أصول السرخسي بَاب النّسخ جَوَازًا وتفسيرا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن النَّاس تكلمُوا فِي معنى
النّسخ لُغَة فَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن النَّقْل من قَول
الْقَائِل نسخت الْكتاب إِذا نَقله من مَوضِع إِلَى مَوضِع
وَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن الْإِبْطَال من قَوْلهم نسخت
الشَّمْس الظل أَي أبطلته
وَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن الْإِزَالَة من قَوْلهم نسخت
الرِّيَاح الْآثَار أَي أزالتها
وكل ذَلِك مجَاز لَا حَقِيقَة فَإِن حَقِيقَة النَّقْل أَن
تحول عين الشَّيْء من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر وَنسخ الْكتاب
لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة إِذْ لَا يتَصَوَّر نقل عين
الْمَكْتُوب من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر وَإِنَّمَا يتَصَوَّر
إِثْبَات مثله فِي الْمحل الآخر
وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْكَام فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر نقل الحكم
الَّذِي هُوَ مَنْسُوخ إِلَى ناسخه وَإِنَّمَا المُرَاد
إِثْبَات مثله مَشْرُوعا فِي الْمُسْتَقْبل أَو نقل المتعبد من
الحكم الأول إِلَى الحكم الثَّانِي
وَكَذَلِكَ معنى الْإِزَالَة فَإِن إِزَالَة الْحجر عَن
مَكَانَهُ لَا يعْدم عينه وَلَكِن عينه بَاقٍ فِي الْمَكَان
الثَّانِي وَبعد النّسخ لَا يبْقى الحكم الأول وَلَو كَانَ
حَقِيقَة النّسخ الْإِزَالَة لَكَانَ يُطلق هَذَا
(2/53)
الِاسْم على كل مَا تُوجد فِيهِ
الْإِزَالَة وَأحد لَا يَقُول بذلك
وَكَذَلِكَ لفظ الْإِبْطَال فَإِن بِالنَّصِّ لَا تبطل الْآيَة
وَكَيف تكون حَقِيقَة النّسخ الْإِبْطَال وَقد أطلق الله
تَعَالَى ذَلِك فِي الْإِثْبَات بقوله تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَعرفنَا أَن الِاسْم
شَرْعِي عَرفْنَاهُ بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو
ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وأوجه مَا قيل فِيهِ
إِنَّه عبارَة عَن التبديل من قَول الْقَائِل نسخت الرسوم أَي
بدلت برسوم أخر
وَقد استبعد هَذَا الْمَعْنى بعض من صنف فِي هَذَا الْبَاب من
مَشَايِخنَا وَقَالَ فِي إِطْلَاق لفظ التبديل إِشَارَة إِلَى
أَنه رفع الحكم الْمَنْسُوخ وَإِقَامَة النَّاسِخ مقَامه وَفِي
ذَلِك إِيهَام البداء وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا سَهْو مِنْهُ
وَعبارَة التبديل مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن قَالَ
تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَإِذا كَانَ اسْم
النّسخ شَرْعِيًّا مَعْلُوما بِالنَّصِّ فَجعله عبارَة عَمَّا
يكون مَعْلُوما بِالنَّصِّ أَيْضا يكون أولى الْوُجُوه
ثمَّ هُوَ فِي حق الشَّارِع بَيَان مَحْض فَإِن الله تَعَالَى
عَالم بحقائق الْأُمُور لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة ثمَّ
إِطْلَاق الْأَمر بِشَيْء يوهمنا بَقَاء ذَلِك على التَّأْبِيد
من غير أَن نقطع القَوْل بِهِ فِي زمن من ينزل عَلَيْهِ
الْوَحْي فَكَانَ النّسخ بَيَانا لمُدَّة الحكم الْمَنْسُوخ
فِي حق الشَّارِع وتبديلا لذَلِك الحكم بِحكم آخر فِي حَقنا
على مَا كَانَ مَعْلُوما عندنَا لَو لم ينزل النَّاسِخ
بِمَنْزِلَة الْقَتْل فَإِنَّهُ انْتِهَاء الْأَجَل فِي حق من
هُوَ عَالم بعواقب الْأُمُور
لِأَن الْمَقْتُول ميت بأجله بِلَا شُبْهَة وَلَكِن فِي حق
الْقَاتِل جعل فعله جِنَايَة على معنى أَنه يعْتَبر فِي حَقه
حَتَّى يسْتَوْجب بِهِ الْقصاص وَإِن كَانَ ذَلِك موتا بالأجل
الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ
أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}
وَمن فهم معنى التبديل بِهَذِهِ الصّفة عرف أَنه لَيْسَ فِيهِ
من إِيهَام البداء شَيْء
ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد الْمُسلمين أَن النّسخ جَائِز فِي
الْأَمر وَالنَّهْي الَّذِي يجوز أَن يكون ثَابتا وَيجوز أَن
لَا يكون على مَا نبينه فِي فصل مَحل النّسخ وعَلى قَول
الْيَهُود النّسخ لَا يجوز أصلا
وهم فِي ذَلِك فريقان فريق مِنْهُم يَأْبَى النّسخ عقلا وفريق
يَأْبَى جَوَازه سمعا وتوقيفا
وَقد قَالَ بعض من لَا يعْتد بقوله من الْمُسلمين إِنَّه لَا
يجوز النّسخ أَيْضا وَرُبمَا قَالُوا لم يرد النّسخ فِي شَيْء
أصلا
وَلَا وَجه لِلْقَوْلِ الأول إِذا كَانَ الْقَائِل مِمَّن
يعْتَقد الْإِسْلَام فَإِن شَرِيعَة هَذَا القَوْل مِنْهُ مَعَ
اعْتِقَاده لهَذِهِ الشَّرِيعَة
وَالثَّانِي بَاطِل نصا فَإِن قَوْله تَعَالَى {مَا ننسخ من
آيَة أَو ننسها نأت} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناسخة
لما قبلهَا
(2/54)
من الشَّرَائِع فَكيف يتَحَقَّق {بِخَير
مِنْهَا} وَقَوله {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} نَص قَاطع
على جَوَاز النّسخ وانتساخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس
بفرضية التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة أَمر ظَاهر لَا يُنكره
عَاقل فَقَوْل من يَقُول لم يُوجد بَاطِل من هَذَا الْوَجْه
فَأَما من قَالَ من الْيَهُود إِنَّه لَا يجوز بطرِيق
التَّوْقِيف اسْتدلَّ بِمَا يرْوى عَن مُوسَى صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ تمسكوا بالسبت مَا دَامَت
السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَزَعَمُوا أَن هَذَا مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة عِنْدهم
وَقَالُوا قد ثَبت عندنَا بِالطَّرِيقِ الْمُوجب للْعلم وَهُوَ
خبر التَّوَاتُر عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ إِن شريعتي لَا تنسخ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنْتُم أَن
ذَلِك ثَبت عنْدكُمْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَمَّن
تَزْعُمُونَ أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَبِهَذَا الطَّرِيق طعنوا فِي رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَقَالُوا من أجل الْعَمَل فِي السبت لَا يجوز
تَصْدِيقه وَلَا يجوز أَن يَأْتِي بمعجزة تدل على صدقه
وَمن أنكر مِنْهُم ذَلِك عقلا قَالَ الْأَمر بالشَّيْء دَلِيل
على حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالنَّهْي عَن الشَّيْء دَلِيل على
قبح الْمنْهِي عَنهُ وَالشَّيْء الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون
حسنا وقبيحا فَالْقَوْل بِجَوَاز النّسخ قَول بِجَوَاز البداء
وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَصَوَّر مِمَّن يجهل عواقب الْأُمُور
وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك يُوضحهُ أَن مُطلق الْأَمر
يَقْتَضِي التَّأْبِيد فِي الحكم وَكَذَلِكَ مُطلق النَّهْي
وَلِهَذَا حسن منا اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِيهِ فَيكون ذَلِك
بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بالتأبيد وَلَو ورد نَص بِأَن
الْعَمَل فِي السبت حرَام عَلَيْكُم أبدا لم يجز نسخه بعد
ذَلِك بِحَال فَكَذَلِك إِذا ثَبت التَّأْبِيد بِمُقْتَضى
مُطلق الْأَمر إِذْ لَو كَانَ ذَلِك موقتا كَمَا قُلْتُمْ
لَكَانَ تَمام الْبَيَان فِيهِ بالتنصيص على التَّوْقِيت فَمَا
كَانَ يحسن إِطْلَاقه عَن ذكر التَّوْقِيت وَفِي ذَلِك إِيهَام
الْخلَل فِيمَا بَينه الله تَعَالَى فَلَا يجوز القَوْل بِهِ
أصلا
وَحجَّتنَا فِيهِ من طَرِيق التَّوْقِيف اتِّفَاق الْكل على
أَن جَوَاز النِّكَاح بَين الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات قد كَانَ
فِي شَرِيعَة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبِه حصل
الْمَرْء قد كَانَ فِي شَرِيعَته فَإِن حَوَّاء رَضِي الله
عَنْهَا خلقت مِنْهُ وَكَانَ يسْتَمْتع بهَا ثمَّ انتسخ ذَلِك
الحكم حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن يسْتَمْتع بِمن هُوَ بعض
مِنْهُ بِالنِّكَاحِ نَحْو ابْنَته وَلِأَن الْيَهُود مقرون
بِأَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام حرم شَيْئا من المطعومات
على نَفسه وَأَن ذَلِك صَار حَرَامًا عَلَيْهِم كَمَا أخبرنَا
الله تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني
إِسْرَائِيل إِلَّا} مَا التناسل
(2/55)
وَقد انتسخ ذَلِك بعده وَكَذَلِكَ جَوَاز
الِاسْتِمْتَاع بِمن هُوَ بعض من {حرم إِسْرَائِيل على نَفسه}
الْآيَة والنسخ لَيْسَ إِلَّا تَحْرِيم الْمُبَاح أَو إِبَاحَة
الْحَرَام وَكَذَلِكَ الْعَمَل فِي السبت كَانَ مُبَاحا قبل
زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُم يوافقوننا على أَن
حُرْمَة الْعَمَل فِي السبت من شَرِيعَة مُوسَى وَإِنَّمَا
يكون من شَرِيعَته إِذا كَانَ ثُبُوته بنزول الْوَحْي عَلَيْهِ
فَأَما إِذا كَانَ ذَلِك قبل شَرِيعَته على هَذَا الْوَجْه
أَيْضا فَلَا فَائِدَة فِي تَخْصِيصه أَنه شَرِيعَته فَإِذا
جَازَ ثُبُوت الْحُرْمَة فِي شَرِيعَته بعد مَا كَانَ مُبَاحا
جَازَ ثُبُوت الْحل فِي شَرِيعَة نَبِي آخر قَامَت الدّلَالَة
على صِحَة نبوته
وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن
النّسخ فِي المشروعات الَّتِي يجوز أَن تكون مَشْرُوعا وَيجوز
أَن لَا تكون وَمَعْلُوم أَن هَذِه المشروعات شرعها الله
تَعَالَى على سَبِيل الِابْتِلَاء لِعِبَادِهِ حَتَّى يُمَيّز
الْمُطِيع من العَاصِي
وَمعنى الِابْتِلَاء يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس
وباختلاف الْأَوْقَات فَإِن فِي هَذَا الِابْتِلَاء حِكْمَة
بَالِغَة وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا مَنْفَعَة للعباد فِي ذَلِك
عَاجلا أَو آجلا لِأَن الله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ
المضار وَالْمَنَافِع وَمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ أصلا يكون
عَبَثا ضدا للحكمة ثمَّ قد تكون الْمَنْفَعَة فِي إِثْبَات
شَيْء فِي وَقت وَفِي نَفْيه فِي وَقت آخر كإيجاب الصَّوْم فِي
النَّهَار إِلَى غرُوب الشَّمْس أَو طُلُوع النُّجُوم كَمَا
هُوَ مَذْهَبهم وَنفي الصَّوْم بعد ذَلِك وَيخْتَلف ذَلِك
باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس كوجوب اعتزال الْمَرْأَة فِي
حَالَة الْحيض وَانْتِفَاء ذَلِك بَعْدَمَا طهرت أَلا ترى أَنه
لَو نَص على ذكر الْوَقْت فِيهِ بِأَن قَالَ حرمت عَلَيْكُم
الْعَمَل فِي السبت ألف سنة ثمَّ هُوَ مُبَاح بعد ذَلِك كَانَ
مُسْتَقِيمًا وَكَانَ معنى الِابْتِلَاء فِيهِ متحققا وَلم يكن
فِيهِ من معنى البداء شَيْء فَكَذَلِك عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ
فِي التَّحْرِيم
حِين شَرعه لَا يكون فِيهِ من معنى البداء شَيْء بل يكون
امتحانا للمخاطبين فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ
بِمَنْزِلَة تَبْدِيل الصِّحَّة بِالْمرضِ وَالْمَرَض
بِالصِّحَّةِ وتبديل الْغنى بالفقر والفقر بالغنى فَإِن ذَلِك
ابتلاء بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إِلَيْهِ أَشَارَ الله
تَعَالَى فِيمَا أنزلهُ على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه}
وَالثَّانِي أَن ثمَّ النّسخ بعد ذَلِك إِذا انْتَهَت مُدَّة
التَّحْرِيم الَّذِي كَانَ مَعْلُوما عِنْد
(2/56)
الشَّارِع النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء
الحكم وَذَلِكَ غيب عَنَّا لَو بَينه لنا فِي وَقت الْأَمر
كَانَ حسنا لَا يشوبه من معنى الْقبْح شَيْء فَكَذَلِك إِذا
بَينه بعد ذَلِك بالنسخ
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النّسخ إِنَّمَا يكون فِيمَا
يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَمَعَ
الشَّرْع مُطلقًا يحْتَمل أَن يكون موقتا وَيحْتَمل أَن يكون
مُؤَبَّدًا احْتِمَالا على السوَاء لِأَن الْأَمر يَقْتَضِي
كَونه مَشْرُوعا من غير أَن يكون مُوجبا بَقَاءَهُ مَشْرُوعا
وَإِنَّمَا الْبَقَاء بعد الثُّبُوت بِدَلِيل آخر سبق أَو
بِعَدَمِ الدَّلِيل المزيل فَأَما أَن يكون ذَلِك وَاجِبا
بِالْأَمر فَلَا لِأَن إحْيَاء الشَّرِيعَة بِالْأَمر بِهِ
كإحياء الشَّخْص وَذَلِكَ لَا يُوجب بَقَاءَهُ وَإِنَّمَا
يُوجب وجوده ثمَّ الْبَقَاء بعد ذَلِك بإبقاء الله تَعَالَى
إِيَّاه أَو بانعدام سَبَب الفناء فَكَمَا أَن الإماتة بعد
الْإِحْيَاء لَا يكون فِيهِ شَيْء من معنى الْقبْح وَلَا يكون
دَلِيل البداء وَالْجهل بعواقب الْأُمُور بل يكون ذَلِك
بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الْحَيَاة الَّذِي كَانَ مَعْلُوما
عِنْد الْخَالِق حِين خلقه وَإِن كَانَ ذَلِك غيبا عَنَّا
فَكَذَلِك النّسخ فِي حكم الشَّرْع
فَإِن قيل فعلى هَذَا بَقَاء الحكم قبل أَن يظْهر ناسخه لَا
يكون مَقْطُوعًا بِهِ لِأَنَّهُ مَا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل
مُوجب لَهُ لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا دَلِيل سوى الْأَمر
بِهِ
قُلْنَا أما فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَكَذَلِك نقُول بَقَاءَهُ بعد الْأَمر إِنَّمَا يكون باستصحاب
الْحَال لجَوَاز نزُول الْوَحْي بِمَا ينسخه وَيبين بِهِ
مُدَّة بَقَائِهِ إِلَّا أَن الْوَاجِب علينا التَّمَسُّك
بِمَا ظهر عندنَا لَا بِمَا هُوَ غيب عَنَّا فَمَا لم تظهر لنا
مُدَّة الْبَقَاء بنزول النَّاسِخ يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ
وَكَذَلِكَ بعد نزُول النَّاسِخ قبل أَن يعلم الْمُخَاطب بِهِ
وَهُوَ نَظِير حَيَاة الْمَفْقُود بَعْدَمَا غَابَ عَنَّا
فَإِنَّهُ يكون ثَابتا باستصحاب الْحَال لَا بِدَلِيل مُوجب
لبَقَائه حَيا وَلَكنَّا نجعله فِي حكم الْأَحْيَاء بِنَاء على
مَا ظهر لنا حَتَّى يتَبَيَّن انْتِهَاء مُدَّة حَيَاته
بِظُهُور مَوته فَأَما بعد وَفَاة الرَّسُول عَلَيْهِ
السَّلَام
(2/57)
فَلم يبْق احْتِمَال النّسخ وَصَارَ
الْبَقَاء ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ أَن النّسخ
لَا يكون إِلَّا على لِسَان من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَلَا
توهم لذَلِك بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
فَإِن قيل فعلى هَذَا لَا يكون النّسخ فِي أصل الْأَمر لِأَن
الحكم الثَّابِت بِالْأَمر غير الْأَمر فببيان مدَّته لَا يثبت
تَبْدِيل الْأَمر بِالنَّهْي
قُلْنَا وَهَكَذَا نقُول فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النّسخ تعرض
لِلْأَمْرِ بِوَجْه من الْوُجُوه بل للْحكم الثَّابِت بِهِ
ظَاهرا بِنَاء على مَا هُوَ مَعْلُوم لنا فَإِنَّهُ كَانَ يجوز
الْبَقَاء بعد هَذِه الْمدَّة بِاعْتِبَار الْإِطْلَاق الَّذِي
كَانَ عندنَا
فَأَما فِي حق الشَّارِع فَهُوَ بَيَان مُدَّة الحكم كَمَا
كَانَ مَعْلُوما لَهُ حَقِيقَة وَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ توهم
التَّعَرُّض لِلْأَمْرِ وَلَا لحكمه كالإماتة بعد الْإِحْيَاء
فَإِنَّهُ بَيَان الْمدَّة من غير أَن يكون فِيهِ تعرض لأصل
الْإِحْيَاء وَلَا لما يبتنى عَلَيْهِ من مُدَّة الْبَقَاء
فاعتبار مَا هُوَ ظَاهر لنا يكون فِيهِ تَبْدِيل صفة الْحَيَاة
بِصفة الْوَفَاة وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْمُنَافَاة بَين
الْقبْح وَالْحسن فِي مَحل وَاحِد فِي وَقت وَاحِد فَأَما فِي
وَقْتَيْنِ ومحلين فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك أَلا ترى أَنه لَا
يتَوَجَّه الْخطاب على من لَا يعقل من صبي أَو مَجْنُون ثمَّ
يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بَعْدَمَا عقل وَيكون كل وَاحِد
مِنْهُمَا حسنا لاخْتِلَاف الْوَقْت أَو لاخْتِلَاف الْمحل
وَهَذَا لِأَن أحوالنا تتبدل فَيكون النّسخ تبديلا بِنَاء على
مَا يتبدل من أحوالنا من الْعلم مُدَّة الْبَقَاء وَالْجهل
بِهِ لَا يكون مُؤديا إِلَى الْجمع بَين صفة الْقبْح وَالْحسن
وَالله يتعالى عَن ذَلِك فَكَانَ فِي حَقه بَيَانا مَحْضا
لمُدَّة بَقَاء الْمَشْرُوع بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
حِين شَرعه
وَمَا استدلوا بِهِ من السّمع لَا يكَاد يَصح عندنَا بَعْدَمَا
ثَبت رِسَالَة رسل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِالْآيَاتِ
المعجزة والدلائل القاطعة
ودعواهم أَن ذَلِك فِي التَّوْرَاة غير مسموعة مِنْهُم
لِأَنَّهُ ثَبت عندنَا على لِسَان من ثبتَتْ رسَالَته أَنهم
حرفوا التَّوْرَاة وَزَادُوا فِيهَا ونقصوا وَلِأَن كَلَام
الله تَعَالَى لَا يثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر
وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي التَّوْرَاة بَعْدَمَا فعل بخْتنصر
ببني إِسْرَائِيل مَا فعل من الْقَتْل الذريع وإحراق أسفار
التَّوْرَاة
وَفِي الْمَسْأَلَة كَلَام كثير بَين أهل الْأُصُول وَلَكنَّا
اقتصرنا هُنَا على قدر مَا يتَّصل بأصول الْفِقْه
وَالْمَقْصُود من بَيَان هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا مَا
يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من أصُول الْفِقْه وَالله الْمُوفق
للإتمام
(2/58)
فصل فِي بَيَان مَحل النّسخ
قد بَينا أَن جَوَاز النّسخ مُخْتَصّ بِمَا يجوز أَن يكون
مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَهُوَ مِمَّا
يحْتَمل التَّوْقِيت نصا مَعَ كَونه مَشْرُوعا لِأَنَّهُ
بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَبعد انْتِهَاء الْمدَّة لَا
يبْقى مَشْرُوعا فَلَا بُد من أَن يكون فِيهِ احْتِمَال
الوصفين
وَبِهَذَا الْبَيَان يظْهر أَنه إِذا كَانَ موقتا فَلَا بُد من
أَن يكون مُحْتملا للتوقيت نصا وَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَيْسَ
فِي أصل التَّوْحِيد احْتِمَال النّسخ بِوَجْه من الْوُجُوه
لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته لم يزل كَانَ وَلَا
يزَال يكون وَمن صِفَاته أَنه صَادِق حَكِيم عَالم بحقائق
الْأُمُور فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي هَذَا بِوَجْه من
الْوُجُوه أَلا ترى أَن الْأَمر بِالْإِيمَان بِاللَّه وَكتبه
وَرُسُله لَا يحْتَمل التَّوْقِيت بِالنَّصِّ وَأَنه لَا يجوز
أَن يكون غير مَشْرُوع بِحَال من الْأَحْوَال
وعَلى هَذَا قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء لَا نسخ فِي الْأَخْبَار
أَيْضا يعنون فِي مَعَاني الْأَخْبَار واعتقاد كَون الْمخبر
بِهِ على مَا أخبر بِهِ الصَّادِق الْحَكِيم بِخِلَاف مَا
يَقُوله بعض أهل الزيغ من احْتِمَال النّسخ فِي الْأَخْبَار
الَّتِي تكون فِي الْمُسْتَقْبل لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {يمحو
الله مَا يَشَاء وَيثبت} وَلَكنَّا نقُول الْأَخْبَار ثَلَاثَة
خبر عَن وجود مَا هُوَ مَاض وَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال
التَّوْقِيت وَلَا احْتِمَال أَن لَا يكون مَوْجُودا وَخبر
عَمَّا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا
الِاحْتِمَال أَيْضا وَخبر عَمَّا هُوَ كَائِن فِي
الْمُسْتَقْبل نَحْو الْإِخْبَار بِقِيَام السَّاعَة وَلَيْسَ
فِيهِ احْتِمَال مَا بَينا من التَّرَدُّد فتجويز النّسخ فِي
شَيْء من ذَلِك يكون قولا بتجويز الْكَذِب والغلط على الْمخبر
بِهِ أَلا ترى أَنه لَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال اعتقدوا الصدْق
فِي هَذَا الْخَبَر إِلَى وَقت كَذَا ثمَّ اعتقدوا فِيهِ
الْكَذِب بعد ذَلِك
وَالْقَوْل بِجَوَاز النّسخ فِي مَعَاني الْأَخْبَار يُؤَدِّي
إِلَى هَذَا لَا محَالة وَهُوَ البداء وَالْجهل الَّذِي تدعيه
الْيَهُود فِي أصل النّسخ
فَأَما قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فقد
فسره الْحسن رَضِي الله عَنهُ بِالْإِحْيَاءِ والإماتة
وَفَسرهُ زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ قَالَ {يمحو الله مَا
يَشَاء} مِمَّا أنزلهُ من الْوَحْي {وَيثبت} بإنزال الْوَحْي
فِيهِ
فعلى هَذَا يتَبَيَّن أَن المُرَاد مَا يجوز أَن يكون مؤقتا
أَو أَن المُرَاد التِّلَاوَة وَنحن نجوز ذَلِك فِي
الْأَخْبَار أَيْضا بِأَن تتْرك التِّلَاوَة فِيهِ حَتَّى
يندرس وينعدم حفظه من قُلُوب الْعباد كَمَا فِي الْكتب
الْمُتَقَدّمَة وَإِنَّمَا
(2/59)
لَا يجوز ذَلِك فِي مَعَاني الْأَخْبَار
على مَا قَررنَا
وَإِنَّمَا مَحل النّسخ الْأَحْكَام الْمَشْرُوعَة بِالْأَمر
وَالنَّهْي مِمَّا يجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن
يكون مَشْرُوعا موقتا
وَذَلِكَ يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام قسم مِنْهُ مَا هُوَ
مؤبد بِالنَّصِّ وَقسم مِنْهُ مَا يثبت التَّأْبِيد فِيهِ
بِدلَالَة النَّص وَقسم مِنْهُ مَا هُوَ موقت بِالنَّصِّ
فَهَذِهِ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة لَيْسَ فِيهَا احْتِمَال
النّسخ أَيْضا وَإِنَّمَا احْتِمَال النّسخ فِي الْقسم
الرَّابِع وَهُوَ الْمُطلق الَّذِي يحْتَمل أَن يكون موقتا
وَيحْتَمل أَن يكون مُؤَبَّدًا احْتِمَالا على السوَاء
فَأَما بَيَان الْقسم الأول فِي قَوْله تَعَالَى {وجاعل
الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة}
فَفِيهِ تنصيص على التَّأْبِيد وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى
{خَالِدين فِيهَا أبدا} لِأَن بعد التَّنْصِيص على التَّأْبِيد
بَيَان التَّوْقِيت فِيهِ بالنسخ لَا يكون إِلَّا على وَجه
البداء وَظُهُور الْغَلَط وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك
وَمَا ثَبت التَّأْبِيد فِيهِ بِدلَالَة النَّص فبيانه فِي
الشَّرَائِع بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مُسْتَقرًّا عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا
احْتِمَال النّسخ لِأَن النّسخ لَا يكون إِلَّا على لِسَان من
ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَقد ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَن
رَسُول الله خَاتم النَّبِيين وَأَنه لَا نسخ لشريعته فَلَا
يبْقى احْتِمَال النّسخ بعد هَذِه الدّلَالَة فِيمَا كَانَ
شَرِيعَة لَهُ حِين قبض
وَنَظِيره من الْمَخْلُوقَات الدَّار الْآخِرَة فقد ثَبت
بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَنه لَا فنَاء لَهَا
وَأما الْقسم الثَّالِث فبيانه فِي قَول الْقَائِل أَذِنت لَك
فِي أَن تفعل كَذَا إِلَى مائَة سنة فَإِن النَّهْي قبل مُضِيّ
تِلْكَ الْمدَّة يكون من بَاب البداء ويتبين بِهِ أَن الْإِذْن
الأول كَانَ غَلطا مِنْهُ لجهله بعاقبة الْأَمر والنسخ الَّذِي
يكون مُؤديا إِلَى هَذَا لَا يجوز القَوْل بِهِ فِي أَحْكَام
الشَّرْع وَلم يرد شرع بِهَذِهِ الصّفة
فَأَما الْقسم الرَّابِع فبيانه فِي الْعِبَادَات
الْمَفْرُوضَة شرعا عِنْد أَسبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا
لذَلِك فَإِنَّهَا تحْتَمل التَّوْقِيت نصا يَعْنِي فِي
الْأَدَاء اللَّازِم بِاعْتِبَار الْأَمر وَفِي الْأَسْبَاب
الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى سَببا لذَلِك فَإِنَّهُ لَو
قَالَ جعلت زَوَال الشَّمْس سَببا لوُجُوب صَلَاة الظّهْر
عَلَيْكُم إِلَى وَقت كَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا وَلَو قَالَ
جعلت شُهُود الشَّهْر سَببا لوُجُوب الصَّوْم عَلَيْكُم إِلَى
وَقت كَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا
وَهَذَا كُله فِي الأَصْل مِمَّا يجوز أَن يكون
(2/60)
مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون فَكَانَ
النّسخ فِيهِ بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الحكم وَذَلِكَ جَائِز
بِاعْتِبَار مَا بَينا من الْمَعْنيين أَحدهمَا أَن معنى
الِابْتِلَاء وَالْمَنْفَعَة للعباد فِي شَيْء يخْتَلف
باخْتلَاف الْأَوْقَات وَاخْتِلَاف النَّاس فِي أَحْوَالهم
وَالثَّانِي أَن دَلِيل الْإِيجَاب غير مُوجب للبقاء
بِمَنْزِلَة البيع يُوجب الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي
وَلَا يُوجب بَقَاء الْملك بل بَقَاؤُهُ بِدَلِيل آخر مبق أَو
بِعَدَمِ دَلِيل المزيل وَهُوَ مُوجب الثّمن فِي ذمَّة
المُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الثّمن فِي ذمَّته لَا محَالة
وَلَا يكون فِي النّسخ تعرضا لِلْأَمْرِ وَلَا للْحكم الَّذِي
هُوَ مُوجبه وَامْتِنَاع جَوَاز النّسخ فِيمَا تقدم من
الْأَقْسَام كَانَ لِاجْتِمَاع معنى الْقبْح وَالْحسن
وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي وَقت وَاحِد لَا فِي
وَقْتَيْنِ حَتَّى إِن مَا يكون حسنا لعَينه لَا يجوز أَن يكون
قبيحا لعَينه بِوَجْه من الْوُجُوه
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَمر بِذبح وَلَده وَكَانَ الْأَمر دَلِيلا على حسن ذبحه ثمَّ
انتسخ ذَلِك فَكَانَ مَنْهِيّا عَن ذبحه مَعَ قيام الْأَمر
حَتَّى وَجب ذبح الشَّاة فدَاء عَنهُ وَلَا شكّ أَن النَّهْي
عَن ذبح الْوَلَد الَّذِي بِهِ يثبت الانتساخ كَانَ دَلِيلا
على قبحه وَقد قُلْتُمْ باجتماعهما فِي وَقت وَاحِد
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإنَّا لَا نقُول بِأَنَّهُ انتسخ الحكم
الَّذِي كَانَ ثَابتا بِالْأَمر وَكَيف يُقَال بِهِ وَقد
سَمَّاهُ الله محققا رُؤْيَاهُ بقوله تَعَالَى {وناديناه أَن
يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا} أَي حققت مَا أمرت بِهِ
وَبعد النّسخ لَا يكون هُوَ محققا مَا أَمر بِهِ وَلَكنَّا
نقُول الشَّاة كَانَت فدَاء كَمَا نَص الله عَلَيْهِ فِي
قَوْله {وفديناه بِذبح عَظِيم} على معنى أَنه يقدم على
الْوَلَد فِي قبُول حكم الْوُجُوب بعد أَن كَانَ الْإِيجَاب
بِالْأَمر مُضَافا إِلَى الْوَلَد حَقِيقَة كمن يَرْمِي سَهْما
إِلَى غَيره فيفديه آخر بِنَفسِهِ بِأَن يتَقَدَّم عَلَيْهِ
حَتَّى ينفذ فِيهِ بعد أَن يكون خُرُوج السهْم من الرَّامِي
إِلَى الْمحل الَّذِي قَصده وَإِذا كَانَ فدَاء من هَذَا
الْوَجْه كَانَ هُوَ ممتثلا للْحكم الثَّابِت بِالْأَمر فَلَا
يَسْتَقِيم القَوْل بالنسخ فِيهِ لِأَن ذَلِك يبتنى على
النَّهْي الَّذِي هُوَ ضد الْأَمر فَلَا يتَصَوَّر
اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد
فَإِن قيل فإيش الْحِكْمَة فِي إِضَافَة الْإِيجَاب إِلَى
الْوَلَد إِذا لم يجب بِهِ ذبح الْوَلَد قُلْنَا فِيهِ
تَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي حق الْخَلِيل عَلَيْهِ
السَّلَام حَتَّى يظْهر مِنْهُ الانقياد والاستسلام وَالصَّبْر
على مَا بِهِ من حرقة الْقلب على وَلَده وَفِي حق الْوَلَد
بِالصبرِ والمجاهدة على معرة الذّبْح إِلَى حَال المكاشفة
لرب الْعَالمين وللولد بِأَن يكون قربانا لله وَإِلَيْهِ
أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {فَلَمَّا أسلما} ثمَّ
اسْتَقر حكم الْوُجُوب فِي الشَّاة بطرِيق الْفِدَاء وَفِيه
إِظْهَار معنى الْكَرَامَة والفضيلة
(2/61)
للخليل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِسْلَامِ
للْوَلَد كَمَا قَالَ {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَالْفِدَاء اسْم
لما يكون وَاجِبا بِالسَّبَبِ الْمُوجب للْأَصْل فبه يتَبَيَّن
انعدام النّسخ هُنَا لِانْعِدَامِ رُكْنه فَإِنَّهُ بَيَان
مُدَّة بَقَاء الْوَاجِب وَحين وَجَبت الشَّاة فدَاء كَانَ
الْوَاجِب قَائِما وَالْولد حرَام الذّبْح فَعرفنَا أَنه لَا
وَجه لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ نسخا
ثمَّ على مَذْهَب عُلَمَائِنَا يجوز نسخ الأخف بالأثقل كَمَا
يجوز نسخ الأثقل بالأخف
وَذكر الشَّافِعِي فِي كتاب الرسَالَة أَن الله تَعَالَى فرض
فَرَائض أثبتها وَأُخْرَى نسخهَا رَحْمَة وتخفيفا لِعِبَادِهِ
فَزعم بعض أَصْحَابه أَنه أَشَارَ بِهَذَا إِلَى وَجه
الْحِكْمَة فِي النّسخ
وَقَالَ بَعضهم بل أَرَادَ بِهِ أَن النَّاسِخ أخف من
الْمَنْسُوخ وَكَانَ لَا يجوز نسخ الأخف بالأثقل
وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو
ننسها نأت بِخَير مِنْهَا} وبالاتفاق لَيْسَ المُرَاد أَن
النَّاسِخ أفضل من الْمَنْسُوخ فَعرفنَا أَن المُرَاد أَنه خير
من حَيْثُ إِنَّه أخف وَعَلِيهِ نَص فِي مَوضِع آخر فَقَالَ
{الْآن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة
وَلَكنَّا نستدل بقوله {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فالتقييد
بِكَوْن النَّاسِخ أخف من الْمَنْسُوخ يكون زِيَادَة على هَذَا
النَّص من غير دَلِيل ثمَّ الْمَعْنى الَّذِي دلّ على جَوَاز
النّسخ وَهُوَ مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الِابْتِلَاء
وَالنَّقْل إِلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَة لنا عَاجلا أَو آجلا لَا
يفصل بَينهمَا فقد يكون الْمَنْفَعَة تَارَة فِي النَّقْل
إِلَى مَا هُوَ أخف على الْبدن وَتارَة فِي النَّقْل إِلَى مَا
هُوَ أشق على الْبدن أَلا ترى أَن الطَّبِيب ينْقل الْمَرِيض
من الْغذَاء إِلَى الدَّوَاء تَارَة وَمن الدَّوَاء إِلَى
الْغذَاء تَارَة بِحَسب مَا يعلم من منفعَته فِيهِ
ثمَّ هُوَ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم على وَجه لَو كَانَ
مَقْرُونا بِالْأَمر لَكَانَ صَحِيحا مُسْتَقِيمًا وَفِي هَذَا
لَا فرق بَين الأثقل والأخف وَلَا حجَّة لَهُم فِي قَوْله
{الْآن خفف الله عَنْكُم} فَإِن النّسخ فِي ذَلِك الحكم
بِعَيْنِه كَانَ نقلا من الأثقل إِلَى الأخف وَهَذَا يدل على
أَن كل نسخ يكون بِهَذِهِ الصّفة أَلا ترى أَن حد الزِّنَا
كَانَ فِي الِابْتِدَاء هُوَ الْحَبْس والأذى بِاللِّسَانِ
ثمَّ انتسخ ذَلِك بِالْجلدِ وَالرَّجم
وَلَا شكّ أَن النَّاسِخ أثقل على الْبدن
وَجَاء عَن معَاذ وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي قَوْله
تَعَالَى {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} أَن حكمه كَانَ هُوَ
التَّخْيِير للصحيح بَين الصَّوْم والفدية ثمَّ انتسخ ذَلِك
بفرضية الصَّوْم عزما بقوله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم
الشَّهْر فليصمه}
ثمَّ لَا شكّ أَنه قد افْترض على الْعباد بعض مَا كَانَ
مَشْرُوعا لَا بِصفة الْفَرْضِيَّة وإلزام مَا كَانَ مُبَاحا
يكون أشق لَا محَالة
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد من قَوْله {نأت
بِخَير مِنْهَا} الأخف على وانتسخ حكم إِبَاحَة الْخمر
بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ أشق على
(2/62)
الْبدن الْبدن فَإِن الْحَج مَا كَانَ
لَازِما قبل نزُول قَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج
الْبَيْت} وَكَانَ كل مُسلم مَنْدُوبًا إِلَى أَدَائِهِ ثمَّ
صَار الْأَدَاء لَازِما بِهَذِهِ الْآيَة وَهَذَا أشق على
الْبدن يُوضحهُ أَن ترك الْخُرُوج لِلْحَجِّ يكون أخف على
الْبدن من الْخُرُوج وَلَا إِشْكَال أَن الْخُرُوج إِلَى
أَدَاء الْحَج بعد التَّمَكُّن خير من التّرْك
فَبِهَذَا يتَبَيَّن ضعف استدلالهم
فصل فِي بَيَان شَرط النّسخ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن شَرط جَوَاز النّسخ
عندنَا هُوَ التَّمَكُّن من عقد الْقلب فَأَما الْفِعْل أَو
التَّمَكُّن من الْفِعْل فَلَيْسَ بِشَرْط وعَلى قَول
الْمُعْتَزلَة التَّمَكُّن من الْفِعْل شَرط
وَحَاصِل الْمَسْأَلَة أَن النّسخ بَيَان لمُدَّة عقد الْقلب
وَالْعَمَل بِالْبدنِ تَارَة ولأحدهما وَهُوَ عقد الْقلب على
الحكم تَارَة فَكَانَ عقد الْقلب هُوَ الحكم الْأَصْلِيّ فِيهِ
وَالْعَمَل بِالْبدنِ زِيَادَة يجوز أَن يكون النّسخ بَيَانا
للمدة فِيهِ وَيجوز أَن لَا يكون عندنَا
وعَلى قَوْلهم النّسخ يكون بَيَانا لمُدَّة الحكم فِي حق
الْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد الْفِعْل أَو
التَّمَكُّن مِنْهُ حكما لِأَن التّرْك بعد التَّمَكُّن فِيهِ
تَفْرِيط من العَبْد فَلَا يَنْعَدِم بِهِ معنى بَيَان مُدَّة
الْعَمَل بالنسخ
قَالُوا لِأَن الْعَمَل هُوَ الْمَقْصُود بِالْأَمر وَالنَّهْي
أَلا ترى أَن ورودهما بِذكر الْفِعْل معنى قَول الْقَائِل
افعلوا كَذَا وَلَا تَفعلُوا كَذَا
وَتَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي الْفِعْل أَيْضا فَعرفنَا
أَنه هُوَ الْمَقْصُود والنسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل لَا
يكون إِلَّا بطرِيق البداء أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يَقُول قد
أمرت عَبدِي أَن يفعل غَدا كَذَا ثمَّ بدا لي فنهيته عَنهُ
وَهَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَهِي عَمَّا أَمر بِفِعْلِهِ
قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل بِأَن يظْهر لَهُ من حَال
الْمَأْمُور بِهِ مَا لم يكن مَعْلُوما حِين يَأْمُرهُ بِهِ
لعلمنا أَنه بِالْأَمر إِنَّمَا طلب من الْمَأْمُور إِيجَاد
الْفِعْل بعد التَّمَكُّن مِنْهُ لَا قبله إِذْ التَّكْلِيف
لَا يكون إِلَّا بِحَسب الوسع والبداء على الله تَعَالَى لَا
يجوز يقرره أَن القَوْل بِجَوَاز النّسخ قبل التَّمَكُّن
يُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد حسنا وقبيحا فِي
وَقت وَاحِد لِأَن الْأَمر دَلِيل على حسن فعل الْمَأْمُور
بِهِ عِنْد الْإِمْكَان وَالنَّهْي قبل التَّمَكُّن
(2/63)
دَلِيل على قبح فعله فِي ذَلِك الْوَقْت
بِعَيْنِه يُوضحهُ أَن النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم على
وَجه يجوز أَن يكون مَقْرُونا بِالْأَمر وَلِهَذَا جَازَ
النّسخ فِي الْأَمر وَالنَّهْي دون الْخَبَر والنسخ قبل
التَّمَكُّن لَا يَصح مَقْرُونا بِالْأَمر فَإِنَّهُ لَا
يَسْتَقِيم أَن يَقُول افْعَل كَذَا إِلَى أَن لَا يكون
مُتَمَكنًا مِنْهُ ثمَّ لَا يَفْعَله بعد ذَلِك فَعرفنَا أَن
النّسخ قبل التَّمَكُّن لَا يجوز
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك الحَدِيث الْمَشْهُور إِن الله تَعَالَى
فرض على عباده خمسين صَلَاة فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج ثمَّ
انتسخ مَا زَاد على الْخمس لسؤال رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ ذَلِك نسخا قبل التَّمَكُّن من
الْفِعْل إِلَّا أَنه كَانَ بعد عقد الْقلب عَلَيْهِ فَرَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الأَصْل لهَذِهِ الْأمة
وَلَا شكّ أَنه عقد قلبه على ذَلِك وَلَا معنى لقَولهم إِن
الله تَعَالَى مَا فرض ذَلِك عزما وَإِنَّمَا جعل ذَلِك إِلَى
رَأْي رَسُوله ومشيئته لِأَن فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله
عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ التَّخْفِيف عَن أمته غير مرّة
وَمَا زَالَ يسْأَل ذَلِك ويجيبه ربه إِلَيْهِ حَتَّى انْتهى
إِلَى الْخمس فَقيل لَهُ لَو سَأَلت التَّخْفِيف أَيْضا
فَقَالَ أَنا أستحي من رَبِّي وَفِي هَذَا بَيَان أَنه لم يكن
ذَلِك مفوضا إِلَى اخْتِيَاره بل كَانَ نسخا على وَجه
التَّخْفِيف بسؤاله بعد الْفَرْضِيَّة
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بقوله {فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ
صَدَقَة} إِلَى قَوْله {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله
عَلَيْكُم} فَإِن هَذَا نسخ الْأَمر قبل الْفِعْل وَلَكنهُمْ
يَقُولُونَ كَانَ هَذَا النّسخ بعد التَّمَكُّن من الْفِعْل
وَإِن كَانَ قبل مُبَاشرَة الْفِعْل وَلَا خلاف فِي جَوَاز
ذَلِك وَالأَصَح هُوَ الأول وَلِأَن النّسخ جَائِز بعد وجود
جُزْء مِمَّا تنَاوله الْأَمر بِالْفِعْلِ فَإِن قَول
الْقَائِل افعلوا كَذَا فِي مُسْتَقْبل أعماركم يجوز نسخه
بِالنَّهْي عَنهُ بعد مُضِيّ جُزْء من الْعُمر وَلَوْلَا
النّسخ لَكَانَ أصل الْكَلَام متناولا لجَمِيع الْعُمر فبالنسخ
يتَبَيَّن أَنه كَانَ المُرَاد الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ فِي
ذَلِك الْجُزْء خَاصَّة وَلَا يتَوَهَّم فِيهِ معنى البداء أَو
الْجَهْل بعاقبة الْأَمر فَكَذَلِك النّسخ بعد عقد الْقلب على
الحكم واعتقاد الحقية فِيهِ قبل التَّمَكُّن من الْعَمَل يكون
بَيَانا أَن المُرَاد كَانَ عقد الْقلب عَلَيْهِ إِلَى هَذَا
الْوَقْت واعتقاده الْفَرْضِيَّة فِيهِ دون مُبَاشرَة الْعَمَل
وَإِنَّمَا يكون مُبَاشرَة الْعَمَل مَقْصُودا لمن ينْتَفع
بِهِ وَالله يتعالى عَن ذَلِك وَإِنَّمَا الْمَقْصُود فِيمَا
يَأْمر الله بِهِ عباده الِابْتِلَاء والابتلاء بعزيمة الْقلب
(2/64)
واعتقاد الحقية لَا يكون دون الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ
وَرُبمَا يكون ذَلِك أهم أَلا ترى أَن فِي الْمُتَشَابه مَا
كَانَ الِابْتِلَاء إِلَّا بِعقد الْقلب عَلَيْهِ واعتقاد
الحقية فِيهِ
وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْمل الَّذِي لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ
إِلَّا بعد الْبَيَان يكون الِابْتِلَاء قبل الْبَيَان بِعقد
الْقلب عَلَيْهِ واعتقاد الحقية فِيهِ وَيكون ذَلِك حسنا لَا
يشوبه من معنى الْقبْح شَيْء فَكَذَلِك الْأَمر الَّذِي يرد
النّسخ عَقِيبه قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل وَيعْتَبر هَذَا
بإحياء الشَّخْص فقد تبين انْتِهَاء مُدَّة حَيَاته
بِالْمَوْتِ قبل أَن يصير مُنْتَفعا بحياته إِمَّا فِي بطن أمه
بِأَن ينْفَصل مَيتا أَو بعد الِانْفِصَال قبل أَن ينْتَفع
بحياته وَأحد لَا يَقُول إِنَّه يتَمَكَّن فِيهِ معنى البداء
أَو إِنَّه يجْتَمع فِيهِ معنى الْحسن والقبح يُوضحهُ أَن
الْوَاحِد منا قد يَأْمر عَبده ومقصوده من ذَلِك أَن يظْهر
عِنْد النَّاس حسن طَاعَته وانقياده لَهُ ثمَّ ينهاه عَن ذَلِك
بعد حُصُول هَذَا الْمَقْصُود قبل أَن يتَمَكَّن من مُبَاشرَة
الْفِعْل وَلَا يَجْعَل ذَلِك دَلِيل البداء مِنْهُ وَإِن
كَانَ مِمَّن يجوز عَلَيْهِ البداء فَلِأَن لَا يَجْعَل النّسخ
قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل بعد عزم الْقلب واعتقاد الحقية
موهما للبداء فِي حق من لَا يجوز عَلَيْهِ البداء أولى
وَإِنَّمَا يجْتَمع الْحسن والقبح فِي شَيْء وَاحِد إِذا كَانَ
مَأْمُورا بِهِ ومنهيا عَنهُ فِي وَقت وَاحِد وَذَلِكَ لَا
يكون مَعَ أَن الْحسن مُطلقًا مَا حسنه الشَّرْع والقبيح مَا
قبحه الشَّرْع يقرره أَن تَمام الْحسن على مَا يَزْعمُونَ
إِنَّمَا يظْهر عِنْد مُبَاشرَة الْعَمَل وَالْإِطْلَاق
يَقْتَضِي صفة الْكَمَال ثمَّ بالِاتِّفَاقِ يجوز النّسخ بعد
التَّمَكُّن من الْفِعْل قبل حَقِيقَة الْفِعْل لِأَن معنى
الْحسن فِيهِ كَامِل من حَيْثُ عقد الْقلب واعتقاد الحقية
فِيهِ فَكَذَلِك قبل التَّمَكُّن وَلَا نقُول بِأَن مثل هَذَا
الْبَيَان لَا يجوز مَقْرُونا بِالْأَمر فَإِنَّهُ لَو قَالَ
افْعَل كَذَا فِي وَقت كَذَا (إِن لم أنسخه عَنْك كَانَ ذَلِك
أمرا مُسْتَقِيمًا بِمَنْزِلَة قَوْله افْعَل كَذَا فِي وَقت
كَذَا) إِن تمكنت مِنْهُ وَتَكون الْفَائِدَة فِي الْحَال هُوَ
الْقبُول بِالْقَلْبِ واعتقاد الحقية فِيهِ فَكَذَلِك يجوز
مثله بعد الْأَمر بطرِيق النّسخ وَالله الْمُوفق |