أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان النَّاسِخ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَج أَرْبَعَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع

(2/65)


وَالْقِيَاس
وَلَا خلاف بَين جُمْهُور الْعلمَاء فِي أَنه لَا يجوز نسخ الْكتاب وَالسّنة بِالْقِيَاسِ وَكَانَ ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي يجوز ذَلِك والأنماطي من أَصْحَابه كَانَ يَقُول لَا يجوز ذَلِك بِقِيَاس الشّبَه وَيجوز بِقِيَاس مستخرج من الْأُصُول وكل قِيَاس هُوَ مستخرج من الْقُرْآن يجوز نسخ الْكتاب بِهِ وكل قِيَاس هُوَ مستخرج من السّنة يجوز نسخ السّنة بِهِ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَنسخ السّنة بِالسنةِ فثبوت الحكم بِمثل هَذَا الْقيَاس فِي الْحَقِيقَة يكون محالا بِهِ على الْكتاب وَالسّنة
وَهَذَا قَول بَاطِل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة فقد كَانُوا مُجْمِعِينَ على ترك الرَّأْي بِالْكتاب وَالسّنة حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث الْجَنِين كدنا أَن نقضي فِيهِ برأينا وَفِيه سنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله يمسح على ظَاهر الْخُف دون بَاطِنه
وَلِأَن الْقيَاس كَيْفَمَا كَانَ لَا يُوجب الْعلم فَكيف ينْسَخ بِهِ مَا هُوَ مُوجب للْعلم قطعا وَقد بَينا أَن النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَكَونه حسنا إِلَى ذَلِك الْوَقْت وَلَا مجَال للرأي فِي معرفَة انْتِهَاء وَقت الْحسن وَمَا ادَّعَاهُ من أَن هَذَا الحكم يكون ثَابتا بِالْكتاب فَكَلَام ضَعِيف فَإِن الْوَصْف الَّذِي بِهِ يرد الْفَرْع إِلَى الأَصْل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكتاب وَالسّنة غير مَقْطُوع بِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنى فِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَأحد من القائسين لَا يَقُول بِأَن حكم الرِّبَا فِيمَا عدا الْأَشْيَاء السِّتَّة يكون ثَابتا بِالنَّصِّ الَّذِي فِيهِ ذكر الْأَشْيَاء السِّتَّة
وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع فقد جوزه بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع مُوجب علم الْيَقِين كالنص فَيجوز أَن يثبت النّسخ بِهِ وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور وَإِذا كَانَ يجوز النّسخ بالْخبر الْمَشْهُور كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الزِّيَادَة على النَّص فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى
وَأَكْثَرهم على أَنه لَا يجوز ذَلِك لِأَن الْإِجْمَاع عبارَة عَن اجْتِمَاع الآراء على شَيْء وَقد بَينا أَنه لَا مجَال للرأي فِي معرفَة نِهَايَة وَقت الْحسن والقبح فِي الشَّيْء عِنْد الله تَعَالَى ثمَّ أَوَان النّسخ حَال حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتفاقنا على أَنه لَا نسخ بعده وَفِي حَال حَيَاته مَا كَانَ ينْعَقد الْإِجْمَاع بِدُونِ رَأْيه وَكَانَ الرُّجُوع إِلَيْهِ فرضا وَإِذا وجد الْبَيَان مِنْهُ فالموجب للْعلم قطعا هُوَ الْبَيَان المسموع

(2/66)


مِنْهُ وَإِنَّمَا يكون الْإِجْمَاع مُوجبا للْعلم بعده وَلَا نسخ بعده فَعرفنَا أَن النّسخ بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا يجوز
ثمَّ الْأَقْسَام بعد هَذَا أَرْبَعَة نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَنسخ السّنة بِالسنةِ وَنسخ الْكتاب بِالسنةِ وَنسخ السّنة بِالْكتاب
وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين ويختلفون فِي الْقسمَيْنِ الآخرين
فعندنا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة أَو الْمَشْهُورَة على مَا ذكره الْكَرْخِي عَن أبي يُوسُف أَنه يجوز نسخ الْكتاب بِمثل خبر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَهُوَ مَشْهُور وَكَذَلِكَ يجوز نسخ السّنة بِالْكتاب
وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلَا نسخ السّنة بِالْكتاب فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب الرسَالَة وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينسخها إِلَّا سنة كَمَا لَا ينْسَخ الْكتاب إِلَّا الْكتاب
فَمن أَصْحَابه من يَقُول مُرَاده نفي الْجَوَاز وَمِنْهُم من يَقُول مُرَاده نفي الْوُجُود أَي لم يُوجد فِي الشَّرِيعَة نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلَا نسخ السّنة بِالْكتاب
فَيحْتَاج إِلَى إِثْبَات الْفَصْلَيْنِ بِالْحجَّةِ
فَأَما هُوَ احْتج بقوله تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَفِي هَذَا تنصيص على أَنه كَانَ مُتبعا لكل مَا يُوحى إِلَيْهِ وَلم يكن مبدلا لشَيْء مِنْهُ والنسخ تَبْدِيل قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون} فَأخْبر أَنه مُبين لما هُوَ الْمنزل حَتَّى يعْمل النَّاس بالمنزل بَعْدَمَا تبين لَهُم ببيانه وَفِي تَجْوِيز نسخ الْكتاب بِالسنةِ رفع هَذَا الحكم لِأَن الْعَمَل بالناسخ يكون فَإِذا كَانَ النَّاسِخ من السّنة لَا يكون الْعَمَل بِهِ عملا بالمنزل
وَقَوله تَعَالَى {ولعلهم يتفكرون} أَي يتفكرون فِي الْمنزل ليعملوا بِهِ بعد بَيَانه وَفِي النَّاسِخ فِي الْمَنْسُوخ التفكر فِي التَّارِيخ بَينهمَا ليجعل الْمُتَقَدّم مَنْسُوخا بالمتأخر لَا فِي الْمنزل ليعْمَل بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَلَا شكّ أَن السّنة لَا تكون مثلا لِلْقُرْآنِ وَلَا خيرا مِنْهُ وَالْقُرْآن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق وَهُوَ معجز وَالسّنة كَلَام مَخْلُوق وَهُوَ غير معجز
فَعرفنَا أَن نسخ الْكتاب لَا يجوز بِالسنةِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رُوِيَ لكم

(2/67)


عني حَدِيث فاعرضوه على كتاب الله فَمَا وَافق كتاب الله فاقبلوه وَمَا خَالف كتاب الله فَردُّوهُ وَمَعَ هَذَا الْبَيَان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلِأَن مَا قلته أقرب إِلَى صِيَانة رَسُول الله عَن طعن الطاعنين فِيهِ وبالاتفاق يجب الْمصير فِي بَاب بَيَان أَحْكَام الشَّرْع إِلَى طَرِيق يكون أبعد عَن الطعْن فِيهِ
وَبَيَان ذَلِك أَنه إِذا جَازَ مِنْهُ أَن يَقُول مَا هُوَ مُخَالف للمنزل فِي الظَّاهِر على وَجه النّسخ لَهُ فالطاعن يَقُول هُوَ أول قَائِل وَأول عَامل بِخِلَاف مَا يزْعم أَنه أنزل إِلَيْهِ فَكيف يعْتَمد قَوْله فِيهِ وَإِذا ظهر مِنْهُ قَول ثمَّ قَرَأَ مَا هُوَ مُخَالف لما ظهر مِنْهُ من القَوْل فالطاعن يَقُول قد كذبه ربه فِيمَا قَالَ فَكيف نصدقه وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر} ثمَّ نفى عَنهُ هَذَا الطعْن بقوله {قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ} فَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَيْسَ فِي نسخ الْكتاب بِالْكتاب تعريضه لِلطَّعْنِ وَفِي نسخ الْكتاب بِالسنةِ تعريضه لِلطَّعْنِ من الْوَجْه الَّذِي قَالَه الطاعنون فَيجب سد هَذَا الْبَاب لعلمنا أَنه مصون عَمَّا يُوهم الطعْن فِيهِ
وَاسْتدلَّ على نفي جَوَاز نسخ (السّنة) بِالْكتاب بقوله {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} وَالسّنة شَيْء فَيكون الْكتاب تبيانا لحكمه لَا رَافعا لَهُ وَذَلِكَ فِي أَن يكون مؤيدا إِن كَانَ مُوَافقا ومبينا للغلط فِيهَا إِن كَانَ مُخَالفا وَلِهَذَا لَا يجوز إِلَّا عِنْد وُرُوده ليَكُون بَيَانا مَحْضا فَإِن رَسُول الله كَانَ لَا يقر على الْخَطَأ وَالْبَيَان الْمَحْض مَا يكون مُقَارنًا وَلِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أَمر بِشَيْء وتقرر ذَلِك فقد توجه علينا الْأَمر من الله تَعَالَى بتصديقه فِي ذَلِك واتباعه فَلَا يجوز القَوْل بِأَن ينزل فِي الْقُرْآن بعد ذَلِك مَا يكون مُخَالفا لَهُ حَقِيقَة أَو ظَاهرا فَإِن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا يفترض تَصْدِيقه فِيمَا يخبر بِهِ لجَوَاز أَن ينزل الْقُرْآن بِخِلَافِهِ وَذَلِكَ خلاف النَّص وَخلاف قَول الْمُسلمين أجمع يقرره أَن السّنة نوع حجَّة لإِثْبَات حكم الشَّرْع وَالْكتاب كَذَلِك وحجج الشَّرْع لَا تتناقض وَإِنَّمَا يتأيد وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على أَنه من عِنْد غير الله قَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد} نوع مِنْهَا بِنَوْع

(2/68)


آخر لِأَن فِي التَّنَاقُض مَا يُؤَدِّي إِلَى تنفير النَّاس عَن قبُوله {غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن أحد النَّوْعَيْنِ يتأيد بِالْآخرِ وَلَا يتَمَكَّن فِيمَا بَين النَّوْعَيْنِ تنَاقض وَالْقَوْل بِجَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب وَالْكتاب بِالسنةِ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك من أَصْحَابنَا من اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فرض ثمَّ انتسخ ذَلِك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث وَهَذِه سنة مَشْهُورَة
وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّمَا انتسخ ذَلِك بِآيَة الْمَوَارِيث لِأَن فِيهَا إِيجَاب حق آخر لَهُم بطرِيق الْإِرْث وَإِيجَاب حق بطرِيق الْإِرْث لَا يُنَافِي حَقًا آخر ثَابتا بطرِيق آخر وَبِدُون الْمُنَافَاة لَا يثبت النّسخ
وَلَا يجوز أَن يُقَال لَعَلَّ ناسخه مِمَّا أنزل فِي الْقُرْآن وَلَكِن لم يبلغنَا لانتساخ تِلَاوَته مَعَ بَقَاء حكمه لِأَن فتح هَذَا الْبَاب يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِالْوَقْفِ فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يُقَال مَا من حكم إِلَّا ويتوهم فِيهِ أَن يكون ناسخه قد نزل ثمَّ لم يبلغنَا لانتساخ تِلَاوَته وَمَعَ ذَلِك يُؤَدِّي هَذَا إِلَى مَذْهَب الروافض فَإِنَّهُم يَقُولُونَ قد نزلت آيَات كَثِيرَة فِيهَا تنصيص على إِمَامَة عَليّ وَلم يبلغنَا ذَلِك وَيَقُولُونَ إِن لظَاهِر مَا نزل من الْقُرْآن بَاطِنا لَا نعقله وَقد كَانَ يعقله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأهل بَيته فيزعمون أَن كثيرا من الْأَحْكَام قد خَفِي علينا وَيجب الرُّجُوع فِيهَا إِلَى أهل الْبَيْت للوقوف على ذَلِك وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على بطلَان القَوْل بِهَذَا فَكل سُؤال يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بذلك فَهُوَ سَاقِط
وَلَكِن هَذَا الِاسْتِدْلَال مَعَ هَذَا لَيْسَ بِقَوي من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِي آيَة الْمَوَارِيث تنصيصا على تَرْتِيب الْإِرْث على وَصِيَّة مُنكرَة فَإِنَّهُ قَالَ {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} وَالَّتِي كَانَت مَفْرُوضَة من الْوَصِيَّة هِيَ الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة الْمعرفَة بِالْألف وَاللَّام فَإِنَّهُ قَالَ {الْوَصِيَّة للْوَالِدين} فَلَو كَانَت تِلْكَ الْوَصِيَّة بَاقِيَة عِنْد نزُول آيَة الْمَوَارِيث لَكَانَ فِيهَا تَرْتِيب الْمِيرَاث على الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة وَفِي التَّنْصِيص على تَرْتِيب الْإِرْث على

(2/69)


وَصِيَّة مُطلقَة دَلِيل نسخ الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة لِأَن الْإِطْلَاق بعد التَّقْيِيد نسخ كَمَا أَن التَّقْيِيد بعد الْإِطْلَاق نسخ
وَالثَّانِي أَن النّسخ فِي الشَّرْع نَوْعَانِ أَحدهمَا إِثْبَات الحكم مُبْتَدأ على وَجه يكون دَلِيلا على انْتِهَاء الْوَقْت فِي حكم كَانَ قبله
وَالثَّانِي نسخ بطرِيق التَّحْوِيل للْحكم من شَيْء إِلَى شَيْء بِمَنْزِلَة تَحْويل فرض التَّوَجُّه عِنْد أَدَاء الصَّلَاة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة وانتساخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِآيَة الْمِيرَاث من النَّوْع الثَّانِي فَإِن الله تَعَالَى فوض بَيَان نصيب كل فريق إِلَى من حَضَره الْمَوْت على أَن يُرَاعى الْحُدُود فِي ذَلِك وَيبين حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم بِحَسب قرَابَته ثمَّ تولى بَيَان ذَلِك بِنَفسِهِ فِي آيَة الْمَوَارِيث وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُم الله} وَإِنَّمَا تولى بَيَانه بِنَفسِهِ لِأَن الْمُوصي رُبمَا كَانَ يقْصد إِلَى المضارة فِي ذَلِك وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {غير مضار وَصِيَّة من الله} وَرُبمَا كَانَ لَا يحسن التَّدْبِير فِي مِقْدَار مَا يوصى لكل وَاحِد مِنْهُم بجهله فَبين الله تَعَالَى نصيب كل وَاحِد مِنْهُم على وَجه يتَيَقَّن بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَاب وَأَن فِيهِ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا} وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير من أَمر غَيره بِإِعْتَاق عَبده ثمَّ يعتقهُ بِنَفسِهِ فينتهي بِهِ حكم الْوكَالَة لما بَاشرهُ الْمُوكل بِنَفسِهِ فَهُنَا حِين بَين الله تَعَالَى نصيب كل قريب لم يبْق حكم الْوَصِيَّة إِلَى الْوَالِدين والأقربين لحُصُول الْمَقْصُود بأقوى الطّرق وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بقوله إِن الله تَعَالَى أعْطى كل ذِي حق حَقه أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث وَكَانَ النّسخ بِهَذَا الطَّرِيق بِمَنْزِلَة الْحِوَالَة فَإِن الدّين إِذا تحول من ذمَّة إِلَى ذمَّة حَتَّى اشتغلت الذِّمَّة الثَّانِيَة بِهِ فرغ مِنْهُ الذِّمَّة الأولى وَإِن لم يكن بَين وجوب الدّين فِي الذمتين معنى الْمُنَافَاة كَمَا يكون بطرِيق الْكفَالَة
وَلَكنَّا نقُول بِهَذَا الطَّرِيق يجوز أَن يثبت انْتِهَاء حكم وجوب الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فَأَما انْتِهَاء حكم جَوَاز الْوَصِيَّة لَهُم لَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق أَلا ترى أَن بالحوالة وَإِن لم يبْق الدّين وَاجِبا فِي الذِّمَّة الأولى فقد بقيت الذِّمَّة محلا صَالحا لوُجُوب الدّين فِيهَا وَلَيْسَ من ضَرُورَة انْتِفَاء وجوب الْوَصِيَّة لَهُم

(2/70)


انْتِفَاء الْجَوَاز كَالْوَصِيَّةِ للأجانب
فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا انتسخ انْتِفَاء وجوب الْوَصِيَّة لَهُم لضَرُورَة نفي أصل الْوَصِيَّة لَهُم وَذَلِكَ ثَابت بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث فَمن هَذَا الْوَجْه يَتَقَرَّر الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بِحكم الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ فِي حق الزَّانِي فَإِنَّهُ كَانَ بِالْكتاب ثمَّ انتسخ بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي أَيْضا فقد ثَبت بِرِوَايَة عمر رَضِي الله عَنهُ أَن الرَّجْم مِمَّا كَانَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن على مَا قَالَ لَوْلَا أَن النَّاس يَقُولُونَ إِن عمر زَاد فِي كتاب الله لكتبت على حَاشِيَة الْمُصحف الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ
الحَدِيث فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا نسخ الْكتاب بِالْكتاب
ثمَّ الْآيَة الَّتِي فِيهَا بَيَان حكم الْحَبْس والأذى بِاللِّسَانِ فِيهَا بَيَان تَوْقِيت ذَلِك الحكم بِمَا هُوَ مُجمل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} فَإِنَّمَا بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْمُجْمل وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا وَلَا خلاف أَن بَيَان الْمُجْمل فِي كتاب الله تَعَالَى بِالسنةِ يجوز
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا} فَإِن هَذَا حكم مَنْصُوص فِي الْقُرْآن فقد انتسخ وناسخه لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآن فَعرفنَا أَنه ثَابت بِالسنةِ
وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا
وَبَين أهل التَّفْسِير كَلَام فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وَأثبت مَا قيل فِيهِ أَن من ارْتَدَّت زَوجته وهربت إِلَى دَار الْحَرْب فقد كَانَ على الْمُسلمين أَن يعينوه من الْغَنِيمَة بِمَا ينْدَفع بِهِ الخسران عَنهُ وَذَلِكَ بِأَن يعطوه مثل مَا سَاق إِلَيْهَا من الصَدَاق وَإِلَى ذَلِك وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {فعاقبتم} أَي عَاقَبْتُمْ الْمُشْركين بِالسَّبْيِ والاسترقاق واغتنام أَمْوَالهم
وَكَانَ ذَلِك بطرِيق النّدب على سَبِيل الْمُسَاوَاة وَلم ينتسخ هَذَا الحكم
فَبِهَذَا تبين أَنه لَا يُؤْخَذ نسخ حكم ثَابت بِالْكتاب بِحكم هُوَ ثَابت بِالسنةِ ابْتِدَاء وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من ذَلِك الزِّيَادَة بِالسنةِ على الحكم الثَّابِت بِالْكتاب نَحْو مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي ضم التَّغْرِيب إِلَى الْجلد

(2/71)


فِي حد الْبكر فَإِنَّهُ أثْبته بقوله (الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام) وَمثل هَذِه الزِّيَادَة عندنَا نسخ وَعِنْده بَيَان بطرِيق التَّخْصِيص وَلَا يكون نسخا
فعلى هَذَا الْكَلَام يبتنى على ذَلِك الأَصْل
وسنقرر هَذَا بعد هَذَا
ثمَّ الْحجَّة لإِثْبَات جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ قَوْله تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَإِن المُرَاد بَيَان حكم غير متلو فِي الْكتاب مَكَان حكم آخر وَهُوَ متلو على وَجه يتَبَيَّن بِهِ مُدَّة بَقَاء الحكم الأول وَثُبُوت حكم الثَّانِي والنسخ لَيْسَ إِلَّا هَذَا
وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هَذَا لَا مَا توهمه الْخصم فِي بَيَان الحكم الْمنزل فِي الْكتاب أَنه قَالَ تَعَالَى {مَا نزل إِلَيْهِم} وَلَو كَانَ المُرَاد الْكتاب لقَالَ مَا نزل إِلَيْك كَمَا قَالَ تَعَالَى {بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} والمنزل إِلَى النَّاس الحكم الَّذِي أمروا باعتقاده وَالْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ يكون تَارَة بِوَحْي متلو وَتارَة بِوَحْي غير متلو وَهُوَ مَا يكون مسموعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يُقَال إِنَّه سنته فقد ثَبت بِالنَّصِّ أَنه كَانَ لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا بِالْوَحْي قَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَمعنى قَوْله {لَعَلَّهُم يتفكرون} أَي يتفكرون فِي حجج الشَّرْع ليقفوا بتفكرهم على الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي كل حجَّة أَو ليعرفوا النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ
وَوجه الْحِكْمَة فِي تَبْدِيل الْمَنْسُوخ بالناسخ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْمَنَافِع للمخاطبين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَو يتَبَيَّن لَهُم إِرَادَة الْيُسْر والتوسعة لِلْأَمْرِ عَلَيْهِم أَو مَا يكون لَهُم فِيهِ من عَظِيم الثَّوَاب وَفِي هَذَا كُله لَا فرق بَين مَا يكون ثُبُوته بِوَحْي متلو وَبَين مَا يكون ثُبُوته بِوَحْي غير متلو وَفِيمَا تَلا من الْآيَة إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} فَعرفنَا أَن المُرَاد بَيَان أَنه لَا يُبدل شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه بِنَاء على مُتَابعَة الْهوى وَإِنَّمَا يُوحى إِلَيْهِ فَيتبع مَا يُوحى إِلَيْهِ ويبينه للنَّاس فِيمَا لَيْسَ بمنزل فِي الْقُرْآن وَلَكِن الْعبارَة فِيهِ مفوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيبينه بعبارته وَهُوَ حكم ثَابت من الله تَعَالَى بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ بِمَنْزِلَة الحكم المتلو فِي الْقُرْآن وَدَلِيل كَونه مَقْطُوعًا بِهِ مَا قَالَ إِن تصديقنا إِيَّاه فرض علينا من الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ أَتْبَاعه لَازم بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}

(2/72)


وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَبِهَذَا التَّقْرِير يتَبَيَّن أَن بِالْوَحْي الَّذِي هُوَ غير متلو (يجوز أَن يتَبَيَّن مُدَّة بَقَاء الحكم المتلو كَمَا يجوز أَن يتَبَيَّن ذَلِك بِالْوَحْي الَّذِي هُوَ متلو) والنسخ لَيْسَ إِلَّا هَذَا أَلا ترى أَنا لَو سمعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لحكم هُوَ ثَابت بِوَحْي متلو قد كَانَ هَذَا الحكم ثَابتا إِلَى الْآن وَقد انْتهى وقته فَلَا تعملوا بِهِ بعده يلْزمنَا تَصْدِيقه فِي ذَلِك والكف عَن الْعَمَل بِهِ وتكفير من يكذبهُ فِي ذَلِك
فَكَذَلِك إِذا ثَبت ذَلِك عندنَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَنهُ
فَإِن قيل مَعَ هَذَا فِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى (أَن رَسُول الله مُبين للْحكم وَفِي النّسخ بَيَان حكم وَرفع حكم مَشْرُوع وَلَيْسَ فِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى) أَنه رَافع لحكم ثَابت بِوَحْي متلو
قُلْنَا نَحن نقُول هُوَ مُبين وَلَكِن فِي حق الحكم الأول مُبين تَأْوِيلا وتبليغا وَفِي حق الحكم الثَّانِي تبليغا وتأويلا
وَبَيَان هَذَا أَنا قد ذكرنَا أَن الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوت الحكم وَهُوَ الْوَحْي المتلو لَا يكون مُوجبا بَقَاء الحكم وبالنسخ إِنَّمَا يرْتَفع بَقَاء الحكم الأول وَلم يكن ذَلِك ثَابتا بِوَحْي متلو حَتَّى يكون فِي بَيَانه رفع الحكم المتلو مَعَ أَنه لَيْسَ فِي النّسخ رفع الحكم وَلكنه بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم ثمَّ الْوَقْت لَا يبْقى بعد مُضِيّ وقته كَمَا لَو كَانَ التَّوْقِيت فِيهِ مَذْكُورا فِي النَّص الْمُثبت فعلى هَذَا التَّقْرِير يكون هُوَ مُبينًا للْوَقْت فِيمَا هُوَ منزل
فَإِن قيل فعلى هَذَا اخْتِلَاط الْبَيَان بالنسخ وبالاتفاق بَين الْبَيَان والنسخ فرق
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن كلا وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَة بَيَان إِلَّا أَن الْبَيَان الْمَحْض يجوز أَن يكون مقترنا بِأَصْل الْكَلَام كدليل الْخُصُوص فِي الْعُمُوم فَإِنَّهُ لَا يكون إِلَّا مُقَارنًا وَبَيَان الْمُجْمل فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون مُقَارنًا
فَأَما النّسخ (بَيَان) لَا يكون

(2/73)


إِلَّا مُتَأَخِّرًا
وبهذه الْعَلامَة يظْهر الْفرق بَينهمَا فَأَما أَن يكون النّسخ غير الْبَيَان فَلَا
فَإِن قيل الحكم الثَّابِت بِالسنةِ يُضَاف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال إِنَّه سنته وَمَا يكون طَرِيقه الْوَحْي فَهُوَ مُضَاف إِلَى الله تَعَالَى كَالثَّابِتِ بِالْوَحْي المتلو فَفِي إِضَافَته إِلَى رَسُول الله دَلِيل على أَنه لَيْسَ بِبَيَان لما هُوَ الْمنزل بطرِيق الْوَحْي
وَإِذا تقرر هَذَا فَنَقُول فِي النّسخ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة كَون الحكم حسنا عِنْد الله تَعَالَى وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمكن مَعْرفَته إِلَّا بِوَحْي من الله فَكيف يجوز إِثْبَات نسخ الْكتاب بِالسنةِ قُلْنَا قد بَينا أَن مَا بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّمَا يُبينهُ عَن وَحي وَالْإِضَافَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْعبارَة فِي ذَلِك لَهُ فَمن هَذَا الْوَجْه يُقَال إِنَّه سنته
فَأَما حَقِيقَة الحكم من الله تَعَالَى وقف عَلَيْهِ رَسُول الله بطرِيق الْوَحْي ثمَّ بَينه للنَّاس
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه مَا عرف انْتِهَاء مُدَّة الْحسن فِي ذَلِك الحكم إِلَّا بِوَحْي من الله تَعَالَى وَمَا هُوَ إِلَّا نَظِير بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة الْحَيَاة لحي قد أَحْيَاهُ الله تَعَالَى فَإِن أحدا لَا يظنّ أَنه بَين ذَلِك من غير طَرِيق الْوَحْي وَمَا كَانَت الْإِضَافَة إِلَيْهِ إِلَّا نَظِير قَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ} فَإِن إِضَافَة الإمناء إِلَى الْعباد لَا يمْنَع القَوْل بِأَن الشَّخْص مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى فَكَذَلِك إِضَافَة السّنة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق أَنه ظهر لنا بعبارته لَا يكون دَلِيلا على أَن الحكم غير ثَابت بطرِيق الْوَحْي من الله تَعَالَى وكما أَن الْكتاب وَالسّنة كل وَاحِد مِنْهُمَا حجَّة مُوجبَة للْعلم فآيات الْكتاب كلهَا حجَّة مُوجبَة للْعلم
ثمَّ القَوْل بِجَوَاز نسخ الْكتاب بِالْكتاب لَا يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بالتناقض فِي الْحجَّة فَكَذَلِك فِي السّنَن فَإِن جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض وتطرق الطاعنين إِلَى الطعْن فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك بل يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تَعْظِيم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى قرب مَنْزِلَته من حَيْثُ إِن الله تَعَالَى فوض بَيَان الحكم الَّذِي هُوَ وَحي فِي الأَصْل إِلَيْهِ ليبينه بعبارته وَجعل لعبارته من الدرجَة مَا يثبت بِهِ مُدَّة الحكم الَّذِي هُوَ ثَابت بِوَحْي متلو حَتَّى

(2/74)


يتَبَيَّن بِهِ انتساخه
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا خلاف بَيْننَا وَبَين الْخصم على جَوَاز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَنسخ تِلَاوَة الْكتاب إِنَّمَا يكون بِغَيْر الْكتاب إِمَّا بِأَن يرفع حفظه من الْقُلُوب أَو لَا يبْقى أحد مِمَّن كَانَ يحفظه نَحْو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي صلَاته سُورَة الْمُؤمنِينَ فأسقط مِنْهَا آيَة ثمَّ قَالَ بعد الْفَرَاغ ألم يكن فِيكُم أبي فَقَالَ نعم يَا رَسُول الله
فَقَالَ هلا ذكرتنيها فَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا نسخت
فَقَالَ لَو نسخت لأنبأتكم بهَا فقد اعْتقد نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا ثَبت جَوَاز نسخ التِّلَاوَة بِغَيْر الْكتاب فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الحكم لِأَن وجوب التِّلَاوَة وَالْعَمَل بِحكمِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا حكم ثَابت بِالْكتاب
وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْكتاب بِغَيْرِهِ أَن قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} قد انتسخ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة على مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا مَا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّنْيَا حَتَّى أُبِيح لَهُ النِّسَاء
وناسخ هَذَا لَا يُتْلَى فِي الْكتاب فَعرفنَا أَنهم اعتقدوا جَوَاز نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب
فَأَما قَوْله تَعَالَى {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَهُوَ يخرج على مَا ذكرنَا من التَّقْرِير فَإِن كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ ثَابت بطرِيق الْوَحْي وشارعه علام الغيوب وَإِن كَانَت الْعبارَة فِي أَحدهمَا من حَيْثُ الظَّاهِر لرَسُول الله فيستقيم إِطْلَاق القَوْل بِأَن الحكم الثَّانِي مثل الأول أَو خير مِنْهُ على معنى زِيَادَة الثَّوَاب والدرجة فِيهِ أَو كَونه أيسر على الْعباد أَو أجمع لمصالحهم عَاجلا وآجلا إِلَّا أَن الْوَحْي المتلو نظمه معجز وَالَّذِي هُوَ غير متلو نظمه لَيْسَ بمعجز لِأَنَّهُ عبارَة مَخْلُوق وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ أفْصح الْعَرَب فَكَلَامه لَيْسَ بمعجز أَلا ترى أَنه مَا تحدى النَّاس إِلَى الْإِتْيَان بِمثل كَلَامه كَمَا تحداهم إِلَى الأتيان بِمثل سُورَة من الْقُرْآن
وَلَكِن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمَا دون الْآيَة وبآية وَاحِدَة واتفاق الْعلمَاء على صفة الإعجاز فِي سُورَة وَإِن تكلمُوا فِيمَا دون

(2/75)


السُّورَة
فَعرفنَا أَن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز
وَمَا رُوِيَ من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فاعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فقد قيل هَذَا الحَدِيث لَا يكَاد يَصح لِأَن هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَإِن فِي الْكتاب فَرضِيَّة اتِّبَاعه مُطلقًا وَفِي هَذَا الحَدِيث فَرضِيَّة اتِّبَاعه مُقَيّدا بِأَن لَا يكون مُخَالفا لما يُتْلَى فِي الْكتاب ظَاهرا
ثمَّ وَلَئِن ثَبت فَالْمُرَاد أَخْبَار الْآحَاد لَا المسموع مِنْهُ بِعَيْنِه أَو الثَّابِت عَنهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَفِي اللَّفْظ مَا دلّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رُوِيَ لكم عني حَدِيث وَلم يقل إِذا سَمِعْتُمْ مني وَبِه نقُول إِن بِخَبَر الْوَاحِد لَا يثبت نسخ الْكتاب لِأَنَّهُ لَا يثبت كَونه مسموعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا وَلِهَذَا لَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين على أَن المُرَاد بقوله وَمَا خَالف فَردُّوهُ عِنْد التَّعَارُض إِذا جعل التَّارِيخ بَينهمَا حَتَّى لَا يُوقف على النَّاسِخ والمنسوخ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يعْمل بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَا يجوز ترك مَا هُوَ ثَابت فِي كتاب الله نصا عِنْد التَّعَارُض وَنحن هَكَذَا نقُول وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا إِذا عرف التَّارِيخ بَينهمَا
وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب قَوْله تَعَالَى {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} فَإِن السّنة شَيْء ومطلقها يحْتَمل التَّوْقِيت والتأبيد فناسخها يكون مُبينًا معنى التَّوْقِيت فِيهَا وَالله تَعَالَى بَين أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء فبه يظْهر جَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَابت بِوَحْي غير متلو فَإِذا جَازَ نسخ السّنة بِوَحْي غير متلو فَلِأَن يجوز نسخهَا بِوَحْي متلو كَانَ أولى
وَالدَّلِيل على وجود ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَمَا قدم المدنية كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر شهرا وَهَذَا الحكم لَيْسَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن وَإِنَّمَا يثبت بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بقوله تَعَالَى {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام}
فَإِن قيل لَا كَذَلِك بل ثُبُوت هَذَا الحكم بِالْكتاب فَإِنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا وَعِنْدِي شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على انتساخه وَهَذَا حكم ثَابت بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} قُلْنَا عنْدك شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا بطرِيق أَنه تصير شَرِيعَة لنا بِسنة رَسُول الله قولا أَو عملا

(2/76)


فَلَا يخرج بِهَذَا من أَن يكون نسخ السّنة بِالْكتاب مَعَ أَن النَّاسِخ مَا كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا قد ثَبت بِفعل رَسُول الله حِين كَانَ بِمَكَّة فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ بَعْدَمَا قدم الْمَدِينَة لما صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس انتسخت السّنة بِالسنةِ ثمَّ لما نزلت فَرضِيَّة التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة انتسخت السّنة بِالْكتاب وَلَا خلاف أَن مَا كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا ثَبت انتساخه فِي حَقنا بقول أَو فعل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَافِهِ وَهَذَا نسخ الْكتاب بِالسنةِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام صَالح قُريْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة على أَن يرد عَلَيْهِم من جَاءَهُ مِنْهُم مُسلما ثمَّ انتسخ بقوله {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} الْآيَة وَهَذَا نسخ السّنة بِالْكتاب
وَكَذَلِكَ حكم إِبَاحَة الْخمر فِي الِابْتِدَاء فَإِن كَانَ ثَابتا بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنبُوهُ} وَحكم حُرْمَة الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع بعد النّوم فِي زمَان الصَّوْم كَانَ ثَابتا بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بقوله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن} الْآيَة
وَلِهَذَا أَمْثِلَة كَثِيرَة
وَأما نسخ الْكتاب بِالْكتاب فنحو وجوب الصفح والإعراض عَن الْمُشْركين فَإِنَّهُ كَانَ ثَابتا بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاصفح الصفح الْجَمِيل} ثمَّ انتسخ ذَلِك بِالْكتاب بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَحُرْمَة فرار الْوَاحِد مِمَّا دون الْعشْرَة من الْمُشْركين حكما ثَابتا بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله {وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا} ثمَّ انتسخ بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله {الْآن خفف الله عَنْكُم}
وَأما نسخ السّنة بِالسنةِ فبيانه فِيمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزوروها فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه
وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن لُحُوم الْأَضَاحِي أَن تمسكوها فَوق ثَلَاثَة أَيَّام فأمسكوا وَادخرُوا مَا بدا لكم
وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن الشّرْب فِي الدُّبَّاء والحنتم والمزفت فَاشْرَبُوا فِي الظروف فَإِن الظروف لَا تحل شَيْئا وَلَا تحرمه وَلَا تشْربُوا مُسكرا ثمَّ إِنَّمَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة أَو الْمَشْهُورَة على وَجه لَو جهل التَّارِيخ بَينهمَا يثبت حكم التَّعَارُض
فَأَما بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز النّسخ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن التَّعَارُض بِهِ لَا يثبت بَينه وَبَين الْكتاب فَإِنَّهُ لَا يعلم بِأَنَّهُ كَلَام رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام لتمكن الشُّبْهَة فِي طَرِيق النَّقْل وَلِهَذَا لَا يُوجب الْعلم فَلَا يتَبَيَّن بِهِ أَيْضا مُدَّة بَقَاء الحكم الثَّابِت بِمَا يُوجب علم الْيَقِين
فَأَما فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(2/77)


فقد كَانَ يجوز أَن يثبت نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد أَلا ترى أَن أهل قبَاء تحولوا فِي خلال الصَّلَاة من جِهَة بَيت الْمُقَدّس إِلَى جِهَة الْكَعْبَة بِخَبَر الْوَاحِد وَلم يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك رَسُول الله
وَهَذَا لِأَن فِي حَيَاته كَانَ احْتِمَال النّسخ والتوقيت قَائِما فِي كل حكم لِأَن الْوَحْي كَانَ ينزل حَالا فحالا فَأَما بعده فَلَا احْتِمَال للنسخ ابْتِدَاء
وَلَا بُد من أَن يكون مَا يثبت بِهِ النّسخ مُسْتَندا إِلَى حَال حَيَاته بطرِيق لَا شُبْهَة فِيهِ وَهُوَ النَّقْل الْمُتَوَاتر أَو مَا يكون فِي حيّز التَّوَاتُر على الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فِيمَا سبق وَالله أعلم

فصل فِي بَيَان وُجُوه النّسخ
وَهَذِه وُجُوه أَرْبَعَة نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا وَنسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَنسخ رسم التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم والنسخ بطرِيق الزِّيَادَة على النَّص
فَأَما الْوَجْه الأول فنحو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فقد علمنَا بِمَا يُوجب الْعلم حَقِيقَة أَنَّهَا قد كَانَت نازلة تقْرَأ وَيعْمل بهَا قَالَ تَعَالَى {إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} ثمَّ لم يبْق شَيْء من ذَلِك فِي أَيْدِينَا تِلَاوَة وَلَا عملا بِهِ فَلَا طَرِيق لذَلِك سوى القَوْل بانتساخ التِّلَاوَة وَالْحكم فِيمَا يحْتَمل ذَلِك
وَله طَرِيقَانِ إِمَّا صرف الله تَعَالَى عَنْهَا الْقُلُوب وَإِمَّا موت من يحفظها من الْعلمَاء لَا إِلَى خلف
ثمَّ هَذَا النَّوْع من النّسخ فِي الْقُرْآن كَانَ جَائِزا فِي حَيَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بقوله تَعَالَى {سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ الله} فالاستثناء دَلِيل على جَوَاز ذَلِك
وَقَالَ تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها} وَقَالَ {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} فَأَما بعد وَفَاة الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز هَذَا النَّوْع من النّسخ فِي الْقُرْآن عِنْد الْمُسلمين
وَقَالَ بعض الْمُلْحِدِينَ مِمَّن يتستر بِإِظْهَار الْإِسْلَام وَهُوَ قَاصد إِلَى إفساده هَذَا جَائِز بعد وَفَاته أَيْضا وَاسْتدلَّ فِي ذَلِك بِمَا رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ كَانَ يقْرَأ لَا ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ كفر بكم

وَأنس رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول

(2/78)


قَرَأنَا فِي الْقُرْآن بلغُوا عَنَّا قَومنَا أَنا لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا وأرضانا
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ قَرَأنَا آيَة الرَّجْم فِي كتاب الله ووعيناها
وَقَالَ أبي بن كَعْب إِن سُورَة الْأَحْزَاب كَانَت مثل سُورَة الْبَقَرَة أَو أطول مِنْهَا
وَالشَّافِعِيّ لَا يظنّ بِهِ مُوَافقَة هَؤُلَاءِ فِي هَذَا القَوْل وَلكنه اسْتدلَّ بِمَا هُوَ قريب من هَذَا فِي عدد الرضعات فَإِنَّهُ صحّح مَا يرْوى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِن مِمَّا أنزل فِي الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن فنسخن بِخمْس رَضعَات مَعْلُومَات وَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث
وَالدَّلِيل على بطلَان هَذَا القَوْل قَوْله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ المُرَاد الْحِفْظ لَدَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى يتعالى من أَن يُوصف بِالنِّسْيَانِ والغفلة فَعرفنَا أَن المُرَاد الْحِفْظ لدينا فالغفلة وَالنِّسْيَان متوهم منا وَبِه يَنْعَدِم الْحِفْظ إِلَّا أَن يحفظه الله عز وَجل وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْء من أَوْقَات بَقَاء الْخلق فِي الدُّنْيَا عَن أَن يكون فِيمَا بَينهم مَا هُوَ ثَابت بطرِيق الْوَحْي فِيمَا ابتلوا بِهِ من أَدَاء الْأَمَانَة الَّتِي حملوها إِذْ الْعقل لَا يُوجب ذَلِك وَلَيْسَ بِهِ كِفَايَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَقد ثَبت أَنه لَا نَاسخ لهَذِهِ الشَّرِيعَة بِوَحْي ينزل بعد وَفَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو جَوَّزنَا هَذَا فِي بعض مَا أُوحِي إِلَيْهِ لوَجَبَ القَوْل بتجويز ذَلِك فِي جَمِيعه فَيُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَن لَا يبْقى شَيْء مِمَّا ثَبت بِالْوَحْي بَين النَّاس فِي (حَال) بَقَاء التَّكْلِيف وَأي قَول أقبح من هَذَا وَمن فتح هَذَا الْبَاب لم يَأْمَن أَن يكون بعض مَا فِي أَيْدِينَا الْيَوْم أَو كُله مُخَالف لشريعة رَسُول الله بِأَن نسخ الله ذَلِك بعده وَألف بَين قُلُوب النَّاس على أَن ألهمهم مَا هُوَ خلاف شَرِيعَته فلصيانة الدّين إِلَى آخر الدَّهْر أخبر الله تَعَالَى أَنه هُوَ الْحَافِظ لما أنزلهُ على رَسُوله وَبِه يتَبَيَّن أَنه لَا يجوز نسخ شَيْء مِنْهُ بعد وَفَاته بطرِيق الاندراس وَذَهَاب حفظه من قُلُوب الْعباد وَمَا ينْقل من أَخْبَار الْآحَاد شَاذ لَا يكَاد يَصح شَيْء مِنْهَا وَيحمل قَول من قَالَ فِي آيَة الرَّجْم إِنَّه فِي كتاب الله أَي فِي حكم الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {كتاب الله عَلَيْكُم} أَي حكم الله عَلَيْكُم وَحَدِيث عَائِشَة لَا يكَاد يَصح

(2/79)


لِأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِك الحَدِيث وَكَانَت الصَّحِيفَة تَحت السرير فاشتغلنا بدفن رَسُول الله فَدخل دَاجِن الْبَيْت فَأَكله وَمَعْلُوم أَن بِهَذَا لَا يَنْعَدِم حفظه من الْقُلُوب وَلَا يتَعَذَّر عَلَيْهِم إثْبَاته فِي صحيفَة أُخْرَى فَعرفنَا أَنه لَا أصل هَذَا الحَدِيث
فَأَما الْوَجْهَانِ الْآخرَانِ فهما جائزان فِي قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء وَمن النَّاس من يَأْبَى ذَلِك
قَالُوا لِأَن الْمَقْصُود بَيَان الحكم وإنزال المتلو كَانَ لأَجله فَلَا يجوز رفع الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة لخلوه عَمَّا هُوَ الْمَقْصُود وَلَا يجوز نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم لِأَن الحكم لَا يثبت بِدُونِ السَّبَب وَلَا يبْقى بِدُونِ بَقَاء السَّبَب أَيْضا
وَمِنْهُم من يَقُول يجوز نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَلَا يجوز نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي وجوب الِاعْتِقَاد فِي المتلو أَنه قُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى كَيفَ يَصح أَن يعْتَقد فِيهِ خلاف هَذَا فِي شَيْء من الْأَوْقَات وَالْقَوْل بنسخ التِّلَاوَة يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فَكَانَ هَذَا نوعا من الْأَخْبَار الَّتِي لَا يجوز فِيهَا النّسخ
فَأَما دليلنا على وجود نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة قَوْله تَعَالَى {فأمسكوهن فِي الْبيُوت} فَإِن الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ كَانَ حد الزِّنَا وَقد انتسخ هَذَا الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج} فَإِن تَقْدِير عدَّة الْوَفَاة بحول كَانَ منزلا وانتسخ هَذَا الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة
وَقَوله تَعَالَى {فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} فَإِن حكم هَذَا قد انتسخ بقوله {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم} وَبقيت التِّلَاوَة
وَحكم التَّخْيِير بَين الصَّوْم والفدية قد انتسخ بقوله {فليصمه} وَبقيت التِّلَاوَة وَهُوَ قَوْله {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} وَالدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك أَنه يتَعَلَّق بِصِيغَة التِّلَاوَة حكمان مقصودان أَحدهمَا جَوَاز الصَّلَاة وَالثَّانِي النّظم المعجز وَبعد انتساخ الحكم الَّذِي هُوَ الْعَمَل بِهِ يبْقى هَذَانِ الحكمان وهما مقصودان أَلا ترى أَن بالمتشابه فِي الْقُرْآن إِنَّمَا يثبت هَذَانِ الحكمان فَقَط وَإِذا حسن ابْتِدَاء رسم التِّلَاوَة لهذين الْحكمَيْنِ فالبقاء أولى
وَقد بَينا أَن

(2/80)


الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوت الحكم لَا يكون مُوجبا للبقاء وبالانتساخ إِنَّمَا يَنْعَدِم بَقَاء الحكم وَذَلِكَ مَا كَانَ مُضَافا إِلَى مَا كَانَ مُوجبا ثُبُوت الحكم فانتهاء الحكم لَا يمْنَع بَقَاء التِّلَاوَة من هَذَا الْوَجْه
وَأما نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فبيانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن صَوْم كَفَّارَة الْيَمين ثَلَاثَة أَيَّام متتابعة بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات
وَقد كَانَت هَذِه قِرَاءَة مَشْهُورَة إِلَى زمن أبي حنيفَة
وَلَكِن لم يُوجد فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر الَّذِي يثبت بِمثلِهِ الْقُرْآن وَابْن مَسْعُود لَا يشك فِي عَدَالَته وإتقانه فَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا أَن نقُول كَانَ ذَلِك مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن كَمَا حفظه ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثمَّ انتسخت تِلَاوَته فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَرْف الله الْقُلُوب عَن حفظهَا إِلَّا قلب ابْن مَسْعُود ليَكُون الحكم بَاقِيا بنقله فَإِن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل بِهِ وقراءته لَا تكون دون رِوَايَته فَكَانَ بَقَاء هَذَا الحكم بعد نسخ التِّلَاوَة بِهَذَا الطَّرِيق
وَالدَّلِيل على جَوَازه مَا بَينا أَن بَقَاء الحكم لَا يكون بِبَقَاء السَّبَب الْمُوجب لَهُ فانتساخ التِّلَاوَة لَا يمْنَع بَقَاء الحكم أَلا ترى أَن البيع مُوجب للْملك ثمَّ لَو قطع المُشْتَرِي ملكه بِالْبيعِ من غَيره أَو أزاله بِالْإِعْتَاقِ لم يَنْعَدِم ذَلِك البيع لِأَن الْبَقَاء لم يكن مُضَافا إِلَيْهِ
ثمَّ قد بَينا أَن حكم تعلق جَوَاز الصَّلَاة بتلاوته وَحُرْمَة قِرَاءَته على الْجنب وَالْحَائِض مَقْصُود وَهُوَ مِمَّا يجوز أَن يكون موقتا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ مدَّته فَيكون نسخ التِّلَاوَة بَيَان مُدَّة ذَلِك الحكم كَمَا أَن نسخ الحكم بَيَان الْمدَّة فِيهِ وَمَا توهمه بَعضهم فَهُوَ غلط بَين فَإِن بَعْدَمَا اعتقدنا فِي المتلو أَنه قُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى لَا نعتقد فِيهِ أَنه لَيْسَ بقرآن وَأَنه لَيْسَ بِكَلَام الله تَعَالَى بِحَال من الْأَحْوَال وَلَكِن بانتساخ التِّلَاوَة يَنْتَهِي حكم تعلق جَوَاز الصَّلَاة بِهِ وَحُرْمَة قرآءته على الْجنب وَالْحَائِض لضَرُورَة أَن الله تَعَالَى رفع عَنَّا تِلَاوَته وَحفظه وَهُوَ نَظِير مَا يَقُول فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا قبض نعتقد فِيهِ أَنه رَسُول الله وَأَنه خَاتم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على مَا كَانَ فِي حَال حَيَاته وَإِن أخرجه الله من بَيْننَا بانتهاء مُدَّة حَيَاته فِي الدُّنْيَا
وأيد جَمِيع مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} ثمَّ قد بَينا أَنه يجوز إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء بِوَحْي غير متلو فَلِأَن يجوز بَقَاء الحكم بَعْدَمَا انتسخ حكم التِّلَاوَة من الْوَحْي المتلو كَانَ أولى

(2/81)


وَأما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الزِّيَادَة على النَّص فَإِنَّهُ بَيَان صُورَة وَنسخ معنى عندنَا سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة فِي السَّبَب أَو الحكم وعَلى قَول الشَّافِعِي هُوَ بِمَنْزِلَة تَخْصِيص الْعَام وَلَا يكون فِيهِ معنى النّسخ حَتَّى جوز ذَلِك بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس
وَبَيَان هَذَا فِي النَّفْي مَعَ الْجلد وَقيد صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين
وَجه قَوْله إِن الرَّقَبَة اسْم عَام يتَنَاوَل المؤمنة والكافرة فإخراج الْكَافِرَة مِنْهَا يكون تَخْصِيصًا لَا نسخا بِمَنْزِلَة إِخْرَاج بعض الْأَعْيَان من الِاسْم الْعَام أَلا ترى أَن بني إِسْرَائِيل استوصفوا الْبَقَرَة وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم طلب الْبَيَان الْمَحْض دون النّسخ وَبَعْدَمَا بَينهَا الله لَهُم امتثلوا الْأَمر الْمَذْكُور فِي قَوْله {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} وَهَذَا لِأَن النّسخ يكون بِرَفْع الحكم الْمَشْرُوع وَفِي الزِّيَادَة تَقْرِير الحكم الْمَشْرُوع وإلحاق شَيْء آخر بِهِ بطرِيق المحاورة فَإِن إِلْحَاق النَّفْي بِالْجلدِ لَا يخرج الْجلد من أَن يكون مَشْرُوعا وإلحاق صفة الْإِيمَان بِالرَّقَبَةِ لَا يخرج الرَّقَبَة من أَن تكون مُسْتَحقَّة الْإِعْتَاق فِي الْكَفَّارَة
وَهَذَا نَظِير حُقُوق الْعباد فَإِن من ادّعى على غَيره ألفا وخمسائة وَشهد لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلف وآخران بِأَلف وخمسائة حَتَّى قضى لَهُ بِالْمَالِ كُله كَانَ مِقْدَار الْألف مقضيا بِهِ بِشَهَادَتِهِم جَمِيعًا وإلحاق الزِّيَادَة بِالْألف فِي شَهَادَة الآخر يُوجب تَقْرِير الأَصْل فِي كَونه مشهودا بِهِ لَا رَفعه
فَتبين بِهَذَا أَن الزِّيَادَة لَا تتعرض لأصل الحكم الْمَشْرُوع فَلَا يكون فِيهَا معنى النّسخ بِوَجْه من الْوُجُوه
ثمَّ قد يكون بطرِيق التَّخْصِيص وَقد لَا يكون وَلِهَذَا لَا يشْتَرط فِيهَا أَن تكون مقرونة بِالْأَصْلِ كَمَا يشْتَرط ذَلِك فِي دَلِيل الْخُصُوص وحاجتنا إِلَى إِثْبَات أَن ذَلِك لَيْسَ بنسخ وَقد أَثْبَتْنَاهُ بِمَا قَررنَا
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن أَكثر مَا ذكره الْخصم دَلِيل على أَن الزِّيَادَة بَيَان صُورَة وَنحن نسلم ذَلِك وَلَكنَّا ندعي أَنه نسخ معنى وَالدَّلِيل على إِثْبَات ذَلِك أَن مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى من عبَادَة أَو عُقُوبَة أَو كَفَّارَة لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي وَلَيْسَ للْبَعْض مِنْهُ حكم الْجُمْلَة بِوَجْه فَإِن الرَّكْعَة من صَلَاة الْفجْر لَا تكون فجرا والركعتين من صَلَاة الظّهْر فِي حق الْمُقِيم لَا تكون ظهرا وَكَذَلِكَ الْمظَاهر إِذا صَامَ شهرا ثمَّ عجز فأطعم ثَلَاثِينَ مِسْكينا لَا يكون مكفرا بِهِ بِالْإِطْعَامِ

(2/82)


وَلَا بِالصَّوْمِ وَلِهَذَا قُلْنَا الْقَاذِف إِذا جلد تِسْعَة وَسبعين سَوْطًا لَا تسْقط شَهَادَته لِأَن الْحَد ثَمَانُون سَوْطًا فبعضه لَا يكون حدا
إِذا تقرر هَذَا فَنَقُول الثَّابِت بِآيَة الزِّنَا جلد وَهُوَ حد فَإِذا الْتحق النَّفْي بِهِ يخرج الْجلد من أَن يكون حدا لِأَنَّهُ يكون بعض الْحَد حِينَئِذٍ وَبَعض الْحَد لَيْسَ بِحَدّ بِمَنْزِلَة بعض الْعلَّة فَإِنَّهُ لَا يُوجب شَيْئا من الحكم الثَّابِت بِالْعِلَّةِ فَكَانَ نسخا من هَذَا الْوَجْه وَكَذَلِكَ فِي الرَّقَبَة فَإِن مَعَ الْإِطْلَاق التَّكْفِير بتحرير رَقَبَة وَبعد الْقَيْد تَحْرِير رَقَبَة بعض مَا يتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَة
فَعرفنَا أَنه نسخ وَبِه فَارق حُقُوق الْعباد فَإِنَّهُ مِمَّا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي فَيمكن أَن يَجْعَل إِلْحَاق الزِّيَادَة بِهِ تقريرا للمزيد عَلَيْهِ حَتَّى إِن فِيمَا لَا يحْتَمل التجزي من حُقُوق الْعباد الحكم كَذَلِك أَيْضا فَإِن البيع لما كَانَ عبارَة عَن الْإِيجَاب وَالْقَبُول لم يكن الْإِيجَاب الْمَحْض بيعا وَنِكَاح أَربع نسْوَة لما كَانَ مُوجبا حُرْمَة النِّكَاح عَلَيْهِ لَا يثبت شَيْء من ذَلِك بِنِكَاح امْرَأَة أَو امْرَأتَيْنِ لِأَن لَيْسَ بِنِكَاح أَربع نسْوَة وَقد بَينا فِي قصَّة بني إِسْرَائِيل أَن ذَلِك كَانَ بَيَانا صُورَة وَكَانَ نسخا معنى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بقوله شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم
يدل عَلَيْهِ أَن النّسخ لبَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَإِثْبَات حكم آخر ثمَّ الْإِطْلَاق ضد التَّقْيِيد فَكَانَ من ضَرُورَة ثُبُوت التَّقْيِيد انعدام صفة الْإِطْلَاق وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد انْتِهَاء مُدَّة حكم الْإِطْلَاق وَإِثْبَات حكم هُوَ ضِدّه وَهُوَ التَّقْيِيد وَإِذا كَانَ إِثْبَات حكم غير الأول على وَجه يعلم أَنه لم يبْق مَعَه الأول نسخا فإثبات حكم هُوَ ضد الأول أولى أَن يكون نسخا بطرِيق الْمَعْنى وَبِه فَارق التَّخْصِيص فَإِن التَّخْصِيص لَا يُوجب حكما فِيمَا تنَاوله الْعَام غير الحكم الأول وَلَكِن يبين أَن الْعَام لم يكن متناولا لما صَار مَخْصُوصًا مِنْهُ وَلِهَذَا لَا يكون التَّخْصِيص إِلَّا مُقَارنًا يقرره أَن التَّخْصِيص للإخراج وَالتَّقْيِيد للإثبات وَأي مشابهة تكون بَين الْإِخْرَاج من الحكم وَبَين إِثْبَات الحكم
وَهَذَا لِأَن الْإِطْلَاق يعْدم صفة التَّقْيِيد وَالتَّقْيِيد إِيجَاد لذَلِك الْوَصْف فَبعد مَا ثَبت التَّقْيِيد لَا يتَصَوَّر بَقَاء صفة الْإِطْلَاق وَلَا يكون الحكم ثَابتا لما تنَاوله صِيغَة الْإِطْلَاق وَإِنَّمَا يكون ثَابتا بالمقيد من اللَّفْظ فَأَما الْعَام إِذا خص مِنْهُ شَيْء يبْقى الحكم ثَابتا فِيمَا وَرَاءه بِمُقْتَضى لفظ الْعُمُوم فَقَط

(2/83)


وَإِذا كَانَ بَقَاء الحكم بِمَا كَانَ النَّص الْعَام متناولا لَهُ عرفنَا أَن التَّخْصِيص لَا يكون تعرضا لما وَرَاء الْمَخْصُوص بِشَيْء
وَبَيَان هَذَا أَن قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَإِن خص مِنْهُ أهل الذِّمَّة وَغَيرهم فَمن لَا أَمَان لَهُ يجب قَتله لِأَنَّهُ مُشْرك
وَفِي قَوْله {فَتَحْرِير رَقَبَة} إِذا قيدنَا بِصفة الْإِيمَان لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الرَّقَبَة بل بِمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الرَّقَبَة المؤمنة
فَعرفنَا أَنه فِي معنى النّسخ وَلَيْسَ بتخصيص وَلِأَن التَّخْصِيص يصرف فِيمَا كَانَ اللَّفْظ متناولا لَهُ بِاعْتِبَار دَلِيل الظَّاهِر لَوْلَا دَلِيل الْخُصُوص وَالتَّقْيِيد تصرف فِيمَا لم يكن اللَّفْظ متناولا لَهُ أصلا لَوْلَا التَّقْيِيد فَإِن اسْم الرَّقَبَة لَا يتَنَاوَل صفتهَا من حَيْثُ الْإِيمَان وَالْكفْر فَعرفنَا أَنه نسخ والنسخ فِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يكون بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَا تتَعَيَّن الْفَاتِحَة للْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة ركنا لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا ثَبت بِالنَّصِّ وَلَا تثبت الطَّهَارَة عَن الْحَدث شرطا فِي ركن الطّواف لِأَنَّهُ زِيَادَة على النَّص وَلَا يثبت النَّفْي حدا مَعَ الْجلد فِي زنا الْبكر لِأَنَّهُ زِيَادَة وَلَا يثبت اشْتِرَاط صفة الْإِيمَان فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار لِأَنَّهُ زِيَادَة
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله شرب الْقَلِيل من الطلاء المثلث لَا يكون حَرَامًا لِأَن الْمحرم السكر بِالنَّصِّ وَشرب الْقَلِيل بعض الْعلَّة فِيمَا يحصل بِهِ السكر فَلَا يكون مُسكرا
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِذا وجد الْمُحدث من المَاء مَا لَا يَكْفِيهِ لوضوئه أَو الْجنب مَا لَا يَكْفِيهِ لاغتساله فَإِنَّهُ يتَيَمَّم وَلَا يسْتَعْمل ذَلِك المَاء لِأَن الْوَاجِب اسْتِعْمَال المَاء الَّذِي هُوَ طهُور وَهَذَا بِمَنْزِلَة بعض الْعلَّة فِي حكم الطَّهَارَة فَلَا يكون طهُورا فوجوده لَا يمْنَع التَّيَمُّم
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا شهد أحد الشَّاهِدين بِالْبيعِ بِأَلف وَالْآخر بِالْبيعِ بِأَلف وَخَمْسمِائة لَا تقبل الشَّهَادَة فِي إِثْبَات العقد بِأَلف وَإِن اتّفق عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ ظَاهرا لِأَن الَّذِي شهد بِأَلف وَخَمْسمِائة قد جعل الْألف بعض الثّمن وانعقاد البيع بِجَمِيعِ الثّمن الْمُسَمّى لَا بِبَعْضِه فَمن هَذَا الْوَجْه كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنى شَاهد لعقد آخر وَالْألف الْمَذْكُور فِي شَهَادَة الثَّانِي كَانَ بِحَيْثُ يثبت بِهِ العقد لَوْلَا وصل شَيْء آخر بِهِ بِمَنْزِلَة التَّخْيِير فِي الطَّلَاق وَالْعتاق يصير شَيْئا آخر إِذا اتَّصل بِهِ التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَحكم الزِّيَادَة يكون بِهَذِهِ الصّفة أَيْضا
وَالَّذِي يُقرر جَمِيع مَا ذكرنَا أَن النّسخ إِنَّمَا يثبت بِمَا لَو جهل التَّارِيخ فِيهِ كَانَ مُعَارضا وَهَذَا يتَحَقَّق فِي الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فَإِنَّهُ لَو جهل التَّارِيخ بَين النَّص الْمُطلق والمقيد يثبت التَّعَارُض بَينهمَا فَعرفنَا أَنه عِنْد معرفَة وَيجوز أَن يرد النّسخ على مَا هُوَ نَاسخ كَمَا يجوز أَن يرد النّسخ على مَا كَانَ مَشْرُوعا ابْتِدَاء إِذْ الْمَعْنى لَا يُوجب الْفرق بَينهمَا
وَبَيَان هَذَا فِيمَا نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن حُرْمَة مفاداة الْأَسير الثَّابِت بقوله تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} قد انتسخ التَّارِيخ بَينهمَا يكون

(2/84)


التَّقْيِيد فِي النَّص الْمُطلق نسخا من حَيْثُ الْمَعْنى بقوله تَعَالَى {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} ثمَّ قَالَ السّديّ هَذَا قد انتسخ بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لِأَن سُورَة بَرَاءَة من آخر مَا نزل فَكَانَ نَاسِخا للْحكم الَّذِي كَانَ قبله
وَكَذَلِكَ حكم الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ فِي كَونه حدا قد انتسخ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام (خُذُوا عني) الحَدِيث
ثمَّ هَذَا الحكم انتسخ بنزول قَوْله تَعَالَى {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وبرجم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَاعِز بن مَالك رَضِي الله عَنهُ وَاسْتقر الحكم على أَن الْحَد الْكَامِل فِي حق غير الْمُحصن مائَة جلدَة وَفِي حق الْمُحصن الرَّجْم
وَمِمَّا اخْتلفُوا فِي أَنه نسخ أم لَا حكم الْمِيرَاث فقد كَانَ التوريث بِالْحلف وَالْهجْرَة ثَابتا فِي الِابْتِدَاء قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا} إِلَى قَوْله {أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا} الْآيَة ثمَّ انتسخ هَذَا عِنْد بعض الْعلمَاء بنزول قَوْله تَعَالَى {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله من الْمُؤمنِينَ والمهاجرين} الْآيَة
وَمِنْهُم من قَالَ هَذَا لَيْسَ بنسخ وَلَكِن هَذَا تَقْدِيم وَارِث على وَارِث فَلَا يكون نسخا كتقديم الابْن على الْأَخ فِي الْمِيرَاث لَا يكون نسخ التوريث بالأخوة وَتَقْدِيم الشَّرِيك على الْجَار فِي اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة لَا يكون نسخ حكم الشُّفْعَة بالجوار
وَالأَصَح أَن نقُول هَذَا نسخ بعض الْأَحْوَال دون الْبَعْض فَإِن قَوْله تَعَالَى {فآتوهم نصِيبهم} تنصيص على أَن بِالْحلف يسْتَحق النَّصِيب من الْمِيرَاث مَعَ وجود الْقَرِيب ثمَّ انتسخ هَذَا الحكم بقوله تَعَالَى {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} حَتَّى لَا يسْتَحق بِالْحلف شَيْئا مَعَ وجود الْقَرِيب أصلا
فَعرفنَا أَن هَذَا الحكم قد انْتهى فِي هَذِه الْحَالة فَكَانَ نسخا وَإِن كَانَ

(2/85)


الْإِرْث بِهَذَا السَّبَب بَاقِيا فِي غير هَذِه الْحَالة وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله يَا معشر هَمدَان إِنَّه لَيْسَ حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب أَحْرَى أَن يَمُوت الرجل فيهم وَلَا يعرف لَهُ نسب مِنْكُم فَإِذا كَانَ ذَلِك فليضع مَاله حَيْثُ أحب
وَالله أعلم