أصول السرخسي

بَاب الْبَيَان
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اخْتلفت عبارَة أَصْحَابنَا فِي معنى الْبَيَان
قَالَ أَكْثَرهم هُوَ إِظْهَار الْمَعْنى وإيضاحه للمخاطب مُنْفَصِلا عَمَّا تستر بِهِ
وَقَالَ بَعضهم هُوَ ظُهُور المُرَاد للمخاطب وَالْعلم بِالْأَمر الَّذِي حصل لَهُ عِنْد الْخطاب وَهُوَ اخْتِيَار أَصْحَاب الشَّافِعِي لِأَن الرجل يَقُول بَان لي هَذَا الْمَعْنى بَيَانا أَي ظهر وَبَانَتْ الْمَرْأَة من زَوجهَا بينونة أَي حرمت وَبَان الحبيب بَينا أَي بعد وكل ذَلِك عبارَة عَن الِانْفِصَال والظهور وَلكنهَا بمعان مُخْتَلفَة فاختلفت المصادر بحسبها
وَالأَصَح هُوَ الأول أَن المُرَاد هُوَ الْإِظْهَار فَإِن أحدا من الْعَرَب لَا يفهم من إِطْلَاق لفظ الْبَيَان الْعلم الْوَاقِع للمبين لَهُ وَلَكِن إِذا قَالَ الرجل بَين فلَان كَذَا بَيَانا وَاضحا فَإِنَّمَا يفهم

(2/26)


مِنْهُ أَنه أظهره إِظْهَارًا لَا يبْقى مَعَه شكّ وَإِذا قيل فلَان ذُو بَيَان فَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ الْإِظْهَار أَيْضا وَقَول رَسُول الله إِن من الْبَيَان لسحرا يشْهد لما قُلْنَا إِنَّه عبارَة عَن الْإِظْهَار وَقَالَ تَعَالَى {هَذَا بَيَان للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى {علمه الْبَيَان} وَالْمرَاد الْإِظْهَار وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بِالْبَيَانِ للنَّاس قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَقد علمنَا أَنه بَين للْكُلّ
وَمن وَقع لَهُ الْعلم ببيانه أقرّ وَمن لم يَقع لَهُ الْعلم أصر
وَلَو كَانَ الْبَيَان عبارَة عَن الْعلم الْوَاقِع للمبين لما كَانَ هُوَ متمما للْبَيَان فِي حق النَّاس كلهم
وَقَول من يَقُول من أَصْحَابنَا حد الْبَيَان هُوَ الْإِخْرَاج عَن حد الْإِشْكَال إِلَى التجلي لَيْسَ بِقَوي فَإِن هَذَا الْحَد أشكل من الْبَيَان وَالْمَقْصُود بِذكر الْحَد زِيَادَة كشف الشَّيْء لَا زِيَادَة الْإِشْكَال فِيهِ ثمَّ هَذَا الْحَد لبَيَان الْمُجْمل خَاصَّة وَالْبَيَان يكون فِيهِ وَفِي غَيره
ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد الْفُقَهَاء وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين أَن الْبَيَان يحصل بِالْفِعْلِ من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا يحصل بالْقَوْل
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يكون الْبَيَان إِلَّا بالْقَوْل بِنَاء على أصلهم أَن بَيَان الْمُجْمل لَا يكون إِلَّا مُتَّصِلا بِهِ وَالْفِعْل لَا يكون مُتَّصِلا بالْقَوْل
فَأَما عندنَا بَيَان الْمُجْمل قد يكون مُتَّصِلا بِهِ وَقد يكون مُنْفَصِلا عَنهُ على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ الدَّلِيل على أَن الْبَيَان قد يحصل بِالْفِعْلِ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بَين مَوَاقِيت الصَّلَاة للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْفِعْلِ حَيْثُ أمه فِي الْبَيْت فِي الْيَوْمَيْنِ وَلما سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة قَالَ للسَّائِل صل مَعنا ثمَّ صلى فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَبين لَهُ الْمَوَاقِيت بِالْفِعْلِ وَقَالَ لأَصْحَابه خُذُوا عني مَنَاسِككُم وَقَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَفِي هَذَا تنصيص على أَن فعله مُبين لَهُم وَلِأَن الْبَيَان عبارَة عَن إِظْهَار المُرَاد فَرُبمَا يكون ذَلِك بِالْفِعْلِ أبلغ مِنْهُ بالْقَوْل أَلا ترى أَنه أَمر أَصْحَابه بِالْحلقِ عَام الْحُدَيْبِيَة فَلم يَفْعَلُوا ثمَّ لما رَأَوْهُ حلق بِنَفسِهِ حَلقُوا فِي الْحَال فَعرفنَا أَن إِظْهَار المُرَاد يحصل بِالْفِعْلِ كَمَا يحصل بالْقَوْل
ثمَّ الْبَيَان على خَمْسَة أوجه بَيَان تَقْرِير وَبَيَان تَفْسِير وَبَيَان تَغْيِير وَبَيَان تَبْدِيل وَبَيَان ضَرُورَة
للخصوص فَيكون الْبَيَان قَاطعا للاحتمال مقررا للْحكم على مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِر وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فصيغة

(2/27)


فَأَما بَيَان التَّقْرِير فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة الَّذِي يحْتَمل الْمجَاز وَالْعَام الْمُحْتَمل الْجمع تعم الْمَلَائِكَة على احْتِمَال أَن يكون المُرَاد بَعضهم وَقَوله تَعَالَى {كلهم أَجْمَعُونَ} بَيَان قَاطع لهَذَا الِاحْتِمَال فَهُوَ بَيَان التَّقْرِير
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} يحْتَمل الْمجَاز لِأَن الْبَرِيد يُسمى طائرا فَإِذا قَالَ يطير بجناحيه بَين أَنه أَرَادَ الْحَقِيقَة
وَهَذَا الْبَيَان صَحِيح مَوْصُولا كَانَ أَو مَفْصُولًا لِأَنَّهُ مُقَرر للْحكم الثَّابِت بِالظَّاهِرِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثمَّ قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاق عَن النِّكَاح أَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر ثمَّ قَالَ نَوَيْت بِهِ الْحُرِّيَّة عَن الرّقّ وَالْملك فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَانا صَحِيحا لِأَنَّهُ تَقْرِير للْحكم الثَّابِت بِظَاهِر الْكَلَام لَا تَغْيِير لَهُ
وَأما بَيَان التَّفْسِير فَهُوَ بَيَان الْمُجْمل والمشترك فَإِن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ غير مُمكن وَإِنَّمَا يُوقف على المُرَاد للْعَمَل بِهِ بِالْبَيَانِ فَيكون الْبَيَان تَفْسِيرا لَهُ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَقَوله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَنَظِيره من مسَائِل الْفِقْه إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت بَائِن أَو أَنْت عَليّ حرَام فَإِن الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة مُشْتَركَة فَإِذا قَالَ عنيت بِهِ الطَّلَاق كَانَ هَذَا بَيَان تَفْسِير ثمَّ بعد التَّفْسِير الْعَمَل بِأَصْل الْكَلَام وَلِهَذَا أثبتنا بِهِ الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَفِي الْبَلَد نقود مُخْتَلفَة ثمَّ قَالَ عنيت بِهِ نقد كَذَا فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَان تَفْسِير
وَسَائِر الْكِنَايَات فِي الطَّلَاق وَالْعتاق على هَذَا أَيْضا
ثمَّ هَذَا النَّوْع يَصح عِنْد الْفُقَهَاء مَوْصُولا ومفصولا وَتَأْخِير الْبَيَان عَن أصل الْكَلَام لَا يُخرجهُ من أَن يكون بَيَانا وعَلى قَول بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يجوز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل والمشترك عَن أصل الْكَلَام لِأَن بِدُونِ الْبَيَان لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ وَالْمَقْصُود بِالْخِطَابِ فهمه وَالْعَمَل بِهِ فَإِذا كَانَ ذَلِك لَا يحصل بِدُونِ الْبَيَان فَلَو جَوَّزنَا

(2/28)


تَأْخِير الْبَيَان أدّى إِلَى تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع يُوضحهُ أَنه لَا يحسن خطاب الْعَرَبِيّ بلغَة التركية وَلَا خطاب التركي بلغَة الْعَرَب إِذا علم أَنه لَا يفهم ذَلِك إِلَّا أَن يكون هُنَاكَ ترجمان يبين لَهُ وَإِنَّمَا لَا يحسن ذَلِك لِأَن الْمَقْصُود بِالْخِطَابِ إفهام السَّامع وَهُوَ لَا يفهم فَكَذَلِك الْخطاب بِلَفْظ مُجمل بِدُونِ بَيَان يقْتَرن بِهِ لَا يكون حسنا شرعا لِأَن الْمُخَاطب لَا يفهم المُرَاد بِهِ وَإِنَّمَا يَصح مَعَ الْبَيَان لِأَن الْمُخَاطب يفهم المُرَاد بِهِ
وَلَكنَّا نقُول الْخطاب بالمجمل قبل الْبَيَان مُفِيد وَهُوَ الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهِ مَعَ انْتِظَار الْبَيَان للْعَمَل بِهِ وَإِنَّمَا يكون هَذَا تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع أَن لَو أَوجَبْنَا الْعَمَل بِهِ قبل الْبَيَان وَلَا نوجب ذَلِك وَلَكِن الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِيهِ أهم من الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ حسنا صَحِيحا من هَذَا الْوَجْه أَلا ترى أَن الِابْتِلَاء بالمتشابه كَانَ باعتقاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهِ من غير انْتِظَار الْبَيَان فَلِأَن يكون الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِي الْمُجْمل مَعَ انْتِظَار الْبَيَان صَحِيحا كَانَ أولى
ومخاطبة الْعَرَبِيّ بلغ التركية تَخْلُو عَن هَذِه الْفَائِدَة وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ معلمه فَإِنَّهُ كَانَ مبتلى باعتقاد الحقية فِيمَا فعله معلمه مَعَ انْتِظَار الْبَيَان وَمَا كَانَ سُؤَاله فِي كل مرّة إِلَّا استعجالا مِنْهُ للْبَيَان الَّذِي كَانَ منتظرا لَهُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَمَا بَينه لَهُ مَا أخبر الله عَن معلمه {ذَلِك تَأْوِيل مَا لم تسطع عَلَيْهِ صبرا}
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز تَأْخِير دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعُمُوم فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله دَلِيل الْخُصُوص إِذا اقْترن بِالْعُمُومِ يكون بَيَانا وَإِذا تَأَخّر لم يكن بَيَانا بل يكون نسخا
وَقَالَ الشَّافِعِي يكون بَيَانا سَوَاء كَانَ مُتَّصِلا بِالْعُمُومِ أَو مُنْفَصِلا عَنهُ
وَإِنَّمَا يبتنى هَذَا الْخلاف على الأَصْل الَّذِي قُلْنَا إِن مُطلق الْعَام عندنَا يُوجب الحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا كالخاص وَعند الشَّافِعِي يُوجب الحكم على احْتِمَال الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي ثَبت خصوصه بِالدَّلِيلِ فَيكون دَلِيل الْخُصُوص على مذْهبه فيهمَا بَيَان التَّفْسِير لَا بَيَان التَّغْيِير فَيصح مَوْصُولا ومفصولا
وَعِنْدنَا لما

(2/29)


كَانَ الْعَام الْمُطلق مُوجبا للْحكم قطعا فدليل الْخُصُوص فِيهِ يكون مغيرا لهَذَا الحكم فَإِن الْعَام الَّذِي دخله خُصُوص لَا يكون حكمه عندنَا مثل حكم الْعَام الَّذِي لم يدْخلهُ خُصُوص وَبَيَان التَّغْيِير إِنَّمَا يكون مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا على مَا يَأْتِيك بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِذا أوصى لرجل بِخَاتم وَلآخر بفصه فَإِن كَانَ فِي كَلَام مَوْصُول فَهُوَ بَيَان وَتَكون الْحلقَة لأَحَدهمَا والفص للْآخر وَإِن كَانَ فِي كَلَام مفصول فَإِنَّهُ لَا يكون بَيَانا وَلَكِن يكون إِيجَاب الفص للْآخر ابْتِدَاء حَتَّى يَقع التَّعَارُض بَينهمَا فِي الفص فَتكون الْحلقَة للْمُوصى لَهُ بالخاتم والفص بَينهمَا نِصْفَانِ
وَأما بَيَان الْمُجْمل فَلَيْسَ بِهَذِهِ الصّفة بل هُوَ بَيَان مَحْض لوُجُود شَرطه وَهُوَ كَون اللَّفْظ مُحْتملا غير مُوجب للْعَمَل بِهِ بِنَفسِهِ وَاحْتِمَال كَون الْبَيَان الملحق بِهِ تَفْسِيرا وإعلاما لما هُوَ المُرَاد بِهِ فَيكون بَيَانا من كل وَجه وَلَا يكون مُعَارضا فَيصح مَوْصُولا ومفصولا وَدَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام لَيْسَ بِبَيَان من كل وَجه بل هُوَ بَيَان من حَيْثُ احْتِمَال صِيغَة الْعُمُوم للخصوص وَهُوَ ابْتِدَاء دَلِيل معَارض من حَيْثُ كَون الْعَام مُوجبا الْعَمَل بِنَفسِهِ فِيمَا تنَاوله فَيكون بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط فَيصح مَوْصُولا على أَنه بَيَان وَيكون مُعَارضا نَاسِخا للْحكم الأول إِذا كَانَ مَفْصُولًا
وَقد بَينا أَدِلَّة هَذَا الأَصْل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْخلاف وَإِنَّمَا أعدناه هُنَا للْحَاجة إِلَى الْجَواب عَن نُصُوص وَشبه يحْتَج بهَا الْخصم
فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه ثمَّ إِن علينا بَيَانه} وَثمّ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي فقد ضمن الْبَيَان بعد إِلْزَام الِاتِّبَاع وإلزام الِاتِّبَاع إِنَّمَا يكون بِالْعَام دون الْمُجْمل إِذْ المُرَاد بالاتباع الْعَمَل بِهِ فَعرفنَا أَن الْبَيَان الَّذِي هُوَ خُصُوص قد يتَأَخَّر عَن الْعُمُوم
وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} وَعُمُوم اسْم الْأَهْل يتَنَاوَل ابْنه ولأجله كَانَ سُؤال نوح بقوله {إِن ابْني من أَهلِي} ثمَّ بَين الله تَعَالَى لَهُ بقوله تَعَالَى {إِنَّه لَيْسَ من أهلك} وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَعَ ضَيفه الْمُكرمين {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} وَعُمُوم هَذَا اللَّفْظ يتَنَاوَل لوطا وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِن فِيهَا لوطا ثمَّ بينوا لَهُ فَقَالُوا {لننجينه وَأَهله} فَدلَّ أَن دَلِيل الْخُصُوص يجوز أَن ينْفَصل عَن الْعُمُوم
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم}

(2/30)


ثمَّ لما عَارضه ابْن الزبعري بِعِيسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام نزل دَلِيل الْخُصُوص {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قصَّة بني إِسْرَائِيل فَإِنَّهُم أمروا بِذبح بقرة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} ثمَّ لما استوصفوها بَين لَهُم صفتهَا وَكَانَ ذَلِك دَلِيل الْخُصُوص على وَجه الْبَيَان مُنْفَصِلا عَن أصل الْخطاب
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن آيَة الْمَوَارِيث عَامَّة فِي إِيجَاب الْمِيرَاث للأقارب كفَّارًا كَانُوا أَو مُسلمين ثمَّ بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْإِرْث يكون عِنْد الْمُوَافقَة فِي الدّين لَا عِنْد الْمُخَالفَة فَيكون هَذَا تَخْصِيصًا مُنْفَصِلا عَن دَلِيل الْعُمُوم وَقَوله تَعَالَى {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} عَام فِي تَأْخِير الْمِيرَاث عَن الْوَصِيَّة فِي جَمِيع المَال ثمَّ بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْوَصِيَّة تخْتَص بِالثُّلثِ تَخْصِيص مُنْفَصِل عَن دَلِيل الْعُمُوم فَدلَّ على أَن ذَلِك جَائِز وَلَا يخرج بِهِ من أَن يكون بَيَانا وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فَإِنَّهُ عَام تَأَخّر بَيَان خصوصه إِلَى أَن كلم عُثْمَان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا رَسُول الله فِي ذَلِك فَقَالَ إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب كشيء وَاحِد وَقَالَ إِنَّهُم لم يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام
ثمَّ قَالُوا تَأْخِير الْبَيَان فِي الْأَعْيَان مُعْتَبر بِتَأْخِير الْبَيَان فِي الْأَزْمَان وبالاتفاق يجوز أَن يرد لفظ مطلقه يَقْتَضِي عُمُوم الْأَزْمَان ثمَّ يتَأَخَّر عَنهُ بَيَان أَن المُرَاد بعض الْأَزْمَان دون الْبَعْض بالنسخ فَكَذَلِك يجوز أَن يرد لفظ ظَاهره يَقْتَضِي عُمُوم الْأَعْيَان ثمَّ يتَأَخَّر عَنهُ دَلِيل الْخُصُوص الَّذِي يتَبَيَّن بِهِ أَن المُرَاد بعض الْأَعْيَان دون الْبَعْض
وَحجَّتنَا فِيهِ أَن الْخصم يوافقنا بالْقَوْل فِي الْعُمُوم وَبطلَان مَذْهَب من يَقُول بِالْوَقْفِ فِي الْعُمُوم وَقد أوضحنا ذَلِك بِالدَّلِيلِ
ثمَّ من ضَرُورَة القَوْل بِالْعُمُومِ لُزُوم اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهِ وَالْقَوْل بِجَوَاز تَأْخِير دَلِيل الْخُصُوص يُؤَدِّي إِلَى أَن يُقَال يلْزمنَا اعْتِقَاد الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد
وكما يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم عِنْد وجود صِيغَة الْعُمُوم يجوز الْإِخْبَار بِهِ أَيْضا فَيُقَال إِنَّه عَام
وَفِي جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان بِدَلِيل الْخُصُوص يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِجَوَاز الْكَذِب فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة وَذَلِكَ بَاطِل

(2/31)


وَهَذَا بِخِلَاف النّسخ فَإِن الْوَاجِب اعْتِقَاد الحقية فِي الحكم النَّازِل فَأَما فِي حَيَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا كَانَ يجب اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِي ذَلِك الحكم وَلَا إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ مؤبد لِأَن الْوَحْي كَانَ ينزل سَاعَة فساعة ويتبدل الحكم كَالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَتَحْرِيم شرب الْخمر وَمَا أشبه ذَلِك وَإِنَّمَا اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِيهِ وَإِطْلَاق القَوْل بِهِ بعد رَسُول الله لقِيَام الدَّلِيل على أَن شَرِيعَته لَا تنسخ بعده بشريعة أُخْرَى
فَأَما قَوْله تَعَالَى {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} فَنَقُول بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ المُرَاد جَمِيع مَا فِي الْقُرْآن فَإِن الْبَيَان من الْقُرْآن أَيْضا فَيُؤَدِّي هَذَا القَوْل بِأَن لذَلِك الْبَيَان بَيَانا إِلَى مَا لَا يتناهى وَإِنَّمَا المُرَاد بعض مَا فِي الْقُرْآن وَهُوَ الْمُجْمل الَّذِي يكون بَيَانه تَفْسِيرا لَهُ وَنحن نجوز تَأْخِير الْبَيَان فِي مثله فَأَما فِيمَا يكون مغيرا أَو مبدلا للْحكم إِذا اتَّصل بِهِ فَإِذا تَأَخّر عَنهُ يكون نسخا وَلَا يكون بَيَانا مَحْضا وَدَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام بِهَذِهِ الصّفة
وَنَظِيره المحكمات الَّتِي هن أم الْكتاب فَإِن فِيهَا مَا لَا يحْتَمل النّسخ وَيحْتَمل بَيَان التَّقْرِير كصفات الله جلّ جَلَاله فَكَذَلِك مَا ورد من الْعَام مُطلقًا قُلْنَا إِنَّه يحْتَمل الْبَيَان الَّذِي هُوَ نسخ وَلكنه لَا يحْتَمل الْبَيَان الْمَحْض وَهُوَ مَا يكون تَفْسِيرا لَهُ إِذا كَانَ مُنْفَصِلا عَنهُ
فَأَما قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} قُلْنَا الْبَيَان هُنَا مَوْصُول فَإِنَّهُ قَالَ {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَالْمرَاد مَا سبق من وعد إهلاك الْكفَّار بقوله تَعَالَى {إِنَّهُم مغرقون}
فَإِن قيل فَفِي ذَلِك الْوَعْد نهي لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْكَلَام فيهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا} فَلَو كَانَ قَوْله {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} منصرفا إِلَى ذَلِك لما استجاز نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سُؤال ابْنه بقوله {إِن ابْني من أَهلِي} قُلْنَا إِنَّمَا سَأَلَ لِأَنَّهُ كَانَ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَان وَكَانَ يظنّ فِيهِ أَنه يُؤمن حِين تنزل الْآيَة الْكُبْرَى وامتد رجاؤه لذَلِك إِلَى أَن آيسه الله تَعَالَى من ذَلِك بقوله تَعَالَى {إِنَّه عمل غير صَالح} فَأَعْرض عَنهُ عِنْد ذَلِك وَقَالَ {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} وَنَظِيره اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَبِيهِ (بِنَاء على رَجَاء أَن يُؤمن كَمَا وعد وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ}

(2/32)


ثمَّ قَوْله تَعَالَى {وَأهْلك} مَا تنَاول ابْنه الْكَافِر لِأَن أهل الْمُرْسلين من يتابعهم على دينهم وعَلى هَذَا لفظ الْأَهْل كَانَ مُشْتَركا فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد الْأَهْل من حَيْثُ النّسَب وَاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد الْأَهْل من حَيْثُ الْمُتَابَعَة فِي الدّين فَلهَذَا سَأَلَ الله فَبين الله لَهُ أَن المُرَاد أَهله من حَيْثُ الْمُتَابَعَة فِي الدّين وَأَن ابْنه الْكَافِر لَيْسَ من أَهله وَتَأْخِير الْبَيَان فِي الْمُشْتَرك صَحِيح عندنَا
فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} فالبيان هُنَا مَوْصُول فِي هَذِه الْآيَة بقوله {إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} وَفِي مَوضِع آخر بقوله {إِلَّا آل لوط}
فَإِن قيل فَمَا معنى سُؤال إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الرُّسُل بقوله {إِن فِيهَا لوطا} قُلْنَا فِيهِ مَعْنيانِ أَحدهمَا أَن الْعَذَاب النَّازِل قد يخص الظَّالِمين كَمَا فِي قصَّة أَصْحَاب السبت وَقد يُصِيب الْكل فَيكون عذَابا فِي حق الظَّالِمين ابتلاء فِي حق المطيعين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} فَأَرَادَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يبين لَهُ أَن عَذَاب أهل تِلْكَ الْقرْيَة من أَي الطَّرِيقَيْنِ وَأَن يعلم أَن لوطا عَلَيْهِ السَّلَام هَل ينجو من ذَلِك أم يبتلى بِهِ وَالثَّانِي أَنه علم يَقِينا أَن لوطا لَيْسَ من المهلكين مَعَهم وَلكنه خصّه فِي سُؤَاله لِيَزْدَادَ طمأنينة وليكون فِيهِ زِيَادَة تَخْصِيص للوط
وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} وَقد كَانَ عَالما متيقنا بإحياء الْمَوْتَى وَلَكِن سَأَلَهُ لينضم العيان إِلَى مَا كَانَ لَهُ من علم الْيَقِين فَيَزْدَاد بِهِ طمأنينة قلبه
فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} فقد قيل إِن هَذَا الْخطاب كَانَ لأهل مَكَّة وهم كَانُوا عَبدة الْأَوْثَان وَمَا كَانَ فيهم من يعبد عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْمَلَائِكَة فَلم يكن أصل الْكَلَام متناولا لَهُم
وَالْأَوْجه أَن يَقُول إِن فِي صِيغَة الْكَلَام مَا هُوَ دَلِيل ظَاهر على أَنه غير متناول لَهُم فَإِن كلمة مَا يعبر بهَا عَن ذَات مَا لَا يعقل وَإِنَّمَا يعبر عَن ذَات من يعقل بِكَلِمَة من إِلَّا أَن الْقَوْم كَانُوا متعنتين يجادلون بِالْبَاطِلِ بعد مَا تبين لَهُم فحين عارضوا بِعِيسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِ السَّلَام على رَسُول لمن عارضوا بِهِ وَقد كَانُوا أهل اللِّسَان فَأَعْرض عَن جوابهم امتثالا بقوله تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} ثمَّ بَين الله تَعَالَى تعنتهم الله عَلَيْهِ السَّلَام تعنتهم فِي ذَلِك وَأَنَّهُمْ يعلمُونَ أَن الْكَلَام غير

(2/33)


متناول فِيمَا عارضوا بِهِ بقوله {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَمثل هَذَا الْكَلَام يكون ابْتِدَاء كَلَام هُوَ حسن وَإِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَيْهِ فِي حق من لَا يتعنت وَإِنَّمَا كلامنا فِيمَا يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ من الْبَيَان ليوقف بِهِ على مَا هُوَ المُرَاد
وَالَّذِي يُوضح تعنت الْقَوْم أَنهم كَانُوا يسمونه مرّة ساحرا وَمرَّة مَجْنُونا وَبَين الوصفين تنَاقض بَين فالساحر من يكون حاذقا فِي عمله حَتَّى يلبس على الْعُقَلَاء وَالْمَجْنُون من لَا يكون مهتديا إِلَى الْأَعْمَال والأقوال على مَا عَلَيْهِ أصل الْوَضع وَلَكنهُمْ لشدَّة الْحَسَد كَانُوا يتعنتون وينسبونه إِلَى مَا يَدْعُو إِلَى تنفير النَّاس عَنهُ من غير تَأمل فِي التَّحَرُّز عَن التَّنَاقُض واللغو
فَأَما قصَّة بقرة بني إِسْرَائِيل فَنَقُول كَانَ ذَلِك بَيَانا بِالزِّيَادَةِ على النَّص وَهُوَ يعدل النّسخ عندنَا والنسخ إِنَّمَا يكون مُتَأَخِّرًا عَن أصل الْخطاب وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ لَو أَنهم عَمدُوا إِلَى أَي بقرة كَانَت فذبحوها لأجزأت عَنْهُم وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم
فَدلَّ أَن الْأَمر الأول قد كَانَ فِيهِ تَخْفيف وَأَنه قد انتسخ ذَلِك بِأَمْر فِيهِ تَشْدِيد عَلَيْهِم
فَأَما قَوْله {وَلِذِي الْقُرْبَى} فقد قيل إِنَّه مُشْتَرك يحْتَمل أَن يكون المُرَاد قربى النُّصْرَة وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد قربى الْقَرَابَة فَلهَذَا سَأَلَ عُثْمَان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وَبَين لَهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد قربى النُّصْرَة
أَو نقُول قد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد من يُنَاسِبه إِلَى أقْصَى أَب فَإِن ذَلِك يُوجب دُخُول جَمِيع بني آدم فِيهِ وَلَكِن فِيهِ إِشْكَال أَن المُرَاد من يُنَاسِبه بِأَبِيهِ خَاصَّة أَو بجده أَو أَعلَى من ذَلِك فَبين رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَن المُرَاد من يُنَاسِبه إِلَى هَاشم ثمَّ ألحق بهم بني الْمطلب لانضمامهم إِلَى بني هَاشم فِي الْقيام بنصرته فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام فَلم يكن هَذَا الْبَيَان من تَخْصِيص الْعَام فِي شَيْء بل هَذَا بَيَان المُرَاد فِي الْعَام الَّذِي يتَعَذَّر فِيهِ القَوْل بِالْعُمُومِ وَقد بَينا أَن مثل هَذَا الْعَام فِي حكم الْعَمَل بِهِ كالمجمل كَمَا فِي قَوْله {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَيكون الْبَيَان تَفْسِيرا لَهُ فَلهَذَا صَحَّ مُتَأَخِّرًا
فَأَما تَقْيِيد حكم الْمِيرَاث بالموافقة فِي الدّين

(2/34)


فَهُوَ زِيَادَة على النَّص وَهُوَ يعدل النّسخ عندنَا فَلَا يكون بَيَانا مَحْضا
فَأَما قصر حكم تَنْفِيذ الْوَصِيَّة على الثُّلُث وجوبا قبل الْمِيرَاث فَيحْتَمل أَن السّنة المبينة لَهُ كَانَت قبل نزُول آيَة الْمِيرَاث فَيكون ذَلِك بَيَانا مُقَارنًا لما نزل فِي حَقنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَإِنَّهُ لما سبق علمنَا بِمَا نزل كَانَ من ضَرُورَته أَن يكون مُقَارنًا لَهُ
فَأَما الْبَيَان الْمُتَأَخر فِي الْأَزْمَان فَهُوَ نسخ وَنحن لَا ندعي إِلَّا هَذَا فَإنَّا نقُول إِنَّمَا يكون دَلِيل الْخُصُوص بَيَانا مَحْضا إِذا كَانَ مُتَّصِلا بِالْعَام فَأَما إِذا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنهُ يكون نسخا
فَتبين أَن مَا اسْتدلَّ بِهِ من الْحجَّة هُوَ لنا عَلَيْهِ
وسنقرره فِي بَاب النّسخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فصل فِي بَيَان التَّغْيِير والتبديل
أما بَيَان التَّغْيِير هُوَ الِاسْتِثْنَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن الْألف اسْم مَوْضُوع لعدد مَعْلُوم فَمَا يكون دون ذَلِك الْعدَد يكون غَيره لَا محَالة فلولا الِاسْتِثْنَاء لَكَانَ الْعلم يَقع لنا بِأَنَّهُ لبث فيهم ألف سنة وَمَعَ الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَقع الْعلم لنا بِأَنَّهُ لبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما فَيكون هَذَا تغييرا لما كَانَ مُقْتَضى مُطلق تَسْمِيَة الْألف
وَبَيَان التبديل هُوَ التَّعْلِيق بِالشّرطِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} فَإِنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَنه لَا يجب إيتَاء الْأجر بعد العقد إِذا لم يُوجد الْإِرْضَاع وَإِنَّمَا يجب ابْتِدَاء عِنْد وجود الْإِرْضَاع فَيكون تبديلا لحكم وجوب أَدَاء الْبَدَل بِنَفس العقد
وَإِنَّمَا سمينا كل وَاحِد مِنْهُمَا بِهَذَا الِاسْم لما ظهر من أثر كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن حد الْبَيَان غير حد النّسخ لِأَن الْبَيَان إِظْهَار حكم الْحَادِثَة عِنْد وجوده ابْتِدَاء والنسخ رفع للْحكم بعد الثُّبُوت وَعند وجود الشَّرْط يثبت الحكم ابْتِدَاء وَلَكِن بِكَلَام كَانَ سَابِقًا على وجود الشَّرْط تكلما بِهِ إِلَّا أَنه لم يكن مُوجبا حكمه إِلَّا عِنْد وجود الشَّرْط فَكَانَ بَيَانا من حَيْثُ إِن الحكم ثَبت عِنْد وجوده ابْتِدَاء وَلم يكن نسخا صُورَة من حَيْثُ إِن النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته فِي مَحَله فَكَانَ تبديلا من حَيْثُ إِن مُقْتَضى قَوْله لعَبْدِهِ أَنْت حر نزُول الْعتْق

(2/35)


فِي الْمحل واستقراره فِيهِ وَأَن يكون عِلّة للْحكم بِنَفسِهِ وبذكر الشَّرْط يتبدل ذَلِك كُله لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَنه لَيْسَ بعلة تَامَّة للْحكم قبل الشَّرْط وَأَنه لَيْسَ بِإِيجَاب لِلْعِتْقِ بل هُوَ يَمِين وَأَن مَحَله الذِّمَّة حَتَّى لَا يصل إِلَى العَبْد إِلَّا بعد خُرُوجه من أَن يكون يَمِينا بِوُجُود الشَّرْط فَعرفنَا أَنه تَبْدِيل
وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء فَإِن قَوْله لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم مُقْتَضَاهُ وجوب الْعدَد الْمُسَمّى فِي ذمَّته ويتغير ذَلِك بقوله إِلَّا مائَة لَا على طَرِيق أَنه يرْتَفع بعض مَا كَانَ وَاجِبا ليَكُون نسخا فَإِن هَذَا فِي الْإِخْبَار غير مُحْتَمل وَلَكِن على طَرِيق أَنه يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى فَيكون إِخْبَارًا عَن وجوب تِسْعمائَة فَقَط فَعرفنَا أَنه تَغْيِير لمقْتَضى صِيغَة الْكَلَام الأول وَلَيْسَ بتبديل إِنَّمَا التبديل أَن يخرج كَلَامه من أَن يكون إِخْبَارًا بِالْوَاجِبِ أصلا فَلهَذَا سميناه بَيَان التَّغْيِير
ثمَّ لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الْبَيَان أَنه يَصح مَوْصُولا بالْكلَام وَلَا يَصح مَفْصُولًا مِمَّن لَا يملك النّسخ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفيَّة إِعْمَال الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط
فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا مُوجب الِاسْتِثْنَاء أَن الْكَلَام بِهِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَأَنه يَنْعَدِم ثُبُوت الحكم فِي الْمُسْتَثْنى لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِهِ بِمَنْزِلَة الْغَايَة فِيمَا يقبل التَّوْقِيت فَإِنَّهُ يَنْعَدِم الحكم فِيمَا وَرَاء الْغَايَة لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ لَا لِأَن الْغَايَة توجب نفي الحكم فِيمَا وَرَاءه
وعَلى قَول الشَّافِعِي الحكم لَا يثبت فِي الْمُسْتَثْنى لوُجُود الْمعَارض كَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص يمْنَع ثُبُوت حكم الْعَام فِيمَا يتَنَاوَلهُ دَلِيل الْخُصُوص لوُجُود الْمعَارض
وَكَذَلِكَ الشَّرْط عندنَا فَإِنَّهُ يمْنَع ثُبُوت الحكم فِي الْمحل لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة لَهُ حكما مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِهِ لَا لِأَن الشَّرْط مَانع من وجود الْعلَّة وعَلى قَوْله الشَّرْط مَانع للْحكم مَعَ وجود علته
وَالْكَلَام فِي فصل الشَّرْط قد تقدم بَيَانه إِنَّمَا الْكَلَام هُنَا فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِاتِّفَاق أهل اللِّسَان أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فَهَذَا تنصيص على أَن الِاسْتِثْنَاء مُوجب مَا هُوَ ضد مُوجب أصل الْكَلَام على وَجه الْمُعَارضَة لَهُ فِي الْمُسْتَثْنى وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَته}

(2/36)


فالاستثناء الأول كَانَ من المهلكين ثمَّ فهم مِنْهُ الإنجاء وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من المنجين فَإِنَّمَا فهم مِنْهُ أَنهم من المهلكين
وعَلى هَذَا قَالُوا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا دِرْهَمَيْنِ يلْزمه تِسْعَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء الأول من الْإِثْبَات فَكَانَ نفيا وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من النَّفْي فَكَانَ إِثْبَاتًا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} أَي إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم لم يشْربُوا فقد نَص على هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَإِذا ثَبت أَن المُرَاد بالْكلَام هَذَا كَانَ فِي مُوجبه كالمنصوص عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ كلمة الشَّهَادَة فَإِنَّهَا كلمة التَّوْحِيد لاشتمالها على النَّفْي وَالْإِثْبَات وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا جعل كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا الله فَإِنَّهُ هُوَ الْإِلَه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن صِيغَة الْإِيجَاب إِذا صَحَّ من الْمُتَكَلّم فَهُوَ مُفِيد حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وبالاستثناء لَا يَنْتَفِي التَّكَلُّم بِكَلَام صَحِيح فِي جَمِيع مَا تنَاوله أصل الْكَلَام وَلَو لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُوجبا هُوَ معَارض مَانع لما امْتنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج من أَن يكون متكلما بِهِ فِيهِ لِاسْتِحَالَة أَن يكون متكلما بِهِ غير مُتَكَلم فِي كَلَام وَاحِد وَلَكِن يجوز أَن يكون متكلما بِهِ وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لمَانع منع مِنْهُ كَمَا فِي البيع بِشَرْط الْخِيَار فَعرفنَا أَن الطَّرِيق الصَّحِيح فِي الِاسْتِثْنَاء هَذَا وَعَلِيهِ خرج مذْهبه فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف إِن المُرَاد إِلَّا الَّذين تَابُوا فَأُولَئِك هم الصالحون وَتقبل شَهَادَتهم إِلَّا أَنه لَا يتَنَاوَل هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْجلد على وَجه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال بِإِيجَاب حكم فِيهِ سوى الحكم الأول وَهُوَ حَال مَا بعد التَّوْبَة فَيخْتَص بِمَا يحْتَمل التَّوْقِيت دون مَا لَا يحْتَمل التَّوْقِيت وَإِقَامَة الْجلد لَا يحْتَمل ذَلِك فَأَما رد الشَّهَادَة والتفسيق يحْتَمل ذَلِك
وَقَالَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء إِن المُرَاد لَكِن إِن جعلتموه سَوَاء بِسَوَاء فبيعوا أَحدهمَا بِالْآخرِ حَتَّى أثبت بِالْحَدِيثِ حكمين حكم الْحُرْمَة لمُطلق الطَّعَام (بِالطَّعَامِ) فأثبته فِي الْقَلِيل وَالْكثير وَحكم الْحل بِوُجُود الْمُسَاوَاة كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكثير الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة
وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون}

(2/37)


فِي أَن الثَّابِت بِهِ حكمان حكم بِنصْف الْمَفْرُوض بِالطَّلَاق فَيكون عَاما فِيمَن يَصح مِنْهُ الْعَفو وَمن لَا يَصح الْعَفو مِنْهُ نَحْو الصَّغِيرَة والمجنونة وَحكم سُقُوط الْكل بِالْعَفو كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكبيرة الْعَاقِلَة الَّتِي يَصح مِنْهَا الْعَفو
وعَلى هَذَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُ يلْزمه الْألف إِلَّا قدر قيمَة الثَّوْب لِأَن مُوجب الِاسْتِثْنَاء نفي الحكم فِي الْمُسْتَثْنى بِدَلِيل الْمعَارض وَالدَّلِيل الْمعَارض يجب الْعَمَل بِهِ بِحَسب الْإِمْكَان والإمكان هُنَا أَن يَجْعَل مُوجبه نفي مِقْدَار قيمَة ثوب لَا نفي عين الثَّوْب وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِيمَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا كرّ حِنْطَة إِنَّه ينقص من الْألف قدر قيمَة كرّ حِنْطَة وَإِن الِاسْتِثْنَاء يصحح بِحَسب الْإِمْكَان على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا بِخِلَاف مَا يَقُوله مُحَمَّد رَحمَه الله إِنَّه لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء
قَالَ وَلَو كَانَ الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى من الْوَجْه الَّذِي قُلْتُمْ لَكَانَ يلْزمه الْألف هُنَا كَامِلا لِأَن مَعَ وجوب الْألف عَلَيْهِ نَحن نعلم أَنه لَا كرّ عَلَيْهِ فَكيف يَجْعَل هَذَا عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَالْكَلَام لم يتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا فَظهر أَن الطَّرِيق فِيهِ مَا قُلْنَا
وَحجَّتنَا فِي إبِْطَال طَريقَة الْخصم الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فِيمَا هُوَ خبر نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم}
{فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن دَلِيل الْمُعَارضَة فِي الحكم إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْإِيجَاب دون الْخَبَر لِأَن ذَلِك يُوهم الْكَذِب بِاعْتِبَار صدر الْكَلَام وَمَعَ بَقَاء أصل الْكَلَام للْحكم لَا يتَصَوَّر امْتنَاع الحكم فِيهِ بمانع فَلَو كَانَ الطَّرِيق مَا قَالَه الْخصم لاختص الِاسْتِثْنَاء بِالْإِيجَابِ كدليل الْخُصُوص وَدَلِيل الْخُصُوص يخْتَص بِالْإِيجَابِ
وَالثَّانِي أَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ المستنثى بعض مَا تنَاوله الْكَلَام
وَلَا يَصح إِذا كَانَ جَمِيع مَا تنَاوله الْكَلَام وَدَلِيل الْخُصُوص الَّذِي هُوَ رفع للْحكم كالنسخ كَمَا يعْمل فِي الْبَعْض

(2/38)


يعْمل فِي الْكل فَعرفنَا أَنه لَيْسَ الطَّرِيق فِي الِاسْتِثْنَاء مَا ذهب إِلَيْهِ وَلَكِن الطَّرِيق فِيهِ أَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى حَتَّى إِذا كَانَ يتَوَهَّم بعد الِاسْتِثْنَاء بَقَاء شَيْء دون الْخَبَر يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ صَحَّ وَإِن لم يبْق من الحكم شَيْء
وَبَيَان هَذَا أَنه لَو قَالَ عَبِيدِي أَحْرَار إِلَّا عَبِيدِي لم يَصح الِاسْتِثْنَاء وَلَو قَالَ إِلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ سواهُم صَحَّ الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ يتَوَهَّم بَقَاء شَيْء وَرَاء الْمُسْتَثْنى يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ هُنَا وَلَا توهم لمثله فِي الأول وَكَذَلِكَ الطَّلَاق على هَذَا
وَلَا يجوز أَن يُقَال إِن اسْتثِْنَاء الْكل إِنَّمَا لَا يَصح لِأَنَّهُ رُجُوع فَإِن فِيمَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل أَيْضا حَتَّى إِذا قَالَ أوصيت لفُلَان بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث مَالِي كَانَ الِاسْتِثْنَاء بَاطِلا وَالرُّجُوع عَن الْوَصِيَّة يَصح وَإِنَّمَا بَطل الِاسْتِثْنَاء هُنَا لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم وَرَاء الْمُسْتَثْنى شَيْء يكون الْكَلَام عبارَة عَنهُ فَعرفنَا أَنه تصرف فِي الْكَلَام لَا فِي الحكم وَأَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بأطول الطَّرِيقَيْنِ تَارَة وأقصرهما تَارَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الدَّلِيل الْمعَارض يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَالِاسْتِثْنَاء لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ مَا لم يسْبق صدر الْكَلَام لَا يتَحَقَّق الِاسْتِثْنَاء مُفِيدا شَيْئا بِمَنْزِلَة الْغَايَة الَّتِي لَا تستقل بِنَفسِهَا
فَأَما دَلِيل الْخُصُوص يصير مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ وَإِن لم يسْبقهُ الْكَلَام وَيكون مُفِيدا لحكمه
ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا أَن الِاسْتِثْنَاء يبين أَن صدر الْكَلَام لم يتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا فَإِنَّهُ تصرف فِي الْكَلَام كَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص تصرف فِي حكم الْكَلَام ثمَّ يتَبَيَّن بِدَلِيل الْخُصُوص أَن الْعَام لم يكن مُوجبا الحكم فِي مَوضِع الْخُصُوص فَكَذَلِك بِالِاسْتِثْنَاءِ يتَبَيَّن أَن أصل الْكَلَام لم يكن متناولا للمستثنى
وَالدَّلِيل على تَصْحِيح هَذِه الْقَاعِدَة قَوْله تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن مَعْنَاهُ لبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما لِأَن الْألف اسْم لعدد مَعْلُوم لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال مَا دونه بِوَجْه فَلَو لم يَجْعَل أصل الْكَلَام هَكَذَا لم يُمكن تَصْحِيح ذكر الْألف بِوَجْه لِأَن اسْم الْألف لَا ينْطَلق على تِسْعمائَة وَخمسين أصلا وَإِذا قَالَ الرجل لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا مائَة فَإِنَّهُ يَجْعَل كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَليّ تِسْعمائَة فَإِن مَعَ بَقَاء صدر الْكَلَام على حَاله وَهُوَ الْألف لَا يُمكن إِيجَاب

(2/39)


تِسْعمائَة عَلَيْهِ ابْتِدَاء لِأَن الْقدر الَّذِي يجب حكم صدر الْكَلَام وَإِذا لم يكن فِي صدر الْكَلَام احْتِمَال هَذَا الْمِقْدَار لَا يُمكن إِيجَابه حَقِيقَة فَعرفنَا بِهِ أَنه يصير صدر الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَهُوَ تِسْعمائَة وَكَانَ لهَذَا الْعدَد عبارتان الأقصر وَهُوَ تِسْعمائَة والأطول هُوَ الْألف إِلَّا مائَة
وَهَذَا معنى قَول أهل اللُّغَة إِن الِاسْتِثْنَاء اسْتِخْرَاج يَعْنِي اسْتِخْرَاج بعض الْكَلَام على أَن يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى أَلا ترى أَن بعد دَلِيل الْخُصُوص الحكم الثَّابِت بِالْعَام مَا يتَنَاوَلهُ لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة حَتَّى إِذا كَانَ الْعَام بِعِبَارَة الْفَرد يجوز فِيهِ الْخُصُوص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا وَاحِد وَإِذا كَانَ بِلَفْظ الْجمع يجوز فِيهِ الْخُصُوص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَة فَإِن أدنى مَا تنَاوله اسْم الْجمع ثَلَاثَة وَإِذا كَانَ الْبَاقِي دون ذَلِك كَانَ رفعا للْحكم بطرِيق النّسخ
ثمَّ كَمَا يجوز أَن يكون الْكَلَام مُعْتَبرا فِي الحكم وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم بِهِ لمَانع فَكَذَلِك يجوز أَن تبقى صُورَة الْكَلَام وَلَا يكون مُعْتَبرا فِي حق الحكم أصلا كَطَلَاق الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَإِذا جعلنَا طَرِيق الِاسْتِثْنَاء مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ بَقِي صُورَة التَّكَلُّم فِي الْمُسْتَثْنى غير مُوجب بِحكمِهِ وَذَلِكَ جَائِز وَإِذا جعلنَا الطَّرِيق مَا قَالَه الْخصم احتجنا إِلَى أَن نثبت بالْكلَام مَا لَيْسَ من محتملاته وَذَلِكَ لَا يجوز فَعرفنَا أَن انعدام وجوب الْمِائَة عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة لَا لمعارض يمْنَع الْوُجُوب بعد وجود الْعلَّة الْمُوجبَة وَكَذَلِكَ فِي التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِن امْتنَاع ثُبُوت الحكم فِي الْمحل لِانْعِدَامِ علته بطرِيق أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لما منع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَصُورَة التَّكَلُّم بِدُونِ الْمحل لَا يكون عِلّة للْإِيجَاب فانعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة فِي الْفَصْلَيْنِ لَا لمَانع كَمَا توهمه الْخصم إِلَّا أَن الْوُصُول إِلَى الْمحل فِي التَّعْلِيق متوهم لوُجُود الشَّرْط فَلم يبطل الْكَلَام فِي حق الحكم أصلا وَلَكِن نجعله تَصرفا آخر وَهُوَ الْيَمين على أَنه مَتى وصل إِلَى الْمحل وَلم يبْق يَمِينا كَانَ إِيجَابا فسميناه بَيَان التبديل لهَذَا وَانْتِفَاء الْمُسْتَثْنى من أصل الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ توهم الِارْتفَاع حَتَّى تكون صُورَة الْكَلَام عَاملا فِيهِ فجعلناه بَيَان التَّغْيِير بطرِيق أَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى لِأَنَّهُ لم يصر تَصرفا آخر

(2/40)


بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا لِأَن الْكَلِمَة كَمَا لَا تكون مفهمة قبل انضمام بعض حروفها إِلَى الْبَعْض لَا تكون مفهمة قبل انضمام بعض الْكَلِمَات إِلَى الْبَعْض حَتَّى تكون دَالَّة على المُرَاد فتوقف أول الْكَلَام على آخِره فِي الْفَصْلَيْنِ وَيكون الْكل فِي حكم كَلَام وَاحِد فَإِن ظهر بِاعْتِبَار آخِره لصدر الْكَلَام مَحل آخر وَهُوَ الذِّمَّة كَمَا فِي الشَّرْط جعل بَيَانا فِيهِ تَبْدِيل وَإِن لم يظْهر لصدر الْكَلَام مَحل آخر بِآخِرهِ جعل آخِره مغيرا لصدره بطرِيق الْبَيَان وَذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ على أَن يَجْعَل عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَيجْعَل بِمَنْزِلَة الْغَايَة على معنى أَنه يَنْتَهِي بِهِ صدر الْكَلَام ولولاه لَكَانَ مجاوزا إِلَيْهِ كَمَا أَن بالغاية يَنْتَهِي أصل الْكَلَام على معنى أَنه لَوْلَا الْغَايَة لَكَانَ الْكَلَام متناولا لَهُ ثمَّ انعدام الحكم بعد الْغَايَة لعدم الدَّلِيل الْمُثبت لَا لمَانع بعد وجود الْمُثبت فَكَذَلِك انعدام الحكم فِي الْمُسْتَثْنى لعدم دَلِيل الْمُوجب لَا لمعارض مَانع
فَأَما قَول أهل اللُّغَة الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فإطلاق ذَلِك بِاعْتِبَار نوع من الْمجَاز فَإِنَّهُم كَمَا قَالُوا هَذَا فقد قَالُوا إِنَّه اسْتِخْرَاج وَإنَّهُ عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَلَا بُد من الْجمع بَين الْكَلِمَتَيْنِ وَلَا طَرِيق للْجمع سوى مَا بَينا وَهُوَ أَنه بِاعْتِبَار حَقِيقَته فِي أصل الْوَضع عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَهُوَ نفي من الْإِثْبَات وَإِثْبَات من النَّفْي بِاعْتِبَار إِشَارَته على معنى أَن حكم الْإِثْبَات يتوقت بِهِ كَمَا يتوقت بالغاية فَإِذا لم يبْق بعده ظهر النَّفْي لِانْعِدَامِ عِلّة الْإِثْبَات فَسُمي نفيا مجَازًا
فَإِن قيل هَذَا فَاسد فَإِن قَول الْقَائِل لَا عَالم إِلَّا زيد يفهم مِنْهُ الْإِخْبَار بِأَن زيدا عَالم وَكَذَلِكَ كلمة الشَّهَادَة تكون إِقْرَارا بِالتَّوْحِيدِ حَقِيقَة كَيفَ يَسْتَقِيم حمل ذَلِك على نوع من الْمجَاز قُلْنَا قَول الْقَائِل لَا عَالم نفي لوصف الْعلم وَقَوله إِلَّا زيد تَوْقِيت للوصف بِهِ وَمُقْتَضى التَّوْقِيت انعدام ذَلِك الْوَصْف بعد الْوَقْت فَمُقْتَضى كَلَامه هُنَا نفي صفة الْعلم لغير زيد ثمَّ ثَبت بِهِ الْعلم لزيد بِإِشَارَة كَلَامه لَا بِنَصّ كَلَامه كَمَا أَن نفي النَّهَار يتوقت إِلَى طُلُوع الْفجْر فبوجوده يثبت مَا هُوَ ضِدّه وَهُوَ صفة النَّهَار وَنفي السّكُون يتوقت بالحركة فَبعد انعدام الْحَرَكَة يثبت السّكُون يقرره أَن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو عَن أحد الوصفين إِمَّا الْعلم وَإِمَّا نفي الْعلم عَنهُ فَلَمَّا توقت النَّفْي فِي صفة كَلَامه بزيد

(2/41)


ثَبت صفة الْعلم فِيهِ لِانْعِدَامِ ضِدّه
وَفِي كلمة الشَّهَادَة كَذَلِك نقُول فَإِن كَلَامه نفي الألوهية عَن غير الله تَعَالَى وَنفي الشّركَة فِي صفة الألوهية لغير الله مَعَه ثمَّ يثبت التَّوْحِيد بطرِيق الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَكَانَ الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعبارَة إِظْهَار التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ هُوَ الأَصْل وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ يبتنى عَلَيْهِ وَمعنى التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ بِهَذَا الطَّرِيق يكون أظهر
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا أَن يَأْذَن لي فلَان فَمَاتَ فلَان قبل أَن يَأْذَن لَهُ بطلت الْيَمين كَمَا لَو قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار حَتَّى يَأْذَن لي فلَان لِأَن فِي الْمَوْضِعَيْنِ يثبت بِالْيَمِينِ حظر الْخُرُوج موقتا بِإِذن فلَان وَلَا تصور لذَلِك إِلَّا فِي حَال حَيَاة فلَان فَأَما بعد مَوته وَانْقِطَاع إِذْنه لَو بقيت الْيَمين كَانَ مُوجبهَا حظرا مُطلقًا والموقت غير الْمُطلق
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لامْرَأَته إِن خرجت إِلَّا بإذني فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى تَجْدِيد الْإِذْن فِي كل مرّة وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء بِمَنْزِلَة الْغَايَة لكَانَتْ الْيَمين ترْتَفع بِالْإِذْنِ مرّة كَمَا لَو قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار حَتَّى آذن لَك
قُلْنَا إِنَّمَا اخْتلفَا فِي هَذَا الْوَجْه لِأَن كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ يتَنَاوَل محلا آخر فَإِن قَوْله حَتَّى آذن مَحَله الْحَظْر الثَّابِت بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ تَوْقِيت لَهُ وَقَوله إِلَّا بإذني مَحَله الْخُرُوج الَّذِي هُوَ مصدر كَلَامه وَمَعْنَاهُ إِلَّا خُرُوجًا بإذني وَالْخُرُوج غير الْحَظْر الثَّابِت بِالْيَمِينِ فَعرفنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا دخل فِي مَحل آخر هُنَا فَلهَذَا كَانَ حكم الِاسْتِثْنَاء مُخَالفا لحكم التَّصْرِيح بالغاية وبالاستثناء يظْهر معنى التَّوْقِيت فِي كل خُرُوج يكون بِصفة الْإِذْن وكل خُرُوج لَا يكون بِتِلْكَ الصّفة فَهُوَ مُوجب للحنث
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الِاسْتِثْنَاء نَوْعَانِ حَقِيقَة ومجاز
فَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاء حَقِيقَة مَا بَينا وَمَا هُوَ مجَاز مِنْهُ فَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع وَهِي بِمَعْنى لَكِن أَو بِمَعْنى الْعَطف
وَبَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} أَي لَكِن أباطيل
قَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} أَي لَكِن رب الْعَالمين الَّذِي خلقني
وَقَالَ {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما} أَي لَكِن سَلاما
وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} إِنَّه بِمَعْنى الْعَطف وَلَا الَّذين ظلمُوا وَقيل لَكِن أَي لَكِن الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني
وَقيل فِي قَوْله {إِلَّا خطأ} إِنَّه بِمَعْنى لَكِن أَي لَكِن إِن قَتله خطأ
وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَنه بِمَعْنى وَلَا
قَالَ رَضِي عَنهُ وَهَذَا غلط عِنْدِي لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون عطفا على النَّهْي فَيكون نهيا وَالْخَطَأ لَا يكون مَنْهِيّا عَنهُ وَلَا مَأْمُورا بِهِ بل هُوَ مَوْضُوع قَالَ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ}

(2/42)


ثمَّ الْكَلَام لحقيقته لَا يحمل على الْمجَاز إِلَّا إِذا تعذر حمله على الْحَقِيقَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يعفون} فَإِنَّهُ يتَعَذَّر حمله على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ إِذا حمل عَلَيْهِ كَانَ فِي معنى التَّوْقِيت فيتقرر بِهِ حكم التنصيف الثَّابِت بصدر الْكَلَام فَعرفنَا أَنه بِمَعْنى لَكِن وَأَنه ابْتِدَاء حكم أَي لَكِن إِن عَفا الزَّوْج بإيفاء الْكل أَو الْمَرْأَة بالإسقاط فَهُوَ أقرب للتقوى
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف فَإِنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع أَي لَكِن إِن تَابُوا من قبل أَن التائبين هم القاذفون
فَتعذر حمل اللَّفْظ على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء فَإِن الثَّابِت لَا يخرج من أَن يكون قَاذِفا وَإِن كَانَ مَحْمُولا على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء هُوَ اسْتثِْنَاء بعض الْأَحْوَال أَي وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا أَن يتوبوا فَيكون هَذَا الِاسْتِثْنَاء توقيتا بِحَال مَا قبل التَّوْبَة فَلَا تبقى صفة الْفسق بعد التَّوْبَة لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَا لمعارض مَانع كَمَا توهمه الْخصم
وَقَوله لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال أَيْضا أَي لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا حَالَة التَّسَاوِي فِي الْكَيْل
فَيكون توقيتا للنَّهْي بِمَنْزِلَة الْغَايَة وَيثبت بِهَذَا النَّص أَن حكم الرِّبَا الْحُرْمَة الموقتة فِي الْمحل دون الْمُطلقَة
وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْحُرْمَة الموقتة فِي الْمحل الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة فِي الْكَيْل فَأَما فِي الْمحل الَّذِي لَا يقبل الْمُسَاوَاة لَو ثَبت إِنَّمَا يثبت حُرْمَة مُطلقَة وَذَلِكَ لَيْسَ من حكم هَذَا النَّص فَلهَذَا لَا يثبت حكم الرِّبَا فِي الْقَلِيل وَفِي المطعوم الَّذِي لَا يكون مَكِيلًا أصلا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُ تلْزمهُ الْألف لِأَن هَذَا لَيْسَ

(2/43)


باستثناء حَقِيقَة إِذْ حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء فِي أصل الْوَضع أَن يكون الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى والمستثنى هُنَا لم يتَنَاوَلهُ صدر الْكَلَام صُورَة وَمعنى حَتَّى يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاءه فَيكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا وَمَعْنَاهُ لَكِن لَا ثوب لَهُ عَليّ
وَالتَّصْرِيح بِهَذَا الْكَلَام لَا يسْقط عَنهُ شَيْئا من الْألف وَلَا يمْنَع إِعْمَال أصل الْكَلَام فِي إِيجَاب جَمِيع الْألف عَلَيْهِ فَكَذَلِك اللَّفْظ الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّد فِي قَوْله إِلَّا كرّ حِنْطَة إِنَّه تلْزمهُ الْألف كَامِلَة
فَأَما أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا استحسنا هُنَا فَقَالَا كَلَامه اسْتثِْنَاء حَقِيقَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى لِأَن صُورَة صدر الْكَلَام الْإِخْبَار بِوُجُوب الْمُسَمّى عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ إِظْهَار مَا هُوَ لَازم فِي ذمَّته والمكيل وَالْمَوْزُون كشيء وَاحِد فِي حكم الثُّبُوت فِي الذِّمَّة على معنى أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت فِي الذِّمَّة ثبوتا صَحِيحا بِمَنْزِلَة الْأَثْمَان فَهَذَا الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار صُورَة صدر الْكَلَام لَا يكون استخراجا وَبِاعْتِبَار مَعْنَاهُ يكون استخراجا على أَنه استخرج هَذَا الْقدر مِمَّا هُوَ وَاجِب فِي ذمَّته وَالْمعْنَى يتَرَجَّح على الصُّورَة لِأَنَّهُ هُوَ الْمَطْلُوب فَلهَذَا جعلنَا استثناءه استخراجا على أَن يكون كَلَامه عبارَة عَمَّا وَرَاء مَالِيَّة كرّ حِنْطَة من الْألف فَأَما الثَّوْب لَا يكون مثل الْمكيل وَالْمَوْزُون فِي الصُّورَة وَلَا فِي الْمَعْنى وَهُوَ الثُّبُوت فِي الذِّمَّة فَإِنَّهُ لَا يثبت فِي الذِّمَّة إِلَّا مَبِيعًا وَالْألف تثبت فِي الذِّمَّة ثمنا فَلَا يُمكن جعل كَلَامه استخراجا بِاعْتِبَار الصُّورَة وَلَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي بِنَاء على أَصله الِاسْتِثْنَاء مَتى تعقب كَلِمَات معطوفة بَعْضهَا على بعض ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم ذكره لِأَنَّهُ معَارض مَانع للْحكم بِمَنْزِلَة الشَّرْط ثمَّ الشَّرْط ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا سبق حَتَّى يتَعَلَّق الْكل بِهِ فَكَذَلِك الِاسْتِثْنَاء
وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى فِي آيَة قطاع الطَّرِيق {إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم ذكره
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الِاسْتِثْنَاء تَغْيِير وَتصرف فِي الْكَلَام فَيقْتَصر على مَا يَلِيهِ خَاصَّة

(2/44)


لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن إِعْمَال الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار أَن الْكل فِي حكم كَلَام وَاحِد وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي الْكَلِمَات المعطوفة بَعْضهَا على بعض
وَالثَّانِي أَن أصل الْكَلَام عَامل بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَإِنَّمَا انْعَدم هَذَا الْوَصْف مِنْهُ بطرِيق الضَّرُورَة فَيقْتَصر على مَا تحقق فِيهِ الضَّرُورَة وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بصرفه إِلَى مَا يَلِيهِ بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُ تَبْدِيل وَلَا يخرج بِهِ أصل الْكَلَام من أَن يكون عَاملا إِنَّمَا يتبدل بِهِ الحكم كَمَا بَينا وَمُطلق الْعَطف يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فَلهَذَا أثبتنا حكم التبديل بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ فِي جَمِيع مَا سبق ذكره مَعَ أَن فِيهِ كلَاما فِي الْفرق بَين مَا إِذا عطفت جملَة تَامَّة على جملَة تَامَّة وَبَين مَا إِذا عطفت جملَة نَاقِصَة على جملَة تَامَّة ثمَّ تعقبها شَرط وَلَكِن لَيْسَ هَذَا مَوضِع بَيَان ذَلِك
فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فلأجل دَلِيل فِي نَص الْكَلَام صرفناه إِلَى جَمِيع مَا تقدم وَذَلِكَ التَّقْيِيد بقوله تَعَالَى {من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} فَإِن التَّوْبَة فِي محو الْإِثْم ورجاء الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة بِهِ فِي الْآخِرَة لَا تخْتَلف بوجودها بعد قدرَة الإِمَام على التائب أَو قبل ذَلِك وَإِنَّمَا تخْتَلف فِي حكم إِقَامَة الْحَد الَّذِي يكون مفوضا إِلَى الإِمَام فَعرفنَا بِهَذَا التَّقْيِيد أَن المُرَاد مَا سبق من الْحَد وَقد يتَغَيَّر حكم مُقْتَضى الْكَلَام لدَلِيل فِيهِ أَلا ترى أَن مُقْتَضى مُطلق الْكَلَام التَّرْتِيب على أَن يَجْعَل الْمُتَقَدّم فِي الذّكر مُتَقَدما فِي الحكم ثمَّ يتَغَيَّر ذَلِك بِدَلِيل مغير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا قيمًا} فَإِن المُرَاد أنزلهُ قيمًا وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لَكَانَ لزاما وَأجل مُسَمّى} فَإِن مَعْنَاهُ وَلَوْلَا سبقت من رَبك كلمة وَأجل مُسَمّى لَكَانَ لزاما وضمة اللَّام دلنا على ذَلِك فَهَذَا نَظِيره
وَإِذا تقرر هَذَا الأَصْل قُلْنَا الْبَيَان المغير والمبدل يَصح مَوْصُولا وَلَا يَصح مَفْصُولًا لِأَنَّهُ مَتى كَانَ بَيَانا كَانَ مقررا للْحكم الثَّابِت بصدر الْكَلَام كبيان التَّقْرِير وَبَيَان التَّفْسِير وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا كَانَ مَوْصُولا فَأَما إِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِنَّهُ يكون رفعا للْحكم الثَّابِت بِمُطلق الْكَلَام
أما فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِن الْكَلَام يتم مُوجبا لحكمه بِآخِرهِ وَذَلِكَ بِالسُّكُوتِ عَنهُ أَو الِانْتِقَال إِلَى كَلَام آخر

(2/45)


وَالِاسْتِثْنَاء الْمَوْصُول لَيْسَ بِكَلَام آخر فَإِنَّهُ غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فَأَما إِذا سكت فقد تمّ الْكَلَام مُوجبا لحكمه ثمَّ الِاسْتِثْنَاء بعد ذَلِك يكون نسخا بطرِيق رفع الحكم الثَّابِت فَلَا يكون بَيَانا مغيرا وَأما الشَّرْط فَهُوَ مبدل بِاعْتِبَار أَنه يمْتَنع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَهُوَ العَبْد فِي كلمة الْإِعْتَاق وَيجْعَل مَحَله الذِّمَّة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا إِذا كَانَ مَوْصُولا فَأَما المفصول يكون رفعا عَن الْمحل يعْتَبر هَذَا فِي المحسوسات فَإِن تَعْلِيق الْقنْدِيل بالحبل فِي الِابْتِدَاء يكون مَانِعا من الْوُصُول إِلَى مقره من الأَرْض مُبينًا أَن إِزَالَة الْيَد عَنهُ لم يكن كسرا فَأَما بعد مَا وصل إِلَى مقره من الأَرْض تَعْلِيقه بالقنديل يكون رفعا عَن مَحَله
فَتبين بِهَذَا أَن الشَّرْط إِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِنَّهُ يكون رفعا للْحكم عَن مَحَله بِمَنْزِلَة النّسخ وَهُوَ لَا يملك رفع الطَّلَاق وَالْعتاق عَن الْمحل بَعْدَمَا اسْتَقر فِيهِ فَلهَذَا لَا يعْمل الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط مَفْصُولًا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَدِيعَة فَإِنَّهُ يصدق مَوْصُولا وَلَا يصدق إِذا قَالَه مَفْصُولًا لِأَن قَوْله وَدِيعَة بَيَان فِيهِ تَغْيِير أَو تَبْدِيل فَإِن مُقْتَضى قَوْله عَليّ ألف دِرْهَم الْإِخْبَار بِوُجُوب الْألف فِي ذمَّته وَقَوله وَدِيعَة فِيهِ بَيَان أَن الْوَاجِب فِي ذمَّته حفظهَا وإمساكها إِلَى أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى صَاحبهَا لَا أصل المَال فإمَّا أَن يكون تبديلا للمحل الَّذِي أخبر بصدر الْكَلَام أَنه الْتَزمهُ لصَاحبه أَو تغييرا لما اقْتَضَاهُ أول الْكَلَام لِأَنَّهُ لَازم عَلَيْهِ للْمقر لَهُ من أصل المَال إِلَى الْحِفْظ فَإِذا كَانَ مَوْصُولا كَانَ بَيَانا صَحِيحا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا كَانَ نسخا فَيكون بِمَنْزِلَة الرُّجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لغيره أقرضتني عشرَة دَرَاهِم أَو اسلفتني أَو أسلمت إِلَيّ أَو أَعْطَيْتنِي إِلَّا أَنِّي لم أَقبض فَإِن قَالَ ذَلِك مَفْصُولًا لم يصدق وَإِن قَالَ مَوْصُولا صدق اسْتِحْسَانًا لِأَن هَذَا بَيَان تَغْيِير فَإِن حَقِيقَة هَذِه الْأَلْفَاظ تَقْتَضِي تَسْلِيم المَال إِلَيْهِ وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِقَبْضِهِ إِلَّا أَنه يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ العقد مجَازًا فقد تسْتَعْمل هَذِه الْأَلْفَاظ للْعقد فَكَانَ قَوْله لم أَقبض تغييرا للْكَلَام عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز فَيصح مَوْصُولا وَلَا يَصح مَفْصُولًا
وَإِذا قَالَ دفعت إِلَيّ ألف دِرْهَم أَو نقدتني إِلَّا أَنِّي لم أَقبض فَكَذَلِك الْجَواب عِنْد مُحَمَّد لِأَن الدّفع والنقد والإعطاء

(2/46)


فِي الْمَعْنى سَوَاء فتجعل هَاتَانِ الكلمتان كَقَوْلِه أَعْطَيْتنِي وَيصدق فيهمَا إِذا كَانَ مَوْصُولا لَا إِذا كَانَ مَفْصُولًا بطرِيق أَنه بَيَان تَغْيِير
وَأَبُو يُوسُف قَالَ فيهمَا لَا يصدق مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا لِأَن الدّفع والنقد اسْم للْفِعْل لَا يتَنَاوَل العقد مجَازًا وَلَا حَقِيقَة فَكَانَ قَوْله إِلَّا أَنِّي لم أَقبض رُجُوعا وَالرُّجُوع لَا يعْمل مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا فَأَما الْإِعْطَاء قد سمي بِهِ العقد مجَازًا يُقَال عقد الْهِبَة وَعقد الْعَطِيَّة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا أَنَّهَا زيوف لم يصدق مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يصدق مَوْصُولا لِأَن قَوْله إِلَّا أَنَّهَا زيوف بَيَان تَغْيِير فَإِن مُطلق تَسْمِيَة الْألف فِي البيع ينْصَرف إِلَى الْجِيَاد لِأَنَّهُ هُوَ النَّقْد الْغَالِب وَبِه الْمُعَامَلَة بَين النَّاس وَفِيه احْتِمَال الزُّيُوف بِدُونِ هَذِه الْعَادة فَكَانَ كَلَامه بَيَان تَغْيِير فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا كَمَا فِي قَوْله إِلَّا أَنَّهَا وزن خَمْسَة وكما فِي الْفُصُول الْمُتَقَدّمَة بل أولى فَإِن ذَلِك نوع من الْمجَاز وَهَذَا حَقِيقَة لِأَن إسم الدَّرَاهِم للزيوف حَقِيقَة كَمَا أَنَّهَا للجياد حَقِيقَة
وَأَبُو حنيفَة يَقُول مُقْتَضى عقد الْمُعَاوضَة وجوب المَال بِصفة السَّلامَة والزيافة فِي الدَّرَاهِم عيب لِأَن الزيافة إِنَّمَا تكون بغش فِي الدَّرَاهِم والغش عيب فَكَانَ هَذَا رُجُوعا عَن مُقْتَضى أول كَلَامه وَالرُّجُوع لَا يعْمل مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا وَصَارَ دَعْوَى الْعَيْب فِي الثّمن كدعوى الْعَيْب فِي البيع بِأَن قَالَ بِعْتُك هَذِه الْجَارِيَة معيبا بِعَيْب كَذَا وَقَالَ المُشْتَرِي بل اشْتَرَيْتهَا سليمَة فَإِن البَائِع لَا يصدق سَوَاء قَالَه مَوْصُولا أَو مَفْصُولًا بِخِلَاف قَوْله إِلَّا أَنَّهَا وزن خَمْسَة فَإِن ذَلِك اسْتثِْنَاء لبَعض الْمِقْدَار بِمَنْزِلَة قَوْله إِلَّا مِائَتَيْنِ وَبِخِلَاف قَوْله لفُلَان عَليّ كرّ حِنْطَة من ثمن بيع إِلَّا أَنَّهَا ردية لِأَن الرداءة لَيست بِعَيْب فِي الْحِنْطَة فالعيب مَا يَخْلُو عَنهُ أصل الْفطْرَة والرداءة فِي الْحِنْطَة تكون بِأَصْل الْخلقَة فَكَانَ هَذَا بَيَان النَّوْع لَا بَيَان الْعَيْب فَيصح مَوْصُولا كَانَ أَو مَفْصُولًا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم من ثمن خمر فَإِن عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد هَذَا بَيَان تَغْيِير من حَقِيقَة وجوب المَال إِلَى (بَيَان) مُبَاشرَة سَبَب الِالْتِزَام صُورَة وَهُوَ شِرَاء الْخمر فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا رُجُوع لِأَن

(2/47)


أول كَلَامه تنصيص على وجوب المَال فِي ذمَّته وَثمن الْخمر لَا يكون وَاجِبا فِي ذمَّة الْمُسلم بِالشِّرَاءِ فَيكون رُجُوعا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم من ثمن جَارِيَة باعنيها إِلَّا أَنِّي لم أقبضها فَإِن على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يصدق إِذا كَانَ مَوْصُولا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا يسْأَل الْمقر لَهُ عَن الْجِهَة فَإِن قَالَ الْألف لي عَلَيْهِ بِجِهَة أُخْرَى سوى البيع فَالْقَوْل قَوْله وَالْمَال لَازم على الْمقر وَإِن قَالَ بِجِهَة البيع وَلكنه قبضهَا فَالْقَوْل حِينَئِذٍ قَول الْمقر أَنه لم يقبضهَا لِأَن هَذَا بَيَان تَغْيِير فَإِنَّهُ يتَأَخَّر بِهِ حق الْمقر لَهُ فِي الْمُطَالبَة بِالْألف إِلَى أَن يحضر الْجَارِيَة ليسلمها بِمَنْزِلَة شَرط الْخِيَار أَو الْأَجَل فِي العقد يكون مغير لمقْتَضى مُطلق العقد وَلَا يكون نَاسِخا لأصله فَيصح هَذَا الْبَيَان مِنْهُ مَوْصُولا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِن صدقه فِي الْجِهَة فقد ثبتَتْ الْجِهَة بتصادقهما عَلَيْهِ ثمَّ لَيْسَ فِي إِقْرَاره بِالشِّرَاءِ وَوُجُوب المَال عَلَيْهِ بِالْعقدِ إِقْرَار بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْمقر لَهُ مُدعيًا عَلَيْهِ ابْتِدَاء تَسْلِيم الْمَبِيع وَهُوَ مُنكر لَيْسَ براجع عَمَّا أقرّ بِهِ فَجعلنَا القَوْل قَول الْمُنكر وَإِذا كذبه فِي الْجِهَة لم تثبت الْجِهَة الَّتِي ادَّعَاهَا وَقد صَحَّ تَصْدِيقه لَهُ فِي وجوب المَال عَلَيْهِ وَبَيَانه الَّذِي قَالَ إِنَّه من ثمن جَارِيَة لم يقبضهَا بَيَان تَغْيِير فَلَا يَصح مَفْصُولًا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا رُجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ لِأَنَّهُ أقرّ بِأول كَلَامه أَن المَال وَاجِب لَهُ دينا فِي ذمَّته وَثمن جَارِيَة لَا يُوقف على أَثَرهَا لَا تكون وَاجِبَة عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْقَبْض فَإِن الْمَبِيعَة قبل التَّسْلِيم إِذا صَارَت بِحَيْثُ لَا يُوقف على عينهَا بِحَال بَطل العقد وَلَا يكون ثمنهَا وَاجِبا
وَقَوله من ثمن جَارِيَة باعنيها وَلَكِنِّي لم أقبضها إِشَارَة إِلَى هَذَا فَإِن الْجَارِيَة الَّتِي هِيَ غير مُعينَة لَا يُوقف على أَثَرهَا وَمَا من جَارِيَة يحضرها البَائِع إِلَّا وَللْمُشْتَرِي أَن يَقُول الْمَبِيعَة غَيرهَا فَعرفنَا أَن آخر كَلَامه رُجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ من وجوب المَال دينا فِي ذمَّته وَالرُّجُوع لَا يَصح مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي كتاب الشّركَة إِذا قَالَ لغيره بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم إِلَّا نصفه فَإِنَّهُ يَجْعَل هَذَا بيعا لنصف العَبْد بِجَمِيعِ الْألف وَلَو قَالَ عَليّ أَن لي نصفه يكون بَائِعا نصف العَبْد بِخَمْسِمِائَة لِأَنَّهُ إِذا قيد كَلَامه بِالِاسْتِثْنَاءِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَإِنَّمَا أدخلهُ على الْمَبِيع

(2/48)


دون الثّمن وَمَا وَرَاء الْمُسْتَثْنى من الْمَبِيع نصف العَبْد فَيصير بَائِعا لذَلِك بِجَمِيعِ الْألف
فَأَما قَوْله على أَن لي نصفه فَهُوَ معَارض بِحكمِهِ لصدر الْكَلَام وَيصير بَائِعا جَمِيع العَبْد من نَفسه وَمن المُشْتَرِي بِالْألف وَبيعه من نَفسه مُعْتَبر إِذا كَانَ مُفِيدا أَلا ترى أَن الْمضَارب يَبِيع مَال الْمُضَاربَة من رب المَال فَيجوز لكَونه مُفِيدا وَإِذا كَانَ كل وَاحِد من الْبَدَلَيْنِ مَمْلُوكا لَهُ فَهُنَا أَيْضا إِيجَابه لنَفسِهِ مُفِيد فِي حق تَقْسِيم الثّمن فَيعْتَبر ويتبين بِهِ أَنه صَار بَائِعا نصفه من المُشْتَرِي بِنصْف الْألف كَمَا لَو بَاعَ مِنْهُ عَبْدَيْنِ بِأَلف دِرْهَم وَأَحَدهمَا مَمْلُوك لَهُ يصير بَائِعا عبد نَفسه مِنْهُ بِحِصَّتِهِ من الثّمن إِذا قسم على قِيمَته وَقِيمَة العَبْد الَّذِي هُوَ ملك المُشْتَرِي
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف فِيمَن أودع صَبيا مَحْجُورا عَلَيْهِ مَالا فاستهلكه إِنَّه يكون ضَامِنا لِأَن تسليطه إِيَّاه على المَال بِإِثْبَات يَده عَلَيْهِ يتنوع نَوْعَيْنِ استحفاظ وَغير استحفاظ فَيكون قَوْله أحفظه بَيَانا مِنْهُ لنَوْع مَا كَانَ من جِهَته وَهُوَ التَّمْكِين وَبَيَانه تصرف مِنْهُ فِي حق نَفسه مَقْصُورا عَلَيْهِ غير متناول لحق الْغَيْر فينعدم مَا سوى الاستحفاظ لِانْعِدَامِ علته وينعدم نُفُوذ الاستحفاظ لِانْعِدَامِ ولَايَته على الْمحل وَكَون الصَّبِي مِمَّن لَا يحفظ وَبعد انعدام النَّوْعَيْنِ يصير كَأَنَّهُ لم يُوجد تَمْكِينه من المَال أصلا فَإِذا اسْتَهْلكهُ كَانَ ضَامِنا كَمَا لَو كَانَ المَال فِي يَد صَاحبه على حَاله فجَاء الصَّبِي واستهلكه
وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا التسليط فعل مُطلق وَلَيْسَ بعام حَتَّى يُصَار فِيهِ إِلَى التنويع وَقَوله احفظ كَلَام لَيْسَ من جنس الْفِعْل ليشتغل بِتَصْحِيحِهِ بطرِيق الِاسْتِثْنَاء وَلكنه معَارض لِأَن الدّفع إِلَيْهِ تسليط مُطلقًا وَقَوله احفظ معَارض بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص أَو بِمَنْزِلَة مَا قَالَه الْخصم فِي الِاسْتِثْنَاء وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا إِذا صَحَّ مِنْهُ هَذَا القَوْل شرعا كدليل الْخُصُوص إِنَّمَا يكون مُعَارضا إِذا صَحَّ شرعا وَلَا خلاف أَن قَوْله احفظ غير صَحِيح فِي حكم الاستحفاظ شرعا فَيبقى التسليط مُطلقًا فالاستهلاك بعد تسليط من لَهُ الْحق مُطلقًا لَا يكون مُوجبا للضَّمَان على الصَّبِي وَلَا على الْبَالِغ
وَمَا يخرج من الْمسَائِل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها فَمن فهم مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فَهُوَ يهديه إِلَى مَا سواهَا وَالله أعلم

(2/49)


فصل
وَأما بَيَان الضَّرُورَة فَهُوَ نوع من الْبَيَان يحصل بِغَيْر مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل
وَهُوَ على أَرْبَعَة أوجه مِنْهُ مَا ينزل منزلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْبَيَان وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بِدلَالَة حَال الْمُتَكَلّم وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بضرورة دفع الْغرُور وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بِدلَالَة الْكَلَام
فَأَما الأول فنحو قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} فَإِنَّهُ لما أضَاف الْمِيرَاث إِلَيْهِمَا فِي صدر الْكَلَام ثمَّ بَين نصيب الْأُم كَانَ ذَلِك بَيَانا أَن للْأَب مَا بَقِي فَلَا يحصل هَذَا الْبَيَان بترك التَّنْصِيص على نصيب الْأَب بل بِدلَالَة صدر الْكَلَام يصير نصيب الْأَب كالمنصوص عَلَيْهِ
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي الْمُضَاربَة إِذا بَين رب المَال حِصَّة الْمضَارب من الرِّبْح وَلم يبين حِصَّة نَفسه جَازَ العقد قِيَاسا واستحسانا لِأَن الْمضَارب هُوَ الَّذِي يسْتَحق بِالشّرطِ وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى بَيَان نصِيبه خَاصَّة وَقد وجد وَلَو بَين نصيب نَفسه من الرِّبْح وَلم يبين نصيب الْمضَارب جَازَ العقد اسْتِحْسَانًا لِأَن مُقْتَضى الْمُضَاربَة الشّركَة بَينهمَا فِي الرِّبْح فببيان نصيب أَحدهمَا يصير نصيب الآخر مَعْلُوما وَيجْعَل ذَلِك كالمنطوق بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَك مَا بَقِي
وَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارعَة إِذا بَين نصيب من الْبذر من قبله وَلم يبين نصيب الآخر جَازَ العقد اسْتِحْسَانًا لهَذَا الْمَعْنى
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ فِي وَصيته أوصيت لفُلَان وَفُلَان بِأَلف دِرْهَم لفُلَان مِنْهَا أَرْبَعمِائَة فَإِن ذَلِك بَيَان أَن للْآخر سِتّمائَة بِمَنْزِلَة مَا لَو نَص عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أوصيت بِثلث مَالِي لزيد وَعَمْرو لزيد من ذَلِك ألف دِرْهَم فَإِنَّهُ يَجْعَل هَذَا بَيَانا مِنْهُ أَن مَا يبْقى من الثُّلُث لعَمْرو كَمَا لَو نَص عَلَيْهِ
وَأما النَّوْع الثَّانِي فنحو سكُوت صَاحب الشَّرْع عَن مُعَاينَة شَيْء عَن تَغْيِيره يكون بَيَانا مِنْهُ لحقيته بِاعْتِبَار حَاله فَإِن الْبَيَان وَاجِب عِنْد الْحَاجة إِلَى الْبَيَان فَلَو كَانَ الحكم بِخِلَافِهِ لبين ذَلِك لَا محَالة وَلَو بَينه لظهر وَكَذَلِكَ سكُوت الصَّحَابَة عَن بَيَان قيمَة الْخدمَة للْمُسْتَحقّ على الْمَغْرُور يكون دَلِيلا على نَفْيه بِدلَالَة حَالهم

(2/50)


لِأَن الْمُسْتَحق جَاءَ يطْلب حكم الْحَادِثَة وَهُوَ جَاهِل بِمَا هُوَ وَاجِب لَهُ وَكَانَت هَذِه أول حَادِثَة وَقعت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا لم يسمعوا فِيهِ نصا عَنهُ فَكَانَ يجب عَلَيْهِم الْبَيَان بِصفة الْكَمَال وَالسُّكُوت بعد وجوب الْبَيَان دَلِيل النَّفْي
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا ولدت أمة الرجل ثَلَاثَة أَوْلَاد فِي بطُون مُخْتَلفَة فَقَالَ الْأَكْبَر ابْني فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَانا مِنْهُ أَن الآخرين ليسَا بولدين لَهُ لِأَن نفي نسب ولد لَيْسَ مِنْهُ وَاجِب وَدَعوى نسب ولد هُوَ مِنْهُ ليتأكد بِهِ على وَجه لَا يَنْتَفِي وَاجِب أَيْضا فالسكوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْوُجُوب دَلِيل النَّفْي فَيجْعَل ذَلِك كالتصريح بِالنَّفْيِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا الْبكر إِذا بلغَهَا نِكَاح الْوَلِيّ فَسَكَتَتْ يَجْعَل ذَلِك إجَازَة مِنْهَا بِاعْتِبَار حَالهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحي فَيجْعَل سكُوتهَا دَلِيلا على جَوَاب يحول الْحيَاء بَينهَا وَبَين التَّكَلُّم بِهِ وَهُوَ الْإِجَازَة الَّتِي يكون فِيهَا إِظْهَار الرَّغْبَة فِي الرِّجَال فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَسْتَحي من ذَلِك
وَأما النَّوْع الثَّالِث فنحو سكُوت الْمولى عَن النَّهْي عِنْد رُؤْيَة العَبْد يَبِيع وَيَشْتَرِي فَإِنَّهُ يَجْعَل إِذْنا لَهُ فِي التِّجَارَة لضَرُورَة دفع الْغرُور عَمَّن يُعَامل العَبْد فَإِن فِي هَذَا الْغرُور إِضْرَارًا بهم وَالضَّرَر مَدْفُوع وَلِهَذَا لم يَصح الْحجر الْخَاص بعد الْإِذْن الْعَام الْمُنْتَشِر وَالنَّاس لَا يتمكنون من استطلاع رَأْي الْمولى فِي كل مُعَاملَة يعاملونه مَعَ العَبْد وَإِنَّمَا يتمكنون من التَّصَرُّف بمرأى الْعين مِنْهُ ويستدلون بسكوته على رِضَاهُ فَجعلنَا سُكُوته كالتصريح بِالْإِذْنِ لضَرُورَة دفع الْغرُور
وَكَذَلِكَ سكُوت الشَّفِيع عَن طلب الشُّفْعَة بعد الْعلم بِالْبيعِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة إِسْقَاط الشُّفْعَة لضَرُورَة دفع الْغرُور عَن المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى التَّصَرُّف فِي المُشْتَرِي فَإِذا لم يَجْعَل سكُوت الشَّفِيع عَن طلب الشُّفْعَة إِسْقَاطًا للشفعة فإمَّا أَن يمْتَنع المُشْتَرِي من التَّصَرُّف أَو ينْقض الشَّفِيع عَلَيْهِ تصرفه فلدفع الضَّرَر والغرور جعلنَا ذَلِك كالتنصيص مِنْهُ على إِسْقَاط الشُّفْعَة وَإِن كَانَ السُّكُوت فِي أَصله غير مَوْضُوع للْبَيَان بل هُوَ ضِدّه
وَكَذَلِكَ نُكُول الْمُدعى عَلَيْهِ عَن الْيَمين يَجْعَل بِمَنْزِلَة الْإِقْرَار مِنْهُ إِمَّا لدفع الضَّرَر عَن الْمُدَّعِي فَيكون من النَّوْع الثَّالِث أَو لحَال الناكل وَهُوَ امْتِنَاعه من الْيَمين الْمُسْتَحقَّة عَلَيْهِ بعد تمكنه من إيفائه

(2/51)


وَأما النَّوْع الرَّابِع فبيانه فِيمَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة وَدِرْهَم أَو مائَة ودينار فَإِن ذَلِك بَيَان للمائة أَنَّهَا من جنس الْمَعْطُوف عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يلْزمه الْمَعْطُوف وَالْقَوْل فِي بَيَان جنس الْمِائَة قَوْله وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مائَة وقفيز حِنْطَة أَو ذكر مَكِيلًا أَو مَوْزُونا آخر
وَاحْتج فَقَالَ إِنَّه أقرّ بِمِائَة مُجملا ثمَّ عطف مَا هُوَ مُفَسّر فَيلْزمهُ الْمُفَسّر وَيرجع إِلَيْهِ فِي بَيَان الْمُجْمل كَمَا لَو قَالَ مائَة وثوب أَو مائَة وشَاة أَو مائَة وَعبد وَهَذَا لِأَن الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَلَا يكون الْعَطف تَفْسِيرا للمعطوف عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَكَيف يكون تَفْسِيرا وَهُوَ فِي نَفسه مقرّ بِهِ لَازم إِيَّاه وَلَو كَانَ تَفْسِيرا لَهُ لم يجب بِهِ شَيْء لِأَن الْوُجُوب بالْكلَام الْمُفَسّر لَا بالتفسير
وَلَكنَّا نقُول قَوْله وَدِرْهَم بَيَان للمائة عَادَة وَدلَالَة
أما من حَيْثُ الْعَادة فَلِأَن النَّاس اعتادوا حذف مَا هُوَ تَفْسِير عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الْعدَد إِذا كَانَ الْمَعْطُوف مُفَسرًا بِنَفسِهِ كَمَا اعتادوا حذف التَّفْسِير عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والاكتفاء بِذكر التَّفْسِير للمعطوف فَإِنَّهُم يَقُولُونَ مائَة وَعشرَة دَرَاهِم على أَن يكون الْكل من الدَّرَاهِم وَإِنَّمَا اعتادوا ذَلِك لضَرُورَة طول الْكَلَام وَكَثْرَة الْعدَد والإيجاز عِنْد ذَلِك طَرِيق مَعْلُوم عَادَة وَإِنَّمَا اعتادوا هَذَا فِيمَا يثبت فِي الذِّمَّة فِي عَامَّة الْمُعَامَلَات كالمكيل وَالْمَوْزُون دون مَا لَا يثبت فِي الذِّمَّة إِلَّا فِي مُعَاملَة خَاصَّة كالثياب فَإِنَّهَا لَا تثبت فِي الذِّمَّة قرضا وَلَا بيعا مُطلقًا وَإِنَّمَا يثبت فِي السّلم أَو فِيمَا هُوَ فِي معنى السّلم كَالْبيع بالثياب الموصوفة مُؤَجّلا
وَأما من حَيْثُ الدّلَالَة فَلِأَن الْمَعْطُوف مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كشيء وَاحِد من حَيْثُ الحكم وَالْإِعْرَاب بِمَنْزِلَة الْمُضَاف مَعَ الْمُضَاف إِلَيْهِ ثمَّ الْإِضَافَة للتعريف حَتَّى يصير الْمُضَاف مُعَرفا بالمضاف إِلَيْهِ فَكَذَلِك الْعَطف مَتى كَانَ صَالحا للتعريف يصير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُعَرفا بالمعطوف بِاعْتِبَار أَنَّهُمَا كشيء وَاحِد وَلَكِن هَذَا فِيمَا يجوز أَن يثبت فِي الذِّمَّة عِنْد مُبَاشرَة السَّبَب بِذكر الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ كالمكيل وَالْمَوْزُون
فَأَما مَا لَيْسَ بمقدر لَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة بِذكر الْمَعْطُوف (والمعطوف) عَلَيْهِ مَعَ إِلْحَاق التَّفْسِير بالمعطوف عَلَيْهِ وَلَكِن يحْتَاج إِلَى ذكر شَرَائِط أخر فَلهَذَا لم نجْعَل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُفَسرًا بالمعطوف هُنَاكَ

(2/52)


وَاتَّفَقُوا أَنه لَو قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة وَثَلَاثَة دَرَاهِم أَنه تلْزمهُ الْكل من الدَّرَاهِم
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مائَة وَثَلَاثَة أَثوَاب أَو ثَلَاثَة أَفْرَاس أَو ثَلَاثَة أعبد لِأَنَّهُ عطف إِحْدَى الجملتين على الْأُخْرَى ثمَّ عقبهما بتفسير والعطف للاشتراك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فالتفسير الْمَذْكُور يكون تَفْسِيرا لَهما
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَهُ عَليّ أحد وَعِشْرُونَ درهما فَالْكل دَرَاهِم لِأَنَّهُ عطف الْعدَد الْمُبْهم على مَا هُوَ وَاحِد مَذْكُور على وَجه الْإِبْهَام وَقَوله درهما مَذْكُور على وَجه التَّفْسِير فَيكون تَفْسِيرا لَهما وَالِاخْتِلَاف فِي قَوْله لَهُ مائَة ودرهمان كالاختلاف فِي قَوْله وَدِرْهَم
وَقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ لَهُ عَليّ مائَة وثوب أَو مائَة وشَاة فالمعطوف يكون تَفْسِيرا للمعطوف عَلَيْهِ بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ مائَة وَعبد لِأَن فِي قَوْله مائَة وَدِرْهَم إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ تَفْسِيرا بِاعْتِبَار أَن الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ كشيء وَاحِد وَهَذَا يتَحَقَّق فِي كل مَا يحْتَمل الْقِسْمَة فَإِن معنى الِاتِّحَاد بالْعَطْف فِي مثله يتَحَقَّق فَأَما مَا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة مُطلقًا كَالْعَبْدِ لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الِاتِّحَاد بِسَبَب الْعَطف فَلَا يصير الْمُجْمل بالمعطوف فِيهِ مُفَسرًا وَالله أعلم