْتِبَار نَص آخر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا زَكَاة فِي العوامل والحوامل أَو بِاعْتِبَار أَن صفة السّوم صَار بِمَنْزِلَة الْعلَّة فِي حكم الزَّكَاة على مَا قَررنَا
وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله فِيمَن لَهُ أمة ولدت ثَلَاثَة أَوْلَاد فِي بطُون مُخْتَلفَة فَقَالَ الْأَكْبَر ابْني يثبت نسب الآخرين مِنْهُ لِأَن التَّنْصِيص على الدعْوَة مُقَيّدا بالأكبر لَا مُوجب لَهُ فِي نفي نسب الآخرين وَقد تبين ثُبُوت نسب الْأَكْبَر مِنْهُ أَنَّهَا كَانَت أم ولد لَهُ من ذَلِك الْوَقْت وَأم الْوَلَد فرَاش للْمولى يثبت نسب وَلَدهَا مِنْهُ بِغَيْر دَعْوَة
وَعِنْدنَا لَا يثبت نسب الآخرين مِنْهُ لَا للتَّقْيِيد بِالْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَو أَشَارَ إِلَى الْأَكْبَر وَقَالَ هَذَا ابْني لَا يثبت نسب الآخرين مِنْهُ أَيْضا وَمَعْلُوم أَن التَّنْصِيص بِالِاسْمِ لَا يُوجب نفي الحكم فِي غير الْمُسَمّى بذلك الِاسْم وَلَكِن إِنَّمَا لَا يثبت نسبهما مِنْهُ لِأَن السُّكُوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْحَاجة دَلِيل النَّفْي ويفترض على الْمَرْأَة دَعْوَة النّسَب فِيمَا هُوَ مَخْلُوق من مَائه لِأَنَّهُ كَمَا لَا يحل لَهُ أَن يَدعِي نسب (مَا هُوَ غير مَخْلُوق من مَائه لَا يحل لَهُ أَن يَنْفِي نسب) الْمَخْلُوق من مَائه وَقبل الدعْوَة النّسَب يثبت مِنْهُ على سَبِيل الِاحْتِمَال حَتَّى يملك نَفْيه وَإِنَّمَا يصير مَقْطُوعًا بِهِ على وَجه لَا يملك نَفْيه بالدعوة فَكَانَ ذَلِك فرضا عَلَيْهِ
وَإِذا تقرر بِهَذَا تحقق الْحَاجة إِلَى الْبَيَان كَانَ سُكُوته عَن دَعْوَة نسب الآخرين دَلِيل النَّفْي لَا تَخْصِيصه الْأَكْبَر بالدعوة فَلهَذَا لَا يثبت نسبهما مِنْهُ
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا قَالَ شُهُود الْوَارِث لَا نعلم لَهُ وَارِثا غَيره فِي أَرض كَذَا إِن الشَّهَادَة تقبل لِأَن هَذِه الزِّيَادَة لَا توجب عَلَيْهِم توارث آخر فِي غير ذَلِك الْموضع فكأنهم سكتوا عَن ذكر هَذِه الزِّيَادَة وَقَالُوا لَا نعلم لَهُ وَارِثا غَيره
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد قَالَا لَا تقبل هَذِه الشَّهَادَة لَا لِأَنَّهَا توجب ذَلِك وَلَكِن لتمكن التُّهْمَة فَإِنَّهُ يحْتَمل أَنَّهُمَا خصا ذَلِك الْمَكَان للتحرز عَن الْكَذِب وعلمهما بوارث آخر لَهُ فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَلَكِن الشَّهَادَة ترد بالتهمة فَأَما الحكم

(1/259)


لَا يثبت نفيا وَلَا إِيجَابا بالتهمة بل بِالْحجَّةِ الْمَعْلُومَة
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول كَمَا تحْتَمل هَذِه الزِّيَادَة مَا قَالَا تحْتَمل الْمُبَالغَة فِي التَّحَرُّز عَن الْكَذِب بِاعْتِبَار أَنَّهُمَا تفحصا فِي ذَلِك الْموضع دون سَائِر الْمَوَاضِع وَيحْتَمل تَحْقِيق الْمُبَالغَة فِي نفي وَارِث آخر أَي لَا نعلم لَهُ وَارِثا آخر فِي مَوضِع كَذَا مَعَ أَنه مولده ومنشؤه فأحرى أَن لَا يكون لَهُ وَارِث آخر فِي مَوضِع آخر وبمثل هَذَا الْمُحْتَمل لَا تتمكن التُّهْمَة وَلَا يمْنَع الْعَمَل بِشَهَادَتِهِمَا
وَمِنْهَا أَن الحكم مَتى تعلق بِشَرْط بِالنَّصِّ فَعِنْدَ الشَّافِعِي رَحمَه الله ذَلِك النَّص يُوجب انعدام الحكم عِنْد انعدام الشَّرْط كَمَا يُوجب وجود الحكم عِنْد وجود الشَّرْط وَعِنْدنَا لَا يُوجب النَّص ذَلِك بل يُوجب ثُبُوت الحكم عِنْد وجود الشَّرْط فَأَما انعدام الحكم عِنْد عدم الشَّرْط فَهُوَ بَاقٍ على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات} الْآيَة فَإِن النَّص لما ورد بِحل نِكَاح الْأمة مُعَلّقا بِشَرْط عدم طول الْحرَّة جعل الشَّافِعِي ذَلِك كالتنصيص على حُرْمَة نِكَاح الْأمة عِنْد وجود طول الْحرَّة
وَعِنْدنَا النَّص لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن الحكم بعد هَذَا النَّص عِنْد وجود طول الْحرَّة على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَن لَو لم يرد هَذَا النَّص وَقَالَ تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} قَالَ الشَّافِعِي لما تعلق بِالنَّصِّ دَرْء الْعَذَاب عَنْهَا بِشَرْط أَن تَأتي بِكَلِمَات اللّعان كَانَ ذَلِك تنصيصا على إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا إِذا لم تأت بِكَلِمَات اللّعان
وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك حَتَّى لَا يُقَام عَلَيْهَا الْحَد وَإِن امْتنعت من كَلِمَات اللّعان
وَجه قَول الشَّافِعِي أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يُؤثر فِي الحكم دون السَّبَب على اعْتِبَار أَنه لَوْلَا التَّعْلِيق لَكَانَ الحكم ثَابتا فَإِن قَوْله لعَبْدِهِ أَنْت حر مُوجب عتقه فِي الْحَال لَوْلَا قَوْله إِن دخلت الدَّار فبالتعليق يتَأَخَّر نزُول الْعتْق وَلَا يَنْعَدِم أصل السَّبَب
وَبِهَذَا تبين أَن التَّعْلِيق كَمَا يُوجب الحكم عِنْد وجود الشَّرْط يُوجب نفي الحكم قبل وجود الشَّرْط بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل وبمنزلة خِيَار الشَّرْط فِي البيع فَإِنَّهُ يدْخل على الحكم دون السَّبَب حَتَّى يتَأَخَّر الحكم إِلَى سُقُوط الْخِيَار مَعَ قيام السَّبَب وَهُوَ نَظِير التَّعْلِيق الْحسي فَإِن تَعْلِيق الْقنْدِيل بِحَبل من

(1/260)


سَمَاء الْبَيْت يمْنَع وُصُوله إِلَى مَوضِع من الأَرْض لَوْلَا التَّعْلِيق وَلَا يعْدم أَصله وَبِهَذَا فَارق الشَّرْط الْعلَّة فَإِن الحكم يثبت ابْتِدَاء بِوُجُود الْعلَّة فَلَا يكون انعدام الحكم قبل وجود الْعلَّة مُضَافا إِلَى الْعلَّة بِاعْتِبَار أَنَّهَا نفت الحكم قبل وجودهَا بل انْعَدم لِانْعِدَامِ سَببه فَأَما الشَّرْط فمغير للْحكم بعد وجود سَببه فَكَانَ مَانِعا من ثُبُوت الحكم قبل وجوده كَمَا كَانَ مثبتا وجود الحكم عِنْد وجوده وعَلى هَذَا الأَصْل لم يجوز تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْعتاق بِالْملكِ لِأَن تَأْثِير الشُّرُوط فِي منع حكم لولاه كَانَ مَوْجُودا بِسَبَبِهِ وَلَوْلَا التَّعْلِيق هُنَا كَانَ لَغوا وَشرط قيام الْملك فِي الْمحل عِنْد التَّعْلِيق لِأَن السَّبَب لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْملك وتأثير الشَّرْط فِي تَأْخِير الحكم إِلَى وجوده بعد تقرر السَّبَب بِمَنْزِلَة الْأَجَل فَيشْتَرط قيام الْملك فِي الْمحل عِنْد التَّعْلِيق ليتقرر السَّبَب ثمَّ يتَأَخَّر الحكم إِلَى وجود الشَّرْط بِالتَّعْلِيقِ وَلِهَذَا لم يجوز نِكَاح الْأمة لمن قدر على نِكَاح الْحرَّة لِأَن الْحل مُعَلّق بِشَرْط عدم طول الْحرَّة بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يُوجب نفي الحكم عِنْد وجود طول الْحرَّة كَمَا يُوجب إثْبَاته عِنْد عدم طول الْحرَّة
هَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من الْكَلَام فَإِن من يَقُول لغيره إِن دخل عَبدِي الدَّار فَأعْتقهُ يفهم مِنْهُ وَلَا تعتقه إِن لم يدْخل الدَّار وَالْعَمَل بالنصوص وَاجِب بمنظومها ومفهومها وَلِهَذَا جوز تَعْجِيل الْكَفَّارَة بعد الْيَمين قبل الْحِنْث لِأَن السَّبَب هُوَ الْيَمين وَلِهَذَا تُضَاف الْكَفَّارَة إِلَيْهَا وَالْأَصْل أَن الْوَاجِبَات تُضَاف إِلَى أَسبَابهَا فَأَما الْحِنْث شَرط يتَعَلَّق وجوب الْأَدَاء بِهِ ويتضح هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين وَالتَّعْلِيق بِالشّرطِ بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل عِنْده فَلَا يمْنَع جَوَاز التَّعْجِيل قبله بِمَنْزِلَة الدّين الْمُؤَجل إِلَّا أَن هَذَا فِي المالي دون البدني لِأَن تَأْثِير التَّعْلِيق بِالشّرطِ فِي تَأْخِير وجوب الْأَدَاء فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة الْوُجُوب ينْفَصل عَن الْأَدَاء من حَيْثُ إِن الْوَاجِب قبل الْأَدَاء مَال مَعْلُوم كَمَا فِي حُقُوق الْعباد فَأَما فِي البدني الْوَاجِب فعل يتَأَدَّى بِهِ فَلَا يتَحَقَّق انْفِصَاله عَن الْأَدَاء وبالتعليق بِالشّرطِ يتَأَخَّر وجوب الْأَدَاء فَيتَأَخَّر تقرر السَّبَب أَيْضا ضَرُورَة لِأَن أَحدهمَا لَا ينْفَصل عَن الآخر
وَنَظِيره من حُقُوق الْعباد الشِّرَاء مَعَ الِاسْتِئْجَار فَإِن بشرَاء الْعين يثبت الْملك وَيتم السَّبَب قبل فعل التَّسْلِيم وبالاستئجار لَا يثبت الْملك فِي الْمَنْفَعَة قبل الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهَا لَا تبقى وَقْتَيْنِ وَلَا يتَصَوَّر تَسْلِيمهَا بعد وجودهَا بل يقْتَرن التَّسْلِيم بالوجود فَإِنَّمَا تصير معقودا عَلَيْهَا مَمْلُوكا بِالْعقدِ عِنْد الِاسْتِيفَاء

(1/261)


فَكَذَلِك فِي حُقُوق الله تَعَالَى يفصل بَين المالي والبدني من هَذَا الْوَجْه أَلا ترى أَن من قَالَ لله عَليّ أَن أَتصدق بدرهم رَأس الشَّهْر فَتصدق بِهِ فِي الْحَال جَازَ لهَذَا الْمَعْنى
وَدَلِيلنَا على أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَا يُوجب نفي الحكم قبله من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة} الْآيَة وَلَا خلاف أَنه يلْزمهَا الْحَد الْمَذْكُور جَزَاء على الْفَاحِشَة وَإِن لم تحصن وَقَالَ تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} وَحكم الْكِتَابَة لَا يَنْتَفِي قبل هَذَا الشَّرْط
ثمَّ حَقِيقَة الْكَلَام تبتنى على معرفَة عمل الشَّرْط فَنَقُول التَّعْلِيق بِالشّرطِ تصرف فِي أصل الْعلَّة لَا فِي حكمهَا من حَيْثُ إِنَّه يتَبَيَّن بِالتَّعْلِيقِ أَن الْمَذْكُور لَيْسَ بِسَبَب قبل وجود الشَّرْط وَلَكِن بِعرْض أَن يصير سَببا عِنْد وجوده فأوان وجود الحكم ابْتِدَاء حَال وجود الشَّرْط بِمَنْزِلَة مَا ذكره الْخصم فِي الْعلَّة إِلَّا أَن فرق مَا بَينهمَا أَن الحكم يُوجد عِنْد وجود الشَّرْط ابْتِدَاء وَلكنه يُضَاف إِلَى الْعلَّة ثبوتا بِهِ وَإِلَى الشَّرْط وجودا عِنْده فَكَمَا أَن قبل وجود الْعلَّة انعدام الحكم أصل غير مُضَاف إِلَى الْعلَّة فَكَذَلِك قبل وجود الشَّرْط
وَبَيَان هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السَّبَب هُوَ الْإِيقَاع وَالْمُعَلّق بِالشّرطِ يَمِين وَهِي غير الْإِيقَاع وينتقض الْيَمين إِذا صَار إيقاعا بِوُجُود الشَّرْط وَالثَّانِي أَن صِحَة الْإِيجَاب بِاعْتِبَار رُكْنه وَمحله أَلا ترى أَن شطر البيع كَمَا لَا يكون سَببا لِانْعِدَامِ تَمام الرُّكْن فَكَذَلِك بيع الْحر لَا يكون سَببا لِأَنَّهُ غير مُضَاف إِلَى مَحَله فَكَذَلِك فِي الطَّلَاق وَالْعتاق شطر الْكَلَام الَّذِي هُوَ إِيجَاب (كَمَا لَا يكون سَببا فَالْكَلَام الَّذِي هُوَ إِيجَاب) مَا لم يتَّصل بِالْمحل لَا يكون سَببا وَالتَّعْلِيق بِالشّرطِ يمْنَع وُصُوله إِلَى الْمحل بالِاتِّفَاقِ وَلكنه بِعرْض أَن يتَّصل بِالْمحل إِذا وجد الشَّرْط كَمَا أَن شَرط البيع بِعرْض أَن يصير سَببا إِذا وجد الشّطْر الثَّانِي
وَكَذَلِكَ شطر النّصاب لَيْسَ بِسَبَب لِلزَّكَاةِ بِمَنْزِلَة النّصاب الْكَامِل فِي ملك من لَيْسَ بِأَهْل لوُجُوب الزَّكَاة عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَافِر وَلَكِن بِعرْض أَن يصير سَببا
وَنَظِيره من الحسيات الرَّمْي فَإِن نَفسه لَيْسَ بقتل وَلكنه بِعرْض أَن يصير قتلا إِذا اتَّصل بِالْمحل وَإِذا كَانَ هُنَاكَ مجن منع وُصُوله إِلَى الْمحل فأحد لَا يَقُول بِأَن الْمِجَن مَانع لما هُوَ قتل وَلَكِن لما كَانَ يصير قتلا لَو اتَّصل بِالْمحل عِنْد

(1/262)


عدم الْمِجَن فَكَذَلِك التَّعْلِيق بِالشّرطِ فِي الحكميات
وَبِهَذَا تبين أَنه وهم حَيْثُ جعل التَّعْلِيق كالتأجيل فَإِن التَّأْجِيل لَا يمْنَع وُصُول السَّبَب بِالْمحل لِأَن سَبَب وجوب التَّسْلِيم فِي الدّين وَالْعين جَمِيعًا العقد وَمحل الدّين الذِّمَّة والتأجيل لَا يمْنَع ثُبُوت الدّين فِي الذِّمَّة وَلَا ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع وَإِنَّمَا يُؤَخر الْمُطَالبَة وَهُوَ مُحْتَمل السُّقُوط فَيسْقط الْأَجَل بالتعجيل ويتحقق أَدَاء الْوَاجِب وَهنا التَّعْلِيق يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَقبل الْوُصُول (إِلَى الْمحل) لَا يتم السَّبَب وَلَا يتَصَوَّر أَدَاء الْوَاجِب قبل تَمام السَّبَب وَلِهَذَا لم نجوز التَّكْفِير قبل الْحِنْث لِأَن أدنى دَرَجَات السَّبَب أَن يكون طَرِيقا إِلَى الحكم وَالْيَمِين مَانع من الْحِنْث الَّذِي تعلق بِهِ وجوب الْكَفَّارَة على مَا قَرَّرَهُ فَإِنَّهَا مُوجبَة للبر وَالْبر يفوت بِالْحِنْثِ وَفِي الْحِنْث نقض الْيَمين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها} ويستحيل أَن يُقَال فِي شَيْء إِنَّه سَبَب لحكم لَا يثبت ذَلِك الحكم إِلَّا بعد انتقاضه فَعرفنَا أَنه بِعرْض أَن يصير سَببا عِنْد وجود الشَّرْط فَلهَذَا كَانَ مُضَافا إِلَيْهِ وَقبل أَن يصير سَببا لَا يتَحَقَّق الْأَدَاء وفرقه بَين المالي والبدني بَاطِل فَإِن بعد تَمام السَّبَب الْأَدَاء جَائِز فِي البدني والمالي جَمِيعًا وَإِن تَأَخّر وجوب الْأَدَاء كالمسافر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان وَهَذَا لِأَن الْوَاجِب لله على العَبْد فعل هُوَ عبَادَة فَأَما المَال وَمَنَافع الْبدن فَإِنَّهُ يتَأَدَّى الْوَاجِب بهما فَكَمَا أَن فِي الْبدن مَعَ تملق وجوب الْأَدَاء بِالشّرطِ لَا يكون السَّبَب تَاما فَكَذَلِك فِي المالي بِخِلَاف حُقُوق الْعباد فَإِن الْوَاجِب للعباد مَال لَا فعل لِأَن الْمَقْصُود مَا ينْتَفع مِنْهُ العَبْد أَو ينْدَفع عَنهُ الخسران بِهِ وَذَلِكَ بِالْمَالِ دون الْفِعْل وَلِهَذَا إِذا ظفر بِجِنْس حَقه فاستوفى تمّ الِاسْتِيفَاء وَإِن لم يُوجد فعل هُوَ أَدَاء مِمَّن عَلَيْهِ
فَأَما حُقُوق الله تَعَالَى وَاجِبَة بطرِيق الْعِبَادَة وَنَفس المَال لَيْسَ بِعبَادة إِنَّمَا الْعِبَادَة اسْم لعمل يباشره العَبْد بِخِلَاف هوى النَّفس لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى وَفِي هَذَا المالي والبدني سَوَاء وَهَذَا التَّعْلِيق لَا يشبه بتعليق الْقنْدِيل بالحبل لِأَن الْقنْدِيل كَانَ مَوْجُودا بِذَاتِهِ قبل التَّعْلِيق فَعرفنَا أَن عمل التَّعْلِيق فِي تَفْرِيغ الْمَكَان الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِهِ من الأَرْض قبل التَّعْلِيق وَهنا قبل التَّعْلِيق مَا كَانَ الحكم مَوْجُودا فَكَانَ تَأْثِير التَّعْلِيق فِي تَأْخِير السَّبَبِيَّة للْحكم إِلَى وجود

(1/263)


الشَّرْط وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْإِعْتَاق بِالْملكِ لِأَن الْمُتَعَلّق قبل وجود الشَّرْط يَمِين وَمحل الِالْتِزَام بِالْيَمِينِ الذِّمَّة فَأَما الْملك فِي الْمحل إِنَّمَا يشْتَرط لإِيجَاب الطَّلَاق وَالْإِعْتَاق وَهَذَا الْكَلَام للْحَال لَيْسَ بِإِيجَاب وَلكنه بِعرْض أَن يصير إِيجَابا فَإِن تَيَقنا بِوُجُود الْملك فِي الْمحل حِين يصير إِيجَابا بوصوله إِلَى الْمحل صححنا التَّعْلِيق بِاعْتِبَارِهِ وَإِن لم نتيقن بذلك بِأَن كَانَ الشَّرْط مِمَّا لَا أثر لَهُ فِي إِثْبَات الْملك فِي الْمحل شرطنا الْملك فِي الْحَال ليصير كَلَامه إِيجَابا عِنْد وجود الشَّرْط بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَهُوَ أَن مَا علم ثُبُوته فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ وَلَكِن بِهَذَا الظَّاهِر دون الْملك الَّذِي يتَيَقَّن بِهِ عِنْد وجود الشَّرْط فصحة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار ذَلِك النَّوْع دَلِيل على صِحَة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار هَذَا الْملك بطرِيق أولى وَلَيْسَ التَّعْلِيق كاشتراط الْخِيَار فِي البيع فَإِن ذَلِك لَا يدْخل على أصل السَّبَب لِأَن البيع لَا يحْتَمل الْحَظْر وَفِي جعله مُتَعَلقا بِشَرْط لَا نَدْرِي أَن يكون أَو لَا يكون حظر تَامّ وَلِهَذَا كَانَ الْقيَاس أَن لَا يجوز البيع مَعَ خِيَار الشَّرْط وَلَكِن السّنة جوزت ذَلِك لحَاجَة النَّاس بِاعْتِبَار أَن الْخِيَار دخل على الحكم دون السَّبَب فَإِن الحكم يحْتَمل التَّأْخِير عَن السَّبَب فَجعل الحكم مُتَعَلقا بِشَرْط إِسْقَاط الْخِيَار مَعَ ثُبُوت السَّبَب لِأَن السَّبَب مُحْتَمل للْفَسْخ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ دفع الضَّرَر يحصل بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ أقل غررا فَأَما الطَّلَاق وَالْعتاق فَأصل السَّبَب فيهمَا يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِذا وجد التَّعْلِيق نصا يثبت الْحَظْر الْكَامِل فيهمَا بِأَن تعلق صيرورتهما سَببا بِوُجُود الشَّرْط
وَالدَّلِيل على الْفرق من جِهَة الحكم أَنه لَو حلف أَن لَا يَبِيع فَبَاعَ بِشَرْط الْخِيَار حنث فِي يَمِينه
وَلَو حلف أَن لَا يُطلق امْرَأَته فعلق طَلاقهَا بِالشّرطِ لم يَحْنَث مَا لم يُوجد الشَّرْط وعَلى هَذَا جَوَّزنَا نِكَاح الْأمة لمن لَهُ طول الْحرَّة لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَا يُوجب نفي الحكم قبله فَيجْعَل الْحل ثَابتا قبل وجود هَذَا الشَّرْط بِالْآيَاتِ الْمُوجبَة لحل الْإِنَاث للذكور
وَهَكَذَا نقُول فِي قَوْله إِن دخل عَبدِي الدَّار

(1/264)


فَأعْتقهُ فَإِن ذَلِك لَا يُوجب نفي الحكم قبله حَتَّى إِنَّه لَو كَانَ قَالَ أَولا أعتق عَبدِي ثمَّ قَالَ أعْتقهُ إِن دخل الدَّار جَازَ لَهُ أَن يعتقهُ قبل الدُّخُول بِالْأَمر الأول وَلَا يَجْعَل هَذَا الثَّانِي نهيا عَن الأول
(فَإِن قيل لَا خلاف أَن الحكم الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ يثبت عِنْد وجود الشَّرْط وَإِذا كَانَ الحكم ثَابتا هُنَا قبل وجود الشَّرْط فَكيف يتَصَوَّر ثُبُوته عِنْد وجود الشَّرْط إِذْ لَا يجوز أَن يكون الحكم الْوَاحِد ثَابتا فِي الْحَال ومتعلقا بِشَرْط منتظر قُلْنَا حل الْوَطْء لَيْسَ بِثَابِت قبل النِّكَاح وَلكنه مُتَعَلق بِشَرْط النِّكَاح فِي الْآيَات الَّتِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا الشَّرْط الزَّائِد ومتعلق بهَا وَبِهَذَا الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق مَا ادّعى من التضاد فِيمَا هُوَ مَوْجُود فَأَما فِيمَا هُوَ مُتَعَلق فَلَا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الحكم مُتَعَلقا بِشَرْط وَذَلِكَ الحكم بِعَيْنِه مُتَعَلقا بِشَرْط آخر قبله أَو بعده أَلا ترى أَن من قَالَ لعَبْدِهِ إِذا جَاءَ يَوْم الْخَمِيس فَأَنت حر ثمَّ قَالَ إِذا جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة فَأَنت حر كَانَ الثَّانِي صَحِيحا وَإِن كَانَ مَجِيء يَوْم الْجُمُعَة لَا يكون إِلَّا بعد مَجِيء يَوْم الْخَمِيس حَتَّى لَو أخرجه من ملكه فجَاء يَوْم الْخَمِيس ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى ملكه فجَاء يَوْم الْجُمُعَة يعْتق بِاعْتِبَار التَّعْلِيق الثَّانِي)
فَإِن قيل مَعَ هَذَا لَا يجوز أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد كَمَال الشَّرْط لإِثْبَات حكم وَهُوَ بعض الشَّرْط لإِثْبَات ذَلِك الحكم أَيْضا وَمَا قُلْتُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فَإِن عقد النِّكَاح كَمَال الشَّرْط فِي سَائِر الْآيَات سوى قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا} وَهُوَ بعض الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة إِذا قُلْتُمْ بِأَن الحكم يثبت ابْتِدَاء عِنْد وجود هَذَا الشَّرْط
قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز هَذَا بِنَصّ وَاحِد فَأَما بنصين فَهُوَ جَائِز أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر إِن أكلت ثمَّ قَالَ أَنْت حر إِن أكلت وشربت صَحَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَيكون الْأكل كَمَال الشَّرْط بِالتَّعْلِيقِ الأول وَبَعض الشَّرْط فِي التَّعْلِيق الثَّانِي حَتَّى لَو بَاعه فَأكل فِي غير ملكه ثمَّ اشْتَرَاهُ فَشرب فَإِنَّهُ يعْتق لتَمام الشَّرْط فِي التَّعْلِيق الثَّانِي وَهُوَ فِي ملكه
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ زفر رَحمَه الله إِن التَّعْلِيق لَا يبطل بِفَوَات الْمحل حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ طَلقهَا ثَلَاثًا لم يبطل التَّعْلِيق

(1/265)


وَلَو قَالَ لأمته إِن دخلت الدَّار فَأَنت حرَّة ثمَّ أعْتقهَا لم يبطل التَّعْلِيق حَتَّى إِذا ارْتَدَّت وَلَحِقت بدار الْحَرْب فسبيت وملكها ثمَّ دخلت الدَّار عتقت قَالَ لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل والمتعلق بِالشّرطِ لَا يكون طَلَاقا وَلَا سَببا للطَّلَاق قبل وجود الشَّرْط وَاشْتِرَاط الْمَحَلِّيَّة لتَمام السَّبَب وَثُبُوت الحكم عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْملك فَكَمَا لَا يبطل التَّعْلِيق بعد صِحَّته بانعدام الْملك فِي الْمحل بِأَن بَاعَ العَبْد أَو أبان الْمَرْأَة وَانْقَضَت عدتهَا فَكَذَلِك لَا يبطل بانعدام الْمَحَلِّيَّة وَهَذَا لِأَن توهم الْمَحَلِّيَّة عِنْد وجود الشَّرْط قَائِم كتوهم الْملك وَإِذا كَانَ يَصح ابْتِدَاء التَّعْلِيق بِاعْتِبَار توهم الْملك عِنْد وجود الشَّرْط فِي هَذِه الْيَمين لِأَن الْملك الْمَوْجُود عِنْد التَّعْلِيق متوهم الْبَقَاء عِنْد وجود الشَّرْط لَا مُتَيَقن الْبَقَاء فَلِأَن يبْقى التَّعْلِيق صَحِيحا بِاعْتِبَار هَذَا التَّوَهُّم كَانَ أولى أَلا ترى أَن التَّعْلِيق بِالْملكِ يبْقى بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى حَتَّى إِذا قَالَ لأجنبية كلما تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا فَتَزَوجهَا وَطلقت ثَلَاثًا ثمَّ تزَوجهَا ثَانِيًا بعد زوج تطلق أَيْضا
وَلَكنَّا نقُول بانعدام الْمحل يبطل التَّعْلِيق لِأَن صِحَة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار الْمَحْلُوف بِهِ وَهُوَ مَا يصير طَلَاقا عِنْد وجود الشَّرْط وَلَا تصور لذَلِك بِدُونِ الْمحل وبالتطليقات الثَّلَاث تحقق فَوَات الْمحل لِأَن الحكم الْأَصْلِيّ للطَّلَاق زَوَال صفة الْحل عَن الْمحل وَلَا تصور لذَلِك بعد حُرْمَة الْمحل بالتطليقات الثَّلَاث فلانعدام الْمَحْلُوف بِهِ من هَذَا الْوَجْه يبطل التَّعْلِيق لَا لِأَن الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ تَطْلِيقَات ذَلِك الْملك
وَتَحْقِيق هَذَا أَنه لَا بُد لصِحَّة التَّعْلِيق من الْمحل (أَيْضا) حَتَّى لَا يَصح التَّعْلِيق بِالْعِتْقِ مُضَافا إِلَى الْبَهِيمَة إِلَّا أَن قيام الْملك فِي الْمحل لَا يشْتَرط لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَيْسَ هُوَ الطَّلَاق الْمَمْلُوك وَإِذا كَانَت صِحَة التَّعْلِيق تستدعي الْمحل لم يبْق صَحِيحا بعد فَوَات الْمحل لِأَن فِيمَا يرجع إِلَى الْمحل الْبَقَاء بِمَنْزِلَة الِابْتِدَاء وتوهم الْمَحَلِّيَّة على الْوَجْه الَّذِي قَالَ لَا يعْتَبر لصِحَّة التَّعْلِيق فِي الِابْتِدَاء فَإِنَّهُ لَو قَالَ لأجنبية إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق أَو قَالَ ذَلِك للمطلقة ثَلَاثًا لم يَصح التَّعْلِيق وَإِن كَانَ يتَوَهَّم الْملك والمحلية عِنْد وجود الشَّرْط فَإِذا لم يعْتَبر ذَلِك لصِحَّة التَّعْلِيق فِي الِابْتِدَاء لَا يعْتَبر لبَقَائه صَحِيحا بِخِلَاف مَا إِذا صرح بِالْإِضَافَة إِلَى الْملك فَإِن اعْتِبَار ذَلِك التَّعْلِيق بالتيقن بِالْملكِ والمحلية عِنْد

(1/266)


وجود الشَّرْط
يُوضحهُ أَن الْمُتَعَلّق وَإِن لم تكن التطليقات الْمَمْلُوكَة لَهُ وَلَكِن فِي التَّعْلِيق شُبْهَة ذَلِك على معنى أَنه مَا صَحَّ إِلَّا بِاعْتِبَارِهِ بِمَنْزِلَة الْغَصْب فَإِن مُوجبه رد الْعين وَلَكِن فِيهِ شُبْهَة وجوب ضَمَان الْقيمَة بِهِ وَقد اعْتبرنَا الشُّبْهَة حَتَّى أثبتنا الْملك عِنْد تقرر الضَّمَان من وَقت الْغَصْب فَهُنَا أَيْضا لَا بُد من اعْتِبَار هَذِه الشُّبْهَة وَبَعْدَمَا أوقع الثَّلَاث قد ذهبت التطليقات الْمَمْلُوكَة كلهَا فَلهَذَا لَا يبْقى التَّعْلِيق
وَمن هَذِه الْجُمْلَة مَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد سَوَاء كَانَ فِي حَادِثَة وَاحِدَة أَو فِي حادثتين لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون مُطلقًا ومقيدا وَالْمُطلق سَاكِت والمقيد نَاطِق فَكَانَ هُوَ أولى بِأَن يَجْعَل أصلا وَيَبْنِي الْمُطلق عَلَيْهِ فَيثبت الحكم مُقَيّدا بهما كَمَا فِي نُصُوص الزَّكَاة فَإِن الْمُطلق عَن صفة السّوم مَحْمُول على الْمُقَيد بِصفة السّوم فِي حكم الزَّكَاة بالِاتِّفَاقِ
وَكَذَلِكَ نُصُوص الشَّهَادَة فَإِن الْمُطلق عَن صفة الْعَدَالَة مَحْمُول على الْمُقَيد بهَا فِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَات كلهَا وَكَذَلِكَ نُصُوص الْهَدَايَا فَإِن الْمُطلق عَن التَّبْلِيغ وَهُوَ هدي الْمُتْعَة وَالْقرَان مَحْمُول على الْمُقَيد بالتبليغ وَهُوَ جَزَاء الصَّيْد يَعْنِي قَوْله {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} حَتَّى يجب التَّبْلِيغ فِي الْهَدَايَا كلهَا
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي حادثتين لِأَن التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ بِمَنْزِلَة التَّعْلِيق بِالشّرطِ على مَا قَررنَا وكما أوجب نفي الحكم فِيهِ قبل وجود الشَّرْط أوجب فِي نَظِيره اسْتِدْلَالا بِهِ وَلِهَذَا شَرط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار اسْتِدْلَالا بكفارة الْقَتْل لِأَن الْكل كَفَّارَة بالتحرير فَيكون بَعْضهَا نَظِير بعض بِمَنْزِلَة الطَّهَارَة فَإِن تَقْيِيد الْأَيْدِي بالمرافق فِي الْوضُوء جعل تقييدا فِي نَظِيره وَهُوَ التَّيَمُّم لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَهَارَة وَهَذَا بِخِلَاف مقادير الْكَفَّارَات والعبادات من الصَّلَوَات وَغَيرهَا لِأَن ثُبُوتهَا بالنصوص باسم الْعلم لَا بِالصّفةِ الَّتِي تجْرِي مجْرى الشَّرْط وَقد بَينا أَن اسْم الْعلم لَا يُوجب نفي الحكم قبل وجوده فِي الْمُسَمّى بِهِ فَكيف يُوجب ذَلِك فِي غَيره وَلَا يلْزَمنِي على هَذَا التَّتَابُع فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين فَإِنِّي لَا أوجبه اسْتِدْلَالا بالمقيد بالتتابع فِي صَوْم الظِّهَار وَالْقَتْل لِأَن هَذَا الْمُطلق يُعَارض فِيهِ نَظَائِره من النُّصُوص فَمِنْهَا مُقَيّد بِصفة التَّتَابُع وَمِنْهَا مُقَيّد بِصفة التَّفَرُّق يَعْنِي صَوْم الْمُتْعَة قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} حَتَّى لَو لم يفرق الصَّوْم فِيهَا لم يجز فَلَا يكون حملهَا على أَحدهمَا بِأولى من الآخر وَلأَجل هَذَا التَّعَارُض أثبتنا فِيهَا حكم الْإِطْلَاق
بِالصَّوْمِ الْمُقَيد بالتتابع فِي بَاب الْكَفَّارَات فَذَلِك يلزمكم اشْتِرَاط صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين اعْتِبَارا بنظيرها فِي كَفَّارَة الْقَتْل
وَعِنْدنَا هَذَا أبعد من الأول لِأَن الْعلَّة وَاحِدَة هُنَاكَ وَالْحكم مُخْتَلف وَهنا الحكم وَالْعلَّة جَمِيعًا مُخْتَلف فَكيف يُمكن تعرف حكم من حكم آخر أَو تعرف عِلّة من عِلّة أُخْرَى ثمَّ الدَّلِيل لنا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {لَا تسألوا} ثمَّ هَذَا يلزمكم فَإِنَّكُم أثبتم صفة التَّتَابُع

(1/267)


فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين اعْتِبَارا {عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} وَفِي الرُّجُوع إِلَى الْمُقَيد ليعرف مِنْهُ حكم الْمُطلق إقدام على هَذَا الْمنْهِي عَنهُ لما فِيهِ من ترك الْإِبْهَام فِيمَا أبهم الله تَعَالَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أبهموا مَا أبهم الله وَاتبعُوا مَا بَين
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أم الْمَرْأَة مُبْهمَة فأبهموها
وَإِنَّمَا أَرَادَ قَوْله {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} فَإِن حرمتهَا مُطلقَة وَحُرْمَة الربيبة مُقَيّدَة بقوله تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} وَهَذَا غير مَذْكُور على وَجه الشَّرْط بل على وَجه الزِّيَادَة فِي تَعْرِيف النِّسَاء فَإِن النِّسَاء الْمَذْكُورَة فِي قَوْله {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} معرف بِالْإِضَافَة إِلَيْنَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} زِيَادَة تَعْرِيف أَيْضا بِمَنْزِلَة قَول الرجل عبد امْرَأَتي وَعبد امْرَأَتي الْبَيْضَاء فَلَا يكون ذَلِك فِي معنى الشَّرْط حَتَّى يكون دَلِيلا على نفي الحكم قبل وجوده كَمَا توهمه الْخصم
وَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَة الْقَتْل ذكر صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة لتعريف الرَّقَبَة الْمَشْرُوعَة كَفَّارَة لَا على وَجه الشَّرْط
وَإِنَّمَا لَا يجزىء الْكَافِر لِأَنَّهَا غير مَشْرُوعَة لَا لِانْعِدَامِ شَرط الْجَوَاز فِيمَا هُوَ مَشْرُوع كَمَا لَا تجزىء إِرَاقَة الدَّم وتحرير نصف الرَّقَبَة لِأَن الْكَفَّارَة مَا عرفت إِلَّا شرعا فَمَا لَيْسَ بمشروع لَا يحصل بِهِ التَّكْفِير وَفِي الْموضع الَّذِي هُوَ مَشْرُوع يحصل بِهِ التَّكْفِير وَلَا شكّ أَن انعدام كَونه مَشْرُوعا فِي مَوضِع لَا يُوجب نفي كَونه مَشْرُوعا فِي مَوضِع آخر وَلَو كَانَ مُوجبا لذَلِك لم يجز الْعَمَل بِهِ مَعَ النَّص الْمُطلق الَّذِي هُوَ دَلِيل كَونه مَشْرُوعا
وَبِهَذَا تبين أَن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ قولا بتناقض الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَو ترك الْعَمَل بِبَعْضِهَا
ثمَّ للمطلق حكم وَهُوَ الْإِطْلَاق فَإِن للإطلاق معنى مَعْلُوما وَله حكم مَعْلُوم وللمقيد كَذَلِك فَكَمَا لَا يجوز حمل الْمُقَيد على الْمُطلق لإِثْبَات حكم الْإِطْلَاق فِيهِ لَا يجوز حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لإِثْبَات حكم التَّقْيِيد فِيهِ وَلَئِن سلمنَا

(1/268)


أَن الْقَيْد الْمَذْكُور بِمَنْزِلَة الشَّرْط وَأَنه يُوجب نفي الحكم قبله فِيهِ فَلَا يُوجب ذَلِك فِي غَيره مَا لم تثبت الْمُمَاثلَة (بَينهمَا وَلَا مماثلة) فِي الْمَعْنى بَين أم الْمَرْأَة وابنتها لِأَن أم الْمَرْأَة تبرز إِلَى زوج ابْنَتهَا قبل الزفاف عَادَة والربيبة تمنع من ذَلِك بعد الزفاف فضلا عَمَّا قبله
وَكَذَلِكَ لَا مماثلة بَين سَبَب كَفَّارَة الْقَتْل وَبَين سَائِر أَسبَاب الْكَفَّارَة فَإِن الْقَتْل بِغَيْر حق لَا يكون فِي معنى الْجِنَايَة كالظهار أَو الْيَمين وَلَا مماثلة فِي الحكم أَيْضا فالرقبة عين فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَلَا مدْخل للإطعام فِيهَا وَالصَّوْم مُقَدّر بشهرين مُتَتَابعين وَفِي الظِّهَار للإطعام مدْخل عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم وَفِي الْيَمين يتَخَيَّر بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء وَيَكْفِي إطْعَام عشرَة مَسَاكِين وَعند الْعَجز يتَأَدَّى بِصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فَمَعَ انعدام الْمُمَاثلَة فِي السَّبَب وَالْحكم كَيفَ يَجْعَل مَا يدل على نفي الحكم فِي كَفَّارَة الْقَتْل دَلِيلا على النَّفْي فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار وَإِذا كَانَ هُوَ لَا يعْتَبر الصَّوْم فِي كَفَّارَة الْيَمين بِالصَّوْمِ فِي سَائِر الْكَفَّارَات فِي صفة التَّتَابُع لِانْعِدَامِ الْمُمَاثلَة فَكيف يَسْتَقِيم مِنْهُ اعْتِبَار الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين بِالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَمَا ذكره من الْعذر بَاطِل فالمطلق فِي كَفَّارَة إِنَّمَا يحمل على الْمُقَيد فِي الْكَفَّارَة أَيْضا وَلَيْسَ فِي صَوْم الْكَفَّارَة مُقَيّد بالتفرق فَإِن صَوْم الْمُتْعَة لَيْسَ بكفارة بل هُوَ نسك بِمَنْزِلَة إِرَاقَة الدَّم الَّذِي كَانَ الصَّوْم خلفا عَنهُ ثمَّ هُوَ غير مُقَيّد بالتفرق فَإِنَّهُ وَإِن فرقه قبل الرُّجُوع لَا يجوز وَلكنه مُضَاف إِلَى وَقت بِحرف إِذا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} والمضاف إِلَى وَقت لَا يجوز قبل ذَلِك الْوَقْت كَصَوْم رَمَضَان قبل شُهُود الشَّهْر وَصَلَاة الظّهْر قبل زَوَال الشَّمْس
وَعِنْدنَا شَرط التَّتَابُع فِيهِ لَيْسَ بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد بل بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ (فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) وقراءته لَا تكون دون خبر يرويهِ وَقد كَانَ مَشْهُور إِلَى عهد أبي حنيفَة رَحمَه الله وبالخبر الْمَشْهُور تثبت الزِّيَادَة على النَّص على مَا نبينه
فَإِن قيل لماذا لم تجْعَلُوا قِرَاءَته كنص آخر ثمَّ عملتم بهما جَمِيعًا كَمَا فَعلْتُمْ فِي صَدَقَة الْفطر حَيْثُ أوجبتم الصَّدَقَة عَن العَبْد الْكَافِر بِالنَّصِّ الْمُطلق وَعَن العَبْد الْمُسلم بِالنَّصِّ الْمُقَيد قُلْنَا لِأَن الحكم هُنَا وَاحِد وَهُوَ تأدي الْكَفَّارَة بِالصَّوْمِ فبعدما صَار مُقَيّدا

(1/269)


بِنَصّ لَا يبْقى ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا
فَأَما فِي صَدَقَة الْفطر النصان فِي بَيَان السَّبَب دون الحكم وَأحد السببين لَا يَنْفِي السَّبَب الآخر فَيجوز أَن يكون ملك العَبْد الْمُطلق سَببا لوُجُوب صَدَقَة الْفطر بِأحد النصين وَملك العَبْد الْمُسلم سَببا بِالنَّصِّ الآخر
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله يجوز التَّيَمُّم بِكُل مَا هُوَ من جنس الأَرْض بِاعْتِبَار النَّص الْمُطلق وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وبالتراب بِاعْتِبَار النَّص الْمُقَيد وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التُّرَاب طهُور الْمُسلم لِأَن الْمحل مُخْتَلف وَإِن كَانَ الحكم وَاحِدًا فيستقيم إِثْبَات الْمَحَلِّيَّة بِاعْتِبَار كل نَص فِي شَيْء آخر فَأَما التَّيَمُّم إِلَى الْمرَافِق فَلم نشترطه بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد إِذْ لَو جَازَ ذَلِك لَكَانَ الأولى إِثْبَات التَّيَمُّم فِي الرَّأْس وَالرجل اعْتِبَارا بِالْوضُوءِ وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك بِنَصّ فِيهِ وَهُوَ حَدِيث الأسلع أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه التَّيَمُّم ضربتين ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين وَهُوَ مَشْهُور يثبت بِمثلِهِ التَّقْيِيد فَإِذا صَار مُقَيّدا لَا يبْقى ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا
فَأَما صفة السَّائِمَة فِي الزَّكَاة فَهُوَ ثَابت بِالنَّصِّ الْمُقَيد وَإِنَّمَا لَا نوجب الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة لنَصّ مُوجب للنَّفْي وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا زَكَاة فِي العوامل لَا بِاعْتِبَار حمل الْمُطلق على الْمُقَيد
وَاشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَات بِاعْتِبَار وجوب التَّوَقُّف (وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} أَي توقفوا) فِي خبر الْفَاسِق بِالنَّصِّ وَبِاعْتِبَار قَوْله تَعَالَى {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} وَالْفَاسِق لَا يكون مرضيا لَا بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد
وَاشْتِرَاط التَّبْلِيغ فِي الْهَدَايَا بِاعْتِبَار النَّص الْوَارِد فِيهِ وَهُوَ أَن الله تَعَالَى بعد ذكر الْهَدَايَا قَالَ {ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} أَو بِمُقْتَضى اسْم الْهَدْي فَإِنَّهُ اسْم لما يهدي إِلَى مَوضِع
وبمجرد اسْم الْكَفَّارَة لَا تثبت الْمُمَاثلَة بَين وَاجِبَات مُتَفَاوِتَة فِي أَنْفسهَا ليتعرف حكم بَعْضهَا من بعض كَمَا لَا تثبت الْمُمَاثلَة بَين الصَّلَوَات فِي مِقْدَار الرَّكْعَات والشرائط نَحْو الْخطْبَة وَالْجَمَاعَة فِي صَلَاة الْجُمُعَة حَتَّى يعْتَبر بَعْضهَا بِبَعْض وَإِن جمعهَا اسْم الصَّلَاة
وَصَارَ حَاصِل الْكَلَام أَن النَّفْي ضد الْإِثْبَات فالنص الْمُوجب لإِثْبَات حكم لَا يُوجب ضد ذَلِك الحكم بعبارته

(1/270)


وَلَا بإشارته وَلَا بدلالته وَلَا بِمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من جملَة مَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ حَتَّى يكون مقتضيا إِيَّاه فإثبات النَّفْي بِهِ بعد هَذَا لَا يكون إِلَّا إِثْبَات الحكم بِلَا دَلِيل والاحتجاج بِلَا حجَّة وَذَلِكَ بَاطِل على مَا نثبته فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَنحن إِذا قُلْنَا يثبت بالمطلق حكم الْإِطْلَاق وبالمقيد حكم التَّقْيِيد فقد عَملنَا بِكُل دَلِيل بِحَسب الْإِمْكَان والتفاوت بَين الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَبَين الْعَمَل بِلَا دَلِيل لَا يخفى على كل متأمل
وَمن هَذَا الْجِنْس مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي النَّهْي عَن ضِدّه وَالنَّهْي عَن الشَّيْء يكون أمرا بضده وَقد بَينا فَسَاد هَذَا الْكَلَام فِيمَا سبق
وَمن هَذِه الْجُمْلَة قَول بعض الْعلمَاء إِن الْعَام يخْتَص بِسَبَبِهِ وَعِنْدنَا هَذَا على أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَن يكون السَّبَب مَنْقُولًا مَعَ الحكم نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَهَا فَسجدَ وَأَن ماعزا زنى فرجم وَنَحْو قَوْله تَعَالَى {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} وَهَذَا يُوجب تَخْصِيص الحكم بِالسَّبَبِ الْمَنْقُول لِأَنَّهُ لما نقل مَعَه فَذَلِك تنصيص على أَنه بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم الْمَنْصُوص وكما لَا يثبت الحكم بِدُونِ علية لَا يبْقى بِدُونِ الْعلَّة مُضَافا إِلَيْهَا بل الْبَقَاء بِدُونِهَا يكون مُضَافا إِلَى عِلّة أُخْرَى
وَالثَّانِي أَن لَا يكون السَّبَب مَنْقُولًا وَلَكِن الْمَذْكُور مِمَّا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَا يكون مفهوما بِدُونِ السَّبَب الْمَعْلُوم بِهِ فَهَذَا يتَقَيَّد بِهِ أَيْضا نَحْو قَول الرجل أَلَيْسَ لي عنْدك كَذَا فَيَقُول بلَى أَو يَقُول أَكَانَ من الْأَمر كَذَا فَيَقُول نعم أَو أجل
فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ لَا تستقل بِنَفسِهَا مفهومة الْمَعْنى فتتقيد بالسؤال الْمَذْكُور الَّذِي كَانَ سَببا لهَذَا الْجَواب حَتَّى جعل إِقْرَارا بذلك وَبِاعْتِبَار أصل اللُّغَة بلَى مَوْضُوع للجواب عَن صِيغَة نفي فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَنعم جَوَاب لما هُوَ مَحْض الِاسْتِفْهَام قَالَ تَعَالَى {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} وَأجل تصلح لَهما
وَقد تسْتَعْمل بلَى وَنعم فِي جَوَاب مَا لَيْسَ باستفهام على أَن يقدر فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام أَو يكون مستعارا عَنهُ
هَذَا مَذْهَب أهل اللُّغَة

(1/271)


فَأَما مُحَمَّد رَحمَه الله فقد ذكر فِي كتاب الْإِقْرَار مسَائِل بناها على هَذِه الْكَلِمَات من غير اسْتِفْهَام فِي السُّؤَال أَو احْتِمَال اسْتِفْهَام وَجعلهَا إِقْرَارا صَحِيحا بطرِيق الْجَواب وَكَأَنَّهُ ترك اعْتِبَار حَقِيقَة اللُّغَة فِيهَا لعرف الِاسْتِعْمَال
وَالثَّالِث أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ مَفْهُوم الْمَعْنى وَلكنه خرج جَوَابا للسؤال وَهُوَ غير زَائِد على مِقْدَار الْجَواب فَبِهَذَا يتَقَيَّد بِمَا سبق وَيصير مَا ذكر فِي السُّؤَال كالمعاد فِي الْجَواب لِأَنَّهُ بِنَاء عَلَيْهِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ لغيره تعال تغد معي فَقَالَ إِن تغديت فَعَبْدي حر فَهَذَا يخْتَص بذلك الْغَدَاء وَلَو قَالَت لَهُ امْرَأَته إِنَّك تَغْتَسِل فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة من جَنَابَة فَقَالَ إِن اغْتَسَلت فَعَبْدي حر فَإِنَّهُ يخْتَص بذلك الِاغْتِسَال الْمَذْكُور فِي السُّؤَال
وَالرَّابِع أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ زَائِدا على مَا يتم بِهِ الْجَواب بِأَن يَقُول إِن تغديت الْيَوْم أَو إِن اغْتَسَلت اللَّيْلَة فموضع الْخلاف هَذَا الْفَصْل
فعندنا لَا يخْتَص مثل هَذَا الْعَام بِسَبَبِهِ لِأَن فِي تَخْصِيصه بِهِ إِلْغَاء الزِّيَادَة وَفِي جعله نصا مُبْتَدأ اعْتِبَار الزِّيَادَة الَّتِي تكلم بهَا وإلغاء الْحَال وَالْعَمَل بالْكلَام لَا بِالْحَال فإعمال كَلَامه مَعَ إِلْغَاء الْحَال أولى من إِلْغَاء بعض كَلَامه وَفِيمَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ قيدناه بِالسَّبَبِ بِاعْتِبَار أَن الْكل صَار بِمَنْزِلَة الْمَذْكُور وبمنزلة كَلَام وَاحِد فَلَا يجوز إِعْمَال بعضه دون الْبَعْض فَفِي هَذَا الْموضع لِأَن لَا يجوز إِعْمَال بعض كَلَامه وإلغاء الْبَعْض كَانَ أولى إِلَّا أَن يَقُول نَوَيْت الْجَواب فَحِينَئِذٍ يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَتجْعَل تِلْكَ الزِّيَادَة للتوكيد
وعَلى قَول بعض الْعلمَاء هَذَا يحمل على الْجَواب أَيْضا بِاعْتِبَار الْحَال فَيكون ذَلِك عملا بالمسكوت وتركا للْعَمَل بِالدَّلِيلِ لِأَن الْحَال مسكوت عَنهُ وَالِاسْتِدْلَال بالمسكوت يكون اسْتِدْلَالا بِلَا دَلِيل فَكيف يجوز بِاعْتِبَارِهِ ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الْمَنْصُوص وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا إِن بَين أهل التَّفْسِير اتِّفَاقًا أَن نزُول آيَة الظِّهَار كَانَ بِسَبَب خَوْلَة ثمَّ لم يخْتَص الحكم بهَا ونزول آيَة الْقَذْف كَانَ بِسَبَب قصَّة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ثمَّ لم يخْتَص بهَا ونزول آيَة اللّعان كَانَ بِسَبَب مَا قَالَ سعد بن عبَادَة ثمَّ لم يخْتَص بِهِ وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة

(1/272)


فَوَجَدَهُمْ يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين فَقَالَ من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم فقد كَانَ سَبَب هَذَا النَّص إسْلَامهمْ إِلَى أجل مَجْهُول ثمَّ لم يخْتَص هَذَا النَّص بذلك السَّبَب
وأمثلة هَذَا كثير فَعرفنَا أَن الْعَام لَا يخْتَص بِسَبَبِهِ
وَمن هَذِه الْجُمْلَة تَخْصِيص الْعَام بغرض الْمُتَكَلّم فَإِن من النَّاس من يَقُول يخْتَص الْكَلَام بِمَا يعلم من غَرَض الْمُتَكَلّم لِأَنَّهُ يظْهر بِكَلَامِهِ غَرَضه فَيجب بِنَاء كَلَامه فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والحقيقة وَالْمجَاز على مَا يعلم من غَرَضه وَيجْعَل ذَلِك الْغَرَض كالمذكور
وعَلى هَذَا قَالُوا الْكَلَام الْمَذْكُور للمدح والذم وَالثنَاء وَالِاسْتِثْنَاء لَا يكون لَهُ عُمُوم لأَنا نعلم أَنه لم يكن غَرَض الْمُتَكَلّم بِهِ الْعُمُوم
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد لِأَنَّهُ ترك مُوجب الصِّيغَة بِمُجَرَّد التشهي وَعمل بالمسكوت فَإِن الْغَرَض مسكوت عَنهُ فَكيف يجوز الْعَمَل بالمسكوت وَترك الْعَمَل بالمنصوص بِاعْتِبَارِهِ وَلَكِن الْعَام يعرف بصيغته فَإِذا وجدت تِلْكَ الصِّيغَة وَأمكن الْعَمَل بحقيقتها يجب الْعَمَل والإمكان قَائِم مَعَ اسْتِعْمَال الصِّيغَة للمدح والذم (فَإِن الْمَدْح الْعَام وَالثنَاء الْعَام من عَادَة أهل اللِّسَان وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء والذم) وَاعْتِبَار الْغَرَض اعْتِبَار نوع احْتِمَال ولأجله لَا يجوز ترك الْعَمَل بِحَقِيقَة الْكَلَام
وَمن ذَلِك مَا قَالَه بعض الْأَحْدَاث من الْفُقَهَاء إِن الْقُرْآن فِي النّظم يُوجب الْمُسَاوَاة فِي الحكم وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} فَإِن هَذِه جمل قرن بَعْضهَا بِبَعْض بِحرف النّظم وَهُوَ الْوَاو وَقَالُوا يَسْتَوِي حكمهَا فِي الْحَج
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} إِن ذَلِك يُوجب سُقُوط الزَّكَاة عَن الصَّبِي لِأَن الْقرَان فِي النّظم دَلِيل الْمُسَاوَاة فِي الحكم فَلَا تجب الزَّكَاة على من لَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد وَهُوَ من جنس الْعَمَل بالمسكوت وَترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ لأَجله فَإِن كلا من الْجمل مَعْلُوم بِنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي وَاو النّظم دَلِيل الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي الحكم إِنَّمَا ذَلِك فِي وَاو الْعَطف وَفرق مَا بَينهمَا أَن وَاو النّظم تدخل بَين جملتين كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تَامَّة بِنَفسِهَا مستغنية عَن خبر الآخر كَقَوْل الرجل جَاءَنِي زيد وَتكلم عَمْرو فَذكر الْوَاو بَينهمَا لحسن النّظم
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {لنبين لكم ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء} وَقَالَ بِهِ

(1/273)


لَا للْعَطْف تَعَالَى {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل} وَأما وَاو الْعَطف فَإِنَّهُ يدْخل بَين جملتين أَحدهمَا نَاقص وَالْآخر تَامّ بِأَن لَا يكون خبر النَّاقِص مَذْكُورا فَلَا يكون مُفِيدا بِنَفسِهِ وَلَا بُد من جعل الْخَبَر الْمَذْكُور للْأولِ خَبرا للثَّانِيَة حَتَّى يصير مُفِيدا كَقَوْل الرجل جَاءَنِي زيد وَعَمْرو فَهَذَا الْوَاو للْعَطْف لِأَنَّهُ لم يذكر لعَمْرو خَبرا وَلَا يُمكن جعل (هَذَا) الْخَبَر الأول خَبرا لَهُ إِلَّا بِأَن يَجْعَل الْوَاو للْعَطْف حَتَّى يصير ذَلِك الْخَبَر كالمعاد لِأَن مُوجب الْعَطف الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر فَمن قَالَ بالْقَوْل الأول فقد ذهب إِلَى التَّسْوِيَة بَين وَاو الْعَطف وواو النّظم بِاعْتِبَار أَن الْوَاو فِي أصل اللُّغَة للْعَطْف وَمُوجب الْعَطف الِاشْتِرَاك وَمُطلق الِاشْتِرَاك يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فَذَلِك دَلِيل على أَن الْقرَان فِي النّظم يُوجب الْمُسَاوَاة فِي الحكم
ثمَّ الأَصْل أَنا نفهم من خطاب صَاحب الشَّرْع مَا يتفاهم من المخاطبات بَيْننَا وَمن يَقُول امْرَأَته طَالِق وَعَبده حر إِن دخل الدَّار فَإِنَّهُ يقْصد الِاشْتِرَاك بَين الْمَذْكُورين فِي التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَذَلِكَ يفهم من كَلَامه حَتَّى يَجْعَل الْكل مُتَعَلقا بِالشّرطِ وَإِن كَانَ كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ تَاما لكَونه مُبْتَدأ وخبرا مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ فَعَلَيهِ يحمل أَيْضا مُطلق كَلَام صَاحب الشَّرْع
وَلَكنَّا نقُول الْمُشَاركَة فِي الْخَبَر عِنْد وَاو الْعَطف لحَاجَة الْجُمْلَة النَّاقِصَة إِلَى الْخَبَر لَا لعين الْوَاو وَهَذِه الْحَاجة تنعدم فِي وَاو النّظم لِأَن كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ تَامّ بِمَا ذكر لَهُ من الْخَبَر فَكَانَ هَذَا الْوَاو ساكتا عَمَّا يُوجب الْمُشَاركَة فإثبات الْمُشَاركَة بِهِ يكون اسْتِدْلَالا بالمسكوت يُوضحهُ أَنه لَو كَانَت الْمُشَاركَة تثبت بِاعْتِبَار هَذَا الْوَاو لثبتت فِي خبر كل جملَة إِذْ لَيْسَ خبر إِحْدَى الجملتين بذلك بِأولى من الآخر وَهَذَا خلاف مَا عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل اللِّسَان فَأَما إِذا قَالَ امْرَأَته طَالِق وَعَبده حر إِن دخل الدَّار فَكل وَاحِد مِنْهُمَا تَامّ فِي نَفسه إيقاعا لَا تَعْلِيقا بِالشّرطِ وَالتَّعْلِيق تصرف سوى الْإِيقَاع فَفِيمَا يرجع إِلَى التَّعْلِيق إِحْدَى الجملتين نَاقِصَة فأثبتنا الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي حكم التَّعْلِيق بواو الْعَطف حَتَّى إِذا لم يذكر الشَّرْط وَكَانَ كَلَامه إيقاعا لم تثبت الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي الْخَبَر وَجعل وَاو النّظم مائَة دِينَار وَلفُلَان ألف دِرْهَم إِلَّا عشرَة يَجْعَل الِاسْتِثْنَاء من آخر الْمَالَيْنِ ذكرا لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج الْكَلَام من أَن يكون إِقْرَارا وَبِاعْتِبَار الْإِقْرَار كل وَاحِد من الجملتين تَامَّة فَيكون الْوَاو للنظم وينصرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّة
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا}

(1/274)


لتحسين الْكَلَام بِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمل كَمَا بَينا وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ إِن هَذَا الْوَاو للنظم حَتَّى ينْصَرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى سمة الْفسق دون مَا تقدمه
وَالشَّافِعِيّ يَجْعَل هَذَا الْوَاو للْعَطْف وَالْوَاو الَّذِي فِي قَوْله {وَلَا تقبلُوا لَهُم} للنظم حَتَّى يكون الِاسْتِثْنَاء منصرفا إِلَيْهِمَا دون الْجلد فَلَا يسْقط الْجلد بِالتَّوْبَةِ
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا فَإِن من حَيْثُ الصِّيغَة معنى الْعَطف يتَحَقَّق فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} وَلَا يتَحَقَّق فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} لِأَن قَول الْقَائِل اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّم يكون عطفا صَحِيحا فَكَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فاجلدوا}
{وَلَا تقبلُوا} لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا خطاب للأئمة فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} لَيْسَ بخطاب للأئمة وَلَكِن إِخْبَار عَن وصف القاذفين فَلَا يصلح مَعْطُوفًا على مَا هُوَ خطاب فجعلناه للنظم وَكَذَلِكَ من حَيْثُ الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} صَالح لِأَن يكون متمما للحد مَعْطُوفًا على الْجلد فَإِن إهدار قَوْله فِي الشَّهَادَات شرعا مؤلم كالجلد وَهَذَا الْأَلَم عِنْد الْعُقَلَاء يزْدَاد على ألم الْجلد فيصلح متمما للحد زاجرا عَن سَببه وَلِهَذَا خُوطِبَ بِهِ الْأَئِمَّة فَإِن إِقَامَة الْحَد إِلَيْهِم فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} فَمَعْنَاه العاصون وَذَلِكَ بَيَان لجريمة الْقَاذِف فَلَا يصلح جَزَاء على الْقَذْف حَتَّى يكون متمما للحد بل الْمَقْصُود بِهِ إِزَالَة إِشْكَال كَانَ يَقع عَسى وَهُوَ أَن الْقَذْف خبر متميل وَرُبمَا يكون حسبَة إِذا كَانَ الرَّامِي صَادِقا وَله أَرْبَعَة من الشُّهُود وَالزَّانِي مصر فَكَانَ يَقع الْإِشْكَال أَنه لما كَانَ سَببا لوُجُوب عُقُوبَة تندرىء بِالشُّبُهَاتِ فأزال الله هَذَا الْإِشْكَال بقوله {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} أَي العاصون بهتك ستر الْعِفَّة من غير فَائِدَة حِين عجزوا عَن إِقَامَة أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} ويتبين بِهَذَا التَّحْقِيق أَن الْعَمَل بِالنَّصِّ كَمَا يُوجِبهُ فِيمَا قُلْنَا فَإنَّا جعلنَا الْعَجز عَن إِقَامَة أَرْبَعَة كَمَا هُوَ مُوجب حرف ثمَّ فَإِنَّهُ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي وَجَعَلنَا الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} للْعَطْف فَكَانَ رد الشَّهَادَة متمما للحد كَمَا هُوَ مُوجب من الشُّهَدَاء

(1/275)


مضموما إِلَى الْقَذْف ليتَحَقَّق بهما السَّبَب الْمُوجب للعقوبة وَاو الْعَطف وَجَعَلنَا الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ} للنظم كَمَا هُوَ مُقْتَضى صِيغَة الْكَلَام
وَالشَّافِعِيّ ترك الْعَمَل بِحرف ثمَّ وَجعل نفس الْقَذْف مُوجبا للحد وَجعل الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} للنظم وَفِي قَوْله {وَأُولَئِكَ} للْعَطْف وكل ذَلِك مُخَالف لمقْتَضى صِيغَة الْكَلَام فَكَانَ الصَّحِيح مَا قُلْنَاهُ
وَمن هَذِه الْجُمْلَة حكم الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَقَوله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} فَإِن من النَّاس من يَقُول حِكْمَة حَقِيقَة الْجَمَاعَة فِي حق كل وَاحِد مِمَّن أضيف إِلَيْهِم وَزَعَمُوا أَن حَقِيقَة الْكَلَام هَذَا فَإِن الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة يكون مُضَافا إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم وَإِذا كَانَت الصِّيغَة الَّتِي بهَا حصلت الْإِضَافَة صِيغَة الْجَمَاعَة وَبهَا يثبت الحكم فِي كل وَاحِد مِنْهُم مَا هُوَ مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة قولا بِحَقِيقَة الْكَلَام أَلا ترى أَن الْإِضَافَة لَو حصلت بِصِيغَة الْفَرد تثبت فِي كل وَاحِد مِنْهُم الحكم الَّذِي هُوَ مُوجب تِلْكَ الصِّيغَة
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد وَهُوَ من جنس القَوْل بالمسكوت وَلَكِن مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة مُقَابلَة الْآحَاد بالآحاد على مَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ لامرأتين لَهُ إِذا ولدتما وَلدين فأنتما طالقان فَولدت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ولدا طلقتا وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ إِذا حضتما حيضتين أَو قَالَ إِذا دخلتما هَاتين الدَّاريْنِ فَدخلت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا دَارا فهما طالقان وَلَا يشْتَرط دُخُول كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي الدَّاريْنِ جَمِيعًا وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمَعْلُوم من مخاطبات النَّاس فَإِن الرجل يَقُول لبس الْقَوْم ثِيَابهمْ وحلقوا رؤوسهم وركبوا دوابهم وَإِنَّمَا يفهم من ذَلِك أَن كل وَاحِد مِنْهُم لبس ثَوْبه وَركب دَابَّته وَحلق رَأسه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر وَإِنَّا نرى أقدامنا فِي نعَالهمْ وآنفنا بَين اللحى والحواجب وَالْمرَاد مَا قُلْنَا وَكتاب الله يشْهد بِهِ قَالَ تَعَالَى {جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ} وَالْمرَاد أَن كل وَاحِد مِنْهُم جعل أُصْبُعه فِي أُذُنه لَا فِي آذان الْجَمَاعَة واستغشى ثَوْبه وَقَالَ تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وَالْمرَاد فِي حق كل وَاحِدَة مِنْهُمَا قَلبهَا وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا}

(1/276)


وَالْمرَاد قطع يَد وَاحِدَة من كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا قطع جَمِيع مَا يُسمى يدا من كل وَاحِد مِنْهُمَا لاتفاقنا على أَن بِالسَّرقَةِ الْوَاحِدَة لَا تقطع إِلَّا يَد وَاحِدَة من السَّارِق وَقد بَينا أَن مُطلق الْكَلَام مَحْمُول على مَا يتفاهمه النَّاس فِي مخاطباتهم فَهُوَ اعْتِبَار الصِّيغَة بِدُونِ الْإِضَافَة وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ الصِّيغَة مَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة وَمَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة مُوجب الصِّيغَة حَقِيقَة لَيْسَ مَا ادعوا بل مُوجبه مَا قُلْنَا لِأَن مَا ادعوا يثبت بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة (وَمَا قُلْنَا لَا يثبت بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة) فَعرفنَا أَن حَقِيقَة الْعَمَل بالمنصوص فِيمَا قُلْنَا وَفِيمَا قَالُوا ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الْمَنْصُوص وَعمل بالمسكوت فَيكون فَاسِدا
هَذَا بَيَان الطَّرِيق فِيمَا هُوَ فَاسد من وُجُوه الْعَمَل بالمنصوص كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض النَّاس وَقد بَينا الطَّرِيق الصَّحِيح من ذَلِك فِي أول الْبَاب فَمن فهم الطَّرِيقَيْنِ يَتَيَسَّر عَلَيْهِ تَمْيِيز الصَّحِيح من الِاسْتِدْلَال بِجَمِيعِ النُّصُوص وَالْفَاسِد وَإِن خَفِي عَلَيْهِ شَيْء فَهُوَ يخرج بِالتَّأَمُّلِ على مَا بَينا من كل طَرِيق وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب بَيَان الْحجَّة الشَّرْعِيَّة وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَّة لُغَة اسْم من قَول الْقَائِل حج أَي غلب وَمِنْه يُقَال لج فحج وَيَقُول الرجل حاججته فحججته أَي ألزمته بِالْحجَّةِ فَصَارَ مَغْلُوبًا ثمَّ سميت الْحجَّة فِي الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ يلْزمنَا حق الله تَعَالَى بهَا على وَجه يَنْقَطِع بهَا الْعذر وَيجوز أَن يكون مأخوذا من معنى الرُّجُوع إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقَائِل يحجون بَيت الزبْرِقَان المزعفرا أَي يرجعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْه حج الْبَيْت فَإِن النَّاس يرجعُونَ إِلَيْهِ معظمين لَهُ قَالَ تَعَالَى {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا} والمثابة الْمرجع فسميت الْحجَّة لوُجُوب الرُّجُوع إِلَيْهَا من حَيْثُ الْعَمَل بهَا شرعا وَيَسْتَوِي إِن الرُّجُوع إِلَيْهَا بِالْعَمَلِ بهَا وَاجِب شرعا فِي الْوَجْهَيْنِ على مَا نبينه فِي بَاب خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالْبَيِّنَة كالحجة فَإِنَّهَا مُشْتَقَّة من الْبَيَان وَهُوَ أَن يظْهر للقلب وَجه الْإِلْزَام بهَا سَوَاء كَانَ ظهورا مُوجبا للْعلم أَو دون ذَلِك لِأَن الْعَمَل يجب فِي الْوَجْهَيْنِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} أَي عَلَامَات ظاهرات كَانَت مُوجبَة

(1/277)


للْعلم قطعا أَو كَانَت مُوجبَة للْعَمَل دون الْعلم قطعا لِأَن
والبرهان كَذَلِك فَإِنَّهُ مُسْتَعْمل اسْتِعْمَال الْحجَّة فِي لِسَان الْفُقَهَاء
وَأما الْآيَة فمعناها لُغَة الْعَلامَة قَالَ الله تَعَالَى {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ الْقَائِل وَغير آيها الْعَصْر ومطلقها فِي الشَّرِيعَة ينْصَرف إِلَى مَا يُوجب الْعلم قطعا وَلِهَذَا سميت معجزات الرُّسُل آيَات قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى تسع آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ تَعَالَى {فاذهبا بِآيَاتِنَا}
فَإِن قيل من النَّاس من جحد رِسَالَة الرُّسُل بعد رُؤْيَة المعجزات وَالْوُقُوف عَلَيْهَا وَلَو كَانَت مُوجبَة للْعلم قطعا لما أنكرها أحد بعد المعاينة قُلْنَا هَذِه الْآيَات لَا توجب الْعلم خَبرا فَإِنَّهَا لَو أوجبت ذَلِك انْعَدم الثَّوَاب وَالْعِقَاب بهَا أصلا وَإِنَّمَا توجب الْعلم بِاعْتِبَار التَّأَمُّل فِيهَا عَن إنصاف لَا عَن تعنت وَمَعَ هَذَا التَّأَمُّل يثبت الْعلم بهَا قطعا وَإِنَّمَا جَحدهَا من جَحدهَا للإعراض عَن هَذَا التَّأَمُّل كَمَا ذكر الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} وَفِي قَوْله {لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} وَقد كَانَ فيهم من جحد تعنتا بَعْدَمَا علم يَقِينا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} وَأما الدَّلِيل فَهُوَ فعيل من فَاعل الدّلَالَة بِمَنْزِلَة عليم من عَالم وَمِنْه قَوْلهم يَا دَلِيل المتحيرين أَي هاديهم إِلَى مَا يزِيل الْحيرَة عَنْهُم وَمِنْه سمي دَلِيل الْقَافِلَة أَي هاديهم إِلَى الطَّرِيق فَسُمي باسم فعله وَفِي الشَّرِيعَة هُوَ اسْم لحجة منطق يظْهر بِهِ مَا كَانَ خفِيا فَإِن مَا قدمْنَاهُ يكون مُوجبا تَارَة ومظهرا تَارَة وَالدَّلِيل خَاص لما هُوَ مظهر
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الدُّخان دَلِيل على النَّار وَالْبناء دَلِيل على الْبَانِي عِنْده كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَقَالَ تَعَالَى {فوجدا فِيهَا} وَلَا نطق

(1/278)


هُنَاكَ قُلْنَا إِنَّمَا يُطلق الِاسْم على ذَلِك مجَازًا بِحُصُول معنى الظُّهُور {جدارا يُرِيد أَن ينْقض فأقامه} وَقَالَ الْقَائِل وعظتك أَحْدَاث صمت وكل ذَلِك مجَاز
ثمَّ الدَّلِيل مجَازًا كَانَ أَو حَقِيقَة يكون مظْهرا ظهورا مُوجبا للْعلم بِهِ أَو دون ذَلِك
وَالشَّاهِد كالدليل سَوَاء كَانَ مظْهرا على وَجه يثبت الْعلم بِهِ أَو لَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات على الْحُقُوق فِي مجَالِس الْحُكَّام
قَالَ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ اعْلَم بِأَن الْأُصُول فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة ثَلَاثَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْأَصْل الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس هُوَ الْمَعْنى المستنبط من هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة
وَهِي تَنْقَسِم قسمَيْنِ قسم مُوجب للْعلم قطعا ومجوز غير مُوجب للْعلم وَإِنَّمَا سميناه مجوزا لِأَنَّهُ يجب الْعَمَل بِهِ وَالْأَصْل أَن الْعَمَل بِغَيْر علم لَا يجوز قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فسميناه مجوزا بِاعْتِبَار أَنه يجب الْعَمَل بِهِ وَإِن لم يكن مُوجبا للْعلم قطعا
فَأَما الْمُوجب للْعلم من الْحجَج الشَّرْعِيَّة أَنْوَاع أَرْبَعَة كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المسموع مِنْهُ وَالْمَنْقُول عَنهُ بالتواتر وَالْإِجْمَاع
وَالْأَصْل فِي كل ذَلِك لنا السماع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أسمعنا مَا أُوحِي إِلَيْهِ من الْقُرْآن بقرَاءَته علينا وَالْمَنْقُول عَنهُ بطرِيق متواتر بِمَنْزِلَة المسموع عَنهُ فِي وُقُوع الْعلم بِهِ على مَا نبينه وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع فَإِن إِجْمَاع هَذِه الْأمة إِنَّمَا كَانَت حجَّة مُوجبَة للْعلم بِالسَّمَاعِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى لَا يجمع أمته على الضَّلَالَة وَالسَّمَاع مِنْهُ مُوجب للْعلم لقِيَام الدّلَالَة على أَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام يكون مَعْصُوما عَن الْكَذِب وَالْقَوْل بِالْبَاطِلِ
فَهَذَا بَيَان قَوْلنَا إِن الأَصْل فِي ذَلِك كُله السماع من رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم