أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان وُجُوه الِانْقِطَاع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الِانْقِطَاع نَوْعَانِ انْقِطَاع صُورَة وَانْقِطَاع معنى
أما صُورَة الِانْقِطَاع صُورَة فَفِي الْمَرَاسِيل من الْأَخْبَار وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي مَرَاسِيل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنَّهَا حجَّة لأَنهم صحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يَرْوُونَهُ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام مُطلقًا يحمل على أَنهم سَمِعُوهُ مِنْهُ أَو من أمثالهم وهم كَانُوا أهل الصدْق وَالْعَدَالَة وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنْهُمَا بقوله مَا كل مَا نحدثكم بِهِ سمعناه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ يحدث بَعْضنَا بَعْضًا وَلَكنَّا لَا نكذب

(1/359)


فَأَما مَرَاسِيل الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث حجَّة فِي قَول عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يكون حجَّة إِلَّا إِذا تأيد بِآيَة أَو سنة مَشْهُورَة أَو اشْتهر الْعَمَل بِهِ من السّلف أَو اتَّصل من وَجه آخر
قَالَ وَلِهَذَا جعلت مَرَاسِيل سعيد بن الْمسيب حجَّة لِأَنِّي اتبعتها فَوَجَدتهَا مسانيد
احْتج فِي ذَلِك فَقَالَ الْخَبَر إِنَّمَا يكون حجَّة بِاعْتِبَار أَوْصَاف فِي الرَّاوِي وَلَا طَرِيق لمعْرِفَة تِلْكَ الْأَوْصَاف فِي الرَّاوِي إِذا كَانَ غير مَعْلُوم الأَصْل فَلَا تقوم الْحجَّة بِمثل هَذِه الرِّوَايَة وإعلامه بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي حَيَاته وبذكر اسْمه وَنسبه بعد وَفَاته فَإِذا لم يذكرهُ أصلا فقد تحقق انْقِطَاع هَذَا الْخَبَر عَن رَسُول الله وَالْحجّة فِي الْخَبَر باتصاله برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَبعد الِانْقِطَاع لَا يكون حجَّة
وَلَا يُقَال إِن رِوَايَة الْعدْل عَنهُ تكون تعديلا لَهُ وَإِن لم يذكر اسْمه لِأَن طَرِيق معرفَة الْجرْح وَالْعَدَالَة الِاجْتِهَاد وَقد يكون الْوَاحِد عدلا عِنْد إِنْسَان مجروحا عِنْد غَيره بِأَن يقف مِنْهُ على مَا كَانَ الآخر لَا يقف عَلَيْهِ أَلا ترى أَن شُهُود الْفَرْع إِذا شهدُوا على شَهَادَة الْأُصُول من غير ذكرهم فِي شَهَادَتهم لَا تكون شَهَادَتهم حجَّة لهَذَا الْمَعْنى يُوضحهُ أَنه قد كَانَ فيهم من يروي عَمَّن هُوَ مَجْرُوح عِنْده على مَا قَالَ الشّعبِيّ رَحمَه الله حَدثنِي الْحَارِث وَكَانَ وَالله كذابا
فَعرفنَا أَن بروايته عَنهُ لَا يثبت فِيهِ مَا يشْتَرط فِي الرَّاوِي فَيكون خَبره حجَّة وَلِأَن النَّاس تكلفوا بِحِفْظ الْأَسَانِيد فِي بَاب الْأَخْبَار فَلَو كَانَت الْحجَّة تقوم بالمراسيل لَكَانَ تكلفهم اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد فيبعد أَن يُقَال اجْتمع النَّاس على مَا لَيْسَ بمفيد
وَلَكنَّا نقُول الدَّلَائِل الَّتِي دلّت على كَون خبر الْوَاحِد حجَّة من الْكتاب وَالسّنة كلهَا تدل على كَون الْمُرْسل من الْأَخْبَار حجَّة
ثمَّ قد ظهر الْإِرْسَال من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ ظهورا لَا يُنكره إِلَّا متعنت
أما من الصَّحَابَة فبيانه فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ وَلما أنْكرت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ هِيَ أعلم حَدثنِي بِهِ الْفضل بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فقد أرسل الرِّوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير سَماع مِنْهُ وَقيل إِن ابْن عَبَّاس مَا سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بضعَة عشر حَدِيثا وَقد كثرت رِوَايَته مُرْسلا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك سَمَاعا من غير

(1/360)


رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر وَإِنَّمَا سمع ذَلِك من أَخِيه الْفضل ونعمان بن بشير رَضِي الله عَنْهُم مَا سمع من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح سَائِر جسده وَإِذا فَسدتْ فسد سَائِر جسده أَلا وَهِي الْقلب ثمَّ كثرت رِوَايَته عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام مُرْسلا وَالْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا من أَئِمَّة التَّابِعين كَانَ كثيرا مَا يروون مُرْسلا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قيل أَكثر مَا رَوَاهُ سعيد بن الْمسيب مُرْسلا إِنَّمَا سَمعه من عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ الْحسن كنت إِذا اجْتمع لي أَرْبَعَة من الصَّحَابَة على حَدِيث أَرْسلتهُ إرْسَالًا
وَقَالَ ابْن سِيرِين رَضِي الله عَنهُ مَا كُنَّا نسند الحَدِيث إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة فَقَالَ الْأَعْمَش قلت لإِبْرَاهِيم إِذا رويت لي حَدِيثا عَن عبد الله فأسنده لي فَقَالَ إِذا قلت لَك حَدثنِي فلَان عَن عبد الله فَهُوَ ذَاك وَإِذا قلت لَك قَالَ عبد الله فَهُوَ غير وَاحِد وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى بن أبان الْمُرْسل أقوى من الْمسند فَإِن من اشْتهر عِنْده حَدِيث (بِأَن سَمعه) بطرق طوى الْإِسْنَاد لوضوح الطَّرِيق عِنْده وَقطع الشَّهَادَة بقوله قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا سَمعه بطرِيق وَاحِد لَا يَتَّضِح الْأَمر عِنْده على وَجه لَا يبْقى لَهُ فِيهِ شُبْهَة فيذكره مُسْندًا على قصد أَن يحملهُ من يحمل عَنهُ
فَإِن قيل فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يجوز النّسخ بالمرسل كَمَا يجوز بَين الْأَخْبَار بالمشهور عنْدكُمْ
قُلْنَا إِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن قُوَّة الْمُرْسل من هَذَا الْوَجْه بِنَوْع من الِاجْتِهَاد فَيكون نَظِير قُوَّة تثبت بطرِيق الْقيَاس والنسخ بِمثلِهِ لَا يجوز
ثمَّ رِوَايَة هَؤُلَاءِ الْكِبَار مُرْسلا أما إِن كَانَ بِاعْتِبَار سماعهم مِمَّن لَيْسَ بِعدْل عِنْدهم أَو بِاعْتِبَار سماعهم من عدل مَعَ اعْتِقَادهم أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة أَو على اعْتِقَادهم أَن الْمُرْسل حجَّة كالمسند وَالْأول بَاطِل فَإِن من يستجيز الرِّوَايَة عَمَّن يعرفهُ غير عدل بِهَذِهِ الصّفة لَا يعْتَمد رِوَايَته مُرْسلا وَلَا مُسْندًا وَلَا يجوز أَن يظنّ بهم هَذَا وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ قَول بِأَنَّهُم كتموا مَوضِع

(1/361)


الْحجَّة بترك الْإِسْنَاد مَعَ علمهمْ أَن الْحجَّة لَا تقوم بِدُونِهِ فَتعين الثَّالِث وَهُوَ أَنهم اعتقدوا أَن الْمُرْسل حجَّة كالمسند وَكفى باتفاقهم حجَّة
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي بعض كتبه إِنَّمَا أرْسلُوا ليطلب ذَلِك فِي الْمسند وَهَذَا كَلَام فَاسد لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يُقَال لم يكن عِنْدهم إِسْنَاد ذَلِك أَو كَانَ وَلم يذكرُوا وَالْأول بَاطِل لِأَن فِيهِ قولا بِأَنَّهُم تخرصوا مَا لم يسمعوا ليطلب ذَلِك فِي المسموعات وَلَا يجوز ذَلِك لمن هُوَ دونهم فَكيف بهم وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِنْدهم الْإِسْنَاد وَقد علمُوا أَن الْحجَّة لَا تقوم بِدُونِهِ فَلَيْسَ فِي تَركه إِلَّا الْقَصْد إِلَى إتعاب النَّفس بِالطَّلَبِ
وَلَو قَالَ من أنكر الِاحْتِجَاج بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّهُم إِنَّمَا رووا ذَلِك ليطلب ذَلِك فِي الْمُتَوَاتر لَا يكون هَذَا الْكَلَام مَقْبُولًا مِنْهُ بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك هَذَا يقرره أَن الْمُفْتِي إِذا قَالَ للمستفتي قضى رَسُول الله فِي هَذِه الْحَادِثَة بِكَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْمل بِهِ وَإِن لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا فَكَذَلِك إِذا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا
وَلَو قَالَ روى فلَان عَن فلَان قبل ذَلِك مِنْهُ وَإِن لم يقل حَدثنِي وَلَا سمعته مِنْهُ وَهَذَا فِي معنى الْإِرْسَال
فَإِن قَالَ إِنَّمَا نجيزه على هَذَا الْوَجْه عَمَّن لَقِي فَيحمل مُطلق كَلَامه على المسموع مِنْهُ
قُلْنَا لما جَازَ حمل كَلَامه على هَذَا وَإِن لم ينص عَلَيْهِ لتحسين الظَّن بِهِ فَكَذَلِك يجوز حمل كَلَامه عِنْد الْإِرْسَال على السماع مِمَّن هُوَ عدل بِاعْتِبَار الظَّاهِر لتحسين الظَّن بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا طَرِيق لنا إِلَى معرفَة الشَّرَائِط للرواية فِيمَن لم يُدْرِكهُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِمَّن أدْركهُ وَإِذا كَانَ من أدْركهُ عدلا ثِقَة فَإِنَّهُ لَا يروي عَنهُ مُطلقًا مَا لم يعرف استجماع الشَّرَائِط فِيهِ فبروايته عَنهُ يثبت لنا استجماع الشَّرَائِط أَلا ترى أَنه لَو أسْند الرِّوَايَة إِلَيْهِ يثبت استجماع الشَّرَائِط فِيهِ بروايته عَنهُ فَكَذَلِك إِذا أرْسلهُ بل أولى لِأَنَّهُ إِذا أسْند إِلَيْهِ فَإِنَّمَا شهد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ روى ذَلِك فَإِذا أرسل فَإِنَّمَا يشْهد على رَسُول الله أَنه قَالَ ذَلِك وَمن علم أَنه لَا يستجيز الشَّهَادَة على غير رَسُول الله بِالْبَاطِلِ فَكيف يظنّ أَن يستجيز الشَّهَادَة على رَسُول الله بِالْبَاطِلِ مَعَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار يُوضحهُ أَن القَاضِي إِذا كتب سجلا فِيهِ قَضَاؤُهُ فِي حَادِثَة وَأشْهد على ذَلِك كَانَ ذَلِك حجَّة وَإِن لم يبين اسْم الشُّهُود فِي المسجل وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيق وَهَذَا بِخِلَاف الشُّهُود على شَهَادَة الْغَيْر لِأَن الْعلمَاء

(1/362)


مُخْتَلفُونَ فِي أَن عِنْد الرُّجُوع هَل يجب الضَّمَان على شُهُود الأَصْل أم لَا فَلَعَلَّ القَاضِي مِمَّن يرى تضمينهم فَلَا يتَمَكَّن من الْقَضَاء بِهِ إِذا لم يَكُونُوا معلومين عِنْده وَمثل هَذَا لَا يتَحَقَّق فِي بَاب الْأَخْبَار مَعَ أَن شَاهد الْفَرْع يَنُوب عَن شَاهد الأَصْل فِي نقل شَهَادَته أَلا ترى أَنه لَو أشهد قوما على شَهَادَته فَسَمعهُ آخَرُونَ لم يكن لَهُم أَن يشْهدُوا على شَهَادَته بِخِلَاف رِوَايَة الْأَخْبَار وَإِذا كَانَ الفرعي يعبر عَن الأَصْل بِشَهَادَتِهِ لم يجد بدا من ذكره ليَكُون معبرا أَلا ترى أَنه لَو قَالَ أشهد عَن فلَان لم يكن ذَلِك مَقْبُولًا
وَهنا لَو قَالَ أروي عَن فلَان كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ
ثمَّ اشْتِغَال النَّاس بِالْإِسْنَادِ كاشتغالهم بالتكلف لسَمَاع الحَدِيث من وُجُوه وَذَلِكَ لَا يدل على أَن خبر الْوَاحِد لَا يكون حجَّة فَكَذَلِك اشتغالهم بِالْإِسْنَادِ لَا يكون دَلِيلا على أَن الْمُرْسل لَا يكون حجَّة
فَأَما مَرَاسِيل من بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة فقد كَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله لَا يفرق بَين مَرَاسِيل أهل الْأَعْصَار وَكَانَ يَقُول من تقبل رِوَايَته مُسْندًا تقبل رِوَايَته مُرْسلا
للمعنى الَّذِي ذكرنَا
وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول من اشْتهر فِي النَّاس بِحمْل الْعلم مِنْهُ تقبل رِوَايَته مُرْسلا وَمُسْندًا
وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله وَأَمْثَاله من الْمَشْهُورين بِالْعلمِ وَمن لم يشْتَهر بِحمْل النَّاس الْعلم مِنْهُ مُطلقًا وَإِنَّمَا اشْتهر بالرواية عَنهُ فَإِن مُسْنده يكون حجَّة ومرسله يكون مَوْقُوفا إِلَى أَن يعرض على من اشْتهر بِحمْل الْعلم عَنهُ
وَأَصَح الْأَقَاوِيل فِي هَذَا مَا قَالَه أَبُو بكر الرَّازِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن مُرْسل من كَانَ من الْقُرُون الثَّلَاثَة حجَّة مَا لم يعرف مِنْهُ الرِّوَايَة مُطلقًا عَمَّن لَيْسَ بِعدْل ثِقَة ومرسل من كَانَ بعدهمْ لَا يكون حجَّة إِلَّا من اشْتهر بِأَنَّهُ لَا يروي إِلَّا عَمَّن هُوَ عدل ثِقَة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام شهد للقرون الثَّلَاثَة بِالصّدقِ والخيرية فَكَانَت عدالتهم ثَابِتَة بِتِلْكَ الشَّهَادَة مَا لم يتَبَيَّن خلافهم وَشهد على من بعدهمْ بِالْكَذِبِ بقوله ثمَّ يفشو الْكَذِب فَلَا تثبت عَدَالَة من كَانَ فِي زمن شهد على أَهله بِالْكَذِبِ إِلَّا بِرِوَايَة من كَانَ مَعْلُوم الْعَدَالَة يعلم أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل
وَإِلَى نَحْو هَذَا أَشَارَ عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا حِين روى لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ فَقَالَ أَتَشهد بِهِ على رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نعم فَمَا يَمْنعنِي من ذَلِك وَقد أَخْبرنِي بِهِ الْعدْل الرِّضَا
فَقبل عمر بن عبد الْعَزِيز رِوَايَته

(1/363)


وَاخْتلف أَصْحَاب الحَدِيث فِي مُنْقَطع من وَجه مُتَّصِل من وَجه آخر
فَمنهمْ من قَالَ سقط اعْتِبَار الِاتِّصَال فِيهِ بالانقطاع من وَجه وَكَأن هَذَا الْقَائِل جعل الِانْقِطَاع بسكوت رَاوِي الْفَرْع عَن تَسْمِيَة رَاوِي الأَصْل دَلِيل الْجرْح فِيهِ وَإِذا اسْتَوَى الْمُوجب للعدالة والموجب للجرح يغلب الْجرْح وَأَكْثَرهم على أَن هَذَا يكون حجَّة لوُجُود الِاتِّصَال فِيهِ بطرِيق وَاحِد وَالطَّرِيق الآخر الَّذِي هُوَ مُنْقَطع يَجْعَل كَأَن لبس لِأَن ذَلِك الطَّرِيق سَاكِت عَن الرَّاوِي وحاله أصلا وَفِي الطَّرِيق الْمُتَّصِل بَيَان لَهُ وَلَا مُعَارضَة بَين السَّاكِت والناطق
فَأَما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الِانْقِطَاع معنى يَنْقَسِم قسمَيْنِ إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى بِدَلِيل معَارض أَو نُقْصَان فِي حَال الرَّاوِي يثبت بِهِ الِانْقِطَاع
فَأَما الْقسم الأول وَهُوَ ثُبُوت الِانْقِطَاع بِدَلِيل معَارض فعلى أَرْبَعَة أوجه إِمَّا أَن يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى أَو لسنة مَشْهُورَة عَن رَسُول الله أَو يكون حَدِيثا شاذا لم يشْتَهر فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى وَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته أَو يكون حَدِيثا قد أعرض عَنهُ الْأَئِمَّة من الصَّدْر الأول بِأَن ظهر مِنْهُم الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْحَادِثَة وَلم تجر بَينهم المحاجة بذلك الحَدِيث
فَأَما الْوَجْه الأول وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الحَدِيث مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يكون مَقْبُولًا وَلَا حجَّة للْعَمَل بِهِ عَاما كَانَت الْآيَة أَو خَاصّا نصا أَو ظَاهرا عندنَا على مَا بَينا أَن تَخْصِيص الْعَام بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ ترك الظَّاهِر فِيهِ وَالْحمل على نوع من الْمجَاز لَا يجوز بِخَبَر الْوَاحِد عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَقد بَينا هَذَا وَدَلِيلنَا فِي ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى فَهُوَ بَاطِل وَكتاب الله أَحَق وَالْمرَاد كل شَرط هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى لَا أَن يكون المُرَاد مَا لَا يُوجد عينه فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن عين هَذَا الحَدِيث لَا يُوجد فِي كتاب الله تَعَالَى وبالإجماع من الْأَحْكَام مَا هُوَ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَإِن كَانَ لَا يُوجد ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى فَعرفنَا أَن المُرَاد مَا يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى وَذَلِكَ

(1/364)


تنصيص على أَن كل حَدِيث هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُود
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام تكْثر الْأَحَادِيث لكم بعدِي فَإِذا رُوِيَ لكم عني حَدِيث فاعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فَمَا وَافقه فاقبلوه وَاعْلَمُوا أَنه مني وَمَا خَالفه فَردُّوهُ وَاعْلَمُوا أَنِّي مِنْهُ بَرِيء وَلِأَن الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَفِي اتِّصَال الْخَبَر الْوَاحِد برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شُبْهَة فَعِنْدَ تعذر الْأَخْذ بهما لَا بُد من أَن يُؤْخَذ بالمتيقن وَيتْرك مَا فِيهِ شُبْهَة وَالْعَام وَالْخَاص فِي هَذَا سَوَاء لما بَينا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا كالخاص وَكَذَلِكَ النَّص وَالظَّاهِر سَوَاء لِأَن الْمَتْن من الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَمتْن الحَدِيث لَا يَنْفَكّ عَن شُبْهَة لاحْتِمَال النَّقْل بِالْمَعْنَى ثمَّ قوام الْمَعْنى بِالْمَتْنِ فَإِنَّمَا يشْتَغل بالترجيح من حَيْثُ الْمَتْن أَولا إِلَى أَن يَجِيء إِلَى الْمَعْنى وَلَا شكّ أَن الْكتاب يتَرَجَّح بِاعْتِبَار النَّقْل الْمُتَوَاتر فِي الْمَتْن على خبر الْوَاحِد فَكَانَت مُخَالفَة الْخَبَر للْكتاب دَلِيلا ظَاهرا على الزيافة فِيهِ وَلِهَذَا لم يقبل عُلَمَاؤُنَا خبر الْوضُوء من مس الذّكر لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهرا وَمَعْلُوم أَن الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ لَا يكون إِلَّا بِمَسّ الذّكر فَالْحَدِيث الَّذِي يَجْعَل مَسّه حَدثا بِمَنْزِلَة الْبَوْل يكون مُخَالفا لما فِي الْكتاب لِأَن الْفِعْل الَّذِي هُوَ حدث لَا يكون تطهرا
وَكَذَلِكَ لم يقبل حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فِي أَن لَا نَفَقَة للمبتوتة لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} وَلَا خلاف أَن المُرَاد وأنفقوا عَلَيْهِنَّ من وجدكم فَالْمُرَاد الْحَائِل فَإِنَّهُ عطف عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} وَكَذَلِكَ لم يقبل خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب من أوجه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} الْآيَة وَقَوله واستشهدوا أَمر بِفعل هُوَ مُجمل فِيمَا يرجع إِلَى عدد الشُّهُود كَقَوْل الْقَائِل كل يكون مُجملا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الْمَأْكُول فَيكون مَا بعده تَفْسِيرا لذَلِك الْمُجْمل وبيانا لجَمِيع مَا هُوَ المُرَاد بِالْأَمر وَهُوَ استشهاد رجلَيْنِ فَكَذَا أَو أَذِنت لَك أَن تعامل فلَانا فَإِن لم يكن ففلانا يكون ذَلِك بَيَانا لجَمِيع مَا هُوَ المُرَاد بِالْأَمر وَالْإِذْن وَإِذا ثَبت أَن جَمِيع مَا هُوَ الْمَذْكُور فِي الْآيَة كَانَ خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين زَائِدا عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة على النَّص كالنسخ عندنَا يقرره قَوْله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} فقد فَإِن لم يَكُونَا فَرجل وَامْرَأَتَانِ كَقَوْل الْقَائِل كل طَعَام كَذَا

(1/365)


فَإِن لم يكن نَص على أَن أدنى مَا تَنْتفِي بِهِ الرِّيبَة شَهَادَة شَاهِدين بِهَذِهِ الصّفة وَلَيْسَ دون الْأَدْنَى شَيْء آخر تَنْتفِي بِهِ الرِّيبَة وَلِأَنَّهُ نقل الحكم من استشهاد الرجل الثَّانِي بعد شَهَادَة الشَّاهِد الْوَاحِد إِلَى استشهاد امْرَأتَيْنِ مَعَ أَن حُضُور النِّسَاء مجَالِس الْقَضَاء لأَدَاء الشَّهَادَة خلاف الْعَادة وَقد أمرن بالقرار فِي الْبيُوت شرعا فَلَو كَانَ يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد حجَّة لما نقل الحكم إِلَى استشهاد امْرَأتَيْنِ وَهُوَ خلاف الْمُعْتَاد مَعَ تمكن الْمُدَّعِي من إتْمَام حجَّته بِيَمِينِهِ
وبمثل هَذَا الطَّرِيق جعلنَا شَهَادَة أهل الذِّمَّة بَعضهم على بعض حجَّة لِأَن الله تَعَالَى نقل الحكم عَن استشهاد مُسلمين على وَصِيَّة الْمُسلم إِلَى استشهاد ذميين بقوله تَعَالَى {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} مَعَ أَن حُضُور أهل الذِّمَّة مجَالِس الْقُضَاة لأَدَاء الشَّهَادَة خلاف الْمُعْتَاد فَذَلِك دَلِيل ظَاهر على أَن الْحجَّة تقوم بِشَهَادَتِهِم فِي الْجُمْلَة
وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على رد خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ نقل الحكم إِلَى استشهاد ذميين عِنْد عدم شَاهِدين مُسلمين فَلَو كَانَ الشَّاهِد الْوَاحِد مَعَ يَمِين الْمُدَّعِي حجَّة لَكَانَ الأولى بَيَان ذَلِك عِنْد الْحَاجة وَذكر فِي الْآيَة يَمِين الشَّاهِدين ظَاهرا عِنْد الرِّيبَة مَعَ أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة الْيَوْم (لأجل النّسخ) فَلَو كَانَ بِيَمِين الْمُدَّعِي تَنْتفِي الرِّيبَة أَو تتمّ الْحجَّة لَكَانَ الأولى ذكر يَمِينه عِنْد الْحَاجة
فبهذه الْوُجُوه يتَبَيَّن أَن خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين مُخَالف للْكتاب فتركنا الْعَمَل بِهِ لهَذَا وَكَذَلِكَ الْغَرِيب من أَخْبَار الْآحَاد إِذا خَالف السّنة الْمَشْهُورَة فَهُوَ مُنْقَطع فِي حكم الْعَمَل بِهِ لِأَن مَا يكون متواترا من السّنة أَو مستفيضا أَو مجمعا عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكتاب فِي ثُبُوت علم الْيَقِين بِهِ وَمَا فِيهِ شُبْهَة فَهُوَ مَرْدُود فِي مُقَابلَة الْيَقِين وَكَذَلِكَ الْمَشْهُور من السّنة فَإِنَّهُ أقوى من الْغَرِيب لكَونه أبعد عَن مَوضِع الشُّبْهَة وَلِهَذَا جَازَ النّسخ بالمشهور دون الْغَرِيب فالضعيف لَا يظْهر فِي مُقَابلَة الْقوي

(1/366)


وَلِهَذَا لم يعْمل بِخَبَر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف للسّنة الْمَشْهُورَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان أَن الْيَمين فِي جَانب الْمُنكر دون الْمُدَّعِي وَالثَّانِي أَن فِيهِ بَيَان أَنه لَا يجمع بَين الْيَمين وَالْبَيِّنَة فَلَا تصلح الْيَمين متممة للبينة بِحَال وَلِهَذَا الأَصْل لم يعْمل أَبُو حنيفَة بِخَبَر سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أينتقص إِذا جف قَالُوا نعم
قَالَ فَلَا إِذا لِأَنَّهُ مُخَالف للسّنة الْمَشْهُورَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التَّمْر بِالتَّمْرِ مثل بِمثل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِيهَا اشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِي الْكَيْل مُطلقًا لجَوَاز العقد فالتقييد بِاشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِي أعدل الْأَحْوَال وَهُوَ بعد الجفوف يكون زِيَادَة وَالثَّانِي أَنه جعل فضلا يظْهر بِالْكَيْلِ هُوَ الْحَرَام فِي السّنة الْمَشْهُورَة فَجعل فضل يظْهر عِنْد فَوَات وصف مَرْغُوب فِيهِ رَبًّا حَرَامًا يكون مُخَالفا لذَلِك الحكم إِلَّا أَن أَبَا يُوسُف ومحمدا قَالَا السّنة الْمَشْهُورَة لَا تتَنَاوَل الرطب لِأَن مُطلق اسْم التَّمْر لَا يتَنَاوَلهُ بِدَلِيل أَن من حلف لَا يَأْكُل تَمرا فَأكل رطبا لم يَحْنَث وَلَو حلف لَا يَأْكُل هَذَا الرطب فَأَكله بعد مَا صَار تَمرا لم يَحْنَث فَإِذا لم تتناوله السّنة الْمَشْهُورَة وَجب إِثْبَات الحكم فِيهِ بالْخبر الآخر
وَأَبُو حنيفَة قَالَ التَّمْر اسْم للثمرة الْخَارِجَة من النّخل من حِين تَنْعَقِد صورتهَا إِلَى أَن تدْرك وَمَا يخْتَلف عَلَيْهِ أَحْوَال وأوصاف حسب مَا يكون على الْآدَمِيّ لَا يتبدل بِهِ اسْم الْعين وَفِي الْأَيْمَان تتْرك الْحَقَائِق لدلَالَة الْعرف وَالْيَمِين تتقيد بِوَصْف فِي الْعين إِذا كَانَ دَاعيا إِلَى الْيَمين
فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الانتقاد للْحَدِيث علم كثير وصيانة للدّين بليغة فَإِن أصل الْبدع والأهواء إِنَّمَا ظهر من قبل ترك عرض أَخْبَار الْآحَاد على الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة فَإِن قوما جعلوها أصلا مَعَ الشُّبْهَة فِي اتصالها برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعَ أَنَّهَا لَا توجب علم الْيَقِين ثمَّ تأولوا عَلَيْهَا الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة فَجعلُوا التبع متبوعا وَجعلُوا الأساس مَا هُوَ غير مُتَيَقن بِهِ فوقعوا فِي الْأَهْوَاء والبدع بِمَنْزِلَة من أنكر خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ لما لم يجوز الْعَمَل بِهِ احْتَاجَ إِلَى الْقيَاس ليعْمَل بِهِ وَفِيه أَنْوَاع من الشُّبْهَة أَو إِلَى اسْتِصْحَاب الْحَال وَهُوَ لَيْسَ

(1/367)


بِحجَّة أصلا وَترك الْعَمَل بِالْحجَّةِ إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة يكون فتحا لباب الْآحَاد وَجعل مَا هُوَ غير مُتَيَقن بِهِ أصلا ثمَّ تَخْرِيج مَا فِيهِ التيقن عَلَيْهِ يكون فتحا لباب الْأَهْوَاء والبدع وكل وَاحِد مِنْهُمَا زيف مَرْدُود وَإِنَّمَا سَوَاء السَّبِيل مَا ذهب إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله من إِنْزَال كل حجَّة منزلتها فَإِنَّهُم جعلُوا الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة أصلا ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِمَا مَا فِيهِ بعض الشُّبْهَة وَهُوَ الْمَرْوِيّ بطرِيق الْآحَاد مِمَّا لم يشْتَهر فَمَا كَانَ مِنْهُ مُوَافقا للمشهور قبلوه وَمَا لم يَجدوا فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة الْمَشْهُورَة لَهُ ذكرا قبلوه أَيْضا وأوجبوا الْعَمَل بِهِ وَمَا كَانَ مُخَالفا لَهما ردُّوهُ على أَن الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة أوجب من الْعَمَل بالغريب بِخِلَافِهِ وَمَا لم يجدوه فِي شَيْء من الْأَخْبَار وصاروا حِينَئِذٍ إِلَى الْقيَاس فِي معرفَة حكمه لتحَقّق الْحَاجة إِلَيْهِ
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْغَرِيب فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى وَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته للْعَمَل بِهِ فَإِنَّهُ زيف لِأَن صَاحب الشَّرْع كَانَ مَأْمُورا بِأَن يبين للنَّاس مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقد أَمرهم بِأَن ينقلوا عَنهُ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من بعدهمْ فَإِذا كَانَت الْحَادِثَة مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى فَالظَّاهِر أَن صَاحب الشَّرْع لم يتْرك بَيَان ذَلِك للكافة وتعليمهم وَأَنَّهُمْ لم يتْركُوا نَقله على وَجه الاستفاضة فحين لم يشْتَهر النَّقْل عَنْهُم عرفنَا أَنه سَهْو أَو مَنْسُوخ أَلا ترى أَن الْمُتَأَخِّرين لما نقلوه اشْتهر فيهم فَلَو كَانَ ثَابتا فِي الْمُتَقَدِّمين لاشتهر أَيْضا وَمَا تفرد الْوَاحِد بنقله مَعَ حَاجَة الْعَامَّة إِلَى مَعْرفَته وَلِهَذَا لم تقبل شَهَادَة الْوَاحِد من أهل الْمصر على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان إِذا لم يكن بالسماء عِلّة وَلم يقبل قَول الْوَصِيّ فِيمَا يَدعِي من إِنْفَاق مَال عَظِيم على الْيَتِيم فِي مُدَّة يسيرَة وَإِن كَانَ ذَلِك مُحْتملا لِأَن الظَّاهِر يكذبهُ فِي ذَلِك وعَلى هَذَا الأَصْل لم نعمل بِحَدِيث الْوضُوء من مس الذّكر لِأَن بسرة تفردت بروايته مَعَ عُمُوم الْحَاجة لَهُم إِلَى مَعْرفَته
فَالْقَوْل بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام خصها بتعليم هَذَا الحكم مَعَ أَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلم يعلم سَائِر الصَّحَابَة مَعَ شدَّة حَاجتهم إِلَيْهِ شبه الْمحَال وَكَذَلِكَ خبر الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار وَخبر

(1/368)


الْوضُوء من حمل الْجِنَازَة وعَلى هَذَا لم يعْمل عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله بِخَبَر الْجَهْر بِالتَّسْمِيَةِ وَخبر رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع الرَّأْس من الرُّكُوع لِأَنَّهُ لم يشْتَهر النَّقْل فِيهَا مَعَ حَاجَة الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته
فَإِن قيل فقد قبلتم الْخَبَر الدَّال على وجوب الْوتر وعَلى وجوب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْجَنَابَة وَهُوَ خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى
قُلْنَا لِأَنَّهُ قد اشْتهر أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فعله وَأمر بِفِعْلِهِ فَأَما الْوُجُوب حكم آخر سوى الْفِعْل وَذَلِكَ مِمَّا يجوز أَن يُوقف عَلَيْهِ بعض الْخَواص لينقلوه إِلَى غَيرهم فَإِنَّمَا قبلنَا خبر الْوَاحِد فِي هَذَا الحكم فَأَما أصل الْفِعْل فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّقْلِ المستفيض
وَأما الْقسم الرَّابِع وَهُوَ مَا لم تجر المحاجة بِهِ بَين الصَّحَابَة مَعَ ظُهُور الِاخْتِلَاف بَينهم فِي الحكم فَإِنَّهُ زيف لأَنهم الْأُصُول فِي نقل الدّين لَا يتهمون بِالْكِتْمَانِ وَلَا يتْرك الِاحْتِجَاج بِمَا هُوَ الْحجَّة والاشتغال بِمَا لَيْسَ بِحجَّة فَإِذا ظهر مِنْهُم الِاخْتِلَاف فِي الحكم وَجَرت المحاجة بَينهم فِيهِ بِالرَّأْيِ والرأي لَيْسَ بِحجَّة مَعَ ثُبُوت الْخَبَر فَلَو كَانَ الْخَبَر صَحِيحا لاحتج بِهِ بَعضهم على بعض حَتَّى يرْتَفع بِهِ الْخلاف الثَّابِت بَينهم بِنَاء على الرَّأْي فَكَانَ إِعْرَاض الْكل عَن الِاحْتِجَاج بِهِ دَلِيلا ظَاهرا على أَنه سَهْو مِمَّن رَوَاهُ بعدهمْ أَو هُوَ مَنْسُوخ وَذَلِكَ نَحْو مَا يرْوى الطَّلَاق بِالرِّجَالِ وَالْعدة بِالنسَاء فَإِن الْكِبَار من الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي هَذَا وأعرضوا عَن الِاحْتِجَاج بِهَذَا الحَدِيث أصلا فَعرفنَا أَنه غير ثَابت أَو مؤول وَالْمرَاد بِهِ أَن إِيقَاع الطَّلَاق إِلَى الرِّجَال
وَكَذَلِكَ مَا يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ابْتَغوا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى خيرا كَيْلا تأكلها الصَّدَقَة فَإِن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي وجوب الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي وأعرضوا عَن الِاحْتِجَاج بِهَذَا الحَدِيث أصلا فَعرفنَا أَنه غير ثَابت إِذْ لَو كَانَ ثَابتا لاشتهر فيهم وَجَرت المحاجة بِهِ بعد تحقق الْحَاجة إِلَيْهِ بِظُهُور الِاخْتِلَاف فَفِي الانتقاد بِالْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين تظهر الزيافة معنى للمقابلة بِمَنْزِلَة نقد الْبَلَد إِذا قوبل بِنَقْد أَجود مِنْهُ تظهر الزيافة فِيهِ وَفِي الانتقاد بِالْوَجْهَيْنِ الآخرين إِظْهَار الزيافة معنى من حَيْثُ إِنَّه تقَوِّي فِيهِ شُبْهَة الِانْقِطَاع بِمَنْزِلَة نقد تبين فِيهِ زِيَادَة غش على مَا هُوَ فِي

(1/369)


النَّقْد الْمَعْهُود فَيصير زيفا مردودا من هَذَا الْوَجْه
وَالشَّافِعِيّ أعرض عَن طلب الِانْقِطَاع معنى واشتغل بِبِنَاء الحكم على ظَاهر الِانْقِطَاع فِي الْمُرْسل فَترك الْعَمَل بِهِ مَعَ قُوَّة الْمَعْنى فِيهِ كَمَا هُوَ دأبه ودأبنا فَإِنَّهُ يَبْنِي على الظَّاهِر أَكثر الْأَحْكَام وعلماؤنا يبنون الْفِقْه على الْمعَانِي المؤثرة الَّتِي يَتَّضِح الحكم عِنْد التَّأَمُّل فِيهَا
وَأما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ مَا يبتنى على نُقْصَان حَال الرَّاوِي فبيان ذَلِك فِي فُصُول مِنْهَا خبر المستور وَالْفَاسِق وَالْكَافِر وَالصَّبِيّ وَالْمَعْتُوه والمغفل والمساهل وَصَاحب الْهوى
أما المستور فقد نَص مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الِاسْتِحْسَان على أَن خَبره كَخَبَر الْفَاسِق وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه بِمَنْزِلَة الْعدْل فِي رِوَايَة الْأَخْبَار لثُبُوت الْعَدَالَة لَهُ ظَاهرا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ) الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض
وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة الْقَضَاء بِشَهَادَة الْمُسْتَوْرد فِيمَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات إِذا لم يطعن الْخصم وَلَكِن مَا ذكره فِي الِاسْتِحْسَان أصح فِي زَمَاننَا فَإِن الْفسق غَالب فِي أهل هَذَا الزَّمَان فَلَا تعتمد رِوَايَة الْمُسْتَوْرد مَا لم تتبين عَدَالَته كَمَا لم تعتمد شَهَادَته فِي الْقَضَاء قبل أَن تظهر عَدَالَته وَهَذَا بِحَدِيث عباد بن كثير أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَا تحدثُوا عَمَّن لَا تعلمُونَ بِشَهَادَتِهِ وَلِأَن فِي رِوَايَة الحَدِيث معنى الْإِلْزَام فَلَا بُد من أَن يعْتَمد فِيهِ دَلِيل مُلْزم وَهُوَ الْعَدَالَة الَّتِي تظهر بالتفحص عَن أَحْوَال الرَّاوِي
وَأما الْفَاسِق فقد ذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان أَنه إِذا أخبر بِطَهَارَة المَاء أَو بِنَجَاسَتِهِ أَو بِحل الطَّعَام وَالشرَاب وحرمته فَإِن السَّامع يحكم رَأْيه فِي ذَلِك فَإِن وَقع عِنْده أَنه صَادِق فَعَلَيهِ أَن يعْمل بِخَبَرِهِ وَإِلَّا لم يعْمل بِهِ وعَلى هَذَا قَالَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله الْجَواب كَذَلِك فِيمَا يرويهِ الْفَاسِق
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن خَبره لَا يكون حجَّة لِأَنَّهُ غير مَقْبُول الشَّهَادَة وَفِي حل الطَّعَام وحرمته وطهارة المَاء ونجاسته إِنَّمَا اعْتبر خَبره إِذا تأيد

(1/370)


بِأَكْثَرَ الرَّأْي لأجل الضَّرُورَة لِأَن ذَلِك حكم خَاص رُبمَا يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ من جِهَة غَيره وَمثل هَذِه الضَّرُورَة لَا يتَحَقَّق فِي رِوَايَة الْخَبَر فَإِن فِي الْعُدُول كَثْرَة يُمكن الْوُقُوف على معرفَة الحَدِيث بِالسَّمَاعِ مِنْهُم فَلَا حَاجَة إِلَى الِاعْتِمَاد على رِوَايَة الْفَاسِق فِيهِ
ثمَّ فِي الْمُعَامَلَات جعل خبر الْفَاسِق مَقْبُولًا لأجل الضَّرُورَة أَيْضا فَإِن الْمُعَامَلَة تكْثر بَين النَّاس وَلَا يُوجد عدل يرجع إِلَيْهِ فِي كل خبر من ذَلِك النَّوْع إِلَّا أَن ذَلِك يَنْفَكّ عَن معنى الْإِلْزَام فجوز الِاعْتِمَاد فِيهِ على خبر الْفَاسِق مُطلقًا والحل وَالْحُرْمَة فِيهِ معنى الْإِلْزَام من وَجه فَلهَذَا لم نجْعَل خبر الْفَاسِق فِيهِ مُعْتَمدًا على الْإِطْلَاق حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهِ غَالب الرَّأْي
وَمن النَّاس من لم يَجْعَل خبر الْفَاسِق مَقْبُولًا فِي الْمُعَامَلَة أَيْضا لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن عقبَة حِين بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا إِلَى قوم فَرجع إِلَيْهِ وَقَالَ إِنَّهُم هموا بقتلي فَأَرَادَ رَسُول الله أَن يعْتَمد خَبره وَيبْعَث إِلَيْهِم خيلا لِأَنَّهُ مَا كَانَ ظَاهر الْفسق عِنْده فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَمَا أخبر بِهِ كَانَ من الْمُعَامَلَات خَالِيا عَن الْإِلْزَام وَمَعَ ذَلِك أَمر الله تَعَالَى بالتوقف فِي هَذَا النبأ من الْفَاسِق
وَلَكنَّا نقُول كَانَ ذَلِك خَبرا مستنكرا فَإِنَّهُ أخبر أَنهم ارْتَدُّوا بِمَنْع الزَّكَاة وجحودها وهموا بقتْله وَفِيه إِلْزَام الْجِهَاد مَعَهم وَنحن نقُول إِن من ثَبت فسقه لَا يعْتَبر خَبره فِي مثل هَذَا فَأَما فِي الْمُعَامَلَات الَّتِي تنفك عَن معنى الْإِلْزَام فَيجوز اعْتِمَاد خَبره لأجل الضَّرُورَة إِذْ الْفسق يرجح معنى الْكَذِب فِي خَبره من غير أَن يكون مُوجبا الحكم بِأَنَّهُ كَاذِب فِي خَبره لَا محَالة وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مَعَ الْفسق من أهل الشَّهَادَة
فَأَما الْكَافِر فَإِنَّهُ لَا تعتمد رِوَايَته فِي بَاب الْأَخْبَار أصلا
وَكَذَلِكَ فِي طَهَارَة المَاء ونجاسته إِلَّا أَنه إِذا وَقع فِي قلب السَّامع أَنه صَادِق فِيمَا يخبر بِهِ من نَجَاسَة المَاء فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يريق المَاء ثمَّ يتَيَمَّم وَلَا تجوز صلَاته بِالتَّيَمُّمِ قبل إِرَاقَة المَاء لِأَنَّهُ لَا يعْتَمد خَبره فِي بَاب الدّين أصلا فَيبقى مُجَرّد غَلَبَة الظَّن وَذَلِكَ لَا يجوز لَهُ الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وجود المَاء بِخِلَاف الْفَاسِق فهناك يلْزمه أَن يتَوَضَّأ بذلك المَاء إِذا وَقع فِي قلبه أَنه صَادِق فِي الْإِخْبَار بِطَهَارَة

(1/371)


المَاء وَإِن أخبر بِنَجَاسَة المَاء وَوَقع فِي قلبه أَنه صَادِق فَالْأولى لَهُ أَن يريق المَاء وَيتَيَمَّم فَإِن تيَمّم وَلم يرق المَاء جَازَت صلَاته
وَأما خبر الصَّبِي فقد ذكر فِي الِاسْتِحْسَان بعد ذكر الْفَاسِق وَالْكَافِر وَكَذَلِكَ الصَّبِي وَالْمَعْتُوه إِذا عقلا مَا يَقُولَانِ
فَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن المُرَاد الْعَطف على الْفَاسِق وَأَن خَبره بِمَنْزِلَة خبر الْفَاسِق فِي طَهَارَة المَاء ونجاسته وَالأَصَح أَن المُرَاد عطفه على الْكَافِر فَإِن الصَّبِي لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة أصلا كَمَا أَن الْكَافِر لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة على الْمُسلمين بِخِلَاف الْفَاسِق فَهُوَ من أهل الشَّهَادَة وَإِن لم يكن مَقْبُول الشَّهَادَة لفسقه (و) لِأَن الصَّبِي بِخَبَرِهِ يلْزم الْغَيْر ابْتِدَاء من غير أَن يلْتَزم شَيْئا لِأَنَّهُ غير مُخَاطب كالكافر يلْزم غَيره من غير أَن يلْتَزم لِأَنَّهُ غير مُعْتَقد للْحكم الَّذِي يخبر بِهِ فَأَما الْفَاسِق فيلتزم أَولا ثمَّ يلْزم غَيره وَلِأَن الْولَايَة المتعدية تبتنى على الْولَايَة الْقَائِمَة للمرء على نَفسه وَالْفَاسِق من أهل هَذِه الْولَايَة فَيكون أَهلا للولاية المتعدية أَيْضا بِخِلَاف الصَّبِي وَالْمَعْتُوه بِمَنْزِلَة الصَّبِي فقد سوى عُلَمَاؤُنَا بَينهمَا فِي الْأَحْكَام فِي الْكتب لنُقْصَان عقلهما
وَمن النَّاس من يَقُول رِوَايَة الصَّبِي فِي بَاب الدّين مَقْبُولَة وَإِن لم يكن هُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة للولاية بِمَنْزِلَة رِوَايَة العَبْد وَاسْتدلَّ فِيهِ بِحَدِيث أهل قبَاء فَإِن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَتَاهُم وَأخْبرهمْ بتحويل الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة وهم كَانُوا فِي الصَّلَاة فاستداروا كَهَيْئَتِهِمْ وَكَانَ ابْن عمر يَوْمئِذٍ صَغِيرا على مَا رُوِيَ أَنه عرض على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر أَو يَوْم أحد على حسب مَا اخْتلف الروَاة فِيهِ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة فَرده وتحويل الْقبْلَة كَانَ قبل بدر بشهرين فقد اعتمدوا خَبره فِيمَا لَا يجوز الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِعلم وَهُوَ الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة وَلم يُنكر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَكنَّا نقُول قد رُوِيَ أَن الَّذِي أَتَاهُم أنس بن مَالك وَقد روى عبد الله

(1/372)


بن عمر فَإنَّا نحمل على أَنَّهُمَا جَاءَ أَحدهمَا بعد الآخر وأخبرا بذلك وَإِنَّمَا تحولوا معتمدين على خبر الْبَالِغ وَهُوَ أنس بن مَالك أَو كَانَ ابْن عمر بَالغا يَوْمئِذٍ وَإِنَّمَا رده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقِتَال لضعف بنيته يَوْمئِذٍ لَا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا فَإِن ابْن أَربع عشرَة سنة يجوز أَن يكون بَالغا
فَأَما الْمُغَفَّل فَإِن كَانَ أغلب أَحْوَاله التيقظ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من لَا غَفلَة بِهِ فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة لِأَن مَا بِهِ من الْغَفْلَة يسير قَلما يَخْلُو الْعدْل عَن مثله إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى وَإِن تفاحش مَا بِهِ من الْغَفْلَة حَتَّى ظهر ذَلِك فِي أغلب أُمُوره فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَعْتُوه لِأَن مَا يلْزم من النُّقْصَان فِي الْمَرْء بطرِيق الْعَادة يَجْعَل بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِأَصْل الْخلقَة أَلا ترى أَنه يتَرَجَّح معنى السَّهْو والغلط فِي الرِّوَايَة باعتبارهما جَمِيعًا كَمَا يتَرَجَّح جَانب الْكَذِب بِاعْتِبَار فسق الرَّاوِي
وَأما المساهل فَهُوَ كالمغفل فَإِنَّهُ اسْم لمن يجازف فِي الْأُمُور وَلَا يُبَالِي بِمَا يَقع لَهُ من السَّهْو والغلط وَلَا يشْتَغل فِيهِ بالتدارك بعد أَن يعلم بِهِ فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُغَفَّل إِذا ظهر ذَلِك فِي أَكثر أُمُوره
وَأما صَاحب الْهوى فقد بَينا أَن الصَّحِيح أَنه لَا تعتمد رِوَايَته فِي أَحْكَام الدّين وَإِن كَانَت شَهَادَتهم مَقْبُولَة إِلَّا الخطابية فَإِن الْهوى لَا يكون مرجحا جَانب الْكَذِب فِي شَهَادَته على مَا قَررنَا إِلَّا الخطابية وهم ضرب من الروافض يجوزون أَدَاء الشَّهَادَة إِذا حلف الْمُدَّعِي بَين أَيْديهم أَنه محق فِي دَعْوَاهُ وَيَقُولُونَ الْمُسلم لَا يحلف كَاذِبًا فَفِي هَذَا الِاعْتِقَاد مَا يرجح جَانب الْكَذِب فِي شَهَادَتهم لتوهم أَنهم اعتمدوا ذَلِك
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَن يعْتَقد أَن الإلهام حجَّة مُوجبَة للْعلم لَا تقبل شَهَادَته لتوهم أَن يكون اعْتمد ذَلِك فِي أَدَاء

(1/373)


الشَّهَادَة بِنَاء على اعْتِقَاده
فَأَما من سواهُم من أهل الْأَهْوَاء لَيْسَ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ من الْهوى مَا يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَتهم لِأَن الشَّهَادَة من بَاب الْمَظَالِم والخصومات وَلَا يتعصب صَاحب الْهوى بِهَذَا الطَّرِيق مَعَ من هُوَ محق فِي اعْتِقَاده حَتَّى يشْهد عَلَيْهِ كَاذِبًا فَأَما فِي أَخْبَار الدّين فيتوهم بِهَذَا التعصب لإفساد طَرِيق الْحق على من هُوَ محق حَتَّى يجِيبه إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الْبَاطِل فَلهَذَا لَا تعتمد رِوَايَته وَلَا تجْعَل حجَّة فِي بَاب الدّين وَالله أعلم

فصل فِي بَيَان أَقسَام الْأَخْبَار
قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَقْسَام أَرْبَعَة خبر يُحِيط الْعلم بصدقه وَخبر يُحِيط الْعلم بكذبه وَخبر يحتملهما على السوَاء وَخبر يتَرَجَّح فِيهِ أحد الْجَانِبَيْنِ
فَالْأول أَخْبَار الرُّسُل المسموعة مِنْهُم فَإِن جِهَة الصدْق مُتَعَيّن فِيهَا لقِيَام الدّلَالَة على أَنهم معصومون عَن الْكَذِب وَثُبُوت رسالتهم بالمعجزات الْخَارِجَة عَن مَقْدُور الْبشر عَادَة وَحكم هَذَا النَّوْع اعْتِقَاد الحقية فِيهِ والائتمار بِهِ بِحَسب الطَّاقَة قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}
وَالنَّوْع الثَّانِي نَحْو دَعْوَى فِرْعَوْن الربوبية مَعَ قيام آيَات الْحَدث فِيهِ ظَاهرا وَدَعوى الْكفَّار أَن الْأَصْنَام آلِهَة أَو أَنَّهَا شفعاؤهم عِنْد الله أَو أَنَّهَا تقربهم إِلَى الله زلفى مَعَ التيقن بِأَنَّهَا جمادات وَنَحْو دَعْوَى زرادشت وماني ومسيلمة وَغَيرهم من المتنبئين النُّبُوَّة مَعَ ظُهُور أَفعَال تدل على السَّفه مِنْهُم وَأَنَّهُمْ لم يبرهنوا على ذَلِك إِلَّا بِمَا هُوَ مخرفة من جنس أَفعَال المشعوذين فالعلم يُحِيط بكذب هَذَا النَّوْع وَحكمه اعْتِقَاد الْبطلَان فِيهِ ثمَّ الِاشْتِغَال برده بِاللِّسَانِ وَالْيَد بِحَسب مَا تقع الْحَاجة إِلَيْهِ فِي دفع الْفِتْنَة
وَالنَّوْع الثَّالِث نَحْو خبر الْفَاسِق فِي أَمر الدّين فَفِيهِ احْتِمَال الصدْق بِاعْتِبَار فَالْحكم فِيهِ التَّوَقُّف إِلَى أَن يظْهر مَا يتَرَجَّح بِهِ أحد الْجَانِبَيْنِ عملا بقوله تَعَالَى {فَتَبَيَّنُوا}

(1/374)


دينه وعقله وَاحْتِمَال الْكَذِب بِاعْتِبَار تعاطيه واستوى الجانبان فِي الِاحْتِمَال
وَالنَّوْع الرَّابِع نَحْو شَهَادَة الْفَاسِق إِذا ردهَا القَاضِي فَإِن بِقَضَائِهِ يتَرَجَّح جَانب الْكَذِب فِيهِ وَخبر الْمَحْدُود فِي الْقَذْف عِنْد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ وَحكمه أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِهِ بعد ذَلِك لتعين جَانب الْكَذِب فِيهِ فِيمَا يُوجب الْعَمَل
وَمن هَذَا النَّوْع خبر الْعدْل المستجمع لشرائط الرِّوَايَة فِي بَاب الدّين فَإِنَّهُ يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِيهِ بِوُجُود دَلِيل شَرْعِي مُوجب للْعَمَل بِهِ وَهُوَ صَالح للترجيح وَالْمَقْصُود هَذَا النَّوْع
وَلِهَذَا النَّوْع أَطْرَاف ثَلَاثَة طرف السماع وطرف الْحِفْظ وطرف الْأَدَاء
فطرف السماع نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة
فالعزيمة مَا تكون بِحَسب الِاسْتِمَاع
وَهُوَ أَرْبَعَة أوجه وَجْهَان من ذَلِك حَقِيقَة وَأَحَدهمَا أَحَق من الآخر ووجهان من ذَلِك عَزِيمَة فيهمَا شُبْهَة الرُّخْصَة
فالوجهان الْأَوَّلَانِ قِرَاءَة الْمُحدث عَلَيْك وَأَنت تسمع وقراءتك على الْمُحدث وَهُوَ يسمع ثمَّ استفهامك إِيَّاه بِقَوْلِك أهوَ كَمَا قَرَأت عَلَيْك فَيَقُول نعم وَأهل الحَدِيث يَقُولُونَ الْوَجْه الأول أَحَق لِأَنَّهُ طَرِيق رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الَّذِي كَانَ يحدث أَصْحَابه ثمَّ نقلوه عَنهُ وَهُوَ أبعد من الْخَطَأ والسهو فَيكون أَحَق فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ تحمل الْأَمَانَة بِصفة تَامَّة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَن قراءتك على الْمُحدث أقوى من قِرَاءَة الْمُحدث عَلَيْك وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة لكَونه مَأْمُون السَّهْو والغلط وَلِأَنَّهُ كَانَ يذكر مَا يذكرهُ حفظا وَكَانَ لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ الْمَكْتُوب أَيْضا وَإِنَّمَا كلامنا فِيمَن يخبر عَن كتاب لَا عَن (حفظه حَتَّى إِذا كَانَ يروي عَن حفظ لَا عَن كتاب فقراءته أقوى لِأَنَّهُ يتحدث بِهِ) حَقِيقَة فَأَما إِذا كَانَ يروي عَن كتاب فالجانبان

(1/375)


سَوَاء فِي معنى التحدث بِمَا فِي الْكتاب أَلا ترى أَن فِي الشَّهَادَات لَا فرق بَين أَن يقْرَأ من عَلَيْهِ الْحق ذكر إِقْرَاره عَلَيْك وَبَين أَن تَقْرَأهُ عَلَيْهِ ثمَّ تستفهمه هَل تقر بِجَمِيعِ مَا قرأته عَلَيْك فَيَقُول نعم وَبِكُل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ يجوز أَدَاء الشَّهَادَة وَبَاب الشَّهَادَة أضيق من بَاب رِوَايَة الْخَبَر فَكَانَ الْمَعْنى فِيهِ أَن نعم جَوَاب مُخْتَصر وَلَا فرق فِي الْجَواب بَين الْمُخْتَصر والمشبع فَيصير مَا تقدم كالمعاد فِي الْجَواب كُله ثمَّ للطَّالِب من الرِّعَايَة عِنْد الْقِرَاءَة عَادَة مَا لَيْسَ للمحدث فَعِنْدَ قِرَاءَة الْمُحدث لَا يُؤمن من الْخَطَأ فِي بعض مَا يقْرَأ لقلَّة رعايته ويؤمن ذَلِك إِذا قَرَأَ الطَّالِب لشدَّة رعايته
فَإِن قيل عِنْد قِرَاءَة الطَّالِب يتَوَهَّم أَن يسهو الْمُحدث عَن بعض مَا يسمع وينتفي هَذَا التَّوَهُّم إِذا قَرَأَهُ الْمُحدث لشدَّة رِعَايَة الطَّالِب فِي ضبط مَا يسمع مِنْهُ
قُلْنَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن السَّهْو عَن سَماع الْبَعْض مِمَّا لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ عَادَة وَهُوَ أيسر مِمَّا يَقع بِسَبَب الْخَطَأ فِي الْقِرَاءَة فمراعاة ذَلِك الْجَانِب أولى
والوجهان الْآخرَانِ الْكِتَابَة والرسالة فَإِن الْمُحدث إِذا كتب إِلَى غَيره على رسم الْكتب وَذكر فِي كِتَابه حَدثنِي فلَان عَن فلَان إِلَى آخِره ثمَّ قَالَ وَإِذا جَاءَك كتابي هَذَا وفهمت مَا فِيهِ فَحدث بِهِ عني فَهَذَا صَحِيح
وَكَذَلِكَ لَو أرسل إِلَيْهِ رَسُولا فَبَلغهُ على هَذِه الصّفة فَإِن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَأْمُورا بتبليغ الرسَالَة وَبلغ إِلَى قوم مشافهة وَإِلَى آخَرين بِالْكتاب وَالرَّسُول وَكَانَ ذَلِك تبليغا تَاما
وَكَذَلِكَ فِي زَمَاننَا يثبت من الْخُلَفَاء تَقْلِيد السلطنة وَالْقَضَاء بِالْكتاب وَالرَّسُول بِهَذَا الطَّرِيق كَمَا يثبت بالمشافهة إِلَّا أَن الْمُخْتَار فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين للراوي أَن يَقُول حَدثنِي فلَان وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين أَن يَقُول أَخْبرنِي لِأَن فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين شافهه الْمُحدث بالإسماع فَيكون مُحدثا لَهُ وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين لم يشافهه وَلكنه مخبر لَهُ بكتابه فَإِن الْكتاب مِمَّن بعد كالخطاب مِمَّن حضر وَالرَّسُول كالكتاب أَو أقوى لِأَن معنى الضَّبْط يُوجد فيهمَا ثمَّ الرَّسُول نَاطِق وَالْكتاب غير نَاطِق
وعَلى هَذَا ذكر فِي الزِّيَادَات إِذا حلف أَن لَا يتحدث بسر فلَان أَو لَا يتَكَلَّم

(1/376)


بِهِ فَكتب بِهِ أَو أرسل رَسُولا لم يَحْنَث وَلَو تكلم بِهِ مشافهة يَحْنَث وَلَو حلف لَا يخبر بِهِ فَكتب أَو أرسل يَحْنَث بِمَنْزِلَة مَا لَو تكلم بِهِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى أكرمنا بكتابه وَرَسُوله ثمَّ لَا يجوز لأحد أَن يَقُول حَدثنِي الله وَلَا كلمني الله إِنَّمَا ذَلِك لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خَاصَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وكلم الله مُوسَى تكليما} وَيجوز أَن يَقُول أخبرنَا الله بِكَذَا أَو أَنبأَنَا ونبأنا فَلهَذَا كَانَ الْمُخْتَار فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين حَدثنِي وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين أَخْبرنِي
وَأما الرُّخْصَة فِيهِ فمما لَا تكون فِيهِ إسماع وَذَلِكَ الْإِجَازَة والمناولة وَشرط الصِّحَّة فِي ذَلِك أَن يكون مَا فِي الْكتاب مَعْلُوما للمجاز لَهُ مفهوما لَهُ وَأَن يكون الْمُجِيز من أهل الضَّبْط والإتقان قد علم جَمِيع مَا فِي الْكتاب وَإِذا قَالَ حِينَئِذٍ أجزت لَك أَن تروي عني مَا فِي هَذَا الْكتاب كَانَ صَحِيحا لِأَن الشَّهَادَة تصح بِهَذِهِ الصّفة فَإِن الشَّاهِد إِذا وقف على جَمِيع مَا فِي الصَّك وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما لمن عَلَيْهِ الْحق فَقَالَ أجزت لَك أَن تشهد عَليّ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكتاب كَانَ صَحِيحا فَكَذَلِك رِوَايَة الْخَبَر والأحوط للمجاز لَهُ أَن يَقُول عِنْد الرِّوَايَة أجَاز لي فلَان فَإِن قَالَ أَخْبرنِي فَهُوَ جَائِز أَيْضا وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول حَدثنِي فَإِن ذَلِك مُخْتَصّ بالإسماع وَلم يُوجد
والمناولة لتأكيد الْإِجَازَة فيستوى الحكم فِيمَا إِذا وجدا جَمِيعًا أَو وجدت الْإِجَازَة وَحدهَا
فَأَما إِذا كَانَ المستجيز غير عَالم بِمَا فِي الْكتاب فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِن على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا تصح هَذِه الْإِجَازَة وعَلى قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تصح على قِيَاس اخْتلَافهمْ فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي وَكتاب الشَّهَادَة فَإِن علم الشَّاهِد بِمَا فِي الْكتاب شَرط فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَلَا يكون شرطا فِي قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله لصِحَّة أَدَاء الشَّهَادَة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن هَذِه الْإِجَازَة لَا تصح فِي قَوْلهم جَمِيعًا إِلَّا أَن أَبَا يُوسُف اسْتحْسنَ هُنَاكَ لأجل الضَّرُورَة فالكتب تشْتَمل على أسرار لَا يُرِيد الْكَاتِب والمكتوب إِلَيْهِ أَن يقف عَلَيْهَا غَيرهمَا وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي كتب الْأَخْبَار

(1/377)


ثمَّ الْخَبَر أصل الدّين أمره عَظِيم وخطبه جسيم فَلَا وَجه للْحكم بِصِحَّة تحمل الْأَمَانَة فِيهِ قبل أَن يصير مَعْلُوما مفهوما لَهُ أَلا ترى أَنه لَو قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُحدث فَلم يسمع وَلم يفهم لم يجز لَهُ أَن يروي وَالْإِجَازَة إِذا لم يكن مَا فِي الْكتاب مَعْلُوما لَهُ دون ذَلِك كَيفَ تجوز الرِّوَايَة بِهَذَا الْقدر وإسماع الصّبيان الَّذين لَا يميزون وَلَا يفهمون نوع تبرك استحسنه النَّاس فَأَما أَن يثبت بِمثلِهِ نقل الدّين فَلَا
وَكَذَلِكَ من حضر مجْلِس السماع واشتغل بِقِرَاءَة كتاب آخر غير مَا يَقْرَؤُهُ القارىء أَو اشْتغل بِالْكِتَابَةِ لشَيْء آخر أَو اشْتغل بتحدث أَو لَغْو أَو لَهو أَو اشْتغل عَن السماع لغفلة أَو نوم فَإِن سَمَاعه لَا يكون صَحِيحا مُطلقًا لَهُ الرِّوَايَة إِلَّا أَن مِقْدَار مَا لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ من السَّهْو والغفلة يَجْعَل عفوا للضَّرُورَة فَأَما عِنْد الْقَصْد فَهُوَ غير مَعْذُور وَلَا يَأْمَن أَن يحرم بِسَبَب ذَلِك حَظه ونعوذ بِاللَّه فَأَما إِذا قَالَ الْمُحدث أجزت لَك أَن تروي عني مسموعاتي فَإِن ذَلِك غير صَحِيح بالِاتِّفَاقِ بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ رجل لآخر اشْهَدْ عَليّ بِكُل صك تَجِد فِيهِ إقراري فقد أجزت لَك ذَلِك فَإِن ذَلِك بَاطِل
وَقد نقل عَن بعض أَئِمَّة التَّابِعين أَن سَائِلًا سَأَلَهُ الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة فتعجب وَقَالَ لأَصْحَابه هَذَا يطْلب مني أَن أُجِيز لَهُ أَن يكذب عَليّ وَبَعض الْمُتَأَخِّرين جوزوا ذَلِك على وَجه الرُّخْصَة لضَرُورَة المستعجلين وَلَكِن فِي هَذِه الرُّخْصَة سد بَاب الْجهد فِي الدّين وَفتح بَاب الكسل فَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ
فَأَما الْكتب المصنفة الَّتِي هِيَ مَشْهُورَة فِي أَيدي النَّاس فَلَا بَأْس لمن نظر فِيهَا وَفهم شَيْئا مِنْهَا وَكَانَ متقنا فِي ذَلِك أَن يَقُول قَالَ فلَان كَذَا أَو مَذْهَب فلَان كَذَا من غير أَن يَقُول حَدثنِي أَو أَخْبرنِي لِأَنَّهَا مستفيضة بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور وَبَعض الْجُهَّال من الْمُحدثين استبعدوا ذَلِك حَتَّى طعنوا على مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتبه المصنفة
وَحكي أَن بَعضهم قَالَ لمُحَمد بن الْحسن رَحمَه الله أسمعت هَذَا كُله من أبي حنيفَة فَقَالَ لَا
فَقَالَ أسمعته من

(1/378)


أبي يُوسُف فَقَالَ لَا وَإِنَّمَا أَخذنَا ذَلِك مذاكرة
فَقَالَ كَيفَ يجوز إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَذْهَب فلَان كَذَا أَو قَالَ فلَان كَذَا بِهَذَا الطَّرِيق وَهَذَا جهل لِأَن تصنيف كل صَاحب مَذْهَب مَعْرُوف فِي أَيدي النَّاس مَشْهُور كموطأ مَالك رَحمَه الله وَغير ذَلِك فَيكون بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور يُوقف بِهِ على مَذْهَب المُصَنّف وَإِن لم نسْمع مِنْهُ فَلَا بَأْس بِذكرِهِ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا بعد أَن يكون أصلا مُعْتَمدًا يُؤمن فِيهِ التَّصْحِيف وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان
فَأَما بَيَان طرق الْحِفْظ فَهُوَ نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة
فالعزيمة فِيهِ أَن يحفظ المسموع من وَقت السماع والفهم إِلَى وَقت الْأَدَاء وَكَانَ هَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة فِي الْأَخْبَار والشهادات جَمِيعًا وَلِهَذَا قلت رِوَايَته وَهُوَ طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَينه للنَّاس
وَأما الرُّخْصَة فِيهِ أَن يعْتَمد الْكتاب إِلَّا أَنه إِذا نظر فِي الْكتاب فَتذكر فَهُوَ عَزِيمَة أَيْضا وَلكنه مشبه بِالرُّخْصَةِ وَإِذا لم يتَذَكَّر فَهُوَ مَحْض الرُّخْصَة على قَول من يجوز ذَلِك وَقد بَينا فِيمَا سبق
وَالْأَدَاء أَيْضا نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة
فالعزيمة أَن يُؤَدِّي على الْوَجْه الَّذِي سَمعه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ والرخصة فِيهِ أَن يُؤَدِّي بعبارته معنى مَا فهمه عِنْد سَمَاعه وَقد بَينا ذَلِك
وَمن نوع الرُّخْصَة التَّدْلِيس وَهُوَ أَن يَقُول قَالَ فلَان كَذَا لمن لقِيه وَلَكِن لم يسمع مِنْهُ فيوهم السامعين أَنه قد سمع ذَلِك مِنْهُ وَكَانَ الْأَعْمَش وَالثَّوْري يفْعَلَانِ ذَلِك وَكَانَ شُعْبَة يَأْبَى ذَلِك ويستبعده غَايَة الاستبعاد حَتَّى كَانَ يَقُول لِأَن أزني أحب إِلَيّ من أَن أدلس
وَالصَّحِيح القَوْل الأول وَقد بَينا أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك فَيَقُول الْوَاحِد مِنْهُم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا فَإِذا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ سمعته من فلَان يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض ذَلِك فَعرفنَا أَنه لَا بَأْس بِهِ وَأَن هَذَا النَّوْع لَا يكون تدليسا مُطلقًا فَإِنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يُسَمِّي أحدا من الصَّحَابَة مدلسا وَإِنَّمَا التَّدْلِيس الْمُطلق أَن يسْقط اسْم من

(1/379)


رَوَاهُ لَهُ ويروى عَن رَاوِي الأَصْل على قصد الترويج بعلو الْإِسْنَاد فَإِن هَذَا الْقَصْد غير مَحْمُود فَأَما إِذا لم يكن على هَذَا الْقَصْد وَإِنَّمَا كَانَ على قصد التَّيْسِير على السامعين بِإِسْقَاط تَطْوِيل الْإِسْنَاد عَنْهُم أَو على قصد التَّأْكِيد بالعزم على أَنه قَول رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قطعا فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ وَمَا نقل عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَحْمُول على هَذَا النَّوْع
وَتجوز الرِّوَايَة عَمَّن اشْتهر بِهَذَا الْفِعْل إِذا علم أَنه لَا يُدَلس إِلَّا فِيمَا سَمعه عَن ثِقَة فَأَما إِذا كَانَ يروي عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة وَيُدَلس بِهَذِهِ الصّفة لَا تجوز الرِّوَايَة عَنهُ بَعْدَمَا اشْتهر بالتدليس
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي فصل من هَذَا الْجِنْس وَهُوَ أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا أَو السّنة كَذَا فَالْمَذْهَب عندنَا أَنه لَا يفهم من هَذَا الْمُطلق الْإِخْبَار بِأَمْر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَو أَنه سنة رَسُول الله
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم ينْصَرف إِلَى ذَلِك عِنْد الْإِطْلَاق وَفِي الْجَدِيد قَالَ لَا ينْصَرف إِلَى ذَلِك بِدُونِ الْبَيَان لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد سنة الْبلدَانِ أَو الرؤساء حَتَّى قَالَ فِي كل مَوضِع قَالَ مَالك رَحمَه الله السّنة ببلدنا كَذَا فَإِنَّمَا أَرَادَ سنة سُلَيْمَان بن بِلَال وَهُوَ كَانَ عريفا بِالْمَدِينَةِ وعَلى قَوْله الْقَدِيم أَخذ بقول سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ فِي الْعَاجِز عَن النَّفَقَة إِنَّه يفرق بَينه وَبَين امْرَأَته لِأَنَّهُ حمل قَول سعيد السّنة على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَذَلِكَ أَخذ بقوله فِي أَن الْمَرْأَة تعاقل الرجل إِلَى ثلث الدِّيَة بقول سعيد فِيهِ السّنة فَحمل ذَلِك على سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام
وَلم نَأْخُذ نَحن بذلك لأَنا علمنَا أَن مُرَاده سنة زيد ورجحنا قَول عَليّ وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا على قَول زيد رَضِي الله عَنهُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن الْأَمر وَالنَّهْي يتَحَقَّق من غير رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا يتَحَقَّق مِنْهُ قَالَ تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَعند الْإِطْلَاق لَا يثبت إِلَّا أدنى الْكَمَال أَلا ترى أَن مُطلق قَول الْعَالم أمرنَا بِكَذَا لَا يحمل على أَنه أَمر الله أنزلهُ فِي كِتَابه نصا فَكَذَلِك لَا يحمل على أَنه أَمر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نصا لاحْتِمَال أَن يكون الْآمِر غَيره مِمَّن يجب مُتَابَعَته
وَكَذَلِكَ السّنة فقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء من بعدِي وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ

(1/380)


أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد ظهر من عَادَة الصَّحَابَة التَّقْيِيد عِنْد إِرَادَة سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ على مَا قَالَ عمر لصبي بن معبد هديت لسنة نبيك
وَقَالَ عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ ثَلَاث سَاعَات نَهَانَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَن نصلي فِيهِنَّ
وَقَالَ صَفْوَان بن عَسَّال رَضِي الله عَنهُ (أمرنَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كُنَّا سفرا أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها) الحَدِيث
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنهم إِذا أطْلقُوا هَذَا اللَّفْظ فَإِنَّهُ لَا يكون مُرَادهم الْإِضَافَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يثبت التَّعْيِين بِغَيْر دَلِيل

(1/381)