أصول السرخسي فصل فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ
قولا وَلَا يعرف لَهُ مُخَالف
حكى أَبُو عَمْرو بن دانيكا الطَّبَرِيّ عَن أبي سعيد البردعي
رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة
مقدم على الْقيَاس يتْرك الْقيَاس بقوله وعَلى هَذَا أدركنا
مَشَايِخنَا
وَذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن أبي الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه
الله أَنه كَانَ يَقُول أرى أَبَا يُوسُف يَقُول فِي بعض
مسَائِله الْقيَاس كَذَا إِلَّا أَنِّي تركته للأثر وَذَلِكَ
الْأَثر قَول وَاحِد من الصَّحَابَة
فَهَذِهِ دلَالَة بَيِّنَة من مذْهبه على تَقْدِيم قَول
الصَّحَابِيّ على الْقيَاس
قَالَ وَأما أَنا فَلَا يُعجبنِي هَذَا الْمَذْهَب
وَهَذَا الَّذِي ذكره الْكَرْخِي عَن أبي يُوسُف مَوْجُود فِي
كثير من الْمسَائِل عَن أَصْحَابنَا فقد قَالُوا فِي
الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق إنَّهُمَا سنتَانِ فِي الْقيَاس
فِي الْجَنَابَة وَالْوُضُوء جَمِيعًا تركنَا
(2/105)
الْقيَاس لقَوْل ابْن عَبَّاس وَقَالُوا
فِي الدَّم إِذا ظهر على رَأس الْجرْح وَلم يسل فَهُوَ نَاقض
للطَّهَارَة فِي الْقيَاس تَرَكْنَاهُ لقَوْل ابْن عَبَّاس
وَقَالُوا فِي الْإِغْمَاء إِذا كَانَ يَوْمًا وَلَيْلَة أَو
أقل فَإِنَّهُ يمْنَع قَضَاء الصَّلَوَات فِي الْقيَاس
تَرَكْنَاهُ لفعل عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنْهُمَا
وَقَالُوا فِي إِقْرَار الْمَرِيض لوَارِثه إِنَّه جَائِز فِي
الْقيَاس تَرَكْنَاهُ لقَوْل ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله فِيمَن
اشْترى شَيْئا على أَنه (إِن) لم ينْقد الثّمن إِلَى ثَلَاثَة
أَيَّام فَلَا بيع بَينهمَا فَالْعقد فَاسد فِي الْقيَاس
تَرَكْنَاهُ لأثر يرْوى عَن ابْن عمر
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِعْلَام قدر رَأس المَال فِيمَا
يتَعَلَّق العقد على قدره شَرط لجَوَاز السّلم بلغنَا نَحْو
ذَلِك عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَخَالفهُ أَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد بِالرَّأْيِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا ضَاعَ الْعين فِي يَد
الْأَجِير الْمُشْتَرك بِمَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ فَهُوَ
ضَامِن لأثر رُوِيَ فِيهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا ضَمَان عَلَيْهِ فَأخذ بِالرَّأْيِ
مَعَ الرِّوَايَة بِخِلَافِهِ عَن عَليّ
وَقَالَ مُحَمَّد لَا تطلق الْحَامِل أَكثر من وَاحِدَة للسّنة
بلغنَا ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف بِالرَّأْيِ إِنَّهَا
تطلق ثَلَاثًا للسّنة
فَعرفنَا أَن عمل عُلَمَائِنَا بِهَذَا فِي مسائلهم مُخْتَلف
ول لشافعي فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ كَانَ يَقُول فِي
الْقَدِيم يقدم قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس وَهُوَ قَول
مَالك وَفِي الْجَدِيد كَانَ يَقُول يقدم الْقيَاس فِي
الْعَمَل بِهِ على قَول الْوَاحِد والاثنين من الصَّحَابَة
كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْكَرْخِي
وَبَعض أهل الحَدِيث يخصون بترك الْقيَاس فِي مُقَابلَة
قَوْلهم الْخُلَفَاء الرَّاشِدين ويستدلون بقوله عَلَيْهِ
السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من
بعدِي وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام اقتدوا بالذين من بعدِي
أبي بكر وَعمر فَظَاهر الْحَدِيثين يَقْتَضِي وجوب اتباعهما
وَإِن خالفهما غَيرهمَا من الصَّحَابَة وَلَكِن يتْرك هَذَا
الظَّاهِر عِنْد ظُهُور الْخلاف بِقِيَام الدَّلِيل فَبَقيَ
حَال ظُهُور قَوْلهمَا من غير مُخَالف لَهَا على مَا
يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر
وَأما الْكَرْخِي فقد احْتج بقوله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي
الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ الْعَمَل بِالْقِيَاسِ
والرأي فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم
فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} يَعْنِي إِلَى
الْكتاب وَالسّنة وَقد دلّ عَلَيْهِ
(2/106)
حَدِيث معَاذ حِين قَالَ لَهُ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ تقضي قَالَ بِكِتَاب الله
قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله قَالَ بِسنة رَسُول الله
قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله قَالَ اجْتهد
رَأْيِي
فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضى
بِهِ رَسُوله فَهَذَا دَلِيل على أَنه لَيْسَ بعد الْكتاب
وَالسّنة شَيْء يعْمل بِهِ سوى الرَّأْي
قَالَ وَلَا حجَّة لكم فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ لِأَن المُرَاد الِاقْتِدَاء بهم فِي الجري على
طريقهم فِي طلب الصَّوَاب فِي الْأَحْكَام لَا فِي تقليدهم
وَقد كَانَت طريقتهم الْعَمَل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد أَلا
ترى أَنه شبههم بالنجوم وَإِنَّمَا يَهْتَدِي بِالنَّجْمِ من
حَيْثُ الِاسْتِدْلَال بِهِ على الطَّرِيق بِمَا يدل عَلَيْهِ
لَا أَن نفس النَّجْم يُوجب ذَلِك وَهُوَ تَأْوِيل قَوْله
اقتدوا بالذين من بعدِي وَعَلَيْكُم بِسنة الْخُلَفَاء من
بعدِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي سلوك طريقهم فِي اعْتِبَار
الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَهَذَا هُوَ
الْمَعْنى فقد ظهر من الصَّحَابَة الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ
ظهورا لَا يُمكن إِنْكَاره والرأي قد يخطىء فَكَانَ فَتْوَى
الْوَاحِد مِنْهُم مُحْتملا مترددا بَين الصَّوَاب وَالْخَطَأ
وَلَا يجوز ترك الرَّأْي بِمثلِهِ كَمَا لَا يتْرك بقول
التَّابِعِيّ وكما لَا يتْرك أحد الْمُجْتَهدين فِي عصر رَأْيه
بقول مُجْتَهد آخر
وَالدَّلِيل على أَن الْخَطَأ مُحْتَمل فِي فتواهم مَا رُوِيَ
أَن عمر سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَأجَاب فَقَالَ رجل هَذَا هُوَ
الصَّوَاب
فَقَالَ وَالله مَا يدْرِي عمر أَن هَذَا هُوَ الصَّوَاب أَو
الْخَطَأ وَلَكِنِّي لم آل عَن الْحق
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِيمَا أجَاب بِهِ فِي
المفوضة وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان
فَعرفنَا أَنه قد كَانَ جِهَة الْخَطَأ مُحْتملا فِي فتواهم
وَلَا يُقَال هَذَا فِي إِجْمَاعهم مَوْجُود إِذا صدر عَن
رَأْي ثمَّ كَانَ حجَّة لِأَن الرَّأْي إِذا تأيد
بِالْإِجْمَاع تتَعَيَّن جِهَة الصَّوَاب فِيهِ بِالنَّصِّ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله لَا يجمع أمتِي على
الضَّلَالَة أَلا ترى أَن إِجْمَاع أهل كل عصر يَجْعَل حجَّة
بِهَذَا الطَّرِيق وَإِن لم يكن قَول الْوَاحِد مِنْهُم مقدما
على الرَّأْي فِي الْعَمَل بِهِ وَلِأَنَّهُ لم يظْهر مِنْهُم
دُعَاء النَّاس إِلَى أقاويلهم وَلَو كَانَ قَول الْوَاحِد
مِنْهُم مقدما على الرَّأْي لدعا النَّاس إِلَى قَوْله كَمَا
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو النَّاس
إِلَى الْعَمَل بقوله وكما كَانَت الصَّحَابَة تَدْعُو النَّاس
إِلَى الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة وَإِلَى الْعَمَل
(2/107)
بإجماعهم فِيمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ إِذْ
الدُّعَاء إِلَى الْحجَّة وَاجِب وَلِأَن قَول الْوَاحِد
مِنْهُم لَو كَانَ حجَّة لم يجز لغيره مُخَالفَته بِالرَّأْيِ
كالكتاب وَالسّنة وَقد رَأينَا أَن بَعضهم يُخَالف بَعْضًا
بِرَأْيهِ فَكَانَ ذَلِك شبه الِاتِّفَاق مِنْهُم على أَن قَول
الْوَاحِد مِنْهُم لَا يكون مقدما على الرَّأْي
وَلَا يدْخل على هَذَا إِجْمَاعهم فَإِن مَعَ بَقَاء الْوَاحِد
مِنْهُم مُخَالفا لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع وَبعد مَا ثَبت
الْإِجْمَاع باتفاقهم لَو بدا لأَحَدهم فَخَالف لم يعْتد
بِخِلَافِهِ أَيْضا على مَا بَينا أَن انْقِرَاض الْعَصْر
لَيْسَ بِشَرْط لثُبُوت حكم الْإِجْمَاع وَأَن مُخَالفَة
الْإِجْمَاع بعد انْعِقَاده كمخالفة النَّص
وَجه مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو سعيد البردعي وَهُوَ الْأَصَح أَن
فَتْوَى الصَّحَابِيّ فِيهِ احْتِمَال الرِّوَايَة عَمَّن ينزل
عَلَيْهِ الْوَحْي فقد ظهر من عَادَتهم أَن من كَانَ عِنْده
نَص فَرُبمَا روى وَرُبمَا أفتى على مُوَافقَة النَّص مُطلقًا
من غير الرِّوَايَة وَلَا شكّ أَن مَا فِيهِ احْتِمَال السماع
من صَاحب الْوَحْي فَهُوَ مقدم على مَحْض الرَّأْي فَمن هَذَا
الْوَجْه تَقْدِيم قَول الصَّحَابِيّ على الرَّأْي بِمَنْزِلَة
تَقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس وَلَئِن كَانَ قَوْله
صادرا عَن الرَّأْي فرأيهم أقوى من رَأْي غَيرهم لأَنهم شاهدوا
طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيَان
أَحْكَام الْحَوَادِث وشاهدوا الْأَحْوَال الَّتِي نزلت فِيهَا
النُّصُوص والمحال الَّتِي تَتَغَيَّر باعتبارها الْأَحْكَام
فبهذه الْمعَانِي يتَرَجَّح رَأْيهمْ على رَأْي من لم يُشَاهد
شَيْئا من ذَلِك وَعند تعَارض الرأيين إِذا ظهر لأَحَدهمَا نوع
تَرْجِيح وَجب الْأَخْذ بذلك فَكَذَلِك إِذا وَقع التَّعَارُض
بَين رَأْي الْوَاحِد منا ورأي الْوَاحِد مِنْهُم يجب تَقْدِيم
رَأْيه على رَأينَا لزِيَادَة قُوَّة فِي رَأْيه وَهَكَذَا
نقُول فِي الْمُجْتَهدين فِي زَمَاننَا فَإِن على أصل أبي
حنيفَة إِذا كَانَ عِنْد مُجْتَهد أَن من يُخَالِفهُ فِي
الرَّأْي أعلم بطرِيق الِاجْتِهَاد وَأَنه مقدم عَلَيْهِ فِي
الْعلم فَإِنَّهُ يدع رَأْيه لرأي من عرف زِيَادَة قُوَّة فِي
اجْتِهَاده كَمَا أَن الْعَاميّ يدع رَأْيه لرأي الْمُفْتِي
الْمُجْتَهد لعلمه بِأَنَّهُ مُتَقَدم عَلَيْهِ فِيمَا يفصل
بِهِ بَين النَّاسِخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وعَلى قَول
أبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يدع الْمُجْتَهد فِي زَمَاننَا
رَأْيه لرأي من هُوَ مقدم عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَاد من أهل
عصره لوُجُود الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي الْحَال وَفِي معرفَة
طَرِيق الِاجْتِهَاد وَلَكِن هَذَا لَا يُوجد فِيمَا بَين
الْمُجْتَهد منا والمجتهد من الصَّحَابَة فالتفاوت بَينهمَا
فِي الْحَال لَا يخفى
(2/108)
وَفِي طَرِيق الْعلم كَذَلِك فهم قد شاهدوا
أَحْوَال من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وسمعوا مِنْهُ وَإِنَّمَا
انْتقل إِلَيْنَا ذَلِك بخبرهم وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن تَأْوِيل الصَّحَابِيّ للنَّص لَا يكون
مقدما على تَأْوِيل غَيره وَلم يعْتَبر فِيهِ هَذِه
الْأَحْوَال فَكَذَلِك فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا
لِأَن التَّأْوِيل يكون بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوه اللُّغَة
ومعاني الْكَلَام وَلَا مزية لَهُم فِي ذَلِك الْبَاب على
غَيرهم مِمَّن يعرف من مَعَاني اللِّسَان مثل ذَلِك
فَأَما الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام إِنَّمَا يكون
بِالتَّأَمُّلِ فِي النُّصُوص الَّتِي هِيَ أصل فِي أَحْكَام
الشَّرْع وَذَلِكَ يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال ولأجله تظهر
لَهُم المزية بمشاهدة أَحْوَال الْخطاب على غَيرهم مِمَّن لم
يُشَاهد وَلَا يُقَال هَذِه أُمُور باطنة وَإِنَّمَا أمرنَا
بِبِنَاء الحكم على مَا هُوَ الظَّاهِر لِأَن بِنَاء الحكم على
الظَّاهِر مُسْتَقِيم عندنَا وَلَكِن فِي مَوضِع يتَعَذَّر
اعتبارهما جَمِيعًا فَأَما عِنْد الْمُقَابلَة لَا إِشْكَال
أَن اعْتِبَار الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا يتَقَدَّم على
مُجَرّد اعْتِبَار الظَّاهِر (وَفِي الْأَخْذ بقول
الصَّحَابِيّ اعتبارهما وَفِي الْعَمَل بِالرَّأْيِ اعْتِبَار
الظَّاهِر) فَقَط هَذَا مَعَ مَا لَهُم من الْفَضِيلَة
بِصُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتفقه فِي
الدّين سَمَاعا مِنْهُ وَشَهَادَة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُم بالخيرية بعده وتقديمهم فِي ذَلِك على من
بعدهمْ بقوله خير النَّاس قَرْني الحَدِيث وَقَالَ لَو أنْفق
أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه
فَعرفنَا أَنهم يوفقون لإصابة الرَّأْي مَا لَا يوفق غَيرهم
لمثله فَيكون رَأْيهمْ أبعد عَن احْتِمَال الْخَطَأ من رَأْي
من بعدهمْ وَلَا حجَّة فِي قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا} لِأَن
تَقْدِيم قَوْلهم بِهَذَا الطَّرِيق نوع من الِاعْتِبَار
فالاعتبار يكون بترجيح أحد الدَّلِيلَيْنِ بِزِيَادَة قُوَّة
فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَردُّوهُ إِلَى الله
وَالرَّسُول} لِأَن فِي تَقْدِيم فَتْوَى الصَّحَابِيّ رد
الحكم إِلَى أَمر الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن
الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام قد دَعَا النَّاس إِلَى
الِاقْتِدَاء بِأَصْحَابِهِ بقوله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّمَا كَانَ لَا يَدْعُو الْوَاحِد مِنْهُم
غَيره إِلَى قَوْله لِأَن ذَلِك الْغَيْر إِن أظهر قولا
بِخِلَاف قَوْله فَعِنْدَ تعَارض الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا
تتَحَقَّق الْمُسَاوَاة بَينهمَا وَلَيْسَ أَحدهمَا بِأَن
يَدْعُو صَاحبه إِلَى قَوْله بِأولى من الآخر وَإِن لم يظْهر
مِنْهُ قَول بِخِلَاف ذَلِك فَهُوَ لَا يدْرِي
(2/109)
لَعَلَّه إِذا دَعَاهُ إِلَى قَوْله أظهر
خِلَافه فَلَا يكون قَوْله حجَّة عَلَيْهِ فَأَما بَعْدَمَا
ظهر القَوْل عَن وَاحِد مِنْهُم وانقرض عصرهم قبل أَن يظْهر
قَول بِخِلَافِهِ من غَيره فقد انْقَطع احْتِمَال مَا ثَبت
بِهِ الْمُسَاوَاة من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فَيكون قَوْله
حجَّة وَإِنَّمَا سَاغَ لبَعْضهِم مُخَالفَة الْبَعْض لوُجُود
الْمُسَاوَاة بَينهم فِيمَا يتقوى بِهِ الرَّأْي وَهُوَ
مُشَاهدَة أَحْوَال التَّنْزِيل وَمَعْرِفَة أَسبَابه
وَلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين أَن
قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة حجَّة فِيمَا لَا مدْخل
للْقِيَاس فِي معرفَة الحكم فِيهِ وَذَلِكَ نَحْو الْمَقَادِير
الَّتِي لَا تعرف بِالرَّأْيِ فَإنَّا أَخذنَا بقول عَليّ
رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْدِير الْمهْر بِعشْرَة دَرَاهِم
وأخذنا بقول أنس فِي تَقْدِير أقل الْحيض بِثَلَاثَة أَيَّام
وَأَكْثَره بِعشْرَة أَيَّام وَبقول عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ
فِي تَقْدِير أَكثر النّفاس بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَبقول
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي أَن الْوَلَد لَا يبْقى فِي
الْبَطن أَكثر من سنتَيْن وَهَذَا لِأَن أحدا لَا يظنّ بهم
المجازفة فِي القَوْل وَلَا يجوز أَن يحمل قَوْلهم فِي حكم
الشَّرْع على الْكَذِب فَإِن طَرِيق الدّين من النُّصُوص
إِنَّمَا انْتقل إِلَيْنَا بروايتهم وَفِي حمل قَوْلهم على
الْكَذِب وَالْبَاطِل قَول بفسقهم وَذَلِكَ يبطل روايتهم فَلم
يبْق إِلَّا الرَّأْي أَو السماع مِمَّن ينزل عَلَيْهِ
الْوَحْي وَلَا مدْخل للرأي فِي هَذَا الْبَاب فَتعين السماع
وَصَارَ فتواه مُطلقًا كروايته عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شكّ أَنه لَو ذكر سَمَاعه من رَسُول الله
لَكَانَ ذَلِك حجَّة لإِثْبَات الحكم بِهِ فَكَذَلِك إِذا أفتى
بِهِ وَلَا طَرِيق لفتواه إِلَّا السماع وَلِهَذَا قُلْنَا إِن
قَول الْوَاحِد مِنْهُم فِيمَا لَا يُوَافقهُ الْقيَاس يكون
حجَّة فِي الْعَمَل بِهِ كالنص يتْرك الْقيَاس بِهِ حَتَّى إِن
فِي شِرَاء مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن
أَخذنَا بقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة زيد بن
أَرقم رَضِي الله عَنهُ وَتَركنَا الْقيَاس لِأَن الْقيَاس لما
كَانَ مُخَالفا لقولها تعين جِهَة السماع فِي فتواها
وَكَذَلِكَ أَخذنَا بقول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
فِي النّذر بِذبح الْوَلَد إِنَّه يُوجب ذبح شَاة لِأَنَّهُ
قَول يُخَالف الْقيَاس فتتعين فِيهِ جِهَة السماع وأخذنا بقول
ابْن
(2/110)
مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْدِير
الْجعل لراد الْآبِق من مسيرَة سفر بِأَرْبَعِينَ درهما
لِأَنَّهُ قَول بِخِلَاف الْقيَاس وَهُوَ إِطْلَاق الْفَتْوَى
مِنْهُ فِيمَا لَا يعرف بِالْقِيَاسِ فتتعين جِهَة السماع
فَإِن قيل هَذَا الْمَعْنى يُوجد فِي قَول التَّابِعِيّ
فَإِنَّهُ لَا يظنّ المجازفة فِي القَوْل بالمجتهد فِي كل عصر
وَلَا يجوز حمل كَلَامه على الْكَذِب قصدا وَمَعَ ذَلِك لَا
تتَعَيَّن جِهَة السماع لفتواه عِنْد الْإِطْلَاق حَتَّى لَا
يكون حجَّة فِيمَا لَا يسْتَدرك بِالْقِيَاسِ كَمَا لَا يكون
حجَّة فِيمَا يعرف بِالْقِيَاسِ
قُلْنَا قد بَينا أَن قَول الصَّحَابِيّ يكون أبعد عَن
احْتِمَال الْغَلَط وَقلة التَّأَمُّل فِيهِ من قَول غَيره
ثمَّ احْتِمَال اتِّصَال قَوْلهم بِالسَّمَاعِ يكون بِغَيْر
وَاسِطَة فقد صحبوا من كَانَ ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وسمعوا
مِنْهُ وَاحْتِمَال اتِّصَال قَول من بعدهمْ بِالسَّمَاعِ يكون
بِوَاسِطَة النَّقْل وَتلك الْوَاسِطَة لَا يُمكن إِثْبَاتهَا
بِغَيْر دَلِيل وبدونها لَا يثبت اتِّصَال قَوْله بِالسَّمَاعِ
بِوَجْه من الْوُجُوه فَمن هَذَا الْوَجْه يَقع الْفرق بَين
قَول الصَّحَابِيّ وَبَين قَول من هُوَ دونه فِيمَا لَا مدْخل
للْقِيَاس فِيهِ
فَإِن قيل قد قُلْتُمْ فِي الْمَقَادِير بِالرَّأْيِ من غير
أثر فِيهِ فَإِن أَبَا حنيفَة قدر مُدَّة الْبلُوغ بِالسِّنِّ
بثماني عشرَة سنة أَو سبع عشرَة سنة بِالرَّأْيِ وَقدر مُدَّة
وجوب دفع المَال إِلَى السَّفِيه الَّذِي لم يؤنس مِنْهُ الرشد
بِخمْس وَعشْرين سنة بِالرَّأْيِ وَقدر أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد
مُدَّة تمكن الرجل من نفي الْوَلَد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا
بِالرَّأْيِ وَقدر أَصْحَابنَا جَمِيعًا مَا يطهر بِهِ
الْبِئْر من النزح عِنْد وُقُوع الْفَأْرَة فِيهِ بِعشْرين
دلوا فَهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَول من يَقُول إِنَّه لَا
مدْخل للرأي فِي معرفَة الْمَقَادِير وَأَنه تتَعَيَّن جِهَة
السماع فِي ذَلِك إِذا قَالَه صَحَابِيّ
قُلْنَا إِنَّمَا أردنَا بِمَا قُلْنَا الْمَقَادِير الَّتِي
تثبت لحق الله ابْتِدَاء دون مِقْدَار يكون فِيمَا يتَرَدَّد
بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَالصَّغِير وَالْكَبِير فَإِن
الْمَقَادِير فِي الْحُدُود والعبادات نَحْو أعداد الرَّكْعَات
فِي الصَّلَوَات مِمَّا لَا يشكل على أحد أَنه لَا مدْخل
(2/111)
للرأي فِي معرفَة ذَلِك فَكَذَلِك مَا يكون
بِتِلْكَ الصّفة مِمَّا أَشَرنَا إِلَيْهِ فَأَما مَا استدللتم
بِهِ فَهُوَ من بَاب الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِيمَا
يحْتَاج إِلَيْهِ فَإنَّا نعلم أَن ابْن عشر سِنِين لَا يكون
بَالغا وَأَن ابْن عشْرين سنة يكون بَالغا ثمَّ التَّرَدُّد
فِيمَا بَين ذَلِك فَيكون هَذَا اسْتِعْمَال الرَّأْي فِي
إِزَالَة التَّرَدُّد وَهُوَ نَظِير معرفَة الْقيمَة فِي
الْمَغْصُوب والمستهلك وَمَعْرِفَة مهر الْمثل وَالتَّقْدِير
فِي النَّفَقَة فَإِن للرأي مدخلًا فِي معرفَة ذَلِك من
الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا وَكَذَلِكَ حكم دفع المَال إِلَى
السَّفِيه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فَإِن آنستم مِنْهُم
رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} وَقَالَ {وَلَا
تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا}
فَوَقَعت الْحَاجة إِلَى معرفَة الْكَبِير على وَجه يتَيَقَّن
مَعَه بِنَوْع من الرشد وَذَلِكَ مِمَّا يعرف بِالرَّأْيِ
فَقدر أَبُو حنيفَة ذَلِك بِخمْس وَعشْرين سنة لِأَنَّهُ
يتَوَهَّم أَن يصير جدا فِي هَذِه الْمدَّة وَمن صَار فَرعه
أصلا فقد تناهى فِي الْأَصْلِيَّة فيتيقن لَهُ بِصفة الْكبر
وَيعلم إيناس الرشد مِنْهُ بِاعْتِبَار أَنه بلغ أشده
فَإِنَّهُ قيل فِي تَفْسِير الأشد الْمَذْكُور فِي سُورَة
يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّه هَذِه الْمدَّة وَكَذَلِكَ
مَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فَإِنَّهُ يتَمَكَّن من
النَّفْي بعد الْولادَة بساعة أَو ساعتين لَا محَالة وَلَا
يتَمَكَّن من النَّفْي بعد سنة أَو أَكثر فَإِنَّمَا وَقع
التَّرَدُّد فِيمَا بَين الْقَلِيل وَالْكثير من الْمدَّة
فَاعْتبر الرَّأْي فِيهِ بِالْبِنَاءِ على أَكثر مُدَّة
النّفاس
فَأَما حكم طَهَارَة الْبِئْر بالنزح فَإِنَّمَا عَرفْنَاهُ
بآثار الصَّحَابَة فَإِن فَتْوَى عَليّ وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ
رَضِي الله عَنْهُمَا فِي ذَلِك مَعْرُوفَة مَعَ أَن ذَلِك من
بَاب الْفرق بَين الْقَلِيل من النزح وَالْكثير وَقد بَينا أَن
للرأي مدخلًا فِي معرفَة هَذَا كُله فِي قَول ظهر عَن
صَحَابِيّ وَلم يشْتَهر ذَلِك فِي أقرانه فَإِنَّهُ بَعْدَمَا
اشْتهر إِذا لم يظْهر النكير عَن أحد مِنْهُم كَانَ ذَلِك
بِمَنْزِلَة الْإِجْمَاع وَقد بَينا الْكَلَام فِيهِ وَمَا
اخْتلف فِيهِ الصَّحَابَة فقد بَينا أَن الْحق لَا يعدو
أقاويلهم حَتَّى لَا يتَمَكَّن أحد من أَن يَقُول بِالرَّأْيِ
قولا خَارِجا عَن أقاويلهم وَكَذَلِكَ لَا يشْتَغل بِطَلَب
التَّارِيخ بَين أقاويلهم ليجعل الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم
كَمَا يفعل فِي الْآيَتَيْنِ والخبرين لِأَنَّهُ لما ظهر
الْخلاف بَينهم وَلم نجز المحاجة بِسَمَاع من صَاحب الْوَحْي
فقد انْقَطع احْتِمَال التَّوْقِيف فِيهِ وَبَقِي مُجَرّد
القَوْل بِالرَّأْيِ والرأي
(2/112)
لَا يكون نَاسِخا للرأي وَلِهَذَا لم يجز
نسخ أحد القياسين بِالْآخرِ وَلَكِن طَرِيق الْعَمَل طلب
التَّرْجِيح بِزِيَادَة قُوَّة لأحد الْأَقَاوِيل فَإِن ظهر
ذَلِك وَجب الْعَمَل بالراجح وَإِن لم يظْهر يتَخَيَّر المبتلي
بالحادثة فِي الْأَخْذ بقول أَيهمَا شَاءَ بعد أَن يَقع فِي
أَكثر رَأْيه أَنه هُوَ الصَّوَاب وَبعد مَا عمل بِأحد
الْقَوْلَيْنِ لَا يكون لَهُ أَن يعْمل بالْقَوْل الآخر إِلَّا
بِدَلِيل وَقد بَينا (لَك) هَذَا فِي بَاب الْمُعَارضَة
هَذَا الَّذِي بَينا هُوَ النِّهَايَة فِي الْأَخْذ بِالسنةِ
حَقِيقَتهَا وشبهتها ثمَّ الْعَمَل بِالرَّأْيِ بعده وَبِذَلِك
يتم الْفِقْه على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن فِي
أدب القَاضِي فَقَالَ لَا يَسْتَقِيم الْعَمَل بِالْحَدِيثِ
إِلَّا بِالرَّأْيِ وَلَا يَسْتَقِيم الْعَمَل بِالرَّأْيِ
إِلَّا بِالْحَدِيثِ
وأصحابنا هم المتمسكون بِالسنةِ والرأي فِي الْحَقِيقَة فقد
ظهر مِنْهُم من تَعْظِيم السّنة مَا لم يظْهر من غَيرهم مِمَّن
يَدعِي أَنه صَاحب الحَدِيث لأَنهم جوزوا نسخ الْكتاب بِالسنةِ
لقُوَّة درجتها وجوزوا الْعَمَل بالمراسيل وَقدمُوا خبر
الْمَجْهُول على الْقيَاس وَقدمُوا قَول الصَّحَابِيّ على
الْقيَاس لِأَن فِيهِ شُبْهَة السماع من الْوَجْه الَّذِي
قَررنَا ثمَّ بعد ذَلِك كُله عمِلُوا بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح
وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي ظهر أَثَره بقوته
فَأَما الشَّافِعِي رَحمَه الله حِين لم يجوز الْعَمَل
بالمراسيل فقد ترك كثيرا من السّنَن وَحين لم يقبل رِوَايَة
الْمَجْهُول فقد عطل بعض السّنة أَيْضا وَحين لم ير تَقْلِيد
الْوَاحِد من الصَّحَابَة فقد جوز الْإِعْرَاض عَمَّا فِيهِ
شُبْهَة السماع ثمَّ جوز الْعَمَل بِقِيَاس الشّبَه وَهُوَ
مِمَّا لَا يجوز أَن يُضَاف إِلَيْهِ الْوُجُوب بِحَال فَمَا
حَاله إِلَّا كَحال من لم يجوز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ أصلا
ثمَّ يعْمل باستصحاب الْحَال فَحَمله مَا صَار إِلَيْهِ من
الِاحْتِيَاط على الْعَمَل بِلَا دَلِيل وَترك الْعَمَل
بِالدَّلِيلِ
وَتبين أَن أَصْحَابنَا هم الْقدْوَة فِي أَحْكَام الشَّرْع
أُصُولهَا وفروعها وَأَن بفتواهم اتَّضَح الطَّرِيق للنَّاس
إِلَّا أَنه بَحر عميق لَا يسلكه كل سابح وَلَا يستجمع
شَرَائِطه كل طَالب وَالله الْمُوفق
(2/113)
فصل فِي خلاف التَّابِعِيّ هَل يعْتد بِهِ
مَعَ إِجْمَاع الصَّحَابَة
لَا خلاف أَن قَول التَّابِعِيّ لَا يكون حجَّة على وَجه يتْرك
الْقيَاس بقوله فقد روينَا عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول
مَا جَاءَنَا عَن التَّابِعين زاحمناهم
وَلَا خلاف أَن من لم يدْرك عصر الصَّحَابَة من التَّابِعين
أَنه لَا يعْتد بِخِلَافِهِ فِي إِجْمَاعهم فَأَما من أدْرك
عصر الصَّحَابَة من التَّابِعين كالحسن وَسَعِيد بن الْمسيب
وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُ يعْتد
بقوله فِي إِجْمَاعهم عندنَا حَتَّى لَا يتم إِجْمَاعهم مَعَ
خِلَافه وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يعْتد بقوله مَعَ
إِجْمَاعهم
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يثبت إِجْمَاع الصَّحَابَة
فِي الْإِشْعَار لِأَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ كَانَ يكرههُ
وَهُوَ مِمَّن أدْرك عصر الصَّحَابَة فَلَا يثبت إِجْمَاعهم
دون قَوْله
وَجه قَول الشَّافِعِي أَن إِجْمَاع الصَّحَابَة حجَّة بطرِيق
الْكَرَامَة لَهُم وَلَا مُشَاركَة للتابعي مَعَهم فِي
السَّبَب الَّذِي استحقوا بِهِ زِيَادَة الْكَرَامَة وَذَلِكَ
صُحْبَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام ومشاهدة أَحْوَال
الْوَحْي وَلِهَذَا لم نجْعَل التَّابِعِيّ الَّذِي أدْرك
عصرهم بمنزلتهم فِي الِاحْتِجَاج بقوله فَكَذَلِك لَا يقْدَح
قَوْله فِي إِجْمَاعهم كَمَا لَا يقْدَح قَول من لم يدْرك عصر
الصَّحَابَة فِي إِجْمَاعهم وَلِأَن صَاحب الشَّرْع أمرنَا
بالاقتداء بهم وَندب إِلَى ذَلِك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَهَذَا لَا يُوجد
فِي حق التَّابِعِيّ وَإِن أدْرك عصرهم فَلَا يكون مزاحما
لَهُم وَإِنَّمَا يَنْعَدِم انْعِقَاد الْإِجْمَاع بالمزاحم
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَنه لما أدْرك عصرهم وسوغوا لَهُ
اجْتِهَاد الرَّأْي والمزاحمة مَعَهم فِي الْفَتْوَى وَالْحكم
بِخِلَاف رَأْيهمْ قد صَار هُوَ كواحد مِنْهُم فِيمَا يبتني
على اجْتِهَاد الرَّأْي ثمَّ الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد مَعَ
خلاف وَاحِد مِنْهُم فَكَذَلِك لَا ينْعَقد مَعَ خلاف
التَّابِعِيّ الَّذِي أدْرك عصرهم لِأَنَّهُ من عُلَمَاء ذَلِك
الْعَصْر فَشرط انْعِقَاد الْإِجْمَاع أَن لَا يكون أحد من أهل
الْعَصْر مُخَالفا لَهُم
وَبَيَان هَذَا أَن عمر وعليا رَضِي الله عَنْهُمَا قلدا شريحا
الْقَضَاء بَعْدَمَا ظهر مِنْهُ مخالفتهما فِي الرَّأْي
وَإِنَّمَا قلداه الْقَضَاء ليحكم بِرَأْيهِ
فَإِن قيل لَا كَذَلِك بل قلداه الْقَضَاء ليحكم بقولهمَا أَو
بقول بعض الصَّحَابَة
(2/114)
سواهُمَا
قُلْنَا قد رُوِيَ أَن عمر كتب إِلَى شُرَيْح اقْضِ بِمَا فِي
كتاب الله فَإِن لم تَجِد فبسنة رَسُول الله فَإِن لم تَجِد
فاجتهد بِرَأْيِك
فَإِن قيل معنى قَوْله (فاجتهد بِرَأْيِك) فِي آرائنا
وأقاويلنا
قُلْنَا هَذِه زِيَادَة على النَّص وَهِي تنزل منزلَة النّسخ
فَلَا يكون تَأْوِيلا وَقد صَحَّ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ
تحاكم إِلَى شُرَيْح وَقضى عَلَيْهِ بِخِلَاف رَأْيه فِي
شَهَادَة الْوَلَد لوالده ثمَّ قَلّدهُ الْقَضَاء فِي
خِلَافَته وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا رَجَعَ إِلَى
قَول مَسْرُوق فِي النّذر بِذبح الْوَلَد فَأوجب عَلَيْهِ شَاة
بَعْدَمَا كَانَ يُوجب عَلَيْهِ مائَة من الْإِبِل وَعمر رَضِي
الله عَنهُ أَمر كَعْب بن سور أَن يحكم بِرَأْيهِ بَين
الزَّوْجَيْنِ فَجعل لَهَا لَيْلَة من أَربع لَيَال وَكَانَ
ذَلِك خلاف رَأْي عمر
قَالَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن تَذَاكرنَا مَعَ ابْن
عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة عدَّة مَرَّات عدَّة الْحَامِل
الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا فَقَالَ ابْن عَبَّاس تَعْتَد
بأبعد الْأَجَليْنِ وَقلت تَعْتَد بِوَضْع الْحمل فَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَة أَنا مَعَ ابْن أخي وَعَن مَسْرُوق أَن ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا صنع طَعَاما لأَصْحَاب عبد الله
بن مَسْعُود فجرت الْمسَائِل وَكَانَ ابْن عَبَّاس يخطىء فِي
بعض فَتَاوِيهِ فَمَا مَنعهم من أَن يردوا عَلَيْهِ إِلَّا
كَونهم على طَعَامه
وَسُئِلَ ابْن عمر عَن مَسْأَلَة فَقَالَ سلوا عَنْهَا سعيد بن
جُبَير فَهُوَ أعلم بهَا مني
وَكَانَ أنس بن مَالك إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ سلوا
عَنْهَا مَوْلَانَا الْحسن
فَظهر أَنهم سوغوا اجْتِهَاد الرَّأْي لمن أدْرك عصرهم وَلَا
مُعْتَبر بالصحبة فِي هَذَا الْبَاب أَلا ترى أَن إِجْمَاع أهل
كل عصر حجَّة وَإِن انعدمت الصُّحْبَة لَهُم وَأَنه قد كَانَ
فِي الصَّحَابَة الْأَعْرَاب الَّذين لم يَكُونُوا من أهل
الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام فَكَانَ لَا يعْتَبر قَوْلهم فِي
الْإِجْمَاع مَعَ وجود الصُّحْبَة فَعرفنَا أَن هَذَا الحكم
إِنَّمَا يبتنى على كَونه من عُلَمَاء الْعَصْر وَمِمَّنْ
يجْتَهد فِي الْأَحْكَام ويعتد بقوله
ثمَّ الصَّحَابَة فِيمَا بَينهم كَانُوا متفاضلين فِي الدرجَة
(2/115)
فَإِن دَرَجَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فَوق دَرَجَة غَيرهم
فِي الْفَضِيلَة وَلم يدل ذَلِك على أَن الْإِجْمَاع الَّذِي
هُوَ حجَّة يثبت بِدُونِ قَوْلهم وكما أَمر رَسُول الله
بالاقتداء بالصحابة فقد أَمر بالاقتداء بالخلفاء الرَّاشِدين
لسَائِر الصَّحَابَة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم
بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء من بعدِي وَأمر بالاقتداء بِأبي بكر
وَعمر بقوله عَلَيْهِ السَّلَام اقتدوا باللذين من بعدِي أبي
بكر وَعمر ثمَّ هَذَا لَا يدل على أَن إِجْمَاعهم يكون حجَّة
قَاطِعَة مَعَ خلاف سَائِر الصَّحَابَة |