أصول السرخسي فصل فِي الْخَبَر يلْحقهُ التَّكْذِيب من
جِهَة الرَّاوِي أَو من جِهَة غَيره
أما مَا يلْحقهُ من جِهَة الرَّاوِي فَأَرْبَعَة أَقسَام
أَحدهَا أَن يُنكر الرِّوَايَة أصلا وَالثَّانِي أَن يظْهر
مِنْهُ مُخَالفَة للْحَدِيث قولا أَو عملا قبل الرِّوَايَة أَو
بعْدهَا أَو لم يعلم التَّارِيخ وَالثَّالِث أَن يظْهر مِنْهُ
تعْيين شَيْء مِمَّا هُوَ من محتملات الْخَبَر تَأْوِيلا أَو
تَخْصِيصًا وَالرَّابِع أَن يتْرك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا
فَأَما الْوَجْه الأول فقد اخْتلف فِيهِ أهل الحَدِيث من
السّلف فَقَالَ بَعضهم بإنكار الرَّاوِي يخرج الحَدِيث من أَن
يكون حجَّة
وَقَالَ بَعضهم لَا يخرج (من أَن يكون حجَّة) وَبَيَان هَذَا
فِيمَا رَوَاهُ ربيعَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح من حَدِيث
الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين ثمَّ قيل لسهيل إِن ربيعَة
يروي عَنْك هَذَا الحَدِيث فَلم يذكرهُ وَجعل يروي وَيَقُول
حَدثنِي ربيعَة عني وَهُوَ ثِقَة
وَقد عمل الشَّافِعِي بِالْحَدِيثِ مَعَ إِنْكَار الرَّاوِي
وَلم يعْمل بِهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله
وَذكر سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها
بَاطِل الحَدِيث ثمَّ روى أَن ابْن جريج سَأَلَ الزُّهْرِيّ
عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يعرفهُ ثمَّ عمل بِهِ مُحَمَّد
وَالشَّافِعِيّ مَعَ إِنْكَار الرَّاوِي وَلم يعْمل بِهِ أَبُو
حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لإنكار الرَّاوِي إِيَّاه وَقَالُوا
يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الْفَصْل على الِاخْتِلَاف بَين
عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله بِهَذِهِ الصّفة وَاسْتَدَلُّوا
عَلَيْهِ بِمَا لَو ادّعى رجل عِنْد قَاض أَنه قضى لَهُ بِحَق
على هَذَا الْخصم وَلم يعرف القَاضِي قَضَاءَهُ فَأَقَامَ
الْمُدَّعِي شَاهِدين على قَضَائِهِ بِهَذِهِ الصّفة فَإِن على
قَول أبي يُوسُف لَا يقبل القَاضِي هَذِه الْبَيِّنَة وَلَا
ينفذ قَضَاءَهُ بهَا وعَلى قَول مُحَمَّد يقبلهَا وَينفذ
قَضَاءَهُ فَإِذا ثَبت هَذَا الْخلاف بَينهمَا فِي قَضَاء
يُنكره القَاضِي فَكَذَلِك فِي حَدِيث يُنكره الرَّاوِي
الأَصْل
وعَلى هَذَا مَا يَحْكِي من المحاورة الَّتِي جرت بَين أبي
يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله فِي الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة
فِي ثَلَاث مسَائِل من
(2/3)
الْجَامِع الصَّغِير وَقد بيناها فِي شرح
الْجَامِع الصَّغِير فَإِن مُحَمَّدًا ثَبت على مَا رَوَاهُ
عَن أبي يُوسُف عَنهُ بعد إِنْكَار أبي يُوسُف وَأَبُو يُوسُف
لم يعْتَمد رِوَايَة مُحَمَّد عَنهُ حِين لم يتَذَكَّر
وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن على قِيَاس قَول عُلَمَائِنَا
يَنْبَغِي أَن لَا يبطل الْخَبَر بإنكار رَاوِي الأَصْل إِلَّا
على قَول زفر رَحمَه الله وردوا هَذَا إِلَى قَول زوج
الْمُعْتَدَّة أَخْبَرتنِي أَن عدتهَا قد انْقَضتْ وَهِي تنكر
فَإِن على قَول زفر لَا يبْقى الْخَبَر مَعْمُولا بِهِ بعد
إنكارها وَعِنْدنَا يبْقى مَعْمُولا بِهِ إِلَّا فِي حَقّهَا
وَالْأول أصح فَإِن جَوَاز نِكَاح الْأُخْت والأربع لَهُ هُنَا
عندنَا بِاعْتِبَار ظُهُور انْقِضَاء الْعدة فِي حَقه (بقوله)
لكَونه أَمينا فِي الْإِخْبَار عَن أَمر بَينه وَبَين ربه لَا
لاتصال الْخَبَر بهَا وَلِهَذَا لَو قَالَ انْقَضتْ عدتهَا
وَلم يضف الْخَبَر إِلَيْهَا كَانَ الحكم كَذَلِك فِي
الصَّحِيح من الْجَواب
فَأَما الْفَرِيق الأول فقد احْتَجُّوا بِحَدِيث ذِي
الْيَدَيْنِ رَضِي الله عَنهُ فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام لما قَالَ لأبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا
(أَحَق مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ) فَقَالَا نعم فَقَامَ
فَأَتمَّ صلَاته وَقبل خبرهما عَنهُ وَإِن لم يذكرهُ وَعمر قبل
خبر أنس بن مَالك عَنهُ فِي أَمَان الهرمزان بقوله لَهُ
أَتكَلّم كَلَام حَيّ وَإِن لم يذكر ذَلِك وَلِأَن النسْيَان
غَالب على الْإِنْسَان فقد يحفظ الْإِنْسَان شَيْئا وَيَرْوِيه
لغيره ثمَّ ينسى بعد مُدَّة فَلَا يتذكره أصلا والراوي عَنهُ
عدل ثِقَة فبه يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي خَبره ثمَّ لَا يبطل
ذَلِك بنسيانه
وَهَذَا بِخِلَاف الشَّهَادَة على الشَّهَادَة فَإِن شَاهد
الأَصْل إِذا أنكرهُ لم يكن للْقَاضِي أَن يقْضِي
بِشَهَادَتِهِ لِأَن الفرعي هُنَاكَ لَيْسَ بِشَاهِد على الْحق
ليقضي بِشَهَادَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ ثَابت فِي نقل شَهَادَة
الْأَصْلِيّ وَلِهَذَا لَو قَالَ أشهد على فلَان لَا يكون
صَحِيحا مَا لم يقل أشهدنى على شَهَادَته وَأَمرَنِي
بِالْأَدَاءِ فَأَنا أشهد على شَهَادَته ثمَّ الْقَضَاء يكون
بِشَهَادَة الْأَصْلِيّ وَمَعَ إِنْكَار لَا تثبت شَهَادَته
فِي مجْلِس الْقَضَاء فَأَما هُنَا الفرعي إِنَّمَا يروي
الحَدِيث بِاعْتِبَار سَماع صَحِيح لَهُ من الْأَصْلِيّ وَلَا
يبطل ذَلِك بإنكار الْأَصْلِيّ بِنَاء على نسيانه
وَأما الْفَرِيق الثَّانِي استدلوا بِحَدِيث عمار رَضِي الله
عَنهُ حِين قَالَ لعمر أما تذكر إِذْ كُنَّا فِي الْإِبِل
فأجنبت فتمعكت فِي التُّرَاب ثمَّ سَأَلت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ أما كَانَ يَكْفِيك أَن تضرب
بيديك الأَرْض فتمسح بهما وَجهك وذراعيك فَلم
(2/4)
يرفع عمر رَضِي الله عَنهُ رَأسه وَلم
يعْتَمد رِوَايَته مَعَ أَنه كَانَ عدلا ثِقَة لِأَنَّهُ روى
عَنهُ وَلم يتَذَكَّر هُوَ مَا رَوَاهُ فَكَانَ لَا يرى
التَّيَمُّم للْجنب بعد ذَلِك وَلِأَن بِاعْتِبَار تَكْذِيب
الْعَادة يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعَمَل
كَمَا قَررنَا فِيمَا سبق وَتَكْذيب الرَّاوِي أدل على الوهن
من تَكْذِيب الْعَادة وَهَذَا لِأَن الْخَبَر إِنَّمَا يكون
مَعْمُولا بِهِ إِذا اتَّصل برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام
وَقد انْقَطع هَذَا الِاتِّصَال بإنكار رَاوِي الأَصْل لِأَن
إِنْكَاره حجَّة فِي حَقه فتنتفي بِهِ رِوَايَته الحَدِيث أَو
يصير هُوَ مناقضا بإنكاره وَمَعَ التَّنَاقُض لَا تثبت
رِوَايَته وَبِدُون رِوَايَته لَا يثبت الِاتِّصَال فَلَا يكون
حجَّة كَمَا فِي الشَّهَادَة على الشَّهَادَة وكما يتَوَهَّم
نِسْيَان رَاوِي الأَصْل يتَوَهَّم غلط رَاوِي الْفَرْع فقد
يسمع الْإِنْسَان حَدِيثا فيحفظه وَلَا يحفظ من سمع مِنْهُ
فيظن أَنه سَمعه من فلَان وَإِنَّمَا سَمعه من غَيره فأدنى
الدَّرَجَات فِيهِ أَن يَقع التَّعَارُض فِيمَا هُوَ متوهم
فَلَا يثبت الِاتِّصَال من جِهَته وَلَا من جِهَة غَيره
لِأَنَّهُ مَجْهُول وبالمجهول لَا يثبت الِاتِّصَال
وَأما حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّمَا يحمل على أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تذكر ذَلِك عِنْد خبرهما وَهَذَا
هُوَ الظَّاهِر فَإِنَّهُ كَانَ مَعْصُوما عَن التَّقْرِير على
الْخَطَأ وَحَدِيث عمر مُحْتَمل لذَلِك أَيْضا فَرُبمَا تذكر
حِين شهد بِهِ غَيره فَلهَذَا عمل بِهِ أَو تذكر غَفلَة من
نَفسه وشغل الْقلب بِشَيْء فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد يكون هَذَا
للمرء بِحَيْثُ يُوجد شَيْء مِنْهُ ثمَّ لَا يذكرهُ فَأَخذه
بِالِاحْتِيَاطِ وَجعله آمنا من هَذَا الْوَجْه
وَنحن لَا نمْنَع من مثل هَذَا الِاحْتِيَاط وَإِنَّمَا ندعي
أَنه لَا يبْقى مُوجبا للْعَمَل مَعَ إِنْكَار رَاوِي الأَصْل
وكما أَن رَاوِي الْفَرْع عدل ثِقَة فراوي الأَصْل كَذَلِك
وَذَلِكَ يرجح جَانب الصدْق فِي إِنْكَاره أَيْضا فتتحقق
الْمُعَارضَة من هَذَا الْوَجْه وَأدنى مَا فِيهِ أَن يتعارض
قولاه فِي الرِّوَايَة وَالْإِنْكَار فَيبقى الْأَمر على مَا
كَانَ قبل رِوَايَته
وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا ظهر مِنْهُ
الْمُخَالفَة قولا أَو عملا فَإِن كَانَ ذَلِك بتاريخ قبل
الرِّوَايَة فَإِنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْخَبَر وَيحمل على
أَنه كَانَ ذَلِك مذْهبه قبل أَن يسمع الحَدِيث فَلَمَّا سمع
الحَدِيث رَجَعَ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِن لم يعلم التَّارِيخ
لِأَن الْحمل على أحسن الْوَجْهَيْنِ وَاجِب مَا لم يتَبَيَّن
خِلَافه وَهُوَ أَن يكون ذَلِك مِنْهُ قبل أَن يبلغهُ الحَدِيث
(2/5)
ثمَّ رَجَعَ إِلَى الحَدِيث
وَأما إِذا علم ذَلِك مِنْهُ بتاريخ بعد الحَدِيث فَإِن
الحَدِيث يخرج بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَن فتواه بِخِلَاف
الحَدِيث أَو عمله من أبين الدَّلَائِل على الِانْقِطَاع
وَأَنه الأَصْل للْحَدِيث فَإِن الْحَالَات لَا تَخْلُو إِمَّا
إِن كَانَت الرِّوَايَة تقولا مِنْهُ لَا عَن سَماع فَيكون
وَاجِب الرَّد أَو تكون فتواه وَعَمله بِخِلَاف الحَدِيث على
وَجه قلَّة المبالاة والتهاون بِالْحَدِيثِ فَيصير بِهِ
فَاسِقًا لَا تقبل رِوَايَته أصلا أَو يكون ذَلِك مِنْهُ عَن
غَفلَة ونسيان وَشَهَادَة الْمُغَفَّل لَا تكون حجَّة
فَكَذَلِك خَبره أَو يكون ذَلِك مِنْهُ على أَنه علم انتساخ
حكم الحَدِيث وَهَذَا أحسن الْوُجُوه فَيجب الْحمل عَلَيْهِ
تحسينا للظن بروايته وَعَمله فَإِنَّهُ روى على طَرِيق إبْقَاء
الْإِسْنَاد وَعلم أَنه مَنْسُوخ فَأفْتى بِخِلَافِهِ أَو عمل
بالناسخ دون الْمَنْسُوخ وكما يتَوَهَّم أَن يكون فتواه أَو
عمله بِنَاء على غَفلَة أَو نِسْيَان يتَوَهَّم أَن تكون
رِوَايَته بِنَاء على غلط وَقع لَهُ وَبِاعْتِبَار التَّعَارُض
بَينهمَا يَنْقَطِع الِاتِّصَال
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يغسل الْإِنَاء من ولوغ
الْكَلْب سبعا ثمَّ صَحَّ من فتواه أَنه يطهر بِالْغسْلِ
ثَلَاثًا فحملنا على أَنه كَانَ علم انتساخ هَذَا الحكم أَو
علم بِدلَالَة الْحَال أَن مُرَاد رَسُول الله عَلَيْهِ
السَّلَام النّدب فِيمَا وَرَاء الثَّلَاثَة
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول
الله عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنا أنهِي عَنْهُمَا وأعاقب
عَلَيْهِمَا مُتْعَة النِّسَاء ومتعة الْحَج
فَإِنَّمَا يحمل هَذَا على علمه بالانتساخ وَلِهَذَا قَالَ
ابْن سِيرِين هم الَّذين رووا الرُّخْصَة فِي الْمُتْعَة وهم
الَّذين نهوا عَنْهَا وَلَيْسَ فِي رَأْيهمْ مَا يرغب عَنهُ
وَلَا فِي نصيحتهم مَا يُوجب التُّهْمَة
وَأما فِي الْعَمَل فبيان هَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا (أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا)
ثمَّ صَحَّ أَنَّهَا زوجت ابْنة أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن بن
أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فبعملها بِخِلَاف الحَدِيث
يتَبَيَّن النّسخ وَحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرفع يَدَيْهِ عِنْد
الرُّكُوع وَعند رفع الرَّأْس من الرُّجُوع ثمَّ قد صَحَّ عَن
مُجَاهِد قَالَ صَحِبت ابْن عمر سِنِين وَكَانَ لَا يرفع
يَدَيْهِ إِلَّا عِنْد تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح فَيثبت
بِعَمَلِهِ بِخِلَاف الحَدِيث نسخ الحكم
وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ تَعْيِينه بعض محتملات
الحَدِيث فَإِن ذَلِك لَا يمْنَع كَون الحَدِيث مَعْمُولا بِهِ
على ظَاهره من قبل أَنه إِنَّمَا فعل ذَلِك بِتَأْوِيل وتأويله
لَا يكون
(2/6)
حجَّة على غَيره وَإِنَّمَا الْحجَّة
الحَدِيث وبتأويله لَا يتَغَيَّر ظَاهر الحَدِيث فَيبقى
مَعْمُولا بِهِ على ظَاهره وَهُوَ وَغَيره فِي التَّأْوِيل
والتخصيص سَوَاء
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْمُتَبَايعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا وَهَذَا يحْتَمل التَّفَرُّق
بالأقوال وَيحْتَمل التَّفَرُّق بالأبدان ثمَّ حمله ابْن عمر
على التَّفَرُّق بالأبدان حَتَّى روى عَنهُ أَنه كَانَ إِذا
أوجب البيع مَشى هنيهة وَلم نَأْخُذ بتأويله لِأَن الحَدِيث
فِي احْتِمَال كل وَاحِد من الْأَمريْنِ كالمشترك فتعيين أحد
المحتملين فِيهِ يكون تَأْوِيلا لَا تَصرفا فِي الحَدِيث
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي حَدِيث ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ثمَّ قد ظهر من فَتْوَى ابْن
عَبَّاس أَن الْمُرْتَدَّة لَا تقتل فَقَالَ هَذَا تَخْصِيص
لحق الحَدِيث من الرَّاوِي وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة التَّأْوِيل
لَا يكون حجَّة على غَيره فَأَنا آخذ بِظَاهِر الحَدِيث وَأوجب
الْقَتْل على الْمُرْتَدَّة
وَأما ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا فَهُوَ بِمَنْزِلَة
الْعَمَل بِخِلَاف الحَدِيث حَتَّى يخرج بِهِ من أَن يكون
حجَّة لِأَن ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرَام كَمَا أَن الْعَمَل
بِخِلَافِهِ حرَام وَمن هَذَا النَّوْع ترك ابْن عمر الْعَمَل
بِحَدِيث رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع كَمَا بَينا
وَأما مَا يكون من جِهَة غير الرَّاوِي فَهُوَ قِسْمَانِ
أَحدهمَا مَا يكون من جِهَة الصَّحَابَة وَالثَّانِي مَا يكون
من جِهَة أَئِمَّة الحَدِيث
فَأَما مَا يكون من الصَّحَابَة فَهُوَ نَوْعَانِ على مَا ذكره
عِيسَى بن أبان رَحمَه الله أَحدهمَا أَن يعْمل بِخِلَاف
الحَدِيث بعض الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَهُوَ مِمَّن يعلم
أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مثل ذَلِك الحَدِيث فَيخرج الحَدِيث
بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَنَّهُ لما انْقَطع توهم أَنه لم
يبلغهُ وَلَا يظنّ بِهِ مُخَالفَة حَدِيث صَحِيح عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوَاء رَوَاهُ هُوَ أَو غَيره
فَأحْسن الْوُجُوه فِيهِ أَنه علم انتساخه أَو أَن ذَلِك الحكم
لم يكن حتما فَيجب حمله على هَذَا
وَبَيَانه فِيمَا روى الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام
وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ ثمَّ
صَحَّ عَن الْخُلَفَاء أَنهم أَبَوا الْجمع بَين الْجلد
وَالرَّجم بعد علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِم الحَدِيث لشهرته
فَعرفنَا بِهِ انتساخ هَذَا الحكم وَكَذَلِكَ صَحَّ عَن عمر
رَضِي الله عَنهُ قَوْله وَالله لَا أنفي أحدا أبدا
وَقَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة مَعَ
علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِمَا الحَدِيث فاستدللنا بِهِ على
انتساخ حكم الْجمع بَين الْجلد والتغريب
(2/7)
وَكَذَلِكَ مَا يرْوى أَن عمر رَضِي الله
عَنهُ حِين فتح السوَاد من بهَا على أَهلهَا وأبى أَن يقسمها
بَين الْغَانِمين مَعَ علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِ قسْمَة
رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خَيْبَر بَين أَصْحَابه حِين
افتتحها فاستدللنا بِهِ على أَنه علم أَن ذَلِك لم يكن حكما
حتما من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام على وَجه لَا يجوز
غَيره فِي الْغَنَائِم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَانَ
يطبق فِي الصَّلَاة بعد مَا ثَبت انتساخه بِحَدِيث مَشْهُور
فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب ثمَّ خَفِي عَلَيْهِ ذَلِك
حَتَّى لم يَجْعَل عمله دَلِيلا على أَن الحَدِيث الَّذِي
فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب مَنْسُوخ أَو أَن الْأَخْذ
بالركب لَا يكون عينا فِي الصَّلَاة قُلْنَا مَا خَفِي على
ابْن مَسْعُود حَدِيث الْأَمر بِالْأَخْذِ بالركب وَإِنَّمَا
وَقع عِنْده أَنه على سَبِيل الرُّخْصَة فَكَانَ تلحقهم
الْمَشَقَّة فِي التطبيق مَعَ طول الرُّكُوع لأَنهم كَانُوا
يخَافُونَ السُّقُوط على الأَرْض فَأمروا بِالْأَخْذِ بالركب
تيسيرا عَلَيْهِم لَا تعيينا عَلَيْهِم فلأجل هَذَا
التَّأْوِيل لم يتْرك الْعَمَل بِظَاهِر الحَدِيث الَّذِي
فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يظْهر مِنْهُ الْعَمَل بِخِلَاف
الحَدِيث وَهُوَ مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ ذَلِك الحَدِيث
فَلَا يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة بِعَمَلِهِ بِخِلَافِهِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
رخص للحائض فِي أَن تتْرك طواف الصَّدْر ثمَّ صَحَّ عَن ابْن
عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهَا تقيم حَتَّى تطهر فَتَطُوف
وَلَا تتْرك بِهَذَا الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ
رخصَة لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ مَا يرْوى عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله
عَنهُ أَنه كَانَ لَا يُوجب إِعَادَة الْوضُوء على من قهقه فِي
الصَّلَاة وَلَا يتْرك بِهِ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمُوجب
للْوُضُوء من القهقهة فِي الصَّلَاة لجَوَاز أَن يكون ذَلِك
خَفِي عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ قَول ابْن عمر لَا يحجّ أحد عَن أحد لَا يمْنَع
الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي الإحجاج عَن الشَّيْخ
الْكَبِير لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ وَهَذَا
لِأَن الحَدِيث مَعْمُول بِهِ إِذا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِاعْتِبَار
عمل مِمَّن هُوَ دونه بِخِلَافِهِ وَإِنَّمَا تحمل فتواه
بِخِلَاف الحَدِيث على أحسن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنه
إِنَّمَا أفتى بِهِ بِرَأْيهِ لِأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ النَّص
وَلَو بلغه لرجع إِلَيْهِ فعلى من يبلغهُ الحَدِيث بطرِيق
صَحِيح أَن يَأْخُذ بِهِ
(2/8)
وَأما مَا يكون من أَئِمَّة الحَدِيث
فَهُوَ الطعْن فِي الروَاة وَذَلِكَ نَوْعَانِ مُبْهَم ومفسر
ثمَّ الْمُفَسّر نَوْعَانِ مَا لَا يصلح أَن يكون طَعنا وَمَا
يصلح أَن يكون
وَالَّذِي يصلح نَوْعَانِ مُجْتَهد فِيهِ أَو مُتَّفق عَلَيْهِ
والمتفق عَلَيْهِ نَوْعَانِ أَن يكون مِمَّن هُوَ مَشْهُور
بِالنَّصِيحَةِ والإتقان أَو مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالتعصب
والعداوة
فَأَما الطعْن الْمُبْهم فَهُوَ عِنْد الْفُقَهَاء لَا يكون
جرحا لِأَن الْعَدَالَة بِاعْتِبَار ظَاهر الدّين ثَابت لكل
مُسلم خُصُوصا من كَانَ من الْقُرُون الثَّلَاثَة فَلَا يتْرك
ذَلِك بطعن مُبْهَم أَلا ترى أَن الشَّهَادَة أضيق من رِوَايَة
الْخَبَر فِي هَذَا
ثمَّ الطعْن الْمُبْهم من الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يكون جرحا
فَكَذَلِك من الْمُزَكي وَلَا يمْتَنع الْعَمَل بِالشَّهَادَةِ
لأجل الطعْن الْمُبْهم فَلِأَن لَا يخرج الحَدِيث بالطعن
الْمُبْهم من أَن يكون حجَّة أولى
وَهَذَا للْعَادَة الظَّاهِرَة أَن الْإِنْسَان إِذا لحقه من
غير مَا يسوءه فَإِنَّهُ يعجز عَن إمْسَاك لِسَانه فِي ذَلِك
الْوَقْت حَتَّى يطعن فِيهِ طَعنا مُبْهما إِلَّا من عصمه الله
تَعَالَى ثمَّ إِذا طلب مِنْهُ تَفْسِير ذَلِك لَا يكون لَهُ
أصل
والمفسر الَّذِي لَا يصلح أَن يكون طَعنا لَا يُوجب الْجرْح
أَيْضا وَذَلِكَ مثل طعن بعض المتعنتين فِي أبي حنيفَة أَنه دس
ابْنه ليَأْخُذ كتب أستاذه حَمَّاد فَكَانَ يروي من ذَلِك
وَهَذَا إِن صَحَّ فَهُوَ لَا يصلح طَعنا بل هُوَ دَلِيل
الإتقان فقد كَانَ هُوَ لَا يستجيز الرِّوَايَة إِلَّا عَن حفظ
وَالْإِنْسَان لَا يقوى اعْتِمَاده على جَمِيع مَا يحفظه فَفعل
ذَلِك ليقابل حفظه بكتب أستاذه فَيَزْدَاد بِهِ معنى الإتقان
وَكَذَلِكَ الطعْن بالتدليس على من يَقُول حَدثنِي فلَان عَن
فلَان وَلَا يَقُول قَالَ حَدثنِي فلَان فَإِن هَذَا لَا يصلح
أَن يكون طَعنا لِأَن هَذَا يُوهم الْإِرْسَال وَإِذا كَانَ
حَقِيقَة الْإِرْسَال دَلِيل زِيَادَة الإتقان على مَا بَينا
فَمَا يُوهم الْإِرْسَال كَيفَ يكون طَعنا
وَمِنْه الطعْن بالتلبيس على من يكنى عَن الرَّاوِي وَلَا يذكر
اسْمه وَلَا نسبه نَحْو رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ بقوله
حَدثنَا أَبُو سعيد من غير بَيَان يعلم بِهِ أَن هَذَا ثِقَة
أَو غير ثِقَة وَنَحْو رِوَايَة مُحَمَّد بقوله أخبرنَا
الثِّقَة من غير تَفْسِير فَإِن هَذَا مَحْمُول على أحسن
الْوُجُوه وَهُوَ صِيَانة الرَّاوِي من أَن يطعن فِيهِ (بعض)
من لَا يُبَالِي وصيانة السَّامع من أَن
(2/9)
يبتلى بالطعن فِي أحد من غير حجَّة على أَن
من يكون مطعونا فِي بعض رواياته بِسَبَب لَا يُوجب عُمُوم
الطعْن فِيهِ فَذَلِك لَا يمْنَع قبُول رِوَايَته وَالْعَمَل
بِهِ فِيمَا سوى ذَلِك نَحْو الْكَلْبِيّ وَأَمْثَاله
ثمَّ سُفْيَان الثَّوْريّ مِمَّن لَا يخفى حَاله فِي الْفِقْه
وَالْعَدَالَة وَلَا يظنّ بِهِ إِلَّا أحسن الْوُجُوه
وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن الْحسن فَتحمل الْكِنَايَة مِنْهُمَا
عَن الرَّاوِي على أَنَّهُمَا قصدا صيانته وَكَيف يَجْعَل
ذَلِك طَعنا وَالْقَوْل بِأَنَّهُ ثِقَة شَهَادَة
بِالْعَدَالَةِ لَهُ
وَمن ذَلِك أَيْضا طعن بعض الْجُهَّال فِي مُحَمَّد بن الْحسن
بِأَنَّهُ سَأَلَ عبد الله بن الْمُبَارك رَحمَه الله أَن يروي
لَهُ أَحَادِيث ليسمعها مِنْهُ فَأبى فَلَمَّا قيل لَهُ فِي
ذَلِك فَقَالَ لَا تعجبني أخلاقه
فَإِن هَذَا إِن صَحَّ لم يصلح أَن يكون طَعنا لِأَن أَخْلَاق
الْفُقَهَاء لَا توَافق أَخْلَاق الزهاد فِي كل وجع فهم بِمحل
الْقدْوَة والزهاد بِمحل الْعُزْلَة وَقد يحسن فِي مقَام
الْعُزْلَة مَا يقبح فِي مقَام الْقدْوَة أَو على عكس ذَلِك
فَكيف يصلح أَن يكون هَذَا طَعنا لَو صَحَّ مَعَ أَنه غير
صَحِيح فقد رُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ لَا بُد أَن
يكون فِي كل زمَان من يحيي بِهِ الله للنَّاس دينهم ودنياهم
فَقيل لَهُ من بِهَذِهِ الصّفة فِي هَذَا الزَّمَان فَقَالَ
مُحَمَّد بن الْحسن
فَهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَا أصل لذَلِك الطعْن
وَمن ذَلِك الطعْن بركض الدَّوَابّ فَإِن ذَلِك من عمل
الْجِهَاد لِأَن السباق على الأفراس والأقدام مَشْرُوع ليتقوى
بِهِ الْمَرْء على الْجِهَاد فَمَا يكون من جنسه مَشْرُوع لَا
يصلح أَن يكون طَعنا
وَمن ذَلِك الطعْن بِكَثْرَة المزاح فَإِن ذَلِك مُبَاح شرعا
إِذا لم يتَكَلَّم بِمَا لَيْسَ بِحَق على مَا رُوِيَ أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يمازح وَلَا يَقُول إِلَّا
حَقًا
وَلَكِن هَذَا بِشَرْط أَن لَا يكون متخبطا مجازفا يعْتَاد
الْقَصْد إِلَى رفع الْحجَّة والتلبيس بِهِ أَلا ترى إِلَى مَا
رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ بِهِ دعابة
وَقد ذكر ذَلِك عمر حِين ذكر اسْمه فِي الشورى وَلم يذكرهُ على
وَجه الطعْن فَعرفنَا أَن عينه لَا يكون طَعنا
وَمن ذَلِك الطعْن بحداثة سنّ الرَّاوِي فَإِن كثيرا من
الصَّحَابَة كَانُوا يروون فِي حَدَاثَة سنهم مِنْهُم ابْن
عَبَّاس وَابْن عمر وَلَكِن هَذَا بِشَرْط الإتقان عِنْد
التَّحَمُّل
(2/10)
فِي الصغر وَعند الرِّوَايَة بعد الْبلُوغ
وَلِهَذَا أَخذنَا بِحَدِيث عبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير
رَضِي الله عَنهُ فِي صَدَقَة الْفطر أَنه نصف صَاع من بر
ورجحنا حَدِيثه على حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله
عَنهُ فِي التَّقْدِير بِصَاع من بر لِأَن حَدِيثه أحسن متْنا
فَذَلِك دَلِيل الإتقان وَوَافَقَهُ رِوَايَة ابْن عَبَّاس
أَيْضا
وَالشَّافِعِيّ أَخذ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله
عَنْهُمَا فِي إِثْبَات حق الرُّجُوع للوالد فِيمَا يهب
لوَلَده وَقد رُوِيَ أَنه نحله أَبوهُ غُلَاما وَهُوَ ابْن سبع
سِنِين فَعرفنَا أَن مثل هَذَا لَا يكون طَعنا عِنْد
الْفُقَهَاء
وَمن ذَلِك الطعْن بِأَن رِوَايَة الْأَخْبَار لَيست بعادة
لَهُ فَإِن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مَا اعْتَادَ
الرِّوَايَة وَلَا يظنّ بِأحد أَنه يطعن فِي حَدِيثه بِهَذَا
السَّبَب وَقبل رَسُول الله شَهَادَة الْأَعرَابِي على رُؤْيَة
هِلَال رَمَضَان والأعرابي مَا كَانَ اعْتَادَ الرِّوَايَة
وَقد كَانَ فِي الصَّحَابَة من يمْتَنع من الرِّوَايَة فِي
عَامَّة الْأَوْقَات وَفِيهِمْ من يشْتَغل بالرواية فِي
عَامَّة الْأَوْقَات ثمَّ لم يرجح أحد رِوَايَة من اعْتَادَ
ذَلِك على من لم يعْتد الرِّوَايَة وَهَذَا لِأَن الْمُعْتَبر
هُوَ الإتقان وَرُبمَا يكون إتقان من لم تصر الرِّوَايَة
عَادَة لَهُ فِيمَا يروي أَكثر من إتقان من اعْتَادَ
الرِّوَايَة
وَمن ذَلِك الطعْن بالاستكثار من تَفْرِيع مسَائِل الْفِقْه
فَإِن ذَلِك دَلِيل الِاجْتِهَاد وَقُوَّة الخاطر فيستدل بِهِ
على حسن الضَّبْط والاتقان فَكيف يصلح أَن يكون طَعنا وَمَا
يكون مُجْتَهدا فِيهِ الطعْن بِالْإِرْسَال وَقد بَينا أَنه
لَيْسَ بطعن عندنَا لِأَنَّهُ دَلِيل تَأَكد الْخَبَر وإتقان
الرَّاوِي فِي السماع من غير وَاحِد
وَأما الطعْن الْمُفَسّر بِمَا يكون مُوجبا للجرح فَإِن حصل
مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالتعصب أَو مُتَّهم بِهِ لظُهُور سَبَب
باعث لَهُ على الْعَدَاوَة فَإِنَّهُ لَا يُوجب الْجرْح
وَذَلِكَ نَحْو طعن الْمُلْحِدِينَ والمتهمين بِبَعْض
الْأَهْوَاء المضلة فِي أهل السّنة وَطعن بعض من ينتحل مَذْهَب
الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي بعض الْمُتَقَدِّمين من كبار
أَصْحَابنَا فَإِنَّهُ لَا يُوجب الْجرْح لعلمنا أَنه كَانَ
عَن تعصب وعداوة
فَأَما وُجُوه الطعْن الْمُوجب للجرح فَرُبمَا يَنْتَهِي إِلَى
أَرْبَعِينَ وَجها يطول الْكتاب بِذكر تِلْكَ الْوُجُوه وَمن
طلبَهَا فِي كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل وقف عَلَيْهَا إِن
شَاءَ الله تَعَالَى
(2/11)
فصل فِي بَيَان الْمُعَارضَة بَين
النُّصُوص وَتَفْسِير الْمُعَارضَة وركنها وَحكمهَا وَشَرطهَا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَج الشَّرْعِيَّة من
الْكتاب وَالسّنة لَا يَقع بَينهمَا التَّعَارُض والتناقض وضعا
لِأَن ذَلِك من أَمَارَات الْعَجز وَالله يتعالى عَن أَن يُوصف
بِهِ وَإِنَّمَا يَقع التَّعَارُض لجهلنا بالتاريخ فَإِنَّهُ
يتَعَذَّر بِهِ علينا التَّمْيِيز بَين النَّاسِخ والمنسوخ
أَلا ترى أَن عِنْد الْعلم بالتاريخ لَا تقع الْمُعَارضَة
بِوَجْه وَلَكِن الْمُتَأَخر نَاسخ للمتقدم فَعرفنَا أَن
الْوَاجِب فِي الأَصْل طلب التَّارِيخ ليعلم بِهِ النَّاسِخ من
الْمَنْسُوخ وَإِذا لم يُوجد ذَلِك يَقع التَّعَارُض بَينهمَا
فِي حَقنا من غير أَن يتَمَكَّن التَّعَارُض فِيمَا هُوَ حكم
الله تَعَالَى فِي الْحَادِثَة وَلأَجل هَذَا يحْتَاج إِلَى
معرفَة تَفْسِير الْمُعَارضَة وركنها وَشَرطهَا وَحكمهَا
فَأَما التَّفْسِير فَهِيَ الممانعة على سَبِيل الْمُقَابلَة
يُقَال عرض لي كَذَا أَي استقبلني فَمَنَعَنِي مِمَّا قصدته
وَمِنْه سميت الْمَوَانِع عوارض فَإِذا تقَابل الحجتان على
سَبِيل المدافعة والممانعة سميت مُعَارضَة
وَأما الرُّكْن فَهُوَ تقَابل الحجتين المتساويتين على وَجه
يُوجب كل وَاحِد مِنْهُمَا ضد مَا توجبه الْأُخْرَى كالحل
وَالْحُرْمَة وَالنَّفْي وَالْإِثْبَات لِأَن ركن الشَّيْء مَا
يقوم بِهِ ذَلِك الشَّيْء وبالحجتين المتساويتين تقوم
الْمُقَابلَة إِذا لَا مُقَابلَة للضعيف مَعَ الْقوي
وَأما الشَّرْط فَهُوَ أَن يكون تقَابل الدَّلِيلَيْنِ فِي
وَقت وَاحِد وَفِي مَحل وَاحِد لِأَن المضادة والتنافي لَا
يتَحَقَّق بَين الشَّيْئَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ وَلَا فِي محلين
حسا وَحكما
وَمن الحسيات اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يتَصَوَّر
اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد وَيجوز أَن يكون بعض الزَّمَان
نَهَارا وَالْبَعْض لَيْلًا وَكَذَلِكَ السوَاد مَعَ الْبيَاض
مجتمعان فِي الْعين فِي محلين وَلَا تصور لاجتماعهما فِي مَحل
وَاحِد
وَمن الحكميات النِّكَاح فَإِنَّهُ يُوجب الْحل فِي
الْمَنْكُوحَة وَالْحُرْمَة فِي أمهَا وبنتها وَلَا يتَحَقَّق
التضاد بَينهمَا فِي محلين حَتَّى صَحَّ إثباتهما بِسَبَب
وَاحِد
وَالصَّوْم يجب فِي وَقت وَالْفطر فِي وَقت آخر وَلَا
يتَحَقَّق
(2/12)
معنى التضاد بَينهمَا باخْتلَاف الْوَقْت
فَعرفنَا أَن شَرط التضاد والتمانع اتِّحَاد الْمحل وَالْوَقْت
وَمن الشَّرْط أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجبا على وَجه
يجوز أَن يكون نَاسِخا للْآخر إِذا عرف التَّارِيخ بَينهمَا
وَلِهَذَا قُلْنَا يَقع التَّعَارُض بَين الْآيَتَيْنِ وَبَين
الْقِرَاءَتَيْن وَبَين السنتين وَبَين الْآيَة وَالسّنة
الْمَشْهُورَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز أَن يكون
نَاسِخا إِذا علم التَّارِيخ بَينهمَا على مَا نبينه فِي بَاب
النّسخ
وَلَا يَقع التَّعَارُض بَين القياسين لِأَن أَحدهمَا لَا يجوز
أَن يكون نَاسِخا للْآخر فَإِن النّسخ لَا يكون إِلَّا فِيمَا
هُوَ مُوجب للْعلم وَالْقِيَاس لَا يُوجب ذَلِك وَلَا يكون
ذَلِك إِلَّا عَن تَارِيخ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي القياسين
وَكَذَلِكَ لَا يَقع التَّعَارُض فِي أقاويل الصَّحَابَة لِأَن
كل وَاحِد مِنْهُمَا (إِنَّمَا) قَالَ ذَلِك عَن رَأْيه
وَالرِّوَايَة لَا تثبت بِالِاحْتِمَالِ وكما أَن الرأيين من
وَاحِد لَا يصلح أَن يكون أَحدهمَا نَاسِخا للْآخر فَكَذَلِك
من اثْنَيْنِ
وَأما الحكم فَنَقُول مَتى وَقع التَّعَارُض بَين الْآيَتَيْنِ
فالسبيل الرُّجُوع إِلَى سَبَب النُّزُول ليعلم التَّارِيخ
بَينهمَا فَإِذا علم ذَلِك كَانَ الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم
فَيجب الْعَمَل بالناسخ وَلَا يجوز الْعَمَل بالمنسوخ فَإِن لم
يعلم ذَلِك فَحِينَئِذٍ يجب الْمصير إِلَى السّنة لمعْرِفَة
حكم الْحَادِثَة وَيجب الْعَمَل بذلك إِن وجد فِي السّنة لِأَن
الْمُعَارضَة لما تحققت فِي حَقنا فقد تعذر علينا الْعَمَل
بالآيتين إِذْ لَيست إِحْدَاهمَا بِالْعَمَلِ بهَا أولى من
الْأُخْرَى والتحقق بِمَا لَو لم يُوجد حكم الْحَادِثَة فِي
الْكتاب فَيجب الْمصير إِلَى السّنة فِي معرفَة الحكم
وَكَذَلِكَ إِن وَقع التَّعَارُض بَين السنتين وَلم يعرف
التَّارِيخ فَإِنَّهُ يُصَار إِلَى مَا بعد السّنة فِيمَا يكون
حجَّة فِي حكم الْحَادِثَة وَذَلِكَ قَول الصَّحَابِيّ أَو
الْقيَاس الصَّحِيح على مَا بَينا من قبل فِي التَّرْتِيب فِي
الْحجَج الشَّرْعِيَّة لِأَن عِنْد الْمُعَارضَة يتَعَذَّر
الْعَمَل بالمتعارضين فَفِي حكم الْعَمَل يَجْعَل ذَلِك
كَالْمَعْدُومِ أصلا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا ادّعى رجلَانِ نِكَاح امْرَأَة
وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة وَتعذر تَرْجِيح
إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِنَّهُ تبطل
الحجتان وَيصير كَأَنَّهُ لم يقم كل وَاحِد مِنْهُمَا
الْبَيِّنَة
(2/13)
فَأَما إِذا وَقع التَّعَارُض بَين
القياسين فَإِن أمكن تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِدَلِيل
شَرْعِي وَذَلِكَ قُوَّة فِي أَحدهمَا لَا يُوجد مثله فِي
الآخر يجب الْعَمَل بالراجح وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة معرفَة
التَّارِيخ فِي النُّصُوص وَإِن لم يُوجد ذَلِك فَإِن
الْمُجْتَهد يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ لَا بِاعْتِبَار أَن كل
وَاحِد مِنْهُمَا حق أَو صَوَاب فَالْحق أَحدهمَا وَالْآخر خطأ
على مَا هُوَ الْمَذْهَب عندنَا فِي الْمُجْتَهد أَنه يُصِيب
تَارَة ويخطىء أُخْرَى وَلكنه مَعْذُور فِي الْعَمَل بِهِ فِي
الظَّاهِر مَا لم يتَبَيَّن لَهُ الْخَطَأ بِدَلِيل أقوى من
ذَلِك وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد مُصِيب وَإِن
لم يقف على الصَّوَاب بِاجْتِهَادِهِ وطمأنينة الْقلب إِلَى
مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده يصلح أَن يكون دَلِيلا فِي حكم
الْعَمَل شرعا عِنْد تحقق الضَّرُورَة بِانْقِطَاع الْأَدِلَّة
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْمُؤمن ينظر بِنور الله وَقَالَ
فراسة الْمُؤمن لَا تخطىء وَلِهَذَا جَوَّزنَا التَّحَرِّي فِي
بَاب الْقبْلَة عِنْد انْقِطَاع الْأَدِلَّة الدَّالَّة على
الْجِهَة وحكمنا بِجَوَاز الصَّلَاة سَوَاء تبين أَنه أصَاب
جِهَة الْكَعْبَة أَو أَخطَأ لِأَنَّهُ اعْتمد فِي عمله
دَلِيلا شَرْعِيًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ
بقوله قبْلَة المتحري جِهَة قَصده
وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُخَيّرا عِنْد تعَارض القياسين لأجل
الضَّرُورَة لِأَنَّهُ إِن ترك الْعَمَل بهما للتعارض احْتَاجَ
إِلَى اعْتِبَار الْحَال لبِنَاء حكم الْحَادِثَة عَلَيْهِ
إِذْ لَيْسَ بعد الْقيَاس دَلِيل شَرْعِي يرجع إِلَيْهِ فِي
معرفَة حكم الْحَادِثَة وَالْعَمَل بِالْحَال عمل بِلَا دَلِيل
وَلَا إِشْكَال أَن الْعَمَل بِدَلِيل شَرْعِي فِيهِ احْتِمَال
الْخَطَأ وَالصَّوَاب يكون أولى من الْعَمَل بِلَا دَلِيل
وَلَكِن هَذِه الضَّرُورَة إِنَّمَا تتَحَقَّق فِي القياسين
وَلَا تتَحَقَّق فِي النصين لِأَنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا
دَلِيل شَرْعِي يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة حكم الْحَادِثَة
لهَذَا لَا يتَخَيَّر هُنَاكَ فِي الْعَمَل بِأَيّ النصين
شَاءَ
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا كَانَ فِي السّفر وَمَعَهُ
إناءان فِي أَحدهمَا مَاء طَاهِر وَفِي الآخر مَاء نجس وَلَا
يعرف الطَّاهِر من النَّجس فَإِنَّهُ يتحَرَّى للشُّرْب وَلَا
يتحَرَّى للْوُضُوء بل يتَيَمَّم لِأَن فِي حق الشّرْب لَا يجد
بَدَلا يصير إِلَيْهِ فِي تَحْصِيل مَقْصُوده فَلهُ أَن يصير
إِلَى التَّحَرِّي لتحَقّق الضَّرُورَة وَفِي حكم الطَّهَارَة
يجد شَيْئا آخر يطهر بِهِ عِنْد الْعَجز عَن اسْتِعْمَال
المَاء الطَّاهِر وَهُوَ التَّيَمُّم فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ
الضَّرُورَة وبسبب الْمُعَارضَة يَجْعَل لعادم المَاء فَيصير
إِلَى التَّيَمُّم وَقُلْنَا فِي المساليخ إِذا اسْتَوَت
الذكية وَالْميتَة فَفِي حَالَة الضَّرُورَة بِأَن لم يجد
حَلَالا سوى ذَلِك جَازَ لَهُ التَّحَرِّي وَعند عدم
الضَّرُورَة بِوُجُود طَعَام حَلَال لَا يكون لَهُ أَن يصير
إِلَى التَّحَرِّي وَلِهَذَا
(2/14)
لم يجوز التَّحَرِّي فِي الْفروج أصلا
عِنْد اخْتِلَاط الْمُعتقَة عينا بِغَيْر الْمُعتقَة لِأَن
جَوَاز ذَلِك بِاعْتِبَار الضَّرُورَة وَلَا مدْخل للضَّرُورَة
فِي إِبَاحَة الْفرج بِدُونِ الْملك بِخِلَاف الطَّعَام
وَالشرَاب
ثمَّ إِذا عمل بِأحد القياسين وَحكم بِصِحَّة عمله بِاعْتِبَار
الظَّاهِر يصير ذَلِك لَازِما لَهُ حَتَّى لَا يجوز لَهُ أَن
يتْركهُ وَيعْمل بِالْآخرِ من غير دَلِيل مُوجب لذَلِك
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي الثَّوْبَيْنِ إِذا كَانَ أَحدهمَا
طَاهِرا وَالْآخر نجسا وَهُوَ لَا يجد ثوبا آخر فَإِنَّهُ يصير
إِلَى التَّحَرِّي لتحَقّق الضَّرُورَة فَإِنَّهُ لَو ترك
لبسهما لَا يجد شَيْئا آخر يُقيم بِهِ فرض السّتْر الَّذِي
هُوَ شَرط جَوَاز الصَّلَاة وَبَعْدَمَا صلى فِي أحد
الثَّوْبَيْنِ بِالتَّحَرِّي لَا يكون لَهُ أَن يُصَلِّي فِي
الثَّوْب الآخر لأَنا حِين حكمنَا بِجَوَاز الصَّلَاة فِي
ذَلِك الثَّوْب فَذَلِك دَلِيل شَرْعِي مُوجب طَهَارَة ذَلِك
الثَّوْب وَالْحكم بِنَجَاسَة الثَّوْب الآخر فَلَا تجوز
الصَّلَاة فِيهِ بعد ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل أقوى مِنْهُ
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو تحرى عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة
وَصلى صَلَاة إِلَى جِهَة ثمَّ وَقع تحريه على جِهَة أُخْرَى
يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي الْمُسْتَقْبل إِلَى الْجِهَة
الثَّانِيَة وَلم يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على أَن جِهَة
الْقبْلَة مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فِي الِابْتِدَاء
قُلْنَا لِأَن هُنَاكَ الحكم بِجَوَاز الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ
الْجِهَة لَا يتَضَمَّن الحكم بِكَوْنِهَا جِهَة الْكَعْبَة
لَا محَالة أَلا ترى أَنه وَإِن تبين لَهُ الْخَطَأ بِيَقِين
بِأَن استدبر الْكَعْبَة جَازَت صلَاته وَفِي الثَّوْب من
ضَرُورَة الحكم بِجَوَاز الصَّلَاة فِي ثوب الحكم بِطَهَارَة
ذَلِك الثَّوْب حَتَّى إِذا تبين أَنه كَانَ نجسا تلْزمهُ
إِعَادَة الصَّلَاة وَالْعَمَل بِالْقِيَاسِ من هَذَا
الْقَبِيل فَإِن صِحَة الْعَمَل بِأحد القياسين يتَضَمَّن
الحكم بِكَوْنِهِ حجَّة للْعَمَل بِهِ ظَاهرا وَلِهَذَا لَو
تبين نَص بِخِلَافِهِ بَطل حكم الْعَمَل بِهِ فَلهَذَا كَانَ
الْعَمَل بِأحد القياسين مَانِعا لَهُ من الْعَمَل
بِالْقِيَاسِ الآخر بعد مَا لم يتَبَيَّن دَلِيل أقوى مِنْهُ
وَوجه آخر أَن التَّعَارُض بَين النصين إِنَّمَا يَقع لجهلنا
بالتاريخ بَينهمَا وَالْجهل لَا يصلح دَلِيلا على حكم شَرْعِي
من حَيْثُ الْعلم لَا من حَيْثُ الْعَمَل وَالِاخْتِيَار حكم
شَرْعِي لَا يجوز أَن يثبت بِاعْتِبَار هَذَا الْجَهْل
فَأَما التَّعَارُض بَين القياسين بِاعْتِبَار كَون كل وَاحِد
مِنْهُمَا صَالحا للْعَمَل بِهِ فِي أصل الْوَضع وَإِن كَانَ
أَحدهمَا صَوَابا حَقِيقَة وَالْآخر خطأ وَلَكِن من حَيْثُ
الظَّاهِر هُوَ مَعْمُول
(2/15)
بِهِ شرعا مَا لم يتَبَيَّن وَجه الْخَطَأ
فِيهِ فإثبات الْخِيَار بَينهمَا فِي حكم الْعَمَل إِذا رجح
أَحدهمَا بِنَوْع فراسة يكون إِثْبَات الحكم بِدَلِيل شَرْعِي
ثمَّ إِذا عمل بِأَحَدِهِمَا صَحَّ ذَلِك بِالْإِجْمَاع فَلَا
يكون لَهُ أَن ينْقض مَا نفذ من الْقَضَاء مِنْهُ
بِالْإِجْمَاع وَلَا يصير إِلَى الْعَمَل بِالْآخرِ إِلَّا
بِدَلِيل هُوَ أقوى من الأول
فَإِن قيل لَو ثَبت الْخِيَار لَهُ فِي الْعَمَل بالقياسين
لَكَانَ يبْقى خِيَاره بَعْدَمَا عمل بِأَحَدِهِمَا فِي
حَادِثَة حَتَّى يكون لَهُ أَن يعْمل بِالْآخرِ فِي حَادِثَة
أُخْرَى كَمَا فِي كَفَّارَة الْيَمين فَإِنَّهُ لَو عين أحد
الْأَنْوَاع فِي تَكْفِير يَمِين بِهِ يبْقى خِيَاره فِي
تعْيين نوع آخر فِي كَفَّارَة يَمِين أُخْرَى
قُلْنَا هُنَاكَ التَّخْيِير ثَبت على أَن كل وَاحِد من
الْأَنْوَاع صَالح للتكفير بِهِ بِدَلِيل مُوجب للْعلم وَهنا
الْخِيَار مَا ثَبت بِمثل هَذَا الدَّلِيل بل بِاعْتِبَار أَن
كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالح للْعَمَل بِهِ ظَاهرا مَعَ علمنَا
بِأَن الْحق أَحدهمَا وَالْآخر خطأ فَبعد مَا تأيد أَحدهمَا
بنفوذ الْقَضَاء بِهِ لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى الآخر
إِلَّا بِدَلِيل هُوَ أقوى من الأول وَهَذَا لِأَن جِهَة
الصَّوَاب تترجح بِعَمَلِهِ فِيمَا عمل بِهِ وَمن ضَرُورَته
ترجح جَانب الْخَطَأ فِي الآخر ظَاهرا فَمَا لم يرْتَفع ذَلِك
بِدَلِيل سوى مَا كَانَ مَوْجُودا عِنْد الْعَمَل
بِأَحَدِهِمَا لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى الْعَمَل
بِالْآخرِ
وَالْحَاصِل أَن فِيمَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الِانْتِقَال
من مَحل إِلَى مَحل إِذا تعين الْمحل بِعَمَلِهِ لَا يبْقى
لَهُ خِيَار بعد ذَلِك كالنجاسة فِي الثَّوْب فَإِنَّهَا لَا
تحْتَمل الِانْتِقَال من ثوب إِلَى ثوب فَإِذا تعين
بِصَلَاتِهِ فِي أحد الثَّوْبَيْنِ صفة الطَّهَارَة فِيهِ
والنجاسة فِي الآخر لَا يبْقى لَهُ رَأْي فِي الصَّلَاة فِي
الثَّوْب الآخر مَا لم يثبت طَهَارَته بِدَلِيل مُوجب للْعلم
وَفِي بَاب الْقبْلَة فرض التَّوَجُّه يحْتَمل الِانْتِقَال
أَلا ترى أَنه انْتقل من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة
وَمن عين الْكَعْبَة إِلَى الْجِهَة إِذا بعد من مَكَّة وَمن
جِهَة الْكَعْبَة إِلَى سَائِر الْجِهَات إِذا كَانَ رَاكِبًا
فَإِنَّهُ يُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ رَاحِلَته فَبعد
مَا صلى بِالتَّحَرِّي إِلَى جِهَة إِذا تحول رَأْيه ينْتَقل
فرض التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة أَيْضا لِأَن الشَّرْط
أَن يكون مبتلى فِي التَّوَجُّه عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة
وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا إِذا صلى إِلَى الْجِهَة الَّتِي
وَقع عَلَيْهَا تحريه
وَكَذَلِكَ حكم الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فِي المجتهدات فَإِن
الْقَضَاء الَّذِي نفذ بِالْقِيَاسِ فِي مَحل لَا يحْتَمل
الِانْتِقَال إِلَى مَحل آخر فَيلْزم ذَلِك
فَأَما
(2/16)
فِيمَا وَرَاء ذَلِك الحكم مُحْتَمل
للانتقال فَإِن الْكَلَام فِي حكم يحْتَمل النّسخ وَشرط
الْعَمَل بِالْقِيَاسِ أَن يكون مبتلى بِطَلَب الطَّرِيق
بِاعْتِبَار أصل الْوَضع شرعا فَإِذا اسْتَقر رَأْيه على أَن
الصَّوَاب هُوَ الآخر كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْمل فِي
الْمُسْتَقْبل
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا طلق إِحْدَى امرأتيه
بِعَينهَا ثمَّ نسي أَو أعتق أحد المملوكين بِعَيْنِه ثمَّ نسي
لَا يثبت لَهُ خِيَار الْبَيَان لِأَن الْوَاقِع من الطَّلَاق
وَالْعتاق لَا يحْتَمل الِانْتِقَال من مَحل إِلَى مَحل آخر
وَإِنَّمَا ثبتَتْ الْمُعَارضَة بَين المحلين فِي حَقه لجهله
بِالْمحل الَّذِي عينه عِنْد الْإِيقَاع وجهله لَا يثبت
الْخِيَار لَهُ شرعا وبمثله لَو أوجب فِي أَحدهمَا بِغَيْر
عينه ابْتِدَاء كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي الْبَيَان لِأَن
تعْيين الْمحل كَانَ مَمْلُوكا لَهُ شرعا كابتداء الْإِيقَاع
وَلكنه بِمُبَاشَرَة الْإِيقَاع أسقط مَا كَانَ لَهُ من
الْخِيَار فِي أصل الْإِيقَاع وَلم يسْقط مَا كَانَ لَهُ من
الْخِيَار فِي التَّعْيِين فَيبقى ذَلِك الْخِيَار ثَابتا لَهُ
شرعا وَمِمَّا يثبت فِيهِ حكم التَّعَارُض سُؤْر الْحمار
والبغل فقد تَعَارَضَت الْأَدِلَّة فِي الحكم بِطَهَارَتِهِ
ونجاسته وَقد بَينا هَذَا فِي فروع الْفِقْه وَلَكِن لَا يُمكن
الْمصير إِلَى الْقيَاس بعد هَذَا التَّعَارُض لِأَن الْقيَاس
لَا يصلح لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء فَوَجَبَ الْعَمَل
بِدَلِيل فِيهِ بِحَسب الْإِمْكَان وَهُوَ الْمصير إِلَى
الْحَال فَإِن المَاء كَانَ طَاهِرا فِي الأَصْل فَيبقى
طَاهِرا
نَص عَلَيْهِ فِي غير مَوضِع من النَّوَادِر حَتَّى قَالَ لَو
غمس الثَّوْب فِي سُؤْر الْحمار تجوز الصَّلَاة فِيهِ وَلَا
يَتَنَجَّس الْعُضْو أَيْضا بِاسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّهُ عرق
طَاهِر فِي الأَصْل
وَهَذَا الدَّلِيل لَا يصلح أَن يكون مُطلقًا أَدَاء الصَّلَاة
بِهِ وَحده لِأَن الْحَدث كَانَ ثَابتا قبل اسْتِعْمَاله فَلَا
يَزُول بِاسْتِعْمَالِهِ بِيَقِين فشرطنا ضم التَّيَمُّم
إِلَيْهِ حَتَّى يحصل التيقن بِالطَّهَارَةِ الْمُطلقَة
لأَدَاء الصَّلَاة
وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى إِذا لم يظْهر فِيهِ دَلِيل يتَرَجَّح
بِهِ صفة الذُّكُورَة أَو الْأُنُوثَة فَإِنَّهُ يكون مُشكل
الْحَال يَجْعَل بِمَنْزِلَة الذُّكُور فِي بعض الْأَحْكَام
وبمنزلة الْإِنَاث فِي الْبَعْض على حسب مَا يدل عَلَيْهِ
الْحَال فِي كل حكم
وَكَذَلِكَ الْمَفْقُود فَإِنَّهُ يَجْعَل بمنزله الْحَيّ فِي
مَال نَفسه حَتَّى لَا يُورث عَنهُ وبمنزلة الْمَيِّت فِي
الْإِرْث من الْغَيْر لِأَن أمره مُشكل فَوَجَبَ الْمصير إِلَى
الْحَال لأجل الضَّرُورَة وَالْحكم بِمَا يدل عَلَيْهِ الْحَال
فِي كل حَادِثَة
(2/17)
وَأما بَيَان المخلص عَن المعارضات
فَنَقُول يطْلب هَذَا المخلص أَولا من نفس الْحجَّة فَإِن لم
يُوجد فَمن الحكم فَإِن لم يُوجد فباعتبار الْحَال فَإِن لم
يُوجد فبمعرفة التَّارِيخ نصا فَإِن لم يُوجد فبدلالة
التَّارِيخ
فَأَما الْوَجْه الأول وَهُوَ الطّلب المخلص من نفس الْحجَّة
فبيانه من أوجه أَحدهَا أَن يكون أحد النصين محكما وَالْآخر
مُجملا أَو مُشكلا فَإِن بِهَذَا يتَبَيَّن أَن التَّعَارُض
حَقِيقَة غير مَوْجُود بَين النصين وَإِن كَانَ مَوْجُودا
ظَاهرا فيصار إِلَى الْعَمَل بالحكم دون الْمُجْمل والمشكل
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أَحدهمَا نصا من الْكتاب أَو السّنة
الْمَشْهُورَة وَالْآخر خبر الْوَاحِد
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أَحدهمَا مُحْتملا للخصوص فَإِنَّهُ
يَنْتَفِي معنى التَّعَارُض بتخصيصه بِالنَّصِّ الآخر
وَبَيَانه من الْكتاب فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق
والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله تَعَالَى فِي
الْمُسْتَأْمن {ثمَّ أبلغه مأمنه} فَإِن التَّعَارُض يَقع بَين
النصين ظَاهرا وَلَكِن قَوْله {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} عَام
يحْتَمل الْخُصُوص فَجعلنَا قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أبلغه
مأمنه} دَلِيل تَخْصِيص الْمُسْتَأْمن من ذَلِك
وَمن السّنة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من نَام عَن صَلَاة أَو
نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن ذَلِك وَقتهَا وَنَهْيه
عَن الصَّلَاة فِي ثَلَاث سَاعَات فالتعارض بَين النصين ثَبت
ظَاهرا وَلَكِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فليصلها إِذا ذكرهَا
بِعرْض التَّخْصِيص فَيجْعَل النَّص الآخر دَلِيل التَّخْصِيص
حَتَّى يَنْتَفِي بِهِ التَّعَارُض
وَكَذَلِكَ إِن ظهر عمل النَّاس بِأحد النصين دون الآخر لِأَن
الَّذِي ظهر الْعَمَل بِهِ بَين النَّاس ترجح بِدَلِيل
الْإِجْمَاع فَيَنْتَفِي بِهِ معنى التَّعَارُض بَينهمَا مَعَ
أَن الظَّاهِر أَن اتِّفَاقهم على الْعَمَل بِهِ لكَونه
مُتَأَخِّرًا نَاسِخا لما كَانَ قبله وبالعلم بالتاريخ
يَنْتَفِي التَّعَارُض فَكَذَلِك بِالْإِجْمَاع الدَّال
عَلَيْهِ وَإِن كَانَ الْمَعْمُول بِهِ سَابِقًا فَذَلِك
دَلِيل على أَن الآخر مؤول أَو سَهْو من بعض الروَاة إِن كَانَ
فِي الْأَخْبَار لِأَن الْمَنْسُوخ إِذا اشْتهر فناسخه يشْتَهر
بعده أَيْضا كَمَا اشْتهر تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد الْإِبَاحَة
واشتهر إِبَاحَة زِيَارَة الْقُبُور وإمساك لُحُوم الْأَضَاحِي
وَالشرب فِي الْأَوَانِي بعد النَّهْي
(2/18)
وَلَو اشْتهر النَّاسِخ لما أَجمعُوا على
الْعَمَل بِخِلَافِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيق تَنْتفِي
الْمُعَارضَة وكما يَنْتَفِي التَّعَارُض بِدَلِيل الْإِجْمَاع
يثبت التَّعَارُض بِدَلِيل الْإِجْمَاع فَإِن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن مِيرَاث الْعمة وَالْخَالَة
فَقَالَ لَا شَيْء لَهما وَقَالَ الْخَال وَارِث من لَا وَارِث
لَهُ فَمن حَيْثُ الظَّاهِر لَا تعَارض بَين الْحَدِيثين لِأَن
كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَحل آخر وَلَكِن ثَبت بِإِجْمَاع
النَّاس أَنه لَا فرق بَين الْخَال وَالْخَالَة والعمة فِي صفة
الوراثة فباعتبار هَذَا الْإِجْمَاع يَقع التَّعَارُض بَين
النصين ثمَّ رجح عُلَمَاؤُنَا الْمُثبت مِنْهُمَا وَرجح
الشَّافِعِي مَا كَانَ مَعْلُوما بِاعْتِبَار الأَصْل وَهُوَ
عدم اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث
وَبَيَان الطّلب المخلص من حَيْثُ الحكم أَن التَّعَارُض
إِنَّمَا يَقع للمدافعة بَين الْحكمَيْنِ فَإِن كَانَ الحكم
الثَّابِت بِأحد النصين مدفوعا بِالْآخرِ لَا محَالة فَهُوَ
التَّعَارُض حَقِيقَة وَإِن أمكن إِثْبَات حكم بِكُل وَاحِد من
النصين سوى الحكم الآخر لَا تتَحَقَّق المدافعة فَيَنْتَفِي
التَّعَارُض
وَبَيَان ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم
بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن
يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} فَبين النصين تعَارض من
حَيْثُ الظَّاهِر فِي يَمِين الْغمُوس فَإِنَّهَا من كسب
الْقُلُوب وَلكنهَا غير معقودة لِأَنَّهَا لم تصادف مَحل عقد
الْيَمين وَهُوَ الْخَبَر الَّذِي فِيهِ رَجَاء الصدْق وَلَكِن
انْتَفَى هَذَا التَّعَارُض بِاعْتِبَار الحكم فَإِن
الْمُؤَاخَذَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {بِمَا عقدتم
الْأَيْمَان} هِيَ الْمُؤَاخَذَة بِالْكَفَّارَةِ فِي
الدُّنْيَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ}
الْمُؤَاخَذَة بالعقوبة فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ أطلق
الْمُؤَاخَذَة فِيهَا والمؤاخذة الْمُطلقَة تكون فِي دَار
الْجَزَاء فَإِن الْجَزَاء بوفاق الْعَمَل فَأَما فِي
الدُّنْيَا فقد يبتلى الْمُطِيع ليَكُون تمحيصا لذنوبه وينعم
على العَاصِي استدراجا فَبِهَذَا الطَّرِيق تبين أَن الحكم
الثَّابِت فِي أحد النصين غير الحكم الثَّابِت فِي الآخر
وَإِذا انْتَفَت المدافعة بَين الْحكمَيْنِ ظهر المخلص عَن
التَّعَارُض
فَأَما المخلص بطرِيق الْحَال فبيانه فِي قَوْله تَعَالَى
{وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} بِالتَّخْفِيفِ فِي إِحْدَى
الْقِرَاءَتَيْن وبالتشديد فِي الْأُخْرَى فبينهما تعَارض فِي
الظَّاهِر لِأَن حَتَّى للغاية وَبَين امتداد الشَّيْء إِلَى
غَايَة وَبَين قصوره دونهَا مُنَافَاة والإطهار هُوَ
الِاغْتِسَال وَالطُّهْر يكون بِانْقِطَاع الدَّم فَبين امتداد
حُرْمَة القربان إِلَى الِاغْتِسَال وَبَين ثُبُوت حل القربان
عِنْد انْقِطَاع الدَّم مُنَافَاة وَلَكِن بِاعْتِبَار الْحَال
يَنْتَفِي هَذَا التَّعَارُض وَهُوَ أَن بِالتَّخْفِيفِ على
حَال مَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا عشرَة لِأَن الطُّهْر
بالانقطاع إِنَّمَا يتَيَقَّن بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالة فَإِن
الْحيض لَا يكون أَكثر من عشرَة أَيَّام فَأَما فِيمَا دون
الْعشْرَة لَا يثبت الطُّهْر بالانقطاع بِيَقِين لتوهم أَن
يعاودها الدَّم وَيكون ذَلِك حيضا فتمتد حُرْمَة القربان إِلَى
الإطهار بالاغتسال
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
فالتعارض يَقع فِي الظَّاهِر تحمل الْقِرَاءَة
(2/19)
بِالتَّشْدِيدِ على حَال مَا إِذا كَانَ
أَيَّامهَا دون الْعشْرَة وَالْقِرَاءَة بَين الْقِرَاءَة
بِالنّصب الَّذِي يَجْعَل الرجل عطفا على المغسول
وَالْقِرَاءَة بالخفض الَّذِي يَجْعَل الرجل عطفا على
الْمَمْسُوح (ثمَّ) تَنْتفِي هَذِه الْمُعَارضَة بِأَن تحمل
الْقِرَاءَة بالخفض على حَال مَا إِذا كَانَ لابسا للخف بطرِيق
أَن الْجلد الَّذِي استتر بِهِ الرجل يَجْعَل قَائِما مقَام
بشرة الرجل فَإِنَّمَا ذكر الرجل عبارَة عَنهُ بِهَذَا
الطَّرِيق وَالْقِرَاءَة بِالنّصب على حَال ظُهُور الْقدَم
فَإِن الْفَرْض فِي هَذِه الْحَالة غسل الرجلَيْن عينا
فَأَما طلب المخلص من حَيْثُ التَّارِيخ فَهُوَ أَن يعلم
بِالدَّلِيلِ التَّارِيخ فِيمَا بَين النصين فَيكون
الْمُتَأَخر مِنْهُمَا نَاسِخا للمتقدم
وَبَيَان هَذَا فِيمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ
فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا
محتجا بِهِ على من يَقُول إِنَّهَا تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ
فَإِنَّهُ قَالَ من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى
{وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ} نزلت بعد سُورَة النِّسَاء
الطُّولى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فَجعل التَّأَخُّر
دَلِيل النّسخ فَعرفنَا أَنه كَانَ مَعْرُوفا فِيمَا بَينهم
أَن الْمُتَأَخر من النصين نَاسخ للمتقدم
فَأَما طلب المخلص بِدلَالَة التَّارِيخ وَهُوَ أَن يكون أحد
النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة نَحْو مَا
رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن أكل الضَّب
وَرُوِيَ أَنه رخص فِيهِ وَمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام
نهى عَن أكل الضبع وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رخص فِيهِ
فَإِن التَّعَارُض بَين النصين ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر ثمَّ
يَنْتَفِي ذَلِك بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ وَهُوَ أَن
النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب
للْإِبَاحَة فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى
وَبَيَان ذَلِك وَهُوَ أَن الْمُوجب للْإِبَاحَة يبْقى مَا
كَانَ على مَا كَانَ على طَريقَة بعض مَشَايِخنَا لكَون
الْإِبَاحَة أصلا فِي الْأَشْيَاء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
مُحَمَّد فِي كتاب الْإِكْرَاه وعَلى أقوى الطَّرِيقَيْنِ
بِاعْتِبَار أَن قبل مبعث
(2/20)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَت الْإِبَاحَة ظَاهِرَة فِي هَذِه الْأَشْيَاء فَإِن
النَّاس لم يتْركُوا سدى فِي شَيْء من الْأَوْقَات وَلَكِن فِي
زمَان الفترة الْإِبَاحَة كَانَت ظَاهِرَة فِي النَّاس
وَذَلِكَ بَاقٍ إِلَى أَن ثَبت الدَّلِيل الْمُوجب للْحُرْمَة
فِي شريعتنا فَبِهَذَا الْوَجْه يتَبَيَّن أَن الْمُوجب للحظر
مُتَأَخّر وَهَذَا لأَنا لَو جعلنَا الْمُوجب للْإِبَاحَة
مُتَأَخِّرًا احتجنا إِلَى إِثْبَات نسخين نسخ الْإِبَاحَة
الثَّابِتَة فِي الِابْتِدَاء بِالنَّصِّ الْمُوجب للحظر ثمَّ
نسخ الْحَظْر بِالنَّصِّ الْمُوجب للْإِبَاحَة وَإِذا جعلنَا
نَص الْحَظْر مُتَأَخِّرًا احتجنا إِلَى إِثْبَات النّسخ فِي
أَحدهمَا خَاصَّة فَكَانَ هَذَا الْجَانِب أولى وَلِأَنَّهُ قد
ثَبت بالِاتِّفَاقِ نسخ حكم الْإِبَاحَة بالحظر
وَأما نسخ حكم الْحَظْر بِالْإِبَاحَةِ فمحتمل فبالاحتمال لَا
يثبت النّسخ وَلِأَن النَّص الْمُوجب للحظر فِيهِ زِيَادَة حكم
وَهُوَ نيل الثَّوَاب بالانتهاء عَنهُ وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب
بالإقدام عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَنْعَدِم فِي النَّص الْمُوجب
للْإِبَاحَة فَكَانَ تَمام الِاحْتِيَاط فِي إِثْبَات
التَّارِيخ بَينهمَا على أَن يكون الْمُوجب للحظر مُتَأَخِّرًا
وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ أصل فِي الشَّرْع
وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا إِذا كَانَ أحد النصين مُوجبا
للنَّفْي وَالْآخر مُوجبا للإثبات فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو
الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول الْمُثبت أولى من
النَّافِي لِأَن الْمُثبت أقرب إِلَى الصدْق من النَّافِي
وَلِهَذَا قبلت الشَّهَادَة على الْإِثْبَات دون النَّفْي
وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول تتَحَقَّق
الْمُعَارضَة بَينهمَا لِأَن الْخَبَر الْمُوجب للنَّفْي
مَعْمُول بِهِ كالموجب للإثبات وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على صدق
الرَّاوِي فِي الْخَبَر الْمُوجب للإثبات فَإِنَّهُ يسْتَدلّ
بِعَيْنِه على صدق الرَّاوِي فِي الْخَبَر الْمُوجب للنَّفْي
وَاخْتلف عمل الْمُتَقَدِّمين من مَشَايِخنَا فِي مثل هذَيْن
النصين فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام
تزوج مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ محرم وَرُوِيَ أَنه
تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال ثمَّ أَخذنَا بِرِوَايَة من روى أَنه
تزَوجهَا وَهُوَ محرم وَالْإِثْبَات فِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى لأَنهم اتَّفقُوا أَن العقد كَانَ بعد إِحْرَامه
فَمن روى أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال فَهُوَ الْمُثبت للتحلل
من الْإِحْرَام قبل العقد ثمَّ لم يرجح الْمُثبت على النَّافِي
هُنَا
وَرُوِيَ أَن بَرِيرَة أعتقت وَزوجهَا كَانَ حرا فَخَيرهَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرُوِيَ أَنَّهَا أعتقت
وَزوجهَا عبد وَلَا خلاف أَن زَوجهَا كَانَ عبدا فِي الأَصْل
فَكَانَ الْإِثْبَات فِي رِوَايَة من روى أَن زَوجهَا كَانَ
حرا حِين أعتقت فأخذنا بذلك فَهَذَا يدل على أَن التَّرْجِيح
(2/21)
يحصل بالإثبات
وَرُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رد ابْنَته زَيْنَب
على أبي الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا بِنِكَاح جَدِيد
وَرُوِيَ أَنه ردهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول
وَالْإِثْبَات فِي رِوَايَة من روى أَنه ردهَا عَلَيْهِ بِعقد
جَدِيد وَبِذَلِك أَخذنَا فَهُوَ دَلِيل على أَن التَّرْجِيح
يحصل بالإثبات
وَذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان إِذا أخبر عدل بِطَهَارَة
المَاء وَعدل آخر بِنَجَاسَتِهِ فَإِنَّهُ يتعارض الخبران
وَالْإِثْبَات فِي خبر من أخبر بِنَجَاسَتِهِ ثمَّ لم يرجح
الْخَبَر بِهِ
وَقَالَ فِي التَّزْكِيَة الشَّاهِد إِذا عدله وَاحِد وجرحه
آخر فَإِن الْجرْح يكون أولى لِأَن فِي خَبره إِثْبَاتًا
فَإِذا تبين من أصُول عُلَمَائِنَا هَذَا كُله فَلَا بُد من
طلب وَجه يحصل بِهِ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْفُصُول
وَيسْتَمر الْمَذْهَب عَلَيْهِ مُسْتَقِيمًا
وَذَلِكَ الْوَجْه أَن خبر النَّفْي إِمَّا أَن يكون لدَلِيل
يُوجب الْعلم بِهِ أَو لعدم الدَّلِيل الْمُثبت أَو يكون
مشتبها فَإِن كَانَ لدَلِيل يُوجب الْعلم بِهِ فَهُوَ مسَاوٍ
للمثبت وتتحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا وعَلى هَذَا قَالَ فِي
السّير الْكَبِير إِذا قَالَت الْمَرْأَة سَمِعت زَوجي يَقُول
الْمَسِيح ابْن الله فبنت مِنْهُ وَقَالَ الزَّوْج إِنَّمَا
قلت الْمَسِيح ابْن الله قَول النَّصَارَى أَو وَقَالَت
النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله فَالْقَوْل قَوْله فَإِن شهد
للْمَرْأَة شَاهِدَانِ
وَقَالا لم نسْمع من الزَّوْج هَذِه الزِّيَادَة
فَالْقَوْل قَوْله أَيْضا وَإِن قَالَا لم يقل هَذِه
الزِّيَادَة قبلت الشَّهَادَة وَفرق بَينهمَا
وَكَذَا لَو ادّعى الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق وَشهد
الشُّهُود أَنه لم يسْتَثْن قبلت الشَّهَادَة وَهَذِه شَهَادَة
على النَّفْي وَلكنهَا عَن دَلِيل مُوجب للْعلم بِهِ وَهُوَ
أَن مَا يكون من بَاب الْكَلَام فَهُوَ مسموع من الْمُتَكَلّم
لمن كَانَ بِالْقربِ مِنْهُ وَمَا لم يسمع مِنْهُ يكون دندنة
لَا كلَاما فَإِذا قبلت الشَّهَادَة على النَّفْي إِذا كَانَ
عَن دَلِيل كَمَا تقبل على الْإِثْبَات قُلْنَا فِي الْخَبَر
أَيْضا يَقع التَّعَارُض بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات
فَأَما إِذا كَانَ خبر النَّفْي لعدم الْعلم بالإثبات
فَإِنَّهُ لَا يكون مُعَارضا للمثبت لِأَنَّهُ خبر لَا عَن
دَلِيل مُوجب بل عَن اسْتِصْحَاب حَال وَخبر الْمُثبت عَن
دَلِيل مُوجب لَهُ وَلِأَن السَّامع والمخبر فِي هَذَا
النَّوْع سَوَاء فَإِن السَّامع غير عَالم بِالدَّلِيلِ
الْمُثبت كالمخبر بِالنَّفْيِ فَلَو جَازَ أَن يكون هَذَا
(2/22)
الْخَبَر مُعَارضا لخَبر الْمُثبت لجَاز
أَن يكون علم السَّامع مُعَارضا لخَبر الْمُثبت
وَإِن كَانَ الْحَال مشتبها فَإِنَّهُ يجب الرُّجُوع إِلَى
الْخَبَر بِالنَّفْيِ واستفساره عَمَّا يخبر بِهِ ثمَّ
التَّأَمُّل فِي كَلَامه فَإِن ظهر أَنه اعْتمد فِي خَبره
دَلِيلا مُوجبا الْعلم بِهِ فَهُوَ نَظِير الْقسم الأول
وَإِلَّا فَهُوَ نَظِير الْقسم الثَّانِي
فَفِي مَسْأَلَة التَّزْكِيَة من يُزكي الشَّاهِد فقد عرفنَا
أَنه إِنَّمَا يُزَكِّيه لعدم الْعلم بِسَبَب الْجرْح مِنْهُ
إِذْ لَا طَرِيق لأحد إِلَى الْوُقُوف على جَمِيع أَحْوَال
غَيره حَتَّى يكون إخْبَاره عَن تزكيته عَن دَلِيل مُوجب
الْعلم بِهِ وَالَّذِي جرحه فخبره مُثبت الْجرْح الْعَارِض
لوقوفه على دَلِيل مُوجب لَهُ فَلهَذَا جعل خَبره أولى
وَفِي طَهَارَة المَاء ونجاسته الْمخبر بِالطَّهَارَةِ يعْتَمد
دَلِيلا لِأَنَّهُ توقف على طَهَارَة المَاء حَقِيقَة فَإِن
المَاء الَّذِي نزل من السَّمَاء إِذا أَخذه الْإِنْسَان فِي
إِنَاء طَاهِر وَكَانَ بمرأى الْعين مِنْهُ إِلَى وَقت
الِاسْتِعْمَال فَإِنَّهُ يعلم طَهَارَته بِدَلِيل مُوجب لَهُ
كَمَا أَن الْمخبر بِنَجَاسَتِهِ يعْتَمد الدَّلِيل فتتحقق
الْمُعَارضَة بَين الْخَبَرَيْنِ
وعَلى هَذَا أثبتنا الْمُعَارضَة فِي حَدِيث نِكَاح مَيْمُونَة
لِأَن الْمخبر بِأَنَّهُ كَانَ محرما اعْتمد دَلِيلا والمخبر
بِأَنَّهُ كَانَ حَلَالا اعْتمد أَيْضا فِي خَبره الدَّلِيل
الْمُوجب لَهُ فَإِن هَيْئَة الْمحرم ظَاهرا يُخَالف هَيْئَة
الْحَلَال فتتحقق الْمُعَارضَة من هَذَا الْوَجْه وَيجب
الْمصير إِلَى طلب التَّرْجِيح من جِهَة إتقان الرَّاوِي لما
تعذر التَّرْجِيح من نفس الْحجَّة فأخذنا بِرِوَايَة ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لِأَنَّهُ روى الْقِصَّة على
وَجههَا وَذَلِكَ دَلِيل إتقانه وَلِأَن يزِيد بن الْأَصَم لَا
يعادله فِي الضَّبْط والاتقان
وَحَدِيث رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب على
أبي الْعَاصِ رجحنا فِيهِ الْمُثبت للنِّكَاح الْجَدِيد لِأَن
من نفى ذَلِك فَهُوَ لم يعْتَمد فِي نَفْيه دَلِيلا مُوجبا
الْعلم بِهِ بل عدم الدَّلِيل للإثبات وَهُوَ مُشَاهدَة
النِّكَاح الْجَدِيد فتبنى رِوَايَته على اسْتِصْحَاب الْحَال
وَهُوَ أَنه عرف النِّكَاح بَينهمَا فِيمَا مضى وَشَاهد ردهَا
عَلَيْهِ فروى أَنه ردهَا بِالنِّكَاحِ الأول
وَفِي حَدِيث بَرِيرَة رجحنا الْخَبَر الْمُثبت لحرية الزَّوْج
عِنْد عتقهَا لِأَن من يروي أَنه كَانَ عبدا فَهُوَ لم يعْتَمد
فِي خَبره دَلِيلا مُوجبا لنفي الْحُرِّيَّة وَلَكِن بنى خَبره
على اسْتِصْحَاب الْحَال لعدم علمه بِدَلِيل الْمُثبت للحرية
فَلهَذَا رجحنا الْمُثبت
وَمن هَذَا النَّوْع رِوَايَة أنس رَضِي الله عَنهُ أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَارنا فِي حجَّة الْوَدَاع
وَرِوَايَة جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ مُفردا
بِالْحَجِّ فَإنَّا رجحنا خبر الْمُثبت للقران لِأَن من روى
الْإِفْرَاد
(2/23)
فَهُوَ مَا اعْتمد دَلِيلا مُوجبا نفى
الْقرَان وَلكنه عدم الدَّلِيل الْمُوجب للْعلم بِهِ وَهُوَ
أَنه لم يسمع تلبيته بِالْعُمْرَةِ وَسمع التَّلْبِيَة
بِالْحَجِّ وَرُوِيَ أَنه كَانَ مُفردا
وَمن ذَلِك حَدِيث بِلَال رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام لم يصل فِي الْكَعْبَة مَعَ حَدِيث ابْن
عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه صلى فِيهَا عَام الْفَتْح
فَإِنَّهُم اتَّفقُوا أَنه مَا دَخلهَا يَوْمئِذٍ إِلَّا مرّة
وَمن أخبر أَنه لم يصل فِيهَا (فَإِنَّهُ) لم يعْتَمد دَلِيلا
مُوجبا للْعلم بِهِ وَلكنه لم يعاين صلَاته فِيهَا وَالْآخر
عاين ذَلِك فَكَانَ الْمُثبت أولى من النَّافِي
وَمن أهل النّظر من يَقُول يتَخَلَّص عَن التَّعَارُض
بِكَثْرَة عدد الروَاة حَتَّى إِذا كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ
يرويهِ وَاحِد وَالْآخر يرويهِ اثْنَان فَالَّذِي يرويهِ
اثْنَان أولى بِالْعَمَلِ بِهِ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَسْأَلَة كتاب الِاسْتِحْسَان فِي الْخَبَر
بِطَهَارَة المَاء ونجاسته وَحل الطَّعَام وحرمته أَنه إِذا
كَانَ الْمخبر بِأحد الْأَمريْنِ اثْنَيْنِ وبالآخر وَاحِدًا
فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِخَبَر الِاثْنَيْنِ وَهَذَا لِأَن خبر
الْمثنى حجَّة تَامَّة فِي الشَّهَادَات بِخِلَاف خبر
الْوَاحِد فطمأنينة الْقلب إِلَى خبر الْمثنى أَكثر وَقد
اشْتهر عَن الصَّحَابَة الِاعْتِمَاد على خبر الْمثنى دون
الْوَاحِد على مَا سبق بَيَانه
وَكَذَلِكَ يتَخَلَّص عَن التَّعَارُض أَيْضا بحريّة الرَّاوِي
اسْتِدْلَالا بِمَا ذكر فِي الِاسْتِحْسَان أَنه مَتى كَانَ
الْمخبر بِأحد الْأَمريْنِ حُرَّيْنِ وبالآخر عَبْدَيْنِ
فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِخَبَر الحرين
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَصح عِنْدِي أَن هَذَا
النَّوْع من التَّرْجِيح قَول مُحَمَّد رَحمَه الله خَاصَّة
فقد ذكر نَظِيره فِي السّير الْكَبِير قَالَ أهل الْعلم بالسير
ثَلَاث فرق أهل الشَّام وَأهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق فَكل مَا
اتّفق فِيهِ الْفَرِيقَانِ (مِنْهُم) على قَول أخذت بذلك
وَتركت مَا انْفَرد بِهِ فريق وَاحِد
وَهَذَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْقَائِلين صَار إِلَيْهِ
مُحَمَّد وأبى ذَلِك أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
وَالصَّحِيح مَا قَالَا فَإِن كَثْرَة الْعدَد لَا يكون دَلِيل
قُوَّة الْحجَّة قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا
يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت
بمؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {مَا يعلمهُمْ إِلَّا قَلِيل}
وَقَالَ تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} ثمَّ السّلف من
الصَّحَابَة وَغَيرهم لم يرجحوا بِكَثْرَة الْعدَد فِي بَاب
الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فَالْقَوْل بِهِ يكون
(2/24)
قولا بِخِلَاف إِجْمَاعهم وَلما اتفقنا أَن
خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل كَخَبَر الْمثنى فَيتَحَقَّق
التَّعَارُض بَين الْخَبَرَيْنِ بِنَاء على هَذَا الْإِجْمَاع
أَرَأَيْت لَو وصل إِلَى السَّامع أحد الْخَبَرَيْنِ بطرق
وَالْآخر بطرِيق وَاحِد أَكَانَ يرجح مَا وصل إِلَيْهِ بطرق
إِذا كَانَ رَاوِي الأَصْل وَاحِدًا فَهَذَا لَا يَقُول بِهِ
أحد وَلَا يُؤْخَذ حكم رِوَايَة الْأَخْبَار من حكم
الشَّهَادَات أَلا ترى أَن فِي رِوَايَة الْأَخْبَار يَقع
التَّعَارُض بَين خبر الْمَرْأَة وَخبر الرجل وَبَين خبر
الْمَحْدُود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة وَخبر غير
الْمَحْدُود وَبَين خبر الْمثنى وَخبر الْأَرْبَعَة وَإِن
كَانَ يظْهر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الشَّهَادَات حَتَّى
يثبت بِشَهَادَة الْأَرْبَعَة مَا لَا يثبت بِشَهَادَة
الِاثْنَيْنِ وَهُوَ الزِّنَا
وَكَذَلِكَ طمأنينة الْقلب إِلَى قَول الْأَرْبَعَة أَكثر
وَمَعَ ذَلِك تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بَين شَهَادَة
الِاثْنَيْنِ وَشَهَادَة الْأَرْبَعَة فِي الْأَمْوَال ليعلم
أَنه لَا يُؤْخَذ حكم الْحَادِثَة من حَادِثَة أُخْرَى مَا لم
تعلم الْمُسَاوَاة بَينهمَا من كل وَجه
وَإِنَّمَا رجح خبر الْمثنى على خبر الْوَاحِد وَخبر الحرين
على خبر الْعَبْدَيْنِ فِي مَسْأَلَة الِاسْتِحْسَان لظُهُور
التَّرْجِيح فِي الْعَمَل بِهِ فِيمَا يرجع إِلَى حُقُوق
الْعباد فَأَما فِي أَحْكَام الشَّرْع فخبر الْوَاحِد وَخبر
الْمثنى فِي وجوب الْعَمَل بِهِ سَوَاء
وَمن هَذِه الْجُمْلَة إِذا كَانَ فِي أحد الْخَبَرَيْنِ
زِيَادَة لم تذكر تِلْكَ الزِّيَادَة فِي الْخَبَر الثَّانِي
فمذهبنا فِيهِ أَنه إِذا كَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا يُؤْخَذ
بالمثبت للزِّيَادَة وَيجْعَل حذف تِلْكَ الزِّيَادَة فِي بعض
الطّرق محالا على قلَّة ضبط الرَّاوِي وغفلته عَن السماع
وَذَلِكَ مثل مَا يرويهِ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ إِذا اخْتلف
الْمُتَبَايعَانِ والسلعة قَائِمَة بِعَينهَا تحَالفا وترادا
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لم تذكر هَذِه الزِّيَادَة فأخذنا
بِمَا فِيهِ إِثْبَات هَذِه الزِّيَادَة وَقُلْنَا لَا يجْرِي
التَّحَالُف إِلَّا عِنْد قيام السّلْعَة
وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يَقُولَانِ نعمل بِالْحَدِيثين لِأَن
الْعَمَل بهما مُمكن فَلَا نشتغل بترجيح أَحدهمَا فِي الْعَمَل
بِهِ
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن أصل
الْخَبَر وَاحِد وَذَلِكَ مُتَيَقن بِهِ وكونهما خبرين
مُحْتَمل وبالاحتمال لَا يثبت الْخَبَر وَإِذا كَانَ الْخَبَر
وَاحِدًا فَحذف الزِّيَادَة من بعض الروَاة لَيْسَ لَهُ طَرِيق
سوى مَا قُلْنَا
وَالثَّانِي أَنا لَو جعلناهما خبرين لم يكن للزِّيَادَة
الْمَذْكُورَة فِي أَحدهمَا فَائِدَة فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان
الحكم لِأَن الحكم وَاحِد فِي الْخَبَرَيْنِ وَلَا يجوز حمل
كَلَام رَسُول الله على مَا فِيهِ إخلاؤه عَن الْفَائِدَة
فَأَما إِذا اخْتلف الرَّاوِي فقد علم أَنَّهُمَا خبران وَأَن
النَّبِي
(2/25)
عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي
وَقت آخر فَيجب الْعَمَل بهما عِنْد الْإِمْكَان كَمَا هُوَ
مَذْهَبنَا فِي أَن الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد فِي حكمين
وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
نهى عَن بيع الطَّعَام قبل الْقَبْض وَقَالَ لعتاب بن أسيد
رَضِي الله عَنهُ انههم عَن أَرْبَعَة عَن بيع مَا لم يقبضوا
فَإنَّا نعمل بِالْحَدِيثين وَلَا نجْعَل الْمُطلق مِنْهُمَا
مَحْمُولا على الْمُقَيد بِالطَّعَامِ حَتَّى لَا يجوز بيع
سَائِر الْعرُوض قبل الْقَبْض كَمَا لَا يجوز بيع الطَّعَام
وَأهل الحَدِيث يجْعَلُونَ الروَاة فِي هَذَا طَبَقَات
فَيَقُولُونَ إِذا كَانَت الزِّيَادَة يَرْوِيهَا من هُوَ فِي
الطَّبَقَة الْعليا يجب الْأَخْذ بذلك وَإِن كَانَت
الزِّيَادَة إِنَّمَا يَرْوِيهَا من لَيْسَ فِي الطَّبَقَة
الْعليا ويروي الْخَبَر بِدُونِ الزِّيَادَة من هُوَ فِي
الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت التَّعَارُض بَينهمَا
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي خبر يرْوى مَوْقُوفا على بعض
الصَّحَابَة بطرِيق وَمَرْفُوعًا إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق فَإِن كَانَ يرويهِ عَن رَسُول الله
عَلَيْهِ السَّلَام من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ
يثبت مَرْفُوعا وَإِن كَانَ إِنَّمَا يرويهِ عَن رَسُول الله
عَلَيْهِ السَّلَام من لَيْسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا
وَيَرْوِيه مَوْقُوفا من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا
فَإِنَّهُ يثبت مَوْقُوفا
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمسند والمرسل وَلَكِن الْفُقَهَاء
لم يَأْخُذُوا بِهَذَا القَوْل لِأَن التَّرْجِيح عِنْد أهل
الْفِقْه يكون بِالْحجَّةِ لَا بأعيان الرِّجَال وَالله أعلم |