أصول السرخسي بَاب وُجُوه الإحتجاج بِمَا لَيْسَ بِحجَّة
مُطلقًا
قَالَ رضى الله عَنهُ فَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على فُصُول
فَالَّذِي نبدأ بِهِ الإحتجاج بِلَا دَلِيل فَإِن الْعلمَاء
اخْتلفُوا فِيهِ على أقاويل قَالَ بَعضهم لَا دَلِيل حجَّة
للنافى على خَصمه وَلَا يكون حجَّة للمثبت وَقَالَ بَعضهم هِيَ
حجَّة دافعة لَا مُوجبَة وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ مسَائِل
الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنَّهَا حجَّة دافعة لإبقاء مَا ثَبت
بدليله لَا لإِثْبَات مَا لم يعلم ثُبُوته بدليله والذى دلّ
عَلَيْهِ مسَائِل أَصْحَابنَا أَن هَذَا فِي حق الله تَعَالَى
فَأَما فِي حق
(2/215)
الْعباد لَا تكون هِيَ حجَّة لأحد
الْخَصْمَيْنِ على الآخر فِي الدّفع وَلَا فِي الْإِيجَاب لَا
فِي الْإِبْقَاء وَلَا فِي الْإِثْبَات ابْتِدَاء
فَأَما الْفَرِيق الأول احْتَجُّوا وَقَالُوا أقوى المناظرة
مَا يكون فِي إِثْبَات التَّوْحِيد وَفِي أُمُور النُّبُوَّة
فقد علمنَا الله تَعَالَى الِاحْتِجَاج بِلَا دَلِيل على نفي
الشّرك بقوله {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ
بِهِ} وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُجَادِل
الْمُشْركين فِي إِثْبَات نبوته وَكَانُوا ينفون ذَلِك وَهُوَ
يثبت ثمَّ كَانُوا لَا يطالبون على هَذَا النَّفْي بِشَيْء
فَوق قَوْلهم لَا دَلِيل على نبوته واشتغل بعد جحودهم
بِإِثْبَات نبوته بِالْآيَاتِ المعجزة والبراهين القاطعة
فَعرفنَا بِهَذَا أَن لَا دَلِيل حجَّة للنافي على خَصمه إِلَى
أَن يثبت الْخصم مَا يَدعِي ثُبُوته بِالدَّلِيلِ وَهَذَا
لِأَن النَّافِي إِنَّمَا لَا يُطَالب بِدَلِيل لكَونه متمسكا
بِالْأَصْلِ وَهُوَ عدم الدَّلِيل الْمُوجب أَو الْمَانِع
وَالْمحرم أَو الْمُبِيح وَوُجُوب التَّمَسُّك بِالْأَصْلِ
إِلَى أَن يظْهر الدَّلِيل المغير لَهُ طَرِيق فِي الشَّرْع
وَلِهَذَا جعل الشَّرْع الْبَيِّنَة فِي جَانب الْمُدَّعِي لَا
فِي جَانب الْمُنكر لِأَنَّهُ متمسك بِالْأَصْلِ وَهُوَ أَنه
لَا حق للْغَيْر فِي ذمَّته وَلَا فِي يَده وَذَلِكَ حجَّة
لَهُ على خَصمه فِي الْكَفّ عَن التَّعَرُّض لَهُ مَا لم يقم
الدَّلِيل وأيد مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا
أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة فقد علم نبيه عَلَيْهِ السَّلَام
الِاحْتِجَاج بِعَدَمِ الدَّلِيل الْمُوجب للْحُرْمَة على
الَّذين كَانُوا يثبتون الْحُرْمَة فِي أَشْيَاء كالسائبة
والوصيلة والحام والبحيرة فَثَبت بِهَذَا أَن لَا دَلِيل حجَّة
للنافي على خَصمه
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ غير مُوَافق لشَيْء من
الْعِلَل المنقولة عَن السّلف فِي نفي الحكم وإثباته وَهُوَ
يَنْتَهِي إِلَى الْجَهْل أَيْضا فَإنَّا نقُول لهَذَا
الْقَائِل لَا دَلِيل على الْإِثْبَات عنْدك أَو عِنْد غَيْرك
فَإِن خصمك يَدعِي قيام الدَّلِيل عِنْده وكما أَن دَعْوَاهُ
الدَّلِيل عِنْده لَا يكون حجَّة عَلَيْك حَتَّى تبرزه فدعواك
عَلَيْهِ أَن لَا دَلِيل عِنْدِي لَا يكون حجَّة عَلَيْهِ
وَإِن قلت لَا دَلِيل عِنْدِي فَهَذَا إِقْرَار مِنْك
بِالْجَهْلِ وَالتَّقْصِير فِي الطّلب فَكيف يكون حجَّة على
غَيْرك وَإِن انْعَدم مِنْك التَّقْصِير فِي الطّلب فَأَنت
مَعْذُور إِذا لم تقف على الدَّلِيل وعذرك لَا يكون
(2/216)
حجَّة على الْغَيْر أصلا أَلا ترى أَن فِي
زمَان النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ النَّاسِخ ينزل
فَيبلغ ذَلِك بعض النَّاس دون الْبَعْض وَمن لم يبلغهُ يكون
مَعْذُورًا فِي الْعَمَل بالمنسوخ وَلَا يكون ذَلِك حجَّة لَهُ
على غَيره
فَإِن قيل قَوْلكُم هَذَا غير مُوَافق لتعليل السّلف فَاسد
وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَا خمس فِي العنبر
لِأَن الْأَثر لم يرد بِهِ
وَهَذَا احتجاج بِلَا دَلِيل
قُلْنَا هَذَا أَن لَو ذكر هَذَا اللَّفْظ على سَبِيل
الِاحْتِجَاج على من يُوجب فِيهِ الْخمس وَلَيْسَ كَذَلِك بل
إِنَّمَا ذكره على وَجه بَيَان الْعذر لنَفسِهِ ثمَّ علل فِيهِ
بعلة مُؤثرَة فِي مَوضِع الِاحْتِجَاج على الْغَيْر على مَا
ذكر مُحَمَّد رَحمَه الله فَإِنَّهُ قَالَ لَا خمس فِي
اللُّؤْلُؤ والعنبر
قلت لم قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة السّمك
قلت وَمَا بَال السّمك لَا يجب فِيهِ الْخمس قَالَ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَة المَاء
وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مُؤثر فَإِن الأَصْل فِي الْخمس
الْغَنَائِم وَإِنَّمَا يُوجب الْخمس فِيمَا يصاب مِمَّا كَانَ
أَصله فِي يَد الْعَدو وَوَقع فِي يَد الْمُسلمين بِإِيجَاف
الْخَيل والركاب فَيكون فِي معنى الْغَنِيمَة والمستخرج من
الْبحار لم يكن فِي يَد الْعَدو قطّ لِأَن قهر المَاء مَانع
قهرا آخر على ذَلِك الْموضع ثمَّ الْقيَاس أَن لَا يجب الْخمس
فِي شَيْء وَإِنَّمَا أوجب الْخمس فِي بعض الْأَمْوَال بالأثر
فَبين أَن مَا لم يرد فِيهِ الْأَثر يُؤْخَذ فِيهِ بِأَصْل
الْقيَاس وَهَذَا لَا يكون احتجاجا بِلَا دَلِيل
ثمَّ نقُول لهَذَا الْقَائِل إِنَّك بِهَذِهِ الْمقَالة تثبت
شَيْئا لَا محَالة وَهُوَ صِحَة اعتقادك أَن لَا دَلِيل يُوجب
إِثْبَات الحكم فِي هَذِه الْحَادِثَة فَعَلَيْك الدَّلِيل
لإِثْبَات مَا تَدعِي صِحَّته عنْدك وَلَا دَلِيل على خصمك
لِأَنَّهُ يَنْفِي صِحَة اعتقادك هَذَا وَلَا دَلِيل على
النَّافِي بزعمك ثمَّ قَوْلك لَا دَلِيل شَيْء تَقوله عَن علم
أَو لَا عَن علم فَإِن زعمت أَنَّك تَقوله عَن علم فالعلم
الَّذِي يحدث للمرء لَا يكون إِلَّا بِدَلِيل وَإِن زعمت
أَنَّك تَقوله لَا عَن علم فقد نهيت عَن ذَلِك قَالَ تَعَالَى
{وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى
{بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ}
(2/217)
جَعَلْنَاهُ هَكَذَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر
اعْتِبَار معنى التَّخْيِير فِيهِ للنَّفْي فِي أحد
الْجَانِبَيْنِ ويتعذر إِثْبَات معنى الْعَطف لعدم المجانسة
بَين الْمَذْكُورين فَيجْعَل بِمَعْنى الْغَايَة لِأَن حُرْمَة
الدُّخُول الثَّابِت بِالْيَمِينِ يحْتَمل الامتداد فيليق بِهِ
ذكر الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَك من
الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل
الْكَلِمَة على الْعَطف إِذْ الْفِعْل لَا يعْطف على الِاسْم
والمستقبل لَا يعْطف على الْمَاضِي وَنفي الْأَمر يحْتَمل
الامتداد فَيجْعَل قَوْله أَو يَتُوب بِمَعْنى الْغَايَة
وَلِأَنَّهُ نفى الدُّخُول فِي الدَّار الأولى فَإِذا دخل
فِيهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْمَذْكُور آخرا من جنسه نفى
فَيحنث بِالدُّخُولِ فِيهَا لهَذَا وَأثبت الدُّخُول فِي
الدَّار الثَّانِيَة فَإِذا دَخلهَا أَولا يَجْعَل كَأَن
الْأَخير من جنسه إِثْبَات كَمَا فِي قَوْله لأدخلن هَذِه
الدَّار أَو لأدخلن هَذِه الدَّار
فصل
وَأما حَتَّى فَهِيَ للغاية بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
بِمَنْزِلَة إِلَى هُوَ الْمَعْنى الْخَاص الَّذِي لأَجله وضعت
الْكَلِمَة قَالَ تَعَالَى {هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقَالَ
تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد} وَقَالَ
تَعَالَى {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى
يَأْتِيك الْيَقِين} فَمَتَى كَانَ مَا قبلهَا بِحَيْثُ
يحْتَمل الامتداد وَمَا بعْدهَا يصلح للانتهاء بِهِ كَانَت
عاملة فِي حَقِيقَة الْغَايَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا حلف أَن
يلازم غَرِيمه حَتَّى يَقْضِيه ثمَّ فَارقه قبل أَن يَقْضِيه
دينه حنث لِأَن الْمُلَازمَة تحْتَمل الامتداد وَقَضَاء الدّين
يصلح مَنْهِيّا للملازمة وَقَالَ فِي الزِّيَادَات لَو قَالَ
عَبده حر إِن لم أضربك حَتَّى تَشْتَكِي يَدي أَو حَتَّى
اللَّيْل أَو حَتَّى تصبح أَو حَتَّى يشفع فلَان ثمَّ ترك ضربه
قبل هَذِه الْأَشْيَاء حنث لِأَن الضَّرْب بطرِيق التّكْرَار
يحْتَمل الامتداد وَالْمَذْكُور بعد الْكَلِمَة صَالح للانتهاء
فَيجْعَل غَايَة حَقِيقَة وَإِذا أقلع عَن الضَّرْب قبل
الْغَايَة حنث إِلَّا فِي مَوضِع يغلب على الْحَقِيقَة عرف
فَيعْتَبر ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْعرْفِ ظَاهرا
بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة حَتَّى لَو قَالَ إِن لم أضربك حَتَّى
أَقْتلك أَو حَتَّى تَمُوت فَهَذَا على الضَّرْب الشَّديد
بِاعْتِبَار الْعرف فَإِنَّهُ مَتى كَانَ قَصده الْقَتْل لَا
يذكر لفظ الضَّرْب وَإِنَّمَا يذكر ذَلِك إِذا لم يكن قَصده
الْقَتْل وَجعل
(2/218)
الْقَتْل غَايَة لبَيَان شدَّة الضَّرْب
عَادَة وَلَو قَالَ حَتَّى يغشى عَلَيْك أَو حَتَّى تبْكي
فَهَذَا على حَقِيقَة الْغَايَة لِأَن الضَّرْب إِلَى هَذِه
الْغَايَة مُعْتَاد وَقد تسْتَعْمل الْكَلِمَة للْعَطْف فَإِن
بَين الْعَطف والغاية مُنَاسبَة بِمَعْنى التَّعَاقُب وَلَكِن
مَعَ وجود معنى الْغَايَة فِيهَا يَقُول الرجل جَاءَنِي
الْقَوْم حَتَّى زيد وَرَأَيْت الْقَوْم حَتَّى زيدا فَيكون
للْعَطْف مَعَ اعْتِبَار معنى الْغَايَة لِأَنَّهُ يفهم
بِهَذَا أَن زيدا أفضل الْقَوْم أَو أرذلهم وَقد يدْخل
بِمَعْنى الْعَطف على جملَة فَإِن ذكر لَهُ خَبرا فَهُوَ خَبره
وَإِلَّا فخبره من جنس مَا سبق يَقُول الرجل مَرَرْت بالقوم
حَتَّى زيد غَضْبَان وَتقول أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا
فَهَذَا مِمَّا لم يذكر خَبره وَهُوَ من جنس مَا سبق على
احْتِمَال أَن يكون هُوَ الْأكل أَو غَيره وَلكنه إِخْبَار
بِأَن رَأسهَا مَأْكُول أَيْضا وَلَو قَالَ حَتَّى رَأسهَا
بِالنّصب كَانَ هَذَا عطفا أَي وأكلت رَأسهَا أَيْضا وَلَكِن
بِاعْتِبَار معنى الْغَايَة وَمثل هَذَا فِي الْأَفْعَال تكون
للجزاء إِذا كَانَ مَا قبلهَا يصلح سَببا لذَلِك وَمَا بعْدهَا
يصلح أَن يكون جَزَاء فَيكون بِمَعْنى لَام كي قَالَ تَعَالَى
{وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي لكيلا تكون فتْنَة
وَقَالَ تَعَالَى {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول}
وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل الْغَايَة مَعْنَاهُ إِلَى أَن
يَقُول الرَّسُول فَيكون قَول الرَّسُول نِهَايَة من غير أَن
يكون بِنَاء على مَا سبق كَمَا هُوَ مُوجب الْغَايَة أَنه لَا
أثر لَهُ فِيمَا جعل غَايَة لَهُ وَيحْتَمل لكَي يَقُول
الرَّسُول وَالْقِرَاءَة بِالرَّفْع تكون بِمَعْنى الْعَطف أَي
وَيَقُول الرَّسُول وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا
قَالَ إِن لم آتِك غَدا حَتَّى تغديني فَعَبْدي حر فَأَتَاهُ
فَلم يغده لَا يَحْنَث لِأَن الْإِتْيَان لَيْسَ بمستدام فَلَا
يحْتَمل الْكَلِمَة بِمَعْنى حَقِيقَة الْغَايَة وَمَا بعده
يصلح جَزَاء فَيكون الْمَعْنى لكَي تغديني فقد جعل شَرط بره
الْإِتْيَان على هَذَا الْقَصْد وَقد وجد وَكَذَلِكَ لَو قَالَ
إِن لم تأتني حَتَّى أغديك فَأَتَاهُ وَلم يغده لم يَحْنَث
وَقد يستعار للْعَطْف الْمَحْض كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي
الْقِرَاءَة بِالرَّفْع وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْمَذْكُور
بعده لَا يصلح للجزاء فَيعْتَبر مُجَرّد الْمُنَاسبَة بَين
الْعَطف والغاية فِي الإستعارة وعَلى هَذَا قَالَ فِي
الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك حَتَّى أتغدى عنْدك
الْيَوْم أَو إِن لم تأتني حَتَّى تتغدى عِنْدِي الْيَوْم
فَأَتَاهُ ثمَّ لم يتغد عِنْده فِي ذَلِك الْيَوْم حنث لِأَن
الْكَلِمَة بِمَعْنى الْعَطف فَإِن الْفِعْلَيْنِ من وَاحِد
فَلَا يصلح الثَّانِي أَن يكون جَزَاء للْأولِ فَحمل على
الْعَطف الْمَحْض لتصحيح الْكَلَام وَشرط الْبر وجود
الْأَمريْنِ فِي الْيَوْم فَإِذا لم يوجدا حنث
(2/219)
مَا يُزِيلهُ فَمَا يمْضِي من الْأَزْمِنَة
بعد صِحَة الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم يكون الحكم فِيهِ بَاقِيا
بذلك لدَلِيل على احْتِمَال أَن يطْرَأ مَا يُزِيلهُ وَقبل
ظُهُور طريان مَا يُزِيلهُ يكون الحكم ثَابتا بذلك الدَّلِيل
بِمَنْزِلَة النَّص الْعَام فَإِنَّهُ مُوجب للْحكم فِي كل مَا
يتَنَاوَلهُ على احْتِمَال قيام دَلِيل الْخُصُوص فَمَا لم يقم
دَلِيل الْخُصُوص كَانَ الحكم ثَابتا بِالْعَام وَكَانَ
الِاحْتِجَاج بِهِ على الْخصم صَحِيحا فَكَذَلِك قَول
الْقَائِل فِيمَا هُوَ مُنْتَفٍ لَا دَلِيل على إثْبَاته أَو
فِيمَا هُوَ ثَابت بدليله لَا دَلِيل على نَفْيه يكون احتجاجا
بذلك الدَّلِيل وَذَلِكَ الدَّلِيل حجَّة على خَصمه فَأَما مَا
لَا يسْتَند إِلَى دَلِيل فَلَا يبْقى فِيهِ إِلَّا
الِاحْتِجَاج بقوله لَا دَلِيل فَذَلِك يكون حجَّة كَمَا
قُلْتُمْ
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ الصُّلْح على الْإِنْكَار بَاطِل
لِأَن نفي الْمُنكر دَعْوَى الْمُدَّعِي يسْتَند إِلَى دَلِيل
وَهُوَ الْمَعْلُوم من بَرَاءَة ذمَّته فِي الأَصْل أَو الْيَد
الَّتِي هِيَ دَلِيل لملك لَهُ فِي عين الْمُدَّعِي فَيكون
ذَلِك حجَّة لَهُ على خَصمه فِي إبْقَاء مَا ثَبت عَلَيْهِ
وَبعد مَا ظَهرت بَرَاءَة ذمَّته فِي حق الْمُدَّعِي بِهَذَا
الدَّلِيل يكون أَخذه المَال رشوة على الْكَفّ عَن الدَّعْوَى
وَلَا يكون ذَلِك اعتياضا عَن حَقه فَيكون بَاطِلا بِخِلَاف
مَا إِذا شهد بحريّة عبد إِنْسَان ثمَّ اشْتَرَاهُ بعد ذَلِك
فَإِن الشِّرَاء يكون صَحِيحا وَيلْزمهُ الثّمن للْبَائِع
لِأَن نفي البَائِع حُرِّيَّته ودعواه بَقَاء الْملك لَهُ
مُسْتَند إِلَى دَلِيل وَهُوَ الدَّلِيل الْمُثبت للْملك لَهُ
فِي العَبْد فَيكون ذَلِك حجَّة لَهُ على خَصمه فِي إبْقَاء
ملكه وباعتباره هُوَ إِنَّمَا يَأْخُذ الْعُضْو على ملك لَهُ
وباعتباره لَا يثبت الِاتِّفَاق بَينهمَا على فَسَاد ذَلِك
السَّبَب فَبِهَذَا تعين فِيهِ وَجه الصِّحَّة وَوَجَب الثّمن
على المُشْتَرِي ثمَّ يعْتق عَلَيْهِ بَعْدَمَا دخل فِي ملكه
بِاعْتِبَار زَعمه
وعلماؤنا رَحِمهم الله قَالُوا الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم لَا
يكون مُوجبا بَقَاء الحكم بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَكِن
بَقَاؤُهُ بعد الْوُجُود لاستغناء الْبَقَاء عَن دَلِيل لَا
لوُجُود الدَّلِيل الْمَنْفِيّ
فَعرفنَا أَنه لَيْسَ للدليل الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ الحكم
عمل فِي الْبَقَاء أصلا وَأَن دَعْوَى الْبَقَاء فِيمَا عرف
ثُبُوته بدليله مُحْتَمل كدعوى
(2/220)
الْإِثْبَات فِيمَا لَا يعلم ثُبُوته
بدليله فَكَمَا أَن هُنَاكَ يَسْتَوِي الْمُثبت والنافي فِي
أَن قَول كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يكون حجَّة على خَصمه
بِغَيْر دَلِيل فَكَذَلِك هُنَا وَله فَارق الْعَام فَإِنَّهُ
مُوجب للْحكم فِي كل مَا تنَاوله قطعا على احْتِمَال قيام
دَلِيل الْخُصُوص فَمَا لم يظْهر دَلِيل الْخُصُوص كَانَ الحكم
ثَابتا بِنَصّ مُوجب لَهُ وَهنا الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم غير
متعرض للأزمنة أصلا فَلَا يكون ثُبُوته فِي الْأَزْمِنَة بعد
قيام الدَّلِيل بِدَلِيل مُثبت لَهُ وَلِهَذَا لَا يكون قيام
دَلِيل النَّفْي من دَلِيل الْخُصُوص فِي شَيْء بل يكون نسخا
كَمَا بَيناهُ فِي بَاب النّسخ يُوضحهُ أَنه لما لم يكن ذَلِك
الدَّلِيل عَاملا الْآن فِي شَيْء صَار قَول المتمسك بِهِ لَا
دَلِيل على ارتفاعه كلَاما مُحْتملا كَمَا أَن قَول خَصمه
قَامَ الدَّلِيل على ارتفاعه كَلَام مُحْتَمل فتتحقق
الْمُعَارضَة بَينهمَا على وَجه لَا يكون زعم أَحدهمَا حجَّة
على الآخر مَا لم يرجح قَوْله بِدَلِيل
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا فِي الصُّلْح على الْإِنْكَار
إِنَّه جَائِز لِأَن الدَّلِيل الْمُثبت لبراءة ذمَّة الْمُنكر
أَو للْملك لَهُ فِيمَا فِي يَده غير متعرض للبقاء أصلا
فَكَانَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَن الْمُدَّعِي حَقي وملكي خَبرا
مُحْتملا وإنكار الْمُدعى عَلَيْهِ لذَلِك خبر مُحْتَمل أَيْضا
فَكَمَا لَا يكون خبر الْمُدَّعِي حجَّة على الْمُدعى عَلَيْهِ
فِي إِلْزَام التَّسْلِيم إِلَيْهِ لكَونه مُحْتملا فَكَذَلِك
خبر الْمُدَّعِي عَلَيْهِ لَا يكون حجَّة على الْمُدَّعِي فِي
فَسَاد الِاعْتِيَاض عَنهُ بطرِيق الصُّلْح وَلِهَذَا لَو
صَالحه أَجْنَبِي على مَال جَازَ بالِاتِّفَاقِ وَلَو ثَبت
بَرَاءَة ذمَّته فِي حق الْمُدَّعِي بِدَلِيل كَمَا ذكره
الْخصم لم يجز صلحه مَعَ الْأَجْنَبِيّ كَمَا لَو أقرّ أَنه
مُبْطل فِي دَعْوَاهُ ثمَّ صَالح مَعَ أَجْنَبِي
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ فصل الشَّهَادَة بِعِتْق العَبْد على
مَوْلَاهُ فَإِن الشَّاهِد إِذا اشْتَرَاهُ صَحَّ الشِّرَاء
وَلَزِمَه الثّمن لهَذَا الْمَعْنى وَهُوَ أَن مَا أخبر بِهِ
الشَّاهِد لكَونه مُحْتملا لم يصر حجَّة على مولى العَبْد
حَتَّى جَازَ لَهُ الِاعْتِيَاض عَنهُ بِالْبيعِ من غَيره
فَيجوز لَهُ الِاعْتِيَاض عَنهُ بِالْبيعِ من الشَّاهِد وَإِن
كَانَ زَعمه مُعْتَبرا فِي حَقه حَتَّى إِنَّه يعْتق كَمَا
اشْتَرَاهُ لَا من جِهَته حَتَّى لَا يكون وَلَاؤُه لَهُ وَمَا
كَانَ ذَلِك إِلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فَإِن
الدَّلِيل الْمُوجب للْملك للْمولى لَا يكون دَلِيل بَقَاء
ملكه بل بَقَاء الْملك بعد ثُبُوته لاستغنائه عَن الدَّلِيل
الْمَنْفِيّ
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا مَجْهُول الْحَال يكون حرا
بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَلَكِن لَو جنى عَلَيْهِ جِنَايَة
(2/221)
فَزعم الجانى أَنه رَقِيق لَا يلْزمه أرش
الْجِنَايَة على الْأَحْرَار حَتَّى يقوم الْبَيِّنَة على
حُرِّيَّته لِأَن ثُبُوت الْحُرِّيَّة للْحَال لَيْسَ بِدَلِيل
مُوجب لذَلِك بل بِاعْتِبَار أصل الْحُرِّيَّة لأَوْلَاد آدم
وَذَلِكَ لَا يُوجب الْبَقَاء فَكَانَ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّة
لنَفسِهِ فِي الْحَال مُحْتملا وَدَعوى الْغَيْر الرّقّ
عَلَيْهِ مُحْتَمل فبالمحتمل لَا يثبت الرّقّ فِيهِ لغيره
وَيجْعَل القَوْل قَوْله فِي الْحُرِّيَّة وبالمحتمل لَا يثبت
دَعْوَى اسْتِحْقَاق أرش الْأَحْرَار بِسَبَب الْجِنَايَة
عَلَيْهِ غَيره حَتَّى يُقيم الْبَيِّنَة على حُرِّيَّته لِأَن
قبل إِقَامَة الْبَيِّنَة لَيْسَ مَعَه إِلَّا الإحتجاج بِلَا
دَلِيل وَذَلِكَ دَافع عَنهُ وَلَا يكون حجَّة لَهُ على غَيره
وعَلى هَذَا لَو قذف إنْسَانا ثمَّ زعم أَنه عبد وَقَالَ
الْمَقْذُوف بل هُوَ حر فَإِنَّهُ لَا يُقَام حد الْأَحْرَار
عَلَيْهِ حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة للمقذوف على حُرِّيَّته
وَكَذَلِكَ لَو قطع يَد إِنْسَان ثمَّ زعم أَنه عبد وَأَنه لَا
قصاص عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لَو شهد فِي حادثه ثمَّ زعم الْمَشْهُود عَلَيْهِ
أَنه عبد فَإِن شَهَادَته لَا تكون حجَّة حَتَّى تقوم
الْبَيِّنَة على حُرِّيَّته وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله
يخالفنا فِي جَمِيع ذَلِك للْأَصْل الذى
وعَلى هَذَا لَو اشْترى شِقْصا من دَار فَطلب الشَّفِيع
الشُّفْعَة وَقَالَ الْمُشْتَرى مَا فِي يدك مِمَّا تدعى بِهِ
الشُّفْعَة لَيْسَ بِملك لَك بل هِيَ ملكه فَإِنَّهُ يكون
القَوْل قَول مدعى الشُّفْعَة فِي دفع دَعْوَى الْمُشْتَرى
عَمَّا فِي يَده وَيكون القَوْل قَول الْمُشْتَرى فِي
إِنْكَاره حق الشُّفْعَة لَهُ حَتَّى إِن الشَّفِيع مَا لم يقم
الْبَيِّنَة على أَن الْعين الذى فِي يَده ملكه لَا يسْتَحق
الشُّفْعَة عندنَا لِأَن خبر كل وَاحِد مِنْهُمَا مُحْتَمل
فَلَا يكون حجَّة على خَصمه فِي اسْتِحْقَاق مَا فِي يَده
وَعند الشَّافِعِي ملك الشَّفِيع فِيمَا فِي يَده ثَابت
بِاعْتِبَار أَن قَوْله مُسْتَند إِلَى دَلِيل مُثبت فَيسْتَحق
بِهِ الشُّفْعَة
وَنَظِير مَا قَالَه عُلَمَاؤُنَا قَول الْمولى لعَبْدِهِ إِن
لم أَدخل الْيَوْم الدَّار فَأَنت حر ثمَّ قَالَ الْمولى بعد
مضى الْيَوْم قد دخلت وَقَالَ العَبْد لم تدخل فَإِن القَوْل
قَول الْمولى حَتَّى لَا يعْتق العَبْد وَمَعْلُوم أَن قَول
العَبْد مُسْتَند إِلَى دَلِيل من حَيْثُ الظَّاهِر وَهُوَ أَن
الأَصْل عدم الدُّخُول وَلَكِن لما كَانَ قَوْله فِي الْحَال
مُحْتملا وَقَول الْمولى كَذَلِك لم يثبت اسْتِحْقَاقه على
الْمولى بِمَا هُوَ مُحْتَمل
وَكَذَلِكَ الْمَفْقُود فَإِنَّهُ لَا يَرث أحدا من أَقَاربه
إِذا مَاتَ قبل أَن يظْهر حَاله
(2/222)
وَمَعْلُوم أَن بَقَاءَهُ حَيا مُسْتَند
إِلَى دَلِيل وَهُوَ مَا علم من حَيَاته وَلَكِن لما لم يكن
ذَلِك دَلِيلا للبقاء اعْتبر فِي الْحَال الإحتمال فَقيل لَا
يَرِثهُ أحد لإحتمال بَقَائِهِ حَيا وَلَا يَرث أحدا لإحتمال
أَنه ميت
فَإِن قيل عندى إِذا اسْتندَ قَوْله إِلَى دَلِيل إِنَّمَا
يقبل قَوْله على خَصمه فِي إبْقَاء مَا هُوَ مَقْصُود لَهُ ففى
مَسْأَلَة الْعتْق لَا مَقْصُود للْعَبد فِي نفى دُخُول
الْمولى الدَّار وَإِنَّمَا مَقْصُوده فِي الْعتْق ودعواه
الْعتْق لَيْسَ بمستند إِلَى دَلِيل مُثبت لَهُ
وَكَذَلِكَ دَعْوَى من يدعى حَيَاة الْمَفْقُود بعد مَا مَاتَ
قريب لَهُ لَيْسَ بمقصود للْمُدَّعى حَتَّى يعْتَبر فِيهِ
الإستناد إِلَى دَلِيله فَأَما دَعْوَى الْمُنكر بَرَاءَة
ذمَّته أَو كَون مَا فِي يَده ملكا لَهُ مَقْصُود لَهُ وَهُوَ
يسْتَند إِلَى دَلِيل كَمَا بَينا وَكَذَلِكَ دَعْوَى مَجْهُول
الْحَال الْحُرِّيَّة لنَفسِهِ مَقْصُود لَهُ وَدَعوى
الشَّفِيع الْملك لنَفسِهِ فِيمَا فِي يَده مَقْصُود لَهُ
فَإِذا كَانَ هَذَا مُسْتَندا إِلَى دَلِيله وَهُوَ مَقْصُود
لَهُ كَانَ حجَّة لَهُ على خَصمه قُلْنَا لَا فرق فَإِن
دَعْوَى الْمُنكر فَسَاد الصُّلْح غير مَقْصُود لَهُ وَلَكِن
يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُود لَهُ وَهُوَ سُقُوط
الْمُطَالبَة عَنهُ بستليم مَا الْتَزمهُ بِالصُّلْحِ كَمَا
أَن دَعْوَى العَبْد أَن الْمولى لم يدْخل الدَّار غير
مَقْصُود لَهُ وَلَكِن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُود
لَهُ وَهُوَ عتقه بِاعْتِبَار وجود الشَّرْط ثمَّ هُنَاكَ
لكَون مَا أخبر بِهِ مُحْتملا لم يَجْعَل حجَّة على خَصمه
وَلَا يعْتَبر استناده فصل
وَمن الإحتجاج بِلَا دَلِيل الإستدلال باستصحاب الْحَال
وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُول بعض أَصْحَابنَا فِي حكم الزَّكَاة
فِي مَال الصَّبِي إِن الأَصْل عدم الْوُجُوب فيستصحبه حَتَّى
يقوم دَلِيل الْوُجُوب وَفِي الإستئناف أَن وجوب الحقتين فِي
مائَة وَعشْرين ثَابت بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع فَيجب استصحابه
حَتَّى يقوم الدَّلِيل المغير وَهَذَا النَّوْع من التَّعْلِيل
بَاطِل فَإِن ثُبُوت الْعَدَم وَإِن كَانَ بِدَلِيل معدم
فَذَلِك لَا يُوجب
(2/223)
بَقَاء الْعَدَم كَمَا أَن الدَّلِيل
الموجد للشَّيْء لَا يكون دَلِيل بَقَائِهِ مَوْجُودا
فَكَذَلِك الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم لَا يكون دَلِيل
بَقَائِهِ ثَابتا أَلا ترى أَن عدم الشِّرَاء لَا يمْنَع وجود
الشِّرَاء فِي الْمُسْتَقْبل وَالشِّرَاء الْمُوجب للْملك لَا
يمْنَع انعدام الْملك بدليله فِي الْمُسْتَقْبل وَلَكِن
الْبَقَاء بعد الْوُجُود لاستغنائه عَن الدَّلِيل لَا لِأَن
الدَّلِيل الْمُثبت لَهُ مُوجب لبَقَائه كَمَا أَن ثُبُوت
الْحَيَاة بِسَبَبِهِ لَا يكون دَلِيل بَقَاء الْحَيَاة
يُوضحهُ أَن بعد ثُبُوت حكم هُوَ نفي إيجاده يَسْتَدْعِي
دَلِيلا فَمن ادّعى وجوده احْتَاجَ إِلَى إثْبَاته على خَصمه
بِدَلِيل
وَكَذَلِكَ من ادّعى بَقَاءَهُ منفيا فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى
إثْبَاته بدليله على الْخصم إِذْ الدَّلِيل الأول غير مُوجب
لذَلِك فَلَيْسَ أَحدهمَا بالاحتجاج على صَاحبه لعدم قيام
الدَّلِيل بِأولى من الآخر وَمَا كَانَ الْبَقَاء فِيمَا
يحْتَمل الْبَقَاء بعد الْوُجُود إِلَّا نَظِير الْوُجُود فِي
الْأَعْرَاض الَّتِي لَا تبقى وَقْتَيْنِ فَإِن وجود شَيْء
مِنْهُ بِدَلِيل لَا يكون دَلِيل وجود مثله فِي الْوَقْت
الثَّانِي
وَبَيَان هَذَا فِي الْبَعِير الزَّائِد على الْمِائَة
وَالْعِشْرين فَإِن عِنْد الْخصم يَنْتَهِي بِهِ عَفْو الحقتين
فَيتم بِهِ نِصَاب ثَلَاث بَنَات لبون
وَعِنْدنَا هُوَ ابْتِدَاء الْعَفو لنصاب آخر وَلَيْسَ فِي
إِيجَاب الحقتين فِي مائَة وَعشْرين مَا يدل على وَاحِد من
الْأَمريْنِ فَكَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ لإِيجَاب الحقتين بعد
هَذِه الزِّيَادَة عِنْد كَمَال الْحول يكون احتجاجا بِلَا
دَلِيل
ثمَّ اسْتِصْحَاب الْحَال يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا
اسْتِصْحَاب حكم الْحَال مَعَ الْعلم يَقِينا بانعدام
الدَّلِيل المغير وَذَلِكَ بطرِيق الْخَبَر عَمَّن ينزل
عَلَيْهِ الْوَحْي أَو بطرِيق الْحس فِيمَا يعرف بِهِ وَهَذَا
صَحِيح قد علمنَا الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {قل
لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة وَهَذَا
لِأَنَّهُ لما علم يَقِينا بانعدام الدَّلِيل المغير وَقد
كَانَ الحكم ثَابتا بدليله وبقاؤه يَسْتَغْنِي عَن الدَّلِيل
فقد علم بَقَاؤُهُ ضَرُورَة
وَالثَّانِي اسْتِصْحَاب حكم الْحَال بعد دَلِيل مغير ثَابت
بطرِيق النّظر
(2/224)
وَالِاجْتِهَاد بِقدر الوسع وَهَذَا يصلح
لإبلاء الْعذر وللدفع وَلَا يصلح للاحتجاج بِهِ على غَيره
لِأَن المتأمل وَإِن بَالغ فِي النّظر فالخصم يَقُول قَامَ
الدَّلِيل عِنْدِي بِخِلَافِهِ وبالتأمل وَالِاجْتِهَاد لَا
يبلغ الْمَرْء دَرَجَة يعلم بهَا يَقِينا أَنه لم يخف عَلَيْهِ
شَيْء من الْأَدِلَّة بل يبْقى لَهُ احْتِمَال اشْتِبَاه بعض
الْأَدِلَّة عَلَيْهِ وَمَا كَانَ فِي نَفسه مُحْتملا عِنْده
لَا يُمكنهُ أَن يحْتَج بِهِ على غَيره
وَالثَّالِث اسْتِصْحَاب حكم الْحَال قبل التَّأَمُّل
وَالِاجْتِهَاد فِي طلب الدَّلِيل المغير وَهَذَا جهل لِأَن
قبل الطّلب لَا يحصل لَهُ شَيْء من الْعلم بِانْتِفَاء
الدَّلِيل المغير ظَاهرا وَلَا بَاطِنا وَلكنه يجهل ذَلِك
بتقصير مِنْهُ فِي الطّلب وجهله لَا يكون حجَّة على غَيره
وَلَا عذرا فِي حَقه أَيْضا إِذا كَانَ مُتَمَكنًا من الطّلب
إِلَّا أَن لَا يكون مُتَمَكنًا مِنْهُ
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا أسلم الذِّمِّيّ فِي دَار
الْإِسْلَام وَلم يعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى
مضى عَلَيْهِ زمَان فَعَلَيهِ قَضَاء مَا ترك بِخِلَاف
الْحَرْبِيّ إِذا أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم يعلم بِوُجُوب
الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى مضى زمَان
وعَلى هَذَا قُلْنَا من لم يجْتَهد بعد الِاشْتِبَاه فِي أَمر
الْقبْلَة حَتَّى صلى إِلَى جِهَة فَإِنَّهُ لَا تجزيه صلَاته
مَا لم يعلم أَنه أصَاب بِخِلَاف مَا إِذا اجْتهد وَصلى إِلَى
جِهَة فَإِنَّهُ تجزيه صلَاته وَإِن تبين أَنه أَخطَأ
وَالنَّوْع الرَّابِع اسْتِصْحَاب الْحَال (لإِثْبَات الحكم
ابْتِدَاء وَهَذَا خطأ مَحْض وَهُوَ ضلال مَحْض مِمَّن يتعمده
لِأَن اسْتِصْحَاب الْحَال) كاسمه وَهُوَ التَّمَسُّك بالحكم
الَّذِي كَانَ ثَابتا إِلَى أَن يقوم الدَّلِيل المزيل وَفِي
إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء لَا يُوجد هَذَا الْمَعْنى وَلَا عمل
لاستصحاب الْحَال فِيهِ صُورَة وَلَا معنى وَقد بَينا فِي
مَسْأَلَة الْمَفْقُود أَن الْحَيَاة الْمَعْلُومَة باستصحاب
الْحَال يكون حجَّة فِي إبْقَاء ملكه فِي مَاله على مَا كَانَ
وَلَا يكون حجَّة فِي إِثْبَات الْملك لَهُ ابْتِدَاء فِي مَال
قَرِيبه إِذا مَاتَ
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يجعلونه حجَّة فِي ذَلِك لَا
بِاعْتِبَار أَنهم يجوزون إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء باستصحاب
الْحَال بل بِاعْتِبَار أَنه يبْقى للْوَارِث
(2/225)
الْملك الَّذِي كَانَ للمورث فَإِن الوراثة
خلَافَة وَقد بَينا أَن عِنْده اسْتِصْحَاب الْحَال فِيمَا
يرجع إِلَى الْإِبْقَاء حجَّة على الْغَيْر
وَلَكنَّا نقُول هَذَا الْبَقَاء فِي حق الْمُورث فَأَما فِي
حق الْوَارِث فصفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ ابْتِدَاء
واستصحاب الْحَال لَا يكون حجَّة فِيهِ بِوَجْه
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا
ادّعى عينا فِي يَد إِنْسَان أَنه لَهُ مِيرَاث من أَبِيه
وَأقَام الشَّاهِدين فشهدا أَن هَذَا كَانَ لِأَبِيهِ لم تقبل
هَذِه الشَّهَادَة
وَفِي قَول أبي يُوسُف الآخر تقبل لِأَن الوراثة خلَافَة
فَإِنَّمَا يبْقى للْوَارِث الْملك الَّذِي كَانَ للمورث
وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيصير مغرورا فِيمَا اشْتَرَاهُ
الْمُورث وَمَا ثَبت فَهُوَ بَاقٍ لاستغناء الْبَقَاء عَن
دَلِيل
وهما يَقُولَانِ فِي حق الْوَارِث هَذَا فِي معنى ابْتِدَاء
التَّمَلُّك لِأَن صفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ فِي هَذَا
المَال بعد أَن لم يكن مَالِكًا وَإِنَّمَا يكون الْبَقَاء فِي
حق الْمُورث أَن لَو حضر بِنَفسِهِ يَدعِي أَن الْعين ملكه
فَلَا جرم إِذا شهد الشَّاهِدَانِ أَنه كَانَ لَهُ كَانَت
شَهَادَة مَقْبُولَة كَمَا إِذا شَهدا أَنه لَهُ فَأَما إِذا
كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْوَارِث وَصفَة الْمَالِكِيَّة
للْوَارِث تثبت ابْتِدَاء بعد موت الْمُورث فَهَذِهِ
الشَّهَادَة لَا تكون حجَّة للْقَضَاء بِالْملكِ لَهُ لِأَن
طَرِيق الْقَضَاء بهَا اسْتِصْحَاب الْحَال وَذَلِكَ غير
صَحِيح
فصل
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاسْتِدْلَال بتعارض الْأَشْبَاه
وَذَلِكَ نَحْو احتجاج زفر رَحمَه الله فِي أَنه لَا يجب غسل
الْمرَافِق فِي الْوضُوء لِأَن من الغايات مَا يدْخل وَمِنْهَا
مَا لَا يدْخل فَمَعَ الشَّك لَا تثبت فَرضِيَّة الْغسْل
فِيمَا هُوَ غَايَة بِالنَّصِّ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة
احتجاج بِلَا دَلِيل لإِثْبَات حكم فَإِن الشَّك الَّذِي
يَدعِيهِ أَمر حَادث فَلَا يثبت حُدُوثه إِلَّا بِدَلِيل
فَإِن قَالَ دَلِيله تعَارض الْأَشْبَاه
قُلْنَا وتعارض الْأَشْبَاه أَيْضا حَادث فَلَا يثبت إِلَّا
بِالدَّلِيلِ
فَإِن قَالَ الدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أعده من الغايات مِمَّا
يدْخل بِالْإِجْمَاع وَمَا لَا يدْخل بِالْإِجْمَاع
قُلْنَا وَهل تعلم أَن هَذَا الْمُتَنَازع فِيهِ من أحد
النَّوْعَيْنِ بِدَلِيل فَإِن قَالَ أعلم ذَلِك
قُلْنَا فَإِذن عَلَيْك أَن لَا تشك فِيهِ بل
(2/226)
تلْحقهُ بِمَا هُوَ من نَوعه بدليله
وَإِن قَالَ لَا أعلم ذَلِك
قُلْنَا قد اعْترفت بِالْجَهْلِ فَإِن كَانَ هَذَا مِمَّا
يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالطَّلَبِ فَإِنَّمَا جهلته عَن
تَقْصِير مِنْك فِي طلبه وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة أصلا وَإِن
كَانَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بعد الطّلب كنت
مَعْذُورًا فِي الْوُقُوف فِيهِ وَلَكِن هَذَا الْعذر لَا يصير
حجَّة لَك على غَيْرك مِمَّن يزْعم أَنه قد ظهر عِنْده دَلِيل
إِلْحَاقه بِأحد النَّوْعَيْنِ فَعرفنَا أَن حَاصِل كَلَامه
احتجاج بِلَا دَلِيل
فصل
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاحْتِجَاج بالاطراد على صِحَة
الْعلَّة إِمَّا وجودا أَو وجودا وعدما فَإِنَّهُ احتجاج بِلَا
دَلِيل فِي الْحَقِيقَة وَمن حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ احتجاج
بِكَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وَقد بَينا أَن كَثْرَة أَدَاء
الشَّهَادَة وتكرارها من الشَّاهِد لَا يكون دَلِيل صِحَة
شَهَادَته
ثمَّ الاطراد عبارَة عَن سَلامَة الْوَصْف عَن النقوض والعوارض
والناظر وَإِن بَالغ فِي الِاجْتِهَاد بِالْعرضِ على الْأُصُول
الْمَعْلُومَة عِنْده فالخصم لَا يعجز من أَن يَقُول عِنْدِي
أصل آخر هُوَ مُنَاقض لهَذَا الْوَصْف أَو معَارض فجهلك بِهِ
لَا يكون حجَّة لَك عَليّ فَتبين من هَذَا الْوَجْه أَنه
احتجاج بِلَا دَلِيل وَلكنه فَوق مَا تقدم فِي الِاحْتِجَاج
بِهِ من حَيْثُ الظَّاهِر لِأَن من حَيْثُ الظَّاهِر الْوَصْف
صَالح وَيحْتَمل أَن يكون حجَّة للْحكم إِذا ظهر أَثَره عِنْد
التَّأَمُّل وَلَكِن لكَونه فِي الْحَقِيقَة اسْتِدْلَالا على
صِحَّته بِعَدَمِ النقوض والعوارض لم يصلح أَن يكون حجَّة
لإِثْبَات الحكم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن النُّصُوص بعد ثُبُوتهَا يجب الْعَمَل
بهَا وَاحْتِمَال وُرُود النَّاسِخ لَا يُمكن شُبْهَة فِي
الِاحْتِجَاج بهَا قبل أَن يظْهر النَّاسِخ فَكَذَلِك مَا تقدم
قُلْنَا أما بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي كل نَص كَانَ حكمه ثَابتا عِنْد
وَفَاته فَأَما فِي حَال حَيَاته فَهَكَذَا نقُول إِن
الِاحْتِجَاج بِهِ لإِثْبَات الحكم ابْتِدَاء صَحِيح فَأَما
لإبقاء الحكم أَو لنفي النَّاسِخ لَا يكون صَحِيحا لِأَن
احْتِمَال بَقَاء الحكم وَاحْتِمَال قيام دَلِيل النّسخ فِيهِ
كَانَ بِصفة وَاحِدَة وَقد قَررنَا هَذَا فِي بَاب النّسخ
(2/227)
ثمَّ الطرديات الْفَاسِدَة أَنْوَاع
مِنْهَا مَا لَا يشكل فَسَاده على أحد
وَمِنْهَا مَا يكون (بِزِيَادَة وصف فِي الأَصْل بِهِ يَقع
الْفرق
وَمِنْهَا مَا يكون) بِوَصْف مُخْتَلف فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا
وَمِنْهَا مَا يكون اسْتِدْلَالا بِالنَّفْيِ والعدم
وَبَيَان النَّوْع الأول فِيمَا علل بِهِ بعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي لكَون قِرَاءَة الْفَاتِحَة ركنا فِي الصَّلَاة
لِأَنَّهَا عبَادَة ذَات أَرْكَان لَهَا تَحْلِيل وَتَحْرِيم
فَكَانَ من أَرْكَان مَا لَهُ عدد السَّبع كَالْحَجِّ فِي حق
الطّواف وَرُبمَا يَقُولُونَ الثَّلَاث أحد عددي مُدَّة
الْمسْح فَلَا يتَأَدَّى بِهِ فرض الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة
كالواحد وَمَا دون الثَّلَاث قَاصِر عَن السَّبع فَلَا
يتَأَدَّى بِهِ فرض الْقِرَاءَة كَمَا دون الْآيَة
وَنَحْو مَا يحْكى عَن بَعضهم فِي أَن الرّجْعَة لَا تحصل
بِالْفِعْلِ لِأَن الْوَطْء فعل ينْطَلق مرّة وَيتَعَلَّق
أُخْرَى فَلَا تثبت بِهِ الرّجْعَة كَالْقَتْلِ
وَنَحْو مَا يحْكى عَن بعض أَصْحَابنَا فِي الْوضُوء بِغَيْر
النِّيَّة أَن هَذَا حكم مُتَعَلق بأعضاء الطَّهَارَة فَلَا
تشْتَرط النِّيَّة فِي إِقَامَته كالقطع فِي السّرقَة
وَالْقصاص
هَذَا النَّوْع مِمَّا لَا يخفى فَسَاده على أحد وَلم ينْقل من
هَذَا الْجِنْس شَيْء عَن السّلف إِنَّمَا أحدثه بعض
الْجُهَّال مِمَّن كَانَ بَعيدا من طَرِيق الْفُقَهَاء فَأَما
علل السّلف مَا كَانَت تَخْلُو عَن الملاءمة أَو التَّأْثِير
وَلِهَذَا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يتَأَمَّل مُدَّة فَلَا يقف
فِي حَادِثَة إِلَّا على قِيَاس أَو قياسين وَالْوَاحد من
الْمُتَأَخِّرين رُبمَا يتَمَكَّن فِي مجْلِس وَاحِد من أَن
يذكر فِي حَادِثَة خمسين عِلّة من هَذَا النَّحْو أَو أَكثر
وَلَا مشابهة بَين غسل الْأَعْضَاء فِي الطَّهَارَة وَبَين
الْقطع فِي السّرقَة وَلَا بَين مُدَّة الْمسْح وَالْقِرَاءَة
فِي الصَّلَاة وَلَا بَين الطّواف بِالْبَيْتِ وَقِرَاءَة
الْفَاتِحَة فَعرفنَا أَن هَذَا النَّوْع مِمَّا لَا يخفى
فَسَاده
وَأما مَا يكون بِزِيَادَة وصف فنحو تَعْلِيل بعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي فِي مس الذّكر إِنَّه حدث لِأَنَّهُ مس الْفرج
فينتقض الْوضُوء بِهِ كَمَا لَو مَسّه عِنْد الْبَوْل فَإِن
هَذَا الْقيَاس لَا يَسْتَقِيم إِلَّا بِزِيَادَة وصف فِي
الأَصْل وَبِذَلِك
(2/228)
الْوَصْف يثبت الْفرق بَين الْفَرْع
وَالْأَصْل وَيثبت الحكم بِهِ فِي الأَصْل
وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي إِعْتَاق الْمكَاتب عَن الْكَفَّارَة
إِنَّه تَكْفِير بتحرير الْمكَاتب فَلَا يجوز كَمَا لَو أدّى
بعض بدل الْكِتَابَة ثمَّ أعْتقهُ لِأَن استقامة هَذَا
الْقيَاس بِزِيَادَة وصف فِي الأَصْل بِهِ يَقع الْفرق وَهُوَ
أَن الْمُسْتَوْفى من الْبَدَل يكون عوضا والتكفير لَا يجوز
بِالْإِعْتَاقِ بعوض
وَنَحْو مَا علل بَعضهم فِي شِرَاء الْأَب بنية الْكَفَّارَة
إِنَّه تَكْفِير بتحرير أَبِيه فَلَا يجوز كَمَا لَو كَانَ حلف
بِعِتْقِهِ إِن ملكه فَإِن استقامة هَذَا التَّعْلِيل
بِزِيَادَة وصف بِهِ يَقع الْفرق من حَيْثُ إِن الْمَحْلُوف
بِعِتْقِهِ إِذا عتق عِنْد وجود الشَّرْط لَا يصير مكفرا بِهِ
وَإِن نَوَاه عِنْد ذَلِك أَبَا كَانَ أَو أَجْنَبِيّا
وَالنَّوْع الثَّالِث نَحْو مَا يُعلل بِهِ بعض أَصْحَاب
الشَّافِعِي فِي أَن الْأَخ لَا يعْتق على أَخِيه إِذا ملكه
قَالَ عتق الْأَخ تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة فَلَا يثبت
بِمُجَرَّد الْملك كعتق ابْن الْعم
وَهَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُخْتَلف فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا
فَإِن عندنَا عتق الْقَرِيب وَإِن كَانَ مُسْتَحقّا عِنْد وجود
الْملك تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة حَتَّى قُلْنَا إِذا اشْترى
أَبَاهُ بنية الْكَفَّارَة يجوز خلافًا للشَّافِعِيّ رَحمَه
الله
وَنَحْو مَا علل بِهِ بَعضهم فِي الْكتاب الْحَالة أَنَّهَا
لَا تمنع جَوَاز التَّكْفِير بتحريره فَتكون فَاسِدَة كالكتابة
على الْقيمَة فَإِن هَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُخْتَلف فِيهِ
اخْتِلَافا ظَاهرا لِأَن التَّكْفِير بِإِعْتَاق الْمكَاتب
كِتَابَة صَحِيحَة جَائِزَة عندنَا وَرُبمَا يكون هَذَا
الِاخْتِلَاف فِي الأَصْل نَحْو مَا يُعلل بِهِ بعض
أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْإِفْطَار بِالْأَكْلِ وَالشرب
إِنَّه إفطار بالمطعوم فَلَا يُوجب الْكَفَّارَة كَمَا لَو
كَانَ فِي يَوْم أبْصر الْهلَال وَحده ورد الإِمَام شَهَادَته
وَأما النَّوْع الرَّابِع فنحو تَعْلِيل الشَّافِعِي فِي
النِّكَاح إِنَّه لَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ
الرِّجَال لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال وَفِي الْأَخ لَا يعْتق على
أَخِيه لِأَنَّهُ لَيْسَ
(2/229)
بَينهمَا بعضية وَفِي المبتوتة إِنَّه لَا
يلْحقهَا الطَّلَاق لِأَنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا نِكَاح وَفِي
إِسْلَام الْمَرْوِيّ بالمروي إِنَّه يجوز لِأَنَّهُ لم يجمع
الْبَدَلَيْنِ الطّعْم والثمنية وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ
اسْتِدْلَال بِعَدَمِ وصف والعدم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا
حكما وَقد بَينا أَن الْعَدَم الثَّابِت بِدَلِيل لَا يكون
بَقَاؤُهُ ثَابتا بِدَلِيل فَكيف يسْتَدلّ بِهِ لإِثْبَات حكم
آخر
فَإِن قيل مثل هَذَا التَّعْلِيل كثير فِي كتبكم
قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله ملك النِّكَاح لَا يضمن
بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال والزوائد لَا تضمن
بِالْغَصْبِ لِأَنَّهُ لم يغصب الْوَلَد
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْعقار لَا يضمن
بِالْغَصْبِ لِأَنَّهُ لم يَنْقُلهُ وَلم يحوله
وَقَالَ فِيمَا لَا يجب فِيهِ الْخمس لِأَنَّهُ لم يوجف
عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ
وَقَالَ فِي تنَاول الْحَصَاة لَا تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ
لَيْسَ بمطعوم
وَقَالَ فِي الْجد لَا يُؤَدِّي صَدَقَة الْفطر عَن
النَّافِلَة لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِك
فَهَذَا اسْتِدْلَال بِعَدَمِ وصف أَو حكم
قُلْنَا أَولا هَذَا عندنَا غير مَذْكُور على وَجه المقايسة بل
على وَجه الِاسْتِدْلَال فِيمَا كَانَ سَببه وَاحِدًا معينا
بِالْإِجْمَاع نَحْو الْغَصْب فَإِن ضَمَان الْغَصْب سَببه
وَاحِد عين وَهُوَ الْغَصْب فالاستدلال بِانْتِفَاء الْغَصْب
على انْتِفَاء الضَّمَان يكون اسْتِدْلَالا بِالْإِجْمَاع
وَكَذَلِكَ وجوب ضَمَان المَال بِسَبَب يَسْتَدْعِي
الْمُمَاثلَة بِالنَّصِّ وَله سَبَب وَاحِد عين وَهُوَ
إِتْلَاف المَال فيستقيم الِاسْتِدْلَال بِانْتِفَاء
الْمَالِيَّة فِي الْمحل على انْتِفَاء هَذَا النَّوْع من
الضَّمَان وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ دَلِيل الحكم مَعْلُوما فِي
الشَّرْع بِالْإِجْمَاع نَحْو الْخمس فَإِنَّهُ وَاجِب فِي
الْغَنِيمَة لَا غير وَطَرِيق الاغتنام الايجاف عَلَيْهِ
بِالْخَيْلِ والركاب فالاستدلال بِهِ لنفي الْخمس يكون
اسْتِدْلَالا صَحِيحا وَقد بَينا أَنه إبلاء الْعذر فِي بعض
الْمَوَاضِع لَا الِاحْتِجَاج بِهِ على الْخصم
فَأَما تَعْلِيل النِّكَاح بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال فَلَا يثبت
بِشَهَادَة
(2/230)
النِّسَاء مَعَ الرِّجَال يكون تعليلا
بِعَدَمِ الْوَصْف وَعدم الْوَصْف لَا يعْدم الحكم لجَوَاز أَن
يكون الحكم ثَابتا بِاعْتِبَار وصف آخر لِأَنَّهُ وَإِن لم يكن
مَالا فَهُوَ من جنس مَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات وَالْأَصْل
الْمُتَّفق عَلَيْهِ الْحُدُود وَالْقصاص وَبِهَذَا الْوَصْف
لَا يصير النِّكَاح بِمَنْزِلَة الْحُدُود وَالْقصاص حَتَّى
يثبت مَعَ الشُّبُهَات بِخِلَاف الْحُدُود وَالْقصاص فَعرفنَا
أَن بِعَدَمِ هَذَا الْوَصْف لَا يَنْعَدِم وصف آخر يصلح
التَّعْلِيل بِهِ لإثباته بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال
وَكَذَلِكَ مَا علل بِهِ من أَخَوَات هَذَا الْفَصْل فَهُوَ
يخرج على هَذَا الْحَرْف إِذا تَأَمَّلت
فصل
وَمن هَذَا النَّوْع الِاحْتِجَاج بِأَن الْأَوْصَاف محصورة
عِنْد القائسين
فَإِذا قَامَت الدّلَالَة على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف
إِلَّا وَصفا وَاحِدًا تثبت بِهِ صِحَة ذَلِك الْوَصْف وَيكون
حجَّة
هَذَا طَرِيق بعض أَصْحَاب الطَّرْد
وَقد جوز الْجَصَّاص رَحمَه الله تَصْحِيح الْوَصْف
لِلْعِلَّةِ بِهَذَا الطَّرِيق
قَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله وَقد كَانَ بعض أصدقائي عَظِيم
الْجد فِي تَصْحِيح هَذَا الْكَلَام بعلة أَن الْأَوْصَاف لما
كَانَت محصورة وجميعها لَيست بعلة للْحكم بل الْعلَّة وصف
مِنْهَا فَإِذا قَامَ الدَّلِيل على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف
سوى وَاحِد مِنْهَا ثَبت صِحَة ذَلِك الْوَصْف بِدَلِيل
الْإِجْمَاع كأصل الحكم فَإِن الْعلمَاء إِذا اخْتلفُوا فِي
حكم حَادِثَة على أقاويل فَإِذا ثَبت بِالدَّلِيلِ فَسَاد
سَائِر الْأَقَاوِيل إِلَّا وَاحِدًا ثَبت صِحَة ذَلِك القَوْل
وَذَلِكَ نَحْو اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي جَارِيَة بَين
رجلَيْنِ جَاءَت بِولد فادعياه فَإنَّا إِذا أفسدنا قَول من
يَقُول بِالرُّجُوعِ إِلَى قَول الْقَائِف وَقَول من يَقُول
بِالْقُرْعَةِ وَقَول من يَقُول بالتوقف إِنَّه لَا يثبت
النّسَب من وَاحِد مِنْهُمَا يثبت بِهِ صِحَة قَول من يَقُول
بِأَنَّهُ يثبت النّسَب مِنْهُمَا جَمِيعًا
وَإِذا قَالَ لنسائه الْأَرْبَعَة إحداكن طَالِق ثَلَاثًا
ووطىء ثَلَاثًا مِنْهُنَّ حَتَّى يكون ذَلِك دَلِيلا على
انْتِفَاء الْمُحرمَة عَنْهُن تعين بهَا الرَّابِعَة مُحرمَة
فَكَانَ تقرب هَذَا من الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة
قَالَ الشَّيْخ وَعِنْدِي أَن هَذَا غلط لَا نجوز القَوْل بِهِ
وَهُوَ مَعَ ذَلِك نوع من الِاحْتِجَاج بِالدَّلِيلِ
أما بَيَان الْغَلَط فِيهِ وَهُوَ أَن مَا يَجعله هَذَا
الْقَائِل دَلِيل صِحَة علته هُوَ الدَّلِيل على فَسَاده
لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ سلوك هَذَا الطَّرِيق إِلَّا بعد قَوْله
بالمساواة بَين الْأَوْصَاف فِي أَن كل وصف مِنْهَا صَالح أَن
يكون عِلّة للْحكم وَبعد ثُبُوت هَذِه الْمُسَاوَاة فالدليل
الَّذِي يدل على فَسَاد بَعْضهَا هُوَ الدَّلِيل على فَسَاد
مَا بَقِي مِنْهَا لِأَنَّهُ مَتى علم الْمُسَاوَاة بَين
شَيْئَيْنِ فِي الحكم ثمَّ ظهر لأَحَدهمَا حكم بِالدَّلِيلِ
فَذَلِك الدَّلِيل يُوجب مثل
(2/231)
ذَلِك الحكم فِي الآخر كمن يَقُول لغيره
اجْعَل زيدا وعمرا فِي الْعَطِيَّة سَوَاء ثمَّ يَقُول أعْط
زيدا درهما يكون ذَلِك تنصيصا على أَنه يُعْطي عمرا أَيْضا
درهما فَعرفنَا أَنه لَا وَجه للتحرز عَن هَذَا الْفساد إِلَّا
بِبَيَان تفَاوت بَين هَذَا الْوَصْف وَبَين سَائِر
الْأَوْصَاف فِي كَونه عِلّة للْحكم وَذَلِكَ التَّفَاوُت لَا
يتَبَيَّن إِلَّا بِبَيَان التَّأْثِير أَو الملاءمة فيضطر
إِلَى بَيَانه شَاءَ أَو أَبى ثمَّ وَإِن قَامَ الدَّلِيل على
فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف على وَجه لَا عمل لذَلِك الدَّلِيل
فِي إِفْسَاد هَذَا الْوَصْف الْوَاحِد فَنحْن نتيقن أَن ذَلِك
الدَّلِيل كَمَا لَا يُوجب فَسَاد هَذَا الْوَصْف لَا يُوجب
صِحَّته فَلَا يبْقى على تَصْحِيح هَذَا الْوَصْف دَلِيلا سوى
أَنه لم يقم الدَّلِيل على فَسَاده وَلَو جَازَ إِثْبَات
الْوَصْف مُوجبا للْحكم بِهَذَا الطَّرِيق لجَاز إِثْبَات
الحكم بِدُونِ هَذَا الْوَصْف بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ أَن
يَقُول حكم الْحَادِثَة كَذَا لِأَنَّهُ لم يقم الدَّلِيل على
فَسَاد هَذَا الحكم وَمَا قَالَه من الِاسْتِدْلَال بالحكم
فَهُوَ وهم لِأَن بإفساد مَذْهَب الْخصم لَا يثبت صِحَة
مَذْهَب الْمُدَّعِي للْحكم بِوَجْه من الْوُجُوه وَكَيف يثبت
ذَلِك والمبطل دَافع وَالْمُدَّعِي للْحكم مُثبت وَحجَّة
الدّفع غير حجَّة الْإِثْبَات
ثمَّ الدَّلِيل على أَن بِقِيَام دَلِيل الْفساد فِي سَائِر
الْأَوْصَاف لَا تثبت صِحَة الْوَصْف الَّذِي ادَّعَاهُ
الْمُعَلل فِي الشرعيات أَن من أَحْكَام الشَّرْع مَا هُوَ غير
مَعْلُول أصلا بل الحكم فِيهِ ثَابت بِالنَّصِّ فبقيام
الدَّلِيل على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف لَا يَنْعَدِم
احْتِمَال قيام الدَّلِيل على فَسَاد هَذَا الْوَصْف حَقِيقَة
وَلَا حكما من هَذَا الْوَجْه لجَوَاز أَن يكون هَذَا النَّص
غير مَعْلُول أصلا وَبِه فَارق العقليات ثمَّ احْتِمَال
الصِّحَّة وَالْفساد فِي هَذَا الْوَصْف بِالْإِجْمَاع كَانَ
مَانِعا من جعله حجَّة لإِثْبَات الحكم قبل قيام الدَّلِيل على
فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف فَكَذَلِك بعده لِأَن احْتِمَال
تعينه قَائِم
بَاب وُجُوه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل
قَالَ رَضِي الله عَنهُ الْعِلَل نَوْعَانِ طردية ومؤثرة
والاعتراض على كل نوع من وَجْهَيْن فَاسد وصحيح
فالاعتراضات الْفَاسِدَة على الْعِلَل المؤثرة أَرْبَعَة
المناقضة وَفَسَاد الْوَضع وَوُجُود الحكم مَعَ عدم الْعلَّة
والمفارقة بَين
(2/232)
الأَصْل وَالْفرع
والصحيحة أَرْبَعَة الممانعة ثمَّ الْقلب الْمُبْطل ثمَّ
الْعَكْس الكاسر ثمَّ الْمُعَارضَة بعلة أُخْرَى
فَأَما المناقضة فَإِنَّهَا لَا ترد على الْعِلَل المؤثرة
لِأَن التَّأْثِير لَا يتَبَيَّن إِلَّا بِدَلِيل الْكتاب أَو
السّنة أَو الْإِجْمَاع
وَهَذِه الْأَدِلَّة لَا تتناقض فَإِن أَحْكَام الشَّرْع
عَلَيْهَا تَدور وَلَا تنَاقض فِي أَحْكَام الشَّرْع وَقد
بَينا أَنه لَا تُوجد الْعلَّة بِدُونِ الحكم على الْوَجْه
الَّذِي ظهر أَثَرهَا فِي الحكم بل لَا بُد أَن يَنْعَدِم
الحكم لتغير وصف بِنُقْصَان أَو زِيَادَة وَبِه تتبدل الْعلَّة
فتنعدم الْعلَّة المؤثرة الَّتِي أثبت الْمُعَلل الحكم بهَا
وانعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة لَا يكون دَلِيل
انْتِقَاض الْعلَّة
وَهُوَ نَظِير الشَّاهِد فَإِنَّهُ مَعَ استجماع شَرَائِط
الْأَدَاء إِذا ترك لَفْظَة الشَّهَادَة أَو زَاد عَلَيْهَا
فَقَالَ فِيمَا أعلم فَإِنَّهُ لَا يجوز الْعَمَل
بِشَهَادَتِهِ وَكَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار انعدام الْعلَّة
الْمُوجبَة للْعَمَل بِشَهَادَتِهِ معنى
وَبَيَان هَذَا أَنا إِذا عللنا فِي تكْرَار الْمسْح
بِالرَّأْسِ أَنه مسح مَشْرُوع فِي الطَّهَارَة فَلَا يستن
تثليثه كالمسح بالخف لَا يدْخل الِاسْتِنْجَاء بالأحجار نقضا
لِأَن الْمسْح هُنَاكَ غير مَشْرُوع فِي الطَّهَارَة إِنَّمَا
الْمَشْرُوع إِزَالَة النَّجَاسَة العينية حَتَّى لَو تصور
خُرُوج الْحَدث من غير أَن يَتَنَجَّس شَيْء مِمَّا هُوَ
طَاهِر لم يجب الْمسْح أصلا وَإِزَالَة النَّجَاسَة غير
الْمسْح وَهُوَ لَا يحصل بالمرة إِلَّا نَادرا فَعرفنَا أَن
انعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة
وَأما فَسَاد الْوَضع فَهُوَ اعْتِرَاض فَاسد على الْعلَّة
المؤثرة لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا يُمكن تصحيحها فَإِن تَأْثِير
الْعلَّة إِنَّمَا يثبت بِدَلِيل مُوجب للْحكم كَمَا بَينا
وَمَعْلُوم أَنه لَا يجوز دَعْوَى فَسَاد الْوَضع فِي الْكتاب
وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
وَأما وجود الحكم مَعَ عدم الْعلَّة فَإِن الحكم يجوز أَن يكون
ثَابتا بعلة أُخْرَى لِأَن ثُبُوته بعلة لَا يُنَافِي كَونه
ثَابتا بعلة أُخْرَى أَلا ترى أَن الحكم يجوز أَن يثبت
بِشَهَادَة الشَّاهِدين وَيجوز أَن يثبت بِشَهَادَة أَرْبَعَة
حَتَّى إِذا رَجَعَ اثْنَان قبل الْقَضَاء يبْقى الْقَضَاء
وَاجِبا بِشَهَادَة الباقيين
وَكَذَلِكَ يجوز أَن يكون الأَصْل معلولا بعلتين يتَعَدَّى
الحكم بِإِحْدَاهُمَا إِلَى فروع
(2/233)
وبالأخرى إِلَى فروع أخر فَلَا يكون انعدام
الْعلَّة مَعَ بَقَاء الحكم فِي مَوضِع ثَابتا بِالْعِلَّةِ
الْأُخْرَى دَلِيل فَسَاد الْعلَّة
فَأَما الْمُفَارقَة فَمن النَّاس من ظن أَنَّهَا مفاقهة
ولعمري الْمُفَارقَة مفاقهة وَلَكِن فِي غير هَذَا الْموضع
فَأَما على وَجه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل المؤثرة تكون
مجادلة لَا فَائِدَة فِيهَا فِي مَوضِع النزاع
وَبَيَان هَذَا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن شَرط صِحَة
الْقيَاس لتعدية الحكم إِلَى الْفُرُوع تَعْلِيل الأَصْل
بِبَعْض أَوْصَافه لَا بِجَمِيعِ أَوْصَافه وَقد بَينا أَنه
مَتى كَانَ التَّعْلِيل بِجَمِيعِ أَوْصَاف الأَصْل لَا يكون
مقايسة فبيان الْمُفَارقَة بَين الأَصْل وَالْفرع بِذكر وصف
آخر لَا يُوجد ذَلِك فِي الْفَرْع وَيرجع إِلَى بَيَان صِحَة
المقايسة فَأَما أَن يكون ذَلِك اعتراضا على الْعلَّة فَلَا
ثمَّ ذكر وصف آخر فِي الأَصْل يكون ابْتِدَاء دَعْوَى والسائل
جَاهِل مسترشد فِي موقف الْمُنكر إِلَى أَن تتبين لَهُ
الْحجَّة لَا فِي مَوضِع الدَّعْوَى وَإِن اشْتغل بِإِثْبَات
دَعْوَاهُ فَذَلِك لَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم
الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم فِي
الأَصْل وَهُوَ مفروغ عَنهُ وَلَا يتَّصل مَا يُثبتهُ بالفرع
إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه يَنْعَدِم ذَلِك الْمَعْنى فِي
الْفَرْع وبالعدم لَا يثبت الِاتِّصَال وَقد بَينا أَن
الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا فَكَانَ هَذَا
مِنْهُ اشتغالا بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ
وَالثَّالِث مَا بَينا أَن الحكم فِي الأَصْل يجوز أَن يكون
معلولا بعلتين ثمَّ يتَعَدَّى الحكم إِلَى بعض الْفُرُوع
بِإِحْدَى العلتين دون الْأُخْرَى فَبَان انعدام فِي الْفَرْع
الْوَصْف الَّذِي يروم بِهِ السَّائِل الْفرق وَإِن سلم لَهُ
أَنه عِلّة لإِثْبَات الحكم فِي الأَصْل فَذَلِك لَا يمْنَع
الْمُجيب من أَن يعدي حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع بِالْوَصْفِ
الَّذِي يَدعِيهِ أَنه عِلّة للْحكم وَمَا لَا يكون قدحا فِي
كَلَام الْمُجيب فاشتغال السَّائِل بِهِ يكون اشتغالا بِمَا
لَا يُفِيد وَإِنَّمَا المفاقهة فِي الممانعة حَتَّى يبين
الْمُجيب تَأْثِير علته فالفقه حِكْمَة باطنة وَمَا يكون مؤثرا
فِي إِثْبَات الحكم شرعا فَهُوَ الْحِكْمَة الْبَاطِنَة
والمطالبة بِهِ تكون مفاقهة
(2/234)
فَأَما الْإِعْرَاض عَنهُ والاشتغال
بِالْفرقِ يكون قبولا لما فِيهِ احْتِمَال أَن لَا يكون حجَّة
لإِثْبَات الحكم واشتغالا بِإِثْبَات الحكم بِمَا لَيْسَ
بِحجَّة أصلا فِي مَوضِع النزاع وَهُوَ عدم الْعلَّة فَتبين
أَن هَذَا لَيْسَ من المفاقهة فِي شَيْء وَالله أعلم
فصل الممانعة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الممانعة أصل
الِاعْتِرَاض على الْعلَّة المؤثرة من حَيْثُ إِن الْخصم
الْمُجيب يَدعِي أَن حكم الْحَادِثَة مَا أجَاب بِهِ فَإِذا لم
يسلم لَهُ ذَلِك يذكر وَصفا يَدعِي أَنه عِلّة مُوجبَة للْحكم
فِي الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ وَأَن هَذَا الْفَرْع نَظِير
ذَلِك الأَصْل فيتعدى ذَلِك الحكم بِهَذَا الْوَصْف إِلَى
الْفَرْع وَفِي هَذَا الحكم دعويان فَهُوَ أظهر فِي الدَّعْوَى
من الأول أَي حكم الْحَادِثَة وَإِن كَانَت المناظرة لَا
تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع دَعْوَى السَّابِق عرفنَا أَنَّهَا
لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع هَذِه الدَّعَاوَى أَيْضا فَيكون
هُوَ مُحْتَاجا إِلَى إِثْبَات دعاويه بِالْحجَّةِ والسائل
مُنكر فَلَيْسَ عَلَيْهِ سوى الْمُطَالبَة لإِقَامَة الْحجَّة
بِمَنْزِلَة الْمُنكر فِي بَاب الدَّعَاوَى والخصومات
وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَيْثُ قَالَ للْمُدَّعِي (أَلَك بَيِّنَة) وبالممانعة
يتَبَيَّن العوار وَيظْهر الْمُدَّعِي من الْمُنكر والملزم من
الدَّافِع بَعْدَمَا ثَبت شرعا أَن حجَّة أَحدهمَا غير حجَّة
الآخر
ثمَّ الممانعة على أَرْبَعَة أوجه ممانعة فِي نفس الْعلَّة
وممانعة فِي الْوَصْف الَّذِي يذكر الْمُعَلل أَنه عِلّة
وممانعة فِي شَرط صِحَة الْعلَّة أَنه مَوْجُود فِي ذَلِك
الْوَصْف وممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار ذَلِك
الْوَصْف عِلّة للْحكم
أما الممانعة فِي نفس الْعلَّة فَكَمَا بَينا أَن كثيرا من
الْعِلَل إِذا تَأَمَّلت فِيهَا تكون احتجاجا بِلَا دَلِيل
وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة على الْخصم لإِثْبَات
(2/235)
الحكم
وَبَيَان هَذَا فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي
النِّكَاح أَنه لَيْسَ بِمَال فَلَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء
مَعَ الرِّجَال كالحدود وَالْقصاص
وَهَذَا النَّوْع لَا يصلح حجَّة لإِيجَاب الحكم عندنَا على
مَا بَينا فَترك الممانعة فِيهِ تكون قبولا من الْخصم مَا لَا
يكون حجَّة أصلا وَذَلِكَ دَلِيل الْجَهْل فَكَانَت الممانعة
فِي هَذَا الْموضع دَلِيل المفاقهة
وَأما ممانعة الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة فبيانه فِيمَا
علل بِهِ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
الْإِيدَاع من الصَّبِي تسليط على الِاسْتِهْلَاك فَإِن مثل
هَذَا الْوَصْف لَا بُد أَن يكون مَمْنُوعًا عِنْد الْخصم
لِأَن بعد ثُبُوته لَا يبْقى للمنازعة فِي الحكم معنى
وَنَحْو مَا علل بِهِ أَبُو حنيفَة فِيمَن اشْترى قَرِيبه مَعَ
غَيره أَن الْأَجْنَبِيّ رَضِي بِالَّذِي وَقع الْعتْق بِهِ
بِعَيْنِه وَنَحْو مَا علل بِهِ عُلَمَاؤُنَا فِي صَوْم يَوْم
النَّحْر أَنه مَشْرُوع لِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَالنَّهْي
يدل على تحقق الْمَشْرُوع ليتَحَقَّق الِانْتِهَاء عَنهُ كَمَا
هُوَ مُوجب النَّهْي فَإِن عِنْد الْخصم مُطلق النَّهْي
بِمَنْزِلَة النّسخ حَتَّى يَنْعَدِم بِهِ الْمَشْرُوع أصلا
فَلَا بُد من هَذِه الممانعة لمن يُرِيد الْكَلَام فِي
الْمَسْأَلَة على سَبِيل المفاقهة
وَأما الممانعة فِي الشَّرْط الَّذِي لَا بُد مِنْهُ ليصير
الْوَصْف عِلّة بَيَانه فِيمَا ذكرنَا أَن من الْأَوْصَاف مَا
يكون مغيرا حكم الأَصْل وَمن شَرط صِحَة الْعلَّة أَن لَا يكون
مغيرا حكم النَّص وَذَلِكَ نَحْو تَعْلِيل الْأَشْيَاء
الْأَرْبَعَة بالطعم فَإِنَّهُ يُغير حكم النَّص لِأَن الحكم
فِي نُصُوص الرِّبَا حُرْمَة الْفضل على الْقدر وَثُبُوت
الْحُرْمَة إِلَى غَايَة وَهُوَ الْمُسَاوَاة وَالتَّعْلِيل
بالطعم يثبت فِي الْمَنْصُوص حُرْمَة فضل لَا على الْقدر
وَحُرْمَة مُطلقَة لَا إِلَى غَايَة الْمُسَاوَاة يَعْنِي فِي
الحفنة من الْحِنْطَة وَفِيمَا لَا يدْخل تَحت الْقدر من
المطعومات الَّتِي هِيَ فرع فِي هَذَا الحكم فَلَا بُد من
هَذِه الممانعة لِأَن الحكم لَا يثبت بِوُجُود ركن الشَّيْء
مَعَ انعدام شَرطه
وَأما الممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي يكون بِهِ الْوَصْف
عِلّة مُوجبَة للْحكم شرعا فَهُوَ الْمُطَالبَة بِبَيَان
التَّأْثِير لما بَينا أَن الْعلَّة بِهِ تصير مُوجبَة للْحكم
شرعا وَهِي الْحِكْمَة الْبَاطِنَة الَّتِي يعبر عَنْهَا
بالفقه
(2/236)
وَالْحَاصِل أَن فِي الدَّعْوَى
وَالْإِنْكَار يعْتَبر الْمَعْنى دون الصُّورَة فقد يكون
الْمَرْء مُدعيًا صُورَة وَهُوَ مُنكر معنى أَلا ترى أَن
الْمُودع إِذا ادّعى رد الْوَدِيعَة يكون مُنْكرا للضَّمَان
معنى وَلِهَذَا كَانَ القَوْل قَوْله مَعَ الْيَمين وَإِنَّمَا
جعل الشَّرْع الْيَمين فِي جَانب الْمُنكر
وَالْبكْر إِذا قَالَت بَلغنِي النِّكَاح فَرددت وَقَالَ
الزَّوْج بل سكتت فَالْقَوْل قَوْلهَا عندنَا وَهِي فِي
الصُّورَة تَدعِي الرَّد وَلكنهَا تنكر ثُبُوت ملك النِّكَاح
عَلَيْهَا فِي الْمَعْنى فَكَانَت مُنكرَة لَا مدعية
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا
إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فِي الثّمن بعد هَلَاك السّلْعَة
فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي مَعَ يَمِينه وَهُوَ فِي
الصُّورَة يَدعِي بيعا بِأَقَلّ الثمنين وَلكنه فِي الْمَعْنى
مُنكر للزِّيَادَة الَّتِي يدعيها البَائِع فَعرفنَا أَنه
إِنَّمَا يعْتَبر الْمَعْنى فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَار دون
الصُّورَة
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول هَذِه الْوُجُوه من الممانعة تكون
إنكارا من السَّائِل فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَى إِثْبَات
إِنْكَاره بِالْحجَّةِ واشتغاله بذلك يكون اشتغالا بِمَا لَا
يُفِيد وَقَوله إِن الحكم فِي الأَصْل مَا تعلق بِهَذَا
الْوَصْف فَقَط بل بِهِ وبقرينة أُخْرَى يكون إنكارا صَحِيحا
من حَيْثُ الْمَعْنى وَإِن كَانَ دَعْوَى من حَيْثُ الصُّورَة
لِأَن الحكم الْمُتَعَلّق بعلة ذَات وصفين لَا يثبت بِوُجُود
أحد الوصفين
وَذَلِكَ نَحْو مَا يُعلل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي
الْيَمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل لِأَنَّهَا
يَمِين بِاللَّه مَقْصُودَة فيتعدى الحكم بِهَذَا الْوَصْف
إِلَى الْغمُوس
فَإنَّا نقُول الحكم فِي الأَصْل ثَبت بِهَذَا الْوَصْف مَعَ
قرينَة وَهُوَ توهم الْبر فِيهَا فَيكون هَذَا منعا لما
ادَّعَاهُ الْخصم والخصم هُوَ الْمُحْتَاج إِلَى إِثْبَات
دَعْوَاهُ بِالْحجَّةِ
فَأَما قَول السَّائِل لَيْسَ الْمَعْنى فِي الأَصْل مَا قلت
وَإِنَّمَا الْمَعْنى فِيهِ كَذَا هُوَ إِنْكَار صُورَة وَلكنه
من حَيْثُ الْمَعْنى دَعْوَى وَهُوَ دَعْوَى غير مُفِيد فِي
مَوضِع النزاع لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يَقُول فِي مَوضِع
النزاع لتقرير ذَلِك الْمَعْنى سوى أَن هَذَا الْمَعْنى
مَعْدُوم فِي مَوضِع النزاع وَعدم الْعلَّة لَا يُوجب عدم
الحكم وَإِن كَانَ هَذَا يصلح للترجيح بِهِ من وَجه على مَا
نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(2/237)
|