أصول السرخسي فصل الْأَهْلِيَّة
زعم بعض النَّاس أَن الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم لَا يكون
إِلَّا بِاتِّفَاق فرق الْأمة أهل الْحق وَأهل الضَّلَالَة
جَمِيعًا لِأَن الْحجَّة إِجْمَاع الْأمة وَمُطلق اسْم الْأمة
يتَنَاوَل الْكل
(1/310)
فَأَما الْمَذْهَب عندنَا أَن الْحجَّة
اتِّفَاق كل عَالم مُجْتَهد مِمَّن هُوَ غير مَنْسُوب إِلَى
هوى وَلَا معلن بفسق فِي كل عصر لِأَن حكم الْإِجْمَاع
إِنَّمَا يثبت بِاعْتِبَار وصف لَا يثبت إِلَّا بِهَذِهِ
الْمعَانِي وَذَلِكَ صفة الوساطة كَمَا قَالَ تَعَالَى
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} وَهُوَ عبارَة عَن
الْخِيَار الْعُدُول المرضيين وَصفَة الشَّهَادَة بقوله
{لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} فَلَا بُد من اعْتِبَار
الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الشَّهَادَة وَصفَة الْأَمر
بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ يُشِير إِلَى فَرضِيَّة الِاتِّبَاع
فِيمَا يأمرون بِهِ وَينْهَوْنَ عَنهُ وَإِنَّمَا يفترض
اتِّبَاع الْعدْل المرضي فِيمَا يَأْمر بِهِ وثبوته بطرِيق
الْكَرَامَة على الدّين والمستحق للكرامات مُطلقًا من كَانَ
بِهَذِهِ الصّفة
فَأَما أهل الْأَهْوَاء فَمن يكفر فِي هَوَاهُ فاسم الْأمة لَا
يتَنَاوَلهُ مُطلقًا وَلَا هُوَ مُسْتَحقّ للكرامة الثَّابِتَة
للْمُؤْمِنين وَمن يضلل فِي هَوَاهُ إِذا كَانَ يَدْعُو
النَّاس إِلَى مَا يَعْتَقِدهُ فَهُوَ يتعصب لذَلِك على وَجه
يخرج بِهِ إِلَى صفة السَّفه والمجون فَيكون مُتَّهمًا فِي
أَمر الدّين لَا مُعْتَبر بقوله فِي إِجْمَاع الْأمة وَلِهَذَا
لم يعْتَبر خلاف الروافض فِي إِمَامَة أبي بكر وَلَا خلاف
الْخَوَارِج فِي خلَافَة عَليّ
فَإِن كَانَ لَا يَدْعُو النَّاس إِلَى هَوَاهُ وَلكنه
مَشْهُور بِهِ فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا فِيمَا يضلل هُوَ
فِيهِ لَا مُعْتَبر بقوله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يضلل لمُخَالفَته
نصا مُوجبا للْعلم فَكل قَول كَانَ بِخِلَاف النَّص فَهُوَ
بَاطِل وَفِيمَا سوى ذَلِك يعْتَبر قَوْله وَلَا يثبت
الْإِجْمَاع مَعَ مُخَالفَته لِأَنَّهُ من أهل الشَّهَادَة
وَلِهَذَا كَانَ مَقْبُول الشَّهَادَة فِي الْأَحْكَام
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِن كَانَ
مُتَّهمًا بالهوى وَلكنه غير مظهر لَهُ فَالْجَوَاب هَكَذَا
فَأَما إِذا كَانَ مظْهرا لهواه فَإِنَّهُ لَا يعْتد بقوله فِي
الْإِجْمَاع لِأَن الْمَعْنى الَّذِي لأَجله قبلت شَهَادَته
لَا يُوجد هُنَا فَإِنَّهَا تقبل لانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب
على مَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله قوم عظموا الذُّنُوب
حَتَّى جعلوها كفرا لَا يتهمون بِالْكَذِبِ فِي الشَّهَادَة
وَهَذَا يدل على أَنهم لَا يؤتمنون فِي أَحْكَام الشَّرْع
وَلَا يعْتَبر قَوْلهم فِيهِ فَإِن الْخَوَارِج هم الَّذين
يَقُولُونَ إِن الذَّنب نَفسه كفر وَقد أكفروا أَكثر
الصَّحَابَة الَّذين عَلَيْهِم مدَار أَحْكَام الشَّرْع
وَإِنَّمَا عرفناها بنقلهم فَكيف يعْتَمد قَول هَؤُلَاءِ فِي
أَحْكَام الشَّرْع وَأدنى مَا فِيهِ أَنهم لَا يتعلمون ذَلِك
إِذا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كفر الناقلين
وَلَا مُعْتَبر بقول الْجُهَّال فِي الْأَحْكَام فَأَما من
كَانَ محقا فِي اعْتِقَاده
(1/311)
وَلكنه فَاسق فِي تعاطيه فالعراقيون
يَقُولُونَ لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع أَيْضا لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِأَهْل لأَدَاء الشَّهَادَة وَلِأَن التَّوَقُّف فِي
قَوْله وَاجِب بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يَنْفِي وجوب الِاتِّبَاع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِذا كَانَ
مُعْلنا لفسقه فَكَذَلِك الْجَواب لِأَنَّهُ لما لم يتحرز من
إعلان مَا يَعْتَقِدهُ بَاطِلا فَكَذَلِك لَا يتحرز من إعلان
قَول يعْتَقد بُطْلَانه بَاطِنا فَأَما إِذا لم يكن مظْهرا
للفسق فَإِنَّهُ يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع وَإِن علم فسقه
حَتَّى ترد شَهَادَته لِأَنَّهُ لَا يخرج بِهَذَا من
الْأَهْلِيَّة للشَّهَادَة أصلا وَلَا من الْأَهْلِيَّة
للكرامة بِسَبَب الدّين أَلا ترى أَنا نقطع القَوْل لمن يَمُوت
مُؤمنا مصرا على فسقه أَنه لَا يخلد فِي النَّار فَإِذا كَانَ
هُوَ أَهلا للكرامة بِالْجنَّةِ فِي الْآخِرَة فَكَذَلِك فِي
الدُّنْيَا بِاعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع
فَأَما كَونه عَالما مُجْتَهدا فَهُوَ مُعْتَبر فِي الحكم
الَّذِي يخْتَص بمعرفته وَالْحَاجة إِلَيْهِ الْعلمَاء وعَلى
هَذَا قُلْنَا من يكون متكلما غير عَالم بأصول الْفِقْه
والأدلة الشَّرْعِيَّة فِي الْأَحْكَام لَا يعْتد بقوله فِي
الْإِجْمَاع
هَكَذَا نقل عَن الْكَرْخِي
وَكَذَلِكَ من يكون مُحدثا لَا بصر لَهُ فِي وُجُوه الرَّأْي
وطرق المقاييس الشَّرْعِيَّة لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع
لِأَن هَذَا فِيمَا يَبْنِي عَلَيْهِ حكم الشَّرْع بِمَنْزِلَة
الْعَاميّ وَلَا يعْتد بقول الْعَاميّ فِي إِجْمَاع عُلَمَاء
الْعَصْر لِأَنَّهُ لَا هِدَايَة لَهُ فِي الحكم الْمُحْتَاج
إِلَى مَعْرفَته فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَجْنُون حَتَّى لَا
يعْتد بمخالفته
ثمَّ قَالَ بعض الْعلمَاء الَّذين هم بِالصّفةِ الَّتِي
قُلْنَا من أهل الْعَصْر مَا لم يبلغُوا حدا لَا يتَوَهَّم
عَلَيْهِم التواطؤ على الْبَاطِل لَا يثبت الْإِجْمَاع
الْمُوجب للْعلم باتفاقهم أَلا ترى أَن حكم التَّوَاتُر لَا
يثبت بخبرهم مَا لم يبلغُوا هَذَا الْحَد فَكَذَلِك حكم
الْإِجْمَاع بقَوْلهمْ لِأَن بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت علم
الْيَقِين
وَالأَصَح عندنَا أَنهم إِذا كَانُوا جمَاعَة وَاتَّفَقُوا
قولا أَو فَتْوَى من الْبَعْض مَعَ سكُوت البَاقِينَ فَإِنَّهُ
ينْعَقد الْإِجْمَاع بِهِ وَإِن لم يبلغُوا حد التَّوَاتُر
بِخِلَاف الْخَبَر فَإِن ذَلِك مُحْتَمل للصدق وَالْكذب فَلَا
بُد من مُرَاعَاة معنى يَنْتَفِي بِهِ تُهْمَة الْكَذِب
بكثرتهم أَلا ترى أَن صفة الْعَدَالَة لَا تعْتَبر هُنَاكَ
وَهَذَا إِظْهَار حكم ابْتِدَاء لَيْسَ فِيهِ من معنى
احْتِمَال تُهْمَة الْكَذِب شَيْء إِنَّمَا فِيهِ توهم
الْخَطَأ فَإِذا كَانُوا جمَاعَة فالأمن عَن ذَلِك ثَابت شرعا
كَرَامَة لَهُم بِسَبَب الدّين وَصفَة الْعَدَالَة على مَا
قَررنَا
(1/312)
فَإِن قيل لَا يُؤمن على هَؤُلَاءِ إعلان
الْفسق أَو الضَّلَالَة أَو الرِّدَّة مثلا بَعْدَمَا انْعَقَد
الْإِجْمَاع مِنْهُم فَكيف يُؤمن الْخَطَأ بِاعْتِبَار
اجْتِمَاعهم وَعَن هَذَا الْكَلَام جوابان لمشايخنا رَحِمهم
الله أَحدهمَا أَنا لَا نجوز هَذَا على جَمَاعَتهمْ بَعْدَمَا
كَانَ إِجْمَاعهم مُوجبا للْعلم فِي حكم الشَّرْع فَإِن الله
تَعَالَى يعصمهم من ذَلِك لِأَن إِجْمَاعهم صَار بِمَنْزِلَة
النَّص عَن صَاحب الشَّرِيعَة فَكَمَا أَن الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن هَذَا نقطع القَوْل بِهِ
لِأَن قَوْله مُوجب للْعلم فَكَذَلِك جمَاعَة الْعلمَاء إِذا
ثَبت لَهُم هَذِه الدرجَة وَهُوَ أَن قَوْلهم مُوجب للْعلم
كَرَامَة بِسَبَب الدّين
وَالثَّانِي أَنه وَإِن تحقق هَذَا مِنْهُم فَإِن الله
تَعَالَى يُقيم آخَرين مقامهم ليَكُون الحكم ثَابتا بإجماعهم
لِأَن الدّين مَحْفُوظ إِلَى قيام السَّاعَة على مَا قَالَ
رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي
ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله فَمَا يعْتَرض
على الْأَوَّلين لَا يُؤثر فِي حكم الْإِجْمَاع لقِيَام
أمثالهم مقامهم بِمَنْزِلَة مَوْتهمْ
وَقَالَ بعض الْعلمَاء الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم لَا يكون
إِلَّا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا خير النَّاس
بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنهم صحبوه وسمعوا
مِنْهُ علم التَّنْزِيل والتأويل وَأثْنى عَلَيْهِم فِي آثَار
مَعْرُوفَة فهم المختصون بِهَذِهِ الْكَرَامَة
وَهَذَا ضَعِيف عندنَا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَمَا أثنى عَلَيْهِم فقد أثنى على من بعدهمْ فَقَالَ خير
النَّاس قَرْني الَّذين أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ
ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فَفِي هَذَا بَيَان أَن أهل كل عصر
يقومُونَ مقامهم فِي صفة الْخَيْرِيَّة إِذا كَانُوا على مثل
اعْتِقَادهم والمعاني الَّتِي بيناها لإِثْبَات هَذَا الحكم
بهَا من صفة الوساطة وَالشَّهَادَة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
لَا يخْتَص بِزَمَان وَلَا بِقوم وَثُبُوت هَذَا الحكم
بِالْإِجْمَاع لتحقيق بَقَاء حكم الشَّرْع إِلَى قيام
السَّاعَة وَذَلِكَ لَا يتم مَا لم يَجْعَل إِجْمَاع أهل كل
عصر حجَّة كإجماع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
فَإِن قيل ف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ بِخِلَاف هَذَا
لِأَنَّهُ قَالَ مَا جَاءَنَا عَن الصَّحَابَة اتبعناهم وَمَا
جَاءَنَا عَن التَّابِعين زاحمناهم
قُلْنَا إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ من جملَة
التَّابِعين
(1/313)
فَإِنَّهُ رأى أَرْبَعَة من الصَّحَابَة
أنس بن مَالك وَعبد الله بن أبي أوفى وَأَبُو الطُّفَيْل وَعبد
الله بن حَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَقد
كَانَ مِمَّن يجْتَهد فِي عهد التَّابِعين وَيعلم النَّاس
حَتَّى نَاظر الشّعبِيّ فِي مَسْأَلَة النّذر بالمعصية فَمَا
كَانَ ينْعَقد إِجْمَاعهم بِدُونِ قَوْله فَلهَذَا قَالَ ذَلِك
لَا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى إِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة
حجَّة
وَمن النَّاس من يَقُول الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة
إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة خَاصَّة لأَنهم أهل حَضْرَة
الرَّسُول وَقد بَين رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام
خُصُوصِيَّة تِلْكَ الْبقْعَة فِي آثَار فَقَالَ إِن
الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة كَمَا تأرز الْحَيَّة
إِلَى جحرها وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الدَّجَّال لَا
يدخلهَا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من أَرَادَ أَهلهَا بِسوء
أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام إِن الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث كَمَا يَنْفِي
الْكِير خبث الْحَدِيد وَلَكِن مَا قَررنَا من الْمعَانِي لَا
يخْتَص بمَكَان دون مَكَان
ثمَّ إِن كَانَ مُرَاد الْقَائِل أَهلهَا الَّذين كَانُوا فِي
عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا لَا يُنَازع
فِيهِ أحد وَإِن كَانَ المُرَاد أَهلهَا فِي كل عصر فَهُوَ
قَول بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بقْعَة من الْبِقَاع
الْيَوْم فِي دَار الْإِسْلَام قوم هم أقل علما وَأظْهر جهلا
وَأبْعد عَن أَسبَاب الْخَيْر من الَّذين هم بِالْمَدِينَةِ
فَكيف يستجاز القَوْل بِأَنَّهُ لَا إِجْمَاع فِي أَحْكَام
الدّين إِلَّا إِجْمَاعهم وَالْمرَاد بالآثار حَال الْمَدِينَة
فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين كَانَت
الْهِجْرَة فَرِيضَة كَانَ الْمُسلمُونَ يَجْتَمعُونَ فِيهَا
وَأهل الْخبث وَالرِّدَّة لَا يقرونَ فِيهَا وَقد تكون
الْبقْعَة محروسة وَإِن كَانَ من يسكنهَا على غير الْحق أَلا
ترى أَن مَكَّة كَانَت محروسة عَام الْفِيل مَعَ أَن أَهلهَا
كَانُوا مُشْرِكين يَوْمئِذٍ
وَمن النَّاس من يَقُول لَا إِجْمَاع إِلَّا لعترة الرَّسُول
لأَنهم المخصوصون بِقرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَأَسْبَاب الْعِزّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي
تَارِك فِيكُم الثقلَيْن كتاب الله وعترتي إِن تمسكتم بهما لم
تضلوا بعدِي وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب
عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
الْمُوجب للْعلم بِاعْتِبَار نُصُوص ومعاني لَا يخْتَص ذَلِك
بِأَهْل الْبَيْت وَالنّسب لَيْسَ من ذَلِك فِي شَيْء فالتخصيص
بِهِ يكون زِيَادَة كَيفَ وَقد قَالَ تَعَالَى {وَاتبع}
(1/314)
وَلَكنَّا نقُول أَنْوَاع الْكَرَامَة لأهل
الْبَيْت مُتَّفق عَلَيْهِ وَلَكِن حكم الْإِجْمَاع سَبِيل من
أناب إِلَيّ فَكل من كَانَ منيبا إِلَى ربه فَهُوَ دَاخل فِي
هَذِه الْآيَة وَهُوَ مُرَاد بقوله تَعَالَى {وَيتبع غير
سَبِيل الْمُؤمنِينَ} كَمَا ذكرنَا من الِاسْتِدْلَال بِهِ
فصل الشَّرْط
زعم بعض النَّاس أَن انْقِرَاض الْعَصْر شَرط لثُبُوت حكم
الْإِجْمَاع
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا لِأَن قبل
انْقِرَاض الْعَصْر إِذا بدا لبَعْضهِم رَأْي خلاف رَأْي
الْجَمَاعَة فَإِن مَا ظهر لَهُ فِي الِانْتِهَاء بِمَنْزِلَة
الْمَوْجُود فِي الِابْتِدَاء وَلَو كَانَ مَوْجُودا لم
ينْعَقد إِجْمَاعهم بِدُونِ قَوْله فَكَذَلِك إِذا اعْترض لَهُ
ذَلِك وَلَا يَقع الْأَمْن عَن هَذَا إِلَّا بانقراض الْعَصْر
على ذَلِك الْإِجْمَاع أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله
عَنهُ كَانَ يُسَوِّي بَين النَّاس فِي العطايا وَكَانُوا لَا
يخالفونه فِي ذَلِك ثمَّ فضل عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي
العطايا فِي خِلَافَته وَلَا يظنّ بِهِ مُخَالفَة الْجَمَاعَة
فَعرفنَا أَن بِدُونِ انْقِرَاض الْعَصْر لَا يثبت حكم
الْإِجْمَاع وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ اتّفق رَأْيِي
ورأي عمر على أَن أُمَّهَات الْأَوْلَاد لَا يبعن وأنهن
أَحْرَار عَن دبر من الموَالِي ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن
فَلَو ثَبت الْإِجْمَاع قبل انْقِرَاض الْعَصْر لما استجاز
خلاف الْإِجْمَاع بِرَأْيهِ
وَأما عندنَا انْقِرَاض الْعَصْر لَيْسَ بِشَرْط لِأَن
الْإِجْمَاع لما انْعَقَد بِاعْتِبَار اجْتِمَاع مَعَاني
الَّذِي قُلْنَا كَانَ الثَّابِت بِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ
وكما أَن الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يخْتَص بِوَقْت دون وَقت
فَكَذَلِك الثَّابِت بِالْإِجْمَاع وَلَو شرطنا انْقِرَاض
الْعَصْر لم يثبت الْإِجْمَاع أبدا لِأَن بعض التَّابِعين فِي
عصر الصَّحَابَة كَانَ يزاحمهم فِي الْفَتْوَى فيتوهم أَن
يَبْدُو لَهُ رَأْي بعد أَن لم يبْق أحد من الصَّحَابَة
وَهَكَذَا فِي الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث فَيُؤَدِّي إِلَى
سد بَاب حكم الْإِجْمَاع (أصلا) وَهَذَا بَاطِل
وَلَكنَّا نقُول بعد مَا ثَبت الْإِجْمَاع مُوجبا للْعلم
باتفاقهم فَلَيْسَ لأحد أَن يظْهر خلاف ذَلِك بِرَأْيهِ لَا من
(1/315)
أهل ذَلِك الْعَصْر وَلَا من غَيرهم كَمَا
لَا يكون لَهُ أَن يُخَالف النَّص بِرَأْيهِ وَهَذَا بِخِلَاف
رَأْيه قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَن الدَّلِيل الْمُوجب
للْعلم لم يَتَقَرَّر هُنَاكَ فَكَانَ قَوْله مُعْتَبرا فِي
منع انْعِقَاد الْإِجْمَاع
وَأما حَدِيث التَّسْوِيَة فِي الْعَطاء فقد كَانَ مُخْتَلفا
فِي الِابْتِدَاء على مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ
قَالَ لأبي بكر لَا تجْعَل من لَا سَابِقَة لَهُ فِي
الْإِسْلَام كمن لَهُ سَابِقَة
فَقَالَ أَبُو بكر هم إِنَّمَا عمِلُوا لله فأجرهم على الله
فَتبين أَن هَذَا الْفَصْل كَانَ مُخْتَلفا فِي الِابْتِدَاء
فَلهَذَا مَال عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى التَّفْضِيل
وَحَدِيث أُمَّهَات الْأَوْلَاد فالمروي أَن عليا رَضِي الله
عَنهُ قَالَ ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن
يَعْنِي أَن لَا أعتقهن بِمَوْت الْمولى حَتَّى يكون الْوَارِث
أَو الْوَصِيّ هُوَ الْمُعْتق لَهَا كَمَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر
بعض الْآثَار المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَيْسَ المُرَاد جَوَاز بيعهنَّ إِذْ لَيْسَ من ضَرُورَة
الرّقّ جَوَاز البيع لَا محَالة
وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول شَرط الْإِجْمَاع أَن
يجْتَمع عُلَمَاء الْعَصْر كلهم على حكم وَاحِد فَأَما إِذا
اجْتمع أَكْثَرهم على شَيْء وَخَالفهُم وَاحِد أَو اثْنَان لم
يثبت حكم الْإِجْمَاع
وَهَذَا قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا لِأَن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ
اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبر بالقلة
وَالْكَثْرَة فِي الْمَعْنى الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ حكم
الْإِجْمَاع وبالاتفاق لَو كَانَ فريق مِنْهُم على قَول وفريق
مثلهم على قَول آخر فَإِنَّهُ لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع
فَكَذَلِك إِذا كَانَ أَكْثَرهم على قَول وَنَفر يسير مِنْهُم
على خلاف ذَلِك لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي مَا أَشَارَ
إِلَيْهِ أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَن الْوَاحِد إِذا
خَالف الْجَمَاعَة فَإِن سوغوا لَهُ ذَلِك الِاجْتِهَاد لَا
يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله بِمَنْزِلَة خلاف ابْن
عَبَّاس للصحابة فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين أَن للْأُم
ثلث جَمِيع المَال وَإِن لم يسوغوا لَهُ الِاجْتِهَاد وأنكروا
(عَلَيْهِ) قَوْله فَإِنَّهُ يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ
قَوْله بِمَنْزِلَة قَول ابْن عَبَّاس فِي حل التَّفَاضُل فِي
أَمْوَال الرِّبَا فَإِن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم
يسوغوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَاد حَتَّى رُوِيَ أَنه رَجَعَ
إِلَى قَوْلهم فَكَانَ الْإِجْمَاع ثَابتا بِدُونِ قَوْله
وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الْإِمْلَاء لَو قضى
القَاضِي
(1/316)
بِجَوَاز بيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ
لم ينفذ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالف للْإِجْمَاع
وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل قَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي
النَّار
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم
يَعْنِي مَا عَلَيْهِ عَامَّة الْمُؤمنِينَ فَفِي هَذَا
إِشَارَة إِلَى أَن قَول الْوَاحِد لَا يُعَارض قَول
الْجَمَاعَة ولأنا لَو شرطنا هَذَا أدّى إِلَى أَن لَا ينْعَقد
الْإِجْمَاع أبدا لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يكون فِي عُلَمَاء
الْعَصْر وَاحِد أَو اثْنَان مِمَّن لم يسمع ذَلِك الْفَتْوَى
أصلا وَمِمَّنْ يرى خلاف ذَلِك
وَإِنَّمَا كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة بِاعْتِبَار ظُهُور وَجه
الصَّوَاب فِيهِ بالاجتماع عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يظْهر هَذَا
فِي قَول الْجَمَاعَة لَا فِي قَول الْوَاحِد أَلا ترى أَن
قَول الْوَاحِد لَا يكون مُوجبا للْعلم وَإِن لم يكن بمقابلته
جمَاعَة يخالفونه وَقَول الْجَمَاعَة مُوجب للْعلم إِذا لم يكن
هُنَاكَ وَاحِد يخالفهم فَكَذَلِك مَعَ وجود هَذَا الْوَاحِد
لِأَن قَوْله لَا يُعَارض قَوْلهم بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ على
كل قَول جمَاعَة فهناك الْمُعَارضَة تتَحَقَّق وَالْمرَاد من
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ إِذا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل مُوجبا للْعلم
بِخِلَاف قَول من يَهْتَدِي بِهِ أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ
هُنَاكَ نَص بِخِلَاف قَول الْوَاحِد لم يجز اتِّبَاعه وَلم
يكن هَذَا الحَدِيث متناولا لَهُ
وَحكي عَن أبي حَازِم القَاضِي رَحمَه الله أَن الْخُلَفَاء
الرَّاشِدين إِذا اتَّفقُوا على شَيْء فَذَلِك إِجْمَاع مُوجب
للْعلم وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم فِي ذَلِك لقَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء
الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلِهَذَا لم
يعْتَبر خلاف زيد للخلفاء فِي تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام وَأمر
المعتصم برد الْأَمْوَال الَّتِي اجْتمعت فِي بَيت المَال
مِمَّا أخذت من تركات فِيهَا ذَوُو الْأَرْحَام فَأنْكر ذَلِك
عَلَيْهِ أَبُو سعيد البردعي رَحمَه الله وَقَالَ هَذَا شَيْء
أمضى على قَول زيد فَقَالَ لَا أَعْتَد خلاف زيد فِي مُقَابلَة
قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَقد قضيت بذلك فَلَيْسَ لأحد
أَن يُبطلهُ بعدِي
(1/317)
|