أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان ضبط الْمَتْن وَالنَّقْل بِالْمَعْنَى
قَالَ بعض أهل الحَدِيث مُرَاعَاة اللَّفْظ فِي الرِّوَايَة وَاجِب على وَجه لَا يجوز النَّقْل بِالْمَعْنَى من غير مُرَاعَاة اللَّفْظ بِحَال وَذَلِكَ مَنْقُول عَن ابْن سِيرِين
قَالَ بعض أهل النّظر قَول الصَّحَابِيّ على سَبِيل الْحِكَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَقْوَاله وأفعاله لَا يكون حجَّة بل يجب طلب لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْبَاب حَتَّى يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ وَهَذَا قَول مهجور
وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء مُرَاعَاة اللَّفْظ فِي النَّقْل أولى وَيجوز النَّقْل بِالْمَعْنَى بعد حسن الضَّبْط على تَفْصِيل نذكرهُ فِي آخر الْفَصْل
وَقد نقل ذَلِك عَن الْحسن وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ
فَأَما من لم يجوز ذَلِك اسْتدلَّ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ فقد أَمر بمراعاة اللَّفْظ فِي النَّقْل وَبَين الْمَعْنى فِيهِ وَهُوَ تفَاوت النَّاس فِي الْفِقْه والفهم وَاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى يُوجب الْحجر عَاما عَن تَبْدِيل اللَّفْظ بِلَفْظ آخر وَهَذَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتِيَ من جَوَامِع الْكَلم والفصاحة فِي الْبَيَان مَا هُوَ نِهَايَة لَا يُدْرِكهُ فِيهِ غَيره فَفِي التبديل بِعِبَارَة أُخْرَى لَا يُؤمن التحريف أَو الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِيمَا كَانَ مرَادا لَهُ
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك مَا اشْتهر من قَول الصَّحَابَة أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا ونهانا عَن كَذَا وَلَا يمْتَنع أحد من قبُول ذَلِك إِلَّا من هُوَ متعنت
وروينا عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا روى حَدِيثا قَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا مِنْهُ

(1/355)


أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَكَانَ أنس رَضِي الله عَنهُ إِذا روى حَدِيثا قَالَ فِي آخِره أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَدلَّ أَن النَّقْل بِالْمَعْنَى كَانَ مَشْهُورا فيهم وَكَذَلِكَ الْعلمَاء بعدهمْ يذكرُونَ فِي تصانيفهم بلغنَا نَحوا من ذَلِك
وَهَذَا لِأَن نظم الحَدِيث لَيْسَ بمعجز وَالْمَطْلُوب مِنْهُ مَا يتَعَلَّق بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الحكم من غير أَن يكون لَهُ تعلق بِصُورَة النّظم وَقد علمنَا أَن الْأَمر بالتبليغ لما هُوَ الْمَقْصُود بِهِ فَإِذا كمل ذَلِك بِالنَّقْلِ بِالْمَعْنَى كَانَ ممتثلا لما أَمر بِهِ من النَّقْل لَا مرتكبا لِلْحَرَامِ وَإِنَّمَا يعْتَبر النّظم فِي نقل الْقُرْآن لِأَنَّهُ معجز مَعَ أَنه قد ثَبت أَيْضا فِيهِ نوع رخصَة ببركة دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْله أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف إِلَّا أَن فِي ذَلِك رخصَة من حَيْثُ الْإِسْقَاط وَهَذَا من حَيْثُ التَّخْفِيف والتيسير وَمعنى الرُّخْصَة يتَحَقَّق بالطريقين كَمَا تقدم بَيَانه
إِذا عرفنَا هَذَا فَنَقُول الْخَبَر إِمَّا أَن يكون محكما لَهُ معنى وَاحِد مَعْلُوم بِظَاهِر الْمَتْن أَو يكون ظَاهرا مَعْلُوم الْمَعْنى بِظَاهِرِهِ على احْتِمَال شَيْء آخر كالعام الَّذِي يحْتَمل الْخُصُوص والحقيقة الَّتِي تحْتَمل الْمجَاز أَو يكون مُشكلا أَو يكون مُشْتَركا يعرف المُرَاد بالتأويل أَو يكون مُجملا لَا يعرف المُرَاد بِهِ إِلَّا بِبَيَان أَو يكون متشابها أَو يكون من جَوَامِع الْكَلم
فَأَما الْمُحكم يجوز نَقله بِالْمَعْنَى لكل من كَانَ عَالما بِوُجُوه اللُّغَة لِأَن المُرَاد بِهِ مَعْلُوم حَقِيقَة وَإِذا كَسَاه الْعَالم باللغة عبارَة أُخْرَى لَا يتَمَكَّن فِيهِ تُهْمَة الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان
فَأَما الظَّاهِر فَلَا يجوز نَقله بِالْمَعْنَى إِلَّا لمن جمع إِلَى الْعلم باللغة الْعلم بِفقه الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ إِذا لم يكن عَالما بذلك لم يُؤمن إِذا كَسَاه عبارَة أُخْرَى أَن لَا تكون تِلْكَ الْعبارَة فِي احْتِمَال الْخُصُوص وَالْمجَاز مثل الْعبارَة الأولى وَإِن كَانَ ذَلِك هُوَ المُرَاد بِهِ وَلَعَلَّ الْعبارَة الَّتِي يروي بهَا تكون أَعم من تِلْكَ الْعبارَة لجهله بِالْفرقِ بَين الْخَاص وَالْعَام فَإِذا كَانَ عَالما بِفقه الشَّرِيعَة يَقع الْأَمْن عَن هَذَا التَّقْصِير مِنْهُ عِنْد تَغْيِير الْعبارَة فَيجوز لَهُ النَّقْل بِالْمَعْنَى كَمَا كَانَ يَفْعَله الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ رَحِمهم الله

(1/356)


فَأَما الْمُشكل والمشترك لَا يجوز فيهمَا النَّقْل بِالْمَعْنَى أصلا لِأَن المُرَاد بهما لَا يعرف إِلَّا بالتأويل والتأويل يكون بِنَوْع من الرَّأْي كالقياس فَلَا يكون حجَّة على غَيره
وَأما الْمُجْمل فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ النَّقْل بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُوقف على الْمَعْنى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيل آخر والمتشابه كَذَلِك لأَنا ابتلينا بالكف عَن طلب الْمَعْنى فِيهِ فَكيف يتَصَوَّر نَقله بِالْمَعْنَى
وَأما مَا يكون من جَوَامِع الْكَلم كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام الْخراج بِالضَّمَانِ وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام العجماء جَبَّار وَمَا أشبه ذَلِك فقد جوز بعض مَشَايِخنَا نَقله بِالْمَعْنَى على الشَّرْط الَّذِي ذكرنَا فِي الظَّاهِر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه لَا يجوز ذَلِك لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا النّظم على مَا رُوِيَ أَنه قَالَ أُوتيت جَوَامِع الْكَلم أَي خصصت بذلك فَلَا يقدر أحد بعده على مَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ وَلَكِن كل مُكَلّف بِمَا فِي وَسعه وَفِي وَسعه نقل ذَلِك اللَّفْظ ليَكُون مُؤديا إِلَى غَيره مَا سَمعه مِنْهُ بِيَقِين وَإِذا نَقله إِلَى عِبَارَته لم يُؤمن الْقُصُور فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب بِهِ ويتيقن بالقصور فِي النّظم الَّذِي هُوَ من جَوَامِع الْكَلم وَكَانَ هَذَا النَّوْع هُوَ مُرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا

فصل فِي بَيَان الضَّبْط بِالْكِتَابَةِ والخط
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكِتَابَة نَوْعَانِ تذكرة وَإِمَام
فالتذكرة هُوَ أَن ينظر فِي الْمَكْتُوب فيتذكر بِهِ مَا كَانَ مسموعا لَهُ وَالنَّقْل بِهَذَا الطَّرِيق جَائِز سَوَاء كَانَ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ أَو بِخَط غَيره وَذَلِكَ الْخط مَعْرُوف أَو مَجْهُول لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينْقل مَا يحفظ غير أَن النّظر فِي الْكتاب كَانَ مذكرا لَهُ فَلَا يكون دون التفكر وَلَو تفكر فَتذكر جَازَ لَهُ أَن يروي وَيكون خَبره حجَّة فَكَذَلِك إِذا نظر فِي الْكتاب فَتذكر وَلِهَذَا الْمَقْصُود ندب إِلَى الْكتاب على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث قيدوا الْعلم بِالْكتاب وَقَالَ إِبْرَاهِيم كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعلم حفظا ثمَّ أُبِيح لَهُم الْكِتَابَة لما حدث بهم من الكسل وَلِأَن النسْيَان مركب فِي الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ أَن يحفظ نَفسه مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ خَاصّا لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بقوله سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ

(1/357)


الله وَلِهَذَا الِاسْتِثْنَاء وَقع لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تردد فِي قِرَاءَته سُورَة الْمُؤمنِينَ فِي صَلَاة الْفجْر حَتَّى قَالَ لأبي رَضِي الله عَنهُ (هلا ذَكرتني) فَثَبت أَن النسْيَان مِمَّا لَا يُسْتَطَاع الِامْتِنَاع مِنْهُ إِلَّا بحرج بَين والحرج مَدْفُوع وَبعد النسْيَان النّظر فِي الْكتاب طَرِيق للتذكر وَالْعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحِفْظ وَإِذا عَاد كَمَا كَانَ فَالرِّوَايَة تكون عَن ضبط تَامّ
وَأما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ أَن لَا يتَذَكَّر عِنْد النّظر وَلكنه يعْتَمد الْخط وَذَلِكَ يكون فِي فُصُول ثَلَاثَة رِوَايَة الحَدِيث وَالْقَاضِي يجد فِي خريطته سجلا مخطوطا بِخَطِّهِ من غير أَن يتَذَكَّر الْحَادِثَة وَالشَّاهِد يرى خطه فِي الصَّك وَلَا يتَذَكَّر الْحَادِثَة
ف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أَخذ فِي الْفُصُول الثَّلَاثَة بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة وَقَالَ لَا يجوز لَهُ أَن يعْتَمد الْكتاب مَا لم يتَذَكَّر لِأَن النّظر فِي الْكتاب لمعْرِفَة الْقلب كالنظر فِي الْمرْآة للرؤية بِالْعينِ ثمَّ النّظر فِي الْمرْآة إِذا لم تفده إدراكا لَا يكون مُعْتَبرا فالنظر فِي الْكتاب إِذا لم يفده تذكرا يكون هدرا وَهَذَا لِأَن الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وتنفيذ الْقَضَاء لَا يكون إِلَّا بِعلم والخط يشبه الْخط فبصورة الْخط لَا يَسْتَفِيد علما من غير التَّذَكُّر وَمَا كَانَ الْفساد فِي سَائِر الْأَدْيَان إِلَّا بالاعتماد على الصُّور بِدُونِ الْمَعْنى
وروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف رحمهمَا الله أَن فِي السّجل وَرِوَايَة الْأَثر يجوز لَهُ أَن يعْتَمد الْخط وَإِن لم يتَذَكَّر بِهِ وَفِي الصَّك لَا يجوز لَهُ ذَلِك
وروى ابْن رستم عَن مُحَمَّد رحمهمَا الله أَن ذَلِك جَائِز فِي الْفُصُول كلهَا وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رخصَة للتيسير على النَّاس
ثمَّ هَذِه الرُّخْصَة تتنوع أنواعا إِمَّا أَن يكون الْكتاب بِخَطِّهِ أَو بِخَط رجل مَعْرُوف ثِقَة موقع بتوقيعه أَو بِخَط رجل مَعْرُوف غير ثِقَة أَو غير موقع أَو بِخَط مَجْهُول أما أَبُو يُوسُف رَحمَه الله فَقَالَ السّجل يكون فِي خريطة القَاضِي مَخْتُومًا بختمه وَكَانَ فِي يَده أَيْضا فباعتبار الظَّاهِر يُؤمن فِيهِ التزوير والتبديل بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان وَالْقَاضِي مَأْمُور بِاتِّبَاع الظَّاهِر فِي الْقَضَاء فَلهُ أَن يعْتَمد السّجل فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ كتاب الْمُحدث إِذا كَانَ فِي يَده وَإِن لم يكن السّجل فِي يَد القَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَن يعتمده لِأَن التزوير والتغيير فِيهِ عَادَة لما يبتنى عَلَيْهِ من الْمَظَالِم والخصومات وَمثله فِي كتاب

(1/358)


الحَدِيث لَيْسَ بعادة فَلَا فرق فِيهِ بَين أَن يكون فِي يَده أَو فِي يَد أَمِين آخر لم يظْهر مِنْهُ خِيَانَة فِي مثله وَأما الصَّك فَيكون بيد الْخصم فَلَا يَقع الْأَمْن فِيهِ عَن التَّغْيِير والتزوير حَتَّى إِذا كَانَ فِي يَد الشَّاهِد كَانَ الْجَواب فِيهِ مثل الْجَواب فِي السّجل
وَالْحَاصِل أَنه بنى هَذِه الرُّخْصَة على مَا يُوقع الْأَمْن عَن التَّغْيِير وَالتَّعْدِيل عَادَة وَمُحَمّد رَحمَه الله أثبت الرُّخْصَة فِي الصَّك أَيْضا وَإِن لم يكن فِي يَده إِذا علم أَن الْمَكْتُوب خطه على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة لَهُ لِأَن الْبَاقِي بعد ذَلِك توهم التَّغْيِير وَله أثر بَين يُوقف عَلَيْهِ فَإِذا لم يظْهر ذَلِك فِيهِ جَازَ اعْتِمَاده فَأَما إِذا وجد الْكتاب بِخَط بَين وَهُوَ مَعْلُوم عِنْده أَو بِخَط رجل مَعْرُوف موثق بِهِ فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يَقُول وجدت بِخَط فلَان كَذَا لَا يزِيد على ذَلِك ثمَّ إِن كَانَ ذَلِك الْخط مُنْفَردا لَيْسَ مَعَه شَيْء آخر فَإِنَّهُ لَا يكون حجَّة وَإِن كَانَ مَعَه غَيره فَذَلِك يُوقع الْأَمْن عَن التزوير بطرِيق الْعَادة فَيجوز اعْتِمَاده على وَجه الرُّخْصَة (وَهَذَا فِي الْأَخْبَار خَاصَّة) فَأَما فِي الشَّهَادَة وَالْقَضَاء فَلَا لِأَن ذَلِك من مظالم الْعباد يعْتَبر فِيهِ من الِاسْتِقْصَاء مَا لَا يعْتَبر فِي رِوَايَة الْأَخْبَار وَاشْتِرَاط الْعلم فِيهِ مَنْصُوص عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للشَّاهِد إِذا رَأَيْت مثل هَذَا الشَّمْس فاشهد وَإِلَّا فدع