أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْقسم الرَّابِع الَّذِي بَيناهُ فِي الْفَصْل الْمُتَقَدّم يشْتَمل على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان عندنَا وَقد طعن بعض الْفُقَهَاء فِي تصنيف لَهُ على عبارَة عُلَمَائِنَا فِي الْكتب إِلَّا أَنا تركنَا الْقيَاس واستحسنا وَقَالَ الْقَائِلُونَ بالاستحسان يتركون الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حجَّة شَرْعِيَّة

(2/199)


ويزعمون أَنهم يستحسنون ذَلِك وَكَيف يستحسن ترك الْحجَّة وَالْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِحجَّة لاتباع هوى أَو شَهْوَة نفس فَإِن كَانُوا يُرِيدُونَ ترك الْقيَاس الَّذِي هُوَ حجَّة فالحجة الشَّرْعِيَّة هُوَ حق وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَإِن كَانُوا يُرِيدُونَ ترك الْقيَاس الْبَاطِل شرعا فالباطل مِمَّا لَا يشْتَغل بِذكرِهِ
وَقد ذكرُوا فِي كتبهمْ فِي بعض الْمَوَاضِع أَنا نَأْخُذ بِالْقِيَاسِ فَإِن كَانَ المُرَاد هَذَا فَكيف يجوزون الْأَخْذ بِالْبَاطِلِ
وَذكر من هَذَا الْجِنْس مَا يكون دَلِيل قلَّة الْحيَاء وَقلة الْوَرع وَكَثْرَة التهور لقائله
فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الِاسْتِحْسَان لُغَة وجود الشَّيْء حسنا يَقُول الرجل استحسنت كَذَا أَي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح أَو مَعْنَاهُ طلب الْأَحْسَن لِلِاتِّبَاعِ الَّذِي هُوَ مَأْمُور بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} وَهُوَ فِي لِسَان الْفُقَهَاء نَوْعَانِ الْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ وغالب الرَّأْي فِي تَقْدِير مَا جعله الشَّرْع موكولا إِلَى آرائنا نَحْو الْمُتْعَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} أوجب ذَلِك بِحَسب الْيَسَار والعسرة وَشرط أَن يكون بِالْمَعْرُوفِ فَعرفنَا أَن المُرَاد مَا يعرف استحسانه بغالب الرَّأْي
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} وَلَا يظنّ بِأحد من الْفُقَهَاء أَنه يُخَالف هَذَا النَّوْع من الِاسْتِحْسَان
وَالنَّوْع الآخر هُوَ الدَّلِيل الَّذِي يكون مُعَارضا للْقِيَاس الظَّاهِر الَّذِي تسبق إِلَيْهِ الأوهام قبل إنعام التَّأَمُّل فِيهِ وَبعد إنعام التَّأَمُّل فِي حكم الْحَادِثَة وأشباهها من الْأُصُول يظْهر أَن الدَّلِيل الَّذِي عَارضه فَوْقه فِي الْقُوَّة فَإِن الْعَمَل بِهِ هُوَ الْوَاجِب فسموا ذَلِك اسْتِحْسَانًا للتمييز بَين هَذَا النَّوْع من الدَّلِيل وَبَين الظَّاهِر الَّذِي تسبق إِلَيْهِ الأوهام قبل التَّأَمُّل على معنى أَنه يمال بالحكم عَن ذَلِك الظَّاهِر لكَونه مستحسنا لقُوَّة دَلِيله وَهُوَ نَظِير عِبَارَات أهل الصناعات فِي التَّمْيِيز بَين الطّرق لمعْرِفَة المُرَاد فَإِن أهل النَّحْو يَقُولُونَ هَذَا نصب على التَّفْسِير وَهَذَا نصب على الْمصدر وَهَذَا نصب على الظّرْف وَهَذَا نصب على التَّعَجُّب

(2/200)


وَمَا وضعُوا هَذِه الْعبارَات إِلَّا للتمييز بَين الأدوات الناصبة
وَأهل الْعرُوض يَقُولُونَ هَذَا من الْبَحْر الطَّوِيل وَهَذَا من الْبَحْر المتقارب وَهَذَا من الْبَحْر المديد فَكَذَلِك اسْتِعْمَال عُلَمَائِنَا عبارَة الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان للتمييز بَين الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين وَتَخْصِيص أَحدهمَا بالاستحسان لكَون الْعَمَل بِهِ مستحسنا ولكونه مائلا عَن سنَن الْقيَاس الظَّاهِر فَكَانَ هَذَا الِاسْم مستعارا لوُجُود معنى الِاسْم فِيهِ بِمَنْزِلَة الصَّلَاة فَإِنَّهَا اسْم للدُّعَاء ثمَّ أطلقت على الْعِبَادَة الْمُشْتَملَة على الْأَركان من الْأَفْعَال والأقوال لما فِيهَا من الدُّعَاء عَادَة
ثمَّ اسْتِحْسَان الْعَمَل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ لَا يكون من اتِّبَاع الْهوى وشهوة النَّفس فِي شَيْء
وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي نَظَائِر هَذَا أستحب ذَلِك
وَأي فرق بَين من يَقُول أستحسن كَذَا وَبَين من يَقُول أستحبه بل الِاسْتِحْسَان أفْصح اللغتين وَأقرب إِلَى مُوَافقَة عبارَة الشَّرْع فِي هَذَا المُرَاد
وَظن بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابنَا أَن الْعَمَل بالاستحسان أولى مَعَ جَوَاز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فِي مَوضِع الِاسْتِحْسَان وَشبه ذَلِك بالطرد مَعَ الْمُؤثر فَإِن الْعَمَل بالمؤثر أولى وَإِن كَانَ الْعَمَل بالطرد جَائِزا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا وهم عِنْدِي فَإِن اللَّفْظ الْمَذْكُور فِي الْكتب فِي أَكثر الْمسَائِل إِلَّا أَنا تركنَا هَذَا الْقيَاس والمتروك لَا يجوز الْعَمَل بِهِ وَتارَة يَقُول إِلَّا أَنِّي أستقبح ذَلِك وَمَا يجوز الْعَمَل بِهِ من الدَّلِيل شرعا فاستقباحه يكون كفرا فَعرفنَا أَن الصَّحِيح ترك الْقيَاس أصلا فِي الْموضع الَّذِي نَأْخُذ بالاستحسان وَبِه يتَبَيَّن أَن الْعَمَل بالاستحسان لَا يكون مَعَ قيام الْمُعَارضَة وَلَكِن بِاعْتِبَار سُقُوط الأضعف بالأقوى أصلا
وَقد قَالَ فِي كتاب السّرقَة إِذا دخل جمَاعَة الْبَيْت وجمعوا الْمَتَاع فَحَمَلُوهُ على ظهر أحدهم فَأخْرجهُ وَخَرجُوا مَعَه فِي الْقيَاس الْقطع على الْحمال خَاصَّة وَفِي الِاسْتِحْسَان يقطعون جَمِيعًا
وَقَالَ فِي كتاب الْحُدُود إِذا اخْتلف شُهُود الزِّنَا فِي والزاويتين فِي بَيت وَاحِد فِي الْقيَاس لَا يحد الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُقَام الْحَد
وَمَعْلُوم أَن الْحَد يسْقط بِالشُّبْهَةِ وَأدنى دَرَجَات الْمعَارض ايراث الشُّبْهَة فَكيف يستحسن إِقَامَة الْحَد فِي مَوضِع الشُّبْهَة
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله

(2/201)


تصحح ردة الصَّبِي اسْتِحْسَانًا
وَمَعْلُوم أَن عِنْد قيام دَلِيل الْمُعَارضَة يرجح الْمُوجب لِلْإِسْلَامِ وَإِن كَانَ هُوَ أَضْعَف كالمولود بَين كَافِر ومسلمة وَكَيف يستحسن الحكم بِالرّدَّةِ مَعَ بَقَاء دَلِيل مُوجب الْإِسْلَام فَعرفنَا أَن الْقيَاس مَتْرُوك أصلا فِي الْموضع الَّذِي يعْمل فِيهِ بالاستحسان وَإِنَّمَا سميناهما تعَارض الدَّلِيلَيْنِ بِاعْتِبَار أصل الْوَضع فِي كل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ لَا أَن بَينهمَا مُعَارضَة فِي مَوضِع وَاحِد
وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هَذَا مَا قَالَ فِي كتاب الطَّلَاق إِذا قَالَ لامْرَأَته إِذا حِضْت فَأَنت طَالِق فَقَالَت قد حِضْت فكذبها الزَّوْج فَإِنَّهَا لَا تصدق فِي الْقيَاس بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَهُوَ أَن الْحيض شَرط الطَّلَاق كدخولها الدَّار وكلامها زيدا وَفِي الِاسْتِحْسَان تطلق لِأَن الْحيض شَيْء فِي بَاطِنهَا لَا يقف عَلَيْهِ غَيرهَا فَلَا بُد من قبُول قَوْلهَا فِيهِ بِمَنْزِلَة الْمحبَّة والبغض
قَالَ وَقد يدْخل فِي هَذَا الِاسْتِحْسَان بعض الْقيَاس يَعْنِي بِهِ أَن فِي سَائِر الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْحيضِ قبلنَا قَوْلهَا نَحْو حُرْمَة الْوَطْء وانقضاء الْعدة فاعتبار هَذَا الحكم بِسَائِر الْأَحْكَام نوع قِيَاس ثمَّ ترك الْقيَاس الأول أصلا لقُوَّة دَلِيل الِاسْتِحْسَان وَهُوَ أَنَّهَا مأمورة بالإخبار عَمَّا فِي رَحمهَا منهية عَن الكتمان قَالَ تَعَالَى {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} وَمن ضَرُورَة النَّهْي عَن الكتمان كَونهَا أمينة فِي الْإِظْهَار وَإِلَيْهِ أَشَارَ أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ من الْأَمَانَة أَن تؤتمن الْمَرْأَة على مَا فِي رَحمهَا
فَصَارَ ذَلِك الْقيَاس متروكا باعتراض هَذَا الدَّلِيل الْقوي الْمُوجب للْعَمَل بِهِ
فَالْحَاصِل أَن ترك الْقيَاس يكون بِالنَّصِّ تَارَة وبالإجماع أُخْرَى وبالضرورة أُخْرَى
فَأَما تَركه بِالنَّصِّ فَهُوَ فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي أكل النَّاسِي للصَّوْم لَوْلَا قَول النَّاس لَقلت يقْضِي
يَعْنِي بِهِ رِوَايَة الْأَثر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ نَص يجب الْعَمَل بِهِ بعد ثُبُوته واعتقاد الْبطلَان فِي كل قِيَاس يُخَالِفهُ
وَهَذَا اللَّفْظ نَظِير مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة الْجَنِين لقد كدنا أَن نعمل برأينا فِيمَا فِيهِ أثر

(2/202)


وَكَذَلِكَ الْقيَاس يَأْبَى جَوَاز السّلم بِاعْتِبَار أَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ مَعْدُوم عِنْد العقد تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ الرُّخْصَة الثَّابِتَة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام (وَرخّص فِي السّلم) وَأما ترك الْقيَاس بِدَلِيل الْإِجْمَاع فنحو الاستصناع فِيمَا فِيهِ للنَّاس تعامل فَإِن الْقيَاس يَأْبَى جَوَازه تركنَا الْقيَاس للْإِجْمَاع على التَّعَامُل بِهِ فِيمَا بَين النَّاس من لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا (وَهَذَا) لِأَن الْقيَاس فِيهِ احْتِمَال الْخَطَأ والغلط فبالنص أَو الْإِجْمَاع يتَعَيَّن فِيهِ جِهَة الْخَطَأ فِيهِ فَيكون وَاجِب التّرْك لَا جَائِز الْعَمَل بِهِ فِي الْموضع الَّذِي تعين جِهَة الْخَطَأ فِيهِ
وَأما التّرْك لأجل الضَّرُورَة فنحو الحكم بِطَهَارَة الْآبَار والحياض بَعْدَمَا نجست وَالْحكم بِطَهَارَة الثَّوْب النَّجس إِذا غسل فِي الإجانات فَإِن الْقيَاس يَأْبَى جَوَازه لِأَن مَا يرد عَلَيْهِ النَّجَاسَة يَتَنَجَّس بملاقاته تَرَكْنَاهُ للضَّرُورَة المحوجة إِلَى ذَلِك لعامة النَّاس فَإِن الْحَرج مَدْفُوع بِالنَّصِّ وَفِي مَوضِع الضَّرُورَة يتَحَقَّق معنى الْحَرج لَو أَخذ فِيهِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ متروكا بِالنَّصِّ
وَكَذَلِكَ جَوَاز عقد الْإِجَارَة فَإِنَّهُ ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس إِلَى ذَلِك فَإِن العقد على الْمَنَافِع بعد وجودهَا لَا يتَحَقَّق لِأَنَّهَا لَا تبقى زمانين فَلَا بُد من إِقَامَة الْعين المنتفع بهَا مقَام الْإِجَارَة فِي حكم جَوَاز العقد لحَاجَة النَّاس إِلَى ذَلِك
ثمَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا نَوْعَانِ فِي الْحَاصِل فأحد نَوْعي الْقيَاس مَا ضعف أَثَره وَهُوَ ظَاهر جلي وَالنَّوْع الآخر مِنْهُ مَا ظهر فَسَاده واستتر وَجه صِحَّته وأثره
وَأحد نَوْعي الِاسْتِحْسَان مَا قوي أَثَره وَإِن كَانَ خفِيا وَالثَّانِي مَا ظهر أَثَره وخفي وَجه الْفساد فِيهِ
وَإِنَّمَا يكون التَّرْجِيح بِقُوَّة الْأَثر لَا بالظهور وَلَا بالخفاء لما بَينا أَن الْعلَّة الْمُوجبَة للْعَمَل بهَا شرعا مَا تكون مُؤثرَة وَضَعِيف الْأَثر يكون سَاقِطا فِي مُقَابلَة قوي الْأَثر ظَاهرا كَانَ أَو خفِيا بِمَنْزِلَة الدُّنْيَا مَعَ العقبى
فالدنيا ظَاهِرَة والعقبى باطنة ثمَّ ترجح العقبى حَتَّى وَجب الِاشْتِغَال بطلبها والإعراض عَن طلب الدُّنْيَا لقُوَّة الْأَثر من حَيْثُ الْبَقَاء

(2/203)


وَالْخُلُود والصفاء فَكَذَلِك الْقلب مَعَ النَّفس وَالْعقل مَعَ الْبَصَر
وَبَيَان مَا يسْقط اعْتِبَاره من الْقيَاس لقُوَّة الْأَثر الِاسْتِحْسَان الَّذِي هُوَ الْقيَاس المستحسن فِي سُؤْر سِبَاع الطير فَالْقِيَاس فِيهِ النَّجَاسَة اعْتِبَارا بسؤر سِبَاع الْوَحْش بعلة حُرْمَة التَّنَاوُل وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يكون نجسا لِأَن السبَاع غير محرم الِانْتِفَاع بهَا فَعرفنَا أَن عينهَا لَيست بنجسة وَإِنَّمَا كَانَت نَجَاسَة سُؤْر سِبَاع الْوَحْش بِاعْتِبَار حُرْمَة الْأكل لِأَنَّهَا تشرب بلسانها وَهُوَ رطب من لُعَابهَا ولعابها يتجلب من لَحمهَا وَهَذَا لَا يُوجد فِي سِبَاع الطير لِأَنَّهَا تَأْخُذ المَاء بمنقارها ثمَّ تبتلعه ومنقارها عظم جَاف والعظم لَا يكون نجسا من الْمَيِّت فَكيف يكون نجسا من الْحَيّ
ثمَّ تأيد هَذَا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْهِرَّة فَإِن معنى الْبلوى يتَحَقَّق فِي سُؤْر سِبَاع الطير لِأَنَّهَا تنقض من الْهَوَاء وَلَا يُمكن صون الْأَوَانِي عَنْهَا خُصُوصا فِي الصحارى وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن من ادّعى أَن القَوْل بالاستحسان قَول بتخصيص الْعلَّة فقد أَخطَأ لِأَن بِمَا ذكرنَا تبين أَن الْمَعْنى الْمُوجب لنجاسة سُؤْر سِبَاع الْوَحْش الرُّطُوبَة النَّجِسَة فِي الْآلَة الَّتِي تشرب بهَا وَقد انْعَدم ذَلِك فِي سِبَاع الطير فانعدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَذَلِكَ لَا يكون من تَخْصِيص الْعلَّة فِي شَيْء وعَلى اعْتِبَار الصُّورَة يتَرَاءَى ذَلِك وَلَكِن يتَبَيَّن عِنْد التَّأَمُّل انعدام الْعلَّة أَيْضا لِأَن الْعلَّة وجوب التَّحَرُّز عَن الرُّطُوبَة النَّجِسَة الَّتِي يُمكن التَّحَرُّز عَنْهَا من غير حرج وَقد صَار هَذَا مَعْلُوما بالتنصيص على هَذَا التَّعْلِيل فِي الْهِرَّة فَفِي كل مَوضِع يَنْعَدِم بعض أَوْصَاف الْعلَّة كَانَ انعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة فَلَا يكون تَخْصِيصًا
وَبَيَان الِاسْتِحْسَان الَّذِي يظْهر أَثَره وَيخْفى فَسَاده مَعَ الْقيَاس الَّذِي يسْتَتر أَثَره وَيكون قَوِيا فِي نَفسه حَتَّى يُؤْخَذ فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَيتْرك الِاسْتِحْسَان فِيمَا يَقُول فِي كتاب الصَّلَاة إِذا قَرَأَ الْمُصَلِّي سُورَة فِي آخرهَا سَجْدَة فَرَكَعَ بهَا فِي الْقيَاس تجزيه وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا تجزيه عَن السُّجُود وبالقياس نَأْخُذ فَوجه الِاسْتِحْسَان أَن الرُّكُوع غير السُّجُود وضعا أَلا ترى أَن الرُّكُوع فِي الصَّلَاة

(2/204)


لَا يَنُوب عَن سُجُود الصَّلَاة فَلَا يَنُوب عَن سَجْدَة التِّلَاوَة بطرِيق الأولى لِأَن الْقرب بَين رُكُوع الصَّلَاة وسجودها أظهر من حَيْثُ إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجب التَّحْرِيمَة وَلَو تَلا خَارج الصَّلَاة فَرَكَعَ لَهَا لم يجز عَن السَّجْدَة فَفِي الصَّلَاة أولى لِأَن الرُّكُوع هُنَا مُسْتَحقّ لجِهَة أُخْرَى وَهُنَاكَ لَا وَفِي الْقيَاس قَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود يتشابهان قَالَ تَعَالَى {وخر رَاكِعا} أَي سَاجِدا وَلَكِن هَذَا من حَيْثُ الظَّاهِر مجَاز مَحْض وَوجه الِاسْتِحْسَان من حَيْثُ الظَّاهِر اعْتِبَار شبه صَحِيح وَلَكِن قُوَّة الْأَثر للْقِيَاس مستتر وَوجه الْفساد فِي الِاسْتِحْسَان خَفِي
وَبَيَان ذَلِك أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود من السَّجْدَة عِنْد التِّلَاوَة عين السَّجْدَة وَلِهَذَا لَا تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة قربَة مَقْصُودَة بِنَفسِهَا حَتَّى لَا تلْزم بِالنذرِ إِنَّمَا الْمَقْصُود إِظْهَار التَّوَاضُع وَإِظْهَار الْمُخَالفَة للَّذين امْتَنعُوا من السُّجُود استكبارا مِنْهُم كَمَا أخبر الله عَنْهُم فِي مَوَاضِع السَّجْدَة
قُلْنَا وَمعنى التَّوَاضُع يحصل بِالرُّكُوعِ وَلَكِن شَرطه أَن يكون بطرِيق هُوَ عبَادَة وَهَذَا يُوجد فِي الصَّلَاة لِأَن الرُّكُوع فِيهَا عبَادَة كالسجود وَلَا يُوجد خَارج الصَّلَاة ولقوة الْأَثر من هَذَا الْوَجْه أَخذنَا بِالْقِيَاسِ وَإِن كَانَ مستترا وَسقط اعْتِبَار الْجَانِب الآخر فِي مُقَابلَته
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْبيُوع إِذا وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْمُسلم إِلَيْهِ وَرب السّلم فِي ذرعان الْمُسلم فِيهِ فِي الْقيَاس يَتَحَالَفَانِ وبالقياس نَأْخُذ وَفِي الِاسْتِحْسَان القَوْل قَول الْمُسلم إِلَيْهِ
وَوجه الِاسْتِحْسَان أَن الْمُسلم فِيهِ مَبِيع فالاختلاف فِي ذرعانه لَا يكون اخْتِلَافا فِي أَصله بل فِي صفته من حَيْثُ الطول وَالسعَة وَذَلِكَ لَا يُوجب التَّحَالُف كالاختلاف فِي ذرعان الثَّوْب الْمَبِيع بِعَيْنِه
وَوجه الْقيَاس أَنَّهُمَا اخْتلفَا فِي الْمُسْتَحق بِعقد السّلم وَذَلِكَ يُوجب التَّحَالُف ثمَّ أثر الْقيَاس مستتر وَلكنه قوي من حَيْثُ إِن عِنْد السّلم إِنَّمَا يعْقد بالأوصاف الْمَذْكُورَة لَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْعين فَكَانَ الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ خمس فِي سبع غير الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ أَربع فِي سِتَّة فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الِاخْتِلَاف

(2/205)


هُنَا فِي أصل الْمُسْتَحق بِالْعقدِ فأخذنا بِالْقِيَاسِ لهَذَا
وَقَالَ فِي الرَّهْن إِذا ادّعى رجلَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا عينا فِي يَد رجل أَنه مَرْهُون عِنْده بدين لَهُ عَلَيْهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَة فَفِي الِاسْتِحْسَان يقْضِي بِأَنَّهُ مَرْهُون عِنْدهمَا بِمَنْزِلَة مَا لَو رهن عينا من رجلَيْنِ وَهُوَ قِيَاس البيع فِي ذَلِك وَفِي الْقيَاس تبطل الْبَيِّنَتَانِ لِأَنَّهُ تعذر الْقَضَاء بِالرَّهْنِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا فِي جَمِيعه فَإِن الْمحل يضيق عَن ذَلِك وَفِي نصفه لِأَن الشُّيُوع يمْنَع صِحَة الرَّهْن وأخذنا بِالْقِيَاسِ لقُوَّة أَثَره الْمُسْتَتر وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا هُنَا إِنَّمَا يثبت الْحق لنَفسِهِ بِتَسْمِيَة على حِدة وكل وَاحِد مِنْهُمَا غير رَاض بمزاحمة الآخر مَعَه فِي ملك الْيَد الْمُسْتَفَاد بِعقد الرَّهْن بِخِلَاف الرَّهْن من رجلَيْنِ فهناك العقد وَاحِد فَيمكن إِثْبَات مُوجب العقد بِهِ متحدا فِي الْمحل وَذَلِكَ لَا يُمكن هُنَا وَهَذَا النَّوْع يعز وجوده فِي الْكتب لَا يُوجد إِلَّا قَلِيلا فَأَما النَّوْع الْمُتَقَدّم فَهُوَ فِي الْكتب أَكثر من أَن يُحْصى
ثمَّ فرق مَا بَين الِاسْتِحْسَان الَّذِي يكون بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع وَبَين مَا يكون بِالْقِيَاسِ الْخَفي المستحسن أَن حكم هَذَا النَّوْع يتَعَدَّى وَحكم النَّوْع الآخر لَا يتَعَدَّى لما بَينا أَن حكم الْقيَاس الشَّرْعِيّ التَّعْدِيَة فَهَذَا الْخَفي وَإِن اخْتصَّ باسم الِاسْتِحْسَان لِمَعْنى فَهُوَ لَا يخرج من أَن يكون قِيَاسا شَرْعِيًّا فَيكون حكمه التَّعْدِيَة وَالْأول معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ وَهُوَ لَا يحْتَمل التَّعْدِيَة كَمَا بَينا
وَبَيَانه فِيمَا إِذا اخْتلف البَائِع وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَار الثّمن وَالْمَبِيع غير مَقْبُوض فِي الْقيَاس القَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ زِيَادَة فِي حَقه وَهُوَ الثّمن وَالْمُشْتَرِي مُنكر وَالْيَمِين بِالشَّرْعِ فِي جَانب الْمُنكر وَالْمُشْتَرِي لَا يَدعِي على البَائِع شَيْئا فِي الظَّاهِر إِذْ الْمَبِيع صَار مَمْلُوكا لَهُ بِالْعقدِ وَلَكِن فِي الِاسْتِحْسَان يتخالفان لِأَن المُشْتَرِي يَدعِي على البَائِع وجوب تَسْلِيم الْمَبِيع إِلَيْهِ عِنْد إِحْضَار أقل الثمنين وَالْبَائِع مُنكر لذَلِك وَالْبيع كَمَا يُوجب اسْتِحْقَاق الْملك على البَائِع

(2/206)


يُوجب اسْتِحْقَاق الْيَد عَلَيْهِ عِنْد وُصُول الثّمن إِلَيْهِ ثمَّ هَذَا الِاسْتِحْسَان لكَونه قِيَاسا خفِيا يتَعَدَّى حكمه إِلَى الْإِجَازَة وَإِلَى النِّكَاح فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَإِلَى مَا لَو وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْوَرَثَة بعد موت الْمُتَبَايعين وَإِلَى مَا بعد هَلَاك السّلْعَة إِذا أخلف بَدَلا بِأَن قتل العَبْد الْمَبِيع قبل الْقَبْض وَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف فِي الثّمن بَينهمَا بعد قبض الْمَبِيع فَإِن حكم التخالف عِنْد قيام السّلْعَة فِيهِ يثبت بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس فَلَا يحْتَمل التَّعْدِيَة حَتَّى إِذا كَانَ بعد هَلَاك السّلْعَة لَا يجْرِي التخالف سَوَاء أخلف بَدَلا أَو لم يخلف
وَفِي الْإِجَازَة بعد اسْتِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ لَا يجْرِي التخالف وَإِن كَانَ الِاخْتِلَاف بَين الْوَرَثَة بعد قبض السّلْعَة لَا يجْرِي التخالف
وَقد يكون الْقيَاس الَّذِي فِي مُقَابلَة الِاسْتِحْسَان الَّذِي قُلْنَا أَصله مستحسن ثَابت بالأثر نَحْو مَا قَالَ فِي الصَّلَاة وَإِذا نَام فِي صلَاته فَاحْتَلَمَ فِي الْقيَاس يغْتَسل وَيَبْنِي كَمَا إِذا سبقه الْحَدث وَذَلِكَ مستحسن بالأثر وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يَبْنِي
وَفِي هَذَا النَّوْع الْمَأْخُوذ بِهِ هُوَ الِاسْتِحْسَان على كل حَال لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة رُجُوع إِلَى الْقيَاس الْأَصْلِيّ بِبَيَان يظْهر بِهِ أَن هَذَا لَيْسَ فِي معنى المعدول بِهِ من الْقيَاس الْأَصْلِيّ بالأثر من كل وَجه فَلَو ثَبت الحكم فِيهِ كَانَ بطرِيق التَّعْدِيَة والمعدول بِهِ عَن الْقيَاس بالأثر لَا يحْتَمل التَّعْدِيَة وَذَلِكَ الْبَيَان أَن الْحَدث الصُّغْرَى لَا يحوجه إِلَى كشف الْعَوْرَة وَلَا إِلَى عمل كثير وتكثر الْبلوى فِيهِ من الصَّلَاة بِخِلَاف الْحَدث الْكُبْرَى فَإِذا لم يكن فِي مَعْنَاهُ من كل مَا لَهُ كَانَ إِثْبَات الحكم فِيهِ بطرِيق التَّعْدِيَة لَا بِالنَّصِّ بِعَيْنِه وَذَلِكَ لَا وَجه لَهُ
فَتبين بِجَمِيعِ مَا ذكرنَا أَن القَوْل بالاستحسان لَا يكون تَخْصِيص الْعلَّة فِي شَيْء وَلَكِن فِي اعْتِبَار حِدة الْعِبَادَة اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وَالْعُلَمَاء من السّلف وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَكَثِيرًا مَا كَانَ يسْتَعْمل ابْن مَسْعُود هَذِه الْعبارَة وَمَالك بن أنس فِي كِتَابه ذكر لفظ الِاسْتِحْسَان فِي مَوَاضِع
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أستحسن فِي الْمُتْعَة ثَلَاثِينَ درهما
فَعرفنَا أَنه لَا طعن فِي هَذِه الْعبارَة وَمن حَيْثُ الْمَعْنى

(2/207)


هُوَ قَول بانعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة وَأحد لَا يُخَالف هَذَا فَإنَّا إِذا جَوَّزنَا دُخُول الْحمام بِأَجْر بطرِيق الِاسْتِحْسَان فَإِنَّمَا تركنَا القَوْل بِالْفَسَادِ الَّذِي يُوجِبهُ الْقيَاس لِانْعِدَامِ عِلّة الْفساد وَهُوَ أَن فَسَاد العقد بِسَبَب جَهَالَة الْمَعْقُود عَلَيْهِ لَيْسَ لعين الْجَهَالَة بل لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُنَازعَة مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم وَهَذَا لَا يُوجد هُنَا وَفِي نَظَائِره فَكَانَ انعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة لَا أَن يكون بطرِيق تَخْصِيص الْعلَّة

فصل فِي بَيَان فَسَاد القَوْل بِجَوَاز التَّخْصِيص فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ زعم أهل الطَّرْد أَن الَّذِي يَقُولُونَ بالعلل المؤثرة ويجعلون التَّأْثِير مصححا للعلل الشَّرْعِيَّة لَا يَجدونَ بدا من القَوْل بتخصيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَهُوَ غلط عَظِيم كَمَا نبينه
وَزعم بعض أَصْحَابنَا أَن التَّخْصِيص فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة جَائِز وَأَنه غير مُخَالف لطريق السّلف وَلَا لمَذْهَب أهل السّنة وَذَلِكَ خطأ عَظِيم من قَائِله فَإِن مَذْهَب من هُوَ مرضِي من سلفنا أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَمن جوز ذَلِك فَهُوَ مُخَالف لأهل السّنة مائل إِلَى أقاويل الْمُعْتَزلَة فِي أصولهم
وَصُورَة التَّخْصِيص أَن الْمُعَلل إِذا أورد عَلَيْهِ فصل يكون الْجَواب فِيهِ بِخِلَاف مَا يروم إثْبَاته بعلته يَقُول مُوجب علتي كَذَا إِلَّا أَنه ظهر مَانع فَصَارَ مَخْصُوصًا بِاعْتِبَار ذَلِك الْمَانِع بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي يخص مِنْهُ بعض مَا يتَنَاوَلهُ بِالدَّلِيلِ الْمُوجب للتخصيص
ثمَّ من جوز ذَلِك قَالَ التَّخْصِيص غير المناقضة لُغَة وَشرعا وفقها وإجماعا
أما اللُّغَة فَلِأَن النَّقْض إبِْطَال فعل قد سبق بِفعل نشأه كنقض الْبُنيان
والتخصيص بَيَان أَن الْمَخْصُوص لم يدْخل فِي الْجُمْلَة فَكيف يكون نقضا أَلا ترى أَن ضد النَّقْض الْبناء والتأليف وضد الْخُصُوص الْعُمُوم
وَمن حَيْثُ السّنة التَّخْصِيص جَائِز فِي النُّصُوص الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة والتناقض لَا يجوز فيهمَا بِحَال
وَمن حَيْثُ الْإِجْمَاع فَالْقِيَاس الشَّرْعِيّ يتْرك الْعَمَل بِهِ فِي بعض الْمَوَاضِع بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع أَو الضَّرُورَة وَذَلِكَ يكون تَخْصِيصًا لَا مناقضة وَلِهَذَا بَقِي ذَلِك الْقيَاس مُوجبا للْعَمَل فِي غير ذَلِك الْموضع

(2/208)


وَالْقِيَاس المنتقض فَاسد لَا يجوز الْعَمَل بِهِ فِي مَوضِع
وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول إِن الْمُعَلل مَتى ذكر وَصفا صَالحا وَادّعى أَن الحكم مُتَعَلق بذلك الْوَصْف فيورد عَلَيْهِ فصل يُوجد فِيهِ ذَلِك الْوَصْف وَيكون الحكم بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لفساد فِي أصل علته وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لمَانع منع ثُبُوت الحكم أَلا ترى أَن سَبَب وجوب الزَّكَاة ملك النّصاب النامي ثمَّ يمْتَنع وجوب الزَّكَاة بعد وجوده لمَانع وَهُوَ انعدام حُصُول النَّمَاء بِمُضِيِّ الْحول وَلم يكن ذَلِك دَلِيل فَسَاد السَّبَب وَالْبيع بِشَرْط الْخِيَار يمْنَع ثُبُوت الْملك بِهِ لمَانع وَهُوَ الْخِيَار الْمَشْرُوط لَا لفساد أصل السَّبَب وَهُوَ البيع
فَأَما إِذا قَالَ هَذَا الْموضع صَار مَخْصُوصًا من علتي لمَانع فقد ادّعى شَيْئا مُحْتملا فَيكون مطالبا بِالْحجَّةِ فَإِن أبرز مَانِعا صَالحا فقد أثبت مَا ادَّعَاهُ بِالْحجَّةِ فَيكون ذَلِك مَقْبُولًا مِنْهُ وَإِلَّا فقد سقط احتجاجه لِأَن الْمُحْتَمل لَا يكون حجَّة وَبِه فَارق الْمُدَّعِي التَّخْصِيص فِي النَّص فَإِنَّهُ لَا يُطَالب بِإِقَامَة الدَّلِيل على مَا يَدعِي أَنه صَار مَخْصُوصًا مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ من عُمُوم الْكتاب وَالسّنة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ احْتِمَال الْفساد فَكَانَ جِهَة التَّخْصِيص مُتَعَيّنا فِيهِ بِالْإِجْمَاع وَهنا فِي علته احْتِمَال الْفساد فَمَا لم يتَبَيَّن دَلِيل الْخُصُوص فِيمَا ادّعى أَنه مَخْصُوص من عِلّة لَا يَنْتَفِي عَنهُ معنى الْفساد فَلهَذَا لَا يقبل مِنْهُ مَا لم يتَبَيَّن الْمَانِع
ثمَّ جعل الْقَائِل الْمَوَانِع خَمْسَة أَقسَام مَا يمْنَع أصل الْعلَّة وَمَا يمْنَع تَمام الْعلَّة وَمَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم وَمَا يمْنَع تَمام الحكم وَمَا يمْنَع لُزُوم الحكم وَذَلِكَ يتَبَيَّن كُله حسا وَحكما فَمن حَيْثُ الْحس يتَبَيَّن هَذَا كُله فِي الرَّمْي فَإِن انْقِطَاع الْوتر أَو انكسار فَوق السهْم يمْنَع أصل الْفِعْل الَّذِي هُوَ رمي بعد تَمام قصد الرَّامِي إِلَى مُبَاشَرَته وإصابة السهْم حَائِطا أَو شَجَرَة ترده عَن سنَنه يمْنَع تَمام الْعلَّة بالوصول إِلَى المرمى وَدفع المرمي إِلَيْهِ عَن نَفسه بترس يَجعله أَمَامه يمْنَع ابْتِدَاء الحكم الَّذِي يكون الرَّمْي لأَجله بعد تَمام الْعلَّة بالوصول إِلَى الْمَقْصد وَذَلِكَ الْجرْح وَالْقَتْل ومداواته الْجراحَة بَعْدَمَا أَصَابَهُ حَتَّى اندمل وبرأ يمْنَع تَمام الحكم وَإِذا صَار بِهِ صَاحب فرَاش ثمَّ تطاول حَتَّى أَمن الْمَوْت مِنْهُ يمْنَع

(2/209)


لُزُوم الحكم بِمَنْزِلَة صَاحب الفالج إِذا تطاول مَا بِهِ وَأمن الْمَوْت مِنْهُ كل بِمَنْزِلَة الصَّحِيح فِي تَصَرُّفَاته وَفِي الحكميات إِضَافَة البيع إِلَى الْحر يمْنَع انْعِقَاد أصل الْعلَّة وإضافته إِلَى مَال الْغَيْر يمْنَع انْعِقَاد تَمام الْعلَّة فِي حق الْمَالِك حَتَّى تيعين جِهَة الْبطلَان فِيهِ بِمَوْتِهِ وَاشْتِرَاط الْخِيَار من الْمَالِك لنَفسِهِ فِي البيع يمْنَع ابْتِدَاء الحكم وَثُبُوت خِيَار الرُّؤْيَة للْمُشْتَرِي يمْنَع تَمام الحكم حَتَّى لَا تتمّ الصَّفْقَة بِالْقَبْضِ مَعَه وَثُبُوت خِيَار الْعَيْب يمْنَع لُزُوم الحكم حَتَّى يتَمَكَّن من رده بعد تَمام الصَّفْقَة بِالْقَبْضِ
وَالْحجّة لعلمائنا فِي إبِْطَال القَوْل بتخصيص الْعلَّة الإستدلال بِالْكتاب والمعقول وَالْبَيَان الَّذِي لَا يُمكن إِنْكَاره
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ نبئوني بِعلم إِن كُنْتُم صَادِقين} فَفِيهِ مُطَالبَة الْكفَّار بِبَيَان الْعلَّة فِيمَا ادعوا فِيهِ الْحُرْمَة على وَجه لَا مدفع لَهُم فصاورا محجوجين بِهِ وَذَلِكَ الْوَجْه أَنهم إِذا بينوا أحد هذهه الْمعَانى أَن الْحُرْمَة لأَجله انْتقض عَلَيْهِم بإقرارهم بِالْحلِّ فِي الْموضع الآخر مَعَ وجود ذَلِك الْمَعْنى فِيهِ وَلَو كَانَ التَّخْصِيص فِي علل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة جَائِزا مَا كَانُوا محجوجين فَإِن أحدا لَا يعجز من أَن يَقُول امْتنع ثُبُوت حكم الْحُرْمَة فِي ذَلِك الْموضع لمَانع وَقد كَانُوا عقلاء يَعْتَقِدُونَ الْحل فِي الْموضع الآخر لشُبْهَة أَو معنى تصور عِنْدهم وَفِي قَوْله تَعَالَى {نبئوني بِعلم} إِشَارَة إِلَى أَن الْمصير إِلَى تَخْصِيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَيْسَ من الْعلم فِي شَيْء فَيكون جهلا
وَأما الْمَعْقُول فَلِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة حكمهَا التَّعْدِيَة كَمَا قَررنَا وَبِدُون التَّعْدِيَة لَا تكون صَحِيحَة أصلا لِأَنَّهَا خَالِيَة عَن مُوجبهَا وَإِذا جَازَ قيام الْمَانِع فِي بعض الْمَوَاضِع الَّذِي يتَعَدَّى الحكم إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْعلَّة جَازَ قِيَامه فِي جَمِيع الْمَوَاضِع فيؤدى إِلَى القَوْل بِأَنَّهَا عِلّة صَحِيحَة من غير أَن يتَعَدَّى الحكم بهَا إِلَى شَيْء من الْفُرُوع وَقد أثبتنا فَسَاد هَذَا القَوْل بِالدَّلِيلِ
ثمَّ إِن كَانَ تَعديَة الحكم بهَا إِلَى فرع

(2/210)


دَلِيل صِحَّتهَا فانعدام الحكم بهَا إِلَى فرع آخر تُوجد فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة دَلِيل فَسَادهَا وَمَعَ مُسَاوَاة دَلِيل الصِّحَّة وَالْفساد لَا تثبت الْحجَّة الشَّرْعِيَّة مُوجبَة للْعَمَل يقرره أَن الْمَانِع الذى يدعى فِي الْموضع الْمَخْصُوص لَا بُد أَن يكون ثَابتا بِمثل مَا ثبتَتْ بِهِ الْعلَّة الْمُوجبَة للْحكم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ دونه لَا يصلح دافعا لَهُ وَلَا مَانِعا لحكمه وَإِذا كَانَ مثلا لَهُ فَذَلِك الْمَانِع يُمكن تَعْلِيله بعلة توجب تَعديَة حكم النفى إِلَى سَائِر الْفُرُوع مثل الأَصْل الَّذِي علله الْمُعَلل بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ من الْوَصْف لإِثْبَات الحكم فِيهِ فتحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا من هَذَا الْوَجْه وأى مناقضة أبين من التَّعَارُض على وَجه المضادة بِصفة التساوى
ثمَّ قد بَينا فِيمَا سبق أَن دَلِيل الْخُصُوص يشبه النّسخ بصيغته والإستثناء بِحكمِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَقل بِنَفسِهِ كدليل النّسخ وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا مُقَارنًا معنى كالإستثناء وَوَاحِد من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ لَا يتَحَقَّق فِي الْعِلَل فَإِن نسخ الْعلَّة بِالْعِلَّةِ لَا يجوز والخصم يجوز أَن يكون الْمَانِع عِلّة مثل الْعلَّة الَّتِى يدعى تخصيصها وَكَيف يجوز النّسخ وَالْعلَّة فِيمَا احْتِمَال الْفساد لكَونهَا مستنبطة بالرأى
فَإِذا ظهر مَا يمْنَع الْعَمَل بهَا أصلا تتَعَيَّن جِهَة الْفساد فِيهَا بِخِلَاف النَّص فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل جِهَة الْفساد فالنسخ يكون بَيَانا لمُدَّة الْعَمَل بِهِ
وَلِهَذَا نوع بَيَان آخر فَإِن الْخُصُوص يتَبَيَّن أَنه مَعْمُول بِهِ فِي بعض الْمحَال دون الْبَعْض وَذَلِكَ إِنَّمَا يجوز فِيمَا يجوز القَوْل فِيهِ بالنسخ مَعَ صِحَّته حَتَّى يُقَال إِنَّه مَعْمُول بِهِ فِي بعض الْأَوْقَات دون الْبَعْض والإستثناء إِنَّمَا يكون فِي الْعبارَات ليتبين بِهِ أَن الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي الْمعَانى الْخَالِصَة
فيتبين بِمَا ذكرنَا أَن القَوْل بالتخصيص مُسْتَقِيم فِي النُّصُوص من حَيْثُ إِن بِدَلِيل الْخُصُوص لَا تتمكن شُبْهَة الْفساد فِي النَّص بِوَجْه بل يتَبَيَّن أَن اسْم النَّص لم يكن متناولا للموضع الْمَخْصُوص مَعَ كَون الْعَام صَحِيحا مُوجبا للْعَمَل قطعا قبل قيام دَلِيل الْخُصُوص فَمن جوز تَخْصِيص الْعلَّة لَا يجد بدا من القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين أجمع وعصمة الإجتهاد عَن احْتِمَال الْخَطَأ وَالْفساد كعصمة النَّص من ذَلِك

(2/211)


وَهَذَا تَصْرِيح بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب لما هُوَ الْحق حَقِيقَة وَأَن الِاجْتِهَاد يُوجب علم الْيَقِين وَفِيه قَول بِوُجُوب الْأَصْلَح وَفِيه من وَجه آخر قَول بالمنزلة بَين المنزلتين وبالخلود فِي النَّار لأَصْحَاب الْكَبَائِر إِذا مَاتُوا قبل التَّوْبَة
فَهَذَا معنى قَوْلنَا إِن فِي القَوْل بِجَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة ميلًا إِلَى أصُول الْمُعْتَزلَة من وُجُوه
وَلَكنَّا نقُول انعدام الحكم لَا يكون إِلَّا بعد نُقْصَان وصف أَو زِيَادَة وصف وَهُوَ الَّذِي يسمونه مَانِعا مُخَصّصا وبهذه الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان تَتَغَيَّر الْعلَّة لَا محَالة فَيصير مَا هُوَ عِلّة الحكم منعدما حكما وَعدم الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة لَا يكون من تَخْصِيص الْعلَّة فِي شَيْء
وَبَيَان هَذَا أَن الْمُوجب لِلزَّكَاةِ شرعا هُوَ النّصاب النامي الحولي عرف بقوله عَلَيْهِ السَّلَام (لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول) وَالْمرَاد نفي الْوُجُوب والعلل الشَّرْعِيَّة لَا توجب الحكم بذواتها بل بِجعْل الشَّرْع إِيَّاهَا مُوجبَة على مَا بَينا أَن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى وَالْإِضَافَة إِلَى الْعلَّة لبَيَان أَن الشَّرْع جعلهَا مُوجبَة تيسيرا علينا فَإِذا كَانَت بِهَذَا الْوَصْف مُوجبَة شرعا عرفنَا أَن عِنْد انعدام هَذَا الْوَصْف يَنْعَدِم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة
وَلَا يلْزمنَا جَوَاز الْأَدَاء لِأَن الْعلَّة الْمُوجبَة غير الْعلَّة المجوزة للْأَدَاء وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق أَن الْجُزْء الأول من الْوَقْت مجوز أَدَاء الصَّلَاة فرضا وَإِن لم يكن مُوجبا للْأَدَاء عينا مَعَ أَن هَذَا الْوَصْف مُؤثر فَإِن النَّمَاء الَّذِي هُوَ مَقْصُود إِنَّمَا يحصل بِمُضِيِّ الْمدَّة أَلا ترى أَن الْوُجُوب يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْحول لتجدد معنى النَّمَاء بِمُضِيِّ كل حول وَكَذَلِكَ البيع بِشَرْط الْخِيَار فَإِن الْمُوجب للْملك شرعا البيع الْمُطلق وَمَعَ شَرط الْخِيَار لَا يكون مُطلقًا بل بِهَذِهِ الزِّيَادَة يصير البيع فِي حق الحكم كالمتعلق بِالشّرطِ وَقد بَينا أَن الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ غير الْمُطلق ولصفة الْإِطْلَاق تَأْثِير أَيْضا فَإِن الْمُوجب للْملك بِالنَّصِّ التِّجَارَة عَن ترَاض وَتَمام الرِّضَا يكون عِنْد إِطْلَاق الْإِيجَاب لَا مَعَ شَرط الْخِيَار فَظهر أَن الْعلَّة تنعدم بِزِيَادَة وصف أَو نُقْصَان

(2/212)


وصف وَهُوَ الْحَاصِل الَّذِي يجب مراعاته فَإِنَّهُم يسمون هَذَا الْمَعْنى المغير مَانِعا مُخَصّصا فَيَقُولُونَ انعدام الحكم مَعَ بَقَاء الْعلَّة بِوُجُود مَانع وَذَلِكَ تَخْصِيص كالنص الْعَام يلْحقهُ خُصُوص فَيبقى نصا فِيمَا وَرَاء مَوضِع الْخُصُوص
وَنحن نقُول تنعدم الْعلَّة حِين ثَبت المغير فينعدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَهَذَا فِي الْعِلَل مُسْتَقِيم بِخِلَاف النُّصُوص فَإِن بِالنَّصِّ الْخَاص لَا يَنْعَدِم النَّص الْعَام وعَلى هَذَا الطَّرِيق مَا استحسنه عُلَمَاؤُنَا من الْقيَاس فِي كتبهمْ فَإِن الِاسْتِحْسَان قد يكون بِالنَّصِّ وبوجود النَّص تنعدم الْعلَّة الثَّابِتَة بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبر بِالْعِلَّةِ أصلا فِي مَوضِع النَّص وَلَا فِي مُعَارضَة حكم النَّص
وَكَذَلِكَ الِاسْتِحْسَان إِذا كَانَ بِسَبَب الْإِجْمَاع لِأَن الْإِجْمَاع كالنص من كتاب أَو سنة فِي كَونه مُوجبا الْعلم
وَكَذَلِكَ مَا يكون عَن ضَرُورَة فَإِن مَوضِع الضَّرُورَة مجمع عَلَيْهِ أَو مَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا يعْتَبر بِالْعِلَّةِ فِي مَوضِع النَّص فَكَانَ انعدام الحكم فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الِاسْتِحْسَان بِقِيَاس مستحسن ظهر قُوَّة أَثَره لما بَينا أَن الضَّعِيف فِي مُعَارضَة الْقوي مَعْدُوم حكما
وَبَيَان مَا ذكرنَا فِي أَن النَّائِم إِذا صب فِي حلقه مَاء وَهُوَ صَائِم لم يفْسد صَوْمه على قَول زفر لِأَنَّهُ مَعْذُور كالناسي أَو أبلغ مِنْهُ وَفَسَد صَوْمه عندنَا لفَوَات ركن الصَّوْم وَالْعِبَادَة لَا تتأدى بِدُونِ ركنها فَيلْزم على هَذَا النَّاسِي
فَمن يجوز تَخْصِيص الْعلَّة يَقُول انْعَدم الحكم هُنَاكَ لوُجُود مَانع وَهُوَ الْأَثر فَكَانَ مَخْصُوصًا من هَذِه الْعلَّة بِهَذَا الطَّرِيق مَعَ بَقَاء الْعلَّة
وَنحن نقُول انْعَدم الحكم فِي النَّاسِي لِانْعِدَامِ الْعلَّة حكما فَإِن النسْيَان لَا صنع فِيهِ لأحد من الْعباد وَقد ثَبت بِالنَّصِّ أَن الله تَعَالَى أطْعمهُ وسقاه وَصَارَ فعله فِي الْأكل سَاقِط الِاعْتِبَار وتفويت الرُّكْن إِنَّمَا يكون بِفعل الْأكل فَإِذا لم يبْق فعله فِي الْأكل شرعا كَانَ ركن الصَّوْم قَائِما حكما وَإِنَّمَا لم يحصل الْفطر هُنَا لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة للفطر ثمَّ النَّائِم لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَن الْفِعْل الَّذِي يفوت بِهِ ركن الصَّوْم مُضَاف إِلَى الْعباد هُنَا فَيبقى مُعْتَبرا مفوتا ركن

(2/213)


الصَّوْم بِخِلَاف إِذا كَانَ مُضَافا إِلَى من لَهُ الْحق
وَكَذَلِكَ قُلْنَا إِن الْمَغْصُوب يصير مَمْلُوكا للْغَاصِب عِنْد تقرر الضَّمَان عَلَيْهِ لِأَن بِهَذَا السَّبَب لما تقرر الْملك فِي ضَمَان الْقيمَة وَهُوَ حكم شرعى فيقرر الْملك فِيمَا يُقَابله فَيلْزم على هَذَا فصل الْمُدبر من حَيْثُ إِنَّه يَتَقَرَّر الْملك فِي قِيمَته للْمَغْصُوب مِنْهُ وَلَا يثبت الْملك فِي الْمُدبر للْغَاصِب فَمن يرى تَخْصِيص الْعلَّة يَقُول امْتنع ثُبُوت الحكم فِي الْمُدبر مَعَ وجود الْعلَّة لمَانع وَهُوَ أَنه غير مُحْتَمل للنَّقْل من ملك إِلَى ملك
وَنحن نقُول انعدمت الْعلَّة الْمُوجبَة للْملك فِي الْمُدبر فينعدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَهَذَا لِأَن الْعلَّة تقرر الْملك فِي قيمَة هِيَ بدل عَن الْعين وَقِيمَة الْمُدبر لَيْسَ بِبَدَل عَن عينهَا لِأَن شَرط كَون الْقيمَة بَدَلا عَن الْعين أَن تكون الْعين مُحْتملا للتَّمْلِيك وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي الْمُدبر لِأَن الْمُدبر جرى فِيهِ عتق من وَجه وَالْعِتْق فِي الْمحل يمْنَع وجوب قيمَة الْعين بِسَبَب الْغَصْب وَلَكِن الضَّمَان وَاجِب بِاعْتِبَار الْجِنَايَة الَّتِى تمكنت من الْغَاصِب بتفويت يَده لِأَن مَعَ جَرَيَان الْعتْق فِيهِ من وَجه قد بقيت الْيَد والمالية مُسْتَحقَّة للْمَالِك فَإِن انعدام ذَلِك يعْتَمد ثُبُوت الْعتْق فِي الْمحل من كل وَجه فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة بِوُجُود مَا يغيرها
وَكَذَلِكَ إِذا قُلْنَا فِي الزِّنَا إِنَّه ثبتَتْ بِهِ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن ثُبُوت الْحُرْمَة فِي الأَصْل بِاعْتِبَار الْوَلَد الَّذِي يتخلق من الماءين فَيصير بِوَاسِطَة الْوَلَد أمهاتها وبناتها فِي حَقه كأمهاته وَبنَاته وأبناؤه وآباؤه فِي حَقّهَا كآبائها وأبنائها ثمَّ الْوَطْء فِي مَحل الْحَرْث سَبَب لحُصُول هَذَا الْوَلَد فيقام مقَامه وَيلْزم على هَذَا أَنه لَا يتَعَدَّى الْحُرْمَة إِلَى الْأَخَوَات والعمات والخالات من الْجَانِبَيْنِ فَمن يَقُول بتخصيص الْعلَّة يَقُول امْتنع ثُبُوت الحكم مَعَ قيام الْعلَّة فِي هَذِه الْمَوَاضِع للنَّص أَو الْإِجْمَاع وَنحن نقُول إِنَّمَا انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة لِأَن فِي النَّص الْمُوجب لحُرْمَة الْمُصَاهَرَة ذكر الْأُمَّهَات وَالْبَنَات والآباء وَالْأَبْنَاء خَاصَّة فامتداد الْحُرْمَة إِلَى الْأَخَوَات والعمات والخالات يكون تغييرا

(2/214)


وإثباتا احرمة أُخْرَى لِأَن الْمَقْصُود غير الممتد وَإِنَّمَا يُعلل الْمَنْصُوص وَلَا يجوز تَبْدِيل الْمَنْصُوص بِالتَّعْلِيلِ فَكَانَ انعدام الحكم فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِانْعِدَامِ الْعلَّة لَا لمَانع مَعَ قيام الْعلَّة
وَكَذَلِكَ إِن ألزم أَن الْمَوْطُوءَة لَا تحرم على الواطىء بِوَاسِطَة الْوَلَد والقرب بَينهمَا أمس فالتخريج هَكَذَا أَنه إِنَّمَا انْعَدم الحكم هُنَاكَ لِانْعِدَامِ الْعلَّة بِاعْتِبَار مورد النَّص كَمَا قَررنَا وَهَذَا أصل كَبِير وَفقه عَظِيم
من ترك التعنت وَتَأمل عَن إنصاف يخرج لَهُ جَمِيع مَا لم يذكر بِمَا هُوَ من نَظَائِر مَا ذكرنَا عَلَيْهِ
وعمدة هَذَا الْفِقْه معرفَة الْخُصُوص فَإِن النصين إِذا كَانَ أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا فالعام لَا يَنْعَدِم بالخاص حَقِيقَة وَلَا حكما وَلَيْسَ فِي وَاحِد من النصين توهم الْفساد فَعرفنَا أَن الْخَاص كَانَ مُخَصّصا للموضع الذى تنَاوله من حكم الْعَام مَعَ بَقَاء الْعَام حجَّة فِيمَا وَرَاء ذَلِك وَإِن تمكن فِيهِ نوع شُبْهَة من حَيْثُ إِنَّه صَار كالمستعار فِيمَا هُوَ حَقِيقَة حكم الْعَام فَأَما الْعلَّة وَإِن كَانَت مُؤثرَة فَفِيهَا احْتِمَال الْفساد وَالْخَطَأ وَهِي تحْتَمل الإعدام حكما فَإِذا جَاءَ مَا يغيرها جعلناها مَعْدُومَة حكما فِي ذَلِك الْموضع ثمَّ انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَلَا يكون فِيهَا شَيْء من معنى التَّنَاقُض وَلَا يكون من التَّخْصِيص فِي شَيْء وَالله أعلم