أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان الْكتاب وَكَونه حجَّة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكتاب هُوَ الْقُرْآن الْمنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَكْتُوب فِي دفات الْمَصَاحِف الْمَنْقُول إِلَيْنَا على الأحرف السَّبْعَة الْمَشْهُورَة نقلا متواترا لِأَن مَا دون الْمُتَوَاتر لَا يبلغ دَرَجَة العيان وَلَا يثبت بِمثلِهِ الْقُرْآن مُطلقًا وَلِهَذَا قَالَت الْأمة لَو صلى بِكَلِمَات تفرد بهَا ابْن مَسْعُود لم تجز صلَاته لِأَنَّهُ لم يُوجد

(1/279)


فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَبَاب الْقُرْآن بَاب يَقِين وإحاطة فَلَا يثبت بِدُونِ النَّقْل الْمُتَوَاتر كَونه قُرْآنًا وَمَا لم يثبت أَنه قُرْآن فتلاوته فِي الصَّلَاة كتلاوة خبر فَيكون مُفْسِدا للصَّلَاة
فَإِن قيل بِكَوْنِهِ معجزا يثبت أَنه قُرْآن بِدُونِ النَّقْل الْمُتَوَاتر
قُلْنَا لَا خلاف أَن مَا دون الْآيَة غير معجز وَكَذَلِكَ الْآيَة القصيرة وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الصَّلَاة إِلَّا بِقِرَاءَة ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة لِأَن المعجز السُّورَة وأقصر السُّور ثَلَاث آيَات يَعْنِي الْكَوْثَر
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ الْوَاجِب بِالنَّصِّ قِرَاءَة مَا تيَسّر من الْقُرْآن وبالآية القصيرة يحصل ذَلِك فيتأدى فرض الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ يكره الِاكْتِفَاء بذلك وَجَاء فِيمَا ذكرنَا أَن مَا دون الْآيَة وَالْآيَة القصيرة لَيْسَ بمعجز وَهُوَ قُرْآن يثبت بِهِ الْعلم قطعا فَظهر أَن الطَّرِيق فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر مَعَ أَن كَونه معجزا دَلِيل على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يخبر بِهِ وَلَيْسَ بِدَلِيل فِي نَفسه على أَنه كَلَام الله لجَوَاز أَن يقدر الله تَعَالَى رَسُوله على كَلَام يعجز الْبشر عَن مثله كَمَا أقدر عِيسَى على إحْيَاء الْمَوْتَى وعَلى أَن يخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير فينفخ فِيهِ فَيكون طيرا بِإِذن الله
فَعرفنَا أَن الطَّرِيق فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر
وَإِنَّمَا اعْتبرنَا الْإِثْبَات فِي دفات الْمَصَاحِف لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِنَّمَا أثبتوا الْقُرْآن فِي دفات الْمَصَاحِف لتحقيق النَّقْل الْمُتَوَاتر فِيهِ وَلِهَذَا أمروا بتجريد الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف وكرهوا التعاشير وأثبتوا فِي الْمَصَاحِف مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ ثمَّ نقل إِلَيْنَا نقلا متواترا فَثَبت بِهِ الْعلم قطعا وَلما ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق أَنه كَلَام الله تَعَالَى ثَبت أَنه حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا لعلمنا يَقِينا أَن كَلَام الله لَا يكون إِلَّا حَقًا
فَإِن قيل فالتسمية نقلت إِلَيْنَا مَكْتُوبَة فِي الْمَصَاحِف بقلم الْوَحْي لمبدأ الْفَاتِحَة ومبدأ كل سُورَة سوى سُورَة بَرَاءَة ثمَّ لم تجعلوها آيَة من الْفَاتِحَة وَلَا من أول كل سُورَة مَعَ النَّقْل الْمُتَوَاتر من الْوَجْه الَّذِي قررتم قُلْنَا قد ذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَن الصَّحِيح من الْمَذْهَب عندنَا أَن التَّسْمِيَة آيَة منزلَة من الْقُرْآن لَا من أول السُّورَة وَلَا من آخرهَا وَلِهَذَا كتبت للفصل بَين السُّور فِي الْمُصحف بِخَط على حِدة لتَكون

(1/280)


الْكِتَابَة بقلم الْوَحْي دَلِيلا على أَنَّهَا منزلَة للفصل وَالْكِتَابَة بِخَط على حِدة دَلِيلا على أَنَّهَا لَيست من أول السُّورَة وَظَاهر مَا ذكر فِي الْكتاب عُلَمَاؤُنَا يشْهد بِهِ فَإِنَّهُم قَالُوا ثمَّ يفْتَتح الْقِرَاءَة ويخفي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فقد قطعُوا التَّسْمِيَة عَن التَّعَوُّذ وأدخلوها فِي الْقِرَاءَة وَلَكِن قَالُوا لَا يجْهر بهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن الْجَهْر بهَا بِمَنْزِلَة الْفَاتِحَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنَّمَا قَالُوا يخفي بهَا ليعلم أَنَّهَا لَيست بِآيَة من أول الْفَاتِحَة فَإِن الْمُتَعَيّن فِي حق الإِمَام الْجَهْر بِالْفَاتِحَةِ وَالسورَة فِي الْأَوليين وعَلى هَذَا نقُول يكره للْجنب وَالْحَائِض قِرَاءَة التَّسْمِيَة على قصد قِرَاءَة الْقُرْآن لِأَن من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن حُرْمَة الْقِرَاءَة على الْجنب وَالْحَائِض وَلَكِن لَا يتَأَدَّى بهَا فرض الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لاشتباه الْآثَار وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وَأدنى دَرَجَات الِاخْتِلَاف الْمُعْتَبر إيراث الشُّبْهَة بِهِ وَمَا كَانَ فرضا مَقْطُوعًا بِهِ لَا يتَأَدَّى بِمَا فِيهِ شُبْهَة ولسنا نعني الشُّبْهَة فِي كَونهَا من الْقُرْآن بل فِي كَونهَا آيَة تَامَّة فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي أَنَّهَا من الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
فَإِن قيل فقد أثبتم بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات كَونه قُرْآنًا فِي حق الْعَمَل بِهِ وَلم يُوجد فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَلم تثبتوا فِي التَّسْمِيَة مَعَ النَّقْل الْمُتَوَاتر كَونهَا آيَة من الْقُرْآن فِي حكم الْعَمَل وَهُوَ وجوب الْجَهْر بهَا فِي الصَّلَاة وتأدي الْقِرَاءَة بهَا
قُلْنَا نَحن مَا أثبتنا بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود كَون تِلْكَ الزِّيَادَة قُرْآنًا وَإِنَّمَا جعلنَا ذَلِك بِمَنْزِلَة خبر رَوَاهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعلمنا أَنه مَا قَرَأَ بهَا إِلَّا سَمَاعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَبره مَقْبُول فِي وجوب الْعَمَل بِهِ وبمثل هَذَا الطَّرِيق لَا يُمكن إِثْبَات هَذَا الحكم فِي التَّسْمِيَة لِأَن بِرِوَايَة الْخَبَر وَإِن علم صِحَّته لَا يثبت حكم جَوَاز الصَّلَاة وَلِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن وجوب الْجَهْر بهَا على مَا بَينا أَن الْفَاتِحَة لَا يجْهر بهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَمَا كَانَ ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء يتَقَدَّر الحكم فِيهِ بِقدر الضَّرُورَة لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضى
ثمَّ قَالَ كثير من مَشَايِخنَا إِن إعجاز الْقُرْآن فِي النّظم وَفِي الْمَعْنى جَمِيعًا خُصُوصا على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله حَيْثُ قَالَا بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاة لَا يتَأَدَّى فرض الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَنه هُوَ المُرَاد لِأَن الْفَرْض قِرَاءَة المعجز وَذَلِكَ فِي النّظم وَالْمعْنَى جَمِيعًا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَتَّضِح لي أَنه لَيْسَ مُرَادهم من هَذَا أَن

(1/281)


الْمَعْنى بِدُونِ النّظم غير معجز فالأدلة على كَون الْمَعْنى معجزا ظَاهِرَة مِنْهَا أَن المعجز كَلَام الله (وَكَلَام الله تَعَالَى) غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق والألسنة كلهَا محدثة الْعَرَبيَّة والفارسية وَغَيرهمَا فَمن يَقُول الإعجاز لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالنظم فَهُوَ لَا يجد بدا من أَن يَقُول بِأَن المعجز مُحدث وَهَذَا مِمَّا لَا يجوز القَوْل بِهِ وَالثَّانِي أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النَّاس كَافَّة (وَآيَة نبوته الْقُرْآن الَّذِي هُوَ معجز فَلَا بُد من القَوْل بِأَنَّهُ حجَّة لَهُ على النَّاس كَافَّة) وَمَعْلُوم أَن عجز العجمي عَن الْإِتْيَان بِمثل الْقُرْآن بلغَة الْعَرَب لَا يكون حجَّة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعجز أَيْضا عَن الْإِتْيَان بِمثل شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره بلغَة الْعَرَب وَإِنَّمَا يتَحَقَّق عَجزه عَن الْإِتْيَان بِمثل الْقُرْآن بلغته فَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَن معنى الإعجاز فِي الْمَعْنى تَامّ وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاة ولكنهما قَالَا فِي حق من لَا يقدر على الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ الْجَواب هَكَذَا وَهُوَ دَلِيل على أَن الْمَعْنى عِنْدهمَا معجز فَإِن فرض الْقِرَاءَة سَاقِط عَمَّن لَا يقدر على قِرَاءَة المعجز أصلا وَلم يسْقط عَنهُ الْفَرْض أصلا بل يتَأَدَّى بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَما إِذا كَانَ قَادِرًا على الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ لم يتأد الْفَرْض فِي حَقه بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدهمَا لَا لِأَنَّهُ غير معجز وَلَكِن لِأَن مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَف فِي أَدَاء هَذَا الرُّكْن فرض فِي حق من يقدر عَلَيْهِ وَهَذِه الْمُتَابَعَة فِي الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة اعْتبر هَذَا فِي كَرَاهَة الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَما فِي تأدي أصل الرُّكْن بِقِرَاءَة الْقُرْآن فَإِنَّهُ اعْتبر مَا قَرَّرْنَاهُ

فصل فِي بَيَان حد الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار وموجبها
الْمُتَوَاتر مَا اتَّصل بِنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر
مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل تَوَاتَرَتْ الْكتب إِذا اتَّصَلت بَعْضهَا بِبَعْض فِي الْوُرُود مُتَتَابِعًا وحد ذَلِك أَن يَنْقُلهُ قوم لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الْكَذِب لِكَثْرَة عَددهمْ وتباين أمكنتهم عَن قوم مثلهم هَكَذَا إِلَى أَن يتَّصل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون أَوله كآخره وأوسطه كطرفيه وَذَلِكَ نَحْو نقل أعداد الرَّكْعَات وأعداد الصَّلَوَات

(1/282)


ومقادير الزَّكَاة والديات وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا لِأَن الِاتِّصَال لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد انْقِطَاع شُبْهَة الِانْفِصَال وَإِذا انْقَطَعت شُبْهَة الِانْفِصَال ضاهى ذَلِك المسموع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن النَّاس على همم شَتَّى وَذَلِكَ يَبْعَثهُم على التباين فِي الْأَهْوَاء والمرادات فَلَا يردهم عَن ذَلِك إِلَى شَيْء وَاحِد إِلَّا جَامع أَو مَانع وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا اتِّفَاق صنعوه أَو سَماع اتَّبعُوهُ فَإِذا انْقَطَعت تُهْمَة الاختراع لِكَثْرَة عَددهمْ وتباين أمكنتهم تعين جِهَة السماع وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا علم الْيَقِين عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء
وَمن النَّاس من يَقُول الْخَبَر لَا يكون حجَّة أصلا
وَلَا يَقع الْعلم بِهِ بِوَجْه وَكَيف يَقع الْعلم بِهِ والمخبرون هم الَّذين توَلّوا نَقله وَإِنَّمَا وُقُوع الْعلم بِمَا لَيْسَ من صنع الْبشر وَيكون خَارِجا عَن مقدورهم فَأَما مَا يكون من صنع الْبشر ويتحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على اختراعه قلوا أَو كَثُرُوا فَذَلِك لَا يكون مُوجبا للْعلم أصلا هَذَا قَول فريق مِمَّن يُنكر رِسَالَة الْمُرْسلين وَهَذَا الْقَائِل سَفِيه يزْعم أَنه لَا يعرف نَفسه وَلَا دينه وَلَا دُنْيَاهُ وَلَا أمه وَلَا أَبَاهُ بِمَنْزِلَة من يُنكر العيان من السوفسطائية فَلَا يكون الْكَلَام مَعَه على سَبِيل الِاحْتِجَاج وَالِاسْتِدْلَال فَكيف يكون ذَلِك وَمَا يثبت بالاستدلال من الْعلم دون مَا ثَبت بالْخبر الْمُتَوَاتر فَإِن هَذَا يُوجب علما ضَرُورِيًّا وَالِاسْتِدْلَال لَا يُوجب ذَلِك وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَه من حَيْثُ التَّقْرِير عِنْد الْعُقَلَاء بِمَا لَا يشك هُوَ وَلَا أحد من النَّاس فِي أَنه مُكَابَرَة وَجحد لما يعلم اضطرارا بِمَنْزِلَة الْكَلَام مَعَ من يزْعم أَنه لَا حَقِيقَة للأشياء المحسوسة
فَنَقُول إِذا رَجَعَ الْإِنْسَان إِلَى نَفسه علم أَنه مَوْلُود اضطرارا بالْخبر كَمَا علم أَن وَلَده مَوْلُود بالمعاينة وَعلم أَن أَبَوَيْهِ كَانَا من جنسه بالْخبر كَمَا علم أَن أَوْلَاده من جنسه بالعيان وَعلم أَنه كَانَ صَغِيرا ثمَّ شَابًّا بالْخبر كَمَا علم ذَلِك من وَلَده بالعيان وَعلم أَن السَّمَاء وَالْأَرْض كَانَتَا قبله على هَذِه الصّفة بالْخبر كَمَا يعلم أَنَّهُمَا على هَذِه الصّفة للْحَال بالعيان وَعلم أَن آدم أَبُو الْبشر على وَجه لَا يتَمَكَّن فِيهِ شُبْهَة فَمن أنكر شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ مكابر جَاحد لما هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة بِمَنْزِلَة من أنكر العيان
وَلَا نقُول إِن هَذَا الْعلم يحصل بِفعل المخبرين بل بِمَا هُوَ من صنع الله تَعَالَى وَهُوَ أَنه خلق الْخلق أطوارا على طباع مُخْتَلفَة وهمم متباينة يَبْعَثهُم على ذَلِك الِاخْتِلَاف والتباين فالاتفاق بعد ذَلِك مَعَ الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للِاخْتِلَاف لَا يكون إِلَّا بِجَامِع يجمعهُمْ على ذَلِك كَمَا قَررنَا وَفِيه حِكْمَة

(1/283)


بَالِغَة وَهُوَ بَقَاء الْأَحْكَام بعد وَفَاة الْمُرْسلين على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي حياتهم فَإِن النُّبُوَّة ختمت برسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة وَقد أمرنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والتيقن بِمَا يخبر بِهِ قَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَهَذَا الْخطاب يتَنَاوَل الْمَوْجُودين فِي عصره وَالَّذين يُؤمنُونَ بِهِ إِلَى قيام السَّاعَة وَمَعْلُوم أَن الطَّرِيق فِي الرُّجُوع إِلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا الرُّجُوع إِلَى مَا نقل عَنهُ بالتواتر فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذَا كالمسموع مِنْهُ فِي حَيَاته وَقد قَامَت الدّلَالَة على أَنه كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِالْحَقِّ خُصُوصا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الدّين فَيثبت مِنْهُ بِالسَّمَاعِ علم الْيَقِين
وَمن النَّاس من يَقُول إِن مَا يثبت بالتواتر علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَمعنى هَذَا أَنه يثبت الْعلم بِهِ مَعَ بَقَاء توهم الْغَلَط أَو الْكَذِب وَلَكِن لرجحان جَانب الصدْق تطمئِن الْقُلُوب إِلَيْهِ فَيكون ذَلِك علم طمأنينة مثل مَا يثبت بِالظَّاهِرِ لَا علم الْيَقِين
قَالُوا لِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا يثبت بِمَجْمُوع آحَاد وَمعنى احْتِمَال الْكَذِب ثَابت فِي خبر كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد فبالاجتماع لَا يَنْعَدِم هَذَا الِاحْتِمَال بِمَنْزِلَة اجْتِمَاع السودَان على شَيْء لَا يعْدم صفة السوَاد الْمَوْجُود فِي كل وَاحِد مِنْهُم قبل الِاجْتِمَاع وَهَذَا لِأَنَّهُ كَمَا يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الصدْق فِيمَا ينقلون يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الْكَذِب إِذْ الْخَبَر يحْتَمل كل وَاحِد من الوصفين على السوَاء أَلا ترى أَن النَّصَارَى وَالْيَهُود اتَّفقُوا على قتل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وصلبه ونقلوا ذَلِك فِيمَا بَينهم نقلا متواترا وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ وَالْمَجُوس اتَّفقُوا على نقل معجزات زرادشت وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ
فَعرفنَا أَن احْتِمَال التواطؤ على الْكَذِب لَا يَنْتَفِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يثبت علم الْيَقِين فَإِنَّمَا الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة بِمَنْزِلَة من يعلم حَيَاة رجل ثمَّ يمر بداره فَيسمع النوح وَيرى آثَار التهيؤ لغسل الْمَيِّت وَدَفنه فيخبرونه أَنه قد مَاتَ ويعزونه ويعزيهم فيتبدل بِهَذَا الْحَادِث الْعلم الَّذِي كَانَ (لَهُ) حَقِيقَة ويعلمه مَيتا على وَجه طمأنينة الْقلب مَعَ احْتِمَال أَن ذَلِك

(1/284)


كُله حِيلَة مِنْهُم وتلبيس لغَرَض كَانَ لأَهله فِي ذَلِك فَهَذَا مثله
وَهَذَا قَول رذل أَيْضا فَإِن هَذَا الْقَائِل إِنَّه لَا يعلم الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام حَقِيقَة وَلَا يَصح إيمَانه مَا لم يعرف الرُّسُل حَقِيقَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يزْعم أَنه لَا يعرف الصَّانِع حَقِيقَة فَعرفنَا أَنه مُفسد لدينِهِ بِاخْتِيَار هَذَا القَوْل ثمَّ هُوَ جَاحد لما يُعلمهُ كل عَاقل ضَرُورَة فَإنَّا إِذا رَجعْنَا إِلَى مَوضِع الْمعرفَة وَهُوَ الْقلب وَوجدنَا أَن الْمعرفَة بالمتواتر من الْأَخْبَار يثبت على الْوَجْه الَّذِي يثبت بالعيان لأَنا نعلم أَن فِي الدُّنْيَا مَكَّة وبغداد بالْخبر على وَجه لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الشَّك كَمَا نعلم بَلْدَتنَا بالمعاينة ونعرف الْجِهَة إِلَى مَكَّة يَقِينا بالْخبر كَمَا نَعْرِف الْجِهَة إِلَى مَنَازلنَا يَقِينا بالمعاينة وَمن أَرَادَ الْخُرُوج من هَذِه الْبَلدة إِلَى بُخَارى يَأْخُذ فِي السّير إِلَى نَاحيَة الْمغرب كَمَا أَن من أَرَادَ أَن يخرج إِلَى كاشغر يَأْخُذ فِي السّير إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَلَا يشك فِي ذَلِك أحد وَلَا يخطئه بِوَجْه وَإِنَّمَا عرف ذَلِك بالْخبر فَلَو لم يكن ذَلِك مُوجبا علم الْيَقِين لَكَانَ هُوَ مخاطرا بِنَفسِهِ وَمَاله خُصُوصا فِي زمَان الْخَوْف فَيَنْبَغِي أَن يكون فعله ذَلِك خطأ وَفِي اتِّفَاق النَّاس كلهم على خِلَافه مَا يدْفع زعم هَذَا الزاعم
وَمَا استدلوا بِهِ من نقل النَّصَارَى وَالْيَهُود قتل الْمَسِيح وصلبه فَهُوَ وهم لِأَن النَّقْل الْمُتَوَاتر لم يُوجد فِي ذَلِك فَإِن النَّصَارَى إِنَّمَا نقلوا ذَلِك عَن أَرْبَعَة نفر كَانُوا مَعَ الْمَسِيح فِي بَيت إِذْ الحواريون كَانُوا قد اختفوا أَو تفَرقُوا حِين هم الْيَهُود بِقَتْلِهِم وَإِنَّمَا بَقِي مَعَ الْمَسِيح أَرْبَعَة نفر يوحنا ويوقنا وَمتْن ومارقيش ويتحقق من هَذِه الْأَرْبَعَة التواطؤ على مَا هُوَ كذب لَا أصل لَهُ وَقد بَينا أَن حد التَّوَاتُر مَا يَسْتَوِي طرفاه ووسطه وَالْيَهُود إِنَّمَا نقلوا ذَلِك عَن سَبْعَة نفر كَانُوا دخلُوا الْبَيْت الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَسِيح وَأُولَئِكَ يتَحَقَّق مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب وَقد رُوِيَ أَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ الْمَسِيح حَقِيقَة حَتَّى دلهم عَلَيْهِ رجل يُقَال لَهُ يهوذا وَكَانَ يَصْحَبهُ قبل ذَلِك فاجتعل مِنْهُم ثَلَاثِينَ درهما وَقَالَ إِذا رَأَيْتُمُونِي أقبل رجلا فاعلموا أَنه صَاحبكُم وبمثل هَذَا لَا يحصل مَا هُوَ حد التَّوَاتُر
فَإِن قيل الصلب قد شَاهده الْجَمَاعَة الَّتِي لَا يتَصَوَّر مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب عَادَة فَيتَحَقَّق مَا هُوَ حد التَّوَاتُر فِي الْإِخْبَار بصلبه
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن فعل الصلب

(1/285)


إِنَّمَا تناوشوه عدد قَلِيل من النَّاس ثمَّ سَائِر النَّاس يعتمدون خبرهم أَن المصلوب فلَان وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ من بعد من غير تَأمل فِيهِ فَفِي الطباع نفرة عَن التَّأَمُّل فِي المصلوب والحلي تَتَغَيَّر بِهِ أَيْضا فيتمكن فِيهِ الِاشْتِبَاه بِاعْتِبَار هَذِه الْوُجُوه فَعرفنَا أَنه كَمَا لَا يتَحَقَّق النَّقْل الْمُتَوَاتر فِي قَتله لَا يتَحَقَّق فِي صلبه وَالثَّانِي أَن النَّقْل الْمُتَوَاتر مِنْهُم فِي قتل رجل علموه عِيسَى وصلبه وَهَذَا النَّقْل مُوجب علم الْيَقِين فِيمَا نقلوه وَلَكِن لم يكن الرجل عِيسَى وَإِنَّمَا كَانَ مشبها بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لمن كَانَ مَعَه من يُرِيد مِنْكُم أَن يلقِي الله شبهي عَلَيْهِ فَيقْتل وَله الْجنَّة فَقَالَ رجل أَنا فَألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى عَلَيْهِ فَقتل وَرفع عِيسَى إِلَى السَّمَاء
فَإِن قيل هَذَا القَوْل فِي نِهَايَة من الْفساد لِأَن فِيهِ قولا بِإِبْطَال المعارف أصلا وبتكذيب العيان وَإِذا جوزتم هَذَا فَمَا يؤمنكم من مثله فِيمَا ينْقل بالتواتر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن السامعين إِنَّمَا سمعُوا ذَلِك من رجل كَانَ عِنْدهم أَنه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن إِيَّاه وَإِنَّمَا ألْقى الله شبهه على غَيره وَمَعَ هَذَا القَوْل لَا يتَحَقَّق الْإِيمَان بالرسل لمن يعانيهم لجَوَاز أَن يكون شبه الرُّسُل ملقى على غَيرهم كَيفَ وَالْإِيمَان بالمسيح كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْوَقْت فَمن ألقِي عَلَيْهِ شبه الْمَسِيح فقد كَانَ الْإِيمَان بِهِ وَاجِبا بزعمكم وَفِي هَذَا قَول بِأَن الله تَعَالَى أوجب على عباده الْكفْر بِالْحجَّةِ فَأَي قَول أقبح من هَذَا قُلْنَا
الْأَمر لَيْسَ كَمَا توهمتم فَإِن إِلْقَاء شبه الْمَسِيح على غَيره غير مستبعد فِي الْقُدْرَة وَلَا فِي الْحِكْمَة بل فِيهِ حِكْمَة بَالِغَة وَهُوَ دفع شَرّ الْأَعْدَاء عَن الْمَسِيح فقد كَانُوا عزموا على قَتله وَفِي هَذَا دفع عَنهُ مَكْرُوه الْقَتْل بِوَجْه لطيف وَللَّه لطائف فِي دفع الْأَذَى عَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَالَّذين قصدوه بِالْقَتْلِ قد علم الله مِنْهُم أَنهم لَا يُؤمنُونَ بِهِ فَألْقى شبهه على غَيره على سَبِيل الاستدراج لَهُم ليزدادوا طغيانا ومرضا إِلَى مرضهم وَمثل ذَلِك لَا يتَوَهَّم فِي حق قوم يأْتونَ الرُّسُل ليؤمنوا بِهِ ويتعظوا بوعظه فَظهر أَن الْفَاسِد قَول من يَقُول بِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال المعارف والتكذيب بالرسل وَيرد ظَاهر قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} وَبَيَان أَن هَذَا غير مستبعد ظهر إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة مرّة فِي صُورَة شيخ من أهل نجد وَمرَّة فِي صُورَة سراقَة بن مَالك وكلم الْمُشْركين فِيمَا كَانُوا هموا بِهِ فِي بَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا}

(1/286)


فِي الْقُدْرَة غير مُشكل فَإِن إِلْقَاء الشّبَه دون إِيجَاد الأَصْل لَا محَالة وَقد الْآيَة وَرَأَتْ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا دحْيَة الْكَلْبِيّ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا أخْبرته بذلك قَالَ كَانَ معي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَرَأى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا جِبْرِيل أَيْضا فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ ورأته الصَّحَابَة حِين أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة أَعْرَابِي ثَائِر الرَّأْس يسْأَله معالم الدّين فَعرفنَا أَن مثل هَذَا غير مستبعد فِي زمن الرُّسُل وَأرى الله تَعَالَى الْمُشْركين فِي أعين الْمُسلمين قَلِيلا يَوْم بدر مَعَ كَثْرَة عَددهمْ لِأَنَّهُ لَو أَرَاهُم كثرتهم وعدتهم لامتنعوا من قِتَالهمْ فَأَرَاهُم بِصفة الْقلَّة حَتَّى رَغِبُوا فِي قِتَالهمْ وقتلوهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} فَعرفنَا أَن مثله غير مستبعد
فَأَما نقل الْمَجُوس مَا نقلوه عَن زرادشت فَذَلِك كُله تخييلات بِمَنْزِلَة فعل المشعوذين أَو لعب النِّسَاء وَالصبيان إِلَّا مَا ينْقل أَنه أَدخل قَوَائِم فرس الْملك كشتاسب فِي بَطْنه ثمَّ أخرجه وَهَذَا إِنَّمَا ينْقل أَنه فعله فِي مجْلِس الْملك بَين يَدي خواصه وَأُولَئِكَ يتَصَوَّر مِنْهُم الِاجْتِمَاع على الْكَذِب فَلَا يثبت (بِهِ) النَّقْل الْمُتَوَاتر كَيفَ وَقد رُوِيَ أَن الْملك لما اختبره وَعلم خبثه ودهاءه وواطأه على أَن يُؤمن بِهِ وَيجْعَل هُوَ أحد أَرْكَان دينه دَعَاهُ النَّاس إِلَى تَعْظِيم الْمُلُوك وتحسين أفعالهم ومراعاة حُقُوقهم فِي كل حق وباطل وَيكون هُوَ من وَرَائه بِالسَّيْفِ يجْبر النَّاس على الدُّخُول فِي دينه وَحَملهمْ على هَذِه المواطأة حَاجتهم إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن لذَلِك الْملك بَيت قديم فِي الْملك فَكَانَ النَّاس لَا يعظمونه فاحتالوا بِهَذِهِ الْحِيلَة ثمَّ نقلوا عَنهُ أمورا بعد ذَلِك بَين يَدي الْملك وخاصته وكل ذَلِك كذب لَا أصل لَهُ
فَإِن قيل مثل هَذِه المواطأة لَا تنكتم عَادَة فَكيف انكتم فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى اتَّفقُوا على الْإِيمَان بِهِ وَكَذَلِكَ من بعدهمْ إِلَى زمَان طَوِيل وَجعلُوا ينقلون ذَلِك نقلا

(1/287)


متواترا قُلْنَا إِنَّمَا لَا تنكتم المواطأة الَّتِي تكون بَين جمع عَظِيم فَأَما مَا يكون بَين الْملك وخواصه تنكتم فَإِنَّهُم رصد لحفظ الْأَسْرَار وَإِنَّمَا يخصهم الْملك بِهَذَا الشَّرْط لِأَن تَدْبِير الْملك لَا يتم مستويا إِلَّا بِحِفْظ الْأَسْرَار وَهَذَا مَعْرُوف فِي عَادَة أهل كل زمَان أَن المواطأة الَّتِي تكون بَين الْملك وخواصه لَا تظهر للعوام فَعرفنَا أَنه لَا يُوجد النَّقْل الْمُوجب لعلم الْيَقِين فِي شَيْء من هَذِه الْأَخْبَار
فَأَما أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم فقد كَانُوا من قبائل مُخْتَلفَة وَكَانُوا عددا لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الاختراع عَادَة لكثرتهم فَعرفنَا أَن مَا نقلوه عَنهُ بِمَنْزِلَة المسموع مِنْهُ فِي كَونه مُوجبا علم الْيَقِين لِأَنَّهُ لما انْتَفَى تُهْمَة احْتِمَال المواطأة تعين جِهَة السماع
فَإِن قيل مَعَ هَذَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب غير مُنْقَطع لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرط التَّوَاتُر اجْتِمَاع أهل الدُّنْيَا وَإِذا اجْتمع أهل بَلْدَة أَو عامتهم على شَيْء يثبت بِهِ التَّوَاتُر كَيفَ وَقد نقل الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه وهم كَانُوا عسكره لما تحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على صحبته مَعَ تبَاين أمكنتهم فَذَلِك يُوهم الِاتِّفَاق مِنْهُم على نقل مَا لَا أصل لَهُ قُلْنَا مثل هَذَا الِاتِّفَاق من الْجمع الْعَظِيم خلاف الْعَادة وَهُوَ نَادِر غَايَة وَعَادَة وَالْبناء على مَا هُوَ مُعْتَاد الْبشر أَلا ترى أَن المعجزات توجب الْعلم بِالنُّبُوَّةِ قطعا لكَونهَا خَارِجَة عَن حد مُعْتَاد الْبشر وَلَو أَن وَاحِدًا قَالَ فِي زَمَاننَا صعدت السَّمَاء وَكلمت الْمَلَائِكَة نقطع القَوْل بِأَنَّهُ كَاذِب لكَون مَا يخبر بِهِ خَارِجا عَمَّا هُوَ الْمُعْتَاد والتوهم بعد ذَلِك غير مُعْتَبر وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شهد شَاهِدَانِ على رجل أَنه طلق امْرَأَته يَوْم النَّحْر بِمَكَّة وآخران أَنه أعتق عَبده فِي ذَلِك الْيَوْم بِعَيْنِه بكوفة لَا تقبل الشَّهَادَة لِأَن كَون الْإِنْسَان فِي يَوْم وَاحِد بِمَكَّة وكوفة مُسْتَحِيل عَادَة فَيسْقط مَا وَرَاءه من التَّوَهُّم يُوضحهُ أَنه لَو كَانَ هُنَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب لظهر ذَلِك فِي عصرهم أَو بعد ذَلِك إِذا تطاول الزَّمَان فقد كَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا أَو أَكثر والمواطأة فِيمَا بَين مثل هَذَا الْجمع الْعَظِيم لَا ينكتم عَادَة بل يظْهر كَيفَ وَقد اخْتَلَط بهم المُنَافِقُونَ وجواسيس الْكَفَرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} وَقد كَانَ فِي الْمُسلمين أَيْضا من يلقِي إِلَى الْكفَّار

(1/288)


بالمودة وَيظْهر لَهُم سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَرْب وَغَيره وَالْإِنْسَان يضيق صَدره عَن سره حَتَّى يفشيه إِلَى غَيره ويستكتمه ثمَّ السَّامع يفشيه إِلَى غَيره حَتَّى يصير ظَاهرا عَن قريب فَلَو كَانَ هُنَا توهم المواطأة لظهر ذَلِك فَالْقَوْل بِأَنَّهُ كَانَ بَينهم مواطأة وانكتم أصلا شبه الْمحَال وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول من يزْعم أَن الْكفَّار عارضوا الْقُرْآن بِمثلِهِ ثمَّ انكتم ذَلِك فَإِن هَذَا الْكَلَام بالِاتِّفَاقِ بَين الْمُسلمين شبه الْمحَال لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تحداهم فِي محافلهم أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن أَو سُورَة مِنْهُ فَلَو قدرُوا على ذَلِك لما أَعرضُوا عَنهُ إِلَى بذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال وَالْحرم فِي غَزَوَاته وَلَو عارضوه بِهِ لما خَفِي ذَلِك فقد كَانَ الْمُشْركُونَ يَوْمئِذٍ أَكثر من الْمُسلمين وَلَو لم يظْهر الْآن فِيمَا بَين الْمُسلمين لظهر فِي ديار الشّرك إِذْ لَا خوف لَهُم وَتلك الْمُعَارضَة حجَّة لَهُم لَو كَانَت وَالْإِنْسَان على نقل الْحجَّة يكون أحرص مِنْهُ على نقل الشُّبْهَة كَيفَ وَقد نقلت كَلَام مسليمة ومخاريق المتنبئين من غير أَن يكون لشَيْء من ذَلِك أصل فَكَمَا تبين بِهَذَا التَّقْرِير انْقِطَاع توهم الْمُعَارضَة وَكَون الْقُرْآن حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فَكَذَلِك يَنْقَطِع هَذَا التَّوَهُّم فِي الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار
فَإِن قيل لكَونه خلاف الْعَادة أثبتنا علم طمأنينة الْقلب بِهِ وَلكَون الِاتِّفَاق مُتَوَهمًا لم نثبت بِهِ علم الْيَقِين كَمَا ذكرنَا من حَال من رأى آثَار الْمَوْت فِي دَار إِنْسَان وَأخْبر بِمَوْتِهِ
قُلْنَا طمأنينة الْقلب فِي الأَصْل إِنَّمَا تكون بِمَعْرِِفَة حَقِيقَة الشَّيْء فَإِن امْتنع ثُبُوت ذَلِك فِي مَوضِع فَذَلِك لغفلة من النَّاظر حَيْثُ اكْتفى بِالظَّاهِرِ وَلَو تَأمل وجد فِي طلب الْبَاطِن لظهر عِنْده التلبيس وَالْفساد كَمَا يكون فِي حق الْمخبر بِمَوْت الْمَيِّت وَإِنَّمَا تتَحَقَّق هَذِه الْغَفْلَة فِي مَوضِع يكون وَرَاء مَا غَايَته حد آخر بِمَنْزِلَة مَا يرَاهُ النَّائِم فِي مَنَامه فَإِن عِنْده أَن مَا يرَاهُ هُوَ الْحَقِيقَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَكِن لما كَانَ وَرَاء هَذَا الْحَد حد آخر للمعرفة فَوْقه وَهُوَ مَا يكون فِي حَالَة الْيَقَظَة فباعتبار هَذِه الْمُقَابلَة يظْهر أَن مَا يرَاهُ فِي النّوم لم يكن مُوجبا للمعرفة حَقِيقَة فَأَما هُنَا لَيْسَ وَرَاء الطُّمَأْنِينَة الثَّابِتَة بِخَبَر التَّوَاتُر حد آخر للْعلم فَوْقه على مَا بَينا أَن الثَّابِت بِخَبَر التَّوَاتُر وَالثَّابِت بالمعاينة فِي وُقُوع الْعلم بِهِ سَوَاء فالموجب للْعلم هُنَا معنى فِي قُوَّة الدَّلِيل وَهُوَ انْقِطَاع

(1/289)


توهم المواطأة وَمثل هَذَا كلما ازْدَادَ الْمَرْء التَّأَمُّل فِيهِ ازْدَادَ يَقِينا فالتشكيك فِيهِ يكون دَلِيل نُقْصَان الْعقل بِمَنْزِلَة التشكيك فِي حقائق الْأَشْيَاء المحسوسة والطمأنينة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار كَمَال الْعقل تكون عبارَة عَن معرفَة الشَّيْء حَقِيقَة لَا محَالة
وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم إِنَّه لَيْسَ فِي الْجَمَاعَة إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد لِأَن مثل هَذِه الطُّمَأْنِينَة لَا تثبت بِخَبَر الْفَرد وتوهم الْكَذِب فِي ذَلِك الْخَبَر غير خَارج عَن حد الْمُعْتَاد
ثمَّ هَذَا بَاطِل فَإِن الْوَاحِد منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بحروف الهجاء كلهَا وَهل لقَائِل أَن يَقُول لقدرته على ذَلِك يتَوَهَّم مِنْهُ أَن يَأْتِي بِمثل الْقُرْآن فَفِيهِ تِلْكَ الْحُرُوف بِعَينهَا وَكَذَلِكَ الغبي منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بِكُل حِكْمَة من شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه لقدرته على ذَلِك يقدر على (إنْشَاء) قصيدة مثل تِلْكَ القصيدة وَقد يتَكَلَّم الْإِنْسَان عَن ظن وفراسة فَيُصِيب مرّة ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه يُصِيب فِي كل مَا يتَكَلَّم (بِهِ) بِهَذَا الطَّرِيق اعْتِبَارا للجملة بالفرد واتفاق مثل هَذَا الْجمع على الصدْق كَانَ بِجَامِع جمعهم عَلَيْهِ وَهُوَ دُعَاء الدّين والمروءة على الصدْق وَإِنَّمَا تَدعِي انْقِطَاع توهم اتِّفَاقهم مَعَ اخْتِلَاف الطبائع والأهواء من غير جَامع يجمعهُمْ على ذَلِك فَأَما عِنْد وجود الْجَامِع فَهُوَ مُوَافق للمعتاد
فَإِن قيل لَو تَوَاتر الْخَبَر عِنْد القَاضِي بِأَن الَّذِي فِي يَد زيد ملك عَمْرو لم يقْض لَهُ بِالْملكِ بِدُونِ إِقَامَة الْبَيِّنَة وَلَو ثَبت لَهُ علم الْيَقِين بذلك لتمكن من الْقَضَاء بِهِ
قُلْنَا هَذَا أَولا يلْزم الْخصم فَإِنَّهُ يثبت علم طمأنينة الْقلب بِخَبَر التَّوَاتُر وَبِه يتَمَكَّن من الْقَضَاء لِأَن بِشَهَادَة الشَّاهِدين لَا يثبت فَوق ذَلِك
فَأَما عندنَا فَيحْتَمل أَن يُقَال بِأَنَّهُ يقْضِي لِأَنَّهُ مَأْمُور شرعا بِأَن يقْضِي بِالْعلمِ وَيحْتَمل أَن لَا يقْضِي بِمَنْزِلَة مَا لَو صَار مَعْلُوما لَهُ بمعاينة السَّبَب قبل أَن يُقَلّد الْقَضَاء فِيمَا ثَبت مَعَ الشُّبُهَات وَفِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ من الْحُدُود الَّتِي هِيَ لله تَعَالَى وَإِن صَار مَعْلُوما لَهُ بَعْدَمَا قلد الْقَضَاء لم يقْض بِهِ مَا لم تشهد

(1/290)


الشُّهُود وَعلم الْيَقِين يثبت لَهُ بمعاينة السَّبَب لَا محَالة أَلا ترى أَن الشَّاهِد لَو قَالَ أخبر لم يجز للْقَاضِي أَن يقْضِي بقوله وَفِيمَا يرجع إِلَى الْعلم لَا فرق بَين قَوْله أشهد وَبَين قَوْله أخبر فَعرفنَا أَن فِي بَاب الْقَضَاء تعْتَبر الشَّرَائِط سوى الْعلم بالشَّيْء ليتَمَكَّن القَاضِي من الْقَضَاء بِهِ
ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد عُلَمَائِنَا أَن الثَّابِت بالمتواتر من الْأَخْبَار علم ضَرُورِيّ كَالثَّابِتِ بالمعاينة
وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ الثَّابِت بِهِ علم يَقِين وَلكنه مكتسب لَا ضَرُورِيّ بِمَنْزِلَة مَا يثبت من الْعلم بِالنُّبُوَّةِ عِنْد معرفَة المعجزات فَإِنَّهُ علم يَقِين وَلكنه مكتسب لَا ضَرُورِيّ وَهَذَا لِأَن فِيمَا يكون ضَرُورِيًّا لَا يتَحَقَّق الِاخْتِلَاف فِيمَا بَين النَّاس وَإِذا وجدنَا النَّاس مُخْتَلفين فِي ثُبُوت علم الْيَقِين بالْخبر الْمُتَوَاتر عرفنَا أَنه مكتسب
وَلَكنَّا نقُول هَذَا فَاسد فَإِنَّهُ لَو كَانَ طَرِيق هَذَا الْعلم الِاكْتِسَاب لاختص بِهِ من يكون من أهل الِاكْتِسَاب ورأينا أَنه لَا يخْتَص هَذَا الْعلم بِمن يكون من أهل الِاكْتِسَاب فَكل وَاحِد منا فِي صغره كَانَ يعلم أَبَاهُ وَأمه بالْخبر كَمَا يُعلمهُ بعد الْبلُوغ وَلَو كَانَ طَرِيقه الِاكْتِسَاب لتمكن الْمَرْء من أَن يتْرك هَذَا الِاكْتِسَاب فَلَا يَقع لَهُ الْعلم وبالاتفاق الْعلم الَّذِي يحصل بِخَبَر التَّوَاتُر لَا يتَمَكَّن الْمَرْء من دَفعه بكسب يباشره أَو بالامتناع من اكتسابه فَعرفنَا أَنه ثَابت ضَرُورَة
فَأَما المعجزة فهناك يحْتَاج إِلَى (أَن) تميز المعجزة من المخرقة وتمييز مَا يكون فِي حد مَقْدُور الْبشر مِمَّا يكون خَارِجا من ذَلِك وَلَا طَرِيق إِلَى هَذَا التَّمْيِيز إِلَّا بالاستدلال فَعرفنَا أَن الْعلم الثَّابِت بِهِ طَرِيقه طَرِيق الِاسْتِدْلَال وَقد بَينا أَنه لَا خلاف بَين من لَهُم عقول كَامِلَة فِي الْعلم الْوَاقِع بِخَبَر الْمُتَوَاتر وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف ناشىء من نُقْصَان الْعقل لبَعض النَّاس وَترك التَّأَمُّل وَذَلِكَ دَلِيل وسواس يعتري بعض النَّاس كَمَا يكون فِي الْمَعْلُوم بالحواس وبالاتفاق لَا يعْتَبر هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْمَعْلُوم بالحواس وَيكون الْعلم الْوَاقِع بِهِ ضَرُورِيًّا فَكَذَلِك فِي الْمَعْلُوم بِخَبَر التَّوَاتُر
ثمَّ اخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا هُوَ متواتر الْفَرْع آحَاد الأَصْل من الْأَخْبَار وَهُوَ الَّذِي تسميه الْفُقَهَاء فِي حيّز التَّوَاتُر وَالْمَشْهُور من الْأَخْبَار فَكَانَ أَبُو بكر

(1/291)


الرَّازِيّ رَحمَه الله يَقُول هَذَا أحد قسمي الْمُتَوَاتر على معنى أَنه يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَلكنه علم اكْتِسَاب كَمَا قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْقسم الآخر وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول لَا يكون الْمُتَوَاتر إِلَّا مَا يُوجب الْعلم ضَرُورِيًّا فَأَما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ مَشْهُور وَلَيْسَ بمتواتر وَهُوَ الصَّحِيح عندنَا
وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي كل حَدِيث نَقله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عدد يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على الْكَذِب وَلَكِن تَلَقَّتْهُ الْعلمَاء بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ فباعتبار الأَصْل هُوَ من الْآحَاد وَبِاعْتِبَار الْفَرْع هُوَ متواتر وَذَلِكَ نَحْو خبر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَخبر تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد الْإِبَاحَة وَخبر تَحْرِيم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وعَلى خَالَتهَا وَخبر حُرْمَة التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة وَمَا أشبه ذَلِك
أما أَبُو بكر الرَّازِيّ كَانَ يَقُول لما تَوَاتر نقل هَذَا الْخَبَر إِلَيْنَا من قوم لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على الْكَذِب فقد أوجب لنا ذَلِك علم الْيَقِين وَانْقطع بِهِ توهم الِاتِّفَاق فِي الصَّدْر الأول لِأَن الَّذين تلقوهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ لَا يتَوَهَّم اتِّفَاقهم على الْقبُول إِلَّا بِجَامِع جمعهم على ذَلِك وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا تعين جَانب الصدْق فِي الَّذين كَانُوا أَهلا من رُوَاته وَلَكِن إِنَّمَا عرفنَا هَذَا بالاستدلال فَلهَذَا سمينا الْعلم الثَّابِت بِهِ مكتسبا وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ بِمَنْزِلَة الْعلم بِمَعْرِِفَة الصَّانِع أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمثل هَذِه الْأَخْبَار فَإِنَّهُ يثبت بهَا الزِّيَادَة على كتاب الله تَعَالَى وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ وَلَا يثبت نسخ مَا يُوجب علم الْيَقِين إِلَّا بِمثل مَا يُوجب علم الْيَقِين
وَجه قَول عِيسَى أَن مَا يكون مُوجبا علم الْيَقِين فَإِنَّهُ يكفر جاحده كَمَا فِي الْمُتَوَاتر الَّذِي يُوجب الْعلم ضَرُورَة وبالاتفاق لَا يكفر جَاحد الْمَشْهُور من الْأَخْبَار فَعرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِن تَوَاتر نَقله من الْفَرِيق الثَّانِي وَالثَّالِث فقد بَقِي فِيهِ شُبْهَة توهم الْكَذِب عَادَة بِاعْتِبَار الأَصْل فَإِن رُوَاته عدد يسير وَعلم الْيَقِين إِنَّمَا يثبت إِذا اتَّصل بِمن هُوَ مَعْصُوم عَن الْكَذِب على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة الِانْفِصَال وَقد بَقِي هُنَا شُبْهَة الِانْفِصَال بِاعْتِبَار الأَصْل فَيمْنَع ثُبُوت علم الْيَقِين بِهِ يقرره أَن الْعلم الْوَاقِع لنا بِمثل هَذَا النَّقْل إِنَّمَا يكون قبل التَّأَمُّل فِي شُبْهَة الِانْفِصَال فَأَما عِنْد التَّأَمُّل فِي هَذِه الشُّبْهَة يتَمَكَّن نُقْصَان فِيهِ فَعرفنَا أَنه علم طمأنينة فَأَما الْعلم الْوَاقِع بِمَا هُوَ متواتر بِأَصْلِهِ وفرعه فَهُوَ يزْدَاد قُوَّة بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ

(1/292)


ثمَّ قد بَينا أَن التَّفَاوُت يظْهر عِنْد الْمُقَابلَة فَإِذا لم يكن وَرَاء الْقسم الأول حد آخر عرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم ضَرُورَة وَلما كَانَ وَرَاء الْقسم الثَّانِي حد آخر عرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة
وَلَكِن مَعَ هَذَا تجوز الزِّيَادَة على النَّص بِهَذَا النَّوْع من الْأَخْبَار لِأَن الْعلمَاء لما تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ كَانَ دَلِيلا مُوجبا فَإِن الْإِجْمَاع من الْعَصْر الثَّانِي وَالثَّالِث دَلِيل مُوجب شرعا فَلهَذَا جَوَّزنَا بِهِ الزِّيَادَة على النَّص وَلَكِن مَعَ هَذَا بَقِي فِيهِ شُبْهَة توهم الِانْفِصَال فَلَا يكفر جاحده وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير مَا تقدم بَيَانه فَإِن الْعلم بِكَوْن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام مَبْعُوثًا إِلَى بني إِسْرَائِيل ثَابت بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر أصلا وفرعا على وَجه لم يبْق فِيهِ توهم الشُّبْهَة لأحد ثمَّ بنقلهم الْمُتَوَاتر أَنه قتل أَو صلب لَا يثبت الْعلم لِأَن ذَلِك آحَاد الأَصْل متواتر الْفَرْع كَمَا قَررنَا
فَإِن قيل (فَكَانَ يَنْبَغِي) أَن يثبت بِهِ طمأنينة الْقلب كَمَا أثبتم هُنَا
قُلْنَا إِنَّمَا لم نثبت لِأَنَّهُ اعْترض مَا هُوَ أقوى مِنْهُ فِيمَا يرجع إِلَى الْعلم وَهُوَ إِخْبَار علام الغيوب بِأَنَّهُم مَا قَتَلُوهُ يَقِينا والحجج الَّتِي تثبت بهَا طمأنينة الْقلب إِذا اعْترض عَلَيْهَا مَا هُوَ أقوى لم يبْق علم طمأنينة الْقلب بهَا
ثمَّ ذكر عِيسَى رَحمَه الله أَن هَذَا النَّوْع من الْأَخْبَار يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام قسم يضلل جاحده وَلَا يكفر وَذَلِكَ نَحْو خبر الرَّجْم وَقسم لَا يضلل جاحده وَلَكِن يخطأ ويخشى عَلَيْهِ المأثم وَذَلِكَ نَحْو خبر الْمسْح بالخف وَخبر حُرْمَة التَّفَاضُل وَقسم لَا يخْشَى على جاحده المأثم وَلَكِن يخطأ فِي ذَلِك وَهُوَ الْأَخْبَار الَّتِي اخْتلف فِيهَا الْفُقَهَاء فِي بَاب الْأَحْكَام
وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيح بِنَاؤُه على تلقي الْعلمَاء إِيَّاه بِالْقبُولِ ثمَّ الْعَمَل بِمُوجبِه فَإِن خبر الرَّجْم اتّفق عَلَيْهِ الْعلمَاء من الصَّدْر الأول وَالثَّانِي وَإِنَّمَا خَالف فِيهِ الْخَوَارِج وخلافهم لَا يكون قدحا فِي الْإِجْمَاع وَلِهَذَا قَالَ يضلل جاحده
فَأَما خبر الْمسْح فَفِيهِ شُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول فَإِن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم كَانَا يَقُولَانِ سلوا هَؤُلَاءِ الَّذين يرَوْنَ الْمسْح هَل مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سُورَة الْمَائِدَة وَالله مَا مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سُورَة الْمَائِدَة وَقد

(1/293)


نقل رجوعهما عَن ذَلِك أَيْضا وَكَذَلِكَ خبر الصّرْف فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ يجوز التَّفَاضُل مستدلا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة وَقد نقل رُجُوعه عَن ذَلِك فلشبهة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يضلل جاحده وَلَكِن يخْشَى عَلَيْهِ المأثم وَلِأَن بِاعْتِبَار رجوعهم يثبت الْإِجْمَاع (وَقد ثَبت الْإِجْمَاع) على قبُوله من الصَّدْر الثَّانِي وَالثَّالِث وَلَا يسع مُخَالفَة الْإِجْمَاع فَلهَذَا يخْشَى على جاحده المأثم
وَأما النَّوْع الثَّالِث فقد ظهر فِيهِ الِاخْتِلَاف فِي كل قرن فَكل من ترجح عِنْده جَانب الصدْق فِيهِ بِدَلِيل عمل بِهِ وَكَانَ لَهُ أَن يخطىء صَاحبه وَلَكِن لَا يخْشَى عَلَيْهِ المأثم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ صَار إِلَيْهِ عَن اجْتِهَاد وَالْإِثْم فِي الْخَطَأ مَوْضُوع عَن الْمُجْتَهد على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما الْغَرِيب المستنكر فَإِنَّهُ يخْشَى المأثم على الْعَامِل بِهِ وَذَلِكَ نَحْو خبر الْقَتْل فِي الْقسَامَة وَخبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر الْقُرْآن وَقد ترك الْعلمَاء فِي الْقرن الأول وَالثَّانِي الْعَمَل بِهِ فبه يقرب من الْكَذِب كَمَا أَن الْمَشْهُور يقرب من الصدْق بتلقيهم إِيَّاه بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ فَكَمَا يخْشَى المأثم هُنَاكَ على ترك الْعَمَل بِهِ لقُرْبه من الصدْق فَكَذَلِك يخْشَى على من يعْمل بالغريب المستنكر لقُرْبه من الْكَذِب وَالثَّابِت بِمثلِهِ مُجَرّد الظَّن وَمن الظَّن مَا يَأْثَم الْمَرْء باتباعه قَالَ تَعَالَى {وظننتم ظن السوء} وَقَالَ تَعَالَى {إِن بعض الظَّن إِثْم} وَهُوَ نَظِير من يصير إِلَى التَّحَرِّي عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة فَيعْمل بِهِ مَعَ وجود الدَّلِيل وَيتْرك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَلَا شكّ فِي تأثيم من يدع الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَيعْمل بِالظَّنِّ فَهَذَا مثله وَالله أعلم
ذكر عِيسَى رَحمَه الله أَنه لَيْسَ لما ينْعَقد بِهِ التَّوَاتُر حد مَعْلُوم من حَيْثُ الْعدَد وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن خبر التَّوَاتُر يثبت علم الْيَقِين وَلَا يُوجد حد من حَيْثُ الْعدَد يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَإِذا انْتقصَ مِنْهُ بفرد لَا يثبت علم الْيَقِين
وَلَكنَّا نعلم أَن بِالْعدَدِ الْيَسِير لَا يثبت ذَلِك لتوهم المواطأة بَينهم وبالجمع الْعَظِيم يثبت ذَلِك لِانْعِدَامِ توهم

(1/294)


المواطأة فَإِنَّمَا يَبْنِي على هَذَا أَنه مَتى كَانَ المخبرون بِحَيْثُ يُؤمن تواطؤهم عَادَة يكون خبرهم متواترا
وَالْحُدُود نَوْعَانِ مِنْهُ مَا يكون متميز الْأَطْرَاف وَالْوسط كالمقادير فِي الْحُدُود الشَّرْعِيَّة وَمِنْه مَا يكون متميز الْأَطْرَاف مُشكل الْوسط كالسير بالأميال وَالْأكل بالأرطال
فَهَذَا مِمَّا هُوَ متميز الْأَطْرَاف مُشكل الْوسط وَالطَّرِيق فِيهِ مَا بَينا

فصل فِي بَيَان أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة مُوجب للْعلم
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة مُوجب للْعلم قطعا كَرَامَة لَهُم على الدّين لَا لانْقِطَاع توهم اجْتِمَاعهم على الضلال بِمَعْنى مَعْقُول فاليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس أَكثر منا عددا وَقد وجد مِنْهُم الْإِجْمَاع على الضَّلَالَة وَلِأَن الِاتِّفَاق قد يتَحَقَّق من الْخلف على وَجه الْمُتَابَعَة للآباء من غير حجَّة كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن الْكَفَرَة بقوله تَعَالَى {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} وَقَالَ تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا جعل اجْتِمَاع هَذِه الْأمة حجَّة شرعا كَرَامَة لَهُم على الدّين
فَهَذَا مَذْهَب الْفُقَهَاء وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين
وَقَالَ النظام وَقوم من الإمامية لَا يكون الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم بِحَال لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد وَإِذا كَانَ قَول كل فَرد غير مُوجب للْعلم لكَونه غير مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فَكَذَلِك أقاويلهم بَعْدَمَا اجْتَمعُوا لِأَن توهم الْخَطَأ لَا يَنْعَدِم بالاجتماع أَلا ترى أَن كل وَاحِد مِنْهُم لما كَانَ إنْسَانا قبل الِاجْتِمَاع فَبعد الِاجْتِمَاع هم نَاس وكل وَاحِد من القادرين حَالَة الِانْفِرَاد لَا يصير عَاجِزا بعد الِاجْتِمَاع وكل وَاحِد من العميان عِنْد الِانْفِرَاد لَا يصير بَصيرًا بالاجتماع وَلَا تصير جُمْلَتهمْ أَيْضا بِهَذِهِ الصّفة بعد الِاجْتِمَاع
وَهَذَا الْكَلَام ظَاهر التَّنَاقُض وَالْفساد فقد ثَبت بالاجتماع مَا لَا يكون ثَابتا عِنْد الِانْفِرَاد فِي المحسوسات والمشروعات فَإِن الْأَفْرَاد لَا يقدرُونَ على حمل خَشَبَة ثَقيلَة وَإِذا اجْتَمعُوا قدرُوا على ذَلِك واللقمة الْوَاحِدَة من الطَّعَام والقطرة من المَاء لَا تكون مشبعة وَلَا مروية ثمَّ عِنْد الِاجْتِمَاع تصير مشبعة ومروية وَهَذَا لِأَن بالاجتماع يحدث مَا لم يكن عِنْد الِانْفِرَاد وَهُوَ الدَّلِيل الْجَامِع لَهُم على

(1/295)


مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَقد قَررنَا هَذَا فِي الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَمن أنكر كَون الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم فقد أبطل أصل الدّين فَإِن مدَار أصُول الدّين ومرجع الْمُسلمين إِلَى إِجْمَاعهم فالمنكر لذَلِك يسْعَى فِي هدم أصل الدّين
وسنقرر هَذَا فِي آخر الْفَصْل
ثمَّ الدَّلِيل على أَن الْإِجْمَاع من هَذِه الْأمة حجَّة مُوجبَة شرعا وَأَنَّهُمْ إِذا اجْتَمعُوا على شَيْء فَالْحق فِيمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ قطعا وَإِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء فَالْحق لَا يعدوهم أصلا الْكتاب وَالسّنة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} وَكلمَة خير بِمَعْنى أفعل فَيدل على النِّهَايَة فِي الْخَيْرِيَّة وَذَلِكَ دَلِيل ظَاهر على أَن النِّهَايَة فِي الْخَيْرِيَّة فِيمَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ ثمَّ فسر ذَلِك بِأَنَّهُم يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَإِنَّمَا جعلهم خير أمة بِهَذَا وَالْمَعْرُوف الْمُطلق مَا هُوَ حق عِنْد الله تَعَالَى فَأَما مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ غير مَعْرُوف مُطلقًا إِذْ الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب وَلكنه مَعْرُوف فِي حَقه على معنى أَنه يلْزمه الْعَمَل بِهِ مَا لم يتَبَيَّن خَطؤُهُ فَفِي هَذَا بَيَان أَن الْمَعْرُوف الْمُطلق مَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ
فَإِن قيل هَذَا يَقْتَضِي كَون كل وَاحِد مِنْهُم آمرا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا ذكرنَا فِي مُوجب الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة وبالإجماع اجْتِهَاد كل وَاحِد مِنْهُم بِانْفِرَادِهِ لَا يكون مُوجبا للْعلم قطعا
قُلْنَا لَا بل المُرَاد هُنَا أَن جَمِيع الْأمة أَو أَكْثَرهم بِهَذِهِ الصّفة وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك}
{وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا} وَكَانَ ذَلِك من بَعضهم
وَيُقَال فِي بذلة الْكَلَام بَنو هَاشم حكماء وَأهل الْكُوفَة فُقَهَاء وَإِنَّمَا يُرَاد بَعضهم فيتبين بِهَذَا التَّحْقِيق أَن المُرَاد بَيَان أَن الْأَكْثَر من هَذِه الْأمة إِذا اجْتَمعُوا على شَيْء فَهُوَ الْمَعْرُوف مُطلقًا وَأَنَّهُمْ إِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء فالمعروف الْمُطلق لَا يعدو أَقْوَالهم وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} الْآيَة فقد جعل الله اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ بِمَنْزِلَة مشاقة الرَّسُول فِي استيجاب النَّار
ثمَّ قَول الرَّسُول مُوجب للْعلم قطعا فَكَذَلِك مَا اجْتمع عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يجوز أَن يُقَال المُرَاد اجْتِمَاع الخصلتين لِأَن فِي ذكرهمَا دَلِيلا على أَن تَأْثِير أَحدهمَا كتأثير الآخر بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر}

(1/296)


إِلَى قَوْله {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} وأيد هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن من اتخذ وليجة من دون الْمُؤمنِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من اتخذ وليجة من دون الرَّسُول
وَقَالَ تَعَالَى {وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} وَفِيه تنصيص على أَن المرضي عِنْد الله مَا هم عَلَيْهِ حَقِيقَة وَمَعْلُوم أَن الارتضاء مُطلقًا لَا يكون بالْخَطَأ وَإِن كَانَ المخطىء مَعْذُورًا وَإِنَّمَا يكون بِمَا هُوَ الصَّوَاب فَعرفنَا أَن الْحق مُطلقًا فِيمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ
وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَالْوسط الْعدْل المرضي قَالَ تَعَالَى {أوسطهم} أَي أعدلهم وأرضاهم قولا وَقَالَ الْقَائِل هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم أَي عدل فَفِي الْوَصْف لَهُم بِالْعَدَالَةِ تنصيص على أَن الْحق مَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ ثمَّ جعلهم شُهَدَاء على النَّاس وَالشَّاهِد مُطلقًا من يكون قَوْله حجَّة فَفِي هَذَا بَيَان أَن إِجْمَاعهم حجَّة على النَّاس وَأَنه مُوجب للْعلم قطعا وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول الشُّهُود فِي الْحُقُوق عِنْد القَاضِي وَإِن جعلت شَهَادَتهم حجَّة فَإِنَّهَا لَا تكون مُوجبَة للْعلم قطعا وَهَذَا لِأَن شَهَادَتهم حجَّة فِي حق القَاضِي بِاعْتِبَار أَنه مَأْمُور بِالْقضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَإِن مَا وَرَاءه غيب عَنهُ وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته فَيكون حجَّة بِحَسب ذَلِك وَأما هُنَا فقد جعل الله تَعَالَى هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس بِمَا هُوَ حق الله تَعَالَى (على النَّاس وَهُوَ علام الغيوب لَا تخفى عَلَيْهِ خافية فَإِن مَا يكون حجَّة لحق الله تَعَالَى) على النَّاس مَا يكون مَوْصُوفا بِأَنَّهُ حق قطعا كَيفَ وَقد جعل الله شَهَادَتهم على النَّاس كَشَهَادَة الرَّسُول عَلَيْهِم فَقَالَ تَعَالَى {وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} وَشَهَادَة الرَّسُول حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا لِأَنَّهُ مَعْصُوم عَن القَوْل بِالْبَاطِلِ فَتبين بِهَذِهِ الْمُقَابلَة أَن شَهَادَة الْأمة فِي حق النَّاس بِهَذِهِ الصّفة وَلَا يجوز أَن يُقَال هَذَا فِي حكم الْآخِرَة لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيل فِي الْآيَة وَلِأَن مَا فِي الْآخِرَة يكون أَدَاء الشَّهَادَة فِي مجْلِس الْقَضَاء وَالْقَاضِي علام الغيوب عَالم بحقائق الْأُمُور فَمَا لم يَكُونُوا عَالمين بِمَا هُوَ الْحق فِي الدُّنْيَا لَا يصلحون للْأَدَاء بِهَذِهِ الصّفة فِي الْآخِرَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ} مَعَ أَن الشَّهَادَة فِي الْآخِرَة مَذْكُورَة

(1/297)


فِي الْآيَتَيْنِ من كتاب الله تَعَالَى {شَهِيدا} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا} الْآيَة فَتبين أَن المُرَاد بِمَا تلونا الشَّهَادَة بِحُقُوق الله تَعَالَى على النَّاس فِي الدُّنْيَا
وَلَا يُقَال كَمَا وصف الله هَذِه الْأمة بِأَنَّهُم شُهَدَاء فقد وصف بِهِ أهل الْكتاب قَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تصدُّونَ عَن سَبِيل الله من آمن تَبْغُونَهَا عوجا وَأَنْتُم شُهَدَاء} وَقَالَ تَعَالَى {بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء} ثمَّ لم يدل ذَلِك على أَن إِجْمَاعهم مُوجب للْعلم وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعلهم شُهَدَاء بِمَا أَخذ الْمِيثَاق بِهِ عَلَيْهِم وَهُوَ بَيَان نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كِتَابهمْ للنَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه} الْآيَة وَلَو بينوا كَانَ بيانهم حجَّة إِلَّا أَنهم لما تعنتوا وَاشْتَغلُوا بِالْحَسَدِ وَطلب الرياسة كفرُوا بذلك وَإِنَّمَا سماهم أهل الْكتاب بِاعْتِبَار مَا كَانُوا عَلَيْهِ من قبل وَلذَلِك جعلهم شُهَدَاء على حفظ الْكتاب فَمَا لم يبدلوا كَانَ قَوْلهم حجَّة وَلَكنهُمْ حرفوا وغيروا ذَلِك فَلهَذَا لَا يكون قَوْلهم حجَّة فَأَما هُنَا فقد جعل الله هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس فَعرفنَا أَن قَوْلهم حجَّة فِي إِلْزَام حُقُوق الله على النَّاس إِلَى قيام السَّاعَة
وَلَا يُقَال فقد ثَبت حق الله بِمَا لَا يُوجب الْعلم قطعا نَحْو خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَهَذَا لِأَن خبر الْوَاحِد حجَّة بِاعْتِبَار أَنه كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا وَلَكِن امْتنع ثُبُوت الْعلم بِهِ لشُبْهَة فِي النَّقْل وَاحْتمل ذَلِك لضَرُورَة فَقدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقِيَاس لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم ابْتِدَاء بل بتعدية الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ إِلَى مَحل لَا نَص فِيهِ وَاحْتمل ذَلِك لضَرُورَة حاجتنا إِلَى ذَلِك فَأَما هُنَا فقد جعل الله تَعَالَى الْأمة شُهَدَاء على النَّاس مُطلقًا وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا إِذا كَانَ الْحق مُطلقًا فِيمَا يشْهدُونَ بِهِ
فَإِن قيل وصف الله تَعَالَى إيَّاهُم بِهَذَا لَا يكون دَلِيلا على أَنه لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على مَا هُوَ ضَلَالَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَفِيهِ بَيَان أَنه خلقهمْ لِلْعِبَادَةِ ثمَّ لَا يمْنَع ذَلِك توهم اجْتِمَاعهم على ترك الْعِبَادَة
قُلْنَا اللَّام الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {ليكونوا}

(1/298)


{ليكونوا} يدل على أَنه جعلهم بِهَذِهِ الصّفة كَرَامَة لَهُم ليَكُون قَوْلهم حجَّة على النَّاس فِي حق الله كَمَا يَقُول إِنَّه جعل النَّاس أحرارا ليكونوا أَهلا للْملك فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَن الْأَهْلِيَّة للْملك ثَابت لَهُم بِاعْتِبَار الْحُرِّيَّة فهاهنا أَيْضا يفهم من الْآيَة أَن قَوْلهم حجَّة على النَّاس بِاعْتِبَار صفة الوساطة لَهُم وَهَكَذَا كَانَ يَقْتَضِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى {إِلَّا ليعبدون} غير أَنا لَو حملنَا على هَذَا الظَّاهِر خرجت الْعِبَادَة من أَن ينالها ثَوَاب أَو عِقَاب بِتَرْكِهَا لِأَن ذَلِك يثبت بِاخْتِيَار يكون من العَبْد عِنْد الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَعرفنَا أَن المُرَاد من قَوْله {إِلَّا ليعبدون} إِلَّا وَعَلَيْهِم الْعِبَادَة لي
وَبِأَن بترك الظَّاهِر فِي مَوضِع لقِيَام الدَّلِيل لَا يمْنَع الْعَمَل بِالظَّاهِرِ فِيمَا سواهُ وَتبين أَن مَا نَحن فِيهِ نَظِير شَهَادَة الرَّسُول علينا كَمَا ذكره الله مَعْطُوفًا على هَذِه الصّفة لَا نَظِير مَا اسْتشْهدُوا بِهِ
وَأما السّنة فقد جَاءَت مستفيضة مَشْهُورَة فِي ذَلِك فَمِنْهَا حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من سره بحبوحة الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد وَمِنْهَا حَدِيث معَاذ رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم إخلاص الْعَمَل لله تَعَالَى ومناصحة وُلَاة الْأَمر وَلُزُوم جمَاعَة المسلمينومنها قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من خَالف الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله لَا يجمع أمتِي على الضَّلَالَة وَلما سُئِلَ عَن الخميرة الَّتِي يتعاطاها النَّاس قَالَ مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ قبيحا فَهُوَ عِنْد الله قَبِيح والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة تبلغ حد التَّوَاتُر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم إِذا رُوِيَ حَدِيثا فِي هَذَا الْبَاب سَمعه فِي جمع وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من ذَلِك الْجمع فَذَلِك بِمَنْزِلَة الْمُتَوَاتر كالإنسان إِذا رأى الْقَافِلَة بعد انصرافها من مَكَّة وَسمع من كل فريق وَاحِدًا يَقُول قد حجَجنَا فَإِنَّهُ يثبت لَهُ علم الْيَقِين بِأَنَّهُم حجُّوا فِي تِلْكَ السّنة

(1/299)


وَشَيْء من الْمَعْقُول يشْهد بِهِ فَإِن الله تَعَالَى جعل الرَّسُول خَاتم النَّبِيين وَحكم بِبَقَاء شَرِيعَته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَنه لَا نَبِي بعده وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من ناوأهم فَلَا بُد من أَن تكون شَرِيعَته ظَاهِرَة فِي النَّاس إِلَى قيام السَّاعَة وَقد انْقَطع الْوَحْي بوفاته فَعرفنَا ضَرُورَة أَن طَرِيق بَقَاء شَرِيعَته عصمَة الله أمته من أَن يجتمعوا على الضَّلَالَة فَإِن فِي الِاجْتِمَاع على الضَّلَالَة رفع الشَّرِيعَة وَذَلِكَ يضاد الْمَوْعُود من الْبَقَاء وَإِذا ثَبت عصمَة جَمِيع الْأمة من الِاجْتِمَاع على الضَّلَالَة ضاهى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ المسموع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ مُوجب للْعلم قطعا فَهَذَا مثله
وَهَذَا معنى مَا قُلْنَا إِن عِنْد الِاجْتِمَاع يحدث مَا لم يكن ثَابتا بالأفراد وَهُوَ نَظِير القَاضِي إِذا نفذ قَضَاء بِاجْتِهَاد فَإِنَّهُ يلْزم ذَلِك على وَجه لَا يحْتَمل النَّقْض وَإِن كَانَ ذَلِك فَوق الِاجْتِهَاد وَكَانَ ذَلِك لصيانة الْقَضَاء الَّذِي هُوَ من أَسبَاب الدّين فَلِأَن يثبت هُنَا مَا ادعينا صِيَانة لأصل الَّذين كَانَ أولى
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس وَقَالَ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الأَرْض الله قُلْنَا فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث نظر هُوَ فِي الظَّاهِر مُخَالف لكتاب الله {الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} وَمن كَانَ الله وليه فَهُوَ ظَاهر أبدا وَمعنى قَوْله يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور أَي من ظلمات الْكفْر وَالْبَاطِل إِلَى نور الْإِيمَان وَالْحق فَذَلِك دَلِيل على أَن الْحق مَا يتفقون عَلَيْهِ فِي كل وَقت وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} الْآيَة وَلَو ثَبت الحَدِيث فَالْمُرَاد بَيَان أَن أهل الشَّرّ يغلبُونَ فِي آخر الزَّمَان مَعَ بَقَاء الصَّالِحين المتمسكين بِالْحَقِّ فيهم وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ الآخر بَيَان الْحَال بَين نفخة الْفَزع ونفخة الْبَعْث فَإِن قيام السَّاعَة عِنْد نفخة الْبَعْث وَعند ذَلِك لم يبْق فِي الأَرْض من بني آدم أحد حَيا
ثمَّ الْكَلَام بعد هَذَا فِي سَبَب الْإِجْمَاع وركنه وأهلية من ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع وَشَرطه وَحكمه
من الْكتاب وَالسّنة
أما الْكتاب فنحو الْإِجْمَاع على حُرْمَة الْأُمَّهَات وَالْبَنَات سَببه قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} وَأما من حَيْثُ السّنة فنحو الْإِجْمَاع على

(1/300)