أصول السرخسي

فصل فِي وُجُوه دفع المناقضة

قد ذكرنَا أَن المناقضة لَا ترد على الْعِلَل المؤثرة لِأَن دَلِيل الصِّحَّة فِيهَا بالتأثير الثَّابِت بِالْإِجْمَاع وَإِنَّمَا يرد النَّقْض على الْعِلَل الطردية لِأَن دَلِيل صِحَّتهَا الإطراد وبالمناقضة يَنْعَدِم الإطراد ثمَّ تقع الْحَاجة إِلَى معرفَة وَجه دفع النَّقْض صُورَة أَو سؤالا مُعْتَبرا عَن الْعِلَل
وَالْحَاصِل فِيهِ أَن الْمُجيب مَتى وفْق بَين مَا ذكر من الْعلَّة وَبَين مَا يُورد نقضا عَلَيْهَا بِتَوْفِيق بَين فَإِنَّهُ ينْدَفع النَّقْض عَنهُ وَإِذا لم يُمكنهُ التَّوْفِيق بَينهمَا يلْزمه سُؤال النَّقْض بِمَنْزِلَة التَّنَاقُض الَّذِي يَقع فِي مجْلِس القَاضِي من الدَّعْوَى وَالشَّهَادَة وَبَين شَهَادَة الشُّهُود فَإِن ذَلِك ينتفى بِتَوْفِيق صَحِيح بَين
ثمَّ وُجُوه الدّفع أَرْبَعَة دفع بِمَعْنى الْوَصْف الذى جعله عِلّة بِمَا هُوَ ثَابت بصيغته ظَاهرا وَدفع بِمَعْنى الْوَصْف الذى هُوَ ثَابت بدلالته وهى الَّتِى صَارَت بهَا حجَّة وَهُوَ التَّأْثِير الذى قُلْنَا وَدفع بالحكم الذى هُوَ الْمَقْصُود وَدفع بالغرض الْمَطْلُوب بِالتَّعْلِيلِ

(2/246)


فبيان الْوَجْه الأول فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإنَّا يَقُول مسح فَلَا يسن تثليثه كالمسح بالخف فيورد عَلَيْهِ الإستنجاء بالأحجار نقضا فندفعه بِمَعْنى الْوَصْف الثَّابِت بصيغته ظَاهرا وَهُوَ قَوْلنَا مسح فَإِن فِي الإستنحاء بالأحجار لَا مُعْتَبر بِالْمَسْحِ بل الْمُعْتَبر إِزَالَة النَّجَاسَة حَتَّى لَو تصور خُرُوج الْحَدث من غير أَن يتلوث شَيْء مِنْهُ من ظَاهر الْبدن لَا يجب الْمسْح وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الإستطابة بِالْمَاءِ بعد إِزَالَة عين النَّجَاسَة بِالْحجرِ فِيهِ أفضل وَمَعْلُوم أَن فِي الْعُضْو الْمَمْسُوح لَا يكون الْغسْل بعد الْمسْح أفضل وَكَذَلِكَ إِذا قُلْنَا فِي الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ إِنَّه حدث لِأَنَّهُ خَارج نجس يُورد عَلَيْهِ مَا إِذا لم يسل عَن رَأس الْجرْح وَدفع هَذَا النَّقْض بِمَعْنى الْوَصْف ظَاهرا وَهُوَ قَوْلنَا خَارج فَمَا لم يسل فَهُوَ طَاهِر لتقشير الْجلد عَنهُ وَلَيْسَ بِخَارِج إِنَّمَا الْخَارِج مَا يُفَارق مَكَانَهُ وَتَحْت كل مَوضِع من الْجلد كمن يكون فِي الْبَيْت إِذا رفع الْبُنيان الَّذِي كَانَ هُوَ مستترا بِهِ يكون ظَاهرا وَلَا يكون خَارِجا وَإِنَّمَا يُسمى خَارِجا من الْبَيْت إِذا فَارق مَكَانَهُ وَلِهَذَا لَا يجب تَطْهِير ذَلِك الْموضع لِأَنَّهُ مَا لم يصر خَارِجا من مَكَانَهُ لَا يعْطى لَهُ حكم النَّجَاسَة
وَبَيَان الْوَجْه الثَّانِي فِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ أَيْضا فَإِن تَأْثِير قَوْلنَا مسح أَنه طَهَارَة حكمِيَّة غير معقولة الْمَعْنى وهى مَبْنِيَّة على التَّخْفِيف أَلا ترى أَنه لَا تَأْثِير للمسح فِي إِثْبَات صفة الطَّهَارَة بعد تنجس الْمحل حَقِيقَة وَأَنه يتَأَدَّى بِبَعْض الْمحل للتَّخْفِيف فَلَا يرد عَلَيْهِ الإستنجاء لِأَن الْمَطْلُوب هُنَاكَ إِزَالَة عين النَّجَاسَة وَلِهَذَا لَا يتم بِاسْتِعْمَال الْحجر فِي بعض الْمحل دون الْبَعْض فباعتبار الإستيعاب فِيهِ وَالْقَصْد إِلَى تَطْهِير الْمحل بِإِزَالَة حَقِيقَة النَّجَاسَة عَنهُ يشبه الإستنجاء الْغسْل فِي الْأَعْضَاء المغسولة دون الْمسْح لهت وَكَذَلِكَ قَوْلنَا الْخَارِج النَّجس كَانَ حجَّة التَّأْثِير لَهَا هُوَ وجوب التَّطْهِير فِي ذَلِك الْموضع فَإِن بِالْإِجْمَاع غسل ذَلِك الْموضع للتطهير وَاجِب وَوُجُوب التَّطْهِير فِي الْبدن بِاعْتِبَار مَا يكون مِنْهُ لَا يحْتَمل التجزى فيندفع مَا إِذا لم تسل النَّجَاسَة لِأَنَّهُ لم يجب

(2/247)


هُنَاكَ تَطْهِير ذَلِك الْموضع بِالْغسْلِ
فَعرفنَا أَنه انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَهَذَا يكون مرجحا لِلْعِلَّةِ فَكيف يكون نقضا وسنقرر هَذَا فِي بَيَان تَرْجِيح الْعلَّة الَّتِي تنعكس على الْعلَّة الَّتِي لَا تنعكس
وَبَيَان الْوَجْه الثَّالِث فِيمَا يُعلل بِهِ فِي النّذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر أَنه يَوْم فَيصح إِضَافَة النّذر إِلَيْهِ كَسَائِر الْأَيَّام فيورد عَلَيْهِ يَوْم الْحيض نقضا وَوجه الدّفع بالحكم الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ صِحَة إِضَافَة النّذر بِالصَّوْمِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ الْيَوْم يَصح إِضَافَة النّذر بِالصَّوْمِ إِلَيْهِ فَإِنَّهَا لَو قَالَت لله عَليّ أَن أَصوم غَدا يَصح نذرها وَإِن حَاضَت من الْغَد وَإِنَّمَا فسد نذرها بِالْإِضَافَة إِلَى الْحيض لَا إِلَى الْيَوْم
وَكَذَلِكَ يُعلل فِي التَّكْفِير بالمكاتب فَنَقُول عقد الْكِتَابَة يحْتَمل الْفَسْخ فَلَا تخرج الرَّقَبَة من جَوَاز التَّكْفِير بِعتْقِهَا كَالْبيع وَالْإِجَارَة فيورد عَلَيْهِ نقضا مَا إِذا أدّى بعض بدل الْكِتَابَة وَطَرِيق الدّفع بالحكم وَهُوَ أَن هَذَا العقد لَا يخرج الرَّقَبَة من أَن تكون محلا للتكفير بهَا وَهنا العقد لَا يخرج الرَّقَبَة من ذَلِك وَلَكِن معنى الْمُعَاوضَة هُوَ الَّذِي يمْنَع صِحَة التَّكْفِير بذلك التَّحْرِير وَبَعض أهل النّظر يعبرون عَن هَذَا النَّوْع من الدّفع بِأَن التَّعْلِيل للجملة فَلَا يرد عَلَيْهِ الْإِفْرَاد نقضا وفقهه مَا ذكرنَا
وَبَيَان الْوَجْه الرَّابِع من الدّفع فِيمَا عللنا بِهِ الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ خَارج نجس فَيكون حَدثا كالخارج من السَّبِيلَيْنِ فيورد عَلَيْهِ دم الِاسْتِحَاضَة مَعَ بَقَاء الْوَقْت نقضا
وللدفع فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَن ذَلِك حدث عندنَا وَلَكِن يتَأَخَّر حكمه إِلَى مَا بعد خُرُوج الْوَقْت وَلِهَذَا تلزمها الطَّهَارَة بعد خُرُوج الْوَقْت وَإِن لم يكن خُرُوج الْوَقْت حَدثا وَالْحكم تَارَة يتَّصل بِالسَّبَبِ وَتارَة يتَأَخَّر عَنهُ فَهَذَا الدّفع من جملَة الْوَجْه الثَّالِث بِبَيَان أَنه حدث بِالْجُمْلَةِ وَالثَّانِي أَن الْمَقْصُود بِهَذَا التَّعْلِيل التَّسْوِيَة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَقد سوينا فَإِن الْخَارِج الْمُعْتَاد من السَّبِيل إِذا كَانَ دَائِما يكون حَدثا مُوجبا للطَّهَارَة بعد خُرُوج الْوَقْت لَا فِي الْوَقْت فَكَذَلِك الَّذِي هُوَ غير الْمُعْتَاد وَالَّذِي هُوَ خَارج من غير سَبِيل
وَكَذَا إِذا عللنا فِي أَن السّنة فِي التَّأْمِين الْإخْفَاء بقولنَا إِنَّه ذكر لَا يدْخل عَلَيْهِ الْأَذَان وَلَا التَّكْبِيرَات الَّتِي يجْهر بهَا الإِمَام لِأَن الْغَرَض التَّسْوِيَة بَين التَّأْمِين

(2/248)


وَبَين سَائِر الْأَذْكَار فِي أَن الأَصْل هُوَ الْإخْفَاء وَذَلِكَ ثَابت إِلَّا إِن جهر الإِمَام بالتكبيرات لَا لِأَنَّهَا ذكر بل لإعلام من خَلفه بالانتقال من ركن إِلَى ركن والجهر بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة كَذَلِك أَيْضا وَلِهَذَا لَا يجْهر الْمُقْتَدِي بالتكبيرات وَلَا يجْهر الْمُنْفَرد بالتكبيرات وَلَا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة فَيدْفَع النَّقْض بِبَيَان الْغَرَض الْمَطْلُوب بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ التَّسْوِيَة بَين هَذَا الذّكر وَبَين سَائِر أذكار الصَّلَاة
وَبَعض أهل النّظر يعبرون عَن هَذَا فَيَقُولُونَ مقصودنا بِهَذَا التَّعْلِيل التَّسْوِيَة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَقد سوينا بَينهمَا فِي مَوضِع النَّقْض كَمَا سوينا فِي مَوضِع التَّعْلِيل فيتبين بِهِ وَجه التَّوْفِيق بطرِيق ينْدَفع بِهِ التَّنَاقُض وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب التَّرْجِيح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِي فُصُول أَحدهَا فِي معنى التَّرْجِيح لُغَة وَشَرِيعَة وَالثَّانِي فِي بَيَان مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح وَالثَّالِث فِي بَيَان المخلص من تعَارض يَقع فِي التَّرْجِيح وَالرَّابِع فِي بَيَان مَا هُوَ فَاسد من وُجُوه التَّرْجِيح
فَأَما الأول فَنَقُول تَفْسِير التَّرْجِيح لُغَة إِظْهَار فضل فِي أحد جَانِبي المعادلة وَصفا لَا أصلا فَيكون عبارَة عَن مماثلة يتَحَقَّق بهَا التَّعَارُض ثمَّ يظْهر فِي أحد الْجَانِبَيْنِ زِيَادَة على وَجه لَا تقوم تِلْكَ الزِّيَادَة بِنَفسِهَا فِيمَا تحصل بِهِ الْمُعَارضَة أَو تثبت بِهِ الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ وَمِنْه الرجحان فِي الْوَزْن فَإِنَّهُ عبارَة عَن زِيَادَة بعد ثُبُوت المعادلة بَين كفتي الْمِيزَان وَتلك الزِّيَادَة على وَجه لَا تقوم مِنْهَا الْمُمَاثلَة ابْتِدَاء وَلَا يدْخل تَحت الْوَزْن مُنْفَردا عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ مَقْصُودا بِنَفسِهِ فِي الْعَادة نَحْو الْحبَّة فِي الْعشْرَة وَهَذَا لِأَن ضد التَّرْجِيح التطفيف وَإِنَّمَا يكون التطفيف بِنُقْصَان يظْهر فِي الْوَزْن أَو الْكَيْل بعد وجود الْمُعَارضَة بِالطَّرِيقِ الَّذِي تثبت بِهِ الْمُمَاثلَة على وَجه لَا تنعدم بِهِ الْمُعَارضَة فَكَذَلِك الرجحان يكون بِزِيَادَة وصف على وَجه لَا تقوم بِهِ الْمُمَاثلَة وَلَا يَنْعَدِم بظهوره أصل الْمُعَارضَة وَلِهَذَا لَا تسمى زِيَادَة دِرْهَم على الْعشْرَة فِي أحد

(2/249)


الْجَانِبَيْنِ رجحانا لِأَن الْمُمَاثلَة تقوم بِهِ أصلا وَتسَمى زِيَادَة الْحبَّة وَنَحْوهَا رجحانا لِأَن الْمُمَاثلَة لَا تقوم بهَا عَادَة
وَكَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَة هُوَ عبارَة عَن زِيَادَة تكون وَصفا لَا أصلا فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للوازن زن وأرجح فَإنَّا معشر الْأَنْبِيَاء هَكَذَا نزن وَلِهَذَا لَا بثبت حكم الْهِبَة فِي مِقْدَار الرجحان لِأَنَّهُ زِيَادَة تقوم وَصفا لَا مَقْصُودا بِسَبَبِهِ بِخِلَاف زِيَادَة الدِّرْهَم على الْعشْرَة فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ الحكم الْهِبَة حَتَّى لَو لم يكن متميزا كَانَ الحكم فِيهِ كَالْحكمِ فِي هبة الْمشَاع لِأَنَّهُ مِمَّا تقوم بِهِ الْمُمَاثلَة فَإِنَّهُ يكون مَقْصُودا بِالْوَزْنِ فَلَا بُد من أَن يَجْعَل مَقْصُودا فِي التَّمْلِيك بِسَبَبِهِ وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الْهِبَة فَإِن قَضَاء الْعشْرَة يكون بِمِثْلِهَا عشرَة فيتبين أَن بالرجحان لَا يَنْعَدِم أصل الْمُمَاثلَة لِأَنَّهُ زِيَادَة وصف بِمَنْزِلَة زِيَادَة وصف الْجَوْدَة وَمَا يكون مَقْصُودا بِالْوَزْنِ تنعدم بِهِ الْمُمَاثلَة وَلَا يكون ذَلِك من الرجحان فِي شَيْء وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي الْعِلَل فِي الْأَحْكَام إِن مَا يصلح عِلّة للْحكم ابْتِدَاء لَا يصلح للترجيح بِهِ وَإِنَّمَا يكون التَّرْجِيح بِمَا لَا يصلح عِلّة مُوجبَة للْحكم
وَبَيَان ذَلِك فِي الشَّهَادَات فَإِن أحد المدعيين لَو أَقَامَ شَاهِدين وَأقَام الآخر أَرْبَعَة من الشُّهُود لم يتَرَجَّح الَّذِي شهد لَهُ أَرْبَعَة لِأَن زِيَادَة الشَّاهِدين فِي حَقه عِلّة تَامَّة للْحكم فَلَا يصلح مرجحا للحجة فِي جَانِبه وَكَذَلِكَ زِيَادَة شَاهد وَاحِد لأحد المدعيين لِأَنَّهُ من جنس مَا تقوم بِهِ الْحجَّة أصلا فَلَا يَقع التَّرْجِيح بِهِ أصلا وَإِنَّمَا يَقع التَّرْجِيح بِمَا يقوى ركن الْحجَّة أَو يقوى معنى الصدْق فِي الشَّهَادَة وَذَلِكَ فِي أَن تتعارض شَهَادَة المستور مَعَ شَهَادَة الْعدْل بِأَن أَقَامَ أحد المدعيين مستورين وَالْآخر عَدْلَيْنِ فَإِنَّهُ يتَرَجَّح الَّذِي شهد بِهِ العدلان بِظُهُور مَا يُؤَكد معنى الصدْق فِي شَهَادَة شُهُوده
وَكَذَلِكَ فِي النّسَب أَو النِّكَاح لَو ترجح حجَّة أحد الْخَصْمَيْنِ باتصال الْقَضَاء بهَا لِأَن ذَلِك مِمَّا يُؤَكد ركن الْحجَّة فَإِن بِقَضَاء القاضى يتم معنى الْحجَّة فِي الشَّهَادَة وَيتَعَيَّن جَانب الصدْق
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي العلتين إِذا تَعَارَضَتَا لَا تترجح إِحْدَاهمَا بانضمام عِلّة أُخْرَى إِلَيْهَا وَإِنَّمَا هَذَا تترجح بِقُوَّة الْأَثر فِيهَا فبه يتَأَكَّد مَا هُوَ الرُّكْن فِي صِحَة الْعلَّة
وَكَذَلِكَ الخبران إِذا تَعَارضا لَا يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر بِخَبَر آخر بل بِمَا بِهِ يتَأَكَّد معنى الْحجَّة

(2/250)


فِيهِ وَهُوَ الإتصال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يرجح الْمَشْهُور بِكَثْرَة رُوَاته على الشاذ لظُهُور زِيَادَة الْقُوَّة فِيهِ من حَيْثُ الإتصال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويترجح بِفقه الرواى وَحسن ضَبطه وإتقانه لِأَنَّهُ يتقوى بِهِ معنى الإتصال برَسُول الله على الْوَجْه الذى وصل إِلَيْنَا بِالنَّقْلِ
وَكَذَلِكَ الْآيَتَانِ إِذا وَقعت الْمُعَارضَة بَينهمَا لَا تترجح إِحْدَاهمَا بِآيَة أُخْرَى بل تترجح بِقُوَّة فِي معنى الْحجَّة وَهُوَ أَنه نَص مُفَسّر وَالْآخر مؤول وَكَذَلِكَ لَا يتَرَجَّح أحد الْخَبَرَيْنِ بِالْقِيَاسِ
فَعرفنَا أَن مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح هُوَ مَا لَا يصلح عِلّة للْحكم ابْتِدَاء بل مَا يكون مقويا لما بِهِ صَارَت الْعلَّة مُوجبَة للْحكم
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو أَن رجلا جرح رجلا جِرَاحَة وجرحه آخر عشر جراحات فَمَاتَ من ذَلِك فَإِن الدِّيَة عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ لِأَن كل جِرَاحَة عِلّة تَامَّة وَلَا يتَرَجَّح أَحدهمَا بِزِيَادَة عدد فِي الْعلَّة فِي جَانِبه حَتَّى يصير الْقَتْل مُضَافا إِلَيْهِ دون صَاحبه بل يصير مُضَافا إِلَى فعلهمَا على وَجه التساوى
وَلَو قطع أَحدهمَا يَده ثمَّ جز الآخر رقبته فالقاتل هُوَ الذى جز رقبته دون الآخر لزِيَادَة قُوَّة فِيمَا هُوَ عِلّة الْقَتْل من فعله وَهُوَ أَنه لَا يتَوَهَّم بَقَاؤُهُ حَيا بعد فعله بِخِلَاف فعل الآخر
وعَلى هَذَا الأَصْل رجحنا سَبَب اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة للشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع على السَّبَب فِي حق الشَّرِيك فِي حُقُوق الْمَبِيع ثمَّ رجحنا الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع على الْجَار لزِيَادَة وكادة فِي الإتصال الذى ثَبت بالجوار فَإِن اتِّصَال الْملكَيْنِ فِي حق الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع فِي كل جُزْء فِي حق الشَّرِيك فِي حُقُوق الْمَبِيع الإتصال فِيمَا هُوَ بيع من الْمَبِيع وَفِي حق الْجَار لَا اتِّصَال من حَيْثُ الإختلاط فِيمَا هُوَ مَقْصُود وَلَا فِيمَا هُوَ تبع وَإِنَّمَا الإتصال من حَيْثُ الْمُجَاورَة بَين الْملكَيْنِ مَعَ تميز أَحدهمَا من الآخر ثمَّ من كَانَ جواره من ثَلَاث جَوَانِب لَا يتَرَجَّح على من كَانَ جواره من جَانب وَاحِد لِأَن الْمَوْجُود فِي جَانِبه زِيَادَة الْعلَّة من حَيْثُ الْعدَد فَلَا يثبت بِهِ التَّرْجِيح
وعَلى هَذَا قُلْنَا صَاحب الْقَلِيل يساوى صَاحب الْكثير فِي اسْتِحْقَاق الشّقص الْمَبِيع بِالشُّفْعَة لِأَن الشّركَة بِكُل جُزْء عِلّة تَامَّة لإستحقاق جَمِيع الشّقص الْمَبِيع بِالشُّفْعَة فَإِنَّمَا وجد فِي جَانب صَاحب الْكثير كَثْرَة الْعلَّة وَبِه لَا يَقع التَّرْجِيح
وَهَكَذَا يَقُول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار أصل التَّرْجِيح فَإِنَّهُ لَا يرجح

(2/251)


صابح الْكثير هُنَا حَتَّى يكون لصَاحب الْقَلِيل حق الْمُزَاحمَة مَعَه مَعَ الْأَخْذ بِالشُّفْعَة إِلَّا أَنه يَجْعَل الشُّفْعَة من جملَة مُوَافق الْملك فَتكون مقسومة بَين الشفعاء على قدر الْملك كَالْوَلَدِ وَالرِّبْح وَالثِّمَار من الْأَشْجَار الْمُشْتَركَة أَو يَجْعَل هَذَا بِمَنْزِلَة ملك الْمَبِيع فَيَجْعَلهُ مقسوما على مِقْدَار مَا يلْتَزم كل وَاحِد من المشترين من بدله وَهُوَ الثّمن حَتَّى إِذا بَاعَ عبدا بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم من رجلَيْنِ على أَن يكون على أَحدهمَا ألف دِرْهَم على الآخر بِعَيْنِه ألفا دِرْهَم فَإِن الْملك بَينهمَا فِي الْمَبِيع يكون أَثلَاثًا على قدر الْملك
وَهَذَا غلط مِنْهُ لِأَنَّهُ جعل الحكم مقسوما على قدر الْعلَّة أَو بنى الْعلَّة على الحكم وَذَلِكَ غير مُسْتَقِيم
وعَلى هَذَا اتّفقت الصَّحَابَة فِي امْرَأَة مَاتَت عَن ابنى عَم أَحدهمَا زَوجهَا فَإِن للزَّوْج النّصْف والباقى بَينهمَا بالعصوبة وَلَا يتَرَجَّح الزَّوْج بِسَبَب الزَّوْجِيَّة لِأَن ذَلِك عِلّة أُخْرَى لإستحقاق الْمِيرَاث سوى مَا يسْتَحق بِهِ الْعُصُوبَة فَلَا يتَرَجَّح علته بعلة أُخْرَى وَلَكِن يعْتَبر كل وَاحِد من السببين فِي حق من اجْتمع فِي حَقه السببان بِمَنْزِلَة مَا لَو وجد كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي شخص آخر
وَكَذَلِكَ قَالَ أَكثر الصَّحَابَة فِي انبى عَم أَحدهمَا أَخ لأم إِنَّه لَا يتَرَجَّح بالأخوة لأم على الآخر وَلَكِن لَهُ السُّدس بالفرضية والباقى بَينهمَا نِصْفَانِ بالعصوبة
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يتَرَجَّح ابْن الْعم الذى هُوَ أَخ لأم لِأَن الْكل قرَابَة فتقوى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ بالجهة الْأُخْرَى بِمَنْزِلَة أَخَوَيْنِ أَحدهمَا لأَب وَأم وَالْآخر لأَب
وأخذنا بقول أَكثر الصَّحَابَة لِأَن الْعُصُوبَة الْمُسْتَحقَّة بِكَوْنِهِ ابْن عَم مُخَالف للْمُسْتَحقّ بالأخوة وَلِهَذَا يكون اسْتِحْقَاق ابْن الْعم الْعُصُوبَة بعد اسْتِحْقَاق الْأَخ بدرجات وَالتَّرْجِيح بِقرَابَة الْأُم فِي اسْتِحْقَاق الْعُصُوبَة إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد جِهَة الْعُصُوبَة والإستواء فِي الْمنزلَة كَمَا فِي حق الْأَخَوَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَقع التَّرْجِيح بِقرَابَة الْأُم لِأَنَّهُ لَا يسْتَحق بهَا الْعُصُوبَة ابْتِدَاء فَيجوز أَن تتقوى بهَا عِلّة الْعُصُوبَة فِي جَانب الْأَخ لأَب وَأم إِذْ التَّرْجِيح يكون بعد الْمُعَارضَة والمساواة فَأَما قرَابَة الْأُخوة فهى لَيست من جنس قرَابَة ابْن الْعم حَتَّى تتقوى بهَا الْعُصُوبَة الثَّابِتَة لِابْنِ الْعم الذى هُوَ أَخ لأم بل يكون هَذَا السَّبَب بِمَنْزِلَة الزَّوْجِيَّة فَتعْتَبر حَال اجتماعها فِي شخص وَاحِد بِحَال انْفِرَاد كل وَاحِد من السببين فِي شخص آخر وَكثير من الْمسَائِل تخرج على مَا ذكرنَا من الأَصْل فِي هَذَا الْفَصْل إِذا تَأَمَّلت

(2/252)


فصل
وَمَا ينتهى إِلَيْهِ مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح فِي الْحَاصِل أَرْبَعَة أَحدهَا قُوَّة الْأَثر وَالثَّانِي قُوَّة الثَّبَات على الحكم الْمَشْهُود بِهِ وَالثَّالِث كَثْرَة الْأُصُول وَالرَّابِع عدم الحكم عِنْد عدم الْعلَّة
أما الْوَجْه الأول فَلِأَن الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار الْوَصْف حجَّة الْأَثر فمهما كَانَ الْأَثر أقوى كَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ أولى لصفة الوكادة فِيمَا بِهِ صَار حجَّة
فَذَلِك نَحْو دَلِيل الِاسْتِحْسَان مَعَ الْقيَاس وَنَحْو الْأَخْبَار إِذا تَعَارَضَت فَإِن الْخَبَر لما كَانَ حجَّة لِمَعْنى الِاتِّصَال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يزِيد معنى الِاتِّصَال وكادة من الاشتهار وَفقه الرَّاوِي وَحسن ضَبطه واتقانه كَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ أولى
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الشَّهَادَات مَتى تَعَارَضَت لم يتَرَجَّح بَعْضهَا بِقُوَّة عَدَالَة بعض الشَّاهِد وَهِي إِنَّمَا صَارَت حجَّة بِاعْتِبَار الْعَدَالَة ثمَّ بعد ظُهُور عادلة الْفَرِيقَيْنِ لَا يَقع التَّرْجِيح بِزِيَادَة معنى الْعَدَالَة قُلْنَا الْعَدَالَة لَيست بِذِي أَنْوَاع مُتَفَاوِتَة حَتَّى يظْهر لبعضها قُوَّة عِنْد الْمُقَابلَة بِالْبَعْضِ وَهِي عبارَة عَن التَّقْوَى والانزجار عَن ارْتِكَاب مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف فِيهِ على حد أَن يرجح الْبَعْض بِزِيَادَة قُوَّة عِنْد الرُّجُوع إِلَى حَده بِخِلَاف تَأْثِير الْعلَّة فَإِن قُوَّة الْأَثر عِنْد الْمُقَابلَة تظهر على وَجه لَا يُمكن إِنْكَاره
وَبَيَان هَذَا فِي مسَائِل
مِنْهَا أَن الشَّافِعِي علل فِي طول الْحرَّة أَنه يمْنَع نِكَاح الْأمة لِأَن فِي هَذَا العقد إرقاق جُزْء مِنْهُ مَعَ استغنائه عَنهُ فَلَا يجوز كَمَا لَو كَانَ تَحْتَهُ حرَّة وَهَذَا الْوَصْف بَين الْأَثر فَإِن الإرقاق نَظِير الْقَتْل من وَجه أَلا نرى أَن الإِمَام فِي الْأُسَارَى يتَخَيَّر بَين الْقَتْل والاسترقاق فَكَمَا يحرم عَلَيْهِ قتل وَلَده شرعا يحرم عَلَيْهِ إرقاقه مَعَ استغنائه عَنهُ
وَقُلْنَا هَذَا النِّكَاح يجوز لعبد الْمُسلم فَإِن الْمولى إِذا دفع إِلَيْهِ مَالا وَأذن لَهُ فِي أَن ينْكح بِهِ مَا شَاءَ من حرَّة أَو أمة جَازَ لَهُ أَن ينْكح الْأمة فَلَمَّا كَانَ طول الْحرَّة لَا يمْنَع نِكَاح الْأمة للْعَبد الْمُسلم لَا يمْنَع للْحرّ لوُجُود الْحرَّة فِي الدُّنْيَا
وتأثير مَا قُلْنَا أَن تَأْثِير الرّقّ

(2/253)


فِي تنصيف الْحل الذى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ عقد النِّكَاح وَحَقِيقَة التنصيف فِي أَن يكون حكم العَبْد فِي النّصْف الباقى لَهُ وَحكم الْحر فِي جَمِيع ذَلِك سَوَاء فَمَا يكون شرطا فِي حق الْحر يكون شرطا فِي حق العَبْد كالمشهود وخلو الْمَرْأَة عَن الْعدة وَمَال لَا يكون شرطا فِي حق العَبْد لَا يكون شرطا فِي حق الْحر كالخطبة وَتَسْمِيَة الْمهْر لَا يكون فِي حق العَبْد
ثمَّ تظهر قُوَّة التَّأْثِير لما قُلْنَا فِي الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول فَإِن الرّقّ من أَوْصَاف النُّقْصَان وَالْحريَّة من أَوْصَاف الْكَمَال وَهَذَا الْحل كَرَامَة يخْتَص بِهِ الْبشر فَكيف يجوز القَوْل بِأَنَّهُ يَتَّسِع الْحل بِسَبَب الرّقّ حَتَّى يحل للْعَبد مَا لَا يحل للْحرّ
وبزداد قُوَّة بِالنّظرِ فِي أَحْوَال الْبشر فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضل أمته بِزِيَادَة اتساع فِي حلّه حَتَّى جَازَ لَهُ نِكَاح تسع نسْوَة أَو إِلَى مَا لَا يتناهى على حسب مَا اخْتلفُوا فِيهِ
فَتبين بِهَذَا تَحْقِيق معنى الْكَرَامَة فِي زِيَادَة الْحل وَظهر أَنه لَا يجوز القَوْل بِزِيَادَة حل العَبْد على حل الْحر
وَيظْهر ضعف أثر علته فِي الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول فَإِن إرقاق المَاء دون التضييع لَا محَالة وَيحل لَهُ أَن يضيع مَاءَهُ بِالْعَزْلِ عَن الْحرَّة بِإِذْنِهَا فَلِأَن يجوز تَعْرِيض مَا بِهِ الرّقّ بِنِكَاح الْأمة كَانَ أولى
ويزداد ضعفا بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْوَال الْبشر فَإِنَّهُ من ملك نَفسه على وَجه يَأْمَن أَن يَقع فِي الْحَرَام يجوز لَهُ نِكَاح الْأمة وَلَا يحل لَهُ قتل وَلَده إِذا أَمن جَانِبه بِحَال من الْأَحْوَال
وعَلى هَذَا قُلْنَا للْحرّ أَن يتَزَوَّج أمة على أمة لِأَن ذَلِك جَائِز للْعَبد فَيجوز للْحرّ من الْوَجْه الذى قَررنَا وَلَا يجوز للْعَبد أَن ينْكح أمة على حرَّة كَمَا لَا يجوز ذَلِك للْحرّ لِأَن العَبْد فِي النّصْف الباقى لَهُ مثل الْحر فِي الحكم
وَعلل فِي حُرْمَة نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة على الْمُسلم بِأَنَّهَا أمة كَافِرَة فَلَا يجوز نِكَاحهَا للْمُسلمِ كالمجوسية
وَهَذَا بَين الْأَثر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الرّقّ مُؤثر فِي حُرْمَة النِّكَاح حَتَّى لَا يجوز نِكَاح الْأمة على الْحرَّة وَالْكفْر كَذَلِك فَإِذا اجْتمع الوصفان فِي شخص تغلظ معنى الْحُرْمَة فِيهَا فيلتحق بالْكفْر المتغلظ بِعَدَمِ الْكتاب فِي الْمَنْع من النِّكَاح
وَالثَّانِي أَن جَوَاز نِكَاح الْأمة بطرِيق الضَّرُورَة عِنْد خشيَة الْعَنَت وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بِحل الْأمة الْمسلمَة فَلَا حَاجَة إِلَى حل الْأمة الْكِتَابِيَّة للْمُسلمِ بِالنِّكَاحِ
وَقُلْنَا نَحن الْيَهُودِيَّة

(2/254)


والنصرانية دين يجوز للْمُسلمِ نِكَاح الْحرَّة من أَهلهَا فَيجوز نِكَاح الْأمة كَدين الْإِسْلَام
وتأثيره فِيمَا بَينا أَن الرّقّ يُؤثر فِي التنصيف من الْجَانِبَيْنِ فِيمَا يبتنى على الْحل إِلَّا أَن مَا يكون مُتَعَددًا فالتنصيف يظْهر فِي الْعدَد كَالطَّلَاقِ وَالْعدة وَالْقسم وَالنِّكَاح الذى يبتنى على الْحل فِي جَانب الرجل مُتَعَدد فالتنصيف يظْهر فِي الْعدَد وَفِي جَانب الْمَرْأَة غير مُتَعَدد فَإِنَّهَا لَا تحل لِرجلَيْنِ بِحَال وَلَكِن من حَيْثُ الْأَحْوَال مُتَعَدد حَال تقدم نِكَاحهَا على نِكَاح الْحرَّة وَحَال التَّأَخُّر وَحَال الْمُقَارنَة فَيظْهر التنصيف بِاعْتِبَار الْأَحْوَال وَفِي الْحَال الْوَاحِد يجْتَمع معنى الْحل وَمعنى الْحُرْمَة فيترجح معنى الْحُرْمَة بِمَنْزِلَة الطَّلَاق وَالْعدة فَإِن طَلَاق الْأمة تَطْلِيقَتَانِ وعدتها حيضتان وَفِي الْحَقِيقَة هما حالتان حَالَة الإنفراد عَن الْحرَّة بِالسَّبقِ وَحَالَة الإنضمام إِلَى الْحرَّة بالمقارنة أَو التَّأَخُّر فَتكون محللة فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دون الْأُخْرَى
ثمَّ تظهر قُوَّة هَذَا الْأَثر بِالتَّأَمُّلِ فِي الْأُصُول فَإِن الْحل تَارَة يثبت بِالنِّكَاحِ وَتارَة بِملك الْيَمين وَوجدنَا أَن الْأمة الْكِتَابِيَّة كالأمة الْمسلمَة فِي الْحل بِملك الْيَمين فَكَذَلِك فِي الْحل بِالنِّكَاحِ ولسنا نسلم أَنه يتغلظ كفر الْكِتَابِيَّة برقها فِي حكم النِّكَاح فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم يحل بِملك الْيَمين كالمجوسية
ثمَّ النُّقْصَان أَو الْخبث الثَّابِت بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا من وَجه سوى الْوَجْه الآخر وَإِنَّمَا يظْهر التَّغْلِيظ عِنْد إِمْكَان إِثْبَات الِاتِّحَاد بَينهمَا وَمَعَ اخْتِلَاف الْجِهَة لَا يَتَأَتَّى ذَلِك
وَقد بَينا أَن انضمام عِلّة إِلَى عِلّة لَا يُوجب قُوَّة فِي الحكم
وَلَا نسلم أَن إِبَاحَة نِكَاح الْأمة بطرِيق الضَّرُورَة لما بَينا أَن الرَّقِيق فِي النّصْف الباقى مسَاوٍ للْحرّ فَكَمَا أَن نِكَاح الْحرَّة يكون أصلا مَشْرُوعا لَا بطرِيق الضَّرُورَة فَكَذَلِك نِكَاح الْأمة فِي النّصْف الباقى لَهَا ونعتبرها بِالْعَبدِ بل أولى لِأَن معنى عدم الضَّرُورَة فِي حق الْأمة أظهر مِنْهُ فِي حق العَبْد فَإِنَّهَا تستمتع بمولاها بِملك الْيَمين وَالْعَبْد لَا طَرِيق لَهُ سوى النِّكَاح ثمَّ لم نجْعَل بَقَاء مَا بقى فِي حق العَبْد بعد التنصيف بِالرّقِّ ثَابتا بطرِيق الضَّرُورَة

(2/255)


فَفِي حق الْأمة أولى وَعلل الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا إِذا أسلم أحد الزَّوْجَيْنِ فِي دَار الْإِسْلَام أَو فِي دَار الْحَرْب فَإِن كَانَ قبل الدُّخُول يتعجل الْفرْقَة وَإِن كَانَ بعد الدُّخُول يتَوَقَّف على انْقِضَاء الْعدة فَإِن الْحَادِث اخْتِلَاف الدّين بَين الزَّوْجَيْنِ فَيُوجب الْفرْقَة عِنْد عدم الْعدة كالردة وَسوى بَينهمَا فِي الْجَواب فَقَالَ إِذا ارْتَدَّ أَحدهمَا قبل الدُّخُول تتعجل الْفرْقَة فِي الْحَال وَبعد الدُّخُول يتَوَقَّف على انْقِضَاء ثَلَاث حيض
وَبَيَان أثر هَذَا الْوَصْف فِي ابْتِدَاء النِّكَاح فَإِن مَعَ اخْتِلَاف الدّين عِنْد إِسْلَام الْمَرْأَة وَكفر الزَّوْج لَا ينْعَقد النِّكَاح ابْتِدَاء كَمَا أَن عِنْد ردة أَحدهمَا لَا ينْعَقد النِّكَاح ابْتِدَاء فَكَذَلِك فِي حَالَة الْبَقَاء تستوي ردة أَحدهمَا وَإِسْلَام أَحدهمَا إِذا كَانَ على وَجه يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح وَفِي الرِّدَّة إِنَّمَا يثبت هَذَا الحكم للِاخْتِلَاف فِي الدّين لَا لمنافاة الرِّدَّة النِّكَاح فَإِنَّهُمَا لَو ارتدا مَعًا نَعُوذ بِاللَّه لَا تقع الْفرْقَة بَينهمَا وَإِنَّمَا انْعَدم الِاخْتِلَاف فِي الدّين هُنَا فَأَما الرِّدَّة فمتحققة وَمَعَ تحقق الْمنَافِي لَا يتَصَوَّر بَقَاء النِّكَاح كالمحرمية بِالرّضَاعِ والمصاهرة
وَقُلْنَا نَحن الْإِسْلَام سَبَب لعصمة الْملك فَلَا يجوز أَن يسْتَحق بِهِ زَوَال الْملك بِحَال وَكفر الَّذِي أصر مِنْهُمَا على الْكفْر كَانَ مَوْجُودا وَصَحَّ مَعَه النِّكَاح ابْتِدَاء وَبَقَاء فَلَا يجوز أَن يكون سَببا للفرقة أَيْضا
وَلَا يُقَال هَذَا الْكفْر إِنَّمَا لم يكن سَببا للفرقة فِي حَال كفر الآخر لَا بعد إِسْلَامه كَمَا لَا يكون سَببا للْمَنْع من ابْتِدَاء النِّكَاح فِي حَال كفر الآخر لَا بعد إِسْلَامه لِأَن اعْتِبَار الْبَقَاء بِالِابْتِدَاءِ فِي أصُول الشَّرْع ضَعِيف جدا فَإِن قيام الْعدة وَعدم الشُّهُود يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح وَلَا يمْنَع الْبَقَاء والاستغناء عَن نِكَاح الْأمة بِنِكَاح الْحرَّة يمْنَع نِكَاحهَا ابْتِدَاء وَلَا يمْنَع الْبَقَاء إِذا تزوج الْحرَّة بعد الْأمة فَإِن ظهر أَن وَاحِدًا من هذَيْن السببين لَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق الْفرْقَة وَلَا بُد من دفع ضَرَر الظُّلم الْمُتَعَلّق عَنْهَا لِأَن مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاع فَائت شرعا جعلنَا السَّبَب تَفْرِيق القَاضِي بعد عرض الْإِسْلَام على الَّذِي يَأْبَى مِنْهُمَا وَهُوَ قوي الْأَثر بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأُصُول فَإِن التَّفْرِيق بِاللّعانِ وبسبب الْجب والعنة وبسبب الْإِيلَاء يكون ثَابتا بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى محالا بِهِ على من كَانَ فَوَات الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ من جِهَته

(2/256)


فَهُنَا أَيْضا يُحَال بِهِ على من كَانَ فَوَات الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ بالإصرار على الْكفْر من جِهَته وَلَا يثبت إِلَّا بِقَضَاء القَاضِي
فَأَما الرِّدَّة فَهِيَ غير مَوْضُوعَة للفرقة بِدَلِيل صِحَّتهَا حَيْثُ لَا نِكَاح وَبِه فَارق الطَّلَاق وَإِذا لم يكن مَوْضُوعا للفرقة عرفنَا أَن حُصُول الْفرْقَة بهَا لكَونهَا مُنَافِيَة للنِّكَاح حكما وَذَلِكَ وصف مُؤثر فَإِن النِّكَاح يبتنى على الْحل الَّذِي هُوَ كَرَامَة وَبعد الرِّدَّة لَا يبْقى الْحل لِأَن الرِّدَّة سَبَب لإِسْقَاط مَا هُوَ كَرَامَة ولإزالة الْولَايَة والمالكية الثَّابِتَة بطرِيق الْكَرَامَة فَجَعلهَا مُنَافِيَة للنِّكَاح حكما يكون قوي الْأَثر من هَذَا الْوَجْه وَمَعَ وجود الْمنَافِي لَا يبْقى النِّكَاح سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل
فَأَما إِذا ارتدا مَعًا فَحكم بَقَاء النِّكَاح بَينهمَا مَعْلُوم بِإِجْمَاع الصَّحَابَة بِخِلَاف الْقيَاس وَقد بَينا أَن المعدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ أَو بِالْإِجْمَاع لَا يشْتَغل فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ وَلَا بِإِثْبَات الحكم فِيهِ بعلة وَقد بَينا فَسَاد اعْتِبَار حَالَة الْبَقَاء بِحَالَة الِابْتِدَاء فَلَا يجوز أَن يَجْعَل امْتنَاع صِحَة النِّكَاح بَينهمَا ابْتِدَاء بعد الرِّدَّة عِلّة للْمَنْع من بَقَاء النِّكَاح وَهَذَا لِأَن الْبَقَاء لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلا مبقيا وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْفَائِدَة فِي الْإِبْقَاء وَبعد ردتهما نَعُوذ بِاللَّه يتَوَهَّم مِنْهُمَا الرُّجُوع إِلَى الْإِسْلَام وَبِه تظهر فَائِدَة الْبَقَاء
فَأَما الثُّبُوت ابْتِدَاء يَسْتَدْعِي الْحل فِي الْمحل وَذَلِكَ منعدم بعد الرِّدَّة وَعند ردة أَحدهمَا لَا يظْهر فِي الْإِبْقَاء فَائِدَة مَعَ مَا هما عَلَيْهِ من الِاخْتِلَاف
وعَلى هَذَا علل الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي عدد الطَّلَاق فَإِنَّهُ مُعْتَبر بِحَال الزَّوْج لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِك للطَّلَاق وَعدد الْملك مُعْتَبر بِحَال الْمَالِك كعدد النِّكَاح وَهَذَا بَين الْأَثر لِأَن الْمَالِكِيَّة عبارَة عَن الْقُدْرَة والتمكن من التَّصَرُّف فَإِذا كَانَ الزَّوْج هُوَ المتمكن من التَّصَرُّف فِي الطَّلَاق بالإيقاع عرفنَا أَنه هُوَ الْمَالِك لَهُ وَإِنَّمَا يتم الْملك بِاعْتِبَار كَمَال حَال الْمَالِك بِالْحُرِّيَّةِ كَمَا أَن ملك التَّصَرُّف بِالْإِعْتَاقِ وَغَيره إِنَّمَا يتم بِكَمَال حَال الْمَالِك بِالْحُرِّيَّةِ
وَقُلْنَا نَحن الطَّلَاق تصرف بِملك بِالنِّكَاحِ فيتقدر بِقدر ملك النِّكَاح وَذَلِكَ يخْتَلف باخْتلَاف حَال الْمَرْأَة فِي الرّقّ وَالْحريَّة لِأَن الْملك إِنَّمَا يثبت فِي الْمحل

(2/257)


بِاعْتِبَار صفة الْحل والحل الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ النِّكَاح فِي حق الْأمة على النّصْف مِنْهُ فِي حق الْحرَّة فبقدر ذَلِك يثبت الْملك ثمَّ بِقدر الْملك يتَمَكَّن الْمَالِك من الْإِبْطَال كَمَا أَن بِقدر ملك الْيَمين يتَمَكَّن من إِبْطَاله بِالْعِتْقِ حَتَّى إِنَّه إِذا كَانَ لَهُ عبد وَاحِد يملك إعتاقا وَاحِدًا فَإِن كَانَ لَهُ عَبْدَانِ يملك عتقين
ثمَّ ظهر قُوَّة الْأَثر لما قُلْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الأَصْل وَهُوَ أَن مَا يبتنى على ملك النِّكَاح وَيخْتَص بِهِ فَإِنَّهُ يخْتَلف باخْتلَاف حَالهَا وَذَلِكَ نَحْو الْقسم فِي حَال قيام النِّكَاح وَالْعدة وَحقّ الْمُرَاجَعَة باعتبارها بعد الطَّلَاق فَعرفنَا أَنه يتَقَدَّر مَا يبتنى على ملك النِّكَاح بِقدر الْملك الثَّابِت بِحَسب مَا يسع الْمحل لَهُ
وعَلى هَذَا علل فِي تكْرَار الْمسْح بِأَنَّهُ ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ فِيهِ التّكْرَار كالغسل
وَقُلْنَا نَحن إِنَّه مسح فَلَا يسن فِيهِ التّكْرَار كالمسح بالخف ثمَّ كَانَ تَأْثِير الْمسْح فِي إِسْقَاط التّكْرَار أقوى من تَأْثِير الركنية فِي سنة التّكْرَار فِيهِ فَإِن التّكْرَار مَشْرُوع فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وليسا بِرُكْن وتأثير الْمسْح فِي التَّخْفِيف فَإِن الِاكْتِفَاء بِالْمَسْحِ فِيهِ مَعَ إِمْكَان الْغسْل مَا كَانَ إِلَّا للتَّخْفِيف وَعند الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول يظْهر معنى التَّخْفِيف بترك التّكْرَار بعد الْإِكْمَال مَعَ مَا فِيهِ من دفع الضَّرَر الَّذِي يلْحقهُ بإفساد عمَامَته بِكَثْرَة مَا يُصِيب رَأسه من البلة
وعَلى هَذَا علل فِي اشْتِرَاط تعْيين النِّيَّة فِي الصَّوْم بِأَنَّهُ صَوْم فرض وَهُوَ بَين الْأَثر فَإِن اشْتِرَاط النِّيَّة لِمَعْنى التَّقَرُّب وَصفَة الْفَرْضِيَّة قربَة كالأصل
وَقُلْنَا نَحن صَوْم عين وتأثيره أَن اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْعِبَادَة فِي الأَصْل للتمييز بَين أَنْوَاعهَا بتعين نوع مِنْهَا وَهَذَا مُتَعَيّن شرعا فَلَا معنى لاشْتِرَاط النِّيَّة للتعيين وَمعنى الْقرْبَة يتم بِوُجُود أصل النِّيَّة فباعتبار قُوَّة الْأَثر من هَذَا الْوَجْه يظْهر التَّرْجِيح
وَمَا يخرج على هَذَا من الْمسَائِل لَا يُحْصى وَفِيمَا ذكرنَا كِفَايَة لمن يحسن التَّأَمُّل فِي نظائرها
وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ التَّرْجِيح بِقُوَّة ثبات الحكم الْمَشْهُود بِهِ فَلِأَن أصل ذَلِك إِنَّمَا يكون عَن نَص أَو إِجْمَاع وَمَا يكون ثُبُوته بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع يكون ثَابتا متأكدا فَمَا يظْهر فِيهِ زِيَادَة الْقُوَّة فِي الثَّبَات عِنْد الْعرض على الْأُصُول يكون راجحا بِاعْتِبَار مَا بِهِ صَار حجَّة
وَبَيَان ذَلِك فِي مَسْأَلَة

(2/258)


مسح الرَّأْس أَيْضا فَإِن الْوَصْف الَّذِي عللنا بِهِ لَهُ زِيَادَة قُوَّة الثَّبَات على الحكم الْمَشْهُود بِهِ أَلا ترى أَن سَائِر أَنْوَاع الْمسْح كالتيمم وَالْمسح على الْخُف وَالْمسح على الجورب عِنْد من يُجِيزهُ وَالْمسح على الجبائر يظْهر الخفة فِيهَا بترك اعْتِبَار التّكْرَار وَلَيْسَ للوصف الَّذِي علل بِهِ قُوَّة الثَّبَات بِهَذِهِ الصّفة فَإِن فِي الصَّلَاة أركانا كالقيام وَالْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود ثمَّ تَمامهَا يكون بالإكمال لَا بالتكرار فَعرفنَا أَن الركنية لَيْسَ بِوَصْف قوي ثَابت فِي إِثْبَات سنة التّكْرَار بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْم فَإِن صفة العينية قوي ثَابت فِي إِسْقَاط اشْتِرَاط نِيَّة التَّعْيِين فِيهِ حَتَّى يتَعَدَّى إِلَى سَائِر الْعِبَادَات كَالزَّكَاةِ إِذا تصدق بالنصاب على الْفَقِير وَهُوَ لَا يَنْوِي الزَّكَاة وَالْحج إِذا أطلق النِّيَّة وَلم يعين حجَّة الْإِسْلَام وَالْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى
وَيَتَعَدَّى إِلَى غير الْعِبَادَات نَحْو رد الودائع والغصوب ورد الْمَبِيع على البَائِع لفساد البيع
وَصفَة الْفَرْضِيَّة لَيْسَ بِقَوي ثَابت فِي اشْتِرَاط نِيَّة التَّعْيِين بَعْدَمَا صَار مُتَعَيّنا فِي الصَّوْم لَا فِي غير الصَّوْم
وَكَذَلِكَ مَا علل بِهِ عُلَمَاؤُنَا فِي أَن الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْإِتْلَافِ لِأَن ضَمَان الْمُتْلفَات مُقَدّر بِالْمثلِ بِالنَّصِّ وَبِاعْتِبَار مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْجبرَان وَبَين الْعين وَالْمَنْفَعَة تفَاوت فِي الْمَالِيَّة من الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَلَا يجوز أَن يُوجب على الْمُتْلف فَوق مَا أتلف فِي صفة الْمَالِيَّة كَمَا لَا يُوجب الْجيد بِإِتْلَاف الرَّدِيء
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله الْمَنَافِع تضمن بِالْعقدِ الْجَائِز وَالْفَاسِد بِالدَّرَاهِمِ فتضمن بِالْإِتْلَافِ كالأعيان ثمَّ تَأْثِيره تحقق الْحَاجة إِلَى التحرر عَن إهدار حق الْمُتْلف عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَظِير تحقق الْحَاجة إِلَى ملك الْمَنْفَعَة بِالْعِوَضِ بِالْعقدِ
ثمَّ هُوَ يزْعم أَن علته أقوى فِي ثبات الحكم الْمَشْهُود بِهِ عَلَيْهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِذا لم يكن بُد من الْإِضْرَار بِأَحَدِهِمَا فمراعاة جَانب الْمَظْلُوم وإلحاق الخسران بالظالم بِإِيجَاب الزِّيَادَة عَلَيْهِ أولى من إهدار حق الْمَظْلُوم
وَالثَّانِي أَن فِي إِيجَاب الضَّمَان إهدار حق الظَّالِم فِيمَا هُوَ وصف مَحْض وَهُوَ صفة الْبَقَاء وَفِي الأَصْل هما شَيْئَانِ وَهُوَ كَونهمَا مُنْتَفعا بِهِ غير أَن فِي طرف الظَّالِم فضل صفة وَهُوَ الْبَقَاء فبهدر صِيَانة الأَصْل (هدر) حق الْمَظْلُوم

(2/259)


وَإِذا قُلْنَا لَا يجب الضَّمَان كَانَ فِيهِ إهدار حق الْمُتْلف عَلَيْهِ فِي أصل الْمَالِيَّة وَلَا شكّ أَن الْوَصْف دون الأَصْل
وَنحن نقُول قُوَّة ثبات الحكم فِيمَا اعتبرناه لِأَن فِي إِيجَاب الزِّيَادَة معنى الْجور وَلَا يجوز نِسْبَة ذَلِك إِلَى الشَّرْع بِغَيْر وَاسِطَة من الْعباد بِحَال من الْأَحْوَال وَإِذا لم نوجب الضَّمَان فَإِنَّمَا لَا نوجب لعجزنا عَن إِيجَاب الْمثل فِي مَوضِع ثَبت اشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِيهِ بِالنَّصِّ وَبِه فَارق ضَمَان العقد فَإِنَّهُ غير مَبْنِيّ على الْمُمَاثلَة بِأَصْل الْوَضع وَكَيف يكون مَبْنِيا على ذَلِك والمبتغى بِهِ الرِّبْح والامتناع من الْإِقْدَام عِنْد تحقق الْعَجز أصل مَشْرُوع لنا وَالثَّانِي أَن فِي إِيجَاب الزِّيَادَة إهدار حق الْمُتْلف فِي هَذِه الزِّيَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَإِذا قُلْنَا لَا يجب الضَّمَان لَا يهدر حق الْمُتْلف عَلَيْهِ أصلا بل يتَأَخَّر إِلَى الْآخِرَة وضرر التَّأْخِير دون ضَرَر الإهدار
وَلَا يدْخل على هَذَا إِتْلَاف مَا لَا مثل لَهُ من جنسه لِأَن الْوَاجِب هُوَ مثل الْمُتْلف فِي الْمَالِيَّة شرعا إِلَّا أَنه آل الْأَمر إِلَى الِاسْتِيفَاء وَذَلِكَ يبتنى على الوسع
قُلْنَا يتَقَدَّر بِقدر الوسع وَيسْقط اعْتِبَار أدنى تفَاوت فِي الْقيمَة لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاع التَّحَرُّز عَن ذَلِك وَلَكِن لَا يتَحَقَّق فِي هَذَا معنى نِسْبَة الْجور إِلَى الشَّرْع فَالْوَاجِب شرعا هُوَ الْمثل لَا غير وَمَا اعْتبر من تَرْجِيح جَانب الْمَظْلُوم فَهُوَ ضَعِيف جدا لِأَن الظَّالِم لَا يظلم وَلَكِن ينتصف مِنْهُ مَعَ قيام حَقه فِي ملكه فَلَو لم نوجب الضَّمَان لسقط حق الْمَظْلُوم لَا بِفعل مُضَاف إِلَيْنَا وَهُوَ أَنا نلزمه أَدَاء ذَلِك بطرِيق الحكم بِهِ عَلَيْهِ ومراعاة الْوَصْف فِي الْوُجُوب كمراعاة الأَصْل أَلا ترى أَن فِي الْقصاص الَّذِي يبتنى على الْمُسَاوَاة التَّفَاوُت فِي الْوَصْف كالصحيحة مَعَ الشلاء يمْنَع جَرَيَان الْقصاص وَلَا ينظر إِلَى تَرْجِيح جَانب الْمَظْلُوم وَإِلَى تَرْجِيح جَانب الأَصْل على الْوَصْف فَعرفنَا أَن قُوَّة الثَّبَات فِيمَا قُلْنَا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن ملك النِّكَاح لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ فِي الشَّهَادَة على الطَّلَاق قبل الدُّخُول وَملك الْقصاص لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ فِي الشَّهَادَة على الْعَفو وَقد بَينا فِيمَا سبق أَن وجوب الدِّيَة عِنْد إِتْلَاف النَّفس أَو الْأَطْرَاف على وَجه لَا يُمكن إِيجَاب الْمثل فِيهِ حكم ثَابت بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس وَهُوَ لصيانة الْمحل عَن

(2/260)


الإهدار لَا للماثلة على وَجه الخبران لِأَن النُّفُوس بأطرافها مصونة عَن الابتذال وَعَن الإهدار
وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأُصُول فَلِأَن كَثْرَة الْأُصُول فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار الْوَصْف بِهِ حجَّة بِمَنْزِلَة الاشتهار فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار الْخَبَر بِهِ حجَّة وَهَذَا يظْهر إِذا تَأَمَّلت فِيمَا ذكرنَا من الْمسَائِل وَغَيرهَا وَمَا من نوع من هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة إِذا قَرّرته فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَتبين بِهِ إِمْكَان تَقْرِير النَّوْعَيْنِ الآخرين فِيهِ أَيْضا
وَأما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ التَّرْجِيح بِعَدَمِ الحكم عِنْد عدم الْعلَّة فَهُوَ أَضْعَف وُجُوه التَّرْجِيح لما بَينا أَن الْعَدَم (لَا يُوجب شَيْئا وَأَن الْعَدَم لَا يكون مُتَعَلقا بعلة وَلَكِن انعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة) يصلح أَن يكون دَلِيلا على وكادة اتِّصَال الحكم بِالْعِلَّةِ فَمن هَذَا الْوَجْه يصلح للترجيح
وَبَيَانه فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ أَيْضا فَإِن التَّعْلِيل بِأَنَّهُ ركن لَا يكون فِي الْقُوَّة كالتعليل بِأَنَّهُ مسح لِأَن حكم ثُبُوت التّكْرَار لَا يَنْعَدِم بانعدام الركنية كَمَا فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَحكم سُقُوط التّكْرَار يَنْعَدِم بانعدام وصف الْمسْح كَمَا فِي اغتسال الْجنب وَالْحَائِض فَإِنَّهُ يسن فِيهِ صفة التّكْرَار لِأَنَّهُ لَيْسَ بمسح
وَكَذَلِكَ فِي كل مَا يعقل تَطْهِيرا صفة التّكْرَار فِيهِ يكون مسنونا وَفِيمَا لَا يعقل تَطْهِيرا لَا يسن فِيهِ صفة التّكْرَار وَقَوْلنَا مسح ينبىء عَن ذَلِك
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي الْأَخ إِذا ملك أُخْته إِن بَينهمَا قرَابَة مُحرمَة للنِّكَاح وينعدم حكم الْعتْق بِالْملكِ عِنْد انعدام هَذَا الْمَعْنى كَمَا فِي بني الْأَعْمَام وَهُوَ إِذا قَالَ شخصان يجوز لأَحَدهمَا أَن يضع زَكَاة مَاله فِي صَاحبه فَلَا يعْتق أَحدهمَا على صَاحبه إِذا ملكه لِانْعِدَامِ هَذَا الحكم عِنْد انعدام هَذَا الْمَعْنى فَإِن الْمُسلم لَا يجوز لَهُ أَن يضع زَكَاة مَاله فِي الْكَافِر وَذَلِكَ لَا يدل على أَنه يعْتق أَحدهمَا على صَاحبه إِذا ملكه
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِنَّه لَا يشْتَرط قَبضه فِي الْمجْلس لِأَنَّهُ عين بِعَين وينعدم هَذَا الحكم عِنْد انعدام

(2/261)


هَذَا الْوَصْف فَإِنَّهُ فِي بَاب الصّرْف يشْتَرط الْقَبْض من الْجَانِبَيْنِ لِأَن الأَصْل فِيهِ النُّقُود وَهِي لَا تتَعَيَّن فِي الْعُقُود فَكَانَ دينا بدين وَفِي السّلم يشْتَرط الْقَبْض فِي رَأس المَال لِأَن الْمُسلم فِيهِ دين وَرَأس المَال فِي الْغَالِب نقد فَيكون دينا بدين فَعرفنَا أَنه يَنْعَدِم الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة
وَهُوَ يُعلل فَيَقُول مالان لَو قوبل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ يحرم التَّفَاضُل بَينهمَا فَيشْتَرط التَّقَابُض فِي بيع أَحدهمَا بِالْآخرِ كالذهب وَالْفِضَّة
ثمَّ الحكم لَا يَنْعَدِم عِنْد انعدام هَذَا الْمَعْنى فِي السّلم فَإِنَّهُ يشْتَرط قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس وَإِن جمع العقد هُنَاكَ بدلين لَا يحرم التَّفَاضُل إِذا قوبل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ
فَهَذَا بَيَان الْفَصْل الرَّابِع

فصل
وَأما المخلص من التَّعَارُض فِي دَلِيل التَّرْجِيح فطريق بَيَانه أَن نقُول إِن كل مُحدث مَوْجُود بصورته وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَة لَهُ ثمَّ تقوم بِهِ أَحْوَال تحدث عَلَيْهِ فَإِذا قَامَ دَلِيل التَّرْجِيح لِمَعْنى فِي ذَات أحد المتعارضين وعارضه دَلِيل التَّرْجِيح لِمَعْنى فِي حَال الآخر على مُخَالفَة الأول فَإِنَّهُ يرجح الْمَعْنى الَّذِي هُوَ فِي الذَّات على الْمَعْنى الَّذِي هُوَ فِي الْحَال لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الذَّات أسبق وجودا من الْحَال فبعدما وَقع التَّرْجِيح لِمَعْنى فِيهِ لَا يتَغَيَّر بِمَا حدث من معنى فِي حَال الآخر بعد ذَلِك بِمَنْزِلَة مَا لَو اتَّصل الحكم بِاجْتِهَاد فتأيد بِهِ ثمَّ لم ينْسَخ بِمَا يحدث من اجْتِهَاد آخر بعد ذَلِك وَإِذا اتَّصل الحكم بِشَهَادَة المستورين بِالنّسَبِ أَو النِّكَاح لرجل لم يتَغَيَّر بعد ذَلِك بِشَهَادَة عَدْلَيْنِ لآخر
وَالثَّانِي أَن الْأَحْوَال الَّتِي تحدث على الذَّات تقوم بِهِ فَكَانَ الذَّات بِمَنْزِلَة الأَصْل وَمَا يقوم بِهِ من الْحَال بِمَنْزِلَة التبع وَالْأَصْل لَا يتَغَيَّر بالتبع على أَي وَجه كَانَ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ أَن ابْن الْأَخ لأَب وَأم يكون مقدما فِي الْعُصُوبَة على الْعم لِأَن الْمُرَجح فِيهِ معنى فِي ذَات

(2/262)


الْقَرَابَة وَهُوَ الْأُخوة الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة على العمومة وَفِي الْعم الْمُرَجح هُوَ زِيَادَة الْقرب بِاعْتِبَار الْحَال
وَكَذَلِكَ الْعمة لأم مَعَ الْخَالَة لأَب وَأم إِذا اجتمعتا فللعمة الثُّلُثَانِ بِاعْتِبَار أَن الْمُرَجح فِي حَقّهَا هُوَ معنى فِي ذَات الْقَرَابَة وَهُوَ الإدلاء بِالْأَبِ وَفِي الْأُخْرَى معنى فِي حَالهَا وَهُوَ اتصالها من الْجَانِبَيْنِ بِأم الْمَيِّت
وَلَو كَانَا أَخَوَيْنِ أَحدهمَا لأَب وَأم وَالْآخر لأَب فَإِنَّهُ يقدم فِي الْعُصُوبَة الَّذِي لأَب وَأم لِأَنَّهُمَا اسْتَويَا فِي ذَات الْقَرَابَة فيصار إِلَى التَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْحَال وَهُوَ زِيَادَة الِاتِّصَال لأَحَدهمَا
وَلَو كَانَ ابْن الْأَخ لأَب مَعَه ابْن ابْن أَخ لأَب وَأم فَإِن الْأَخ لأَب يقدم فِي الْعُصُوبَة بِاعْتِبَار الْحَال لما اسْتَويَا فِي ذَات الْقَرَابَة وَهُوَ الْأُخوة
وَرُبمَا خَفِي على الشَّافِعِي هَذَا الْحَد فِي بعض الْمسَائِل فَهُوَ مَعْذُور لكَونه خفِيا وَمن أصَاب مَرْكَز الدَّلِيل فَهُوَ مأجور مشكور
وَبَيَانه فِي مسَائِل الْغَصْب فَإِن علماءنا أثبتوا التَّرْجِيح بِاعْتِبَار الصِّنَاعَة والخياطة والطبخ والشي وَقَالُوا فِيمَن غصب ساحة وأدخلها فِي بنائِهِ يَنْقَطِع حق الْمَغْصُوب مِنْهُ عَن الساحة لِأَن الصَّنْعَة الَّتِي أحدثها الْغَاصِب فِيهَا قَائِمَة من كل وَجه غير مُضَاف إِلَى صَاحب الْعين وَعين الساحة قَائِم من وَجه مستهلك من وَجه لِأَنَّهُ صَار مُضَافا إِلَى الْحَادِث بِعَمَل الْغَاصِب وَهُوَ الْبناء فرجحنا مَا هُوَ قَائِم من كل وَجه بِاعْتِبَار معنى فِي الذَّات وأسقطنا اعْتِبَار معنى قُوَّة الْحَال فِي الْجَانِب الآخر وَهُوَ أَنه أصل وَفِي الساحة إِذا بنى عَلَيْهَا لما اسْتَويَا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قَائِم من كل وَجه فرجحنا بِاعْتِبَار الْحَال حق صَاحب الساحة على حق صَاحب الْبناء (لِأَن قوام الْبناء) للْحَال بالساحة وقوام الساحة لَيْسَ بِالْبِنَاءِ
وَكَذَلِكَ الثَّوْب إِذا قطعه وخاطه وَاللَّحم إِذا طبخه أَو شواه لِأَن الْوَصْف الْحَادِث بِعَمَل الْغَاصِب قَائِم من كل وَجه وَمَا هُوَ حق الْمَغْصُوب مِنْهُ قَائِم من وَجه مستهلك من وَجه بِاعْتِبَار الْعَمَل الْمُضَاف إِلَى الْغَاصِب فيترجح مَا هُوَ قَائِم من كل وَجه
وَكَذَلِكَ قُلْنَا صَوْم رَمَضَان يتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَة فِي أَكثر النَّهَار لِأَن الْإِمْسَاك

(2/263)


فِي جَمِيع النَّهَار ركن وَاحِد وَشرط كَونه صوما شَرْعِيًّا النِّيَّة ليحصل بهَا الْإِخْلَاص فَإِذا ترجح جَانب الْوُجُود باقتران النِّيَّة بِأَكْثَرَ هَذَا الرُّكْن قُلْنَا يحصل بِهِ امْتِثَال الْأَمر
ف الشَّافِعِي يَقُول يُؤْخَذ فِي الْعِبَادَات بِالِاحْتِيَاطِ فَإِذا انعدمت النِّيَّة فِي جُزْء من هَذَا الرُّكْن يتَرَجَّح جَانب الْعَدَم على جَانب الْوُجُود لأجل الِاحْتِيَاط فِي أَدَاء الْفَرِيضَة فَكَانَ مَا اعْتَبرهُ معنى فِي الْحَال وَهُوَ أَنه فرض يُؤْخَذ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ وَمَا اعتبرناه معنى فِي الذَّات والمرجح فِي الذَّات أولى بِالِاعْتِبَارِ من الْمُرَجح فِي الْحَال
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا كَانَ لرجل مِائَتَا دِرْهَم وَخمْس من الْإِبِل السَّائِمَة فَسبق حول السَّائِمَة فَأدى عَنْهَا شَاة ثمَّ بَاعهَا بِمِائَتي دِرْهَم فَإِنَّهُ لَا يضم ثمنهَا إِلَى مَا عِنْده وَلَكِن ينْعَقد على الثّمن حول جَدِيد فَلَو اسْتَفَادَ مِائَتي دِرْهَم بِهِبَة أَو مِيرَاث فَإِنَّهُ يضمها إِلَى أقرب الْمَالَيْنِ فِي الْحول وَإِن كَانَ الْمُسْتَفَاد ربح أحد الْمَالَيْنِ أَو زِيَادَة مُتَوَلّدَة من عين أحد الْمَالَيْنِ يضم ذَلِك إِلَى الأَصْل وَإِن كَانَ أبعد فِي الْحول لِأَن الْمُرَجح هُنَا معنى فِي الذَّات وَهُوَ كَونه نَمَاء أحد الْمَالَيْنِ فَيسْقط بمقابلته اعْتِبَار الْحَال فِي المَال الآخر وَهُوَ الْقرب فِي الْحول وَفِي الأول لما اسْتَوَى الجانبان فِيمَا يرجع إِلَى الذَّات صرنا إِلَى التَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْحَال
والمسائل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها وَالله أعلم

فصل
وَأما الْفَاسِد من التَّرْجِيح فأنواع أَرْبَعَة أَحدهَا مَا بَينا من تَرْجِيح قِيَاس بِقِيَاس آخر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة شَرْعِيَّة لثُبُوت الحكم بهَا فَلَا تكون إِحْدَاهمَا مرجحة لِلْأُخْرَى بِمَنْزِلَة زِيَادَة الْعدَد فِي الشُّهُود
وَكَذَلِكَ تَرْجِيح أحد القياسين بالْخبر فَاسد لِأَن الْقيَاس مَتْرُوك بالْخبر فَلَا يكون حجَّة فِي مُقَابلَته والمصير إِلَى التَّرْجِيح بعد وُقُوع التَّعَارُض بِاعْتِبَار الْمُمَاثلَة كَمَا بَينا
وَكَذَلِكَ تَرْجِيح أحد الْخَبَرَيْنِ بِنَصّ الْكتاب فَاسد لِأَن الْخَبَر لَا يكون حجَّة فِي مُعَارضَة النَّص
وَالنَّوْع الثَّانِي التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه فَإِنَّهُ فَاسد عندنَا
وَبَيَانه فِيمَا يَقُوله الْخصم إِن الْأَخ يشبه الْأَب من وَجه وَهُوَ الْمَحْرَمِيَّة وَيُشبه ابْن الْعم من وُجُوه نَحْو جَرَيَان الْقصاص من الطَّرفَيْنِ وَقبُول شَهَادَة كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه

(2/264)


وَجَوَاز وضع الزَّكَاة لكل وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحبه وَحل حَلِيلَة كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام
قَالُوا فيرجح بِاعْتِبَار كَثْرَة الْأَشْبَاه وَهُوَ فَاسد عندنَا لِأَن الْأُصُول شَوَاهِد وَقد بَينا أَن التَّرْجِيح بِزِيَادَة عدد الشُّهُود فِي الْخُصُومَات فَاسد وَفِي الْأَحْكَام التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْعِلَل فَاسد فَكَذَلِك التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه
وَالنَّوْع الثَّالِث التَّرْجِيح بِعُمُوم الْعلَّة وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله الْخصم إِن تَعْلِيل حكم الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بالطعم أولى لِأَنَّهُ يعم الْقَلِيل وَالْكثير وَالتَّعْلِيل بِالْقدرِ يخص الْكثير وَمَا يكون أَعم فَهُوَ أولى
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد لِأَن إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ فرع لإِثْبَات الحكم بِالنَّصِّ وَعِنْدنَا التَّرْجِيح فِي النُّصُوص لَا يَقع بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص وَعِنْده الْخَاص يقْضِي على الْعَام كَيفَ يَقُول فِي الْعِلَل إِن مَا يكون أَعم فَهُوَ مُرَجّح على مَا يكون أخص ثمَّ معنى الْعُمُوم وَالْخُصُوص يبتنى على الصِّيغَة وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي النُّصُوص فَأَما الْعِلَل فَالْمُعْتَبر فِيهَا التَّأْثِير أَو الإحالة على حسب مَا اخْتلفَا فِيهِ وَلَا مدْخل للْعُمُوم وَالْخُصُوص فِي ذَلِك
وَالنَّوْع الرَّابِع التَّرْجِيح بقلة الْأَوْصَاف وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله الْخصم فِي أَن مَا جعلته عِلّة فِي بَاب الرِّبَا وصف وَاحِد وَهُوَ الطّعْم فَأَما الجنسية عِنْدِي شَرط وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ عِلّة الرِّبَا ذَات وصفين فتترجح علتي بِاعْتِبَار قلَّة الْأَوْصَاف
وَهَذَا فَاسد عندنَا لما بَينا أَن ثُبُوت الحكم بِالْعِلَّةِ فرع لثُبُوته بِالنَّصِّ وَالنَّص الَّذِي فِيهِ بعض الإيجاز والاختصار لَا يتَرَجَّح على مَا فِيهِ بعض الإشباع فِي الْبَيَان فَكَذَلِك الْعلَّة بل أولى لِأَن ثُبُوت الحكم هُنَاكَ بِصِيغَة النَّص الَّذِي يتَحَقَّق فِيهِ الِاخْتِصَار والإشباع وَهنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمُؤثر وَلَا يتَحَقَّق فِيهِ الإيجاز والإشباع

(2/265)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب وُجُوه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل الطردية الَّتِي يجوز الِاحْتِجَاج بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْوُجُوه أَرْبَعَة القَوْل بِمُوجب الْعلَّة ثمَّ الممانعة ثمَّ بَيَان فَسَاد الْوَضع ثمَّ النَّقْض
فنقدم بَيَان القَوْل بِمُوجب الْعلَّة لِأَن الْمصير إِلَى الْمُنَازعَة عِنْد تعذر إِمْكَان الْمُوَافقَة وَأما مَعَ إِمْكَان الْمُوَافقَة وَتَحْصِيل الْمَقْصُود بِهِ فَلَا معنى للمصير إِلَى الْمُنَازعَة
ثمَّ تَفْسِير القَوْل بِمُوجب الْعلَّة هُوَ الْتِزَام مَا رام الْمُعَلل الْتِزَامه بتعليله
وَبَيَان ذَلِك فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ أَنه ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كالغسل فِي المغسول لأَنا نقُول بِمُوجب هَذَا
فَنَقُول يسن تثليثه وتربيعه أَيْضا لِأَن الْمَفْرُوض هُوَ الْمسْح بِربع الرَّأْس عندنَا وَعِنْده أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم ثمَّ اسْتِيعَاب جَمِيع الرَّأْس بِالْمَسْحِ سنة وبالاستيعاب يحصل التَّثْلِيث والتربيع وَلَكِن فِي مَحل غير الْمحل الَّذِي قَامَ فِيهِ الْفَرْض لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أَن يكون تثليث الْفِعْل فِي مَحل أَو محَال فَإِن من دخل ثَلَاث أدور يَقُول دخلت ثَلَاث دخلات كَمَا أَن من دخل دَارا وَاحِدَة ثَلَاث مَرَّات يَقُول دخلت ثَلَاث دخلات فَإِن غير الحكم فَقَالَ وَجب أَن يسن تكراره
قُلْنَا الْآن هَذَا فِي الأَصْل مَمْنُوع فَإِن الْمسنون فِي الْغسْل لَيْسَ هُوَ التّكْرَار مَقْصُودا عندنَا بل الْإِكْمَال وَذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ على الْفَرِيضَة إِلَّا أَن هُنَاكَ الِاسْتِيعَاب فرض فَالزِّيَادَة بعد ذَلِك الْإِكْمَال لَا يكون إِلَّا بالتكرار فَكَانَ وُقُوع التّكْرَار فِيهِ اتِّفَاقًا لَا أَن يكون مَقْصُودا وَهنا الِاسْتِيعَاب لَيْسَ بِفَرْض فَيحصل الْإِكْمَال فِيهِ بالاستيعاب لوُجُود الزِّيَادَة على الْقدر الْمَفْرُوض والإكمال يحصل بِهِ فِي الْأَركان نَحْو الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة فالإكمال يكون فِيهِ بالإطالة لَا بالتكرار وَكَذَلِكَ الْإِكْمَال فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَلِأَن الْإِكْمَال فِيمَا يعقل فِيهِ الْمَعْنى وَهُوَ التَّطْهِير بتسييل المَاء على الْعُضْو إِنَّمَا يكون بالتكرار كَمَا فِي غسل النَّجَاسَة العينية عَن الْبدن أَو الثَّوْب يكون الْإِكْمَال فِيهِ بالتكرار إِلَى طمأنينة الْقلب فَأَما فِي الْمسْح الَّذِي لَا يعقل فِيهِ معنى التَّطْهِير لَا يكون

(2/266)


للتكرار فِيهِ تَأْثِير فِي الْإِكْمَال بل الْإِكْمَال فِيهِ يكون بالاستيعاب الَّذِي فِيهِ زِيَادَة على الْقدر الْمَفْرُوض وَعند ذَلِك يضْطَر الْمُعَلل إِلَى الرُّجُوع إِلَى طلب التَّأْثِير بِوَصْف الركنية وَوصف الْمسْح الَّذِي تَدور عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة ثمَّ يظْهر تَأْثِير الْمسْح فِي التَّخْفِيف وَتَحْقِيق معنى الْإِكْمَال فِيهِ بالاستيعاب كَمَا فِي الْمسْح بالخف ويتبين أَنه لَا أثر للركنية فِي اشْتِرَاط التّكْرَار فَإِن التّكْرَار مسنون فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق مَعَ انعدام الركنية ويتبين أَن مَا يكون ركنا وَمَا يكون سنة وَمَا يكون أصلا وَمَا يكون رخصَة فِي معنى الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض سَوَاء ثمَّ فِي الْمسْح الَّذِي هُوَ رخصَة لما لم يكن الِاسْتِيعَاب ركنا كالمسح بالخف كَانَ الْإِكْمَال فِيهِ بالاستيعاب لَا بالتكرار وَكَذَلِكَ فِي الْمسْح الَّذِي هُوَ أصل وَفِيمَا يكون مسنونا لما كَانَ إِقَامَة أصل السّنة فِيهِ بالاستيعاب كَانَ الْإِكْمَال فِيهِ بالتكرار كالمضمضة وَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ ركن إِذا كَانَ إِقَامَة الْفَرْض لَا تحصل إِلَّا بالاستيعاب كَانَ الْإِكْمَال فِيهِ بالتكرار فَيظْهر فقه الْمَسْأَلَة من هَذَا الْوَجْه
وَمن ذَلِك مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فِي صَوْم التَّطَوُّع إِنَّه بَاشر فعل قربَة لَا يمْضِي فِي فاسدها فَلَا يلْزمه الْقَضَاء بالإفساد لأَنا نقُول بِمُوجب هَذِه الْعلَّة فَإِن عندنَا الْقَضَاء لَا يجب بالإفساد وَإِنَّمَا يجب بِمَا وَجب بِهِ الْأَدَاء وَهُوَ الشُّرُوع فَإِن غير الْعبارَة وَقَالَ وَجب أَن لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ كَالْوضُوءِ
قُلْنَا الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة بِاعْتِبَار كَونهَا مِمَّا لَا يمْضِي فِي فاسدها لَا يكون ملزما عندنَا بل بِاعْتِبَار كَونهَا مِمَّا تلتزم بِالنذرِ وَعدم اللُّزُوم بِاعْتِبَار الْوَصْف الَّذِي قَالَه لَا يمْنَع اللُّزُوم بِاعْتِبَار الْوَصْف الَّذِي قُلْنَا وَلَا بُد من إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف الَّذِي هُوَ ركن تَعْلِيله فَإِن لم يجب بِاعْتِبَار وصف لَا يدل على أَنه لَا يجب بِاعْتِبَار وصف آخر وَعند ذَلِك يضْطَر إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل على أَن الشُّرُوع غير مُلْزم وَأَنه لَيْسَ نَظِير النّذر فِي كَونه ملزما فَتبين فقه الْمَسْأَلَة
وَمن ذَلِك قَوْلهم إِسْلَام الْمَرْوِيّ فِي الْمَرْوِيّ جَائِز لِأَنَّهُ أسلم مذروعا فِي مذروع فَيجوز كإسلام الْهَرَوِيّ بالمروي لأَنا نقُول بِمُوجبِه فَإِن كَونه مذروعا فِي مذروع لَا يفْسد العقد عندنَا وَلَكِن هَذَا الْوَصْف لَا يمْنَع فَسَاد العقد بِاعْتِبَار

(2/267)


معنى آخر هُوَ مُفسد أَلا ترى أَنه يفْسد بِذكر شَرط فَاسد فِيهِ وبترك قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس مَعَ أَنه أسلم مذروعا فِي مذروع
فَإِذا جَازَ أَن يفْسد هَذَا العقد مَعَ وجود هَذَا الْوَصْف بِاعْتِبَار معنى آخر بالِاتِّفَاقِ فلماذا لَا يجوز أَن يفْسد بِاعْتِبَار الجنسية فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الشُّرُوع فِي فقه الْمَسْأَلَة والاشتغال بِأَن الجنسية لَا تصلح عِلّة لفساد هَذَا العقد بهَا إِن أمكنه ذَلِك
وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي الطَّلَاق الرَّجْعِيّ إِنَّهَا مُطلقَة فَتكون مُحرمَة الْوَطْء كالمبانة لأَنا نقُول بِمُوجبِه فَإنَّا لَا نَجْعَلهَا محللة الْوَطْء لكَونهَا مُطلقَة بل لكَونهَا مَنْكُوحَة وبالاتفاق مَعَ كَونهَا مُطلقَة إِذا كَانَت مَنْكُوحَة تكون محللة الْوَطْء كَمَا بعد الْمُرَاجَعَة فَإِن الطَّلَاق الْوَاقِع بالرجعة لَا يرْتَفع وَلَا تخرج من أَن تكون مُطلقَة فيضطر حِينَئِذٍ إِلَى الرُّجُوع إِلَى فقه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن وُقُوع الطَّلَاق هَل يُمكن خللا فِي النِّكَاح أَو هَل يكون محرما للْوَطْء مَعَ قيام ملك النِّكَاح وعَلى هَذَا يَدُور فقه الْمَسْأَلَة
وَمن ذَلِك مَا قَالُوا فِي المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق لِأَنَّهَا لَيست بمنكوحة فَإِن عندنَا بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف لَا يكون محلا لوُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهَا عِنْد الْإِيقَاع وَلَكِن هَذَا لَا يبْقى وَصفا آخر فِيهَا يكون بِهِ محلا لوُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهَا وَهُوَ ملك الْيَد الْبَاقِي لَهُ عَلَيْهَا بِبَقَاء الْعدة فيضطر بِهَذَا إِلَى الرُّجُوع إِلَى فقه الْمَسْأَلَة
وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي إِعْتَاق الرَّقَبَة الْكَافِرَة عَن كَفَّارَة الظِّهَار فَإِنَّهُ تَحْرِير فِي تَكْفِير فَلَا يتَأَدَّى بِالرَّقَبَةِ الْكَافِرَة كَمَا فِي كَفَّارَة الْقَتْل لأَنا نقُول بِمُوجب هَذَا فَإِن عندنَا لَا يتَأَدَّى الْوَاجِب من الْكَفَّارَة بِهَذَا الْوَصْف الَّذِي قَالَ بل بِوُجُود الِامْتِثَال مِنْهُ لِلْأَمْرِ كَمَا يتَأَدَّى بِصَوْم شَهْرَيْن مُتَتَابعين وبإطعام سِتِّينَ مِسْكينا عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الرُّجُوع إِلَى فقه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن الِامْتِثَال لَا يحصل هُنَا بتحرير الرَّقَبَة الْكَافِرَة كَمَا لَا يحصل فِي كَفَّارَة الْقَتْل لِأَن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي الْأَخ إِنَّه لَا يعْتق على أَخِيه إِذا ملكه لِأَنَّهُ لَيْسَ

(2/268)


بَينهمَا جزئية فَإنَّا نقُول بِمُوجبِه فباعتبار انعدام الْجُزْئِيَّة بَينهمَا لَا يثبت الْعتْق عندنَا وَلَكِن انعدام الْجُزْئِيَّة لَا يَنْفِي وجود وصف آخر بِهِ تتمّ عِلّة الْعتْق وَهُوَ الْقَرَابَة الْمُحرمَة للنِّكَاح فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الشُّرُوع فِي فقه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن الْقَرَابَة الْمُحرمَة للنِّكَاح هَل تصلح متممة لعِلَّة الْعتْق مَعَ الْملك بِدُونِ الولاد أم لَا
وَأكْثر مَا يذكر من الْعِلَل الطردية يَأْتِي عَلَيْهَا هَذَا النَّوْع من الِاعْتِرَاض وَهُوَ طَرِيق حسن لإلجاء أَصْحَاب الطَّرْد إِلَى الشُّرُوع فِي فقه الْمَسْأَلَة

فصل فِي الممانعة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ الممانعة على هَذَا الطَّرِيق على أَرْبَعَة أوجه إِحْدَاهَا فِي الْوَصْف وَالثَّانيَِة فِي صَلَاحِية الْوَصْف للْحكم وَالثَّالِثَة فِي الحكم وَالرَّابِعَة فِي إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف وَهَذَا لِأَن شَرط صِحَة الْعلَّة عِنْد أَصْحَاب الطَّرْد كَون الْوَصْف صَالحا للْحكم ظَاهرا وَتَعْلِيق الحكم بِهِ وجودا وعدما
أما بَيَان النَّوْع الأول فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي فِي الْكَفَّارَة على من أفطر بِالْأَكْلِ وَالشرب قَالَ هَذِه عُقُوبَة تتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ فَلَا تتَعَلَّق بِغَيْر الْجِمَاع كالرجم
لأَنا لَا نسلم أَن الْكَفَّارَة تتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ وَإِنَّمَا تتَعَلَّق بالإفطار على وَجه يكون جِنَايَة متكاملة وَعند هَذَا الْمَنْع يضْطَر إِلَى بَيَان حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن السَّبَب الْمُوجب لِلْكَفَّارَةِ الْفطر على وَجه تتكامل بِهِ الْجِنَايَة أَو الْجِمَاع المعدم للصَّوْم وَإِذا ثَبت أَن السَّبَب هُوَ الْفطر بِهَذِهِ الصّفة ظهر تقرر السَّبَب عِنْد الْأكل وَالشرب وَعند الْجِمَاع بِصفة وَاحِدَة
وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِن الْخصم إِذا علل فَقَالَ هَذِه طَهَارَة مسح فَيسنّ فِيهَا التَّثْلِيث كالاستنجاء بالأحجار
قُلْنَا لَا نسلم هَذَا الْوَصْف فِي الأَصْل فَإِن الِاسْتِنْجَاء إِزَالَة النَّجَاسَة العينية فَأَما أَن يكون طَهَارَة بِالْمَسْحِ فَلَا وَلِهَذَا لَو لم يتلوث شَيْء من ظَاهر بدنه لَا يكون عَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاء وَلِهَذَا كَانَ الْغسْل بِالْمَاءِ أفضل
ثمَّ الْمسْح الَّذِي يدل على التَّخْفِيف لَا يكون صَالحا لتعليق حكم التَّثْلِيث بِهِ وَبِدُون الصلاحية لَا يصلح

(2/269)


التَّعْلِيل فيضطر عِنْد هَذَا الْمَنْع إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ إِثْبَات التَّسْوِيَة بَين الْمَمْسُوح والمغسول بِوَصْف صَالح لتَعلق حكم التّكْرَار بِهِ أَو التَّفْرِقَة بَينهمَا بِوَصْف الْمسْح وَالْغسْل فَإِن أَحدهمَا يدل على الِاسْتِيعَاب وَالْآخر يدل على التَّخْفِيف بِعَين الْمسْح
وَكَذَلِكَ تَعْلِيلهم فِي بيع تفاحة بتفاحتين إِنَّه بَاعَ مطعوما بمطعوم من جنسه مجازفة فَلَا يجوز كَبيع صبرَة بصبرة من حِنْطَة
لأَنا نقُول يَعْنِي بِهَذَا المجازفة ذاتا أم قدرا فَلَا يجد بدا من أَن يَقُول ذاتا فَنَقُول حِينَئِذٍ يَعْنِي المجازفة فِي الذَّات صُورَة أم عيارا فَلَا يجد بدا من أَن يَقُول عيارا لِأَن المجازفة من حَيْثُ الصُّورَة فِي الذَّات لَا تمنع جَوَاز البيع بالِاتِّفَاقِ فَإِن بيع قفيز حِنْطَة بقفيز حِنْطَة جَائِز مَعَ وجود المجازفة فِي الذَّات صُورَة فَرُبمَا يكون أَحدهمَا أَكثر فِي عدد الحبات من الآخر
وَإِذا ادّعى المجازفة عيارا قُلْنَا هَذَا الْوَصْف إِنَّمَا يَسْتَقِيم فِيمَا يكون دَاخِلا تَحت المعيار والتفاح وَمَا أشبهه لَا يدْخل تَحت المعيار فَلَا يكون هَذَا الْوَصْف صَالحا لهَذَا الحكم وَلِأَن الْمُسَاوَاة كَيْلا شَرط جَوَاز العقد فِي الْأَمْوَال الربوية بِالْإِجْمَاع وَمن ضَرُورَته أَن يكون ضِدّه وَهُوَ الْفضل فِي المعيار مُفْسِدا للْعقد وَالْفضل فِي المعيار لَا يتَحَقَّق فِيمَا لَا يدْخل تَحت المعيار كَمَا أَن الْمُسَاوَاة فِي المعيار الَّذِي هُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْده لَا يتَحَقَّق فِيمَا لَا يدْخل تَحت المعيار فيضطر عِنْد هَذَا إِلَى بَيَان الْحَرْف الَّذِي تَدور عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن حُرْمَة العقد فِي هَذِه الْأَمْوَال عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها أصل وَالْجَوَاز يتَعَلَّق بِشَرْطَيْنِ الْمُسَاوَاة فِي المعيار وَالْيَد بِالْيَدِ
وَعِنْدنَا جَوَاز العقد فِيهَا أصل كَمَا فِي سَائِر الْأَمْوَال وَالْفساد بِاعْتِبَار فضل هُوَ حرَام وَهُوَ الْفضل فِي المعيار وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِيمَا تتَحَقَّق فِيهِ الْمُسَاوَاة فِي المعيار إِذْ الْفضل يكون بعد تِلْكَ الْمُسَاوَاة وَلَا تتَحَقَّق هَذِه الْمُسَاوَاة فِيمَا لَا يدْخل تَحت المعيار أصلا
وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي الثّيّب الصَّغِيرَة لَا يُزَوّجهَا أَبوهَا لِأَنَّهَا ثيب يُرْجَى مشورتها فَلَا ينفذ العقد عَلَيْهَا بِدُونِ رأيها كالنائمة والمغمى عَلَيْهَا

(2/270)


لأَنا نقُول مَا تعنون بقولكم بِدُونِ رأيها رَأْي قَائِم فِي الْحَال أم رَأْي سيحدث أم أَيهمَا كَانَ فَإِن قَالُوا أَيهمَا كَانَ فَهُوَ بَاطِل من الْكَلَام لِأَن الثّيّب الْمَجْنُونَة تزوج فِي الْحَال ورأيها غير مأنوس عَنْهَا لتوهم الْإِفَاقَة فَلَا نجد بدا من أَن نقُول المُرَاد رَأْي قَائِم لَهَا وَهَذَا مَمْنُوع فِي الْفَرْع فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَأْي قَائِم فِي الْحَال فِي الْمَنْع وَلَا فِي الْإِطْلَاق فَإِن من لم يجوز تَزْوِيجهَا لم يفصل فِي ذَلِك بَين أَن يكون العقد برأيها (وَبِدُون رأيها) وَمن جوز العقد فَكَذَلِك لم يفصل فَعرفنَا أَنه لَيْسَ لَهَا رَأْي قَائِم وَمَا سيحدث من عِلّة أَو مَانع لَا يجوز أَن يكون مؤثرا فِي الحكم قبل حُدُوثه وَمن جوز حُدُوثه فِي الْمَنْع لَا فِي الْإِثْبَات إِذْ الحكم لَا يسْبق علته فيضطر عِنْد بَيَان الْمَنْع بِهَذِهِ الصّفة إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن رَأْي الْوَلِيّ هَل يقوم مقَام رأيها لِانْعِدَامِ اعْتِبَار رأيها فِي الْحَال شرعا فِيمَا يرجع إِلَى النّظر لَهَا كَمَا فِي المَال وَالْبكْر والغلام أم لَا يقوم رَأْيه مقَام رأيها لما فِي ذَلِك من تَفْوِيت الرَّأْي عَلَيْهَا إِذا صَارَت من أهل الرَّأْي بِالْبُلُوغِ وبمثل هَذَا الْحَد يتَبَيَّن عوار من شرع فِي الْكَلَام بِنَاء على حسن الظَّن قبل أَن يتَمَيَّز لَهُ الصَّوَاب من الْخَطَأ بطرِيق الْفِقْه
وَبَيَان الممانعة فِي الحكم كَثِيرَة
مِنْهَا تَعْلِيلهم فِي تكْرَار الْمسْح بِأَنَّهُ ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه لأَنا لَا نسلم هَذَا الحكم فِي الأَصْل فالمسنون هُنَاكَ عندنَا لَيْسَ التّكْرَار بل الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على قدر الْمَفْرُوض فِي مَحَله من جنسه كَمَا فِي أَرْكَان الصَّلَاة فَإِن إِكْمَال ركن الْقِرَاءَة بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض فِي مَحَله من جنسه وَهُوَ تِلَاوَة الْقُرْآن
وَكَذَلِكَ الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَّا أَن فِي الْغسْل لما كَانَ الِاسْتِيعَاب فرضا لَا يتَحَقَّق فِيهِ الْإِكْمَال بِهَذِهِ الصّفة إِلَّا بالتكرار فَكَانَ التّكْرَار مسنونا لغيره وَهُوَ تَحْصِيل صفة الْإِكْمَال بِهِ لَا لعَينه وَفِي الْمَمْسُوح الِاسْتِيعَاب لَيْسَ بِرُكْن فَيَقَع الِاسْتِغْنَاء عَن التّكْرَار فِي إِقَامَة سنة الْكَمَال بل بِالزِّيَادَةِ على الْقدر

(2/271)


الْمَفْرُوض باستيعاب جَمِيع الرَّأْس بِالْمَسْحِ مرّة وَاحِدَة يحصل الْإِكْمَال وَمَا كَانَ مَشْرُوعا لغيره فَإِنَّمَا يشرع بِاعْتِبَارِهِ فِي مَوضِع تتَحَقَّق الْحَاجة إِلَيْهِ فَأَما إِذا كَانَ مَا شرع لأَجله يحصل بِدُونِهِ لَا يُفِيد اعْتِبَاره أَلا ترى أَنه لَو كرر الْمسْح فِي ربع الرَّأْس أَو أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم لَا يحصل بِهِ كَمَال السّنة مَا لم يستوعب جَمِيع الرَّأْس بِالْمَسْحِ فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْإِكْمَال هُنَا بالاستيعاب وَأَنه هُوَ الأَصْل فَيجب الْمصير إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَوضِع يتَحَقَّق الْعَجز عَنهُ بِأَن يكون الِاسْتِيعَاب ركنا كَمَا فِي المغسولات فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى الْإِكْمَال بالتكرار وَلَا يلْزمنَا الْمسْح بالأذنين فَإِنَّهُ مسنون لإكمال الْمسْح بِالرَّأْسِ وَإِن لم يكن فِي مَحل الْمَفْرُوض حَتَّى لَا يتَأَدَّى مسح الرَّأْس بمسح الْأُذُنَيْنِ بِحَال لِأَن ذَلِك الْمسْح لإكمال السّنة فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ وَلِهَذَا لَا يَأْخُذ لأذنيه مَاء جَدِيدا عندنَا وَلَكِن يمسح مقدمهما ومؤخرهما مَعَ الرَّأْس وَالْمسح فيهمَا أفضل من الْغسْل إِلَّا أَن كَون الْأُذُنَيْنِ من الرَّأْس لما كَانَ ثَابتا بِالسنةِ دون نَص الْكتاب يثبت اتِّحَاد الْمحل فِيمَا يرجع إِلَى إِكْمَال السّنة بِهِ وَلَا تثبت الْمَحَلِّيَّة فِيمَا يتَأَدَّى بِهِ الْفَرْض الثَّابِت بِالنَّصِّ فَقُلْنَا لَا يَنُوب مسح الْأُذُنَيْنِ عَن الْمسْح بِالرَّأْسِ لهَذَا
وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي صَوْم رَمَضَان بِمُطلق النِّيَّة أَنه صَوْم فرض فَلَا يتَأَدَّى بِدُونِ التَّعْيِين بِالنِّيَّةِ كَصَوْم الْقَضَاء
فَإنَّا نقُول مَا تعنون لهَذَا الحكم ألتعين بِالنِّيَّةِ بعد التعين أَو قبل التعين أم فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يَجدونَ بدا من أَن يَقُولُوا قبل التعين لِأَن بعد التعين التَّعْيِين غير مُعْتَبر وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْط فِي تأدي صَوْم الْقَضَاء وَإِذا قَالُوا قبل التعين قُلْنَا هَذَا مَمْنُوع فِي الْفَرْع فَإِن التعين حَاصِل هُنَا بِأَصْل الشَّرْع إِذْ الْمَشْرُوع فِي هَذَا الزَّمَان صَوْم الْفَرْض خَاصَّة فَغَيره لَيْسَ بمشروع فَلَا نجد بدا حِينَئِذٍ من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن نِيَّة التَّعْيِين هَل يسْقط اشْتِرَاطه بِكَوْن الْمَشْرُوع مُتَعَيّنا فِي ذَلِك الزَّمَان أم لَا يسْقط اعْتِبَاره

(2/272)


وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي بيع المطعوم الَّذِي لَا يدْخل تَحت المعيار بِجِنْسِهِ أَنه بَاعَ مطعوما بمطعوم من جنسه لَا تعرف الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي المعيار فَيكون حَرَامًا كَبيع صبرَة حِنْطَة بصبرة حِنْطَة
فَإنَّا نقُول إيش تعنون بِهَذَا الحكم أهوَ حُرْمَة مُطلقَة أم حُرْمَة إِلَى غَايَة التَّسَاوِي فَإِن قَالُوا بِنَا غنية عَن بَيَان هَذَا
قُلْنَا لَا كَذَلِك فالحرمة الثَّابِتَة إِلَى غَايَة غير الْحُرْمَة الْمُطلقَة وَالْحكم الَّذِي يَقع التَّعْلِيل لَهُ لَا بُد أَن يكون مَعْلُوما
فَإِن قَالَ أَعنِي الْحُرْمَة الْمُطلقَة منعنَا هَذَا الحكم فِي الأَصْل لِأَن الْحُرْمَة هُنَاكَ ثَابِتَة إِلَى غَايَة وَهِي الْمُسَاوَاة فِي الْقدر وَإِن عَنى الْحُرْمَة إِلَى غَايَة فقد تعذر إِثْبَات هَذِه الْحُرْمَة بِالتَّعْلِيلِ فِي الْفَرْع لِأَن إِثْبَات الْحُرْمَة إِلَى غَايَة إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي مَال تتَصَوَّر فِيهِ تِلْكَ الْغَايَة وَمَا لَا يدْخل تَحت المعيار لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْغَايَة وَهِي الْمُسَاوَاة فِي المعيار فَكيف يتَحَقَّق إِثْبَات الْحُرْمَة فِيهِ إِلَى غَايَة وَعند هَذَا الْمَنْع يضْطَر إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ
وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي السّلم فِي الْحَيَوَان أَنه مَال يثبت دينا فِي الذِّمَّة مهْرا فَيثبت دينا فِي الذِّمَّة سلما كالثياب
فَإنَّا نقُول مَا معنى قَوْلكُم يثبت دينا فِي الذِّمَّة أتريدون بِهِ مَعْلُوم الْوَصْف أم مَعْلُوم الْمَالِيَّة وَالْقيمَة فَإِن قَالَ أَعنِي مَعْلُوم الْوَصْف منعنَا ذَلِك فِي الأَصْل وَهُوَ الْمهْر فقد قَامَت الدّلَالَة لنا على أَنه لَا يشْتَرط فِيمَا يثبت فِي الذِّمَّة مهْرا أَن يكون مَعْلُوم الْوَصْف
فَإِن قَالَ نعني مَعْلُوم الْمَالِيَّة وَالْقيمَة منعنَا ذَلِك فِي الْفَرْع فَإِن الْحَيَوَان بعد ذكر الْأَوْصَاف يتَفَاوَت فِي الْمَالِيَّة تَفَاوتا فَاحِشا
وَإِن قَالُوا لَا حَاجَة بِنَا إِلَى هَذَا التَّعْيِين قُلْنَا لَا كَذَلِك فاعتبار أحد الدينَيْنِ بِالْآخرِ لَا يَصح مَا لم يثبت أَنَّهُمَا نظيران وَلَا طَرِيق لثُبُوت ذَلِك إِلَّا الإيجاد فِي الطَّرِيق الَّذِي يثبت بِهِ كل وَاحِد من الدينَيْنِ فِي الذِّمَّة وَعند ذَلِك يضْطَر إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن إِعْلَام الْمُسلم فِيهِ على وَجه لَا يبْقى فِيهِ تفَاوت فَاحش فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَالِيَّة على وَجه يلْتَحق بذوات الْأَمْثَال فِي صفة الْمَالِيَّة هَل يكون شرطا لجَوَاز عقد السّلم أم لَا

(2/273)


وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي اشْتِرَاط التَّقَابُض فِي الْمجْلس فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ أَن العقد جمع بدلين يجْرِي فيهمَا رَبًّا الْفضل فَيشْتَرط التَّقَابُض كالأثمان فَإنَّا نقُول إيش المُرَاد بقولكم فَيشْتَرط فيهمَا تقابض أهوَ التَّقَابُض لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة أَو لإِثْبَات زِيَادَة معنى الصيانة وَأَحَدهمَا يُخَالف الآخر فَلَا بُد من بَيَان هَذَا
فَإِن قَالُوا لِمَعْنى الصيانة منعنَا هَذَا الحكم فِي الْأَثْمَان فاشتراط التَّقَابُض هُنَاكَ عندنَا لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة فَإِن النُّقُود لَا تتَعَيَّن فِي الْعُقُود مَا لم تقبض وَالدّين بِالدّينِ حرَام شرعا
وَإِن قَالُوا لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة لَا يتمكنون من إِثْبَات هَذَا الحكم فِي الْفَرْع فالطعام يتَعَيَّن فِي العقد بِالتَّعْيِينِ من غير قبض فَلَا يَجدونَ بدا من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ بَيَان أَن اشْتِرَاط الْقَبْض فِي الصّرْف لَيْسَ لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة بل للصيانة عَن معنى الرِّبَا بِمَنْزِلَة الْمُسَاوَاة فِي الْقدر
وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي من اشْترى أَبَاهُ نَاوِيا عَن كَفَّارَة يَمِينه إِنَّه عتق الْأَب فَلَا تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة كَمَا لَو وَرثهُ لأَنا نقُول إِن عنيتم أَنه لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِالْعِتْقِ فَنحْن نقُول فِي الْفَرْع لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِالْعِتْقِ بل الْكَفَّارَة تتأدى بِفعل مَنْسُوب إِلَى الْمُكَفّر وَالْعِتْق وصف فِي الْمحل ثَابت شرعا وَإِن عنيتم الْإِعْتَاق فَهَذَا غير مَوْجُود فِي الأَصْل لِأَنَّهُ لَا صنع للْوَارِث فِي الْإِرْث حَتَّى يصير بِهِ معتقا وَعند هَذَا لَا بُد من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن شِرَاء الْقَرِيب هَل هُوَ إِعْتَاق بطرِيق أَنه متمم عِلّة الْعتْق أم لَيْسَ بِإِعْتَاق وَإِنَّمَا يحصل الْعتْق بِهِ حكما للْملك وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي أَن الْكَفَّارَة لَا تتأدى بِطَعَام الْإِبَاحَة إِنَّه نوع تَكْفِير يتَأَدَّى بالتمليك (فَلَا يتَأَدَّى بِدُونِ التَّمْلِيك) كالكسوة لأَنا نقُول لَا تتأدى بِدُونِ التَّمْلِيك مَعَ امْتِثَال الْأَمر (أم بِدُونِ امْتِثَال الْأَمر
فَإِن قَالَ بِي غنية عَن بَيَان هَذَا قُلْنَا لَا كَذَلِك لِأَن التَّكْفِير مَأْمُور بِهِ شرعا فَلَا يتَأَدَّى

(2/274)


الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِمَا فِيهِ امْتِثَال الْأَمر
فَإِن قَالَ مَعَ امْتِثَال الْأَمر منعنَا هَذَا الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ إِعَارَة الثَّوْب من الْمِسْكِين
وَإِن قَالَ بِدُونِ امْتِثَال الْأَمر) قُلْنَا هَذَا مُسلم وَلَكنَّا نمْنَع انعدام امْتِثَال الْأَمر فِي الْفَرْع والمأمور بِهِ هُوَ الْإِطْعَام وَحَقِيقَته التَّمْكِين من الطَّعَام فيضطر إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن حَقِيقَة معنى الْإِطْعَام أهوَ التَّمْكِين بالتغدية والتعشية أم التَّمْلِيك وَمِنْه قَوْلهم فِي الْقطع وَالضَّمان إنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّهُ أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذن مَالِكه فَيكون مُوجبا للضَّمَان كالأخذ غصبا
فَإنَّا نقُول مَا معنى هَذَا الحكم أهوَ أَن يكون مُوجبا للضَّمَان مَعَ وجود مَا يُنَافِيهِ أم عِنْد عدم مَا يُنَافِيهِ فَإِن قَالَ مَعَ وجود مَا يُنَافِيهِ منعنَا ذَلِك فِي الأَصْل فَإِن غصب الْبَاغِي مَال الْعَادِل لَا يكون مُوجبا للضَّمَان وَإِن كَانَ آخِذا بِغَيْر حق وَبِغير إِذن الْمَالِك
وَإِن قَالَ عِنْد عدم مَا يُنَافِيهِ قُلْنَا بِمُوجبِه وَلَكِن لَا نسلم انعدام مَا يُنَافِي الضَّمَان هُنَا فَإِن قطع الْيَد بِسَبَب السّرقَة منَاف للضَّمَان عندنَا أَو مسْقط لَهُ كالإبراء فَلَا يجد بدا من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن اسْتِيفَاء الْقطع هَل يكون منافيا للضَّمَان أم لَا وَأما بَيَان إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف فَهُوَ على مَا ذكرنَا فِي القَوْل بِمُوجب الْعلَّة فَإِن إِضَافَة الحكم إِلَى الْعِلَل الطردية لَيْسَ بِدَلِيل مُوجب إِضَافَة الحكم إِلَى ذَلِك الْوَصْف بل لكَونه مَوْجُودا عِنْد وجوده ومعدوما عِنْد عَدمه وَقد بَينا أَن الْعَدَم لَا يصلح لإضافة الحكم إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ كل تَعْلِيل يكون بِنَفْي وصف أَو حكم فَإنَّا نمْنَع صَلَاحِية ذَلِك الْوَصْف لإضافة الحكم إِلَيْهِ نَحْو تَعْلِيلهم فِي الْأَخ أَنه لَا يعْتق على أَخِيه إِذا ملكه لِأَنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا بعضية كَابْن الْعم فَإنَّا نمْنَع فِي ابْن الْعم أَن يكون انْتِفَاء الْعتْق عِنْد دُخُوله فِي ملكه لهَذَا الْوَصْف إِذْ الْعَدَم لَا يجوز أَن يكون مُوجبا شَيْئا
وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي النِّكَاح إِنَّه لَا يثبت بِشَهَادَة الرِّجَال وَالنِّسَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال كالحدود

(2/275)


فَإنَّا نمْنَع إِضَافَة هَذَا الحكم فِي الْحُدُود إِلَى هَذَا الْوَصْف لِأَنَّهُ كَون الْحَد لَيْسَ بِمَال لَا يصلح عِلّة لِامْتِنَاع ثُبُوته بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال
وتعليلهم فِي الْإِحْصَار بِالْمرضِ أَنه لَا يُفَارِقهُ مَا حل بِهِ بالإحلال كَالَّذي ضل الطَّرِيق الممانعة فِي الأَصْل على هَذَا الْوَجْه
وتعليلهم فِي المبتوتة أَنَّهَا لَا تستوجب النَّفَقَة وَلَا يلْحقهَا الطَّلَاق لِأَنَّهَا لَيست بمنكوحة كالمطلقة قبل الدُّخُول فَإنَّا نمْنَع إِضَافَة هَذَا الحكم فِي الأَصْل إِلَى هَذَا الْوَصْف إِذْ الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا
وعَلى هَذَا فَخرج مَا شِئْت من الْمسَائِل