أصول السرخسي بَاب الْكَلَام فِي أَفعَال النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام
اعْلَم بِأَن أَفعاله الَّتِي تكون عَن قصد تَنْقَسِم
أَرْبَعَة أَقسَام مُبَاح ومستحب وواجب وَفرض
وَهنا نوع خَامِس وَهُوَ الزلة وَلكنه غير دَاخل فِي هَذَا
الْبَاب لِأَنَّهُ لَا يصلح للاقتداء بِهِ فِي ذَلِك وَعقد
الْبَاب لبَيَان حكم الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَفعاله وَلِهَذَا
لم يذكر فِي الْجُمْلَة مَا يحصل فِي حَالَة النّوم
وَالْإِغْمَاء لِأَن الْقَصْد لَا يتَحَقَّق فِيهِ فَلَا يكون
دَاخِلا فِيمَا هُوَ حد الْخطاب
وَأما الزلة فَإِنَّهُ لَا يُوجد فِيهَا الْقَصْد إِلَى عينهَا
أَيْضا وَلَكِن يُوجد الْقَصْد إِلَى أصل الْفِعْل
وَبَيَان هَذَا أَن الزلة أخذت من قَول الْقَائِل زل الرجل فِي
الطين إِذا لم يُوجد الْقَصْد إِلَى الْوُقُوع وَلَا إِلَى
الثَّبَات بعد الْوُقُوع وَلَكِن وجد الْقَصْد إِلَى الْمَشْي
فِي الطَّرِيق فَعرفنَا بِهَذَا أَن الزلة مَا تتصل بالفاعل
عِنْد فعله مَا لم يكن قَصده بِعَيْنِه وَلكنه زل فاشتغل بِهِ
عَمَّا قصد بِعَيْنِه وَالْمَعْصِيَة عِنْد الْإِطْلَاق
إِنَّمَا يتَنَاوَل مَا يَقْصِدهُ الْمُبَاشر بِعَيْنِه وَإِن
كَانَ قد أطلق الشَّرْع ذَلِك على الزلة مجَازًا
ثمَّ لَا بُد أَن يقْتَرن بالزلة بَيَان من جِهَة الْفَاعِل
أَو من الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى مخبرا عَن مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد قتل القبطي {هَذَا من عمل
الشَّيْطَان} الْآيَة وكما قَالَ تَعَالَى {وَعصى آدم ربه
فغوى} الْآيَة وَإِذا كَانَ الْبَيَان يقْتَرن بِهِ لَا محَالة
علم أَنه غير صَالح للاقتداء بِهِ
ثمَّ اخْتلف النَّاس فِي أَفعاله الَّتِي لَا تكون عَن سَهْو
وَلَا من نتيجة الطَّبْع على مَا جبل عَلَيْهِ الْإِنْسَان مَا
هُوَ مُوجب ذَلِك فِي حق أمته
فَقَالَ بَعضهم الْوَاجِب هُوَ الْوَقْف فِي ذَلِك حَتَّى يقوم
الدَّلِيل
وَقَالَ بَعضهم بل يجب اتِّبَاعه والاقتداء بِهِ فِي جَمِيع
ذَلِك إِلَّا مَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي
(2/86)
رَحمَه الله يَقُول إِن علم صفة فعله أَنه
فعله وَاجِبا أَو ندبا أَو مُبَاحا فَإِنَّهُ يتبع فِيهِ
بِتِلْكَ الصّفة وَإِن لم يعلم فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ صفة
الْإِبَاحَة ثمَّ لَا يكون الِاتِّبَاع فِيهِ ثَابتا إِلَّا
بِقِيَام الدَّلِيل
وَكَانَ الْجَصَّاص رَحمَه الله يَقُول بقول الْكَرْخِي رَحمَه
الله إِلَّا أَنه يَقُول إِذا لم يعلم فالاتباع لَهُ فِي ذَلِك
ثَابت حَتَّى يقوم الدَّلِيل على كَونه مَخْصُوصًا
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح
فَأَما الواقفون احْتَجُّوا فَقَالُوا لما أشكل صفة فعله فقد
تعذر اتِّبَاعه فِي ذَلِك على وَجه الْمُوَافقَة لِأَن ذَلِك
لَا يكون بالموافقة فِي أصل الْفِعْل دون الصّفة فَإِنَّهُ
إِذا كَانَ هُوَ فعل فعلا نفلا وَنحن نفعله فرضا يكون ذَلِك
مُنَازعَة لَا مُوَافقَة وَاعْتبر هَذَا بِفعل السَّحَرَة مَعَ
مَا رَأَوْهُ من الكليم ظَاهرا فَإِنَّهُ كَانَ مُنَازعَة
مِنْهُم فِي الِابْتِدَاء لِأَن فعلهم لم يكن بِصفة فعله
فَعرفنَا أَن الْوَصْف إِذا كَانَ مُشكلا لَا تتَحَقَّق
الْمُوَافقَة فِي الْفِعْل لَا محَالة وَلَا وَجه للمخالفة
فَيجب الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل
وَهَذَا الْكَلَام عِنْد التَّأَمُّل بَاطِل فَإِن هَذَا
الْقَائِل إِن كَانَ يمْنَع الْأمة من أَن يَفْعَلُوا مثل فعله
بِهَذَا الطَّرِيق ويلومهم على ذَلِك فقد أثبت صفة الْحَظْر
فِي الِاتِّبَاع وَإِن كَانَ لَا يمنعهُم من ذَلِك وَلَا
يلومهم عَلَيْهِ فقد أثبت صفة الْإِبَاحَة فَعرفنَا أَن
القَوْل بِالْوَقْفِ لَا يتَحَقَّق فِي هَذَا الْفَصْل
وَأما الْفَرِيق الثَّانِي فقد استدلوا بالنصوص الْمُوجبَة
للاقتداء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَقْوَاله
وأفعاله نَحْو قَوْله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله
أُسْوَة حَسَنَة} وَقَوله تَعَالَى {وَأَطيعُوا الله
وَأَطيعُوا الرَّسُول} وَقَوله تَعَالَى {فَاتبعُوني يحببكم
الله} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي
الْأُمِّي} إِلَى قَوْله {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون} وَقَوله
تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي عَن سمته
وطريقته
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} فَفِي هَذِه
النُّصُوص دَلِيل على وجوب الِاتِّبَاع علينا إِلَى أَن يقوم
الدَّلِيل يمْنَع من ذَلِك
فَأَما الدَّلِيل لنا فِي هَذَا الْفَصْل أَن نقُول صَحَّ فِي
الحَدِيث أَن النَّبِي عَلَيْهِ
(2/87)
السَّلَام خلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة
فَخلع النَّاس نعَالهمْ فَلَمَّا فرغ قَالَ مَا لكم خلعتم
نعالكم الحَدِيث
فَلَو كَانَ مُطلق فعله مُوجبا للمتابعة لم يكن لقَوْله مَا
لكم خلعتم نعالكم معنى
وَخرج للتراويح لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ فَلَمَّا قيل لَهُ
فِي ذَلِك قَالَ خشيت أَن تكْتب عَلَيْكُم وَلَو كتبت
عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بهَا فو كَانَ مُطلق فعله يلْزمنَا
الِاتِّبَاع لَهُ فِي ذَلِك لم يكن لقَوْله خشيت أَن تكْتب
عَلَيْكُم معنى
ثمَّ قد بَينا أَن الْمُوَافقَة حَقِيقَتهَا فِي أصل الْفِعْل
وَصفته فَعِنْدَ الْإِطْلَاق إِنَّمَا يثبت الْقدر الْمُتَيَقن
بِهِ وَهُوَ صفة الْإِبَاحَة فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ
التَّمَكُّن من إِيجَاد الْفِعْل شرعا فَيثبت الْقدر
الْمُتَيَقن بِهِ (وَهُوَ صفة الْإِبَاحَة) من الْوَصْف ويتوقف
مَا وَرَاء ذَلِك على قيام الدَّلِيل بِمَنْزِلَة رجل يَقُول
لغيره وَكلتك بِمَالي فَإِنَّهُ يملك الْحِفْظ لِأَنَّهُ
مُتَيَقن لكَونه مُرَاد الْمُوكل وَلَا يثبت مَا سوى ذَلِك من
التَّصَرُّفَات حَتَّى يقوم الدَّلِيل يُقرر مَا ذكرنَا أَن
الْفِعْل قِسْمَانِ أَخذ وَترك
ثمَّ أحد قسمي أَفعاله وَهُوَ التّرْك لَا يُوجب الِاتِّبَاع
علينا إِلَّا بِدَلِيل فَكَذَلِك الْقسم الآخر
وَبَيَان هَذَا أَنه حِين كَانَ الْخمر مُبَاحا قد ترك رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شربهَا أصلا ثمَّ ذَلِك لَا
يُوجب علينا ترك الشّرْب فِيمَا هُوَ مُبَاح يُوضحهُ أَن مُطلق
فعله لَو كَانَ مُوجبا لِلِاتِّبَاعِ لَكَانَ ذَلِك عَاما فِي
جَمِيع أَفعاله وَلَا وَجه لِلْقَوْلِ بذلك لِأَن ذَلِك يُوجب
على كل أحد أَن لَا يُفَارِقهُ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار
ليقف على جَمِيع أَفعاله فيقتدي بِهِ لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن
الْوَاجِب إِلَّا بذلك وَمَعْلُوم أَن هَذَا مِمَّا لَا
يتَحَقَّق وَلَا يَقُول بِهِ أحد
فَعرفنَا أَن مُطلق الْفِعْل لَا يلْزمنَا اتِّبَاعه فِي ذَلِك
فَأَما الْآيَات فَفِي قَوْله {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله
أُسْوَة حَسَنَة} دَلِيل على أَن التأسي بِهِ فِي أَفعاله
لَيْسَ بِوَاجِب لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لَكَانَ من حق
الْكَلَام أَن يَقُول عَلَيْكُم فَفِي قَوْله {لكم} دَلِيل على
أَن ذَلِك مُبَاح لنا لَا أَن يكون لَازِما علينا
وَالْمرَاد بِالْأَمر بالاتباع التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار
بِمَا جَاءَ بِهِ فَإِن الْخطاب بذلك لأهل الْكتاب وَذَلِكَ
بَين فِي سِيَاق الْآيَة وَالْمرَاد بِالْأَمر مَا يفهم من
مُطلق لفظ الْأَمر عِنْد
(2/88)
الْإِطْلَاق وَقد تقدم بَيَان هَذَا فِي
أول الْكتاب
ثمَّ قَالَ الْكَرْخِي قد ظهر خُصُوصِيَّة رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بأَشْيَاء لاختصاصه بِمَا لَا شركَة لأحد
من أمته مَعَه فِي ذَلِك فَكل فعل يكون مِنْهُ فَهُوَ مُحْتَمل
للوصف لجَوَاز أَن يكون هَذَا مِمَّا اخْتصَّ هُوَ بِهِ وَيجوز
أَن يكون مِمَّا هُوَ غير مَخْصُوص بِهِ وَعند احْتِمَال
الْجَانِبَيْنِ على السوَاء يجب الْوَقْف حَتَّى يقوم
الدَّلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة
وَلَكِن الصَّحِيح مَا ذهب إِلَيْهِ الْجَصَّاص لِأَن فِي
قَوْله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة
حَسَنَة} تنصيص على جَوَاز التأسي بِهِ فِي أَفعاله فَيكون
هَذَا النَّص مَعْمُولا بِهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل الْمَانِع
وَهُوَ مَا يُوجب تَخْصِيصه بذلك وَقد دلّ عَلَيْهِ قَوْله
تَعَالَى {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا لكَي
لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم} وَفِي
هَذَا بَيَان أَن ثُبُوت الْحل فِي حَقه مُطلقًا دَلِيل
ثُبُوته فِي حق الْأمة أَلا ترى أَنه نَص على تَخْصِيصه فِيمَا
كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ بقوله تَعَالَى {خَالِصَة لَك من
دون الْمُؤمنِينَ} وَهُوَ النِّكَاح بِغَيْر مهر فَلَو لم يكن
مُطلق فعله دَلِيلا للْأمة فِي الْإِقْدَام على مثله لم يكن
لقَوْله {خَالِصَة لَك} فَائِدَة فَإِن الخصوصية تكون ثَابِتَة
بِدُونِ هَذِه الْكَلِمَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه عَلَيْهِ
السَّلَام لما قَالَ لعبد الله بن رَوَاحَة حِين صلى على
الأَرْض فِي يَوْم قد مُطِرُوا فِي السّفر ألم يكن لَك فِي
أُسْوَة فَقَالَ أَنْت تسْعَى فِي رَقَبَة قد فكت وَأَنا أسعى
فِي رَقَبَة لم يعرف فكاكها
فَقَالَ إِنِّي مَعَ هَذَا أَرْجُو أَن أكون أخشاكم لله وَلما
سَأَلت امْرَأَة أم سَلمَة عَن الْقبْلَة للصَّائِم فَقَالَت
إِن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام يقبل وَهُوَ صَائِم
فَقَالَت لسنا كرسول الله قد غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا
تَأَخّر ثمَّ سَأَلت أم سَلمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن سؤالها فَقَالَ هلا أخْبرتهَا أَنِّي أقبل وَأَنا
صَائِم فَقَالَت قد أخْبرتهَا بذلك فَقَالَت كَذَا
فَقَالَ إِنِّي أَرْجُو أَن أكون أَتْقَاكُم لله وَأعْلمكُمْ
بِحُدُودِهِ فَفِي هَذَا بَيَان أَن اتِّبَاعه فِيمَا يثبت من
أَفعاله أصل حَتَّى يقوم الدَّلِيل على كَونه مَخْصُوصًا
بِفِعْلِهِ وَهَذَا لِأَن الرُّسُل أَئِمَّة يقْتَدى بهم كَمَا
قَالَ تَعَالَى {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا}
(2/89)
فَالْأَصْل فِي كل فعل يكون مِنْهُم جَوَاز
الِاقْتِدَاء بهم إِلَّا مَا يثبت فِيهِ دَلِيل الخصوصية
بِاعْتِبَار أَحْوَالهم وعلو مَنَازِلهمْ وَإِذا كَانَ الأَصْل
هَذَا فَفِي كل فعل يكون مُبْهَم بِصفة الْخُصُوص يجب بَيَان
الخصوصية مُقَارنًا بِهِ إِذْ الْحَاجة إِلَى ذَلِك ماسة عِنْد
كل فعل يكون (مِنْهُم) حكمه بِخِلَاف هَذَا الأَصْل
وَالسُّكُوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْحَاجة دَلِيل النَّفْي
فَترك بَيَان الخصوصية يكون دَلِيلا على أَنه من جملَة
الْأَفْعَال الَّتِي هُوَ فِيهَا قدوة أمته
فصل فِي بَيَان طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي إِظْهَار أَحْكَام الشَّرْع
قد بَينا أَنه كَانَ يعْتَمد الْوَحْي فِيمَا بَينه من
أَحْكَام الشَّرْع
وَالْوَحي نَوْعَانِ ظَاهر وباطن
فَالظَّاهِر مِنْهُ قِسْمَانِ (أَحدهمَا) مَا يكون على لِسَان
الْملك بِمَا يَقع فِي سَمعه بعد علمه بالمبلغ بِأَنَّهُ
قَاطِعَة وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {قل نزله روح الْقُدس
من رَبك بِالْحَقِّ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّه لقَوْل
رَسُول كريم} الْآيَة وَالْآخر مَا يَتَّضِح لَهُ بِإِشَارَة
الْملك من غير بَيَان بِكَلَام وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله إِن روح الْقُدس نفث فِي
روعي أَن نفسا لن تَمُوت حَتَّى تستوفي رزقها فَاتَّقُوا الله
وأجملوا فِي الطّلب وَالْوَحي الْبَاطِن هُوَ تأييد الْقلب على
وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة وَلَا معَارض وَلَا مُزَاحم
وَذَلِكَ بِأَن يظْهر لَهُ الْحق بِنور فِي قلبه من ربه
يَتَّضِح لَهُ حكم الْحَادِثَة بِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله
تَعَالَى بقوله {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله}
وَهَذَا كُله مَقْرُونا بالابتلاء وَمعنى الِابْتِلَاء هُوَ
التَّأَمُّل بِقَلْبِه فِي حَقِيقَته حَتَّى يظْهر لَهُ مَا
هُوَ الْمَقْصُود وكل ذَلِك خَاص لرَسُول الله تثبت بِهِ
الْحجَّة القاطعة وَلَا شركَة للْأمة فِي ذَلِك إِلَّا أَن
يكرم الله بِهِ من شَاءَ من أمته لحقه وَذَلِكَ الْكَرَامَة
للأولياء
وَأما مَا يشبه الْوَحْي فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَهُوَ استنباط الْأَحْكَام من النُّصُوص بِالرَّأْيِ
(2/90)
وَالِاجْتِهَاد فَإِنَّمَا يكون من رَسُول
الله بِهَذَا الطَّرِيق فَهُوَ بِمَنْزِلَة الثَّابِت
بِالْوَحْي لقِيَام الدَّلِيل على أَنه يكون ثَوابًا لَا
محَالة فَإِنَّهُ كَانَ لَا يقر على الْخَطَأ فَكَانَ ذَلِك
مِنْهُ حجَّة قَاطِعَة وَمثل هَذَا من الْأمة لَا يَجْعَل
بِمَنْزِلَة الْوَحْي لِأَن الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب فقد علم
أَنه كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صفة
الْكَمَال مَا لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله فَلَا شكّ أَن
غَيره لَا يُسَاوِيه فِي إِعْمَال الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي
الْأَحْكَام
وَهَذَا يبتنى على اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَنه عَلَيْهِ
السَّلَام هَل كَانَ يجْتَهد فِي الْأَحْكَام وَيعْمل
بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ فَأبى ذَلِك بعض الْعلمَاء
وَقَالَ هَذَا الطَّرِيق حَظّ الْأمة فَأَما حَظّ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْعَمَل بِالْوَحْي من
الْوُجُوه الَّتِي ذكرنَا
وَقَالَ بَعضهم قد كَانَ يعْمل بطرِيق الْوَحْي تَارَة وبالرأي
تَارَة وَبِكُل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ كَانَ يبين
الْأَحْكَام
وَأَصَح الْأَقَاوِيل عندنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا
كَانَ يبتلى بِهِ من الْحَوَادِث الَّتِي لَيْسَ فِيهَا وَحي
منزل كَانَ ينْتَظر الْوَحْي إِلَى أَن تمْضِي مُدَّة
الِانْتِظَار ثمَّ كَانَ يعْمل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد
وَيبين الحكم بِهِ فَإِذا أقرّ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك حجَّة
قَاطِعَة للْحكم
فَأَما الْفَرِيق الأول فاحتجوا بقوله تَعَالَى {وَمَا ينْطق
عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {قل
مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا
يُوحى إِلَيّ} وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه كَانَ لَا يجوز لأحد
مُخَالفَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا بَينه من
أَحْكَام الشَّرْع والرأي قد يَقع فِيهِ الْغَلَط فِي حَقه
وَفِي حق غَيره فَلَو كَانَ يبين الحكم بِالرَّأْيِ لَكَانَ
يجوز مُخَالفَته فِي ذَلِك كَمَا فِي أَمر الْحَرْب فقد ظهر
أَنهم خالفوه فِي ذَلِك غير مرّة واستصوبهم فِي ذَلِك أَلا ترى
أَنه لما أَرَادَ النُّزُول يَوْم بدر دون المَاء قَالَ لَهُ
الْخَبَّاب بن الْمُنْذر رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ عَن وَحي
فسمعا وَطَاعَة وَإِن كَانَ عَن رَأْي فَإِنِّي أرى الصَّوَاب
أَن ننزل على المَاء ونتخذ الْحِيَاض فَأخذ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَأْيهِ وَنزل على المَاء
وَلما أَرَادَ يَوْم الْأَحْزَاب أَن يُعْطي الْمُشْركين شطر
ثمار الْمَدِينَة لينصرفوا قَامَ سعد بن معَاذ وَسعد بن
عبَادَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالا إِن كَانَ هَذَا عَن
وَحي فسمعا وَطَاعَة وَإِن كَانَ عَن رَأْي فَلَا نعطيهم
إِلَّا السَّيْف قد كُنَّا نَحن وهم فِي الْجَاهِلِيَّة لم يكن
لنا وَلَا لَهُم دين فَكَانُوا لَا يطمعون
(2/91)
فِي ثمار الْمَدِينَة إِلَّا بشري أَو بقري
فَإِذا أعزنا الله تَعَالَى بِالدّينِ نعطيهم الدنية لَا نعطيم
إِلَّا السَّيْف
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي رَأَيْت الْعَرَب قد رمتكم
عَن قَوس وَاحِدَة فَأَرَدْت أَن أصرفهم عَنْكُم فَإِذا
أَبَيْتُم أَنْتُم وَذَاكَ ثمَّ قَالَ للَّذين جَاءُوا للصلح
اذْهَبُوا فَلَا نعطيكم إِلَّا السَّيْف وَلما قدم الْمَدِينَة
استقبح مَا كَانُوا يصنعونه من تلقيح النخيل فنهاهم عَن ذَلِك
فأحشفت وَقَالَ عهدي بثماركم بِخِلَاف هَذَا فَقَالُوا
نَهَيْتنَا عَن التلقيح وَإِنَّمَا كَانَت جودة الثَّمر من
ذَلِك
قَالَ أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم وَأَنا أعلم بِأَمْر
دينكُمْ فَتبين أَن الرَّأْي مِنْهُ كالرأي من غَيره فِي
احْتِمَال الْغَلَط وبالاتفاق لَا تجوز مُخَالفَته فِيمَا ينص
عَلَيْهِ من أَحْكَام الشَّرْع فَعرفنَا أَن طَرِيق وُقُوفه
على ذَلِك مَا لَيْسَ فِيهِ توهم الْغَلَط أصلا وَذَلِكَ
الْوَحْي ثمَّ الرَّأْي الَّذِي فِيهِ توهم الْغَلَط إِنَّمَا
يجوز الْمصير إِلَيْهِ عِنْد الضَّرُورَة وَهَذِه الضَّرُورَة
تثبت فِي حق الْأمة لَا فِي حَقه فقد كَانَ الْوَحْي يَأْتِيهِ
فِي كل وَقت وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير التَّحَرِّي فِي أَمر
الْقبْلَة فَإِنَّهُ لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ لمن كَانَ
بِمَكَّة معاينا للكعبة وَيجوز الْمصير إِلَيْهِ لمن كَانَ
نَائِيا عَن الْكَعْبَة لِأَن من كَانَ معاينا فالضرورة
المحوجة إِلَى التَّحَرِّي لَا تتَحَقَّق فِي حَقه لوُجُود
الطَّرِيق الَّذِي لَا يتَمَكَّن فِيهِ تُهْمَة الْغَلَط
وَهُوَ المعاينة وَكَذَلِكَ حَال رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَام
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينصب أَحْكَام الشَّرْع
ابْتِدَاء والرأي لَا يصلح لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء
وَإِنَّمَا هُوَ لتعدية حكم النَّص إِلَى نَظِيره مِمَّا لَا
نَص فِيهِ كَمَا فِي حق الْأمة لِأَنَّهُ لَا يجوز لأحد
اسْتِعْمَال الرَّأْي فِي نصب حكم ابْتِدَاء فَعرفنَا أَنه
إِنَّمَا كَانَ ينصب الحكم ابْتِدَاء بطرِيق الْوَحْي دون
الرَّأْي وَهَذَا لِأَن الْحق فِي أَحْكَام الشَّرْع لله
تَعَالَى فَإِنَّمَا يثبت حق الله تَعَالَى بِمَا يكون مُوجبا
للْعلم قطعا والرأي لَا يُوجب ذَلِك وَبِه فَارق أَمر الْحَرْب
والشورى فِي الْمُعَامَلَات لِأَن ذَلِك من حُقُوق الْعباد
فالمطلوب بِهِ الدّفع عَنْهُم أَو الْجَرّ إِلَيْهِم فِيمَا
تقوم بِهِ مصالحهم وَاسْتِعْمَال الرَّأْي جَائِز فِي مثله
لحَاجَة الْعباد إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي وسعهم فَوق
ذَلِك وَالله تَعَالَى يتعالى عَمَّا يُوصف بِهِ الْعباد من
الْعَجز أَو الْحَاجة فَمَا هُوَ حق الله تَعَالَى لَا يثبت
ابْتِدَاء إِلَّا بِمَا يكون مُوجبا علم الْيَقِين
(2/92)
وَالْحجّة لِلْقَوْلِ الثَّانِي قَوْله
تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أولي النَّاس بِهَذَا الْوَصْف الَّذِي
ذكره عِنْد الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ فَعرفنَا أَنه دَاخل فِي
هَذَا الْخطاب قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول
وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه
مِنْهُم} وَقد دخل فِي جملَة المستنبطين من تقدم ذكره فَعرفنَا
أَن الرَّسُول من جملَة الَّذين أخبر الله أَنهم يعلمُونَ
بالاستنباط وَقَالَ تَعَالَى {ففهمناها سُلَيْمَان} وَالْمرَاد
أَنه وقف على الحكم بطرِيق الرَّأْي لَا بطرِيق الْوَحْي لِأَن
مَا كَانَ بطرِيق الْوَحْي فداود وَسليمَان عَلَيْهِمَا
السَّلَام فِيهِ سَوَاء وَحَيْثُ خص سُلَيْمَان عَلَيْهِ
السَّلَام بالفهم عرفنَا أَن المُرَاد بِهِ بطرِيق الرَّأْي
وَقد حكم دَاوُد بَين الْخَصْمَيْنِ حِين تسوروا الْمِحْرَاب
بِالرَّأْيِ فَإِنَّهُ قَالَ {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى
نعاجه} وَهَذَا بَيَان بِالْقِيَاسِ الظَّاهِر
وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام للخثعمية أَرَأَيْت لَو
كَانَ على أَبِيك دين فَقضيت أَكَانَ يقبل مِنْك وَهَذَا
بَيَان بطرِيق الْقيَاس
وَقَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ حِين سَأَلَهُ عَن الْقبْلَة
للصَّائِم أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ
يَضرك وَقَالَ فِي حُرْمَة الصَّدَقَة على بني هَاشم أَرَأَيْت
لَو تمضمضت بِالْمَاءِ أَكنت شَاربه وَهَذَا بَيَان بطرِيق
الْقيَاس فِي حُرْمَة الأوساخ وَاسْتِعْمَال الْمُسْتَعْمل
وَقَالَ إِن الرجل ليؤجر فِي كل شَيْء حَتَّى فِي مباضعة أَهله
فَقيل لَهُ يقْضِي أَحَدنَا شَهْوَته ثمَّ يُؤجر على ذَلِك
قَالَ أَرَأَيْتُم لَو وضع ذَلِك فِيمَا لَا يحل هَل كَانَ
يَأْثَم بِهِ قَالُوا نعم
قَالَ فَكَذَلِك يُؤجر إِذا وَضعه فِيمَا يحل وَهَذَا بَيَان
بطرِيق الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه كَانَ مَأْمُورا بالمشاورة مَعَ
أَصْحَابه قَالَ تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} وَقد صَحَّ
أَنه كَانَ يشاورهم فِي أَمر الْحَرْب وَغير ذَلِك حَتَّى
رُوِيَ أَنه شاور أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي
مفاداة الْأُسَارَى يَوْم بدر فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بكر
بِأَن يفادي بهم وَمَال رَأْيه إِلَى ذَلِك حَتَّى نزل قَوْله
تَعَالَى {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم
عَذَاب عَظِيم} ومفاداة الْأَسير بِالْمَالِ جَوَازه وفساده من
أَحْكَام الشَّرْع وَمِمَّا هُوَ حق الله تَعَالَى وَقد شاور
فِيهِ أَصْحَابه وَعمل فِيهِ بِالرَّأْيِ إِلَى أَن نزل
الْوَحْي بِخِلَاف مَا رَآهُ فَعرفنَا أَنه كَانَ يشاورهم فِي
الْأَحْكَام كَمَا فِي الحروب وَقد شاورهم فِيمَا يكون جَامعا
لَهُم فِي أَوْقَات الصَّلَاة ليؤدوها بِالْجَمَاعَة ثمَّ لما
جَاءَ عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ وَذكر مَا رأى فِي
الْمَنَام من أَمر الْأَذَان
(2/93)
فَأخذ بِهِ وَقَالَ (ألقها على بِلَال)
وَمَعْلُوم أَنه أَخذ بذلك بطرِيق الرَّأْي دون طَرِيق
الْوَحْي أَلا ترى أَنه لما أَتَى عمر وَأخْبرهُ أَنه رأى مثل
ذَلِك قَالَ الله أكبر هَذَا أثبت وَلَو كَانَ قد نزل عَلَيْهِ
الْوَحْي بِهِ لم يكن لهَذَا الْكَلَام معنى وَلَا شكّ أَن حكم
الْأَذَان مِمَّا هُوَ (من) حق الله ثمَّ قد جوز الْعَمَل
فِيهِ بِالرَّأْيِ فَعرفنَا أَن ذَلِك جَائِز وَلَا معنى
لقَوْل من يَقُول إِنَّه إِنَّمَا كَانَ يستشيرهم فِي
الْأَحْكَام لتطييب نُفُوسهم وَهَذَا لِأَن فِيمَا كَانَ
الْوَحْي فِيهِ ظَاهرا مَعْلُوما مَا كَانَ يستشيرهم وَفِيمَا
كَانَ يستشيرهم الْحَال لَا يَخْلُو إِمَّا أَن كَانَ يعْمل
برأيهم أَو لَا يعْمل فَإِن كَانَ لَا يعْمل برأيهم وَكَانَ
ذَلِك مَعْلُوما لَهُم فَلَيْسَ فِي هَذِه الاستشارة تطييب
النَّفس وَلكنهَا من نوع الاستهز وَظن ذَلِك برَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم محَال وَإِن كَانَ يستشيرهم ليعْمَل
برأيهم فَلَا شكّ أَن رَأْيه يكون أقوى من رَأْيهمْ وَإِذا
جَازَ لَهُ الْعَمَل برأيهم فِيمَا لَا نَص فِيهِ فجواز ذَلِك
بِرَأْيهِ أولى
ويتبين بِهَذَا أَنه إِنَّمَا كَانَ يستشيرهم لتقريب الْوُجُوه
وتحميس الرَّأْي على مَا كَانَ يَقُول المشورة تلقيح الْعُقُول
وَقَالَ من الحزم أَن تستشير ذَا رَأْي ثمَّ تُطِيعهُ ثمَّ
الاستنباط بِالرَّأْيِ إِنَّمَا يبتنى على الْعلم بمعاني
النُّصُوص وَلَا شكّ أَن دَرَجَته فِي ذَلِك أَعلَى من دَرَجَة
غَيره وَقد كَانَ يعلم بالمتشابه الَّذِي لَا يقف أحد من
الْأمة بعده على مَعْنَاهُ فَعرفنَا بِهَذَا أَن لَهُ من هَذِه
الدرجَة أَعلَى النِّهَايَة وَبعد الْعلم بِالطَّرِيقِ الَّذِي
يُوقف بِهِ على الحكم الْمَنْع من اسْتِعْمَال ذَلِك نوع من
الْحجر وتجويز اسْتِعْمَال ذَلِك نوع إِطْلَاق وَإِنَّمَا
يَلِيق بعلو دَرَجَته الْإِطْلَاق دون الْحجر
وَكَذَلِكَ مَا يعلم بطرِيق الْوَحْي فَهُوَ مَحْصُور متناه
وَمَا يعلم بالاستنباط من مَعَاني الْوَحْي غير متناه
وَقيل أفضل دَرَجَات الْعلم للعباد طَرِيق الاستنباط أَلا ترى
أَن من يكون مستنبطا من الْأمة فَهُوَ على دَرَجَة مِمَّن يكون
حَافِظًا غير مستنبط فَالْقَوْل بِمَا يُوجب سد بَاب مَا هُوَ
أَعلَى الدَّرَجَات فِي الْعلم عَلَيْهِ شبه الْمحَال
وَلَوْلَا طعن المتعنتين لَكَانَ الأولى بِنَا الْكَفّ عَن
الِاشْتِغَال بِإِظْهَار هَذَا بِالْحجَّةِ فقد كَانَ دَرَجَته
فِي الْعلم مَا لَا
(2/94)
يُحِيط بِهِ إِلَّا الله وَتَمام معنى
التَّعْظِيم فِي حق من هُوَ دونه أَن لَا يشْتَغل بِمثل هَذَا
التَّقْسِيم فِي حَقه وَإِنَّمَا ذكرنَا ذَلِك لدفع طعن
المتعنتين
ثمَّ مَا بَينه بِالرَّأْيِ إِذا أقرّ عَلَيْهِ كَانَ صَوَابا
لَا محَالة فَيثبت بِهِ علم الْيَقِين بِخِلَاف مَا يكون من
غَيره من الْبَيَان بِالرَّأْيِ وَهُوَ نَظِير الإلهام على مَا
أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي بَيَان الْوَحْي الْبَاطِن وَأَنه حجَّة
قَاطِعَة فِي حَقه وَإِن كَانَ الإلهام فِي حق غَيره لَا يكون
بِهَذِهِ الصّفة على مَا نبينه فِي بَابه
وَالدَّلِيل على هَذِه الْقَاعِدَة مَا رُوِيَ أَن خَوْلَة
رَضِي الله عَنْهَا لما جَاءَت إِلَيْهِ تسأله عَن ظِهَار
زَوجهَا مِنْهَا قَالَ مَا أَرَاك إِلَّا قد حرمت عَلَيْهِ
فَقَالَت إِنِّي أشتكي إِلَى الله فَأنْزل الله تَعَالَى
قَوْله {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك} الْآيَة فَعرفنَا
أَنه كَانَ يُفْتِي بِالرَّأْيِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَكَانَ
لَا يقر على الْخَطَأ وَهَذَا لأَنا أمرنَا باتباعه قَالَ
تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} وَحين بَين
بِالرَّأْيِ وَأقر على ذَلِك كَانَ اتِّبَاع ذَلِك فرضا علينا
لَا محَالة فَعرفنَا أَن ذَلِك هُوَ الْحق الْمُتَيَقن بِهِ
وَمثل ذَلِك لَا يُوجد فِي حق الْأمة فالمجتهد قد يخطىء ويقر
على ذَلِك فَلهَذَا لم يكن الرَّأْي فِي حق غَيره مُوجبا علم
الْيَقِين وَلَا صَالحا لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء بل لتعدية
حكم النَّص إِلَى غير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد ثَبت بِالنَّصِّ عمله
بِالرَّأْيِ فِيمَا لم يقر عَلَيْهِ وَرُبمَا عوتب على ذَلِك
وَرُبمَا لم يُعَاتب
فمما عوتب عَلَيْهِ مَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي قَوْله
تَعَالَى {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} وَفِي قَوْله
تَعَالَى {عبس وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى} وَمِمَّا لم
يُعَاتب عَلَيْهِ مَا يرْوى أَنه لما دخل بَيته وَوضع
السِّلَاح حِين فرغ من حَرْب الْأَحْزَاب أَتَاهُ جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ وضعت السِّلَاح وَلم تضعه
الْمَلَائِكَة
وَأمره بِأَن يذهب إِلَى بني قُرَيْظَة
وَمن ذَلِك أَنه أَمر أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ بتبليغ
سُورَة بَرَاءَة إِلَى الْمُشْركين فِي الْعَام الَّذِي أمره
فِيهِ أَن يحجّ بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام فَقَالَ لَا يبلغهَا إِلَيْهِم إِلَّا رجل مِنْك
فَبعث عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي أَثَره ليَكُون
هُوَ الْمبلغ للسورة إِلَيْهِم والقصة فِي ذَلِك مَعْرُوفَة
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه كَانَ يعْمل بِرَأْيهِ وَكَانَ لَا
يقر إِلَّا على مَا هُوَ الصَّوَاب وَلِهَذَا كَانَ لَا تجوز
مُخَالفَته فِي ذَلِك لِأَنَّهُ حِين أقرّ عَلَيْهِ فقد حصل
التيقن بِكَوْن الصَّوَاب فِيهِ فَلَا يسع لأحد أَن يُخَالِفهُ
فِي ذَلِك
فَأَما قَوْله {وَمَا ينْطق عَن الْهوى}
(2/95)
فقد قيل هَذَا فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِ من
الْقُرْآن بِدَلِيل أول السُّورَة قَوْله تَعَالَى {والنجم
إِذا هوى} أَي وَالْقُرْآن إِذا أنزل
وَقيل المُرَاد بالهوى هوى النَّفس الأمارة بالسوء وَأحد لَا
يجوز على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّبَاع هوى
النَّفس أَو القَوْل بِهِ وَلَكِن طَرِيق الاستنباط والرأي غير
هوى النَّفس
وَهَذَا أَيْضا تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن
أبدله من تِلْقَاء نَفسِي} ثمَّ فِي قَوْله {إِن أتبع إِلَّا
مَا يُوحى إِلَيّ} مَا يُوضح جَمِيع مَا قُلْنَا لِأَن
اتِّبَاع الْوَحْي إِنَّمَا يتم فِي الْعَمَل بِمَا فِيهِ
الْوَحْي بِعَيْنِه واستنباط الْمَعْنى فِيهِ لإِثْبَات الحكم
فِي نَظِيره وَذَلِكَ بِالرَّأْيِ يكون
ثمَّ قد بَينا أَنه مَا كَانَ يقر إِلَّا على الصَّوَاب فَإِذا
أقرّ على ذَلِك كَانَ ذَلِك وَحيا فِي الْمَعْنى وَهُوَ يشبه
الْوَحْي فِي الِابْتِدَاء على مَا بَينا إِلَّا أَنا شرطنا
فِي ذَلِك أَن يَنْقَطِع طمعه عَن الْوَحْي وَهُوَ نَظِير مَا
يشْتَرط فِي حق الْأمة للْعَمَل بِالرَّأْيِ الْعرض على
الْكتاب وَالسّنة فَإِذا لم يُوجد فِي ذَلِك فَحِينَئِذٍ
يُصَار إِلَى اجْتِهَاد الرَّأْي
وَنَظِيره من الْأَحْكَام من كَانَ فِي السّفر وَلَا مَاء
مَعَه وَهُوَ يَرْجُو وجود المَاء فَعَلَيهِ أَن يطْلب المَاء
وَلَا يعجل بِالتَّيَمُّمِ وَإِن كَانَ لَا يَرْجُو وجود
المَاء فَحِينَئِذٍ يتَيَمَّم وَلَا يشْتَغل بِالطَّلَبِ فحال
غير رَسُول الله مِمَّن يبتلى بحادثة كَحال من لَا يَرْجُو
وجود المَاء لِأَنَّهُ لَا طمع لَهُ فِي الْوَحْي فَلَا يُؤَخر
الْعَمَل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْي فِي كل سَاعَة عَادَة
فَكَانَ حَاله فِيمَا يبتلى بِهِ من الْحَوَادِث كَحال من
يَرْجُو وجود المَاء فَلهَذَا كَانَ ينْتَظر وَلَا يعجل
بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَكَانَ هَذَا الِانْتِظَار فِي حَقه
بِمَنْزِلَة التَّأَمُّل فِي النَّص المؤول أَو الْخَفي فِي حق
غَيره وَمُدَّة الِانْتِظَار فِي ذَلِك أَن يَنْقَطِع طمعه عَن
نزُول الْوَحْي فِيهِ بِأَن كَانَ يخَاف الْفَوْت فَحِينَئِذٍ
يعْمل فِيهِ بِالرَّأْيِ ويبينه للنَّاس فَإِذا أقرّ على ذَلِك
كَانَت حجَّة قَاطِعَة بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِالْوَحْي
وافقا لما هُوَ فِي الْقُرْآن يَجْعَل صادرا عَن الْقُرْآن
وبيانا لما فِيهِ
وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ يَجْعَل ذَلِك بَيَان حكم
مُبْتَدأ حَتَّى يقوم الدَّلِيل على خِلَافه
وعَلى هَذَا قُلْنَا بَيَان النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
للتيمم فِي حق الْجنب صادر عَمَّا فِي الْقُرْآن وَبِه
يتَبَيَّن أَن المُرَاد من قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم
النِّسَاء}
(2/96)
فصل
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فعل النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام وَقَوله مَتى ورده الْجِمَاع دون الْمس بِالْيَدِ
وهم يجْعَلُونَ ذَلِك بَيَان حكم مُبْتَدأ ويحملون قَوْله {أَو
لامستم النِّسَاء} على الْمس بِالْيَدِ قَالُوا لِأَنَّهُ
يحْتَمل أَن يكون ذَلِك صادرا عَمَّا فِي الْقُرْآن وَيحْتَمل
أَن يكون شرع الحكم ابْتِدَاء وَهُوَ فِي الظَّاهِر غير
مُتَّصِل بِالْآيَةِ فَيحمل على أَنه بَيَان حكم مُبْتَدأ
بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَلِأَن فِي حمله على هَذَا زِيَادَة
فَائِدَة وَفِي حمله على مَا قُلْتُمْ تَأْكِيد مَا صَار
مَعْلُوما بِالْآيَةِ ببيانه فَحَمله على مَا يُفِيد فَائِدَة
جَدِيدَة كَانَ أولى
وَحجَّتنَا فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إِن هُوَ إِلَّا وَحي
يُوحى} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن قَوْله وَفعله فِي حكم
الشَّرْع يكون عَن وَحي فَإِذا كَانَ ذَلِك ظَاهرا مَعْلُوما
فِي الْوَحْي المتلو عرفنَا أَنه صادر عَن ذَلِك إِذْ لَو لم
نجعله صادرا عَن ذَلِك احتجنا إِلَى إِثْبَات وَحي غير متلو
فِيهِ وَإِثْبَات الْوَحْي من غير الْحَاجة وَمَعَ الشَّك لَا
يجوز
وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى
الله وَالرَّسُول} أَي ردُّوهُ إِلَى كتاب الله وَقَالَ
تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} فَإِذا ظهر
مِنْهُ حكم فِي حَادِثَة وَذَلِكَ الحكم مَوْجُود فِيمَا أنزل
الله عرفنَا أَنه حكم فِيهِ بِمَا أنزل الله لِأَنَّهُ مَا
كَانَ يُخَالف مَا أَمر بِهِ وَلِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله
عَنْهُم فَهموا ذَلِك من أَفعاله فَإِنَّهُم حملُوا قطعه يَد
السَّارِق على الْوُجُوب وأداءه الصَّلَاة فِي مواقيتها على
الْوُجُوب وَقد بَينا أَن مُطلق فعله لَا يدل على ذَلِك فلولا
أَنهم علمُوا أَن فعله ذَلِك صادر عَن الْآيَات الدَّالَّة على
الْوُجُوب نَحْو قَوْله تَعَالَى {حَافظُوا على الصَّلَوَات}
وَقَوله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} لاستفسروه وطلبوا
مِنْهُ بَيَان صفة فعله وَحَيْثُ لم يشتغلوا بذلك عرفنَا أَنهم
علمُوا أَن فعله ذَلِك مِنْهُ صادر عَن الْآيَة فَأَما
مَأْمُور بِاتِّبَاع مَا فِي الْقُرْآن كَغَيْرِهِ
وَقَالَ تَعَالَى {وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه
أُولَئِكَ هم المفلحون} فَسقط دَعوَاهُم الِاحْتِمَال
(2/97)
سَاقِط فَإِن الظَّاهِر أَن ذَلِك مِنْهُ
صادر عَن الْقُرْآن لِأَنَّهُ اعْتِبَار الِاحْتِمَال مَعَ
هَذَا الظَّاهِر
وَقَوْلهمْ فِيهِ زِيَادَة فَائِدَة سَاقِط فَإِن إِثْبَات
هَذِه الزِّيَادَة لَا يُمكن إِلَّا بعد إِثْبَات وَحي
بِالشَّكِّ وَمن غير حَاجَة إِلَيْهِ وَقد بَينا أَن ذَلِك لَا
يجوز
فصل
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فعل النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام مَتى كَانَ على وَجه الْبَيَان لما فِي الْقُرْآن
وَحصل ذَلِك مِنْهُ فِي مَكَان أَو زمَان فالبيان يكون وَاقعا
بِفِعْلِهِ وَبِمَا هُوَ من صِفَاته عِنْد الْفِعْل فَأَما
الْمَكَان وَالزَّمَان لَا يكون شرطا فِيهِ
وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ الْبَيَان مِنْهُ بالمداومة
على فعل مَنْدُوب إِلَيْهِ فِي مَكَان أَو على فعل وَاجِب فِي
مَكَان أَو زمَان يدل على أَن ذَلِك الْمَكَان وَالزَّمَان
شَرط فِيهِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِحْرَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِالْحَجِّ فِي أشهر الْحَج لَا يكون بَيَانا فِي أَن
الْإِحْرَام تخْتَص صِحَّته بالوجود فِي أشهر الْحَج حَتَّى
يجوز الْإِحْرَام بِالْحَجِّ قبل أشهر الْحَج
وَكَذَلِكَ فعله رَكْعَتي الطّواف فِي مقَام إِبْرَاهِيم لَا
يكون بَيَانا أَن رَكْعَتي الطّواف تخْتَص بِالْأَدَاءِ فِي
ذَلِك الْمَكَان
وعَلى قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله ينْتَصب الزَّمَان شرطا
ببيانه وَالْمَكَان فِي أحد الْوَجْهَيْنِ أَيْضا قَالَ لِأَن
مداومته على ذَلِك فِي مَكَان بِعَيْنِه أَو زمَان بِعَيْنِه
لَو لم يحمل على وَجه الْبَيَان لم يبْق لَهُ فَائِدَة أُخْرَى
وَقد علمنَا أَنه مَا داوم على ذَلِك إِلَّا لفائدة ثمَّ قَاس
هَذَا بمداومته على فعل الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة فِي
الْأَوْقَات الْمَخْصُوصَة والأمكنة الطاهرة فَإِن ذَلِك
بَيَان مِنْهُ لوُجُوب مُرَاعَاة ذَلِك الزَّمَان وَالْمَكَان
فِي أَدَاء الْفَرَائِض فَكَذَلِك فِي سَائِر أَفعاله
وَلَكنَّا نقُول الْبَيَان إِنَّمَا يحصل بِفِعْلِهِ
وَالْمَكَان وَالزَّمَان لَيْسَ من فعله فِي شَيْء فَمَا كَانَ
الْمَكَان وَالزَّمَان إِلَّا بِمَنْزِلَة فعل غَيره وَغَيره
وَإِن ساعده الْمَكَان الَّذِي يُوجد فِيهِ الْفِعْل أَو
الزَّمَان الَّذِي يُوجد فِيهِ الْفِعْل لَا يكون لَهُ حَظّ
فِي حُصُول الْبَيَان بِهِ بل بِجعْل الْبَيَان حَاصِلا
بِفِعْلِهِ فَقَط إِلَّا أَن يكون هُنَاكَ أَمر مُجمل فِي حق
الزَّمَان مُحْتَاجا إِلَى الْبَيَان أَو فِي حق الْمَكَان
كَمَا فِي بَاب الصَّلَاة فَإنَّا نعلم فرضيتها فِي بعض
الْأَوْقَات (الْمَخْصُوصَة) واختصاص جَوَاز أَدَائِهَا
بِبَعْض الْأَمْكِنَة بِالنَّصِّ فَيكون فعله فِي الْأَوْقَات
الْمَخْصُوصَة والأمكنة الطاهرة بَيَانا للمجمل فِي ذَلِك كُله
فَأَما فعله فِي بَاب الْحَج بَيَان لقَوْله تَعَالَى {وَللَّه
على النَّاس حج الْبَيْت} وَذَلِكَ حَاصِل على ذَلِك الْفِعْل
فَإِن الْبَيَان يكون حَاصِلا بِفِعْلِهِ لَا بِفعل غَيره
(2/98)
فَكَذَلِك بِالْفِعْلِ لَا بِالْوَقْتِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَمر مُجمل لاخْتِصَاص عقد الْإِحْرَام
بِالْحَجِّ بِبَعْض الْأَوْقَات دون الْبَعْض وَمَا كَانَ
ذَلِك إِلَّا نَظِير مُبَاشرَة الطَّهَارَة بِالْمَاءِ فِي
الْوَقْت فَإِن ذَلِك كَانَ بَيَانا مِنْهُ لأصل الطَّهَارَة
الْمَأْمُور بهَا فِي الْكتاب وَلم يكن بَيَانا فِي
التَّخْصِيص فِي الْوَقْت حَتَّى تجوز الطَّهَارَة بِالْمَاءِ
قبل دُخُول الْوَقْت بِلَا خلاف
فصل فِي بَيَان شرائع من قبلنَا
اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْفَصْل على أقاويل
فَمنهمْ من قَالَ مَا كَانَ شَرِيعَة لنَبِيّ فَهُوَ بَاقٍ
أبدا حَتَّى يقوم دَلِيل النّسخ فِيهِ وكل من يَأْتِي
فَعَلَيهِ أَن يعْمل بِهِ على أَنه شَرِيعَة ذَلِك النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام مَا لم يظْهر ناسخه
وَقَالَ بَعضهم شَرِيعَة كل نَبِي تَنْتَهِي ببعث نَبِي آخر
بعده حَتَّى لَا يعْمل بِهِ إِلَّا أَن يقوم الدَّلِيل على
بَقَائِهِ وَذَلِكَ بِبَيَان من النَّبِي الْمَبْعُوث بعده
وَقَالَ بَعضهم شرائع من قبلنَا يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ على
أَن ذَلِك شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا لم يظْهر
دَلِيل النّسخ فِيهِ وَلَا يفصلون بَين مَا يصير مَعْلُوما من
شرائع من قبلنَا بِنَقْل أهل الْكتاب أَو بِرِوَايَة
الْمُسلمين عَمَّا فِي أَيْديهم من الْكتاب وَبَين مَا ثَبت من
ذَلِك بِبَيَان فِي الْقُرْآن أَو السّنة
وَأَصَح الْأَقَاوِيل عندنَا أَن مَا ثَبت بِكِتَاب الله أَنه
كَانَ شَرِيعَة من قبلنَا أَو بِبَيَان من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن علينا الْعَمَل بِهِ على أَنه
شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام مَا لم يظْهر ناسخه فَأَما
مَا علم بِنَقْل دَلِيل مُوجب للْعلم على أَنهم حرفوا الْكتب
فَلَا يعْتَبر نقلهم فِي ذَلِك لتوهم أَن الْمَنْقُول من جملَة
مَا حرفوا وَلَا يعْتَبر فهم الْمُسلمين ذَلِك مِمَّا فِي
أَيْديهم من الْكتب لجَوَاز أَن يكون ذَلِك من جملَة مَا غيروا
وبدلوا
وَالدَّلِيل على أَن الْمَذْهَب هَذَا أَن مُحَمَّدًا قد
اسْتدلَّ فِي كتاب الشّرْب على جَوَاز الْقِسْمَة بطرِيق
الْمُهَايَأَة فِي الشّرْب بقوله تَعَالَى {ونبئهم أَن المَاء}
أهل الْكتاب أَو بفهم الْمُسلمين
(2/99)
من كتبهمْ فَإِنَّهُ لَا يجب اتِّبَاعه
لقِيَام {قسْمَة بَينهم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَذِه نَاقَة
لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} وَإِنَّمَا أخبر الله
تَعَالَى ذَلِك عَن صَالح عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعْلُوم أَنه
مَا اسْتدلَّ بِهِ إِلَّا بعد اعْتِقَاده بَقَاء ذَلِك الحكم
شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام
وَاسْتدلَّ أَبُو يُوسُف على جَرَيَان الْقصاص بَين الذّكر
وَالْأُنْثَى بقوله تَعَالَى {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن
النَّفس بِالنَّفسِ} وَبِه كَانَ يسْتَدلّ الْكَرْخِي على
جَرَيَان الْقصاص بَين الْحر وَالْعَبْد وَالْمُسلم
وَالذِّمِّيّ وَالشَّافِعِيّ فِي هَذَا لَا يخالفنا وَقد
اسْتدلَّ برجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُودِيين
بِحكم التَّوْرَاة كَمَا نَص عَلَيْهِ بقوله أَنا أَحَق من
أَحْيَا سنة أماتوها على وجوب الرَّجْم على أهل الْكتاب وعَلى
أَن ذَلِك صَار شَرِيعَة لنبينا
وَنحن لَا ننكر ذَلِك أَيْضا وَلَكنَّا ندعي انتساخ ذَلِك
بطرِيق زِيَادَة شَرط الْإِحْصَان لإِيجَاب الرَّجْم فِي
شريعتنا ولمثل هَذِه الزِّيَادَة حكم النّسخ عندنَا
وَبَين الْمُتَكَلِّمين اخْتِلَاف فِي أَن النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام قبل نزُول الْوَحْي (عَلَيْهِ) هَل كَانَ متعبدا
بشريعة من قبله فَمنهمْ من أَبى ذَلِك وَمِنْهُم من توقف فِيهِ
وَمِنْهُم من قَالَ كَانَ متعبدا بذلك وَلَكِن مَوضِع بَيَان
هَذَا الْفَصْل أصُول التَّوْحِيد فَإنَّا نذْكر هَهُنَا مَا
يتَّصل بأصول الْفِقْه
فَأَما الْفَرِيق الأول قَالُوا صفة الْإِطْلَاق فِي الشَّيْء
يَقْتَضِي التَّأْبِيد فِيهِ إِذا كَانَ مُحْتملا للتأبيد
فالتوقيت يكون زِيَادَة فِيهِ لَا يجوز إثْبَاته إِلَّا
بِالدَّلِيلِ ثمَّ الرَّسُول الَّذِي كَانَ الحكم شَرِيعَة
لَهُ لم يخرج من أَن يكون رَسُولا برَسُول آخر بعث بعده
فَكَذَلِك شَرِيعَته لَا تخرج من أَن تكون مَعْمُولا بهَا
وَإِن بعث بعده رَسُول آخر مَا لم يقم دَلِيل النّسخ فِيهِ
أَلا ترى أَن علينا الْإِقْرَار بالرسل كلهم وَإِلَى ذَلِك
وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {والمؤمنون كل آمن
بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من
رسله}
(2/100)
فَكَذَلِك مَا ثَبت شَرِيعَة لرَسُول فَمَا
لم يظْهر ناسخه فَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال
النّسخ فِي كَونه بَاقِيا مَعْمُولا بِهِ يُوضحهُ أَن مَا ثَبت
شَرِيعَة لرَسُول فقد ثبتَتْ الحقية فِيهِ وَكَونه مرضيا عِنْد
الله وَبعث الرُّسُل لبَيَان مَا هُوَ مرضِي عِنْد الله فَمَا
علم كَونه مرضيا قبل بعث رَسُول آخر لَا يخرج من أَن يكون
مرضيا ببعث رَسُول آخر وَإِذا بَقِي مرضيا كَانَ مَعْمُولا
بِهِ كَمَا كَانَ قبل بعث الرَّسُول الثَّانِي وَبِهَذَا تبين
الْفرق أَن الأَصْل هُوَ الْمُوَافقَة فِي شرائع الرُّسُل
إِلَّا أذا تبين تَغْيِير حكم بِدَلِيل النّسخ
فَأَما الْفَرِيق الثَّانِي فقد استدلوا بقوله تَعَالَى {لكل
جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} وَبِقَوْلِهِ {وجعلناه هدى لبني
إِسْرَائِيل} فتخصيص بني إِسْرَائِيل يكون التَّوْرَاة هدى
لَهُم يكون دَلِيلا على أَنه لَا يلْزمنَا الْعَمَل بِمَا
فِيهِ إِلَّا أَن يقوم دَلِيل يُوجب الْعَمَل بِهِ فِي شريعتنا
وَلِأَن بعث الرُّسُل لبَيَان مَا بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَى
بَيَانه وَإِذا لم تجْعَل شَرِيعَة رَسُول منتهية ببعث رَسُول
آخر لم يكن بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَى الْبَيَان عِنْد بعث
الثَّانِي لِأَن ذَلِك مُبين عِنْدهم بِالطَّرِيقِ الْمُوجب
للْعلم فَمن هَذَا الْوَجْه يتَبَيَّن أَن بعث رَسُول آخر
دَلِيل النّسخ لشريعة كَانَت قبله وَلِهَذَا جعلنَا هَذَا
كالنسخ فِيمَا يحْتَمل النّسخ دون مَا لَا يحْتَمل النّسخ أصلا
كالتوحيد وأصل الدّين أَلا ترى أَن الرُّسُل عَلَيْهِم
السَّلَام مَا اخْتلفُوا فِي شَيْء من ذَلِك أصلا وَلَا وَصفا
وَلَا يجوز أَن يكون بَينهم فِيهِ خلاف وَلِهَذَا انْقَطع
القَوْل بِبَقَاء شَرِيعَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى قيام السَّاعَة لعلمنا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ
أَنه لَا نَبِي بعده حَتَّى يكون نَاسِخا لشريعته يُوضحهُ أَن
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قبل نَبينَا أَكْثَرهم
إِنَّمَا بعثوا إِلَى قوم مخصوصين ورسولنا هُوَ الْمَبْعُوث
إِلَى النَّاس كَافَّة على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام
أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد قبلي بعثت إِلَى الْأَحْمَر
وَالْأسود وَقد كَانَ النَّبِي قبلي يبْعَث إِلَى قومه
الحَدِيث فَإِذا ثَبت أَنه قد كَانَ فِي الْمُرْسلين من يكون
وجوب الْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ على أهل مَكَان دون أهل مَكَان
آخر وَإِن كَانَ ذَلِك مرضيا عِنْد الله تَعَالَى علمنَا أَنه
يجوز أَن يكون وجوب الْعَمَل بِهِ على أهل زمَان دون أهل نبيين
فِي ذَلِك الْوَقْت فِي مكانين على أَن يَدْعُو كل وَاحِد
مِنْهُمَا إِلَى شَرِيعَته فَعرفنَا أَنه يجوز مثل ذَلِك فِي
زمانين وَأَن الْمَبْعُوث آخرا يَدْعُو إِلَى الْعَمَل
بِشَرِيعَتِهِ وَيَأْمُر النَّاس باتباعه وَلَا يَدْعُو إِلَى
الْعَمَل بشريعة من قبله فَتعين الْكَلَام فِي نَبينَا
فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاس إِلَى اتِّبَاعه كَمَا قَالَ
تَعَالَى {فَاتبعُوني يحببكم الله} وَإِنَّمَا يَأْمر
بِالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ فَلَو بقيت زمَان آخر
(2/101)
وَإِن كَانَ (ذَلِك) منتهيا ببعث نَبِي آخر
وَقد كَانَ يجوز اجْتِمَاع شرائع من قبلنَا مَعْمُولا بهَا بعد
مبعثه لدعا النَّاس إِلَى الْعَمَل بذلك ولكان يجب عَلَيْهِ
أَن يعلم ذَلِك أَصْحَابه ليتمكنوا من الْعَمَل بِهِ وَلَو فعل
ذَلِك لنقل إِلَيْنَا نقلا مستفيضا وَالْمَنْقُول إِلَيْنَا
مَنعه إيَّاهُم عَن ذَلِك فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه (عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام (لما رأى صحيفَة فِي يَد عمر سَأَلَهُ
عَنْهَا فَقَالَ هِيَ التَّوْرَاة
فَغَضب حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه وَقَالَ أمتهوكون كَمَا تهوكت
الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالله لَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا
وَسعه إِلَّا اتباعي وَبِهَذَا اللَّفْظ يتَبَيَّن أَن
الرَّسُول الْمُتَقَدّم ببعث رَسُول آخر يكون كالواحد من أمته
فِي لُزُوم اتِّبَاع شَرِيعَته لَو كَانَ حَيا وَعَلِيهِ دلّ
كتاب الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق
النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول
مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ} فَأخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِم
بذلك من أبين الدَّلَائِل على أَنهم بِمَنْزِلَة أمة من بعث
آخرا فِي وجوب اتِّبَاعه وَبِهَذَا ظهر شرف نَبينَا عَلَيْهِ
السَّلَام فَإِنَّهُ لَا نَبِي بعده فَكَانَ الْكل مِمَّن تقدم
وَمِمَّنْ تَأَخّر فِي حكم المتبع لَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَة
الْقلب يطيعه الرَّأْس ويتبعه الرجل
والفريق الثَّالِث استدلوا بِهَذَا الْكَلَام أَيْضا وَلَكِن
بطرِيق أَن مَا كَانَ شَرِيعَة لمن قبلنَا يصير شَرِيعَة
لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن تقدم فِي الْعَمَل بِهِ
يكون مُتبعا لَهُ وَفِي حكم الْعَامِل بِشَرِيعَتِهِ من هَذَا
الْوَجْه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {مِلَّة أبيكم
إِبْرَاهِيم} وَقَالَ تَعَالَى {قل صدق الله فاتبعوا مِلَّة
إِبْرَاهِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة
إِبْرَاهِيم حَنِيفا} وَمَا يكون منتهيا مَنْسُوخا لَا يكون
مُتبعا فبهذه النُّصُوص يتَبَيَّن أَنه مُتبع عَلَيْهِ
السَّلَام وَيجب على النَّاس الْعَمَل بِهِ بطرِيق أَنه
شَرِيعَة لَهُ حَتَّى يقوم دَلِيل نسخه فِي شَرِيعَته أَلا ترى
أَنه قد اجْتمع نبيان فِي وَقت وَاحِد وَفِي مَكَان وَاحِد
فِيمَن قبلنَا على أَن كَانَ أَحدهمَا تبعا للْآخر نَحْو
هَارُون مَعَ مُوسَى وَلُوط مَعَ إِبْرَاهِيم كَمَا قَالَ
تَعَالَى {فَآمن لَهُ لوط} فَكَانَت الشَّرِيعَة وَأَنه مِلَّة
إِبْرَاهِيم فَلم يبْق
(2/102)
طَرِيق سوى أَن نقُول قد صَار ذَلِك
شَرِيعَة لنبينا لأَحَدهمَا وَالْآخر نَبِي مُرْسل وَهُوَ
مَأْمُور باتباعه وَالْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ وَلَا يجوز القَوْل
باجتماع نبيين فِي وَقت وَاحِد وَمَكَان وَاحِد على أَن يكون
لكل وَاحِد مِنْهُمَا شَرِيعَة تخَالف شَرِيعَة الآخر فِي وَقت
من الْأَوْقَات
وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقوله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين
هدى الله فبهداهم اقتده} وَمَعْلُوم أَن الْهدى فِي أصل الدّين
وَأَحْكَام الشَّرْع جَمِيعًا
فَإِن قيل المُرَاد بِهِ الْأَمر بالاقتداء بهم فِي أصل الدّين
فَإِنَّهُ مَبْنِيّ على مَا تقدم من قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا
جن عَلَيْهِ اللَّيْل} إِلَى قَوْله {وَتلك حجتنا آتيناها
إِبْرَاهِيم} إِلَى قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى
الله} وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد كَانَ فِي الْمَذْكُورين
من لم يكن نَبيا فَإِنَّهُ قَالَ {وَمن آبَائِهِم وذرياتهم
وإخوانهم} وَمَعْلُوم أَن الْأَمر بالاقتداء فِي أَحْكَام
الشَّرْع لَا يكون فِي غير الْأَنْبِيَاء وَإِنَّمَا يكون
ذَلِك فِي أصل الدّين وَلِأَنَّهُ قد كَانَ فِي شرائعهم
النَّاسِخ والمنسوخ فَالْأَمْر باللاقتداء بهم فِي الْأَحْكَام
على الْإِطْلَاق يكون آمرا بِالْعَمَلِ بشيئين مُخْتَلفين
متضادين وَذَلِكَ غير جَائِز
قُلْنَا فِي الْآيَة تنصيص على الِاقْتِدَاء بهداهم وَذَلِكَ
يعم أصل الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع أَلا ترى إِلَى قَوْله
تَعَالَى {الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين}
أَنه يدلنا على أَن الْهدى كل مَا يجب الاتقاء فِيهِ وَمَا
يكون الْمُهْتَدي فِيهِ متقيا وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا
أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا
النَّبِيُّونَ} وَالْحكم إِنَّمَا يكون بالشرائع وَلما سُئِلَ
مُجَاهِد عَن سَجْدَة ص قَالَ سجدها دَاوُد وَهُوَ مِمَّن أَمر
نَبِيكُم بِأَن يَقْتَدِي بِهِ وتلا قَوْله تَعَالَى {فبهداهم
اقتده} فَبِهَذَا تبين أَن هَذَا أَمر مُبْتَدأ غير مَبْنِيّ
على مَا سبق فعمومه يتَنَاوَل أصل الدّين والشرائع جَمِيعًا
وَقَوله فِيهَا نَاسخ ومنسوخ قُلْنَا وَفِي شريعتنا أَيْضا
نَاسخ ومنسوخ ثمَّ لم يمْنَع ذَلِك إِطْلَاق القَوْل بِوُجُوب
الِاقْتِدَاء علينا برَسُول الله صلى الله
وَقَوله قد كَانَ فيهم من لَيْسَ بِنَبِي لَا كَذَلِك فقد ألحق
بِهِ من الْبَيَان مَا يعلم بِهِ أَن المُرَاد الْأَنْبِيَاء
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {واجتبيناهم وهديناهم}
(2/103)
عَلَيْهِ وَسلم فِي شَرِيعَته {إِلَى
صِرَاط مُسْتَقِيم} {أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب}
مَعَ أَن الْأَمر بالاقتداء يعلم أَنه لَا يتَنَاوَل إِلَّا من
يعلم أَنه مرضِي الطَّرِيقَة مقتدي بِهِ من نَبِي أَو ولي
والأولياء على طَريقَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي
الْعَمَل بشرائعهم فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن المُرَاد هُوَ
الْأَمر بالاقتداء بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَمَعْلُوم
أَنه مَا أَمر بالاقتداء بهم فِي دُعَاء النَّاس إِلَى شريعتهم
وَإِنَّمَا أَمر بذلك على أَن يَدْعُو النَّاس إِلَى شَرِيعَته
فَعرفنَا بِهَذَا أَن ذَلِك كُله صَار شَرِيعَة لَهُ
بِمَنْزِلَة الْملك ينْتَقل من الْمُورث إِلَى الْوَارِث
فَيكون ذَلِك الْملك بِعَيْنِه مُضَافا إِلَى الْوَارِث
بَعْدَمَا كَانَ مُضَافا إِلَى الْمُورث فِي حَيَاته وَإِلَى
ذَلِك وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَوْرَثنَا
الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} فَأَما قَوْله {لكل
جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} قد عرفنَا يَقِينا أَنه لَيْسَ
المُرَاد بِهِ الْمُخَالفَة فِي الْمِنْهَاج فِي الْكل بل
ذَلِك مُرَاد فِي الْبَعْض وَهُوَ مَا قَامَ الدَّلِيل فِيهِ
على انتساخه
وَقَوله {هدى لبني إِسْرَائِيل} لَا يدل على أَنه لَيْسَ بهدى
لغَيرهم كَقَوْلِه تَعَالَى {هدى لِلْمُتقين} وَالْقُرْآن هدى
للنَّاس أجمع وأيد هَذَا دُعَاء رَسُول الله عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالتَّوْرَاةِ وَطلب حكم الرَّجْم
مِنْهُ للْعَمَل بِهِ وَقَوله أَنا أَحَق من أَحْيَا سنة
أماتوها فَإِن إحْيَاء سنة أميتت إِنَّمَا يكون بِالْعَمَلِ
بهَا فَعرفنَا أَن التَّوْرَاة هدى لبني إِسْرَائِيل ولغيرهم
وأيد جَمِيع مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {مُصدقا لما بَين
يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ} وَلَا معنى لذَلِك سوى
أَن مَا فِيهِ يصير شَرِيعَة لنبينا بِمَا أنزل عَلَيْهِ من
الْكتاب إِلَّا مَا ثَبت نسخه وَهَذَا هُوَ القَوْل الصَّحِيح
عندنَا إِلَّا أَنه قد ظهر من أهل الْكتاب الْحَسَد وَإِظْهَار
الْعَدَاوَة مَعَ الْمُسلمين فَلَا يعْتَمد قَوْلهم فِيمَا
يَزْعمُونَ أَنه من شريعتهم وَأَن ذَلِك قد انْتقل إِلَيْهِم
بالتواتر وَلَا تقبل شَهَادَتهم فِي ذَلِك لثُبُوت كفرهم
وضلالهم فَلم يبْق لثُبُوت ذَلِك طَرِيق سوى نزُول الْقُرْآن
بِهِ أَو بَيَان الرَّسُول لَهُ فَمَا وجد فِيهِ هَذَا
الطَّرِيق فعلينا تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله
فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} فِيهِ الِاتِّبَاع وَالْعَمَل
بِهِ حَتَّى يقوم دَلِيل
(2/104)
النّسخ وأيد مَا ذكرنَا قَوْله
{فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَمَعْلُوم أَنهم مَا كَانُوا
يمتنعون من الْعَمَل بِأَحْكَام التَّوْرَاة وَإِنَّمَا
كَانُوا يمتنعون من الْعَمَل بِهِ على طَرِيق أَنه شَرِيعَة
رَسُولنَا فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يقرونَ برسالته وَقد سماهم
الله كَافِرين ظالمين ممتنعين من الحكم بِمَا أنزل الله
وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل
الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم
الْفَاسِقُونَ} وَإِنَّمَا سماهم فاسقين لتركهم الْعَمَل بِمَا
فِي الْإِنْجِيل على أَنه شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن ذَلِك كُله قد صَار شَرِيعَة
لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه يجب اتِّبَاعه وَالْعَمَل
بِهِ على أَنه شَرِيعَة نَبينَا
وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة
فِيهَا حكم الله} تنصيص على أَنه مَعْمُول بِهِ
وَقَالَ تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا}
إِلَى قَوْله {أَن أقِيمُوا الدّين} وَالدّين اسْم لكل مَا
يدان الله بِهِ فَتدخل الْأَحْكَام فِي ذَلِك وَيظْهر أَن
ذَلِك كُله قد صَار شَرِيعَة لنبينا فَيجب اتِّبَاعه
وَالْعَمَل بِهِ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيل النّسخ فِيهِ |