أصول السرخسي فصل فِي أَقسَام الروَاة الَّذين يكون
خبرهم حجَّة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الروَاة قِسْمَانِ
مَعْرُوف ومجهول
فالمعروف نَوْعَانِ من كَانَ مَعْرُوفا بالفقه والرأي فِي
الِاجْتِهَاد وَمن كَانَ مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ وَحسن
الضَّبْط وَالْحِفْظ وَلكنه قَلِيل الْفِقْه
فالنوع الأول كالخلفاء الرَّاشِدين والعبادلة وَزيد بن ثَابت
ومعاذ بن جبل وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَائِشَة وَغَيرهم
من الْمَشْهُورين بالفقه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وخبرهم حجَّة مُوجبَة
(1/338)
للْعلم الَّذِي هُوَ غَالب الرَّأْي ويبتنى
عَلَيْهِ وجوب الْعَمَل سَوَاء كَانَ الْخَبَر مُوَافقا
للْقِيَاس أَو مُخَالفا لَهُ فَإِن كَانَ مُوَافقا للْقِيَاس
تأيد بِهِ وَإِن كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس يتْرك الْقيَاس
وَيعْمل بالْخبر
وَكَانَ مَالك بن أنس يَقُول يقدم الْقيَاس على خبر الْوَاحِد
فِي الْعَمَل بِهِ لِأَن الْقيَاس حجَّة بِإِجْمَاع السّلف من
الصَّحَابَة وَدَلِيل الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أقوى من
خبر الْوَاحِد فَكَذَلِك مَا يكون ثَابتا بِالْإِجْمَاع
وَلَكنَّا نقُول ترك الْقيَاس بالْخبر الْوَاحِد فِي الْعَمَل
بِهِ أَمر مَشْهُور فِي الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من السّلف لَا
يُمكن إِنْكَاره حَتَّى يسمون ذَلِك معدولا بِهِ عَن الْقيَاس
وَعَلِيهِ دلّ حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِن حمل ابْن
مَالك رَضِي الله عَنهُ حِين روى لَهُ حَدِيث الْغرَّة فِي
الْجَنِين قَالَ كدنا أَن نقضي فِيهِ برأينا فِيمَا فِيهِ
قَضَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف مَا
قضى بِهِ
وَفِي رِوَايَة لَوْلَا مَا رويت لرأينا خلاف ذَلِك
وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ كُنَّا نخابر وَلَا نرى
بذلك بَأْسا حَتَّى أخبرنَا رَافع بن خديج رَضِي الله عَنهُ
أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن إكراء الْمزَارِع
فتركناه لأجل قَوْله وَلِأَن قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مُوجب للْعلم بِاعْتِبَار أَصله وَإِنَّمَا الشُّبْهَة
فِي النَّقْل عَنهُ
فَأَما الْوَصْف الَّذِي بِهِ الْقيَاس فالشبهة وَالِاحْتِمَال
فِي أَصله لأَنا لَا نعلم يَقِينا أَن ثُبُوت الحكم
الْمَنْصُوص بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف من بَين سَائِر
الْأَوْصَاف وَمَا يكون الشُّبْهَة فِي أَصله دون مَا تكون
الشُّبْهَة فِي طَرِيقه بعد التيقن بِأَصْلِهِ يُوضحهُ أَن
الشُّبْهَة هُنَا بِاعْتِبَار توهم الْغَلَط وَالنِّسْيَان فِي
الرَّاوِي وَذَلِكَ عَارض وَهُنَاكَ بِاعْتِبَار التَّرَدُّد
بَين هَذَا الْوَصْف وَسَائِر الْأَوْصَاف وَهُوَ أصل ثمَّ
الْوَصْف الَّذِي هُوَ معنى من الْمَنْصُوص كالخبر والرأي
وَالنَّظَر فِيهِ كالسماع وَالْقِيَاس كالعمل بِهِ وَلَا شكّ
أَن الْوَصْف سَاكِت عَن الْبَيَان وَالْخَبَر بَيَان فِي
نَفسه فَيكون الْخَبَر أقوى من الْوَصْف فِي الْإِبَانَة
وَالسَّمَاع أقوى من الرَّأْي فِي الْإِصَابَة وَلَا يجوز ترك
الْقوي بالضعيف
فَأَما الْمَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ والضبط وَالْحِفْظ كَأبي
هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا
مِمَّن اشْتهر بالصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَالسَّمَاع مِنْهُ مُدَّة
(1/339)
طَوِيلَة فِي الْحَضَر وَالسّفر فَإِن
أَبَا هُرَيْرَة مِمَّن لَا يشك أحد فِي عَدَالَته وَطول صحبته
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَالَ لَهُ
(زر غبا تَزْدَدْ حبا) وَكَذَلِكَ فِي حسن حفظه وَضَبطه فقد
دَعَا لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك على مَا
رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ يَزْعمُونَ أَن أَبَا هُرَيْرَة يكثر
الرِّوَايَة وَإِنِّي كنت أصحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على ملْء بَطْني وَالْأَنْصَار يشتغلون بِالْقيامِ على
أَمْوَالهم والمهاجرون بتجاراتهم فَكنت أحضر إِذا غَابُوا وَقد
حضرت مَجْلِسا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
(من يبسط مِنْكُم رِدَاءَهُ حَتَّى أفيض فِيهِ مَقَالَتي
فيضمها إِلَيْهِ ثمَّ لَا ينساها) فبسطت بردة كَانَت عَليّ
فَأَفَاضَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مقَالَته ثمَّ ضممتها إِلَى صَدْرِي فَمَا نسيت بعد ذَلِك
شَيْئا
وَلَكِن مَعَ هَذَا قد اشْتهر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ
وَمن بعدهمْ مُعَارضَة بعض رواياته بِالْقِيَاسِ هَذَا ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما سَمعه يروي (توضؤوا مِمَّا
مسته النَّار) قَالَ أَرَأَيْت لَو تَوَضَّأت بِمَاء سخن أَكنت
تتوضأ مِنْهُ أَرَأَيْت لَو ادهن أهلك بدهن فادهنت بِهِ شاربك
أَكنت تتوضأ مِنْهُ فقد رد خَبره بِالْقِيَاسِ حَتَّى رُوِيَ
أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ (لَهُ) يَا ابْن أخي إِذا أَتَاك
الحَدِيث فَلَا تضرب لَهُ الْأَمْثَال
وَلَا يُقَال إِنَّمَا رده بِاعْتِبَار نَص آخر عِنْده وَهُوَ
مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى بكتف مؤربة
فَأكلهَا وَصلى وَلم يتَوَضَّأ لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْده نَص
لما تكلم بِالْقِيَاسِ وَلَا أعرض عَن أقوى الحجتين أَو كَانَ
سَبيله أَن يطْلب التَّارِيخ بَينهمَا ليعرف النَّاسِخ من
الْمَنْسُوخ أَو أَن يخصص اللَّحْم من ذَلِك الْخَبَر بِهَذَا
الحَدِيث فَحَيْثُ اشْتغل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَعْرُوف بالفقه
والرأي من بَين الصَّحَابَة على وَجه لَا يبلغ دَرَجَة أبي
هُرَيْرَة فِي الْفِقْه ودرجته عرفنَا أَنه استخار التَّأَمُّل
فِي رِوَايَته إِذا كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس
وَلما سَمعه يروي من حمل جَنَازَة فَليَتَوَضَّأ قَالَ أيلزمنا
الْوضُوء فِي حمل عيدَان يابسة وَلما سَمِعت عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي أَن ولد الزِّنَا شَرّ
الثَّلَاثَة
قَالَت كَيفَ يَصح هَذَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تزر
وَازِرَة وزر أُخْرَى}
(1/340)
وَهَذَا عَام دخله خُصُوص
وَرُوِيَ أَن عَائِشَة قَالَت لِابْنِ أَخِيهَا أَلا تعجب من
كَثْرَة رِوَايَة هَذَا الرجل وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حدث بِأَحَادِيث لَو عدهَا عَاد لأحصاها وَقَالَ
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَضِي الله عَنهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَيدعونَ
وَقَالَ لَو كَانَ ولد الزِّنَا شَرّ الثَّلَاثَة لما انْتظر
بِأُمِّهِ أَن تضع
وَهَذَا نوع قِيَاس
وَلما بلغ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي مَا
لَا يعرف قَالَ لتكفن عَن هَذَا أَو لألحقنك بجبال دوس
فلمكان مَا اشْتهر من السّلف فِي هَذَا الْبَاب قُلْنَا مَا
وَافق الْقيَاس من رِوَايَته فَهُوَ مَعْمُول بِهِ وَمَا خَالف
الْقيَاس فَإِن تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ فَهُوَ
مَعْمُول بِهِ وَإِلَّا فَالْقِيَاس الصَّحِيح شرعا مقدم على
رِوَايَته فِيمَا ينسد بَاب الرَّأْي فِيهِ
وَلَعَلَّ ظَانّا يظنّ أَن فِي مقالتنا ازدراء بِهِ ومعاذ الله
من ذَلِك فَهُوَ مقدم فِي الْعَدَالَة وَالْحِفْظ والضبط كَمَا
قَررنَا وَلَكِن نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى كَانَ مستفيضا فيهم
وَالْوُقُوف على كل معنى أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَامِهِ أَمر عَظِيم فقد أُوتِيَ جَوَامِع
الْكَلم على مَا قَالَ أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي
اختصارا وَمَعْلُوم أَن النَّاقِل بِالْمَعْنَى لَا ينْقل
إِلَّا بِقدر مَا فهمه من الْعبارَة وَعند قُصُور فهم السَّامع
رُبمَا يذهب عَلَيْهِ بعض المُرَاد وَهَذَا الْقُصُور لَا يشكل
عِنْد الْمُقَابلَة بِمَا هُوَ فقه (لفظ) رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فلتوهم هَذَا الْقُصُور قُلْنَا إِذا انسد بَاب
الرَّأْي فِيمَا رُوِيَ وتحققت الضَّرُورَة بِكَوْنِهِ
مُخَالفا للْقِيَاس الصَّحِيح فَلَا بُد من تَركه لِأَن كَون
الْقيَاس الصَّحِيح حجَّة ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع فَمَا خَالف الْقيَاس الصَّحِيح من كل وَجه
فَهُوَ فِي الْمَعْنى مُخَالف للْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة
وَالْإِجْمَاع
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث الْمُصراة فَإِن الْأَمر برد صَاع
من تمر مَكَان اللَّبن قل أَو كثر مُخَالف للْقِيَاس الصَّحِيح
من كل وَجه لِأَن تَقْدِير الضَّمَان فِي العدوانات بِالْمثلِ
أَو الْقيمَة حكم ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
وَكَذَلِكَ فِيمَا يرويهِ سَلمَة بن المحبق أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/341)
قَالَ فِيمَن وطىء جَارِيَة امْرَأَته
فَإِن طاوعته فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا وَإِن استكرهها
فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا فَإِن الْقيَاس الصَّحِيح يرد
هَذَا الحَدِيث ويتبين أَنه كالمخالف للْكتاب وَالسّنة
الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع
ثمَّ هَذَا النَّوْع من الْقُصُور لَا يتَوَهَّم فِي الرَّاوِي
إِذا كَانَ فَقِيها لِأَن ذَلِك لَا يخفى عَلَيْهِ لقُوَّة
فقهه فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا روى الحَدِيث بِالْمَعْنَى عَن
بَصِيرَة فَإِنَّهُ علم سَمَاعه (من رَسُول الله كَذَلِك
مُخَالفا للْقِيَاس وَلَا تُهْمَة فِي رِوَايَته فكأنا سمعنَا
ذَلِك) من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيلزمنا ترك كل
قِيَاس بمقابلته وَلِهَذَا قلت رِوَايَة الْكِبَار من فُقَهَاء
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ عَن
عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ صَحِبت ابْن مَسْعُود سِنِين فَمَا
سمعته يروي حَدِيثا إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ قَالَ
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَخذه البهر
وَالْفرق وَجعلت فرائصه ترتعد فَقَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا
مِنْهُ أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ سَمِعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كَذَا
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوُقُوف على مَا أَرَادَهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَعَاني كَلَامه كَانَ
عَظِيما عِنْدهم فَلهَذَا قلت رِوَايَة الْفُقَهَاء مِنْهُم
فَإِذا صحت الرِّوَايَة عَنْهُم فَهُوَ مقدم على الْقيَاس
وَمَعَ هَذَا كُله فالكبار من أَصْحَابنَا يعظمون رِوَايَة
هَذَا النَّوْع مِنْهُم ويعتمدون قَوْلهم فَإِن مُحَمَّدًا
رَحمَه الله ذكر عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه أَخذ بقول
أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي مِقْدَار الْحيض وَغَيره
وَكَانَ دَرَجَة أبي هُرَيْرَة فَوق دَرَجَته فَعرفنَا بِهَذَا
أَنهم مَا تركُوا الْعَمَل بروايتهم إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة
لانسداد بَاب الرَّأْي من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا
فَأَما الْمَجْهُول فَإِنَّمَا نعني بِهَذَا اللَّفْظ من لم
يشْتَهر بطول الصُّحْبَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا عرف بِمَا رُوِيَ من حَدِيث أَو حديثين نَحْو
وابصة بن معبد وَسَلَمَة بن المحبق وَمَعْقِل بن سِنَان
الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم
وَرِوَايَة هَذَا النَّوْع على خَمْسَة أوجه أَحدهَا أَن
يشْتَهر لقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته وَالرِّوَايَة عَنهُ
وَالثَّانِي أَن يسكتوا عَن الطعْن فِيهِ بَعْدَمَا يشْتَهر
وَالثَّالِث أَن يَخْتَلِفُوا فِي الطعْن فِي رِوَايَته
وَالرَّابِع أَن يطعنوا فِي رِوَايَته من غير خلاف بَينهم فِي
ذَلِك وَالْخَامِس أَن لَا تظهر رِوَايَته وَلَا الطعْن فِيهِ
فِيمَا بَينهم
أما من قبل السّلف مِنْهُ رِوَايَته وجوزوا النَّقْل عَنهُ
(1/342)
فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَشْهُورين فِي
الرِّوَايَة لأَنهم مَا كَانُوا متهمين بالتقصير فِي أَمر
الدّين وَمَا كَانُوا يقبلُونَ الحَدِيث حَتَّى يَصح عِنْدهم
أَنه يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإمَّا أَن
يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وَحسن ضَبطه أَو لِأَنَّهُ مُوَافق
لما عِنْدهم مِمَّا سَمِعُوهُ من رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَو من بعض الْمَشْهُورين يروي عَنهُ
وَكَذَلِكَ إِن سكتوا عَن الرَّد بَعْدَمَا اشْتهر رِوَايَته
عِنْدهم لِأَن السُّكُوت بعد تحقق الْحَاجة لَا يحل إِلَّا على
وَجه الرِّضَا بالمسموع فَكَانَ سكوتهم عَن الرَّد دَلِيل
التَّقْرِير بِمَنْزِلَة مَا لَو قبلوه وردوا عَنهُ
وَكَذَلِكَ مَا اخْتلفُوا فِي قبُوله وَرِوَايَته عَنهُ عندنَا
لِأَنَّهُ حِين قبله بعض الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين مِنْهُم
فَكَأَنَّهُ روى ذَلِك بِنَفسِهِ
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث معقل بن سِنَان أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قضى لبروع بنت واشق الأشجعية بِمهْر
مثلهَا حِين مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا
فَإِن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته وسر بِهِ
لما وَافق قَضَاءَهُ قَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَعلي رَضِي الله عَنهُ رده فَقَالَ مَاذَا نصْنَع بقول
أَعْرَابِي بوال على عقبه حسبها الْمِيرَاث لَا مهر لَهَا
فَلَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ فِي الصَّدْر الأول أَخذنَا بروايته
لِأَن الْفُقَهَاء من الْقرن الثَّانِي كعلقمة ومسروق وَالْحسن
وَنَافِع بن جُبَير قبلوا رِوَايَته فَصَارَ معدلا بِقبُول
الْفُقَهَاء رِوَايَته
وَكَذَلِكَ أَبُو الْجراح صَاحب راية الأشجعيين صدقه فِي هَذِه
الرِّوَايَة
وَكَأن عليا رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا لم يقبل رِوَايَته
لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس عِنْده وَابْن مَسْعُود
رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُوَافقا
للْقِيَاس عِنْده
فَتبين بِهَذَا أَن رِوَايَة مثل هَذَا فِيمَا يُوَافق
الْقيَاس يكون مَقْبُولًا ثمَّ الْعَمَل يكون بالرواية
وَأما إِذا ردوا عَلَيْهِ رِوَايَته وَلم يَخْتَلِفُوا فِي
ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز الْعَمَل بروايته لأَنهم كَانُوا لَا
يتهمون برد الحَدِيث الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بترك الْعَمَل بِهِ وترجيح الرَّأْي
بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ فاتفاقهم على الرَّد دَلِيل على أَنهم
كذبوه فِي هَذِه الرِّوَايَة وَعَلمُوا أَن ذَلِك وهم مِنْهُ
وَلَو قَالَ الرَّاوِي أوهمت لم يعْمل بروايته فَإِذا ظهر
دَلِيل ذَلِك مِمَّن هُوَ فَوْقه أولى
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فَإِن عمر رَضِي
الله عَنهُ قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا بقول
امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت
قَالَ عِيسَى
(1/343)
بن أبان رَحمَه الله مُرَاده من الْكتاب
وَالسّنة الْقيَاس الصَّحِيح فَإِن ثُبُوته بِالْكتاب وَالسّنة
وَهُوَ قِيَاس الشّبَه فِي اعْتِبَار النَّفَقَة بِالسُّكْنَى
من حَيْثُ إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق مَالِي مُسْتَحقّ
بِالنِّكَاحِ
فَإِن قيل هَذَا إِشَارَة إِلَى غير مَا أَشَارَ إِلَيْهِ عمر
فَإِنَّهُ لم يقل لَا نقبل حَدِيثهَا لعلمنا أَنَّهَا أوهمت
وَلَكِن قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا لأَنا لَا نَدْرِي أصدقت
أم كذبت
قُلْنَا فِي قَوْله لَا نَدْرِي إِشَارَة إِلَى هَذَا
الْمَعْنى فَإِن قبُول الرِّوَايَة وَالْعَمَل بِهِ يبتني على
ظُهُور رُجْحَان جَانب الصدْق وَهُوَ بَين أَنه لم يظْهر
رُجْحَان جَانب الصدْق فِي رِوَايَتهَا والرأي يدل على خلاف
رِوَايَتهَا فنترك رِوَايَتهَا ونعمل بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح
وَفِي الْمَعْنى لَا فرق بَين هَذَا وَبَين قَوْله لَا نقبل
رِوَايَتهَا بِمَنْزِلَة القَاضِي يرد شَهَادَة الْفَاسِق
بقوله ائْتِ بِشَاهِد آخر ائْتِ بِحجَّة
وَمن هَذَا النَّحْو حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة رَضِي الله
عَنهُ فِي الْقسَامَة أتحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم وَحَدِيث
بسرة رَضِي الله عَنْهَا من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ وَحَدِيث
أبي هُرَيْرَة من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ وَأما مَا لم
يشْتَهر عِنْدهم وَلم يعارضوه بِالرَّدِّ فَإِن الْعَمَل بِهِ
لَا يجب وَلَكِن يجوز الْعَمَل بِهِ إِذا وَافق الْقيَاس لِأَن
من كل من الصَّدْر الأول فالعدالة ثَابِتَة لَهُ بِاعْتِبَار
الظَّاهِر لِأَنَّهُ فِي زمَان الْغَالِب من أَهله الْعُدُول
على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خير النَّاس قَرْني الَّذِي
أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ
فباعتبار الظَّاهِر يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي خَبره
وَبِاعْتِبَار أَنه لم تشتهر رِوَايَته فِي السّلف يتَمَكَّن
تُهْمَة الْوَهم فِيهِ فَيجوز الْعَمَل بِهِ إِذا وَافق
الْقيَاس على وَجه حسن الظَّن بِهِ وَلَكِن لَا يجب الْعَمَل
بِهِ لِأَن الْوُجُوب شرعا لَا يثبت بِمثل هَذَا الطَّرِيق
الضَّعِيف وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة الْقَضَاء بِشَهَادَة
المستور وَلم يُوجب على القَاضِي الْقَضَاء لِأَنَّهُ كَانَ
فِي الْقرن الثَّالِث وَالْغَالِب على أَهله الصدْق فَأَما فِي
زَمَاننَا رِوَايَة مثل هَذَا لَا يكون مَقْبُولًا وَلَا يَصح
الْعَمَل بِهِ مَا لم يتأيد بِقبُول الْعُدُول رِوَايَته لِأَن
الْفسق
(1/344)
غلب على أهل هَذَا الزَّمَان وَلِهَذَا لم
يجوز أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور قبل
ظُهُور عَدَالَته
فَصَارَ الْحَاصِل أَن الحكم فِي رِوَايَة الْمَشْهُور الَّذِي
لم يعرف بالفقه وجوب الْعَمَل وَحمل رِوَايَته على الصدْق
إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وَهُوَ أَن يكون مُخَالفا
للْقِيَاس وَأَن الحكم فِي رِوَايَة الْمَجْهُول أَنه لَا يكون
حجَّة للْعَمَل إِلَّا أَن يتأيد بمؤيد وَهُوَ قبُول السّلف
أَو بَعضهم رِوَايَته وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان شَرَائِط الرَّاوِي حدا وتفسيرا وَحكما
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن هَذِه الشَّرَائِط
أَرْبَعَة الْعقل والضبط وَالْعَدَالَة وَالْإِسْلَام
أما اشْتِرَاط الْعقل فَلِأَن الْخَبَر الَّذِي يرويهِ كَلَام
منظوم لَهُ معنى مَعْلُوم وَلَا بُد من اشْتِرَاط الْعقل فِي
الْمُتَكَلّم من الْعباد ليَكُون قَوْله كلَاما مُعْتَبرا
فَالْكَلَام الْمُعْتَبر شرعا مَا يكون عَن تَمْيِيز وَبَيَان
لَا عَن تلقين وهذيان أَلا ترى أَن من الطُّيُور من يسمع
مِنْهُ حُرُوف منظومة وَيُسمى ذَلِك لحنا لَا كلَاما
وَكَذَلِكَ إِذا سمع من إِنْسَان صَوته بحروف منظومة لَا يدل
على معنى مَعْلُوم لَا يُسمى ذَلِك كلَاما فَعرفنَا أَن معنى
الْكَلَام فِي الشَّاهِد مَا يكون مُمَيّزا بَين أَسمَاء
الْأَعْلَام فَمَا لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة يكون كلَاما
صُورَة لَا معنى بِمَنْزِلَة مَا لَو صنع من خشب صُورَة
آدَمِيّ لَا يكون آدَمِيًّا لِانْعِدَامِ معنى الْآدَمِيّ
فِيهِ
ثمَّ التَّمْيِيز الَّذِي بِهِ يتم الْكَلَام بصورته
وَمَعْنَاهُ لَا يكون إِلَّا بعد وجود الْعقل فَكَانَ الْعقل
شرطا فِي الْمخبر لِأَن خَبره أحد أَنْوَاع الْكَلَام فَلَا
يكون مُعْتَبرا إِلَّا بِاعْتِبَار عقله
وَأما الضَّبْط فَلِأَن قبُول الْخَبَر بِاعْتِبَار معنى
الصدْق فِيهِ وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِحسن ضبط
الرَّاوِي من حِين يسمع إِلَى حِين يروي
فَكَانَ الضَّبْط لما هُوَ معنى هَذَا النَّوْع من الْكَلَام
بِمَنْزِلَة الْعقل الَّذِي بِهِ يَصح أصل الْكَلَام شرعا
وَأما الْعَدَالَة فَلِأَن الْكَلَام فِي خبر من هُوَ غير
مَعْصُوم عَن الْكَذِب فَلَا تكون جِهَة الصدْق مُتَعَيّنا فِي
خَبره لعَينه وَإِنَّمَا يتَرَجَّح جَانب الصدْق بِظُهُور
عَدَالَته لِأَن
(1/345)
الْكَذِب مَحْظُور عقله فنستدل بانزجاره
عَن سَائِر مَا نعتقده مَحْظُورًا على انزجاره عَن الْكَذِب
الَّذِي نعتقده مَحْظُورًا أَو لما كَانَ منزجرا عَن الْكَذِب
فِي أُمُور الدُّنْيَا فَذَلِك دَلِيل انزجاره عَن الْكَذِب
فِي أُمُور الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع بِالطَّرِيقِ الأولى
فَأَما إِذا لم يكن عدلا فِي تعاطيه فاعتبار جَانب تعاطيه يرجح
معنى الْكَذِب فِي خَبره لِأَنَّهُ لما لم يبال من ارْتِكَاب
سَائِر الْمَحْظُورَات مَعَ اعْتِقَاده حرمته فَالظَّاهِر أَنه
لَا يُبَالِي من الْكَذِب مَعَ اعْتِقَاده حرمته وَاعْتِبَار
جَانب اعْتِقَاده يدل على الصدْق فِي خَبره فَتَقَع
الْمُعَارضَة وَيجب التَّوَقُّف وَإِذا كَانَ تَرْجِيح جَانب
الصدْق بِاعْتِبَار عَدَالَته وَبِه يصير الْخَبَر حجَّة
للْعَمَل شرعا فَعرفنَا أَن الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي شَرط
لكَون خَبره حجَّة
فَأَما اشْتِرَاط الْإِسْلَام لانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب لَا
بِاعْتِبَار نُقْصَان حَال الْمخبر بل بِاعْتِبَار زِيَادَة
شَيْء فِيهِ يدل على كذبه فِي خَبره وَذَلِكَ لِأَن الْكَلَام
فِي الْأَخْبَار الَّتِي يثبت بهَا أَحْكَام الشَّرْع وهم
يعادوننا فِي أصل الدّين بِغَيْر حق على وَجه هُوَ نِهَايَة
فِي الْعَدَاوَة فيحملهم ذَلِك على السَّعْي فِي هدم أَرْكَان
الدّين بِإِدْخَال مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ
الله تَعَالَى فِي قَوْله {لَا يألونكم خبالا} أَي لَا يقصرون
فِي الْإِفْسَاد عَلَيْكُم وَقد ظهر مِنْهُم هَذَا بطرِيق
الكتمان فَإِنَّهُم كتموا نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ونبوته من كِتَابه بَعْدَمَا أَخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق
بِإِظْهَار ذَلِك فَلَا يُؤمنُونَ من أَن يقصدوا مثل ذَلِك
بِزِيَادَة هِيَ كذب لَا أصل لَهُ بطرِيق الرِّوَايَة بل هَذَا
هُوَ الظَّاهِر فلأجل هَذَا شرطنا الْإِسْلَام فِي الرَّاوِي
لكَون خَبره حجَّة وَلِهَذَا لم تجوز شَهَادَتهم على
الْمُسلمين لِأَن الْعَدَاوَة رُبمَا تحملهم على الْقَصْد
للإضرار بِالْمُسْلِمين بِشَهَادَة الزُّور كَمَا لَا تقبل
شَهَادَة ذِي الضغن لظُهُور عداوته بِسَبَب الْبَاطِن
وَقَبلنَا شَهَادَة بَعضهم على بعض لِانْعِدَامِ هَذَا
الْمَعْنى الْبَاعِث على الْكَذِب فِيمَا بَينهم
وَبِهَذَا تبين أَن رد خَبره لَيْسَ لعين الْكفْر بل لِمَعْنى
زَائِد يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي خَبره بِمَنْزِلَة شَهَادَة
الْأَب للْوَلَد فَإِنَّهَا لَا تكون مَقْبُولَة لِمَعْنى
زَائِد يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَته وَهُوَ شَفَقَة
الْأُبُوَّة وميله إِلَى وَلَده طبعا
وَأما بَيَان حد هَذِه الشُّرُوط وتفسيرها فَنَقُول الْعقل نور
فِي الصَّدْر بِهِ يبصر
(1/346)
الْقلب عِنْد النّظر فِي الْحجَج
بِمَنْزِلَة السراج فَإِنَّهُ نور تبصر الْعين بِهِ عِنْد
النّظر فترى مَا يدْرك بالحواس لَا أَن السراج يُوجب رُؤْيَة
ذَلِك وَلكنه يدل الْعين عِنْد النّظر عَلَيْهِ فَكَذَلِك نور
الصَّدْر الَّذِي هُوَ الْعقل يدل الْقلب على معرفَة مَا هُوَ
غَائِب عَن الْحَواس من غير أَن يكون مُوجبا لذَلِك بل الْقلب
يدْرك (بِالْعقلِ) ذَلِك بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وَهُوَ فِي
الْحَاصِل عبارَة عَن الِاخْتِيَار الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ
الْمَرْء مَا يَأْتِي بِهِ وَمَا يذر مِمَّا لَا يَنْتَهِي
إِلَى إِدْرَاكه سَائِر الْحَواس فَإِن الْفِعْل أَو التّرْك
لَا يعْتَبر إِلَّا لحكمة وعاقبة حميدة وَلِهَذَا لَا يعْتَبر
من الْبَهَائِم لخلوه عَن هَذَا الْمَعْنى وَالْعَاقبَة
الحميدة لَا تتَحَقَّق فِيمَا يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَان من فعل
أَو ترك لَهُ إِلَّا بعد التَّأَمُّل فِيهِ بعقله فَمَتَى
ظَهرت أَفعاله على سنَن أَفعَال الْعُقَلَاء كَانَ ذَلِك
دَلِيلا لنا على أَنه عَاقل مُمَيّز وَأَن فعله وَقَوله لَيْسَ
يَخْلُو عَن حِكْمَة وعاقبة حميدة وَهَذَا لِأَن الْعقل لَا
يكون مَوْجُودا فِي الْآدَمِيّ بِاعْتِبَار أَصله وَلكنه خلق
من خلق الله تَعَالَى يحدث شَيْئا فَشَيْئًا ثمَّ يتَعَذَّر
الْوُقُوف على وجود كل جُزْء مِنْهُ بِحَسب مَا يمْضِي من
الزَّمَان على الصَّبِي إِلَى أَن يبلغ صفة الْكَمَال فَجعل
الشَّرْع الْحَد لمعْرِفَة كَمَال الْعقل هُوَ الْبلُوغ تيسيرا
لِلْأَمْرِ علينا لِأَن اعْتِدَال الْحَال عِنْد ذَلِك يكون
عَادَة وَالله تَعَالَى هُوَ الْعَالم حَقِيقَة بِمَا يحدثه من
ذَلِك فِي كل أحد من عباده من نُقْصَان أَو كَمَال وَلَكِن لَا
طَرِيق لنا إِلَى الْوُقُوف على حد ذَلِك فَقَامَ السَّبَب
الظَّاهِر فِي حَقنا مقَام الْمَطْلُوب حَقِيقَة تيسيرا وَهُوَ
الْبلُوغ مَعَ انعدام الآفة ثمَّ يسْقط اعْتِبَار مَا يُوجد من
الْعقل للصَّبِيّ قبل هَذَا الْحَد شرعا لدفع الضَّرَر عَنهُ
لَا للإضرار بِهِ فَإِن الصِّبَا سَبَب للنَّظَر لَهُ
وَلِهَذَا لم يعْتَبر فِيمَا يتَرَدَّد بَين الْمَنْفَعَة
والمضرة وَيعْتَبر فِيمَا يتمخض مَنْفَعَة لَهُ
ثمَّ خَبره فِي أَحْكَام الشَّرْع لَا يكون حجَّة للإلزام دفعا
لضَرَر الْعهْدَة عَنهُ كَمَا لَا يَجْعَل وليا فِي
تَصَرُّفَاته فِي أُمُور الدُّنْيَا دفعا لضَرَر الْعهْدَة
عَنهُ وَلِهَذَا صَحَّ سَمَاعه وتحمله للشَّهَادَة قبل
الْبلُوغ إِذا كَانَ مُمَيّزا فقد كَانَ فِي الصَّحَابَة من
سمع فِي حَالَة الصغر وروى بعد الْبلُوغ وَكَانَت رِوَايَته
مَقْبُولَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِك من معنى ضَرَر لُزُوم
الْعهْدَة شَيْء وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي الْأَدَاء
فَيشْتَرط لفسخه أَدَائِهِ على وَجه يكون حجَّة كَونه عَاقِلا
مُطلقًا
وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا
(1/347)
باعتدال حَاله ظَاهرا كَمَا بَينا
وَصَارَ الْحَاصِل أَن الْعَاقِل نَوْعَانِ من يُصِيب بعض
الْعقل على وَجه يتَمَكَّن من التَّمْيِيز بِهِ بَين مَا
يضرّهُ وَمَا يَنْفَعهُ وَلكنه نَاقص فِي نَفسه كَالصَّبِيِّ
قبل الْبلُوغ وَالْمَعْتُوه الَّذِي يعقل وعاقل هُوَ كَامِل
الْعقل وَهُوَ الْبَالِغ الَّذِي لَا آفَة بِهِ فَإِن بالآفة
يسْتَدلّ تَارَة على انعدام الْعقل بعد الْبلُوغ
كَالْمَجْنُونِ وَتارَة على نُقْصَان الْعقل كَمَا فِي حق
الْمَعْتُوه فَإِذا انعدمت الآفة كَانَ اعْتِدَال الظَّاهِر
بِالْبُلُوغِ دَلِيلا على كَمَال الْعقل الَّذِي هُوَ
الْبَاطِن وَالْمُطلق من كل شَيْء يتَنَاوَل الْكَامِل مِنْهُ
فاشتراط الْعقل لصِحَّة خَبره على وَجه يكون حجَّة دَلِيل على
أَنه يشْتَرط كَمَال الْعقل فِي ذَلِك
فَأَما الضَّبْط فَهُوَ عبارَة عَن الْأَخْذ بِالْجَزْمِ
وَتَمَامه فِي الْأَخْبَار أَن يسمع حق السماع ثمَّ يفهم
الْمَعْنى الَّذِي أُرِيد بِهِ ثمَّ يحفظ ذَلِك (بِجهْدِهِ
ثمَّ يثبت على ذَلِك) بمحافظة حُدُوده ومراعاة حُقُوقه بتكراره
إِلَى أَن يُؤَدِّي إِلَى غَيره لِأَن بِدُونِ السماع لَا
يتَصَوَّر الْفَهم وَبعد السماع إِذا لم يفهم معنى الْكَلَام
لم يكن ذَلِك سَمَاعا مُطلقًا بل يكون ذَلِك سَماع صَوت لَا
سَماع كَلَام هُوَ خبر وَبعد فهم الْمَعْنى يتم التَّحَمُّل
وَذَلِكَ يلْزمه الْأَدَاء كَمَا تحمل وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك
إِلَّا بحفظه والثبات على ذَلِك إِلَى أَن يُؤَدِّي
ثمَّ الْأَدَاء إِنَّمَا يكون مَقْبُولًا مِنْهُ بِاعْتِبَار
معنى الصدْق فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِهَذَا
وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ أَدَاء
الشَّهَادَة لمن عرف خطه فِي الصَّك وَلَا يتَذَكَّر
الْحَادِثَة لِأَنَّهُ غير ضَابِط لما تحمل وَبِدُون الضَّبْط
لَا يجوز لَهُ أَدَاء الشَّهَادَة
ثمَّ الضَّبْط نَوْعَانِ ظَاهر وباطن
فَالظَّاهِر مِنْهُ بِمَعْرِِفَة صِيغَة المسموع وَالْوُقُوف
على مَعْنَاهُ لُغَة وَالْبَاطِن مِنْهُ بِالْوُقُوفِ على معنى
الصِّيغَة فِيمَا يبتنى عَلَيْهِ أَحْكَام الشَّرْع وَهُوَ
الْفِقْه وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بالتجربة والتأمل بعد
معرفَة مَعَاني اللُّغَة وأصول أَحْكَام الشَّرْع وَلِهَذَا لم
تقبل رِوَايَة من اشتدت غفلته إِمَّا خلقَة أَو مُسَامَحَة
ومجازفة لِأَن الضَّبْط ظَاهرا لَا يتم مِنْهُ عَادَة وَمَا
يكون شرطا يُرَاعِي وجوده بِصفة الْكَمَال وَلِهَذَا لم يثبت
السّلف الْمُعَارضَة بَين رِوَايَة من لم يعرف بالفقه
وَرِوَايَة من عرف بالفقه لِانْعِدَامِ الضَّبْط بَاطِنا
مِمَّن لم يعرف بالفقه على مَا يرْوى عَن عَمْرو بن دِينَار
أَن جَابر بن زيد أَبَا الشعْثَاء روى لَهُ عَن ابْن عَبَّاس
رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/348)
تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم قَالَ عَمْرو
فَقلت لجَابِر إِن ابْن شهَاب أَخْبرنِي عَن يزِيد بن الْأَصَم
أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال
فَقَالَ إِنَّهَا كَانَت خَالَة ابْن عَبَّاس وَهُوَ أعلم
بِحَالِهَا
فَقلت وَقد كَانَت خَالَة يزِيد بن الْأَصَم أَيْضا
فَقَالَ أَنى يَجْعَل يزِيد بن الْأَصَم بوال على عقبه إِلَى
ابْن عَبَّاس فَدلَّ أَن رِوَايَة غير الْفَقِيه لَا تكون
مُعَارضَة لرِوَايَة الْفَقِيه وَهَذَا التَّرْجِيح لَيْسَ
إِلَّا بِاعْتِبَار تَمام الضَّبْط من الْفَقِيه وَكَأن
الْمَعْنى فِيهِ أَن نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى كَانَ
مَشْهُورا فيهم فَمن لَا يكون مَعْرُوفا بالفقه رُبمَا يقصر
فِي أَدَاء الْمَعْنى بِلَفْظِهِ بِنَاء على فهمه ويؤمن مثل
ذَلِك من الْفَقِيه وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمُحَافظَة على
اللَّفْظ فِي زَمَاننَا أولى من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى
لتَفَاوت ظَاهر بَين النَّاس فِي فهم الْمَعْنى
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَنقل الْقُرْآن صَحِيح
مِمَّن لَا يفهم مَعْنَاهُ قُلْنَا أصل النَّقْل فِي الْقُرْآن
من أَئِمَّة الْهدى الَّذين كَانُوا خير الورى بعد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نقلوا بعد تَمام الضَّبْط
ثمَّ من بعدهمْ إِنَّمَا ينْقل بعد جهد شَدِيد يكون مِنْهُ فِي
التَّعَلُّم وَالْحِفْظ واستدامة الْقِرَاءَة وَلَو وجد مثل
ذَلِك فِي الْخَبَر لَكنا نجوز نَقله أَيْضا مَعَ أَن الله
تَعَالَى وعد حفظ الْقُرْآن عَن تَحْرِيف المبطلين بقوله
تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون}
وَبِهَذَا النَّص عرفنَا انْقِطَاع طمع الْمُلْحِدِينَ عَن
الْقُرْآن فصححنا النَّقْل فِيهِ مِمَّن يكون ضابطا لَهُ
ظَاهرا وَإِن كَانَ لَا يعرف مَعْنَاهُ وَمثل ذَلِك لَا يُوجد
فِي الْأَخْبَار فَكَانَ تَمام الضَّبْط فِيهَا بِمَا قُلْنَا
مَعَ أَن هُنَاكَ يتَعَلَّق بالنظم أَحْكَام مِنْهَا حُرْمَة
الْقِرَاءَة على الْجنب وَالْحَائِض وَجَوَاز الصَّلَاة بهَا
فِي قَول بعض الْعلمَاء وَكَون النّظم معجزا
فَأَما فِي الْأَخْبَار الْمُعْتَبر هُوَ الْمَعْنى المُرَاد
بالْكلَام فتمام الضَّبْط إِنَّمَا يكون بِالْوُقُوفِ على مَا
هُوَ المُرَاد وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا
الله لَا تجوز الشَّهَادَة على الْكتاب والختم إِذا لم يعرف
الشَّاهِد مَا فِي بَاطِن الْكتاب لِأَن الضَّبْط فِي
الشَّهَادَة شَرط للْأَدَاء
(1/349)
وَالْمَقْصُود مَا فِي بَاطِن الْكتاب لَا
عين الْكتاب فَلَا يتم ضَبطه إِلَّا بِمَعْرِِفَة ذَلِك
وَلِهَذَا اسْتحبَّ المتقدمون من السّلف تقليل الرِّوَايَة
وَمن كَانَ أكْرمهم وأدوم صُحْبَة وَهُوَ الصّديق رَضِي الله
عَنهُ كَانَ أقلهم رِوَايَة حَتَّى رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ
إِذا سئلتم عَن شَيْء فَلَا ترووا وَلَكِن ردوا النَّاس إِلَى
كتاب الله تَعَالَى
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أقلوا الرِّوَايَة عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا شريككم
وَلما قيل ل زيد بن أَرقم أَلا تروي لنا عَن رَسُول الله
عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئا فَقَالَ قد كبرنا ونسينا
وَالرِّوَايَة عَن رَسُول الله شَدِيد
وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كُنَّا نَحْفَظ
الحَدِيث والْحَدِيث يحفظ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأَما إِذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات فقد جمع أهل
الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب آثارا كَثِيرَة ولأجلها قلت
رِوَايَة أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ حَتَّى قَالَ بعض
الطاعنين إِنَّه كَانَ لَا يعرف الحَدِيث
وَلم يكن على مَا ظن بل كَانَ أعلم أهل عصره بِالْحَدِيثِ
وَلَكِن لمراعاة شَرط كَمَال الضَّبْط قلت رِوَايَته
وَبَيَان هَذَا أَن الْإِنْسَان قد يَنْتَهِي إِلَى مجْلِس
وَقد مضى صدر من الْكَلَام فيخفي على الْمُتَكَلّم حَاله
لتوقفه على مَا مضى من كَلَامه مِمَّا يكون بعده بِنَاء
عَلَيْهِ فقلما يتم ضبط هَذَا السَّامع لِمَعْنى مَا يسمع بعد
مَا فَاتَهُ أول الْكَلَام وَلَا يجد فِي تَأمل ذَلِك أَيْضا
لِأَنَّهُ لَا يرى نَفسه أَهلا بِأَن يُؤْخَذ الدّين عَنهُ
ثمَّ يكون من قَضَاء الله تَعَالَى أَن يصير صَدرا يرجع
إِلَيْهِ فِي معرفَة أَحْكَام الدّين فَإِذا لم يتم ضَبطه فِي
الِابْتِدَاء لم يَنْبغ لَهُ أَن يجازف فِي الرِّوَايَة
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يشْتَغل بِمَا وجد مِنْهُ الْجهد
التَّام فِي ضَبطه فيستدل بِكَثْرَة الرِّوَايَة مِمَّن كَانَ
حَاله فِي الِابْتِدَاء بِهَذِهِ الصّفة على قلَّة المبالاة
وَلِهَذَا ذمّ السّلف الصَّالح كَثْرَة الرِّوَايَة وَهَذَا
معنى مُعْتَبر فِي الرِّوَايَات والشهادات جَمِيعًا أَلا ترى
أَن من اشْتهر فِي النَّاس بخصلة دَالَّة على قلَّة المبالاة
من قَضَاء الْحَاجة بمرأى الْعين من النَّاس أَو الْأكل فِي
الْأَسْوَاق يتَوَقَّف فِي شَهَادَته
فَهَذَا بَيَان تَفْسِير الضَّبْط
وَأما الْعَدَالَة فَهِيَ الاسْتقَامَة
يُقَال فلَان عَادل إِذا كَانَ مُسْتَقِيم السِّيرَة فِي
الْإِنْصَاف وَالْحكم بِالْحَقِّ
وَطَرِيق عَادل سمي بِهِ الجادة وضده الْجور
وَمِنْه يُقَال طَرِيق جَائِر إِذا كَانَ من البنيات
ثمَّ الْعَدَالَة نَوْعَانِ ظَاهِرَة وباطنة
فالظاهرة
(1/350)
تثبت بِالدّينِ وَالْعقل على معنى أَن من
أَصَابَهَا فَهُوَ عدل ظَاهرا لِأَنَّهُمَا يحملانه على
الاسْتقَامَة ويدعوانه إِلَى ذَلِك
والباطنة لَا تعرف إِلَّا بِالنّظرِ فِي معاملات الْمَرْء
وَلَا يُمكن الْوُقُوف على نِهَايَة ذَلِك لتَفَاوت بَين
النَّاس فيهمَا وَلَكِن كل من كَانَ مُمْتَنعا من ارْتِكَاب
مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ فَهُوَ على طَرِيق الاسْتقَامَة
فِي حُدُود الدّين
وعَلى هَذِه الْعَدَالَة نَبْنِي حكم رِوَايَة الْخَبَر فِي
كَونه حجَّة لِأَن مَا تثبت بِهِ الْعَدَالَة الظَّاهِرَة
بعارضة هوى النَّفس والشهوة الَّذِي تصده عَن الثَّبَات على
طَرِيق الاسْتقَامَة فَإِن الْهوى أصل فِيهِ سَابق على
إِصَابَة الْعقل وَلَا يزايله بَعْدَمَا رزق الْعقل
وَبَعْدَمَا اجْتمعَا فِيهِ يكون عدلا من وَجه دون وَجه فَيكون
حَاله كَحال الصَّبِي الْعَاقِل وَالْمَعْتُوه الَّذِي يعقل من
جملَة الْعُقَلَاء وَقد بَينا أَن الْمُطلق يَقْتَضِي
الْكَامِل فَعرفنَا أَن الْعدْل مُطلقًا من يتَرَجَّح أَمر
دينه على هَوَاهُ وَيكون مُمْتَنعا بِقُوَّة الدّين عَمَّا
يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ من الشَّهَوَات وَلِهَذَا قَالَ فِي
كتاب الشَّهَادَات إِن من ارْتكب كَبِيرَة فَإِنَّهُ لَا يكون
عدلا فِي الشَّهَادَة وَفِيمَا دون الْكَبِيرَة من الْمعاصِي
إِن أصر على ارْتِكَاب شَيْء لم يكن مَقْبُول الشَّهَادَة
وَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يكون مَقْبُول الشَّهَادَة أصر أَو
لم يصر لِأَنَّهُ فَاسق بِخُرُوجِهِ عَن الْحَد الْمَحْدُود
لَهُ شرعا وَالْفَاسِق لَا يكون عدلا فِي الشَّهَادَة إِلَّا
أَن فِي القَوْل بِهَذَا سد الْبَاب أصلا فَغير الْمَعْصُوم
لَا يتَحَقَّق مِنْهُ التَّحَرُّز عَن الزلات أجمع لِأَن لله
تَعَالَى على الْعباد فِي كل لَحْظَة أمرا ونهيا يتَعَذَّر
عَلَيْهِم الْقيام بحقهما وَلَكِن التَّحَرُّز عَن الْإِصْرَار
بالندم وَالرُّجُوع عَنهُ غير مُتَعَذر والحرج مَدْفُوع
وَلَيْسَ فِي التَّحَرُّز عَن ارْتِكَاب الْكَبَائِر
الْمُوجبَة للحد معنى الْحَرج فَلهَذَا بنينَا حكم الْعَدَالَة
على التَّحَرُّز المتأتي عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ
وَلِهَذَا قُلْنَا صَاحب الْهوى إِذا كَانَ مُمْتَنعا عَمَّا
يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ فَهُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة وَإِن
كَانَ فَاسِقًا فِي اعْتِقَاده ضَالًّا لِأَنَّهُ بِسَبَب
الغلو فِي طلب الْحجَّة والتعمق فِي اتِّبَاعه أَخطَأ
الطَّرِيق فضل عَن سَوَاء السَّبِيل وَشدَّة اتِّبَاع الْحجَّة
لَا تمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَته وَإِن أَخطَأ
الطَّرِيق وَكَذَلِكَ الْكَافِر من أهل الشَّهَادَة إِذا كَانَ
عدلا فِي تعاطيه بِأَن كَانَ منزجرا عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة
فِيهِ إِلَّا أَنه غير مَقْبُول الشَّهَادَة على الْمُسلمين
(1/351)
لأجل عَدَاوَة ظَاهِرَة تحمله على التقول
عَلَيْهِ وَهِي عَدَاوَة بِسَبَب بَاطِل فَتكون مبطلة
للشَّهَادَة وَلِهَذَا قُلْنَا الرّقّ وَالْأُنُوثَة والعمى
لَا تقدح فِي الْعَدَالَة أصلا وَإِن كَانَت تمنع من قبُول
الشَّهَادَة أَو تمكن نُقْصَانا فِيهَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير
لهَذِهِ الْمعَانِي فِي الْحمل على ارْتِكَاب مَا يعْتَقد
الْحُرْمَة فِيهِ وَالْعَدَالَة تبتنى على ذَلِك وَلِهَذَا لم
يَجْعَل الْفَاسِق والمستور عدلا مُطلقًا فِي حكم الشَّهَادَة
حَتَّى لَا يجوز الْقَضَاء بِشَهَادَة الْفَاسِق وَإِن كَانَ
لَو قضى بِهِ القَاضِي نفذ وَلَا يجب الْقَضَاء بِشَهَادَة
المستور قبل ظُهُور حَاله
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَلما لم يكن خبر الْفَاسِق
والمستور حجَّة فخبر الْمَجْهُول أَحْرَى أَن لَا يكون حجَّة
وَقُلْنَا نَحن الْمَجْهُول من الْقُرُون الثَّلَاثَة عدل
بتعديل صَاحب الشَّرْع إِيَّاه مَا لم يتَبَيَّن مِنْهُ مَا
يزِيل عَدَالَته فَيكون خَبره حجَّة على الْوَجْه الَّذِي
قَررنَا
وَأما الْإِسْلَام فَهُوَ عبارَة عَن شريعتنا وَهُوَ نَوْعَانِ
أَيْضا ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر يكون بالميلاد بَين الْمُسلمين
والنشوء على طريقتها شَهَادَة وَعبادَة
وَالْبَاطِن يكون بالتصديق وَالْإِقْرَار بِاللَّه كَمَا هُوَ
بصفاته وأسمائه وَالْإِقْرَار بملائكته وَكتبه وَرُسُله والبعث
بعد الْمَوْت وَالْقدر خَيره وشره من الله تَعَالَى وَقبُول
أَحْكَامه وشرائعه
فَمن استوصف فوصف ذَلِك كُله فَهُوَ مُسلم حَقِيقَة وَكَذَلِكَ
إِن كَانَ مُعْتَقدًا لذَلِك كُله
فَقبل أَن يستوصف هُوَ مُؤمن فِيمَا بَينه وَبَين ربه حَقِيقَة
وَقَالَ فِي الْجَامِع الْكَبِير إِذا بلغت الْمَرْأَة
فاستوصفت الْإِسْلَام فَلم تصف فَإِنَّهَا تبين من زَوجهَا
وَقد كُنَّا حكمنَا بِصِحَّة النِّكَاح بِظَاهِر إسْلَامهَا
ثمَّ يحكم بِفساد النِّكَاح حِين لم تحسن أَن تصف وَجعل ذَلِك
ردة مِنْهَا
وَقد استقصى بعض مَشَايِخنَا فِي هَذَا فَقَالُوا ذكر الْوَصْف
على سَبِيل الْإِجْمَال لَا يَكْفِي مَا لم يكن عَالما
بِحَقِيقَة مَا يذكر لِأَن حفظ الْفِقْه غير حفظ الْمَعْنى
أَلا ترى أَن من يذكر أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَا يعرف
من هُوَ لَا يكون مُؤمنا بِهِ فَإِن النَّصَارَى يَزْعمُونَ
أَنهم يُؤمنُونَ بِعِيسَى وَعِنْدهم أَنه ولد الله فَلَا يكون
ذَلِك مِنْهُم معرفَة لعيسى الَّذِي هُوَ عبد الله وَرَسُوله
وَلَكنَّا نقُول فِي الْمصير إِلَى هَذَا الِاسْتِقْصَاء حرج
بَين فَالنَّاس يتفاوتون فِي ذَلِك تَفَاوتا ظَاهرا
وَأَكْثَرهم لَا يقدرُونَ على بَيَان تَفْسِير صِفَات الله
تَعَالَى وأسمائه على الْحَقِيقَة وَلَكِن ذكر الْأَوْصَاف على
الْإِجْمَال يَكْفِي
(1/352)
لثُبُوت الْإِيمَان حَقِيقَة أَلا ترى أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يمْتَحن النَّاس
بذلك حَتَّى قَالَ للأعرابي الَّذِي شهد بِرُؤْيَة الْهلَال
أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله
فَقَالَ نعم
فَقَالَ الله أكبر يَكْفِي الْمُسلمين أحدهم وَلما سَأَلَهُ
جِبْرِيل عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام لأجل تَعْلِيم النَّاس
معالم الدّين بَين ذَلِك على سَبِيل الْإِجْمَال
وَكتاب الله يشْهد بذلك قَالَ تَعَالَى {فامتحنوهن الله أعلم
بإيمانهن فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن} وَقد كَانَ
هَذَا الامتحان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْمُسْلِمين بالاستيصاف على الْإِجْمَال وَهَذَا لِأَن
الْمُطلق عِنْد الاستيصاف يكون مَحْمُولا على الْكَامِل كَمَا
هُوَ الأَصْل وَقد يعجز الْمَرْء عَن إِظْهَار مَا يَعْتَقِدهُ
بعبارته فَيَنْبَغِي أَن يكون الاستيصاف بِذكر ذَلِك على وَجه
اسْتِفْهَام الْمُخَاطب أَنه هَل يعْتَقد كَذَا وَكَذَا فَإِذا
قَالَ نعم كَانَ مُؤمنا حَقِيقَة وَإِن كَانَ قَالَ لَا أعرف
مَا تَقول أَو لَا أعتقد ذَلِك فَحِينَئِذٍ يحكم بِكُفْرِهِ
وَكَذَلِكَ من ظهر مِنْهُ أَمَارَات الْمعرفَة نَحْو أَدَاء
الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة مَعَ الْمُسلمين فَإِن ذَلِك يقوم
مقَام الْوَصْف فِي الحكم بإيمانه مُطلقًا قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام إِذا رَأَيْتُمْ الرجل يعْتَاد الْجَمَاعَات
فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان وَلَا يخْتَلف مَا ذكرنَا
بِالرّقِّ وَالْحريَّة والذكورة وَالْأُنُوثَة والعمى
وَالْبَصَر فَلهَذَا جعلنَا خبر هَؤُلَاءِ فِي كَونه حجَّة فِي
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بِصفة وَاحِدَة لِأَن الشَّرَائِط
الَّتِي يبتنى عَلَيْهَا وجوب قبُول الْخَبَر يتَحَقَّق فِي
الْكل
أما العَبْد فَلَا شكّ فِي استجماع هَذِه الشَّرَائِط فِيهِ
وَإِن لم يكن من أهل الشَّهَادَة لِأَن الْأَهْلِيَّة
للشَّهَادَة تبتنى على الْأَهْلِيَّة للولاية على الْغَيْر
وَالرّق يَنْفِي هَذِه الْولَايَة وَهَذَا لِأَن الشَّهَادَة
تَنْفِيذ القَوْل على الْغَيْر وَذَلِكَ يَنْعَدِم فِي
الْخَبَر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْمخبر لَا يلْزم أحدا
شَيْئا وَلَكِن السَّامع إِنَّمَا يلْتَزم باعتقاده أَن
الْمخبر عَنهُ مفترض الطَّاعَة (فَإِذا ترجح جَانب الصدْق فِي
خبر الْمخبر ضاهى ذَلِك المسموع مِمَّن هُوَ مفترض الطَّاعَة)
فِي اعْتِقَاده فَيلْزمهُ الْعَمَل بِاعْتِبَار اعْتِقَاده
كَالْقَاضِي يلْزمه الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ بتقلده هَذِه
الْأَمَانَة لَا بإلزام الشَّاهِد إِيَّاه فَإِن كَلَام
الشَّاهِد يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ دون القَاضِي
وَبَيَان هَذَا أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَلَاة
إِلَّا بِقِرَاءَة لَيْسَ فِي ظَاهره إِلْزَام أحد شَيْئا بل
بَيَان صفة تتأدى بِهِ الصَّلَاة إِذا أرادها بِمَنْزِلَة قَول
(1/353)
الْقَائِل لَا خياطَة إِلَّا بالإبرة
وَالثَّانِي أَن الْمخبر يلْتَزم أَولا ثمَّ يتَعَدَّى حكم
اللُّزُوم إِلَى غَيره من السامعين فَأَما الشَّاهِد فَإِنَّهُ
يلْزم غَيره ابْتِدَاء وَلِهَذَا جعلنَا العَبْد بِمَنْزِلَة
الْحر فِي الشَّهَادَة الَّتِي يكون فِيهَا الْتِزَام على
الْوَجْه الَّذِي يكون فِي الْخَبَر وَهُوَ الشَّهَادَة على
رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان
ثمَّ قد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يُجيب دَعْوَة الْمَمْلُوك فَدلَّ أَنه كَانَ يعْتَمد خَبره
بِأَن مَوْلَاهُ أذن لَهُ
وسلمان رَضِي الله عَنهُ حِين كَانَ عبدا أَتَاهُ بِصَدقَة
فاعتمد خَبره وَأمر أَصْحَابه بِالْأَكْلِ ثمَّ أَتَاهُ بهدية
فاعتمد خَبره وَأكل مِنْهُ
وَكَانَ يعْتَمد خبر بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا قبل أَن
تعْتق وَبعد عتقهَا فَدلَّ أَن الْمَمْلُوك فِي حكم قبُول
الْخَبَر كَالْحرِّ وَأَن الْأُنْثَى فِي ذَلِك كالذكر وَإِن
تَفَاوتا فِي حكم الشَّهَادَة لِأَنَّهُ يشْتَرط الْعدَد فِي
النِّسَاء لثُبُوت معنى الشَّهَادَة وَفِي بَاب الْخَبَر
الْعدَد لَيْسَ بِشَرْط فَكَمَا فَارق الشَّهَادَة الْخَبَر
فِي اشْتِرَاط أصل الْعدَد فَكَذَلِك فِي اشْتِرَاط الْعدَد
فِي النِّسَاء أَلا ترى أَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ
إِلَى أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا
يشكل عَلَيْهِم من أَمر الدّين فيعتمدون خبرهن
وَقَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تأخذون ثُلثي دينكُمْ
من عَائِشَة وَأما الْعَمى فَإِنَّهُ لَا يُؤثر فِي الْخَبَر
لِأَنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْعَدَالَة أَلا ترى أَنه قد كَانَ
فِي الرُّسُل من ابْتُلِيَ بذلك كشعيب وَيَعْقُوب وَكَانَ فِي
الصَّحَابَة من ابْتُلِيَ بِهِ كَابْن أم مَكْتُوم وعتبان بن
مَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِيهِمْ من كف بَصَره كَابْن
عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر وواثلة بن الْأَسْقَع رَضِي الله
عَنْهُم وَالْأَخْبَار المروية عَنْهُم مَقْبُولَة وَلم
يشْتَغل أحد بِطَلَب التَّارِيخ فِي ذَلِك أَنهم رووا فِي
حَالَة الْبَصَر أم بعد الْعَمى وَهَذَا بِخِلَاف الشَّهَادَة
فَإِن شَهَادَتهم إِنَّمَا لَا تقبل لحَاجَة الشَّاهِد إِلَى
تَمْيِيز بَين الْمَشْهُود لَهُ والمشهود عَلَيْهِ عِنْد
الْأَدَاء وَهَذَا التَّمْيِيز من الْبَصِير يكون بالمعاينة
وَمن الْأَعْمَى بالاستدلال وَبَينهمَا تفَاوت يُمكن
التَّحَرُّز عَنهُ فِي جنس الشُّهُود وَفِي رِوَايَة الْخَبَر
لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّمْيِيز فَكَانَ الْأَعْمَى
والبصير فِيهِ سَوَاء والمحدود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة
فِي رِوَايَة الْخَبَر كَغَيْرِهِ فِي ظَاهر الْمَذْهَب فَإِن
أَبَا بكرَة رَضِي الله عَنهُ مَقْبُول الْخَبَر وَلم يشْتَغل
أحد بِطَلَب التَّارِيخ فِي خَبره أَنه روى بَعْدَمَا أقيم
عَلَيْهِ الْحَد أم قبله بِخِلَاف
(1/354)
الشَّهَادَة فَإِن رد شَهَادَته من تَمام حَده ثَبت ذَلِك
بِالنَّصِّ وَرِوَايَة الْخَبَر لَيست فِي معنى الشَّهَادَة
أَلا ترى أَنه لَا شَهَادَة للنِّسَاء فِي الْحُدُود أصلا
وروايتهن فِي بَاب الْحُدُود كَرِوَايَة الرِّجَال وَفِي
رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه لَا
يكون الْمَحْدُود فِي الْقَذْف مَقْبُول الرِّوَايَة لِأَنَّهُ
مَحْكُوم بكذبه بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك عِنْد
الله هم الْكَاذِبُونَ} والمحكوم بِالْكَذِبِ فِيمَا يرجع
إِلَى التعاطي لَا يكون عدلا وَمن شَرط كَون الْخَبَر حجَّة
الْعَدَالَة مُطلقًا كَمَا بَينا |