أصول السرخسي فصل فِي حُدُوث الْخلاف بعد الْإِجْمَاع
بِاعْتِبَار معنى حَادث
فمذهب عُلَمَائِنَا أَن الِاتِّفَاق مَتى حصل فِي شَيْء على
حكم ثمَّ حدث فِيهِ معنى اخْتلفُوا لأَجله فِي حكمه فالإجماع
الْمُتَقَدّم لَا يكون حجَّة فِيهِ
وَقَالَ بعض الْعلمَاء ذَلِك الْإِجْمَاع حجَّة فِيهِ يجب
التَّمَسُّك بِهِ حَتَّى يُوجد إِجْمَاع آخر بِخِلَافِهِ
وَبَيَان هَذَا فِي المَاء الَّذِي وَقع فِيهِ نَجَاسَة وَلم
يتَغَيَّر أحد أَوْصَافه فَإِن الْإِجْمَاع الَّذِي كَانَ على
طَهَارَته قبل وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ لَا يكون حجَّة
لإِثْبَات صفة الطَّهَارَة فِيهِ بعد وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ
لَا يكون حجَّة لإِثْبَات صفة الطَّهَارَة فِيهِ بعد وُقُوع
النَّجَاسَة فِيهِ وَعند بَعضهم يكون حجَّة
وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمم إِذا أبْصر المَاء فِي خلال الصَّلَاة
فالإجماع المنعقد على صِحَة شُرُوعه فِي الصَّلَاة قبل أَن
يبصر المَاء لَا يكون حجَّة لبَقَاء صلَاته بَعْدَمَا أبْصر
المَاء وَعند بَعضهم يكون حجَّة
وَكَذَلِكَ بيع أم الْوَلَد فالإجماع المنعقد على جَوَاز
بيعهَا قبل الِاسْتِيلَاد لَا يكون حجَّة لجَوَاز بيعهَا بعد
الِاسْتِيلَاد عندنَا وَعند بَعضهم يكون حجَّة
وَيَقُولُونَ قد انْعَقَد الْإِجْمَاع على حكم فِي هَذَا
الْعين فَنحْن على مَا كُنَّا عَلَيْهِ من الْإِجْمَاع حَتَّى
ينْعَقد إِجْمَاع آخر لَهُ لِأَن الشَّيْء لَا يرفعهُ مَا هُوَ
دونه وَلَا شكّ أَن الْخلاف دون الْإِجْمَاع يُوضحهُ أَن
التَّمَسُّك بِالْيَقِينِ وَترك الْمَشْكُوك فِيهِ أصل فِي
الشَّرْع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر الشاك فِي
الْحَدث بِأَن لَا ينْصَرف من صلَاته حَتَّى يستيقن
بِالْحَدَثِ لِأَنَّهُ على يَقِين من الطَّهَارَة وَهُوَ فِي
شكّ من الْحَدث
وَكَذَلِكَ أَمر الشاك فِي الصَّلَاة بِأَن يَأْخُذ
بِالْأَقَلِّ لكَونه متيقنا بِهِ
وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْكَام نقُول الْيَقِين لَا يزَال
بِالشَّكِّ حَتَّى إِذا شكّ فِي طَلَاق امْرَأَته لم يَقع
الطَّلَاق عَلَيْهَا
وَكَذَلِكَ الْإِقْرَار بِالْمَالِ لَا يثبت مَعَ الشَّك لِأَن
بَرَاءَة الذِّمَّة يَقِين بِاعْتِبَار الأَصْل
(2/116)
فَلَا يَزُول الْمُتَيَقن بِالشَّكِّ
وَهَذَا لِأَن الْيَقِين كَانَ مَعْلُوما فِي نَفسه وَمَعَ
الشَّك لَا يثبت للْعلم فَلَا يجوز ترك الْعَمَل بِالْعلمِ
لأجل مَا لَيْسَ بِعلم
وأصحابنا قَالُوا هَذَا مَذْهَب بَاطِل فَإِن الْإِجْمَاع
كَانَ ثَابتا فِي عين على حكم لَا لِأَنَّهُ عين وَإِنَّمَا
كَانَ ذَلِك لِمَعْنى وَقد حدث معنى آخر خلاف ذَلِك وَمَعَ
هَذَا الْمَعْنى الْحَادِث لم يكن الْإِجْمَاع قطّ فَكيف
يَسْتَقِيم استصحابه وَبِه نبطل نَحن على مَا كُنَّا عَلَيْهِ
فَإنَّا لم نَكُنْ على الْإِجْمَاع مَعَ هَذَا الْمَعْنى قطّ
ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون الْحجَّة نفس الْإِجْمَاع
أَو الدَّلِيل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْإِجْمَاع قبل حُدُوث
هَذَا الْمَعْنى فِيهِ فَإِن كَانَ نفس الْإِجْمَاع فَبعد
الْخلاف الْإِجْمَاع وَفِي الْموضع الَّذِي لَا إِجْمَاع لَا
يتَحَقَّق الِاحْتِجَاج بِنَفس الْإِجْمَاع وَإِن كَانَ
الدَّلِيل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْإِجْمَاع فَمَا لم يثبت
بَقَاء ذَلِك الدَّلِيل بعد اعْتِرَاض الْمَعْنى الْحَادِث لَا
يتَحَقَّق الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاع
ثمَّ يحْتَج عَلَيْهِم بِعَين مَا احْتَجُّوا بِهِ فَنَقُول قد
تَيَقنا بِالْحَدَثِ الْمَانِع من جَوَاز أَدَاء الصَّلَاة فِي
أَعْضَاء الْمُحدث قبل اسْتِعْمَال هَذَا المَاء الَّذِي وَقعت
فِيهِ النَّجَاسَة فَنحْن على مَا كُنَّا عَلَيْهِ من
الْيَقِين وَالْإِجْمَاع لَا يتْرك بِالْخِلَافِ عِنْد
اسْتِعْمَال هَذَا المَاء واتفقنا على أَن أَدَاء الصَّلَاة
وَاجِب على من أدْرك الْوَقْت فَنحْن على ذَلِك الِاتِّفَاق
لَا نتركه بأَدَاء يكون مِنْهُ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَمَا أبْصر
المَاء لِأَن سُقُوط الْفَرْض بِهَذَا الْأَدَاء مَشْكُوك
فِيهِ واتفقنا على أَن الْأمة بعد مَا حبلت من مَوْلَاهَا قد
امْتنع بيعهَا فَنحْن على ذَلِك الِاتِّفَاق لَا نتركه
بِالْخِلَافِ فِي جَوَاز بيعهَا بَعْدَمَا انْفَصل الْوَلَد
عَنْهَا وكل كَلَام يُمكن أَن يحْتَج بِهِ على الْخصم
بِعَيْنِه فِي إِثْبَات مَا رام إِبْطَاله بِهِ فَهُوَ بَاطِل
فِي نَفسه وَهُوَ نَظِير احتجاجنا على من يَقُول لَا دَلِيل
على النَّافِي فِي أَحْكَام الشَّرْع وَإِنَّمَا الدَّلِيل على
الْمُثبت كَمَا فِي الدَّعَاوَى فَإِن الْبَيِّنَة تكون على
الْمُثبت دون النَّافِي فَنَقُول من قَالَ لَا حكم فَهُوَ يثبت
صِحَة اعْتِقَاد نفي الحكم وَهَذَا مِنْهُ إِثْبَات حكم
شَرْعِي وخصمه يَنْفِي صِحَة هَذَا الِاعْتِقَاد فَيَنْبَغِي
أَن تكون الْحجَّة عَلَيْهِ للإثبات لَا على خَصمه فَإِنَّهُ
يَنْفِي وسنقرر هَذَا الْكَلَام فِي مَوْضِعه ثمَّ نستدل بقوله
تَعَالَى {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى
الْكفَّار} وَفِي هَذَا تنصيص على ترك الْعَمَل بِمَا كَانَ
متيقنا بِهِ عِنْد حُدُوث معنى
(2/117)
آخر وَإِن لم يكن ذَلِك الْمَعْنى متيقنا
بِهِ فَإِن كفرها قبل الْهِجْرَة كَانَ متيقنا بِهِ وَزَوَال
ذَلِك بعد الْهِجْرَة إِنَّمَا نعرفه بغالب الرَّأْي لَا
بِالْيَقِينِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِير مَا اسْتشْهدُوا بِهِ
لِأَن هُنَاكَ عِنْد الشَّك فِي الطَّلَاق لَا نجد دَلِيلا
نعتمده فِي حكم الطَّلَاق سوى مَا تقدم وَكَذَلِكَ عِنْد
الشَّك فِي وجوب المَال لَا نجد دَلِيلا نعتمده سوى مَا تقدم
وَكَذَلِكَ عِنْد الشَّك فِي الْحَدث وَعند الشَّك فِي أَدَاء
بعض الصَّلَاة حَتَّى إِذا وجدنَا فِيهِ دَلِيلا وَهُوَ
التَّحَرِّي نقُول بِأَنَّهُ يجب الْعَمَل بذلك الدَّلِيل
وَهنا قد وجدنَا دَلِيلا نستدل بِهِ على الحكم بعد حُدُوث
الْمَعْنى الْحَادِث فِي الْعين فَيجب الْعَمَل بذلك الدَّلِيل
وَلَا يجوز الْمصير إِلَى اسْتِصْحَاب مَا كَانَ قبل حُدُوث
هَذَا الْمَعْنى فاليقين إِنَّمَا كَانَ قبل وجود الدَّلِيل
المغير وَمثله لَا يكون يَقِينا بعد وجود الدَّلِيل المغير
وعَلى هَذَا الأَصْل اسْتِصْحَاب الْعُمُوم بعد حُدُوث
الدَّلِيل المغير للْحكم فَإِنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يسْتَدلّ
على إِبَاحَة قتل الْمُسْتَأْمن بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا
الْمُشْركين} لِأَن حكم هَذَا الْعَام كَانَ ثَابتا قبل وجود
الدَّلِيل المغير فَلَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِهِ بعد ذَلِك
فِي مَوضِع فِيهِ خلاف وَهُوَ أَن الْمُسْتَأْمن إِذا جعل
نَفسه طَلِيعَة للْمُشْرِكين يُخْبِرهُمْ بعورات الْمُسلمين
فَإِنَّهُ لَا يُبَاح قَتله اسْتِدْلَالا بقوله تَعَالَى
{فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} عندنَا وَعند بَعضهم يجوز قَتله
بِاعْتِبَار هَذِه الْحجَّة وَالْكَلَام فِي هَذَا مثل
الْكَلَام فِي الْفَصْل الأول وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْقيَاس -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ
مَذْهَب الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من التَّابِعين
وَالصَّالِحِينَ والماضين من أَئِمَّة الدّين رضوَان الله
عَلَيْهِم جَوَاز الْقيَاس بِالرَّأْيِ على الْأُصُول الَّتِي
تثبت أَحْكَامهَا بِالنَّصِّ لتعدية حكم النَّص إِلَى
الْفُرُوع جَائِز مُسْتَقِيم يدان الله بِهِ وَهُوَ مدرك من
مدارك أَحْكَام الشَّرْع وَلكنه غير صَالح لإِثْبَات الحكم
بِهِ ابْتِدَاء وعَلى قَول أَصْحَاب الظَّوَاهِر هُوَ غير
صَالح لتعدية حكم النَّص بِهِ إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ
وَالْعَمَل بَاطِل أصلا فِي أَحْكَام الشَّرْع
وَأول من أحدث هَذَا القَوْل إِبْرَاهِيم النظام وَطعن فِي
السّلف لاحتجاجهم بِالْقِيَاسِ ونسبهم بتهوره إِلَى خلاف مَا
وَصفهم الله بِهِ فَخلع بِهِ ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه
وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ إِمَّا للقصد إِلَى إِفْسَاد طَرِيق
الْمُسلمين عَلَيْهِم
(2/118)
أَو للْجَهْل مِنْهُ بِفقه الشَّرِيعَة
ثمَّ تبعه على هَذَا القَوْل بعض الْمُتَكَلِّمين بِبَغْدَاد
وَلكنه تحرز عَن الطعْن فِي السّلف فِرَارًا من الشنعة الَّتِي
لحقت النظام فَذكر طَرِيقا آخر لاحتجاج الصَّحَابَة
بِالْقِيَاسِ هُوَ دَلِيل على جَهله وَهُوَ أَنه قَالَ مَا جرى
بَين الصَّحَابَة لم يكن على وَجه الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ
وَإِنَّمَا كَانَ على وَجه الصُّلْح والتوسط بَين الْخُصُوم
وَذكر الْمسَائِل لتقريب مَا قصدوه من الصُّلْح إِلَى الأفهام
وَهَذَا مِمَّا لَا يخفى فَسَاده على من تَأمل أدنى تَأمل
فِيمَا نقل عَن الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب
ثمَّ نَشأ بعده رجل متجاهل يُقَال لَهُ دَاوُد
الْأَصْبَهَانِيّ فَأبْطل الْعَمَل بِالْقِيَاسِ من غير أَن
وقف على مَا هُوَ مُرَاد كل فريق مِمَّن كَانَ قبله وَلكنه
أَخذ طرفا من كل كَلَام وَلم يشْتَغل بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ
ليتبين لَهُ وَجه فَسَاده قَالَ الْقيَاس لَا يكون حجَّة وَلَا
يجوز الْعَمَل بِهِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَتَابعه على ذَلِك
أَصْحَاب الظَّوَاهِر الَّذين كَانُوا مثله فِي ترك
التَّأَمُّل وروى بَعضهم هَذَا الْمَذْهَب عَن قَتَادَة ومسروق
وَابْن سِيرِين وَهُوَ افتراء عَلَيْهِم فقد كَانُوا أجل من
أَن ينْسب إِلَيْهِم الْقَصْد إِلَى مُخَالفَة رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِيمَا هُوَ طَرِيق أَحْكَام
الشَّرْع بعد مَا ثَبت نَقله عَنْهُم
ثمَّ قَالَ بعض نفاة الْقيَاس دَلَائِل الْعقل لَا تصلح
لمعْرِفَة شَيْء من أُمُور الدّين بهَا وَالْقِيَاس يشبه ذَلِك
وَقَالَ بَعضهم لَا يعْمل بالدلائل الْعَقْلِيَّة فِي أَحْكَام
الشَّرْع أصلا وَإِن كَانَ يعْمل بهَا فِي العقليات
وَقَالَ بَعضهم لَا يعْمل بهَا إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَلَا
ضَرُورَة فِي أَحْكَام الشَّرْع لِإِمْكَان الْعَمَل
بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ اسْتِصْحَاب الْحَال
وَهَذَا أقرب أقاويلهم إِلَى الْقَصْد فَيحْتَاج فِي تبين وَجه
الْفساد فِيهِ إِلَى إِثْبَات أَن الْقيَاس حجَّة أَصْلِيَّة
فِي تَعديَة الْأَحْكَام لَا حجَّة ضَرُورِيَّة وَإِلَى أَنه
مقدم فِي الِاحْتِجَاج بِهِ على اسْتِصْحَاب الْحَال
وَلَكِن نبدأ بِبَيَان شبهتهم فَإِنَّهُم استدلوا بِظَاهِر
آيَات من الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ
أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} وَفِي
الْمصير إِلَى الرَّأْي لإِثْبَات حكم فِي مَحل قَول بِأَن
الْكتاب غير كَاف
وَقَالَ تَعَالَى {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء}
(2/119)
وَقَالَ تَعَالَى {مَا فرطنا فِي الْكتاب
من شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا
فِي كتاب مُبين} فَفِيهَا بَيَان أَن الْأَشْيَاء كلهَا فِي
الْكتاب إِمَّا فِي إِشَارَته أَو دلَالَته أَو فِي اقتضائه
أَو فِي نَصه فَإِن لم يُوجد فِي شَيْء من ذَلِك فبالإبقاء على
الأَصْل الَّذِي علم ثُبُوته بِالْكتاب وَهُوَ دَلِيل
مُسْتَقِيم قَالَ تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ
محرما على طاعم يطعمهُ} الْآيَة فقد أمره بالاحتجاج بِأَصْل
الْإِبَاحَة فِيمَا لَا يجد فِيهِ دَلِيل الْحُرْمَة فِي
الْكتاب وَهَذَا مُسْتَمر على أصل من يَقُول الْإِبَاحَة فِي
الْأَشْيَاء أصل وعَلى أصلنَا الَّذِي نقُول إِنَّمَا نَعْرِف
كل شَيْء بِالْكتاب وَهَذَا مَعْلُوم بقوله تَعَالَى {هُوَ
الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} فَإِن الْإِضَافَة
بلام التَّمْلِيك تكون أدل على إِثْبَات صفة الْحل من
التَّنْصِيص على الْإِبَاحَة فَلم يبْق الرَّأْي بعد هَذَا
إِلَّا لتعرف الْحِكْمَة وَالْوُقُوف على الْمصلحَة فِيهِ
عَاقِبَة وَذَلِكَ مِمَّا لَا مجَال للرأي فِي مَعْرفَته فَإِن
الْمصلحَة فِي الْعَاقِبَة عبارَة عَن الْفَوْز والنجاة وَمَا
بِهِ الْفَوْز والنجاة فِي الْآخِرَة لَا يُمكن الْوُقُوف
عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا الرَّأْي لمعْرِفَة الْمصَالح
العاجلة الَّتِي يعلم جِنْسهَا بالحواس ثمَّ نستدرك نظائرها
بِالرَّأْيِ وَهَذَا مثل مَا قُلْتُمْ إِن تَعْلِيل النُّصُوص
بعلة لَا يتَعَدَّى إِلَى الْفُرُوع بَاطِل لِأَنَّهَا
خَالِيَة عَن إِثْبَات الحكم بهَا فَالْحكم فِي الْمَنْصُوص
ثَابت بِالنَّصِّ فَلَا يكون فِي هَذَا التَّعْلِيل إِلَّا
تعرف وَجه الْحِكْمَة وَالْوُقُوف على الْمصلحَة فِي
الْعَاقِبَة والرأي لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِك
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا
تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن لم
يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ}
{الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} وَالْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ
تقدم بَين يَدي الله وَرَسُوله وَهُوَ حكم بِغَيْر مَا أنزل
الله فَإِن طَريقَة الاستنباط بآرائنا وَمَا يَبْدُو لنا من
آرائنا لَا يكون مِمَّا أنزل الله فِي شَيْء إِنَّمَا الْمنزل
كتاب الله وَسنة رَسُوله فقد ثَبت أَنه مَا كَانَ ينْطق إِلَّا
عَن وَحي كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى}
وَقَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم}
وَإِنَّمَا الحكم بِالرَّأْيِ من جملَة مَا قَالَ الله
تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا
حَلَال وَهَذَا حرَام} الْآيَة وَاسْتَدَلُّوا بآثار فَمن
ذَلِك حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله
قَالَ لم يزل بَنو إِسْرَائِيل على طَريقَة مُسْتَقِيمَة
حَتَّى كثر فيهم أَوْلَاد السبايا فقاسوا مَا لم يكن بِمَا
(2/120)
قد كَانَ فضلوا وأضلوا وَفِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
تعْمل هَذِه الْأمة بُرْهَة بِالْكتاب ثمَّ بُرْهَة بِالسنةِ
ثمَّ بُرْهَة بِالرَّأْيِ فَإِذا فعلوا ذَلِك ضلوا وَقَالَ عمر
بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي
فَإِنَّهُم أَعدَاء الدّين أعيتهم السّنة أَن يحفظوها
فَقَالُوا برأيهم فضلوا وأضلوا
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وأرأيت
وأرأيت فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ فِي أَرَأَيْت وأرأيت
وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من فسر الْقُرْآن
بِرَأْيهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَإِنَّمَا
أَرَادَ بِهِ إِعْمَال الرَّأْي للْعَمَل بِهِ فِي الْأَحْكَام
فَإِن إِعْمَال الرَّأْي للوقوف على معنى النَّص من حَيْثُ
اللِّسَان فقه مُسْتَقِيم وَيكون الْعَمَل بِهِ عملا
بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا اخْتلف فِيهِ ابْن عَبَّاس وَزيد رَضِي
الله عَنْهُم فِي زوج وأبوين فَقَالَ ابْن عَبَّاس للْأُم ثلث
جَمِيع المَال فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فلأمه الثُّلُث}
وَالْمَفْهُوم من إِطْلَاق هَذِه الْعبارَة ثلث جَمِيع المَال
وَقَالَ زيد للْأُم ثلث مَا بَقِي لِأَن فِي الْآيَة بَيَان
أَن للْأُم ثلث مَا وَرثهُ الأبوان فَإِنَّهُ قَالَ {وَورثه
أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} وميراث الْأَبَوَيْنِ هُوَ
الْبَاقِي بعد نصيب الزَّوْج فللأم ثلث ذَلِك
هَذَا وَنَحْوه عمل بِالْكتاب لَا بِالرَّأْيِ فَيكون
مُسْتَقِيمًا
وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول يستدلون بأنواع من الْكَلَام أَحدهَا
من حَيْثُ الدَّلِيل وَهُوَ أَن فِي الْقيَاس شُبْهَة فِي
أَصله لِأَن الْوَصْف الَّذِي تعدى بِهِ الحكم غير مَنْصُوص
عَلَيْهِ وَلَا هُوَ ثَابت بِإِشَارَة النَّص وَلَا بدلالته
وَلَا بِمُقْتَضَاهُ فتعيينه من بَين سَائِر الْأَوْصَاف
بِالرَّأْيِ لَا يَنْفَكّ عَن شُبْهَة وَالْحكم الثَّابِت بِهِ
من إِيجَاب أَو إِسْقَاط أَو تَحْلِيل أَو تَحْرِيم مَحْض حق
الله تَعَالَى وَلَا وَجه لإِثْبَات مَا هُوَ حق الله بطرِيق
فِيهِ شُبْهَة لِأَن من لَهُ الْحق مَوْصُوف بِكَمَال
الْقُدْرَة يتعالى عَن أَن ينتسب إِلَيْهِ الْعَجز أَو
الْحَاجة إِلَى إِثْبَات حَقه بِمَا فِيهِ شُبْهَة وَلَا وَجه
لإنكار هَذِه الشُّبْهَة فِيهِ فَإِن الْقيَاس لَا يُوجب
الْعلم قطعا بالِاتِّفَاقِ وَكَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار أَصله
وعَلى هَذَا التَّقْرِير يكون هَذَا اسْتِدْلَالا بقوله
تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَبِقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق}
(2/121)
وَلَا يدْخل على هَذَا أَخْبَار الْآحَاد
فَإِن أَصله قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
مُوجب للْعلم قطعا وَإِنَّمَا تتمكن الشُّبْهَة فِي طَرِيق
الِانْتِقَال إِلَيْنَا وَقد كَانَ قَول رَسُول الله حجَّة قبل
الِانْتِقَال إِلَيْنَا بِهَذَا الطَّرِيق فلشبهة تتمكن فِي
الطَّرِيق لَا يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعلم
وَهُوَ كالنص المؤول فَإِن الشُّبْهَة تتمكن فِي تأويلنا فَلَا
يخرج النَّص من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعلم
وَمِنْهُم من قرر هَذَا الْكَلَام من وَجه آخر وَقَالَ تعْيين
وصف فِي الْمَنْصُوص بِالرَّأْيِ لإضافة الحكم إِلَيْهِ يشبه
قِيَاس إِبْلِيس لَعنه الله على مَا أخبر الله تَعَالَى عَنهُ
{أأسجد لمن خلقت طينا} وَكَذَلِكَ التَّمْيِيز بَين هَذَا
الْوَصْف وَسَائِر الْأَوْصَاف فِي إِثْبَات حكم الشَّرْع أَو
التَّرْجِيح بِالرَّأْيِ يشبه مَا فعله إِبْلِيس كَمَا أخبر
الله تَعَالَى عَنهُ {خلقتني من نَار وخلقته من طين} فَلَا يشك
أحد فِي أَن ذَلِك كَانَ بَاطِلا وَلم يكن حجَّة فَالْعَمَل
بِالرَّأْيِ فِي أَحْكَام الشَّرْع لَا يكون عملا بِالْحجَّةِ
أَيْضا
وَنَوع آخر من حَيْثُ الْمَدْلُول فَإِنَّهُ طَاعَة لله
تَعَالَى وَلَا مدْخل للرأي فِي معرفَة مَا هُوَ طَاعَة لله
وَلِهَذَا لَا يجوز إِثْبَات أصل الْعِبَادَة بِالرَّأْيِ
وَهَذَا لِأَن الطَّاعَة فِي إِظْهَار الْعُبُودِيَّة
والانقياد وَمَا كَانَ التَّعَبُّد مَبْنِيا على قَضِيَّة
الرَّأْي بل طَرِيقه طَرِيق الِابْتِلَاء أَلا ترى أَن من
المشروعات مَا لَا يسْتَدرك بِالرَّأْيِ (أصلا) كالمقادير فِي
الْعُقُوبَات والعبادات وَمِنْه مَا هُوَ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ
الرَّأْي وَمَا هَذِه صفته فَإِنَّهُ لَا يُمكن مَعْرفَته
بِالرَّأْيِ فَيكون الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ عملا بالجهالة
لَا بِالْعلمِ وَكَيف يُمكن إِعْمَال الرَّأْي فِيهِ
والمشروعات متباينة فِي أَنْفسهَا يظْهر ذَلِك عِنْد
التَّأَمُّل فِي جَمِيعهَا وَالْقِيَاس عبارَة عَن رد الشَّيْء
إِلَى نَظِيره يُقَال قس النَّعْل بالنعل أَي احذه بِهِ
فَكيف يَتَأَتَّى هَذَا مَعَ التباين يُوضحهُ أَن الْعِلَل
الَّتِي تعدى الحكم بهَا من الْمَنْصُوص عَلَيْهِ إِلَى غَيره
مُتعَدِّدَة مُخْتَلفَة ولأجلها اخْتلف الْعلمَاء فِي طَرِيق
التَّعْدِيَة وَمَا يكون بِهَذِهِ الصّفة فَإِنَّهُ يتَعَذَّر
تعْيين وَاحِد مِنْهَا للْعَمَل إِلَّا بِمَا يُوجب الْعلم
قطعا وَهُوَ النَّص وَلِهَذَا جَوَّزنَا الْعَمَل بِالْعِلَّةِ
الْمَنْصُوص عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
الْهِرَّة لَيست بنجسة إِنَّمَا هِيَ من الطوافين عَلَيْكُم
والطوافات فأثبتنا هَذَا الحكم فِي غَيرهَا من حشرات هُوَ
الْعلَّة عينا فَيكون الْعَمَل بِهِ بَاطِلا
وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْأَخْبَار فَإِنَّهُ لَا اخْتِلَاف
فِيهَا فِي الأَصْل لِأَنَّهُ كَلَام رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَقد بَينا أَنه قَالَ ذَلِك عَن وَحي وَقد
علمنَا بِالنَّصِّ أَنه لَا اخْتِلَاف فِيمَا هُوَ من عِنْد
الله قَالَ تَعَالَى {وَلَو} الْبَيْت لِأَن الْعلَّة
(2/122)
مَنْصُوص عَلَيْهَا فَأَما بِالرَّأْيِ
فَلَا يُمكن الْوُقُوف على مَا {كَانَ من عِنْد غير الله
لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِي
الْأَخْبَار من جِهَة الروَاة وَالْحجّة هُوَ الْخَبَر لَا
الرَّاوِي
وَمَا كَانَ الِاخْتِلَاف فِيمَا بَين الروَاة إِلَّا نَظِير
اشْتِبَاه النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ فِي كتاب الله فَإِن ذَلِك
مَتى ارْتَفع بِمَا هُوَ الطَّرِيق فِي مَعْرفَته يكون
الْعَمَل بالناسخ وَاجِبا
وَيكون ذَلِك عملا بِالنَّصِّ لَا بالتاريخ فَكَذَلِك فِي
الْأَخْبَار
وَتَحْت مَا قَررنَا فَائِدَتَانِ بهما قوام الدّين وَنَجَاة
الْمُؤمنِينَ إِحْدَاهمَا الْمُحَافظَة على نُصُوص الشَّرِيعَة
فَإِنَّهَا قوالب الْأَحْكَام
وَالثَّانِي التبحر فِي مَعَاني اللِّسَان فَإِن مَعَانِيه جمة
غائرة لَا يفضل عمر الْمَرْء عَن التَّأَمُّل فِيهَا إِذا
أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا وَلَا يتفرغ للْعَمَل بالهوى
الَّذِي ينشأ مِنْهُ الزيغ عَن الْحق والوقوع فِي الْبِدْعَة
وَمَا يحصل بِهِ التَّحَرُّز عَن الْبدع وَاجِبا أَحْكَام
الشَّرْع فَلَا شكّ أَن قوام الدّين وَنَجَاة الْمُؤمنِينَ
يكون فِيهِ
وَلَا يدْخل على شَيْء مِمَّا ذكرنَا إِعْمَال الرَّأْي فِي
أَمر الْحَرْب وقيم الْمُتْلفَات وَمهر النِّسَاء وَالْوُقُوف
على جِهَة الْكَعْبَة
أما على الْوَجْه الأول فَلِأَن هَذَا كُله من حُقُوق الْعباد
ويليق بحالهم الْعَجز والاشتباه فِيمَا يعود إِلَى مصالحهم
العاجلة فَيعْتَبر فِيهِ الوسع ليتيسر عَلَيْهِم الْوُصُول
إِلَى مقاصدهم وَهَذَا فِي غير أَمر الْقبْلَة ظَاهر
وَكَذَلِكَ فِي أَمر الْقبْلَة فَإِن الأَصْل فِيهِ معرفَة
جِهَات أقاليم الأَرْض وَذَلِكَ من حُقُوق الْعباد
وعَلى الثَّانِي فَلِأَن الأَصْل فِيمَا هُوَ من حُقُوق
الْعباد مَا يكون مستدركا بالحواس وَبِه يثبت علم الْيَقِين
كَمَا ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة أَلا ترى أَن الْكَعْبَة
جِهَتهَا تكون محسوسة فِي حق من عاينها وَبعد الْبعد مِنْهَا
بإعمال الرَّأْي يُمكن تصييرها كالمحسوسة
وَكَذَلِكَ أَمر الْحَرْب فالمقصود صِيَانة النَّفس عَمَّا
يتلفها أَو قهر الْخصم وأصل ذَلِك محسوس وَمَا هُوَ إِلَّا
نَظِير التوقي عَن تنَاول سم الزعاف لعلمه أَنه متْلف والتوقي
عَن الْوُقُوع على السَّيْف
(2/123)
والسكين لعلمه أَنه نَاقض للبنية فَعرفنَا
أَن أصل ذَلِك محسوس فإعمال الرَّأْي فِيهِ للْعَمَل يكون فِي
معنى الْعَمَل بِمَا لَا شُبْهَة فِي أَصله
ثمَّ فِي هَذِه الْمَوَاضِع الضَّرُورَة تتَحَقَّق إِلَى
إِعْمَال الرَّأْي فَإِنَّهُ عِنْد الْإِعْرَاض عَنهُ لَا نجد
طَرِيقا آخر وَهُوَ دَلِيل الْعَمَل بِهِ فلأجل الضَّرُورَة
جَوَّزنَا بِهِ الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ وَهنا الضَّرُورَة
لَا تَدْعُو إِلَى ذَلِك لوُجُود دَلِيل فِي أَحْكَام الشَّرْع
للْعَمَل بِهِ على وَجه يُغْنِيه عَن إِعْمَال الرَّأْي فِيهِ
وَهُوَ اعْتِبَار الأَصْل الَّذِي قَررنَا
وَلَا يدْخل على شَيْء مِمَّا ذكرنَا إِعْمَال الرَّأْي
والتفكر فِي أَحْوَال الْقُرُون الْمَاضِيَة وَمَا لحقهم من
المثلات والكرامات لِأَن ذَلِك من حُقُوق الْعباد فالمقصود أَن
يمتنعوا مِمَّا كَانَ مهْلكا لمن قبلهم حَتَّى لَا يهْلكُوا
أَو أَن يباشروا مَا كَانَ سَببا لاسْتِحْقَاق الْكَرَامَة لمن
قبلهم حَتَّى ينالوا مثل ذَلِك وَهُوَ فِي الأَصْل من حُقُوق
الْعباد بِمَنْزِلَة الْأكل الَّذِي يكْتَسب بِهِ الْمَرْء
سَبَب إبْقَاء نَفسه وإتيان الْإِنَاث فِي مَحل الْحَرْث
بطريقه ليكتسب بِهِ سَبَب إبْقَاء النَّسْل
ثمَّ طَرِيق ذَلِك الِاعْتِبَار بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَاني
اللِّسَان فَإِن أَصله الْخَبَر وَذَلِكَ مِمَّا يعلم بحاسة
السّمع ثمَّ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ يدْرك الْمَقْصُود وَلَيْسَ
ذَلِك من حكم الشَّرِيعَة فِي شَيْء فقد كَانَ الْوُقُوف على
مَعَاني اللُّغَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ بَاقٍ الْيَوْم
بَين الْكَفَرَة الَّذين لَا يعلمُونَ حكم الشَّرِيعَة
وعَلى هَذَا يخرج أَيْضا مَا أَمر بِهِ رَسُول الله عَلَيْهِ
السَّلَام من المشورة مَعَ أَصْحَابه فَإِن المُرَاد أَمر
الْحَرْب وَمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد أَلا ترى أَن
الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
شاورهم فِي ذَلِك وَلم ينْقل أَنه شاورهم قطّ فِي حَقِيقَة مَا
هم عَلَيْهِ وَلَا فِيمَا أَمرهم بِهِ من أَحْكَام الشَّرْع
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
إِذا أتيتكم بِشَيْء من أَمر دينكُمْ فاعملوا بِهِ وَإِذا
أتيتكم بِشَيْء من أَمر دنياكم فَأنْتم أعلم بِأَمْر دنياكم
أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ
وَهَذَا بَيَان شبه الْخُصُوم فِي الْمَسْأَلَة
وَالْحجّة لجمهور الْعلمَاء دَلَائِل الْكتاب وَالسّنة
والمعقول وَهِي كَثِيرَة جدا قد أورد أَكْثَرهَا المتقدمون من
مَشَايِخنَا وَلَكنَّا نذْكر من كل نوع طرفا مِمَّا هُوَ أقوى
فِي الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ
(2/124)
فَمن دَلَائِل الْكتاب قَوْله تَعَالَى
{فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} حُكيَ عَن ثَعْلَب قَالَ
الِاعْتِبَار فِي اللُّغَة هُوَ رد حكم الشَّيْء إِلَى نَظِيره
وَمِنْه يُسمى الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ النَّظَائِر
عِبْرَة وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لعبرة
لأولي الْأَبْصَار} وَالرجل يَقُول اعْتبرت هَذَا الثَّوْب
بِهَذَا الثَّوْب أَي سويته بِهِ فِي التَّقْدِير وَهَذَا هُوَ
حد الْقيَاس فَظهر أَنه مَأْمُور بِهِ بِهَذَا النَّص
وَقيل الِاعْتِبَار التَّبْيِين وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {إِن
كُنْتُم للرؤيا تعبرون} أَي تبينون والتبيين الَّذِي يكون
مُضَافا إِلَيْنَا هُوَ إِعْمَال الرَّأْي فِي معنى
الْمَنْصُوص ليتبين بِهِ الحكم فِي نَظِيره
فَإِن قيل الِاعْتِبَار هُوَ التَّأَمُّل والتفكر فِيمَا أخبر
الله تَعَالَى مِمَّا صنعه بالقرون الْمَاضِيَة
قُلْنَا هَذَا مثله وَلكنه غير مَأْمُور بِهِ لعَينه بل ليعتبر
حَاله بحالهم فيزجروا عَمَّا استوجبوا بِهِ مَا استوجبوا من
الْعقَاب إِذْ الْمَقْصُود من الِاعْتِبَار هُوَ أَن يتعظ
بالعبرة وَمِنْه يُقَال السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ
وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي الْقصاص فَإِن الله تَعَالَى يَقُول
{وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَهُوَ فِي العيان ضد الْحَيَاة
وَلَكِن فِيهِ حَيَاة بطرِيق الِاعْتِبَار فِي شَرعه واستبقائه
أما الْحَيَاة فِي شَرعه وَهُوَ أَن من قصد قتل غَيره فَإِذا
تفكر فِي نَفسه أَنه مَتى قَتله قتل بِهِ انزجر عَن قَتله
فَتكون حَيَاة لَهما والحياة فِي استبقائه أَن الْقَاتِل عمدا
يصير حَربًا لأولياء الْقَتِيل لخوفه على نَفسه مِنْهُم
فَالظَّاهِر أَنه يقْصد قَتلهمْ ويستعين على ذَلِك بأمثاله من
السُّفَهَاء ليزيل الْخَوْف عَن نَفسه فَإِذا استوفى الْوَلِيّ
الْقصاص مِنْهُ انْدفع شَره عَنهُ وَعَن عشيرته فَيكون حَيَاة
لَهُم من هَذَا الْوَجْه لِأَن إحْيَاء الْحَيّ فِي دفع سَبَب
الْهَلَاك عَنهُ قَالَ تَعَالَى {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} وَإِذا تبين هَذَا الْمَعْنى
فَنَقُول لَا فرق بَين حكم هُوَ هَلَاك فِي مَحل بِاعْتِبَار
معنى هُوَ كفر وَبَين حكم هُوَ تَحْرِيم أَو تَحْلِيل فِي مَحل
بِاعْتِبَار معنى هُوَ قدر وجنس فالتنصيص على الْأَمر
بِالِاعْتِبَارِ فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ يكون تنصيصا على
الْأَمر بِهِ فِي الْموضع الآخر
فَإِن قيل الْكفْر فِي كَونه عِلّة لما استوجبوه مَنْصُوص
عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْقَتْل فِي كَونه عِلّة للْقصَاص وَنحن
لَا ننكر هَذَا الِاعْتِبَار فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ منصوصة
(2/125)
فَذَلِك نَحْو مَا رُوِيَ أَن ماعزا رَضِي
الله عَنهُ زنا وَهُوَ مُحصن فرجم فَإنَّا نثبت هَذَا الحكم
بِالزِّنَا بعد الْإِحْصَان فِي حق غير مَاعِز وَإِنَّمَا ننكر
هَذَا فِي عِلّة مستنبطة بِالرَّأْيِ نَحْو الْكَيْل
وَالْجِنْس فَإِنَّكُم تجعلونه عِلّة الرِّبَا فِي الْحِنْطَة
بِالرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ فِي نَص الرِّبَا مَا يُوجب تعْيين
هَذَا الْوَصْف من بَين سَائِر أَوْصَاف الْمحل دلَالَة وَلَا
إِشَارَة
قُلْنَا نَحن لَا نثبت حكم الرِّبَا فِي الْفُرُوع بعلة الْقدر
وَالْجِنْس إِلَّا من الْوَجْه الَّذِي ثَبت حكم الرَّجْم فِي
حق غير مَاعِز بعلة الزِّنَا بعد الْإِحْصَان فَإِن ماعزا
إحْصَانه كَانَ مَوْجُودا قبل الزِّنَا ثمَّ لما ظهر مِنْهُ
الزِّنَا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
إحْصَانه فَلَمَّا ظهر إحْصَانه عِنْده أَمر برجمه فَعرفنَا
يَقِينا أَن عِلّة مَا أَمر بِهِ هُوَ مَا ظهر عِنْده
وَالزِّنَا يصلح أَن يكون عِلّة لذَلِك لِأَن الْمَأْمُور بِهِ
عُقُوبَة وَالزِّنَا جريمة يسْتَوْجب بهَا الْعقُوبَة والإحصان
لَا يصلح أَن يكون عِلّة لِأَنَّهَا خِصَال حميدة وَبهَا
يَسْتَفِيد الْمَرْء كَمَال الْحَال وتتم عَلَيْهِ النِّعْمَة
فَلَا يصلح عِلّة للعقوبة وَلَكِن تتغلظ الْجِنَايَة
بِالزِّنَا بعد وجودهَا لِأَن بِحَسب زِيَادَة النِّعْمَة
يزْدَاد غلظ الجريمة أَلا ترى أَن الله تَعَالَى هدد نسَاء
رَسُوله بِضعْف مَا هدد بِهِ سَائِر النِّسَاء فَقَالَ
تَعَالَى {من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة} الْآيَة وَكَانَ
ذَلِك لزِيَادَة النِّعْمَة عَلَيْهِنَّ وبتغلظ الجريمة تتغلظ
الْعقُوبَة فَيصير رجما بعد أَن كَانَ جلدا فِي حق غير
الْمُحصن فَعرفنَا أَن الْإِحْصَان حَال فِي الزَّانِي يصير
الزِّنَا بِاعْتِبَارِهِ مُوجبا للرجم فَكَانَ شرطا وبمثل
هَذَا الطَّرِيق تثبت عِلّة الرِّبَا فِي مَوضِع النَّص ثمَّ
تعدى الحكم بِهِ إِلَى الْفُرُوع فَإِن النَّص قَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ أَي بيعهَا وَقَوله مثل
بِمثل تَفْسِير على معنى أَنه إِنَّمَا يكون بيعا فِي حَال مَا
يكون مثلا بِمثل (وَالْفضل رَبًّا) أَي حَرَامًا بِسَبَب
الرِّبَا فَيثبت بِالنَّصِّ أَن الْفضل محرم وَقد علمنَا أَنه
لَيْسَ المُرَاد كل فصل فَالْبيع مَا شرع إِلَّا للاستفضال
والاسترباح وَإِنَّمَا المُرَاد الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض
لِأَن البيع الْمَشْرُوع الْمُعَاوضَة فَلَا يجوز أَن يسْتَحق
بِهِ فضلا خَالِيا عَن الْعِوَض ثمَّ خلو الْفضل عَن الْعِوَض
لَا يظْهر يَقِينا بِعَدَد الحبات والحفنات وَلَا يظْهر إِلَّا
بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة قطعا فِي الْوَصْف الَّذِي صَار بِهِ
محلا للْبيع وَهُوَ الْمَالِيَّة وَهَذِه الْمُسَاوَاة
إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَتهَا شرعا وَعرفا وَالشَّرْع
إِنَّمَا أثبت هَذِه الْمُسَاوَاة
(2/126)
بِالْكَيْلِ لَا بالحبات والحفنات
فَإِنَّهُ قَالَ (كَيْلا بكيل) وَكَذَلِكَ فِي عرف التُّجَّار
إِنَّمَا يطْلب الْمُسَاوَاة بَين الْحِنْطَة وَالْحِنْطَة
بِالْكَيْلِ وَعند الْإِتْلَاف يجب ضَمَان الْمثل بِالنَّصِّ
وَيعْتَبر ذَلِك بِالْكَيْلِ فَثَبت بِهَذَا الطَّرِيق أَن
الْعلَّة الْمُوجبَة للْحُرْمَة مَا يكون مؤثرا فِي
الْمُسَاوَاة حَتَّى يظْهر بعده الْفضل الْخَالِي عَن
الْمُقَابلَة فَيكون حَرَامًا بِمَنْزِلَة سَائِر الْأَشْيَاء
الَّتِي لَهَا طول وَعرض إِذا قوبل وَاحِد بآخر وَبَقِي فضل
فِي أحد الْجَانِبَيْنِ يكون خَالِيا عَن الْمُقَابلَة
ثمَّ الْمُسَاوَاة من حَيْثُ الذَّات لَا تعرف إِلَّا
بِالْجِنْسِ وَمن حَيْثُ الْقدر على الْوَجْه الَّذِي هُوَ
مُعْتَبر شرعا وَعرفا
لَا يعرف إِلَّا بِالْكَيْلِ وَهَذِه الْمُسَاوَاة لَا
يتَيَقَّن إِلَّا بعد سُقُوط قيمَة الْجَوْدَة فأسقطنا قيمَة
الْجَوْدَة مِنْهَا عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها بِالنَّصِّ
وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (جيدها ورديئها
سَوَاء) وبدليل شَرْعِي وَهُوَ حُرْمَة الِاعْتِيَاض عَنْهَا
بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ لَو بَاعَ قفيز حِنْطَة جَيِّدَة بقفيز
حِنْطَة رَدِيئَة وَدِرْهَم على أَن يكون الدِّرْهَم
بِمُقَابلَة الْجَوْدَة لَا يجوز وَمَا يكون مَالا مُتَقَوّما
يجوز الِاعْتِيَاض عَنهُ شرعا إِلَّا أَن إِسْقَاط قيمَة
الْجَوْدَة يكون شرطا لَا عِلّة لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لَهَا
فِي إِحْدَاث الْمُسَاوَاة فِي الْمحل وَالْحكم الثَّابِت
بِالنَّصِّ وجوب الْمُسَاوَاة فَكَانَ بِمَنْزِلَة الْإِحْصَان
لإِيجَاب الرَّجْم والمساواة الَّتِي هِيَ الحكم لما كَانَ
يثبت بِالْقدرِ وَالْجِنْس عرفنَا أَن هذَيْن الوصفين هما
الْعلَّة وَقد وجد التَّنْصِيص عَلَيْهَا فِي حَدِيث الرِّبَا
بِمَنْزِلَة الزِّنَا فَإِنَّهُ مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي حَدِيث
مَاعِز وَهُوَ مُؤثر فِي إِيجَاب الحكم فَعرفنَا أَنه عِلّة
فِيهِ ثمَّ بعد مَا ثَبت الْمُسَاوَاة قطعا فِي صفة
الْمَالِيَّة بِاعْتِبَار الْقدر إِذا كَانَ فِي أحد
الْجَانِبَيْنِ فضل فَهُوَ خَال عَن الْعِوَض فَيكون رَبًّا
حَرَامًا لَا يجوز أَن يكون مُسْتَحقّا بِالْبيعِ وَإِذا جعل
مَشْرُوطًا فِي البيع يفْسد بِهِ البيع وَهَذَا فضل ظهر شرعا
وَلَو ظهر شرطا بِأَن بَاعَ من آخر عبدا بِعَبْد على أَن يسلم
إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك ثوبا قد عينه من غير أَن يكون بِمُقَابلَة
الثَّوْب عوض فَإِنَّهُ لَا يجوز ذَلِك البيع فَكَذَلِك إِذا
ثَبت شرعا أَلا ترى أَنه لما ثَبت شرعا اسْتِحْقَاق صفة
السَّلامَة عَن الْعَيْب بِمُطلق البيع فَإِذا فَاتَ ذَلِك
يثبت حق الرَّد بِمَنْزِلَة مَا هُوَ ثَابت شرطا بِأَن
يَشْتَرِي عبدا على
(2/127)
أَنه كَاتب فيجده غير كَاتب وَبِهَذَا تبين
أَن مَا صرنا إِلَيْهِ هُوَ الِاعْتِبَار الْمَأْمُور بِهِ
فَإِنَّهُ تَأمل فِي معنى النُّصُوص لإضافة الحكم إِلَى
الْوَصْف الَّذِي هُوَ مُؤثر فِيهِ بِمَنْزِلَة إِضَافَة
الْهَلَاك إِلَى الْكفْر الَّذِي هُوَ مُؤثر فِيهِ وَالرَّجم
إِلَى الزِّنَا الَّذِي هُوَ مُؤثر فِيهِ وكل عَاقل يعرف أَن
قوام أُمُوره بِمثل هَذَا الرَّأْي فالآدمي مَا سخر غَيره
مِمَّن فِي الأَرْض إِلَّا بِهَذَا الرَّأْي وَمَا ظهر
التَّفَاوُت بَينهم فِي الْأُمُور العاجلة إِلَّا بالتفاوت فِي
هَذَا الرَّأْي فالمنكر لَهُ يكون مُتَعَنتًا
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول
وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه
مِنْهُم} والاستنباط لَيْسَ إِلَّا اسْتِخْرَاج الْمَعْنى من
الْمَنْصُوص بِالرَّأْيِ
وَقيل المُرَاد بأولي الْأَمر أُمَرَاء السَّرَايَا وَقيل
المُرَاد الْعلمَاء وَهُوَ الْأَظْهر فَإِن أُمَرَاء
السَّرَايَا إِنَّمَا يستنبطون بِالرَّأْيِ إِذا كَانُوا
عُلَمَاء واستنباط الْمَعْنى من الْمَنْصُوص بِالرَّأْيِ
إِمَّا أَن يكون مَطْلُوبا لتعدية حكمه إِلَى نَظَائِره وَهُوَ
عين الْقيَاس أَو ليحصل بِهِ طمأنينة الْقلب وطمأنينة الْقلب
إِنَّمَا تحصل بِالْوُقُوفِ على الْمَعْنى الَّذِي لأَجله ثَبت
الحكم فِي الْمَنْصُوص وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى جعل هَذِه
الشَّرِيعَة نورا وشرحا للصدور فَقَالَ {أَفَمَن شرح الله
صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه} وَالْقلب يرى
الْغَائِب بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ كَمَا أَن الْعين ترى
الْحَاضِر بِالنّظرِ إِلَيْهِ أَلا ترى أَن الله تَعَالَى
قَالَ فِي بَيَان حَال من ترك التَّأَمُّل {فَإِنَّهَا لَا
تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي
الصُّدُور} ثمَّ فِي رُؤْيَة الْعين لَا إِشْكَال أَنه يحصل
بِهِ من الطُّمَأْنِينَة فَوق مَا يحصل بالْخبر وَإِلَيْهِ
أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله
لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة وَنحن نعلم أَن الضال عَن الطَّرِيق
(الْعَادِل) يكون ضيق الصَّدْر فَإِذا أخبرهُ مخبر
بِالطَّرِيقِ واعتقد الصدْق فِي خَبره يتَبَيَّن فِي صَدره بعض
الانشراح وَإِنَّمَا يتم انْشِرَاح صَدره إِذا عاين أَعْلَام
الطَّرِيق الْعَادِل فَكَذَلِك فِي رُؤْيَة الْقلب فَإِنَّهُ
إِذا تَأمل فِي الْمَعْنى الْمَنْصُوص حَتَّى وقف عَلَيْهِ يتم
بِهِ انْشِرَاح صَدره وتتحقق طمأنينة قلبه وَذَلِكَ بِالنورِ
الَّذِي جعله الله فِي قلب كل مُسلم فالمنع من هَذَا
التَّأَمُّل وَالْأَمر بِالْوُقُوفِ على مَوَاضِع النَّص من
غير طلب الْمَعْنى فِيهِ يكون بقوله تَعَالَى {لعلمه الَّذين
يستنبطونه مِنْهُم} نوع حجر ورفعا
(2/128)
لتحقيق معنى انْشِرَاح الصَّدْر وطمأنينة
الْقلب الثَّابِت
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وعندكم الْقيَاس لَا يُوجب
الْعلم والمجتهد قد يخطىء وَقد يُصِيب قُلْنَا نعم وَلَكِن
يحصل لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْعلم من طَرِيق الظَّاهِر على
وَجه يطمئن قلبه وَإِن كَانَ لَا يدْرك مَا هُوَ الْحق
بِاجْتِهَادِهِ لَا محَالة فَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى
{فَإِن علمتموهن مؤمنات} فَإِن المُرَاد بِهِ الْعلم من حَيْثُ
الظَّاهِر
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَأكْثر المشروعات بِخِلَاف
الْمَعْهُود الْمُعْتَاد بَين النَّاس قُلْنَا نعم هُوَ
بِخِلَاف الْمَعْهُود الْمُعْتَاد عِنْد اتِّبَاع هوى النَّفس
وإشارتها وَأما إِذا ترك ذَلِك وَرجع إِلَى مَا يَنْبَغِي
للعاقل أَن يرجع إِلَيْهِ فَإِن يكون ذَلِك مُوَافقا لما هُوَ
الْمَعْهُود الْمُعْتَاد عِنْد الْعُقَلَاء فباعتبار هَذَا
التَّأَمُّل يحصل الْبَيَان على وَجه يطمئن الْقلب إِلَيْهِ
فِي الِانْتِهَاء واعتقاد الحقية فِي النُّصُوص فرض حق وَطلب
طمأنينة الْقلب فِيهِ حسن كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن
الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ {قَالَ بلَى وَلَكِن
لِيَطمَئِن قلبِي}
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ
إِلَى الله وَالرَّسُول} فقد بَينا أَن المُرَاد بِهِ الْقيَاس
الصَّحِيح وَالرُّجُوع إِلَيْهِ عِنْد الْمُنَازعَة وَفِيه
بَيَان أَن الرُّجُوع إِلَيْهِ يكون بِأَمْر الله وَأمر
الرَّسُول
وَلَا يجوز أَن يُقَال المُرَاد هُوَ الرُّجُوع إِلَى الْكتاب
وَالسّنة لِأَنَّهُ علق ذَلِك بالمنازعة وَالْأَمر بِالْعَمَلِ
بِالْكتاب وَالسّنة غير مُتَعَلق بِشَرْط الْمُنَازعَة وَلِأَن
الْمُنَازعَة بَين الْمُؤمنِينَ فِي أَحْكَام الشَّرْع قَلما
تقع فِيمَا فِيهِ نَص من كتاب أَو سنة فَعرفنَا أَن المُرَاد
بِهِ الْمُنَازعَة فِيمَا لَيْسَ فِي عينه نَص وَأَن المُرَاد
هُوَ الْأَمر بِالرَّدِّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة بطرِيق
التَّأَمُّل فِيمَا هُوَ مثل ذَلِك الشَّيْء من الْمَنْصُوص
وَإِنَّمَا تعرف هَذِه الْمُمَاثلَة بإعمال الرَّأْي وَطلب
الْمَعْنى فِيهِ
ثمَّ الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَعَن الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من أَن تحصى وَأشهر
من أَن تخفى
(2/129)
فَوجه من ذَلِك مَا علمنَا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق المقايسة على مَا رُوِيَ أَنه
قَالَ لعمر حِين سَأَلَهُ عَن الْقبْلَة فِي حَالَة الصَّوْم
أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ يَضرك وَهَذَا
تَعْلِيم المقايسة فَإِن بالقبلة يفْتَتح طَرِيق اقْتِضَاء
الشَّهْوَة وَلَا يحصل بِعَيْنِه اقْتِضَاء الشَّهْوَة كَمَا
أَن بِإِدْخَال المَاء فِي الْفَم يفْتَتح طَرِيق الشّرْب
وَلَا يحصل بِهِ الشّرْب
وَقَالَ للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت
تقضينه فَقَالَت نعم قَالَ فدين الله أَحَق وَهَذَا تَعْلِيم
المقايسة وَبَيَان بطرِيق إِعْمَال الرَّأْي
وَقَالَ للَّذي سَأَلَهُ عَن قَضَاء رَمَضَان مُتَفَرقًا
أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَيْك دين فَقضيت الدِّرْهَم
وَالدِّرْهَمَيْنِ أَكَانَ يقبل مِنْك قَالَ نعم فَقَالَ الله
أَحَق بالتجاوز وَقَالَ للمستحاضة إِنَّه دم عرق انفجر فتوضئي
لكل صَلَاة فَهَذَا تَعْلِيم للمقايسة بطرِيق أَن النَّجس لما
سَالَ حَتَّى صَار ظَاهرا وَوَجَب غسل ذَلِك الْموضع للتطهير
وَجب تَطْهِير أَعْضَاء الْوضُوء بِهِ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْهِرَّة لَيست بنجسة لِأَنَّهَا
من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات وَهَذَا تَعْلِيم للمقايسة
بِاعْتِبَار الْوَصْف الَّذِي هُوَ مُؤثر فِي الحكم فَإِن
الطوف مُؤثر فِي معنى التَّخْفِيف وَدفع صفة النَّجَاسَة لأجل
عُمُوم الْبلوى والضرورة فَظهر أَنه علمنَا الْقيَاس
وَالْعَمَل بِالرَّأْيِ كَمَا علمنَا أَحْكَام الشَّرْع
وَمَعْلُوم أَنه مَا علمنَا ذَلِك لنعمل بِهِ فِي مُعَارضَة
النُّصُوص فَعرفنَا أَنه علمنَا ذَلِك لنعمل بِهِ فِيمَا لَا
نَص فِيهِ
وَوجه آخر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر أَصْحَابه
بذلك فَإِنَّهُ قَالَ لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ حِين وَجهه
إِلَى الْيمن بِمَ تقضي قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم
تَجِد فِي كتاب الله قَالَ بِسنة رَسُول الله
قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله قَالَ اجْتهد
رَأْيِي
قَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضى بِهِ
رَسُوله وَقَالَ لأبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ حِين وَجهه
إِلَى الْيَمين اقْضِ بِكِتَاب الله فَإِن لم تَجِد فبسنة
رَسُول الله فَإِن لم تَجِد فاجتهد رَأْيك وَقَالَ لعَمْرو بن
الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ اقْضِ بَين هذَيْن قَالَ على مَاذَا
أَقْْضِي فَقَالَ على أَنَّك إِن اجتهدت فَأَصَبْت
(2/130)
فلك عشر حَسَنَات وَإِن أَخْطَأت فلك
حَسَنَة وَاحِدَة فَلَو لم يكن اجْتِهَاد الرَّأْي فِيمَا لَا
نَص فِيهِ مدْركا من مدارك أَحْكَام الشَّرْع لما أَمر بِهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَتِهِ
وَوجه آخر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يشاور أَصْحَابه فِي
أُمُور الْحَرْب تَارَة وَفِي أَحْكَام الشَّرْع تَارَة أَلا
ترى أَنه شاورهم فِي أَمر الْأَذَان والقصة فِيهِ مَعْرُوفَة
وشاورهم فِي مفاداة الْأُسَارَى يَوْم بدر حَتَّى أَشَارَ
أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ
عمر رَضِي الله عَنهُ بِالْقَتْلِ فَاسْتحْسن مَا أَشَارَ بِهِ
كل وَاحِد مِنْهُمَا بِرَأْيهِ حَتَّى شبه أَبَا بكر فِي ذَلِك
بإبراهيم من الْأَنْبِيَاء حَيْثُ قَالَ {وَمن عَصَانِي
فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وبميكائيل من الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ
ينزل بِالرَّحْمَةِ وَشبه عمر بِنوح من الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم السَّلَام حَيْثُ قَالَ {لَا تذر على الأَرْض من
الْكَافرين ديارًا} وبجبريل من الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ ينزل
بِالْعَذَابِ ثمَّ مَال إِلَى رَأْي أبي بكر
فَإِن قيل فَفِي ذَلِك نزل قَوْله {لَوْلَا كتاب من الله سبق
لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم} الْآيَة وَلَو كَانَ مستحسنا لما
عوتبوا عَلَيْهِ
قُلْنَا العتاب مَا كَانَ فِي المشورة بل فِيمَا نَص الله
عَلَيْهِ بقوله {لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم} ثمَّ هَذَا إِنَّمَا
يلْزم من يَقُول إِن كل مُجْتَهد مُصِيب وَنحن لَا نقُول
بِهَذَا وَلَكِن نقُول إِعْمَال الرَّأْي والمشورة مستحسن ثمَّ
الْمُجْتَهد قد يخطىء وَقد يُصِيب كَمَا فِي هَذِه الْحَادِثَة
فقد شاورهما رَسُول الله واجتهد كل وَاحِد مِنْهُم رَأْيه ثمَّ
أصَاب أَحدهمَا دون الآخر وَبِهَذَا تبين أَن قَوْله {وشاورهم
فِي الْأَمر} لَيْسَ فِي الْحَرْب خَاصَّة وَلَكِن يتَنَاوَل
كل مَا يَتَأَتَّى فِيهِ إِعْمَال الرَّأْي وَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر وَعمر رَضِي الله
عَنْهُمَا يَوْمًا وَقد شاورهما فِي شَيْء قولا فَإِنِّي
فِيمَا لم يُوح إِلَيّ مثلكما وَقد تَركهم رَسُول الله على
الْمُشَاورَة بعده فِي أَمر الْخلَافَة حِين لم ينص على أحد
بِعَيْنِه مَعَ علمه أَنه لَا بُد لَهُم من ذَلِك وَلما شاوروا
فِيهِ تكلم كل وَاحِد بِرَأْيهِ إِلَى أَن اسْتَقر الْأَمر على
مَا قَالَه عمر بطرِيق المقايسة والرأي فَإِنَّهُ قَالَ أَلا
ترْضونَ لأمر
(2/131)
دنياكم بِمن رَضِي بِهِ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لأمر دينكُمْ
يَعْنِي الْإِمَامَة للصَّلَاة وَاتَّفَقُوا على رَأْيه وَأمر
الْخلَافَة من أهم مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الشَّرْع
وَقد اتَّفقُوا على جَوَاز الْعَمَل فِيهِ بطرِيق الْقيَاس
وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن كَانَ هَذَا قِيَاسا فَهُوَ
منتقض فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتخْلف
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ليُصَلِّي بِالنَّاسِ وَلم يكن ذَلِك
دَلِيل كَونه خَليفَة بعده وَذَلِكَ لِأَن عمر رَضِي الله
عَنهُ أَشَارَ إِلَى الِاسْتِدْلَال على وَجه لَا يرد هَذَا
النَّقْض وَهُوَ أَنه فِي حَال توفر الصَّحَابَة وَحُضُور
جَمَاعَتهمْ وَوُقُوع الْحَاجة إِلَى الِاسْتِخْلَاف خص أَبَا
بكر بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَعْدَمَا راجعوه فِي ذَلِك
وَسموا لَهُ غَيره كل هَذَا قد صَار مَعْلُوما بِإِشَارَة
كَلَامه وَإِن لم ينص عَلَيْهِ وَلم يُوجد ذَلِك فِي حق عبد
الرَّحْمَن وَلَا فِي حق غَيره
ثمَّ عمر جعل الْأَمر شُورَى بعده بَين سِتَّة نفر فاتفقوا
بِالرَّأْيِ على أَن يجْعَلُوا الْأَمر فِي التَّعْيِين إِلَى
عبد الرَّحْمَن بَعْدَمَا أخرج نَفسه مِنْهَا فَعرض على عَليّ
أَن يعْمل بِرَأْي أَبى بكر وَعمر فَقَالَ أعمل بِكِتَاب الله
وبسنة رَسُول الله ثمَّ أجتهد رَأْيِي وَعرض على عُثْمَان
هَذَا الشَّرْط أَيْضا فَرضِي بِهِ فقلده وَإِنَّمَا كَانَ
ذَلِك مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ علم أَن النَّاس قد
استحسنوا سيرة العمرين فَتبين بِهَذَا أَن الْعَمَل
بِالرَّأْيِ كَانَ مَشْهُورا مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين
الصَّحَابَة ثمَّ محاجتهم بِالرَّأْيِ فِي الْمسَائِل لَا تخفى
على أحد فَإِنَّهُم تكلمُوا فِي مَسْأَلَة الْجد مَعَ
الْإِخْوَة وَشبهه بَعضهم بواد يتشعب مِنْهُ نهر وَبَعْضهمْ
بشجرة تنْبت غصنا وَقد بَينا ذَلِك فِي فروع الْفِقْه
وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْعَوْل وَفِي التَّشْرِيك فَقَالَ
كل وَاحِد مِنْهُم فِيهِ بِالرَّأْيِ وبالرأي اعْترضُوا على
قَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي عدم التَّشْرِيك حِين قَالُوا
هَب أَن أَبَانَا كَانَ حمارا حَتَّى رَجَعَ عمر إِلَى
التَّشْرِيك فَعرفنَا أَنهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على جَوَاز
الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَكفى بإجماعهم
حجَّة
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد قَالَ أَبُو بكر رَضِي
الله عَنهُ أَي سَمَاء تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني إِذا قلت
فِي كتاب الله تَعَالَى برأيي
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ
لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وأرأيت
(2/132)
وأرأيت
قُلْنَا أما القَوْل بِالرَّأْيِ عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ
فَهُوَ أشهر من أَن يُمكن إِنْكَاره لِأَنَّهُ قَالَ فِي
الْكَلَالَة أَقُول قولا برأيي فَإِن يَك صَوَابا فَمن الله
وَإِن يَك خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان
وَمَا رووا عَنهُ قد اخْتلفت فِيهِ الرِّوَايَة فَقَالَ فِي
بَعْضهَا إِذا قلت فِي كتاب الله تَعَالَى بِخِلَاف مَا
أَرَادَ الله
وَلَئِن ثَبت مَا رووا فَإِنَّمَا استبعد قَوْله بِالرَّأْيِ
فِيمَا فِيهِ نَص بِخِلَاف النَّص وَهَذَا لَا يجوز مِنْهُ
وَلَا من غَيره وَلَا يظنّ بِهِ
وَأما عمر رَضِي الله عَنهُ فَالْقَوْل عَنهُ بِالرَّأْيِ أشهر
من الشَّمْس وَبِه يتَبَيَّن أَن مُرَاده بذم الرَّأْي عِنْد
مُخَالفَة النَّص أَو الْإِعْرَاض عَن النَّص فِيمَا فِيهِ نَص
والاشتغال بِالرَّأْيِ الَّذِي فِيهِ مُوَافقَة هوى النَّفس
وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله أعيتهم السّنة أَن يحفظوها
وَالْقَوْل بِالرَّأْيِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَشْهُور
فَإِنَّهُ قَالَ اجْتمع رَأْيِي ورأي عمر على حُرْمَة بيع
أُمَّهَات الْأَوْلَاد ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن مُرَاده بقوله لَو كَانَ الدّين
بِالرَّأْيِ أصل مَوْضُوع الشَّرْع وَبِه نقُول فَإِن أصل
أَحْكَام الشَّرْع غير مَبْنِيّ على الرَّأْي وَلِهَذَا لَا
يجوز إِثْبَات الحكم بِهِ ابْتِدَاء
وَقد اشْتهر القَوْل بِالرَّأْيِ عَن ابْن مَسْعُود حَيْثُ
قَالَ فِي المفوضة أجتهد رَأْيِي
فَعرفنَا أَن مُرَاده ذمّ السُّؤَال على وَجه التعنت بَعْدَمَا
يتَبَيَّن الْحق أَو التَّكَلُّف فِيمَا لَا يحْتَاج الْمَرْء
إِلَيْهِ وَهُوَ نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ذروني مَا
تركتكم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ
وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ والْآثَار الَّتِي ذكرهَا
مُحَمَّد فِي أول أدب القَاضِي كلهَا دَلِيل على أَنهم
(كَانُوا) مُجْمِعِينَ على الْعَمَل بِالرَّأْيِ فَإِنَّهُ
بَدَأَ بِحَدِيث عمر حِين كتب إِلَى أبي مُوسَى اعرف
الْأَمْثَال والأشباه وَقس الْأُمُور عِنْد ذَلِك
وَذكر عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لقد
أَتَى علينا زمَان لسنا نسْأَل ولسنا هُنَالك
الحَدِيث
فاتضح بِمَا ذكرنَا اتِّفَاقهم على الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي
أَحْكَام الشَّرْع
فَأَما من طعن فِي السّلف من نفاة الْقيَاس لاحتجاجهم
بِالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَام فَكَلَامه كَمَا قَالَ الله
تَعَالَى {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم إِن يَقُولُونَ
إِلَّا كذبا}
(2/133)
لِأَن الله تَعَالَى أثنى عَلَيْهِم فِي
غير مَوضِع من كِتَابه كَمَا قَالَ تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول
الله وَالَّذين مَعَه} الْآيَة وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَصفهم بِأَنَّهُم خير النَّاس فَقَالَ خير
النَّاس قَرْني الَّذين أَنا فيهم والشريعة إِنَّمَا بلغتنا
بنقلهم فَمن طعن فيهم فَهُوَ ملحد منابذ لِلْإِسْلَامِ دواؤه
السَّيْف إِن لم يتب
وَمن قَالَ مِنْهُم إِن القَوْل بِالرَّأْيِ كَانَ من
الصَّحَابَة على طَرِيق التَّوَسُّط وَالصُّلْح دون إِلْزَام
الحكم فَهُوَ مكابر جَاحد لما هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة لِأَن
الَّذين نقلوا إِلَيْنَا مَا احْتَجُّوا بِهِ من الرَّأْي فِي
الْأَحْكَام قوم عالمون عارفون بِالْفرقِ بَين الْقَضَاء
وَالصُّلْح فَلَا يظنّ بهم أَنهم أطْلقُوا لفظ الْقَضَاء
فِيمَا كَانَ طَرِيقه طَرِيق الصُّلْح بِأَن لم يعرفوا الْفرق
بَينهمَا أَو قصدُوا التلبيس وَلَا يُنكر أَنه كَانَ فِي ذَلِك
مَا هُوَ بطرِيق الصُّلْح كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود حِين
تحاكم إِلَيْهِ الْأَعرَابِي مَعَ عُثْمَان أرى أَن يَأْتِي
هَذَا واديه فيعطي بِهِ ثمَّ إبِلا مثل إبِله وفصلانا مثل
فصلانه
فَرضِي بذلك عُثْمَان
وَفِي قَوْله فَرضِي بِهِ بَيَان أَن هَذَا كَانَ بطرِيق
الصُّلْح فَعرفنَا أَن فِيمَا لم يذكر مثل هَذَا اللَّفْظ أَو
ذكر لفظ الْقَضَاء وَالْحكم فَالْمُرَاد بِهِ الْإِلْزَام وَقد
كَانَ بعض ذَلِك على سَبِيل الْفَتْوَى والمفتي فِي زَمَاننَا
يبين الحكم للمستفتي وَلَا يَدعُوهُ إِلَى الصُّلْح إِلَّا
نَادرا فَكَذَلِك فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد كَانَ بعض ذَلِك
بَيَانا فِيمَا لم يكن فِيهِ خُصُومَة أَولا تجْرِي فِيهِ
الْخُصُومَة كالعبادات وَالطَّلَاق وَالْعتاق نَحْو
اخْتلَافهمْ فِي أَلْفَاظ الْكِنَايَات وَاعْتِبَار عدد
الطَّلَاق بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَمَا أشبه ذَلِك فَعرفنَا
أَن قَول من قَالَ لم يكن ذَلِك مِنْهُم إِلَّا بطرِيق
الصُّلْح والتوسط مُنكر من القَوْل وزور
وَمِنْهُم من قَالَ كَانُوا مخصوصين بِجَوَاز الْعَمَل
وَالْفَتْوَى بِالرَّأْيِ كَرَامَة لَهُم كَمَا كَانَ رَسُول
الله مَخْصُوصًا بِأَن قَوْله مُوجب للْعلم قطعا أَلا ترى أَنه
قد ظهر مِنْهُم الْعَمَل فِيمَا فِيهِ نَص بِخِلَاف النَّص
بِالرَّأْيِ وبالاتفاق ذَلِك غير جَائِز لأحد بعدهمْ فَعرفنَا
أَنهم كَانُوا مخصوصين بذلك
وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خرج لصلح بَين الْأَنْصَار فَأذن بِلَال
وَأقَام فَتقدم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ للصَّلَاة فجَاء
رَسُول الله وَهُوَ فِي الصَّلَاة الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ
(2/134)
فَأَشَارَ على أبي بكر أَن أثبت فِي
مَكَانك وَرفع أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَدَيْهِ وَحمد الله
ثمَّ اسْتَأْخَرَ وَتقدم رَسُول الله وَكَانَت سنة الْإِمَامَة
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْلُوما بِالنَّصِّ
ثمَّ تقدم أَبُو بكر بِالرَّأْيِ وَقد أمره أَن يثبت فِي
مَكَانَهُ نصا ثمَّ اسْتَأْخَرَ بِالرَّأْيِ
وَلما أَرَادَ رَسُول الله أَن يتَقَدَّم للصَّلَاة على ابْن
أبي الْمُنَافِق جذب عمر رَضِي الله عَنهُ رِدَاءَهُ وَفِي
رِوَايَة استقبله وَجعل يمنعهُ من الصَّلَاة عَلَيْهِ
وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ بِالرَّأْيِ ثمَّ
نزل الْقُرْآن على مُوَافقَة رَأْيه يَعْنِي قَوْله تَعَالَى
{وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} وَلما أَرَادَ عَليّ
أَن يكْتب كتاب الصُّلْح عَام الْحُدَيْبِيَة كتب هَذَا مَا
صَالح مُحَمَّد رَسُول الله وَسُهيْل بن عَمْرو على أهل مَكَّة
قَالَ سُهَيْل لَو عرفناك رَسُولا مَا حاربناك اكْتُبْ
مُحَمَّد بن عبد الله فَأمر رَسُول الله عليا أَن يمحو رَسُول
الله فَأبى عَليّ رَضِي الله عَنهُ ذَلِك حَتَّى أمره أَن
يرِيه مَوْضِعه فمحاه رَسُول الله بِيَدِهِ وَكَانَ هَذَا
الإباء من عَليّ بِالرَّأْيِ فِي مُقَابلَة النَّص
وَقد كَانَ الحكم للمسبوق أَن يبْدَأ بِقَضَاء مَا سبق بِهِ
ثمَّ يُتَابع الإِمَام حَتَّى جَاءَ معَاذ يَوْمًا وَقد سبقه
رَسُول الله بِبَعْض الصَّلَاة فتابعه فِيمَا بَقِي ثمَّ قضى
مَا فَاتَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله مَا حملك على مَا صنعت
قَالَ وَجَدْتُك على شَيْء فَكرِهت أَن أخالفك عَلَيْهِ
فَقَالَ سنّ لكم معَاذ سنة حَسَنَة فاستنوا بهَا وَكَانَ هَذَا
مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ فِي مَوضِع النَّص ثمَّ استصوبه
رَسُول الله فِي ذَلِك
وَأَبُو ذَر حِين بَعثه رَسُول الله مَعَ إبل الصَّدَقَة إِلَى
الْبَادِيَة أَصَابَته جَنَابَة فصلى صلوَات بِغَيْر طَهَارَة
إِلَى أَن جَاءَ إِلَى رَسُول الله الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ
لَهُ التُّرَاب كافيك وَلَو إِلَى عشر حجج مَا لم تَجِد المَاء
وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ فِي مَوضِع النَّص
وَكَذَلِكَ عَمْرو بن الْعَاصِ أَصَابَته جَنَابَة فِي لَيْلَة
بَارِدَة فَتَيَمم وَأم أَصْحَابه مَعَ وجود المَاء وَكَانَ
ذَلِك مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ فِي مَوضِع النَّص ثمَّ لم
يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك
فَعرفنَا أَنهم كَانُوا مخصوصين بذلك
وَكَذَلِكَ ظهر مِنْهُم الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا
يعرف بِالرَّأْيِ من الْمَقَادِير نَحْو حد الشّرْب كَمَا
قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ ثَبت بآرائنا
وَلَا وَجه لذَلِك إِلَى الْحمل على معنى الخصوصية
لَا بَيَان الْكَرَامَة لَهُم لِأَن كرامتهم إِنَّمَا تكون
بِطَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله فالسعي لإِظْهَار مُخَالفَة
مِنْهُم فِي أَمر الله وَأمر الرَّسُول يكون طَعنا فيهم
وَمَعْلُوم أَن رَسُول الله مَا وَصفهم بِأَنَّهُم خير النَّاس
إِلَّا بعد علمه بِأَنَّهُم أطوع النَّاس لَهُ وَأظْهر النَّاس
انقيادا لأَمره وتعظيما لأحكام الشَّرْع وَلَو جَازَ إِثْبَات
مُخَالفَة الْأَمر بِالرَّأْيِ لَهُم بطرِيق الْكَرَامَة
والاختصاص بِنَاء على الْخَيْرِيَّة الَّتِي وَصفهم بهَا
رَسُول الله لجَاز مثل ذَلِك لمن بعدهمْ بِنَاء على مَا وَصفهم
الله بِهِ بقوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس}
(2/135)
وَالْجَوَاب أَن نقُول هَذَا الْكَلَام
عِنْد التَّأَمُّل فِيهِ من جنس الطعْن عَلَيْهِم الْآيَة
وَلَو جَازَ ذَلِك فِي فتاويهم لجَاز فِيمَا نقلوا إِلَيْنَا
من أَحْكَام الشَّرْع فَتبين أَن هَذَا من جنس الطعْن وَأَنه
لَا بُد من طلب التَّأْوِيل فِيمَا كَانَ مِنْهُم فِي صُورَة
الْخلاف ظَاهرا بِمَا هُوَ تَعْظِيم وموافقة فِي الْحَقِيقَة
وَوجه ذَلِك بطرِيق الْفِقْه أَن نقُول قد كَانَ من الْأُمُور
مَا فِيهِ احْتِمَال معنى الرُّخْصَة وَالْإِكْرَام أَو معنى
الْعَزِيمَة والإلزام ففهموا أَن مَا اقْترن بِهِ من دلَالَة
الْحَال أَو غَيره مِمَّا يتَبَيَّن بِهِ أحد المحتملين ثمَّ
رَأَوْا التَّمَسُّك بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة أولى لَهُم من
التَّرَخُّص بِالرُّخْصَةِ وَهَذَا أصل فِي أَحْكَام الشَّرْع
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث الصّديق فَإِن إِشَارَة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِأَن يثبت فِي مَكَانَهُ كَانَ
مُحْتملا معنى الْإِكْرَام لَهُ وَمعنى الْإِلْزَام وَعلم
بِدلَالَة الْحَال أَنه على سَبِيل التَّرَخُّص وَالْإِكْرَام
لَهُ فَحَمدَ الله تَعَالَى على ذَلِك ثمَّ تَأَخّر تمسكا
بالعزيمة الثَّابِتَة بقوله تَعَالَى {لَا تقدمُوا بَين يَدي
الله وَرَسُوله} وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله مَا كَانَ لِابْنِ
أبي قُحَافَة أَن يتَقَدَّم بَين يَدي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
وَكَذَلِكَ كَانَ تقدمه للْإِمَامَة قبل أَن يحضر رَسُول الله
فَإِن التَّأْخِير إِلَى أَن يحضر كَانَ رخصَة ومراعاة حق الله
فِي أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت الْمَعْهُود كَانَ عَزِيمَة
فَإِنَّمَا قصد التَّمَسُّك بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة لعلمه أَن
رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يستحسن ذَلِك مِنْهُ
فَعرفنَا أَنه مَا قصد إِلَّا تَعْظِيم أَمر الله وتعظيم
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَاشرهُ
(2/136)
بِالرَّأْيِ
وَكَذَلِكَ فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بالامتناع من الصَّلَاة
على من شهد الله بِكُفْرِهِ وَهُوَ الْعَزِيمَة لِأَن
الصَّلَاة على الْمَيِّت الْمُسلم يكون إِكْرَاما لَهُ
وَذَلِكَ لَا يشك فِيهِ إِذا كَانَ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن التَّقَدُّم
للصَّلَاة عَلَيْهِ كَانَ بطرِيق حسن الْعشْرَة ومراعاة قُلُوب
الْمُؤمنِينَ من قراباته فجذب عمر رِدَاءَهُ تمسكا بِمَا هُوَ
الْعَزِيمَة وتعظيما لرَسُول الله لَا قصدا مِنْهُ إِلَى
مُخَالفَته
وَكَذَلِكَ حَدِيث عَليّ فَإِنَّهُ أَبى أَن يمحو ذَلِك
تَعْظِيمًا لرَسُول الله وَهُوَ الْعَزِيمَة وَقد علم أَن
رَسُول الله مَا قصد بِمَا أَمر بِهِ إِلَّا تتميم الصُّلْح
لما رأى فِيهِ من الْحَظ للْمُسلمين بفراغ قُلُوبهم وَلَو علم
عَليّ أَن ذَلِك كَانَ أمرا بطرِيق الْإِلْزَام لمحاه من
سَاعَته أَلا ترى أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّك ستبعثني فِي أَمر أفأكون فِيهِ كالسكة المحماة أم
الشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب فَقَالَ بل الشَّاهِد يرى
مَا لَا يرى الْغَائِب فَبِهَذَا تبين أَنه عرف بِأَن ذَلِك
الْأَمر مِنْهُ لم يكن إلزاما وَرَأى إِظْهَار الصلابة فِي
الدّين بِمحضر من الْمُشْركين عَزِيمَة فتمسك بِهِ ثمَّ
الرَّغْبَة فِي الصُّلْح مَنْدُوب إِلَيْهِ الإِمَام بِشَرْط
أَن يكون فِيهِ مَنْفَعَة للْمُسلمين وَتَمام هَذِه
الْمَنْفَعَة فِي أَن يظْهر الإِمَام الْمُسَامحَة والمساهلة
مَعَهم فِيمَا يطْلبُونَ وَيظْهر الْمُسلمُونَ الْقُوَّة
والشدة فِي ذَلِك ليعلم الْعَدو أَنهم لَا يرغبون فِي الصُّلْح
لضعفهم فلأجل هَذَا فعل عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا فعله
وَكَأَنَّهُ تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تهنوا وَلَا
تحزنوا} وَكَذَلِكَ حَدِيث معَاذ رَضِي الله عَنهُ فَإِن
السّنة الَّتِي كَانَت فِي حق الْمَسْبُوق من الْبِدَايَة
بِمَا فَاتَهُ فِيهَا احْتِمَال معنى الرُّخْصَة ليَكُون
الْأَدَاء عَلَيْهِ أيسر فَوقف معَاذ على ذَلِك وَعرف أَن
الْعَزِيمَة مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
واعتقاد الْغَنِيمَة فِيمَا أدْركهُ مَعَه فاشتغل بإحراز ذَلِك
أَولا تمسكا بالعزيمة لَا مُخَالفَة للنَّص
وَكَذَلِكَ حَدِيث أبي ذَر إِن صَحَّ أَنه أدّى صلَاته فِي
تِلْكَ الْحَالة بِغَيْر طَهَارَة فَإِن فِي حكم التَّيَمُّم
للْجنب بعض الِاشْتِبَاه فِي النَّص بِاعْتِبَار
الْقِرَاءَتَيْن {أَو لامستم}
(2/137)
{أَو لامستم النِّسَاء} فَلَعَلَّهُ كَانَ
عِنْده أَن المُرَاد الْمس بالي وَأَنه لَا يجوز التَّيَمُّم
للْجنب كَمَا هُوَ مَذْهَب عمر وَابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنْهُمَا ثمَّ رأى أَن بِسَبَب الْعَجز يسْقط عَنهُ فرض
الطَّهَارَة فِي الْوَقْت وَأَن أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت
عَزِيمَة فاشتغل بِالْأَدَاءِ تَعْظِيمًا لأمر الله وتمسكا
بالعزيمة
وَكَذَلِكَ حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ فَإِنَّهُ رأى أَن فرض
الِاغْتِسَال سَاقِط عَنهُ لما يلْحقهُ من الْحَرج بِسَبَب
الْبرد أَو لخوفه الْهَلَاك على نَفسه وَقد ثَبت بِالنَّصِّ
أَن التَّيَمُّم مَشْرُوع لدفع الْحَرج فَعرفنَا أَنه لَيْسَ
فِي شَيْء من هَذِه الْآثَار معنى يُوهم مُخَالفَة النَّص من
أحد مِنْهُم وَأَنَّهُمْ فِي تَعْظِيم رَسُول الله كَمَا
وَصفهم الله بِهِ
وَأما حد الشّرْب فَإِنَّمَا أثبتوه اسْتِدْلَالا بِحَدّ
الْقَذْف على مَا رُوِيَ أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ
لعمر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذا شرب هذي وَإِذا هذي افترى
وحد المفترين فِي كتاب الله ثَمَانُون جلدَة
ثمَّ الحكم الثَّابِت بِالْإِجْمَاع لَا يكون محالا بِهِ على
الرَّأْي وَقد بَينا أَن الْإِجْمَاع يُوجب علم الْيَقِين
والرأي لَا يُوجب ذَلِك ثمَّ هَذَا دَعْوَى الخصوصية من غير
دَلِيل وَمن لَا يرى إِثْبَات شَيْء بِالْقِيَاسِ فَكيف يرى
إِثْبَات مُجَرّد الدَّعْوَى من غير دَلِيل وَالْكتاب يشْهد
بِخِلَاف ذَلِك فَالنَّاس فِي تَكْلِيف الِاعْتِبَار
الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي
الْأَبْصَار} سَوَاء وهم كَانُوا أَحَق بِهَذَا الْوَصْف
وَهَذَا أقوى مَا نعتمده من الدَّلِيل الْمَعْقُول فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُ لَا فرق بَين التَّأَمُّل فِي إشارات
النّصْف فِيمَا أخبر الله بِهِ عَن الَّذين لحقهم المثلات
بِسَبَب كفرهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أخرج
الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} الْآيَة لنعتبر بذلك وننزجر
عَن مثل ذَلِك السَّبَب وَبَين التَّأَمُّل فِي إشارات النَّص
فِي حَدِيث الرِّبَا ليعرف بِهِ أَن الْمحرم هُوَ الْفضل
الْخَالِي عَن الْعِوَض فَثَبت ذَلِك الحكم بِعَيْنِه فِي كل
مَحل يتَحَقَّق فِيهِ الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض
مَشْرُوطًا فِي البيع كالأرز والسمسم والجص وَمَا أشبه ذَلِك
وَقد قَررنَا هَذَا يُوضحهُ أَن التَّأَمُّل فِي معنى النَّص
الثَّابِت بِإِشَارَة ثمَّ التَّأَمُّل فِي ذَلِك للوقوف على
طَرِيق الِاسْتِعَارَة حَتَّى يَجْعَل ذَلِك اللَّفْظ مستعارا
فِي مَحل آخر بطريقه جَائِز مُسْتَقِيم من عمل الراسخين فِي
الْعلم فَكَذَلِك التَّأَمُّل فِي مَعَاني النَّص لإِثْبَات
حكم النَّص فِي كل مَوضِع علم أَنه مثل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
وَهَذَا لنوعين من الْكَلَام أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى نَص
على أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء بقوله تَعَالَى {ونزلنا
عَلَيْك الْكتاب تبيانا} صَاحب الشَّرْع بِمَنْزِلَة
التَّأَمُّل فِي معنى اللِّسَان
(2/138)
الثَّابِت بِوَضْع وَاضع اللُّغَة {لكل
شَيْء} وَلَا يتَمَكَّن أحد من أَن يَقُول كل شَيْء فِي
الْقُرْآن باسمه الْمَوْضُوع لَهُ فِي اللُّغَة فَعرفنَا أَنه
تبيان لكل شَيْء بِمَعْنَاهُ الَّذِي يسْتَدرك بِهِ حكمه وَمَا
ثَبت بِالنَّصِّ فإمَّا أَن يُقَال هُوَ ثَابت بِصُورَة النَّص
لَا غير أَو بِالْمَعْنَى الَّذِي صَار مَعْلُوما بِإِشَارَة
النَّص وَالْأول بَاطِل فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فَلَا تقل
لَهما أُفٍّ} ثمَّ أحد لَا يَقُول إِن هَذَا نهي عَن صُورَة
التأفيف دون الشتم وَالضَّرْب
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يظْلمُونَ نقيرا} وَقَوله
تَعَالَى {من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن
تأمنه بِدِينَار} فَعرفنَا أَن ثُبُوت الحكم بِاعْتِبَار
الْمَعْنى الَّذِي وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي النَّص
ثمَّ ذَلِك الْمَعْنى نَوْعَانِ جلي وخفي وَيُوقف على
الْجَلِيّ بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَلَا يُوقف على الْخَفي
إِلَّا بِزِيَادَة التَّأَمُّل وَهُوَ المُرَاد بقوله
{فاعتبروا} وَبَعْدَمَا ثَبت لُزُوم اعْتِبَار ذَلِك الْمَعْنى
بِالنَّصِّ وَإِثْبَات الحكم فِي كل مَحل قد وجد فِيهِ ذَلِك
الْمَعْنى يكون إِثْبَاتًا بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ وَإِن
لم يكن صِيغَة النَّص متناولا إِلَّا ترى أَن الحكم بِالرَّجمِ
على مَاعِز لم يكن حكما على غَيره بِاعْتِبَار صورته وَلَكِن
بِاعْتِبَار الْمَعْنى الَّذِي لأَجله توجه الحكم عَلَيْهِ
بِالرَّجمِ كَانَ ذَلِك بَيَانا فِي حق سَائِر الْأَشْخَاص
بِالنَّصِّ
وَالثَّانِي أَنه مَا من حَادِثَة إِلَّا وفيهَا حكم لله
تَعَالَى من تَحْلِيل أَو تَحْرِيم أَو إِيجَاب أَو إِسْقَاط
وَمَعْلُوم أَن كل حَادِثَة لَا يُوجد فِيهَا نَص فالنصوص
مَعْدُودَة متناهية وَلَا نِهَايَة لما يَقع من الْحَوَادِث
إِلَى قيام السَّاعَة وَفِي تَسْمِيَته حَادِثَة إِشَارَة
إِلَى أَنه لَا نَص فِيهَا فَإِن مَا فِيهِ النَّص يكون أصلا
معهودا
وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة مَا اشتغلوا باعتماد نَص فِي كل
حَادِثَة (طلبا أَو رِوَايَة فَعرفنَا أَنه لَا يُوجد نَص فِي
كل حَادِثَة)
(2/139)
وَقد لزمنا معرفَة حكم الْحَادِثَة
بِالْحجَّةِ بِحَسب الوسع فإمَّا أَن يكون الْحجَّة استنباط
الْمَعْنى من النُّصُوص أَو اسْتِصْحَاب الْحَال كَمَا قَالُوا
وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ فِي اسْتِصْحَاب الْحَال إِلَّا عمل
بِلَا دَلِيل وَلَا دَلِيل جهل وَالْجهل لَا يصلح أَن يكون
حجَّة بِاعْتِبَار الأَصْل وَهُوَ أَيْضا مِمَّا لَا يُوقف
عَلَيْهِ فَمن الْمُحْتَمل أَن لَا يكون عِنْد بعض النَّاس
فِيهِ دَلِيل وَيكون عِنْد بَعضهم وَالْقِيَاس من الْوَجْه
الَّذِي قَررنَا حجَّة وَإِن كَانَ لَا يُوجب علم الْيَقِين
أَلا ترى أَن الشَّرْع جوز لنا الْإِقْدَام على الْمُبَاحَات
لقصد تَحْصِيل الْمَنْفَعَة يَعْنِي المسافرة للتِّجَارَة
والمحاربة لِلْعَدو وَالْغَلَبَة على الْأَعْدَاء بغالب
الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي أَمر الْقبْلَة والاشتغال
بالمعالجة لتَحْصِيل صفة الْبُرْء وكل ذَلِك إقدام من غير
بِنَاء على مَا يُوجب علم الْيَقِين ثمَّ هُوَ حسن فِي بعض
الْمَوَاضِع وَاجِب فِي بعض الْمَوَاضِع
وَكَذَلِكَ تَقْوِيم الْمُتْلفَات واعتقاد الْمَعْرُوف فِي
النَّفَقَات والمتعة فَإِن ذَلِك مَنْصُوص عَلَيْهِ ثمَّ
الْإِقْدَام عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ جَائِز فَكَانَ ذَلِك عملا
بِالْحجَّةِ فَتبين أَن الْقيَاس من نوع الْعَمَل بِمَا هُوَ
حجَّة فِي الأَصْل وَلكنه دون الثَّابِت من الحكم بِالنَّصِّ
فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا فِي وضع لَا يُوجد فِيهِ نظر
فَأَما اسْتِصْحَاب الْحَال فَهُوَ عمل بِالْجَهْلِ فَلَا يجوز
الْمصير إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة الْمَحْضَة
بِمَنْزِلَة تنَاول الْميتَة
وسنقرر هَذَا فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فبهم التَّقْرِير يتَبَيَّن أَن نفاة الْقيَاس يتمسكون
بِالْجَهْلِ وَأَن فُقَهَاء الْأَمْصَار يعلمُونَ بِمَا هُوَ
الْحق وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال
وَأما استدلالهم بقوله تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ} قُلْنَا نَحن
نقُول بِأَن مَا أنزل من الْكتاب كَذَلِك وَلَكِن الِاحْتِجَاج
بِالْقِيَاسِ مِمَّا أنزل فِي الْكتاب إِشَارَة وَإِن كَانَ
لَا يُوجد فِيهِ نصا فَإِنَّهُ الِاعْتِبَار الْمَأْمُور بِهِ
من قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا} وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الحكم
بِهِ حكم بِمَا أنزل الله فيضعف بِهِ استدلالهم بقوله تَعَالَى
{وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله} وَبِه يتَبَيَّن أَنه من جملَة
مَا تنَاوله قَوْله تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء} وَقَوله
تَعَالَى {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} وَقد
قيل المُرَاد بِالْكتاب هُنَا اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَبِهَذَا
يتَبَيَّن أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ
(2/140)
لَا يكون تقدما بَين يَدي الله وَرَسُوله
بل هُوَ ائتمار بِأَمْر الله وَأمر رَسُوله وسلوك طَرِيق قد
علم رَسُول الله أمته بِالْوُقُوفِ بِهِ على أَحْكَام الشَّرْع
وَهَذَا لأَنا إِنَّمَا نثبت الحكم فِي الْفُرُوع بِالْعِلَّةِ
المؤثرة وَالْعلَّة مَا صَارَت مُؤثرَة بآرائنا بل بِجعْل الله
إِيَّاهَا مُؤثرَة وَإِنَّمَا إِعْمَال الرَّأْي فِي تَمْيِيز
الْوَصْف الْمُؤثر من سَائِر أَوْصَاف الأَصْل وَإِظْهَار
التَّأْثِير فِيهِ فَلَا يكون الْعَمَل فِيهِ عملا بِالرَّأْيِ
إِنَّمَا التَّقَدُّم بَين يَدي الله وَرَسُوله فِيمَا ذهب
إِلَيْهِ الْخصم من القَوْل بِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ
بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجد ذَلِك فِي كتاب الله نصا وَهُوَ لَا
يجوز الاستنباط ليقف بِهِ على إِشَارَة النَّص فَيكون ذَلِك
قولا بِغَيْر حجَّة ثمَّ يكون عَاملا فِي الْأَحْكَام بِلَا
دَلِيل وَقد بَينا أَن هَذَا لَا يصلح أَن يكون حجَّة
أَصْلِيَّة
وَأما قَوْله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فالمذكور
هُوَ علم مُنكر فِي مَوضِع النَّفْي والنكرة فِي مَوضِع
النَّفْي تعم فاستعمال الرَّأْي يثبت نوع علم من طَرِيق
الظَّاهِر وَإِن كَانَ لَا يثبت علم الْيَقِين وبالاتفاق علم
الْيَقِين لَيْسَ بِشَرْط لوُجُوب الْعَمَل وَلَا لجوازه فَإِن
الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَاجِب وَلَا يثبت بِهِ علم
الْيَقِين وَالْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي الْحَرْب جَائِز وَفِي
بَاب الْقبْلَة عِنْد الِاشْتِبَاه وَاجِب وَفِي المعالجة
بالأدوية جَائِز وَإِن كَانَ شَيْء من ذَلِك لَا يُوجب علم
الْيَقِين وَهَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِحَسب الوسع وَلَيْسَ
فِي وسعنا تَحْصِيل علم الْيَقِين فِي حكم كل حَادِثَة والحرج
مَدْفُوع فَفِي إِثْبَات الْحجر عَن إِعْمَال الرَّأْي فِي
الْحَوَادِث الَّتِي لَا نَص فِيهَا من الْحَرج مَا لَا يخفى
ثمَّ لَا إِشْكَال أَن مَا يثبت من الْعلم بطرِيق الْقيَاس
فَوق مَا يثبت باستصحاب الْحَال لِأَن اسْتِصْحَاب الْحَال
إِنَّمَا يكون دَلِيلا عِنْدهم لعدم الدَّلِيل المغير وَذَلِكَ
مِمَّا لَا يعلم يَقِينا قد يجوز أَن يكون الدَّلِيل المغير
ثَابتا وَإِن لم يبلغ الْمُبْتَلى بِهِ وَلِهَذَا لَا تقبل
الْبَيِّنَة على النَّفْي فِي بَاب الْخُصُومَات وَتقبل على
الْإِثْبَات بِاعْتِبَار طَرِيق لَا يُوجب علم الْيَقِين فَإِن
الشَّهَادَة بِالْملكِ لظَاهِر الْيَد أَو الْيَد مَعَ
التَّصَرُّف تكون مَقْبُولَة وَإِن كَانَت لَا توجب علم
الْيَقِين
فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا
الْحق} قُلْنَا مَا يظْهر عِنْد اسْتِعْمَال الرَّأْي
بِالْوَصْفِ الْمُؤثر حق فِي حَقنا وَإِن كُنَّا لَا نعلم أَنه
هُوَ الْحق عِنْد الله تَعَالَى أَلا ترى أَن المتحري فِي بَاب
الْقبْلَة يلْزمه التَّوَجُّه إِلَى الْجِهَة الَّتِي يسْتَقرّ
عَلَيْهَا الرَّأْي وَمَعْلُوم أَنه لَا يلْزمه مُبَاشرَة مَا
لَيْسَ بِحَق أصلا
(2/141)
فَعرفنَا أَنه حق عندنَا وَإِن كُنَّا لَا
نقطع القَوْل بِأَنَّهُ الْحق عِنْد الله تَعَالَى فقد يُصِيب
الْمُجْتَهد ذَلِك بِاجْتِهَادِهِ وَقد يخطىء ثمَّ التَّكْلِيف
بِحَسب الوسع وَلَيْسَ فِي وَضعنَا الْوُقُوف على مَا هُوَ حق
عِنْد الله لَا محَالة وَإِنَّمَا الَّذِي فِي وسعنا طلبه
بطرِيق الِاعْتِبَار الَّذِي أمرنَا بِهِ وَبعد إِصَابَة ذَلِك
الطَّرِيق يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ فَكَذَلِك فِي الْأَحْكَام
وَمَا أشاروا إِلَيْهِ من الْفرق بَين مَا هُوَ مَحْض حق الله
تَعَالَى وَبَين مَا فِيهِ حق الْعباد لَيْسَ بِقَوي لِأَن
الْمَطْلُوب هُنَا جِهَة الْقبْلَة لأَدَاء مَا هُوَ مَحْض حق
الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة
وَمَعَ ذَلِك أطلق لنا الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ إِمَّا
لتحقيق معنى الِابْتِلَاء أَو لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وسعنا مَا
هُوَ أقوى من ذَلِك بعد انْقِطَاع الْأَدِلَّة الظَّاهِرَة
وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَوْجُود فِي الْأَحْكَام ثمَّ
الِاحْتِمَال الَّذِي يبْقى بعد اسْتِعْمَال الرَّأْي
بِمَنْزِلَة الِاحْتِمَال فِي خبر الْوَاحِد فَإِن قَول صَاحب
الشَّرْع مُوجب علم الْيَقِين وَإِنَّمَا يثبت فِي حَقنا
الْعلم وَالْعَمَل بِهِ إِذا بلغنَا ذَلِك وَفِي الْبلُوغ
والاتصال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِمَال
فَكَذَلِك الحكم فِي الْمَنْصُوص ثَابت بِالنَّصِّ على وَجه
يُوجب علم الْيَقِين وَفِيه معنى هُوَ مُؤثر فِي الحكم شرعا
وَلَكِن فِي بُلُوغ الآراء وَإِدْرَاك ذَلِك الْمَعْنى نوع
احْتِمَال فَلَا يمْنَع ذَلِك وجوب الْعَمَل بِهِ عِنْد انعدام
دَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَلِهَذَا شرطنا للْعَمَل بِالرَّأْيِ
أَن تكون الْحَادِثَة لَا نَص فِيهَا من كتاب وَلَا سنة فَتبين
أَن فِيمَا قُلْنَا مُبَالغَة فِي الْمُحَافظَة على النُّصُوص
بظواهرها ومعانيها فَإِنَّهُ مَا لم يقف على النُّصُوص لَا
يعرف أَن الْحَادِثَة لَا نَص فِيهَا وَمَا لم يقف على مَعَاني
النُّصُوص لَا يُمكنهُ أَن يرد الْحَادِثَة إِلَى مَا يكون
مثلهَا من النُّصُوص ثمَّ مَعَ ذَلِك فِيهِ تَعْمِيم الْمَعْنى
فِي الْفُرُوع وتعظيم مَا هُوَ حق الله تَعَالَى فَإِن
اعْتِقَاد الحقية فِي الحكم الْمَنْصُوص ثَابت بِالنَّصِّ
وَمعنى شرح الصَّدْر وطمأنينة الْقلب ثَابت بِالْوُقُوفِ على
الْمَعْنى
وَلَا معنى لاستدلالهم باخْتلَاف أَحْكَام النُّصُوص لأَنا
إِنَّمَا نجوز اسْتِعْمَال الرَّأْي عِنْد معرفَة مَعَاني
النُّصُوص وَإِنَّمَا يكون هَذَا فِيمَا يكون مَعْقُول
الْمَعْنى فَأَما فِيمَا لَا يعقل الْمَعْنى فِيهِ فَنحْن لَا
نجوز إِعْمَال الرَّأْي لتعدية الحكم إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ
وسيأتيك بَيَان هَذَا فِي شَرط الْقيَاس ويتبين بِهَذَا أَن
مُرَاد رَسُول الله صلى
(2/142)
الله عَلَيْهِ وَسلم بذم الرَّأْي فِيمَا
رووا من الْآثَار الرَّأْي الَّذِي ينشأ عَن مُتَابعَة هوى
النَّفس أَو الرَّأْي الَّذِي يكون الْمَقْصُود مِنْهُ رد
الْمَنْصُوص نَحْو مَا فعله إِبْلِيس فَأَما الرَّأْي الَّذِي
يكون الْمَقْصُود بِهِ إِظْهَار الْحق من الْوَجْه الَّذِي
قُلْنَا لَا يكون مذموما أَلا ترى أَن الله تَعَالَى أَمر بِهِ
فِي إِظْهَار قيمَة الصَّيْد بقوله {يحكم بِهِ ذَوا عدل
مِنْكُم} فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد علم
ذَلِك أَصْحَابه وَالصَّحَابَة عَن آخِرهم أَجمعُوا على
اسْتِعْمَاله من غير نَكِير من أحد مِنْهُم على من اسْتَعْملهُ
فَكيف يظنّ بهم الِاتِّفَاق على مَا ذمه رَسُول الله أَو جعله
مدرجة الضلال هَذَا شَيْء لَا يَظُنّهُ إِلَّا ضال وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان مَا لَا بُد للْقِيَاس من مَعْرفَته
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَذَلِكَ معنى الْقيَاس لُغَة فالصورة
بِلَا معنى يكون فَاسِدا من الدَّعْوَى ثمَّ شَرطه فَإِن وجود
الشَّيْء على وَجه يكون مُعْتَبرا شرعا لَا يكون إِلَّا
بِوُجُود شَرطه ثمَّ رُكْنه فقوام الشَّيْء يكون بركنه ثمَّ
حكمه فَإِن الشَّيْء إِنَّمَا يخرج من حد الْعَبَث والسفه
إِلَى حد الْحِكْمَة بِكَوْنِهِ مُفِيدا وَذَلِكَ إِنَّمَا
يكون بِحكمِهِ ثمَّ بِالدفع بعد ذَلِك فَإِن تَمام الْإِلْزَام
إِنَّمَا يتَبَيَّن بِالْعَجزِ عَن الدّفع
فَأَما الأول فَهُوَ معرفَة الْقيَاس لُغَة فَنَقُول للْقِيَاس
تَفْسِير هُوَ المُرَاد بصيغته وَمعنى هُوَ المُرَاد بدلالته
بمنزله فعل الضَّرْب فَإِن لَهُ تَفْسِيرا هُوَ الْمَعْلُوم
بصورته وَهُوَ إِيقَاع الْخَشَبَة على جسم وَمعنى هُوَ
المُرَاد بدلالته وَهُوَ الإيلام
فَأَما تَفْسِير صِيغَة الْقيَاس فَهُوَ التَّقْدِير يُقَال قس
النَّعْل بالنعل أَي قدره بِهِ وقاس الطَّبِيب الْجرْح إِذا
سبره بالمسبار ليعرف مِقْدَار غوره وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن
مَعْنَاهُ لُغَة فِي الْأَحْكَام رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره
ليَكُون مثلا لَهُ فِي الحكم الَّذِي وَقعت الْحَاجة إِلَى
إثْبَاته وَلِهَذَا يُسمى مَا يجْرِي بَين المناظرين مقايسة
لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْعَى ليجعل جَوَابه فِي
الْحَادِثَة مثلا لما اتفقَا على كَونه أصلا بَينهمَا يُقَال
قايسته مقايسة وَقِيَاسًا وَيُسمى ذَلِك نظرا أَيْضا إِذْ لَا
يصاب إِلَّا بِالنّظرِ عَن إنصاف وَيُسمى ذَلِك اجْتِهَادًا
مجَازًا أَيْضا لِأَن ببذل المجهود يحصل هَذَا الْمَقْصُود
(2/143)
وَأما الْمَعْنى الَّذِي هُوَ المُرَاد بدلالته وَهُوَ أَنه
مدرك من مدارك أَحْكَام الشَّرْع ومفصل من مفاصله وَإِنَّمَا
يتَبَيَّن هُنَا ببسط الْكَلَام فَنَقُول إِن الله تَعَالَى
ابتلانا بِاسْتِعْمَال الرَّأْي وَالِاعْتِبَار وَجعل ذَلِك
مَوْضُوعا على مِثَال مَا يكون بَين الْعباد مِمَّا شَرعه من
الدَّعْوَى والبينات فالنصوص شُهُود على حُقُوق الله تَعَالَى
وَأَحْكَامه بِمَنْزِلَة الشُّهُود فِي الدَّعَاوَى وَمعنى
النُّصُوص (شَهَادَته بِمَنْزِلَة) شَهَادَة الشَّاهِد ثمَّ
لَا بُد من صَلَاحِية الشَّاهِد بِكَوْنِهِ حرا عَاقِلا بَالغا
فَكَذَلِك لَا بُد من صَلَاحِية النَّص لكَونه شَاهدا
بِكَوْنِهِ مَعْقُول الْمَعْنى وَلَا بُد من صَلَاحِية
الشَّهَادَة بِوُجُود لَفظهَا فَكَذَلِك لَا بُد من صَلَاحِية
الْوَصْف الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَة الشَّهَادَة وَذَلِكَ بِأَن
يكون ملائما للْحكم أَو مؤثرا فِيهِ على مَا نبين الِاخْتِلَاف
فِيهِ وَلَا بُد مِمَّا هُوَ قَائِم مقَام الطَّالِب فِيهِ
وَهُوَ القائس وَلَا بُد من مَطْلُوب وَهُوَ الحكم الشَّرْعِيّ
فالمقصود تَعديَة الحكم إِلَى الْفُرُوع وَلَا بُد من مقضي
عَلَيْهِ وَهُوَ عقد الْقلب ليترتب عَلَيْهِ الْعَمَل
بِالْبدنِ إِن كَانَ يحاج نَفسه وَإِن كَانَ يحاج غَيره فَلَا
بُد من خصم هُوَ كالمقضي عَلَيْهِ من حَيْثُ إِنَّه يلْزمه
الانقياد لَهُ وَلَا بُد من قَاض فِيهِ وَهُوَ الْقلب
بِمَنْزِلَة القَاضِي فِي الْخُصُومَات ثمَّ بعد اجْتِمَاع
هَذِه الْمعَانِي يتَمَكَّن الْمَشْهُود عَلَيْهِ من الدّفع
كَمَا فِي الدَّعْوَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ يتَمَكَّن من
الدّفع بعد ظُهُور الْحجَّة فَإِن تَمام الْإِلْزَام إِنَّمَا
يتَبَيَّن بِالْعَجزِ عَن الدّفع وَرُبمَا يخالفنا فِي بعض
هَذَا الشَّافِعِي وَغَيره من الْعلمَاء أَيْضا |