أصول السرخسي

فصل الْقلب وَالْعَكْس
قَالَ رَضِي الله عَنهُ تَفْسِير الْقلب لُغَة جعل أَعلَى الشَّيْء أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ
من قَول الْقَائِل قلبت الْإِنَاء إِذا نكسه أَو هُوَ جعل بطن الشَّيْء ظهرا وَالظّهْر بَطنا
من قَول الْقَائِل قلبت الجراب إِذا جعل بَاطِنه ظَاهرا وَظَاهره بَاطِنا وقلبت الْأَمر إِذا جعله ظهرا لبطن
وقلب الْعلَّة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ
وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا وَهَذَا مُبْطل لِلْعِلَّةِ لِأَن الْعلَّة هِيَ الْمُوجبَة شرعا والمعلول هُوَ الحكم الْوَاجِب بِهِ فَيكون فرعا وتبعا لِلْعِلَّةِ وَإِذا جعل التبع أصلا وَالْأَصْل تبعا كَانَ ذَلِك دَلِيل بطلَان الْعلَّة
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الذِّمِّيّ إِنَّه يجب عَلَيْهِ الرَّجْم لِأَنَّهُ من جنس من يجلد بكره مائَة فيرجم ثيبه كَالْمُسلمِ
فيقلب عَلَيْهِ فَنَقُول فِي الأَصْل إِنَّمَا يجلد بكره لِأَنَّهُ يرْجم ثيبه فَيكون ذَلِك قلبا مُبْطلًا لعلته بِاعْتِبَار أَن مَا جعل فرعا صَار أصلا وَمَا جعله أصلا صَار تبعا
وَكَذَلِكَ قَوْله الْقِرَاءَة ركن يتَكَرَّر فرضا فِي الْأَوليين فيتكرر أَيْضا فرضا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كالركوع
وَهَذَا النَّوْع من الْقلب إِنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْد التَّعْلِيل بِحكم لحكم فَأَما إِذا كَانَ التَّعْلِيل بِوَصْف لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا الْقلب إِذْ الْوَصْف لَا يكون حكما شَرْعِيًّا يثبت بِحكم آخر
وَطَرِيق المخلص عَن هَذَا الْقلب أَن لَا يذكر هَذَا على سَبِيل التَّعْلِيل بل على سَبِيل الِاسْتِدْلَال بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر فَإِن الِاسْتِدْلَال بِحكم على حكم طَرِيق السّلف فِي الْحَوَادِث روينَا ذَلِك عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَكِن شَرط هَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يثبت أَنَّهُمَا نظيران متساويان فَيدل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه هَذَا على ذَاك فِي حَال وَذَاكَ على هَذَا فِي حَال بِمَنْزِلَة التوأم فَإِنَّهُ يثبت حريَّة الأَصْل لأَحَدهمَا أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَيثبت الرّقّ فِي أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن الصَّوْم عبَادَة تلْزم بِالنذرِ فتلزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم علينا لِأَن الْحَج إِنَّمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَنَّهُ يلْزم بِالشُّرُوعِ

(2/238)


لأَنا نستدل بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا من حَيْثُ إِن الْمَقْصُود بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَحْصِيل عبَادَة زَائِدَة هِيَ مَحْض حق الله تَعَالَى على وَجه يكون الْمَعْنى فِيهَا لَازِما وَالرُّجُوع عَنْهَا بعد الْأَدَاء حرَام وإبطالها بعد الصِّحَّة جِنَايَة فَبعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا يَجْعَل هَذَا دَلِيلا على ذَاك تَارَة وَذَاكَ على هَذَا تَارَة
وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة من يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كالبكر وَفِي الْبكر الْبَالِغَة من لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كَالرّجلِ يكون اسْتِدْلَالا صَحِيحا بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر إِذْ الْمُسَاوَاة قد تثبت بَين التصرفين من حَيْثُ إِن ثُبُوت الْولَايَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْمولى عَلَيْهِ وعجزه عَن التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم إِذا ذكرنَا هَذَا على وَجه الِاسْتِدْلَال لِأَن جَوَاز الِاسْتِدْلَال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر يدل على قُوَّة المشابهة والمساواة وَهُوَ الْمَقْصُود بالاستدلال بِخِلَاف مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاة بَين الْجلد وَالرَّجم أما من حَيْثُ الذَّات فَالرَّجْم عُقُوبَة غَلِيظَة تَأتي على النَّفس وَالْجَلد لَا وَمن حَيْثُ الشَّرْط الرَّجْم يَسْتَدْعِي من الشَّرَائِط مَا لَا يَسْتَدْعِي عَلَيْهِ الْجلد كالثيوبة
وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين ركن الْقِرَاءَة وَبَين الرُّكُوع فَإِن الرُّكُوع فعل هُوَ أصل فِي الرَّكْعَة وَالْقِرَاءَة ذكر هُوَ زَائِد حَتَّى إِن الْعَاجِز عَن الْأَذْكَار الْقَادِر على الْأَفْعَال يُؤَدِّي الصَّلَاة وَالْعَاجِز عَن الْأَفْعَال الْقَادِر على الْأَذْكَار لَا يُؤَدِّيهَا وَيسْقط ركن الْقِرَاءَة بالاقتداء عندنَا وَعند خوف فَوت الرَّكْعَة بالِاتِّفَاقِ وَلَا يسْقط ركن الرُّكُوع
وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين الشفع الثَّانِي وَالشَّفْع الأول فِي الْقِرَاءَة فَإِنَّهُ يسْقط فِي الشفع الثَّانِي شطر مَا كَانَ مَشْرُوعا فِي الشفع الأول وَهُوَ قِرَاءَة السُّورَة وَالْوَصْف الْمَشْرُوع فِيهِ فِي الشفع الأول وَهُوَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ وَمَعَ انعدام الْمُسَاوَاة لَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا على الآخر وَالْقلب يبطل التَّعْلِيل على وَجه المقايسة
وَالنَّوْع الثَّانِي من الْقلب هُوَ جعل الظَّاهِر بَاطِنا بِأَن يَجْعَل الْوَصْف الَّذِي

(2/239)


علل بِهِ الْخصم شَاهدا عَلَيْهِ لصَاحبه فِي إِثْبَات ذَلِك الحكم بعد أَن كَانَ شَاهدا لَهُ وَهَذِه مُعَارضَة فِيهَا مناقضة لِأَن الْمَطْلُوب هُوَ الحكم فالوصف الَّذِي يشْهد بإثباته من وَجه وينفيه من وَجه آخر يكون متناقضا فِي نَفسه بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الَّذِي يشْهد لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر فِي حَادِثَة ثمَّ للخصم الآخر عَلَيْهِ فِي عين تِلْكَ الْحَادِثَة فَإِنَّهُ يتناقض كَلَامه بِخِلَاف الْمُعَارضَة بعلة أُخْرَى فَإِنَّهُ لَا يكون فِيهَا معنى التَّنَاقُض بل للاشتباه يتَعَذَّر الْعَمَل إِلَى أَن يتَبَيَّن الرجحان لأَحَدهمَا على الآخر فَأَما مَا يشْهد لَك على خصمك وبخصمك عَلَيْك فِي حَادِثَة وَاحِدَة فِي وَقت وَاحِد بِأَنَّهُ يتَحَقَّق فِيهِ التَّعَارُض مَعَ التَّنَاقُض
وَبَيَان ذَلِك فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي فِي صَوْم رَمَضَان بِمُطلق النِّيَّة إِنَّه صَوْم فرض فَلَا يتَأَدَّى إِلَّا بِتَعْيِين النِّيَّة كَصَوْم الْقَضَاء
فَإِنَّمَا نقلب عَلَيْهِ فَنَقُول إِنَّه صَوْم فرض فَبعد مَا تعين مرّة لَا يشْتَرط لأدائه تعْيين بنية أُخْرَى كَصَوْم الْقَضَاء
وَعلل فِي سنة التّكْرَار فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ
فَإنَّا نقلب عَلَيْهِ فَنَقُول ركن فِي الْوضُوء فَبعد إكماله بِالزِّيَادَةِ على الْمَفْرُوض فِي مَحل الْفَرِيضَة لَا يسن تثليثه كالمغسولات وَإِقَامَة الْفَرْض هُنَا يحصل بمسح الرّبع وبالاستيعاب يحصل الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْفَرِيضَة فِي مَحل الْفَرِيضَة كَمَا فِي المغسولات بِالْغسْلِ ثَلَاثًا يحصل الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض وَهُوَ الِاسْتِيعَاب فِي مَحل الْمَفْرُوض
فَإِن قيل هَذَا الْقلب إِنَّمَا يتَأَدَّى بِزِيَادَة وصف وبهذه الزِّيَادَة يتبدل الْوَصْف وَيصير شَيْئا آخر فَيكون هَذَا مُعَارضَة لَا قلبا
قُلْنَا نعم فِي هَذَا زِيَادَة وصف وَلكنهَا تَفْسِير للْحكم على وَجه التَّقْرِير لَهُ لَا على وَجه التَّغْيِير فَإنَّا نبين بِهَذِهِ الزِّيَادَة أَن صَوْم رَمَضَان لما تعين مَشْرُوعا فِي الزَّمَان وَغَيره لَيْسَ بمشروع كَانَ قِيَاسه من الْقَضَاء مَا بعد التَّعْيِين بِالشُّرُوعِ فِيهِ والاستيعاب فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ لما لم يكن ركنا كَانَ قِيَاسه من المغسولات بعد حُصُول الِاسْتِيعَاب مَا إِذا حصل الْإِكْمَال فِي المغسولات بِالزِّيَادَةِ بعد الِاسْتِيعَاب فَيكون تقريرا لذَلِك الْوَصْف بِهَذَا التَّفْسِير لَا تغييرا

(2/240)


وَتَفْسِير الْعَكْس لُغَة وَهُوَ رد الشَّيْء على سنَنه وَرَاءه مأخود من عكس الْمرْآة فَإِن نورها يرد نور بصر النَّاظر فِيمَا وَرَاءه على سنَنه حَتَّى يرى وَجهه كَأَن لَهُ فِي الْمرْآة وَجها وعينا يبصر بِهِ
وَكَذَلِكَ عكس المَاء نور الشَّمْس فَإِنَّهُ يرد نورها حَتَّى يَقع على جِدَار بِمُقَابلَة المَاء كَأَن فِي المَاء شمسا
ثمَّ الْعَكْس فِي الْعلَّة على وَجْهَيْن أَحدهمَا رد الحكم على سنَنه بِمَا يكون قلبا لعلته حَتَّى يثبت بِهِ ضد مَا كَانَ ثَابتا بِأَصْلِهِ نَحْو قَوْلنَا فِي الشُّرُوع فِي صَوْم النَّفْل إِن مَا يلْتَزم بِالنذرِ يلْتَزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ وَعَكسه إِن مَا لَا يلْتَزم بِالنذرِ لَا يلْتَزم بِالشُّرُوعِ كَالْوضُوءِ فَيكون الْعَكْس على هَذَا الْمَعْنى ضد الطَّرْد وَهَذَا لَا يكون قادحا فِي الْعلَّة أصلا بل يصلح مرجحا لهَذَا النَّوْع من الْعلَّة على الْعلَّة الَّتِي تطرد وَلَا تنعكس على مَا نبينه فِي بَابه
وَالنَّوْع الآخر مَا يكون عكسا يُوجب الحكم لَا على سنَن حكم الأَصْل بل على مُخَالفَة حكم الأَصْل وَذَلِكَ نَحْو مَا يُعلل بِهِ الشَّافِعِي فِي أَن الصَّوْم عبَادَة لَا يمْضِي فِي فاسدها فَلَا تصير لَازِمَة بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَالْوضُوءِ وَعَكسه الْحَج فَهَذَا التَّعْلِيل لَهُ نَظِير التَّعْلِيل الأول لنا وَنحن إِذا قُلْنَا بِأَن مَا يلْتَزم بِالنذرِ من الْعَادة يلْتَزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَهُوَ يَقُول يَنْبَغِي أَن يَسْتَوِي حكم الشُّرُوع فِيهِ بنية النَّفْل وَحكم الشُّرُوع فِيهِ على ظن أَنه عَلَيْهِ كَالْحَجِّ فَيكون فِي هَذَا الْعَكْس نوع كسر لِلْعِلَّةِ حَيْثُ تمكن الْخصم بِهِ من إِثْبَات حكم هُوَ مُخَالف للْحكم الأول وَلكنه لَيْسَ بِقَوي فَإِن الحكم الَّذِي تعلقه مُجمل غير مُفَسّر وَمَا علقنا بِهِ من الحكم مُفَسّر فالمفسر أولى من الْمُجْمل ثمَّ هُوَ تعلق بِهِ حكم التَّسْوِيَة وَالْحكم الْمَقْصُود شَيْء آخر يخْتَلف فِيهِ الْفَرْع وَالْأَصْل على سَبِيل التضاد فَإِن فِي الأَصْل يستويان حَتَّى يجب الْقَضَاء فيهمَا وَفِي الْفَرْع عِنْده يستويان حَتَّى يسْقط الْقَضَاء فيهمَا وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم هَذَا التَّعْلِيل إِذا كَانَ الْمَقْصُود عين التَّسْوِيَة وَلِأَنَّهُ فِي هَذَا

(2/241)


الْعَكْس ينص على حكم آخر سوى مَا ذَكرْنَاهُ فِي التَّعْلِيل فَلَا يكون إبطالا بطرِيق النّظر وَإِنَّمَا يكون الْعَكْس دفعا لما فِيهِ من الْإِبْطَال والمناقضة فَإِذا عرى عَن ذَلِك لم يكن دفعا وَلِأَنَّهُ علل بِحكم مُجمل لَا يتَّصل بالمتنازع فِيهِ إِلَّا بِكَلَام هُوَ ابْتِدَاء وَلَيْسَ للسَّائِل دلك فَظهر أَن الْعَكْس سُؤال ضَعِيف
فصل فِي الْمُعَارضَة

وَقد بَينا تَفْسِير الْمُعَارضَة فِيمَا مضى وَهَذَا الْفَصْل لبَيَان أقسامها وتمييز الْفَاسِد من الصَّحِيح مِنْهَا فَيَقُول
الْمُعَارضَة نَوْعَانِ نوع فِي عِلّة الأَصْل وَنَوع فِي حكم الْفَرْع فالذى فِي حكم الْفَرْع على خَمْسَة أوجه مُعَارضَة بالتنصيص على خلاف حكم الْعلَّة فِي ذَلِك الْمحل بِعَيْنِه ومعارضة بتغيير هُوَ تَفْسِير لذَلِك الحكم على وَجه التَّقْرِير لَهُ ومعارضة بتغيير فِيهِ إجلال بِموضع الْخلاف ومعارضة فِيهَا نفى مَا لم يُثبتهُ الْمُعَلل أَو إِثْبَات مَا لم ينفه الْمُعَلل وَلكنه يتَّصل بِموضع التَّعْلِيل ومعارضة بِإِثْبَات حكم فِي غير الْمحل الذى أثبت الْمُعَلل الحكم فِيهِ بعلته
والذى فِي عِلّة الأَصْل أَنْوَاع ثَلَاثَة مُعَارضَة بِذكر عِلّة فِي الأَصْل لَا تتعدى إِلَى فرع ومعارضة بِذكر عِلّة تتعدى إِلَى فرع الحكم فِيهِ مُتَّفق عَلَيْهِ ومعارضة بعلة تتعدى إِلَى فرع الحكم فِيهِ مُخْتَلف فِيهِ
وَبَيَان الْوَجْه الأول من الْأَوْجه الْخَمْسَة فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِن الْخصم يَقُول ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كالمغسول وَنحن نعارضه بقولنَا مسح فِي الطَّهَارَة فَلَا يسن تثليثه كالمسح بالخف فَهَذِهِ مُعَارضَة صَحِيحه لما فِيهَا من التَّنْصِيص على خلاف حكم علته فِي ذَلِك الْمحل بِعَيْنِه
وَبَيَان الْوَجْه الثَّانِي فِي هَذَا الْموضع أَيْضا فَإنَّا نقُول ركن فِي الْوضُوء فَبعد الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض فِي مَحل الْفَرِيضَة لَا يسن تثليثه كَمَا فِي المغسولات
فَهَذِهِ مُعَارضَة بتغيير هُوَ تَفْسِير للْحكم فِي تَقْرِيره

(2/242)


وَهَذَانِ وَجْهَان صَحِيحَانِ فِي الْمُعَارضَة المحوجة إِلَى التَّرْجِيح لِأَن عِنْد صِحَة الْمُعَارضَة يُصَار إِلَى التَّرْجِيح
وَبَيَان الْوَجْه الثَّالِث فِيمَا يُعلل بِهِ فِي غير الْأَب وَالْجد هَل تثبت لَهُم ولَايَة التَّزْوِيج على الصَّغِيرَة فَنَقُول إِنَّهَا صَغِيرَة فَتثبت عَلَيْهَا ولَايَة التَّزْوِيج كالتى لَهَا أَب وهم يعارضون وَيَقُولُونَ هَذِه صَغِيرَة فَلَا تثبت عَلَيْهَا ولَايَة التَّزْوِيج للْأَخ كالتى لَهَا أَب فَتكون هَذِه مُعَارضَة بتغيير فِيهِ إخلال بِموضع النزاع لِأَن مَوضِع النزاع ثُبُوت ولَايَة التَّزْوِيج على الْيَتِيمَة لَا تعْيين الولى المزوج لَهَا وَهُوَ فِي معارضته علل لنفى الْولَايَة بشخص بِعَيْنِه وَلكنه يَقُول إِن مَوضِع النزاع إِثْبَات الْولَايَة للأقارب سوى الْأَب وَالْجد على الصَّغِيرَة وأقربهم الْأَخ فَنحْن بِهَذِهِ الْمُعَارضَة ننفى ولَايَة الْأَخ عَنْهَا ثمَّ ولَايَة من وَرَاء الْأَخ منتفية عَنْهَا بالأخ فَمن هَذَا الْوَجْه يظْهر معنى الصِّحَّة فِي هَذِه الْمُعَارضَة وَإِن لم يكن قَوِيا
وَبَيَان الْوَجْه الرَّابِع فِيمَا ذكرنَا فِي النَّوْع الثَّانِي من الْعَكْس وَذَلِكَ فِيمَا يُعلل بِهِ فِي مَسْأَلَة الْكَافِر يشترى عبدا مُسلما إِنَّه مَال يملك الْكَافِر بَيْعه فَيملك شِرَاءَهُ كَالْعَبْدِ الْكَافِر فَيَقُولُونَ وَجب أَن يستوى حكم شِرَائِهِ ابْتِدَاء وَحكم استدامه الْملك فِيهِ كَالْعَبْدِ الْكَافِر فَنَقُول فِي هَذِه الْمُعَارضَة إِثْبَات مَا لم يَنْفَعهُ بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ التَّسْوِيَة بَين أصل الشِّرَاء وَبَين اسْتِدَامَة الْملك فَلَا تكون مُتَّصِلَة بِموضع النزاع إِلَّا بعد الْبناء بِإِثْبَات التَّسْوِيَة بَين الإستدامة وَابْتِدَاء الشِّرَاء وَلَيْسَ للسَّائِل هَذَا الْبناء فَلم تكن هَذِه الْمُعَارضَة صَحِيحه بطرِيق النّظر وَإِن كَانَ يظْهر فِيهَا معنى الصِّحَّة عِنْد إِثْبَات التَّسْوِيَة بَينهمَا
وَبَيَان الْوَجْه الْخَامِس فِيمَا يَقُوله أَبُو حنيفَة رضى الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة إِذا نعى إِلَيْهَا زَوجهَا فاعتدت وَتَزَوَّجت بِزَوْج آخر وَولدت مِنْهُ أَوْلَادًا ثمَّ جَاءَ الزَّوْج الأول حَيا فَإِن نسب الْأَوْلَاد يثبت من الأول لِأَنَّهُ صَاحب فرَاش صَحِيح عَلَيْهَا وَثُبُوت النّسَب بِاعْتِبَار الْفراش وهما يعارضان بِأَن الثَّانِي صَاحب فرَاش حَاضر وَمَعَ صفة الْفساد يثبت النّسَب من صَاحب الْفراش

(2/243)


الْحَاضِر كَمَا لَو تزوج امْرَأَة بِغَيْر شُهُود وَدخل بهَا فَهَذِهِ مُعَارضَة بِإِثْبَات حكم فِي غير الْمحل الَّذِي وَقع التَّعْلِيل إِذْ الْفَاسِد غير الصَّحِيح وَالْكَلَام فِي أَن النّسَب بَعْدَمَا صَار مُسْتَحقّا بِثُبُوتِهِ لشخص هَل هُوَ يجوز أَن يثبت لغيره بِاعْتِبَار فرَاشه فَإِن الأول بفراشه السَّابِق يصير مُسْتَحقّا نسب أَوْلَادهَا مَا بَقِي فراشها فَيَقَع الْكَلَام بعد هَذَا فِي التَّرْجِيح أَن أصل الْفراش للثَّانِي بِاعْتِبَار كَونه حَاضرا وَكَونه صَاحب المَاء هَل يتَرَجَّح على الْفراش الصَّحِيح الَّذِي للْغَائِب حَتَّى ينتسخ بِهِ حكم الِاسْتِحْقَاق الثَّابِت بفراشه أم لَا وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا لَا يكون صَالحا للترجيح لِأَن الشَّيْء لَا ينسخه إِلَّا مَا هُوَ مثله أَو فَوْقه وَالْفَاسِد من الْفراش مَعَ هَذِه الْقَرَائِن لَا يكون مثلا للصحيح فَلَا ينْسَخ بِهِ حكم الِاسْتِحْقَاق الثَّابِت بِالصَّحِيحِ وَبَعْدَمَا صَار النّسَب مُسْتَحقّا لزيد لَا يُمكن إثْبَاته لعَمْرو بِوَجْه مَا وَالنِّكَاح بِغَيْر شُهُود لَيْسَ من هَذَا الْمحل فِي شَيْء فَعرفنَا أَنه مُعَارضَة فِي غير مَحل الحكم
فَأَما وُجُوه الْمُعَارضَة فِي عِلّة الأَصْل فَهِيَ فَاسِدَة كلهَا لما بَينا أَن ذكر عِلّة أُخْرَى فِي الأَصْل لَا يبْقى تَعْلِيله بِمَا ذكره الْمُعَلل لجَوَاز أَن يكون فِي الأَصْل وصفان فيتعدى الحكم بِأحد الوصفين إِلَى الْفُرُوع دون الآخر ثمَّ إِن كَانَ الْوَصْف الَّذِي يذكرهُ الْمعَارض لَا يتَعَدَّى إِلَى فرع فَهُوَ فَاسد لما بَينا أَن حكم التَّعْلِيل التَّعْدِيَة فَمَا لَا يُفِيد حكمه أصلا يكون فَاسِدا من التَّعْلِيل فَإِن كَانَ يتَعَدَّى إِلَى فرع فَلَا اتِّصَال لَهُ بِموضع النزاع إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه تنعدم تِلْكَ الْعلَّة فِي هَذَا الْموضع وَقد بَينا أَن عدم الْعلَّة لَا يُوجب عدم الحكم فَعرفنَا أَنه لَا اتِّصَال لتِلْك الْعلَّة بِموضع النزاع فِي النَّفْي وَلَا فِي الْإِثْبَات وَكَذَلِكَ إِن كَانَت تتعدى إِلَى فرع مُخْتَلف فِيهِ فالمتعدية إِلَى فرع مجمع عَلَيْهِ تكون أقوى من المتعدية إِلَى فرع مُخْتَلف فِيهِ وَلما تبين فَسَاد تِلْكَ تبين فَسَاد هَذَا بطرِيق الأولى

(2/244)


وَمن النَّاس من يزْعم أَن هَذِه مُعَارضَة حَسَنَة فِيهَا معنى الممانعة لِأَن بِالْإِجْمَاع عِلّة الحكم أحد الوصفين لَا كِلَاهُمَا فَإِذا ظَهرت صِحَة عِلّة السَّائِل بِظُهُور حكمهَا وَهُوَ التَّعْدِيَة يتَبَيَّن فَسَاد الْعلَّة الْأُخْرَى
بَيَانه أَنا نقُول فِي تَعْلِيل الْحِنْطَة إِنَّه بَاعَ مَكِيلًا بمكيل من جنسه مُتَفَاضلا ثمَّ تعدى الحكم بهَا إِلَى الحص وَغَيره
والخصم يُعَارض فَيَقُول بَاعَ مطعوما بمطعوم من جنسه مُتَفَاضلا لتعدي الحكم بِهِ إِلَى المطعومات الَّتِي هِيَ غير مقدرَة كالتفاح وَنَحْوهَا وَقد ثَبت بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ أَن عِلّة الحكم أَحدهمَا فَإِذا ثَبت صِحَة مَا ادَّعَاهُ أَحدهمَا عِلّة انْتَفَى الآخر بِالْإِجْمَاع فَكَانَت فِي هَذِه الْمُعَارضَة ممانعة من هَذَا الْوَجْه
وَلَكنَّا نقُول لَا تنَافِي بَين العلتين ذاتا لجَوَاز أَن يعلق الحكم بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا فَمن أنكر صِحَة مَا ادَّعَاهُ خَصمه من الْعلَّة لَا يفْسد ذَلِك بِمُجَرَّد تَصْحِيح علته بل بِذكر معنى مُفسد فِي عِلّة خَصمه كَمَا أَنه لَا يثبت وَجه صِحَة علته بإفساد عِلّة خَصمه بل بِمَعْنى هُوَ دَلِيل الصِّحَّة فِي علته فَعرفنَا أَن هَذِه الْمُعَارضَة فَاسِدَة أَيْضا
ثمَّ السَّبِيل فِي كل كَلَام يذكرهُ أهل الطَّرْد على سَبِيل الْمُفَارقَة إِذا كَانَ فَقِيها أَن يذكرهُ على وَجه الممانعة فَيكون ذَلِك فقها صَحِيحا من السَّائِل على حد الْإِنْكَار لَا بُد من قبُوله مِنْهُ
وَبَيَان ذَلِك أَن الْخصم يَقُول فِي عتق الرَّهْن إِن هَذَا تصرف من الرَّاهِن مُبْطل لحق الْمُرْتَهن عَن الْمَرْهُون فَلَا ينفذ بِغَيْر رِضَاهُ كَالْبيع وَالْفرق لنا بَين هَذَا وَبَين البيع أَن ذَاك يحْتَمل الْفَسْخ بعد وُقُوعه فَيمكن القَوْل بانعقاده على وَجه يتَمَكَّن الْمُرْتَهن من فَسخه وَالْعِتْق لَا يحْتَمل الْفَسْخ بعد وُقُوعه وَهُوَ بِهَذَا التَّعْلِيل يلغي أصل الْعتْق وَلَا نسلم لَهُ هَذَا الحكم فِي الأَصْل ثمَّ من شَرط صِحَة الْعلَّة أَن لَا يكون مغيرا حكم الأَصْل فَإِن كَانَ هُوَ بِالتَّعْلِيلِ يُغير حكم الأَصْل فَيجْعَل الحكم فِيهِ الإلغاء دون الِانْعِقَاد على وَجه التَّوَقُّف منعناه من التَّعْلِيل لِأَنَّهُ يَنْعَدِم بِهِ شَرط صِحَة التَّعْلِيل وَإِن أثبت بِهِ حكم الأَصْل وَهُوَ امْتنَاع اللُّزُوم بعد الِانْعِقَاد فِي مَحَله لمراعاة حق الْمُرْتَهن فَهَذَا لَا تصور لَهُ فِيمَا لَا يحْتَمل الْفَسْخ بعد وُقُوعه وَكَذَلِكَ إِن رده على إِعْتَاق الْمَرِيض فَإِن ذَلِك عندنَا لَيْسَ يَلْغُو

(2/245)


فَإِن كَانَ يُعلل لإلغاء الْعتْق من الرَّاهِن فَهَذَا تَعْلِيل يتَغَيَّر بِهِ حكم الأَصْل وَذَلِكَ غير صَحِيح عندنَا فنمنعه بِهَذَا الطَّرِيق وعَلى الْوَجْه الذى هُوَ حكم الأَصْل وَهُوَ تَأْخِير تَنْفِيذ الْوَصِيَّة عَن قَضَاء الدّين لَا يُمكنهُ إثْبَاته بِهَذَا التَّعْلِيل فِي الْفَرْع فَكَانَت الممانعة صَحِيحَة بِهَذَا الطَّرِيق
وَكَذَلِكَ تَعْلِيل الْخصم فِي قتل الْعمد بِأَنَّهُ قتل آدمى مَضْمُون فَيكون مُوجبا لِلْمَالِ كالخطأ فَإِن الْفرق بَين الْفَرْع وَالْأَصْل لأهل الطَّرْد أَن فِي الْخَطَأ لَا يُمكن إِيجَاب مثل الْمُتْلف من جنسه وَهنا الْمثل من جنسه وَاجِب وَالْأولَى أَن يَقُول فِي الأَصْل المَال إِنَّمَا يجب حلفا عَمَّا هُوَ الأَصْل لفَوَات الأَصْل وَهُوَ بِهَذَا التَّعْلِيل يُوجب المَال فِي الْفَرْع أصلا فَيكون فِي هَذَا التَّعْلِيل يعرض بِحكم الأَصْل بالتغيير وَشرط صِحَة التَّعْلِيل أَن لَا يكون متعرضا لحكم الأَصْل فنمنعه من التَّعْلِيل بِهَذَا الطَّرِيق حَتَّى يكون كلَاما من السَّائِل على حد الْإِنْكَار صَحِيحا